وفي استفتاء لأكبر دولة داعمة لإسرائيل وُجد أن تسعة وثلاثين % من مواطني تلك الدولة يعتقدون بهذه النبوءة ، ويدفعون الأموال لتحقيقها ، ولذلك من غير الدعم الحكومي ولكن هناك أموال تُصب عليهم ملايين الملايين من أولئك الحمقى والمغفلين .
وهذه عقائد تضافرهم وتؤيدهم ، ومن هنا كان الوعد الذي أُعطي لهم في أول الأمر ، ومن هنا كانت المسارعة بالاعتراف بدولتهم قبل مرور ثلاث دقائق ، ومن هنا كان ذلك الدعم الذي نراه ونلمسه ونجد له شواهد عديدة .
ثم حبل آخر وهو - وللأسف - حبل نستطيع أن نقول : إنه يمتّ بالمسلمين بصلة ، وهو حبل الضعف والخور وزعزعة اليقين والإيمان في نفوس أهل الإسلام ، ثم ما نشأ عنه من ممالئة لهم ، ومداهنة ، ومعاونة ، بل واشتراك معهم في بعض جرائمهم - وللأسف - .
وإن الله - جل وعلا - يبيّن لنا أخلاق اليهود وأفعالهم ، لنحذر منها ونحن نرى كثيراً من بلاياهم وانحرافاتهم قد صار المسلمون يطبقونها ، ويقلدونها ، ويسيرون وراءها ، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خربٍ لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ! قال : فمن ؟! ) .أي من غيرهم .
ألسنا نرى كثيراً من أحوال مجتمعات المسلمين تطبعت بخلال اليهود ، واتسمت بأخلاقياتهم ، وصار الانحراف والاختلاط - ونحو ذلك مما نعرفه - شائعاً ، ومن هنا ضعف الإيمان ، وكادت حقيقة الإسلام أن تختفي من تلك المجتمعات ، وجاء بعد ذلك كله ما قلناه من أنه لا يمكن مواجهة أولئك الأعداء ، فصارت هناك مواقف الذل والخنوع والممالئة ، وحينئذٍ لم يكن هناك موقف يستطيع أن يكشف ذلك العوار في داخل ذلك المجتمع ، ولا أن يهتك الستر عن تلك الصور المخزية ، والتي تبيّن أن هذا المجتمع فيه كل الرذائل ، بل وفيه كل المخالفات التي تسمى اليوم بمقياس المنظمات الدولية ، مخالفات لا تتفق مع القوانين والشرائع النظامية .
وهذه مواقف كثيرة من مواقف المسلمين ، ومن مواقف كثير من الذين بأيديهم كثير من الحل والعقد ، نرى كيف كانت تمثل ذل للمسلمين وهواناً لهم وخوراً وضعفاً أمام أعدائهم ، بل وإعطائهم ما يريدون مع كل ما قد يظهر من خلاف ذلك في صور إعلامية مزيفة ، ونرى ونكتشف كذلك أسباب أخرى ، ولو أنا رجعنا إلى كتاب ربنا وعرفنا حقائق أولئك القوم لكانت مواقفنا كمواقف أولئك الأبطال الذين يعلمون حقيقة اليهود من واقع معايشتهم في أرض فلسطين ، فترى الواحد منهم وهو صغير لا يتجاوز الخامسة عشر يقذفهم بالحجارة ، وهم يولّون أمامه ، كما نرى في صور التلفزة ، وأولئك الذين قتلوهم وهددوهم وأرهبوهم ، وهم لا يملكون شيئاً من القوة الحقيقية المادية ، ولكن قوة الإيمان ، ومعرفة حقيقة الأعداء كفيلة بهذا ، نسأل الله- عز وجل - أن يقذف الرعب في قلوب اليهود ، وأن يفرق شملهم ، وأن يخالف كلمتهم ، وأن يُظهر ضعفهم ، وأن يجعل بأسهم بينهم .
الخطبة الثانية
وصورة أخرى نحتاج إلى معرفتها ، وهي صورة التربية والتعبئة في داخل المجتمع اليهودي ، فالذي يُمسك هؤلاء المفترقين ، وهؤلاء المتفاوتين طبقياً ، وهؤلاء المخمورين والمخدرين ، هي التربية الدينية اليهودية العدائية ، والتعبئة النفسية الحربية العسكرية ، إن هذه الدولة كلها دولة حرب ، ونحن نسمع في كل الدنيا عن وزارت للدفاع ، لكن في إسرائيل يسمونها وزارة الحرب ؛ لأن الحرب والدموية والعدوان والإرهاب أمر يُدرّس للأبناء والصغار في المدارس من المراحل الأول بل يدعمه كثير من العوامل :
أولها : العامل الديني التوراتي :
فالتوراة تبيّن أن كل غير اليهود ليست لهم حرمة ، وقتلهم يعد قربة ، وأنهم كلاب لليهود وأنهم مسخرون لشعب الله المختار ، وليس هذا إدعاء بل هو نص توراتهم وتلمودهم ، وقول أحبارهم ومعاصريهم اليوم ، وقريباً سمعنا تصريحات الحاخام الشهيرة عندما قال : " يجب أن تقتلوا العرب جميعاً صغيراً وكبيراً " .(/3)
في توراتهم المحرفة نجد هذه التعبئة ونجد أن التحريف يختص بهذا ، وقصة موسى - عليه السلام - التي ذكرها الله لنا في القرآن لما رأى رجلاً من قومه يقتتل مع آخر - وكان ذلك قبل نبوته - فوكزه موسى فقضى عليه ، ولم يكن يقصد ذلك ، يوردها اليهود على أن هذا فعل من أعظم أنبيائهم ، وأنه إذا استطاع أن يقتل غير اليهودي فهو واجب عليه ، ويكون بذلك مقتدياً بموسى - عليه السلام - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، والله - عز وجل - قد أخبرنا في القرآن أنه ندم على ذلك واستغفر ربه ، وأن ذلك قبل نبوته ، ولكنهم يزّورون ويحرفون ، ليجعلوا كل يهودي مشبعاً بروح الدم والقتل والإرهاب ونرى ذلك في مناهج المدارس بل نجده كذلك في كل الصور المختلفة الإعلامية منها وغير الإعلامي ، وأحد كبار مجرميهم وزعمائهم السابقين يقول في كتاب ألفه بنفسه ، يُخبر فيه عن أفكاره ومعتقداته ونظراته ومواقفه فيقول : " تعلمت من أبي أننا نحن اليهود لابد أن نعود إلى أرض فلسطين كل فلسطين وبكل حزم ، ولذا قد كنا مقتنعين بالشرعية المطلقة لكل أعمالنا اللاشرعية " .
شرعيتهم هذا القتل الذي بكل المقاييس ليس شرعياً ، هم يرونه شرعاً وعبادة وتقرباً بهذه العقائد المزيفة المحرفة ثم يقول :
" كتبت هذا الكتاب لغير اليهود أيضاً ، خوفاً من أن يكونوا قد نسوا أنه من الدمار والنار والدموع والرماد قد خلق صنف جديد من البشر ، لم يعرفه العالم وهو اليهودي المحارب ثم يستشهد بقول المفكر الشهير الذي قال : أنا أفكر إذن أنا موجود ، يقول : وأنا أقول أنا أحارب فأنا موجود وكن أخي وإلا قتلتك " .
هذه عقيدتهم التي ينشرونها ، وهذا إعلامهم الذي يكرسونه ، وهذه عنصريتهم التي يقررونها ، ولذلك نجد أن هذا أمر يُبث في كل وسائل إعلامهم ، ويُدرّس في مدارسهم ، ويُكرّس في آليتهم العسكرية والحربية ، فكل يهودي لابد أن يكون جندياً محارباً ، ذكراناً وإناثاً ، كلهم عليهم التجنيد الإجباري ، وجميع المجتمع اليهودي إلا قلة من كبار السن كلهم مسجلون احتياطيين في الجيش ، يعني أن المجتمع كله جيش محارب ، وهذا أمر واضح ، ولذلك يشغلون كل مجتمعهم ويدفعونه نحو المواجهة الدموية ، لكي ينشغل بهذا الأمر ، فيكون عنده ذلك الانحراف الخُلقي الذي يمتد إلى أقصى مدى في رذائل اليهود ، ويكون عنده ذلك الاندفاع الإجرامي الذي يمتد إلى أقصى مدى أيضاً في مواجهة من يسمونهم أعدائهم ، ولذلك قال قائلهم في بعض البحوث : " إن التعليم في إسرائيل هو مجرد تعبئة روحية لإعداد الجنود ليوم الحرب ، ويتضمن النهج التاريخي ، ويتضمن تاريخ الحركة الصهيونية ، وتمجيد الجيش اليهودي ، ودراسة التوراة وكل ما من شأنه أن ينمي في نفوس الناشئة الروح العسكرية " .
انظروا ما الذي يكون في الجانب المقابل في كثير من مجتمعات المسلمين ، وكثير من بلاد العُرب والمسلمين ، ونرى ذلك كما قلت في جوانب شتى ، ودراسات عديدة ، وأصبح العنف كما يقول واحد من باحثيهم : جزءاً من مكونات حياة اليهودي ، وأسلوب معيشته ، وصحيفتهم الشهيرة تقول :
" إن مجتمعنا يؤمن بأن الحق للقوة من شأنه أن يكون العنف فيه في نظر الشباب أفضل رد على جميع المشكلات " .
ولذلك بعض هذا التوجه هو الذي يحفزهم ويدعمهم ، ولكن الله - جل وعلا - قد أخبرنا عن حقائق خور نفوسهم ، ورعب قلوبهم ، وضلال عقولهم ، وانحراف أخلاقهم ، وأن هذا كله مما نراه هو أن المسلم الصادق ، وأن مجتمع المسلمين الحقيقي لم يواجه أولئك ، وكما قال بعضهم : " عندما يكون جدار متصدع ، فتضع يدك عليه فيسقط ، فليس ذلك من قوة اليد ، وإنما من تصدع ذلك الجدار " .
واليهود ما انتصروا إلا بضعفنا وخورنا ، ولذلك يوم يخرج الأطهار ، الأبرار ، المؤمنون الذين يطلبون الشهادة ، فحينئذٍ ستزلزل صفوفهم ، وتُرعب قلوبهم ، وتُفل قوتهم ، وأنه لا يمكن أن يكون السلاح هو الذي يحقق النصر إذا كان حامله رعديد جباناً ، وإذا كان القائمون به ليسوا على قدم واحدة ،وليسوا على هداية واستقامة على أمر الله - سبحانه وتعالى - :
خلوا الطريق لنا فنحن الناس **** أما الذين بغوا فهم أنجاس
مسرى النبي لنا جميعاً كله **** لا النصف لا الأرباع لا الأخماس
ولا ينصرن الله ناصر دينه **** هذا هو المعيار والمقياس .
فحقيقة أعدائنا ينبغي أن نعرفها ، وحقيقة حبال القوة التي تمدهم ، ويوشك في زمن قريب أو بعيد أن تنقطع ويقيننا بما أخبرنا الله - عز وجل - وما بشرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابد أن يكون كاملاً وتاماً : { إن تنصروا الله ينصركم } ، { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } .
وكما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الشجر والحجر : يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله ) .
نسأل الله- سبحانه وتعالى - أن يقوي إيماننا - وأن يعظم يقيننا - وأن يزيد من همتنا ....(/4)
والعرب حاضرة... والفرس عائدة... والعرب نائمة...
أمير سعيد
اندثار الدول وظهورها رهين مقادير الله ـ سبحانه ـ تمضي بها سننه ووفقها تسير، أيام يداولها الله بين الناس، فتارة هذه تَغِْلب، وأخرى تدافعها تلك فتُغلَب.
مد وجزر، غلبة واندحار، هكذا تجري الأحداث بالدول والأمم، ومنها دولتا الفرس والروم، القوتان العظميان على مدى قرون طويلة، واللتان تبدوان الآن للعالم بثياب أكثر إبهاراً وأوفر تقنية، من دون أن تفارقهما خصوصية لازمت علاقتهما عبر الزمان، فلا التاريخ يعود القهقرى، ولا السنن تفارق مستجدات الحاضر.
{الم* غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 1 - 7].
هكذا تُليت حلقة واحدة من حلقات الصراع المزمن بين الفرس والروم في محكم التنزيل على أسماع العالم، وفي أول مرة كان التأثير العربي مقتصراً على الرصد والمتابعة والميل لانتصار هذا الطرف أو ذاك، سواء أكان هذا الرصد من كفار قريش أم من المسلمين، فالغلبة الفارسية أسعدت من يناظرها من أهل الأوثان، والكرَّة الرومية فرح لها المسلمون برغم أنهم كانوا على موعد قريب مع منازلة الروم.
التفاعل حينئذ كان سيداً وإن ارتدى لبوس المراقب؛ كون الفريقين (المسلم والوثني القرشي) أقل استعداداً للدخول كخصم قوي لأي من القوتين الأعظم حينئذ، فهو مراقب حذق يرمق المستقبل بعين ثاقبة.
لم يكن يعيب المسلمين العرب يومها ألاَّ يشاركوا في هذه المعركة، فتلك ليست معركتهم الآن؛ ففي الأفق معركتهم قادمة، ومن بين سنابك الخيل كان الغبار يوشك أن يطامن بعد أن أثارته كتائب الفتوح ليكشف عن نصر على تلكما الدولتين العتيدتين، أَلَقُ النصر الإسلامي وعبقه غمر المدائن الفارسية وأنطاكية الرومية حاضرتي الإمبراطوريتين المتراميتين الأطراف، سنوات قليلة ما لبثت أن انقضت على نزول الوحي بهذه الآيات حتى ارتفعت البيارق الخضراء في الشرق والغرب، وقرون مضت بعد ذلك، وكاد التاريخ يكرر نفسه في مناخ مختلف، استطالةٌ فارسية ورومية وانكماشٌ عربي رهيب، بَنَتْ الإمبراطوريتان نفسيهما، وأعادتا توطيد أركان حكميهما، ولم يعد العربُ ـ استراتيجياً ـ للفترة المكيّة بل إلى مجاهل التاريخ؛ فدولتا الحيرة الموالية للفرس والمناذرة الموالية للروم قبل الإسلام كانتا أحسن حالاً من الحالة العربية المزرية.
هنا الروم غُلبت من جديد، مُنِيَت بهزيمة تكتيكية نافذة من دون طلقة واحدة، وبعد هيمنة شبه مطلقة رومية (غربية) على العالم وعلى قلبه المتوسط؛ لملمت فارس (إيران) جراح إمبراطوريتها الضائعة لتضع الحصان أمام العربة الأمريكية الطائشة، ومهما قيل من بعد عن تنسيق (إيراني/ أمريكي) أو (فارسي/ رومي) استصحاباً لجملة من المعطيات المؤكدة في هذا المضمار؛ فإن الضربة الفارسية كانت أسبق من كل حدس رانه باحث استراتيجي أو خبير أممي تغص بهم مراكز الدراسات الأمريكية، إذ الحاصل قنوات إيرانية قد سالت فيها مياه الخليج ودجلة والفرات والليطاني، وأوراق طاشت من الحقيبة الأمريكية في لحظة دولية فارقة، وفي حاضر أمريكي مأزوم.
الروم حاضرة، والفرس عائدة، والعُرب غائبة، هذه المعادلة وذاك المشهد، والتاريخ يطرق الأجراس ويقرع الطبول؛ بيد أن الآذان بعدُ صماء، أو ربما سمعت بـ (مهران بن بهرام) القائد الفارسي في (عين التمر) التي كانت تضم إلى جواره القائد النصراني العربي (عقة بن أبي عقة) على قبائل (تغلب) النصرانية إبان زحف (خالد بن الوليد) إليها (12هـ)، ولم تأبه لشرحه لقادته الفرس لما نزل عن دعوة (عقة) له بترك القتال له، متخلياً عن القتال للأخرق (عقة): «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم (أي للفرس) وشر لهم (أي الروم)، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم (أي المسلمين)، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على (خالد) فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء»، فما قاله (مهران) لم يكن يحمل إلا أجندة يقرأ منها (ملالي فارس) في هذه اللحظة سياستهم في العراق وغير العراق، «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم (أي لإيران) وشر لهم (أي الأمريكان)، إنه قد جاءكم من أضاع إمبراطوريتكم، وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على المقاومة فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء»!(/1)
ثمة تعاون بغير جدل، لكنه أفضى إلى إيجاد حالة صراعية جديدة، الصوت الأعلى فيها انفراداً وتمايزاً للإمبراطورية الصاعدة التي غلبت الروم في معركة إقليمية وتسليحية نوعية، وجازت بها من إستراتيجية الاحتواء المزدوج الأمريكية (لإيران والعراق) إبَّان حكمَيْ (ريجان وبوش الأول)، وتفادت إستراتيجية الحروب الاستباقية ـ إلى أمد ـ في عهدَيْ (كلينتون والأولى لبوش الثاني) إلى إستراتيجية الاحتواء المزدوج من جديد، ولكن هذه المرة بلاعب مختلف هو اللاعب الفارسي الذي بضربة واحدة نفذ إستراتيجيته الخاصة باحتواء الولايات المتحدة والعراق!
إن هناك بالتأكيد أكثر من اعتراض قد ينشأ على هذا التفسير؛ فدونه تفسيرات أخرى ترى الإمبراطورية الفارسية الجديدة مقدمة على حتفها باستعداء الروم بكل جبروتهم العسكري ونفوذهم الواسع، وأن صعودها هو عنوان تآكلها بعد أن أصبحت خطراً على حلف الأطلسي برمته، من الشرق التركي صاحب أكبر قوة أرضية في أوروبا إلى الغرب الأمريكي صاحب أكبر آلة عسكرية جوية وبحرية ودفاعية في العالم، وهذا مفهوم ومعتبر، وآخر يرمي كراته دوماً في سلة تتسع لقواسم تجمع الدولتين (الإيرانية والأمريكية) في معاداة العرب، وعلى مرمى البصر ترى حاجة الأخيرة للأولى في فك الدول العربية، وإعادة تركيبها وفقاً لـ (سايكس بيكو) جديدة لا تضمن أمريكا استقرارها دون الارتكان لشريك آخر غير «إسرائيل»، ضارباً الذكر صفحاً عن انطلاق السياستين (الإيرانية والأمريكية) من أجندتين غير متطابقتين بطبيعة الحال والمصالح والأيديولوجيات المختلفة، وهو تفسير أيضاً معتبر ـ لكنه مفرط في أحادية منطقه بعض الشيء ـ وتعززه عدة شواهد، منها:
< أن الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الصوت الزاعق في رفض المشروع النووي الإيراني هي بالأساس من وضعت لبنة تأسيسه، وفي العام (1974م) كانت (إيران والولايات المتحدة) توقعان اتفاقية تزويد أمريكا لإيران بالوقود النووي، بعدما اشترى الشاه (رضا بهلوي) أول مفاعل نووي أمريكي لمركز (أمير باد) للأبحاث النووية.
< أن الولايات المتحدة الأمريكية وإن كُبلت اليوم عن تنفيذ ضربة تكتيكية للطموح النووي الإيراني؛ فإنها لم تكن كذلك إبَّان الهجوم الصهيوني على المفاعل العراقي (1981م) حين كان المشروع العراقي يبدأ خطواته الأولى، وكان بمقدورها أن تجهض البرنامج النووي الإيراني في مهده، لكنها لم ترَ داعياً لذلك في أي وقت حتى الآن.
< أن من شأن النمو العسكري الإيراني أن يزعج جيران إيران، ما يمد الرقعة الزمنية الترهيبية اللازمة لبقاء الشراكة (الأمريكية/الخليجية) على خلفية الحاجة الدائمة لبقاء القوات الأمريكية في المنطقة العربية، بما يستبقي السيوف لزمن ممتد خارج الأغماد بعد سنوات ثلاث من انهيار الدولة العراقية، ويدعم الأطماع الغربية الشرهة في بلاد العرب.(/2)
< أن العلاقات (الإيرانية/الأمريكية) كانت دوماً محل التقاء بعيداً عن «تطفل» الإعلام، رشح منها فضيحة تسليح إيران في عهد (ريجان)، وتصريح (أبطحي) مستشار (خاتمي) سابقاً «لولانا ما سقطت بغداد وكابول»، والتعاون الممتد فيما قبل الإعلان العلني عن نية التفاوض بين البلدين في العراق، والذي جاء مقترحاً على لسان رئيس المجلس الأعلى للثورة في العراق (عبد العزيز الحكيم) وعززه الموافقة الإيجابية من جانب (علي لاريجاني) الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي والمكلف بالملف النووي، وهناك مؤشرات عديدة تشير إلى علاقة براجماتية تجمع بين «الشيطان الأكبر» و «أحد أقطاب محور الشر» أمريكا وإيران، أو الروم والفرس، فالحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران منذ الثورة الإيرانية تخترقه هي على الدوام بحسب (كنت تيمرمن) الباحث الأشهر في وكالة الاستخبارات الأمريكية للشؤون الإيرانية القائل: «أمريكا نفسها لا تنفذ هذا الحظر»، كما أن وزير خارجية أمريكا السابق (كولن باول) كان يعتقد وقت شغله منصبه أن: «إيران ليست في موقع يسمح لها بالإضرار كثيراً بالمصالح الأميركية في المنطقة» وفق صحيفة (كيهان 8/4/ 2001م)، أما النفط الذي تملك إيران من احتياطه (10%)، و (25%) من احتياطيات الغاز الطبيعي فـ «من الذي يستطيع أن يمنع إنتاج 2.5 مليون برميل يومياً من النفط الإيراني في الوقت الذي وصلت أسعار النفط إلى ما وصلت إليه مؤخراً؟» كما يقول (باتريك كلاوسون) نائب مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، ومن ذا يتجاهل 70 مليون نسمة هم عدد سكان إيران وأكبر سوق محتمل للولايات المتحدة في المنطقة، ومن يطلق اليد الأمريكية في الإفادة من نفط بحر (قزوين) وترتيب أوضاع دول آسيا الوسطى إذا لم تعقد تفاهماً ـ لا مغامرة غير محسوبة ـ مع إيران؟! ومن يغض طرفه عن 12 رجل أعمال إيرانيين كانوا من كبار المتبرعين لحملة (بوش) الماضية (الشرق الأوسط 9/6/2001م)، أو يغمض عينيه عن مليوني إيراني نقلوا حوزاتهم العلمية واستثماراتهم المالية الضخمة في بلاد «الشيطان الأكبر»، ونثروا في جنباتها (آياتهم وملاليهم) ومنهم آية الله (حسن قزويني) أحد مستشاري (بوش) الدينيين، ومراكزهم الدينية التي سمحت لهم الدولة الرومية العظمى بأن ينشئوا أكبر مركز ديني ينسب للمسلمين فيها؟ وأرمد من فاته الاطلاع على غابة القنوات الفضائية المرتبطة بإيران في سماء المنطقة، وأولها كان السبق فيه لمنظمة توصف في أدبيات السياسة الأمريكية بـ «الإرهابية»؛ والمقصود بالطبع (حزب الله) اللبناني الشيعي.
هذه التفسيرات وتلك الاعتراضات لها وجاهتها بالتأكيد كما أسلفت، ولكن ما الذي يدعونا لئلا نصهر هذه الاعتراضات والتفسيرات في بوتقة تجمع الشواهد لا للتعارض؛ وإنما لمحاولة النظر من جديد للأمور بنظرة أكثر شمولاً مستصحبة تجربة تاريخية ثرية وموحية؟ يقول (أ. د محمد السعيد عبد المؤمن) أستاذ الدراسات الإيرانية بجامعة (عين شمس) عن المشروع النووي منذ بدايته في زمن (الشاه): «يبدو أن (الشاه) قد استطاع أن يعزف على أوتار عقائدية وقومية عند الإيرانيين، فالطاقة النووية تمثل في الوجدان الإيراني قمة الوصول بـ (النار) ذات القيمة الخاصة التي تصل إلى درجة التقديس لغايتها، فلم ينظر الإيرانيون إلى ما سوف ينفقه (الشاه) على هذا المشروع نفس نظريتهم لما أنفقه على احتفال مرور ألفين وخمسمائة عام على تأسيس الإمبراطورية الفارسية، فرغم أن كليهما يمجدان الشخصية الإيرانية إلا أن الأول أدخل إلى الوجدان والعقائد من الثاني، وعندما نجحت الثورة الإسلامية في إسقاط (الشاه ونظامه) قضت على آثار الملكية كلها، وأوقفت مشروعاتها إلا ما ارتبط منها بالجانب الوجداني العقائدي للإيرانيين، ومنها المشروع النووي الذي أصبح إرثًا قوميًّا، على نظام الجمهورية الإسلامية أن يتحمل تبعاته، وإلا فقد أهليته في نظر الشعب»، فلوعة غياب الدولة الفارسية بجبروتها ونارها المقدسة ما زالت تعمل مفاعيلها التأثيرية النافذة في الوجدان الإيراني، ولم تندمل الجراح التي خلَّفَها انطفاء النار المقدسة قبل أربعة عشر قرناً باتقادها نفطياً من جديد مع الثورة النفطية التي اجتاحتها قبل نصف قرن، وإنما استوجب تأمينُها قوة نووية وصعوداً (تسليحياً وسياسياً) موائماً للرغبة العارمة في إعادة الإمبراطورية الفارسية مجدداً.(/3)
ولنرجع ثانية إلى التفسيرات المتعارضة في ظاهرها، جاهدين في لملمتها في صيغةٍ من خلالها يمكن المزج بين التاريخ والحاضر؛ فمن حيث المبدأ لابد من الإقرار بأن الإمبراطوريتين (الرومية والفارسية) وجدتا محطات التقاء على مر التاريخ؛ تخندقتا فيها ضد عدو مشترك، ففي العام الثاني عشر للهجرة وإثر انتصار المسلمين في (ذات السلاسل) كان على القائدَيْن الفارسيين (الأندر زغر) و (بهمن جاذويه) أن يتحالفا مع نصارى الحيرة وقبائل بني تغلب بـ «مباركة» من الدولة الرومية التي تربطها بهما روابط دينية في معركة أليس الصغرى (نهر الدم)، ولم يكن هذا إلا تكراراً لما تم قبل أربعة أشهر في معركة (عين التمر)، من «تفاهم» بين الفرس والمتعاطفين مع الروم.
وبعد انهيار الإمبراطورية الفارسية بستة قرون شهد العالم (650 هـ) تحالفاً قوياً بين الدولة الصفوية (وريثة الإمبراطورية الفارسية والبرتغاليين ضد العثمانيين، يقول الدكتور (محمد عبد اللطيف هريدي): «وهكذا بدلاً من أن يضع الصفويون يدهم في يد العثمانيين لحماية الحرمين الشريفين من التهديد البرتغالي، ولتطهير البحار الإسلامية منهم وضعوا أنفسهم في خدمة الأسطول البرتغالي، لطعن الدولة العثمانية من الخلف، ورغم انتصار العثمانيين عليهم؛ فإن الحروب معهم كانت استنزافاً لجهود العثمانيين على الساحة الأوروبية، وعرقلة للفتوح الإسلامية» [الحروب العثمانية الفارسية ص 70]، بيد أن التاريخ سائده يتحدث عن تعارض في المصالح بين الإمبراطوريتين، يتحدث ـ أيضاً ـ عن حضارة (بالمعنى المدني لها) لأرض فارس تؤهلها لأن تصعد أو تسعى بإصرار لأن تتبوأ مكانها قوة عالمية مرهوبة في العالم وإن وجدت نفسها في حقبة رومية ـ إن جاز التعبير ـ، فقبل أن نطنب في عرض أدوات فارس لكسر هيمنتها أو اختصار مدتها الزمنية، نعود إلى صفحات التأريخ الصراعية الأبرز هذه المرة:
< معركة (حرَّان) في العام (53) قبل الميلاد في زمن (يوليوس قيصر): أبيد فيها الجيش الرومي على يد (أورود الفرثي) الفارسي عن بكرة أبيه.
< معركة (نصيبين) حوالي العام 100 قبل الميلاد في زمن الإمبراطور الروماني (تراجان): تكبَّد فيها الرومان خسائر فادحة في مسعاهم لتوسيع الإمبراطورية بعد أن نجحوا قبلها في ضم أغلب ممتلكات الفرس، وكان زمن استطالة للرومان على الفرس
< المعركة الكبرى والاستيلاء على (أنطاكية) أواسط القرن الثالث الميلادي زمن (سابور) الجند الفارسي: أعطى قادة الرومان الجزية بصغار لـ (سابور).
< محاصرة القسطنطينية من قبل (كسرى الثاني) والاستيلاء على آسيا الوسطى: لم يحصل مثل هذا النصر لفارسي من قبل ولا من بعد، وفي المعركة التي جرت بـ (أذرعات) ـ وفقاً لجمهور المفسرين ـ نزلت الآيات: {الم* غُلِبَتِ الرُّومُ...} [الروم: 1 - 2] سنة 614 م.
< انتصار (هرقل) على (كسرى): وهو ما بشرت به الآيات {وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 5]، وحدث في يوم بدر، أو يوم بيعة الرضوان، أو يوم الحديبية، مثلما ذكر (الإمام القرطبي) في تفسير الآية.
وهو ما يشي بالحالة الأرِقة الدائمة في السجال الحربي بين الإمبراطوريتين العظميين على مر القرون السالفة للإسلام.(/4)
والآن تسعى دولة الفرس من جديد للصعود بأدوات تؤهلها لأن تعود إلى الواجهة من جديد، لتغييرها للمعادلة النووية في العالم، واستخدام لغة دبلوماسية بارعة، ومراكمة أوراق لعبتها مع الروم بذكاء مَرَدَ عليه حكماء فارس على مر القرون، ولئن ضيَّقت الولايات المتحدة الأمريكية عليها الخناق في زمن بسطت فيه قوتها العسكرية والاقتصادية الضخمة على العالم، لقد وجدت دولة الفرس ما يعوضها عن هذا الجفاف مع الدولة العظمى، فمدت علاقاتها المتينة مع أوروبا وآسيا، فإيران الآن تشتري الآلات من ألمانيا، والحاسبات والأجهزة العلمية من فرنسا، والمصانع العسكرية من روسيا والصين وما يرافقها من تجهيزات لا عسكرية، ألم يك لافتاً أن تعارض روسيا والصين بشدة قراراً أممياً ضد إيران؟ وأن يعتبر رئيس الوزراء الفرنسي (دومينيك دو فيلبان) أن العمل العسكري «ليس الحل» موضحاً: «لقد اختبرنا سابقاً سيناريو مماثلاً لا يؤدي إلى نتيجة كما حصل في العراق». (الوكالات 5/5/2006م)، وأن يُشِير الرئيس الأمريكي فور إعلان نظيره الإيراني عن دخول إيران النادي النووي إلى التباحث مع الشركاء في أوروبا خاصة وألمانيا تحديداً؟ ففي الحقيقة إيران تدير معركتها مع الولايات المتحدة الأمريكية نيابة عن روسيا والصين، وهذه الأخيرة تتساوق سياستها الحالية مع تاريخها الذي كانت فيه ضنينة بالحروب، وتسعى لاستخدام أدوات أخرى للاحتفاظ بقوتها العسكرية لوقت الضرورة، كلا الدولتين لهما مصالح عسكرية واقتصادية جَمَّة لا تقفان عند حد الصفقات التسليحية الهائلة ولا الاستثمار والإمداد النفطي؛ وإنما تتعدى ذلك إلى نشاطات اقتصادية وسياسية أخرى (نسأل عرضاً: لماذا وجدت فارس اليوم ضالتها في دول غير كتابية؟!)، أما فرنسا التي أدار مرشد الثورة السابق (الخوميني) معركته مع (الشاه) انطلاقاً منها، فهي تحتفظ بعلاقات نفطية متميزة تخترق بها شركة (توتال) الفرنسية جدران الحظر الأمريكية وهمهمات حقوق الإنسان الأوروبية، وأما ألمانيا فإمدادها لإيران بالمعدات الثقيلة لم يبرئ ساحتها من التورط في تزويد إيران بمعدات الطرد المركزي اللازمة لتخصيب اليورانيوم.
إذن الفرس تعود بحبال من الناس متينة، وحين نتحدث هنا عن الفرس فليس بدافع رغبة في جلب تسمية أضحت غوراً في أغماق التاريخ؛ بل لأن هذه التسمية حاضرة فعلاً في لغة السياسة الإيرانية ذاتها، وإلا فلماذا رهنت إيران مشاركتها الرياضية في دورة الألعاب بـ (قطر) هذا العام بعدول الدولة المنظمة عن تسمية الخليج العربي بـ «الفارسي»؟ ولماذا احتجت لدى مجلة (انترناشيونال جيوجرافيك) العالمية لتدفعها إلى تسمية الخليج بالفارسي بدلاً من العربي ـ أو حتى الإسلامي ـ برغم كون جميع حواضره من العرب بدءاً من الأهواز إلى الإمارات؟ ولماذا تكاد تخلو قيادة إيران من غير الفرس ـ فيما عدا (خاتمي) وقلة أخرى ـ برغم كونهم لا يتجاوزون (52%) من الإيرانيين؟
الحالة الدولية تتبدل ملامحها هذه الأيام، وفي غياب الفضائيات وأدوات التخاطب والمعلوماتية عبر الإنترنت وأجهزة الاتصالات الحديثة، كان المسلمون والعرب معنيّين بتشكل خريطة الصراع في محيطهم وأبعد من محيطهم، الأدوات كانت بدائية والنفوس كانت طموحة أبيّة، ثمة إدراك لدائرة الدول ومدى تأثيرها على موازين الصراع، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4 - 5]، ليس فرح المتفرجين الصائحين كما في ملاعب الكرة، بل فرح نصرٍ يرومونه من خلال مشاركة في صناعة الأحداث، يبدأ من هنا، من قلب مكة، من مركز الأرض إلى «أدنى الأرض»؛ إذ الأحداث لا يصنعها النائمون، وحيث لا غرو أن يكون المسلمون في مهد دعوتهم خارج المعادلة الدولية حينئذ؛ فإن انكسار النفوس لابدّ وأن يلازم قوماً تسيَّدوا، وأذابوا ملح الإمبراطورتين العظميين في بحار حضارتهم، ثم نكسوا على رؤوسهم، وقد غار الماء وعاد الملح.
وصارت المعادلة الدولية تخلو إلا من الروم وفارس، وحتى كرَّة مرجُوَّة سيظل الحاضر بدوننا، وسنظل بانتظار مخبوء القدر، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 4 - 7].(/5)
والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم !!
رحم الله سيدي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فعلى الرغم من الحالة الصعبة التي كان عليها المسلمون يوم الأحزاب، فقد قدما للقادة من بعدهم دروسا في الثبات والعزة، فلنتعرف معا على هذه الدروس خاصة ونحن نعيش اليوم حالة شبيهة بيوم الأحزاب، ويصف الحق سبحانه حالة المسلمين يومئذ فيقول:
(إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا).
هذا وقد ارتفعت أصوات المنافقين مستهزئين ساخرين: يخبركم محمد أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا. واليوم يردد المنافقون هذه المقولة وإن اختلفت الألفاظ، وفيهم نزل قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).
وكان قد خرج مع قريش يوم الأحزاب جميع القيائل العربية المحيطة -غطفان وأشجع ومرة وفزارة وسليم وبنو سعد وأسد- خرجوا جميعهم بإمرة قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب (فقد استطاعت قريش كأمريكا اليوم حشد جميع القوى حولها ومعهم يهود بني قريظة الذين كانوا على عهد وميثاق مع النبي صلى الله عليه وسلم!) وكان فيمن خرج من العرب بنو فزارة، وكانوا على ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت بنو مرة في أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما صلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى السعدين فاستشارهما فقالا:
- يا رسول الله ! أمرا نحبه فتصنعه، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا منه، أم شيئا تصنعه لنا؟
- قال: بل شيء أصنعه لكم، والله لا أصنع ذلك إلا لأني العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم.
- فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله ! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك.
فأخذ سعد الصحيفة فمحاها ثم قال: ليجهدوا علينا.
لقد رفض السعدان رضي الله عنهما الدنية على الرغم من الظروف الصعبة، واستعدا للمواجهة رغم كثرة الحشود خارج المدينة ونقض اليهود للمثياق داخلها، (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) لقد علم هؤلاء القادة الربانيون أن من تمسك بحبل الله لن يهزم، وأن العاقبة للمتقين، فآثروا التمسك بالعزيمة في أعلى صورها، فجاء نصر الله تعالى على المؤمنين، وتنزل المدد الإلهي على عباده المتقين (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا).
واليوم يكرر قادة الجهاد في فلسطين المحتلة مقولة سعد بن معاذ ضي الله عنه "والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم" ويطالبون قادة العالم الإسلامي بالتمسك بالعزيمة في مقارعة اليهود، وأضعف الإيمان الآن أن نعطي العمل الجهادي فرصته وندعمه بكل ما نملك من قوة على اختلاف صورها، حتى يحكم الله بيننا وبين اليهود. فلقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أن اليهود الغاصبين لا يفهمون إلا لغة القوة والحسم.
فبالثقة بالله أولا، ثم بقدراتنا ثانيا، نصنع ما يبدو مستحيلا في نظر المنافقين، الذين لا يفقهمون الموازين الإلهية، لذلك يستغرب المنافقون ما ردده المؤمنون عندما طوقتهم حشود الأحزاب (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) . وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا ويعلمنا ماذا نفعل في الشدائد، فإن الأمر لما اشتد على المسلمين وطال يوم الخندق قام عليه الصلاة والسلام يدعو قائلا:
"يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي" .
فنزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله استجاب دعوتك وكفاك عدوك. فنزل نصر الله عز وجل. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأهزام وحده، فلا شيء بعده. قال الله تعالى: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا).
أيها المسلمون ...
هكذا كان الرعيل الأول ... صدق الله فصدقه الله، جاهدوا في الله حق جهاده فتنزل نصر الله عليهم ... ولنردد ما قاله سعد بن معاذ :
والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم(/1)
وليكن هذا شعارنا في قتال اليهود الغاصبين المحتلين، الذين أعلنوها صراحة (المزيد من العنف والقتل والقصف حتى يرضخ الفلسطينيون لشروطنا).
توصيات :
- كتابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في لوحات وتعليقها في المساجد حتى يحفظها جميع المصلين.
- كتابة مقولة سعد بن معاذ وتعليقها في المساجد حتى تكون شعارا لنا ولقادتنا في صراعنا مع العدو المحتل.
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم مهنا(/2)
وبدأ الصراع داخل إدارة بوش!!
عامر عبد المنعم
16 ربيع الثاني 1427هـ الموافق له 14مايو 2006م
مع غرق القوات الأمريكية في المستنقع العراقي، والتيه في دروب الرافدين؛ تعاني إدارة بوش من التفكك والانقسام بما يفوق التوقعات، ويبدو أن حرب العراق الظالمة تسببت في حرب من نوع آخر داخل أركان الإدارة الأمريكية ووكالاتها، فالاتهامات المتبادلة حول المسؤولية عن الفشل أصبحت ظاهرة متنامية، خرجت من وراء المكاتب إلى صفحات المجلات والصحف، وتحول الجدل إلي صراعات شرسة بين من يوصفون بأنهم صقور الإدارة.
أبرز مظاهر الانقسام ما يحدث من صراعات بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وسعي بعضها للهيمنة علي البعض الآخر، وظهور شخصيات متنفذة تتصارع فيما بينها للسيطرة علي هذه الوكالات.
لم يكن قرار إقالة بورتر غوس مدير وكالة المخابرات الأمريكية سوى حلقة من حلقات هذا الصراع الذي يشير إلى أزمة هذه الوكالة التي كانت لها سمعة ومكانة كبيرة إلى أن فقدت مصداقيتها أمام الشعب الأمريكي بعد ثبوت كذب تقاريرها.
بدأت C.I.A تتلقي الضربات منذ أحداث 11 سبتمبر، وزاد الهجوم عليها وعلي غيرها من الوكالات ووزارة الدفاع مع أول ظهور لفشل الاحتلال العسكري الأمريكي في العراق، كان تقرير لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر بداية لهذا الصراع الذي بدأ وتفاقم حتى اليوم بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية، فقد أشار التقرير إلى عدم وجود تنسيق بين المخابرات المركزية والأجهزة الاستخبارية الأخرى، مما أوجد الثغرات التي استغلها من قاموا بتفجير برجي مبني التجارة العالمي.
ومع تسريب المعلومات عن كذب تقارير المخابرات عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وكذب ما أعلن عن صفقة اليورانيوم من النيجر، وغيرها من تقارير اعتبرت مضللة وسبباً في تورط الجيش الأمريكي في حرب خاسرة اضطر جورج تنت مدير الـ C.I.A السابق إلى تقديم استقالته لتجنب المساءلة.
اختار جورج بوش بورتر غوس في سبتمبر 2004 خلفاً لجورج تينيت ليدير الوكالة، وكانت المجاملة الحزبية واضحة في الاختيار، وكان بوش يهدف إلى السيطرة علي الوكالة، وتقييدها لاحتوائها ليضمن مساندتها له في الحرب حتى النهاية، وليضع حداً لتسريب المعلومات المحرجة له، والتي تساهم في تحريض خصومه الديمقراطيين ضد سياسته، وتؤلب عليه الشعب الأمريكي.
اختيار بوش لم يرض العاملين في الوكالة؛ فقد تسبب بورتر غوس في إثارة الانتقادات داخل الـ C.I.A، كما تسبب في تشويه صورتها، إذ قام المدير الجديد بانتشال شخص مغمور نسبياً في الوكالة كيلي فوغو ليكون المدير التنفيذي أي الرجل الثالث في الـ C.I.A، والذي فتح باباً واسعاً لانتقاد الوكالة في وسائل الإعلام والتشهير بها، اتهم المدير التنفيذي للوكالة بتلقي رشاوى، والتورط في وقائع فساد متعلقة بإسناد عقود دفاعية بطرق غير شرعية لأحد أصدقائه، وقد صاحب هذه الاتهامات تسريب معلومات تمس سلوكه الشخصي عن إدمانه لعب البوكر في فنادق في العاصمة الأمريكية.
صبت الصحف انتقادات لاذعة لـ C.I.A والفساد المرتبط بها، الأمر الذي شكل عبئاً على بوش نفسه، فأجبر على إقالة صديقه الذي لم يدم في موقعه أكثر من عام ونصف، لكن هناك سبب آخر ساهم في الإطاحة بغوس، وأدى إلى سرعة الخلاص منه وهو: صراعه مع المدير الوطني للاستخبارات الذي يريد فرض سلطته على C.I.A وباقي الوكالات.
فقد حاول غوس أن يكون له بصمة يقنع بها العاملين في الوكالة، وأنه يعمل على استعادة هيبة ومكانة الوكالة، والتصدي لمحاولة تذويبها والسيطرة عليها.
نجروبونتى والسيطرة على C.I.A:
مع التعثر في العراق، والفشل المخابراتي بشكل عام؛ قامت الإدارة الأمريكية بإعادة تنظيم استخباراتها باستحداث منصب جديد مهمته التنسيق بين الوكالات الاستخبارية، فتمت تسمية مدير وطني للاستخبارات هو جون نيجروبونتي للإشراف على الـ C.I.A، وعلى 16 وكالة استخبارات أمريكية.
يعتبر جون نجروبونتى شخصية متنفذة في الإدارة الأمريكية، وله علاقات واسعة، فقد خدم في الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 40 عاماً، بالإضافة إلى ذلك فإن له تاريخاً دموياً في أمريكا اللاتينية أثناء حكم الرئيس ريجان، وفى الفترة ما بين 1981 و 1985 عندما كان سفيراً لبلاده في هندوراس، وكان آخر منصب له قبل رجوعه إلي واشنطن سفير الاحتلال في المنطقة الخضراء ببغداد، وقد لوحظ أنه لم يخرج منها طوال فترة وجوده إلا نادراً، وظل ملتزماً مكانه خشية الاغتيال، حتى تم سحبه إلى منصبه الاستخباراتي.
كان أمام نيجروبونتي عقبتان لتنفيذ مهمته:
الأولى: C.I.A، والثانية: وكالات وزارة الدفاع الخاضعة لرامسفيلد وزير الدفاع، والمدعوم بقوة من نائب الرئيس ديك تشيني.(/1)
ورأى نيجروبونتي أن C.I.A هي الأضعف بسبب الاضطراب الذي تمر به منذ تفجير البرجين، وأدائها الذي لم يحظ بأي دعم وتأييد، خاصة مع فشل الدور المخابراتي في تقييم الوضع في العراق بشكل حقيقي، وقرر نيجروبونتي الدخول بحرص على الوكالات العسكرية حتى لا يستفز رامسفيلد، ويدخل في معركة غير محسوبة تفقده المنصب قبل أن يذوق حلاوته.
ما أن تقلد نيجروبونتي منصبه الجديد كمدير للاستخبارات القومية حتى سارع إلى بسط سلطته على وكالة الاستخبارات المركزية ليصبح المسئول عن قراءة الموجز اليومي الاستخباراتي على الرئيس بوش بدلاً عن 'بورتر غوس' الذي لم يستطع أن يفرض نفسه لحداثة عهده، وللفشل الذي لا زالت الوكالة تتحمل مسؤوليته.
كان حلول نيجروبونتي بدلاً من مدير الوكالة قرباً من الرئيس الأمريكي يمثل أكبر ضربة للوكالة، إذ أعطى انطباعاً بتراجع دورها، وزوال مكانتها، وأصبح نيجروبونتي هو المتحدث باسم المخابرات في الكونجرس، وهو الذي يقدم الإفادات حول النشاط الاستخباري أمام الجهات العليا.
ما فعله نيجروبونتي لم يثر غضب العاملين في C.I.A وحدهم، وإنما امتد الغضب إلى الوكالات العسكرية التي تسعي هي الأخرى للتوسع والسيطرة علي العمل الاستخباري على حساب C.I.A، فالمعركة كانت في الأساس بين C.I.A والبنتاجون، وزادت المنافسة مع الدور الذي بدأ يلعبه الجيش الأمريكي منذ حرب أفغانستان والعراق.
الصراع بين C.I.A ووزارة الدفاع:
العلاقة بين C.I.A ووزارة الدفاع متوترة، فالتنافس بين الطرفين على المخصصات والنفوذ موجود منذ فترة، إذ أن الأجهزة التابعة لوزارة الدفاع تحتل مركز الصدارة في الموازنة السنوية المخصصة للأجهزة الاستخباراتية الأمريكية، ورغم الطبيعة السرية لمثل هذه الأمور فإن وكالة الاستخبارات المركزية تحصل على خمسة مليارات دولار سنوياً، وهو أقل من ستة إلى ثمانية مليارات دولار التي تحصل عليها وكالة الأمن القومي سنوياً، ويحصل المكتب القومي للاستطلاع التابع لوزارة الدفاع على ستة إلى ثمانية مليارات دولار في السنة، علاوة على الوكالات الأخرى المرتبطة بوزارة الدفاع مثل الوكالة القومية للاستخبارات الفضائية، التي تستفيد من ثلاثة مليارات دولار سنوياً، والمرافق العسكرية المستقلة التي تتوفر على أجهزتها الخاصة لجمع المعلومات وتحليلها.
لكن العلاقة بين C.I.A ووزارة الدفاع ازدادت توتراً منذ تعيين رامسفيلد وزيراً للدفاع، لرغبة الأخير في تقوية نفوذه، والتوسع في العمل الاستخباري لوزارة الدفاع على حساب الوكالة، من الخطوات التي اتخذها رامسفيلد التي توضح حبه للسيطرة، وولعه بالتغول والتمدد ما قام به الجيش الأمريكي مؤخراً عندما نشر فرقاً صغيرة من 'قوات العمليات الخاصة' في عدد من السفارات الأمريكية بهدف جمع المعلومات الاستخباراتية، هذه الخطوة نظر إليها من جانب قادة وكالة المخابرات المركزية على أنها تعدي على عملهم، وتجاوز لا يقبلونه، ويعد تضارب في المسؤوليات.
تم إرسال مجموعات صغيرة من أفراد 'العمليات الخاصة' إلى أكثر من اثنتي عشرة سفارة في إفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا الجنوبية.
هذا التحرك من رامسفيلد سبب أزمة مع C.I.A ووزارة الخارجية أيضاً، ففي واقعة حظيت بنقاش ساخن بين الهيئات الثلاث قامت وحدة عسكرية من هذه الوحدات التي أرسلت إلى الباراغواي دون علم السفارة بقتل لص مسلح قابلهم أثناء نزولهم من سيارة أجرة، الأمر الذي سبب إحراجاً للسفير، وفتح الباب لمناقشة هذا التضارب، وعدم التنسيق.
هذه السيطرة الكاملة لرامسفيلد على هذه الوحدات الخاصة خارج سيطرة مدير الاستخبارات الوطنية الجديد نيجروبونتي؛ أوجدت معركة أخرى بين الطرفين.
صراع رامسفيلد ونيجروبونتي:
إذا كان جون نيجروبونتي قد أزاح 'بورتر غوس' الذي حاول التصدي لمحاولاته للسيطرة على C.I.A فإن معركته الكبرى مع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أكثر ضراوة، فالثاني يريد هو الآخر أن يسيطر على ما تبقى من الأجهزة الاستخبارية، متجاهلاً المدير الوطني للاستخبارات.
سعى رامسفيلد من جهته للحد من سلطات نيجروبونتي، وتجاهل وجوده، وسار في مخططه بكل قوته، وبرر موقفه بأنه لا يريد إضعاف وزارة الدفاع، وقال في شهادة أدلى بها أمام الكونجرس: 'نحن لا نريد أن نضع حواجز جديدة بين القادة العسكريين في الميدان وأجهزة الاستخبارات العسكرية التي تقدم لهم الدعم'.
وقد تسبب هذا التخبط والتنازع بين أجهزة ووكالات المخابرات في خروج الانقسامات إلى السطح، وتشير حدة الحملات المتبادلة إلى أن الأمر خرج عن السيطرة، هذا الصراع بين الأجهزة الاستخباراتية وراء ما عرف بحرب تسريب المعلومات التي تفضح الإدارة الأمريكية بشكل عام.(/2)
ففضائح سجن أبي غريب، وتسريب الصور عن الانتهاكات؛ كان في إطار هذه الحرب الدائرة في دهاليز العمل الاستخباري، كان المقصود منها إدانة الاستخبارات العسكرية، ونفس الأمر فيما يتعلق بنشر فضائح المخابرات المركزية حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، وغيرها مثل فضيحة السجون السرية.
هذه الحملات الإعلامية ضد رموز الإدارة الأمريكية بغض النظر عن دوافعها تأتي في إطار تصفية الحسابات بين مجرمي الحرب، فالكل يريد التهرب من مسؤولية الانهيار الحادث للهيبة الأمريكية، وضياع حلم الإمبراطورية على أيدي المقاومة في العراق وأفغانستان.
الصراع الذي نشاهده بين أركان إدارة بوش يكشف جانباً لم ننتبه إليه من قبل وهو: أن خسائر أمريكا ليس فقط ما تتكبده في العراق، وإنما هناك خسائر ناتجة عن هذه الحروب في عقر الدار، وأن الترويع ارتد إلى المعتدي، وأصاب العصب، وشيئاً فشيئاً سيصيب الشلل الدماغ لتموت أذرع الإخطبوط وتتآكل ربما قبل أن يستطيع سحبها، لتكون نهاية إمبراطورية الشر إلى الأبد(/3)
وتلك الأيام نداولها بين الناس
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد :
فإن جمهرة الناس ينظرون إلى قوى البغي والعدوان الممثلة اليوم في أمريكا وحلفائها على أنها قوى شريرة تمتلك المال والعتاد لإهلاك الحرث والنسل ، وأن لا أحد على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول قادر على أن يوقف إرهاب تلك القوة التي تمتلك إمكانات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية
وينقسم الناس إزاء ذلك إلى فئات متعددة ؛ فمنهم الذي يبادر ويسارع في استرضاء أمريكا بتنفيذ سياساتها وإعطائها ما تريد ؛ على أمل أن تتفادى الانتقام الأمريكي أو الضربة القاتلة ، { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } ( المائدة : 52 ) ، ويجلس فريق آخر يائساً بائساً حزيناً كئيباً لا يرى في الخلاص من هذا المأزق أملاً ، فيجلس ينتظر متى يحين دوره كما تبقى الشياه تنتظر سكين الجزار ، ويبقى فريق ثالث يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً حقيقياً وصادقاً ، يؤمنون بما وعد الله ورسوله ، ويعلمون السنن التي يجريها الله تعالى في خلقه ، فهم يعملون بها ويتصرفون من خلالها ، ويغالبون قدراً بقدر حتى يأتي نصر الله الذي وعد عباده المتقين : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } ( المائدة : 52 ) .
إن علو أمريكا وحلفائها من قوى الشر والطغيان ؛ إنما هو دورة من دورات الزمن ، وإن الزمن لن يقف عند هذا الحد ، وإن التاريخ لن ينتهي بهذا المشهد بل ستمر دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) .
من كان يظن عندما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد الله العلي الكبير ، ونبذ الشرك وعبادة ما سوى الله تعالى ؛ بين ظهراني مشركي مكة وساداتها ، واشتداد أذى صناديد كفار قريش لمن آمن من المسلمين ؟!
من كان يظن أن بلال بن رباح ذلك العبد الأسود الحبشي الذي لا قيمة له في نظر المشركين ، والذي كان يُعذَّب في وقت الظهيرة في بطحاء مكة الملتهبة ، من كان يظن أنه سيرقى يوماً ما على ظهر الكعبة في وجود أشراف قريش وسادتها وهم ينظرون إليه ولا يملكون إلا النظر ، وهو يردد بصوته الجهوري الندي وهو آمن ما يكون : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ... ؟!
هذه صورة وقعت في الماضي وغيرها كثير لم يكن أحد يتخيل حدوثها في ظل موازين القوى المختلفة بين الفريقين ، ففريق قوي مسيطر يملك كل شيء ، وفريق آخر ضعيف مستعبد لا يملك شيئاً ، ومع ذلك فقد حدث الذي حدث ، وسيحدث من مثله ما شاء الله أن يكون ، يدرك ذلك المتقون المؤمنون ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة قبل الفتح ، عندما قال له بعضهم من شدة ما يلاقي من الأذى ولا يجد ما يكف به ذلك : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ؟
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : « والله ! ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » [1] .
فهذا الصحابي لما رأى من شدة التباين في موازين القوى بين معسكر الإيمان الضعيف مادياً في ذلك الزمان ، وبين معسكر الكفر القوي مادياً ، ورأى من خلال المقاييس والحسابات المادية والتصورات العقلية أنه ليس بإمكان المسلمين النصر على العدو ، ورأى أن ذلك لا يمكن حدوثه إلا من خلال عقوبة إلهية ؛ طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستنصار ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا التصور الذي قد يدفع بعض الناس إلى الإحباط وفقدان الأمل ؛ يتمثل في أمرين :
الأول : التبشير بالنصر والتمكين ؛ وبغلبة الحق وأهله ، واندحار الباطل وجنده : « والله ليتمن هذا الأمر » .
الثاني : دعوته لهم بعدم الاستعجال ، حيث ينبغي عليهم الصبر والتحمل والعمل والجد والاجتهاد والجهاد : « ولكنكم تستعجلون » .(/1)
وهذا ما ينبغي علينا فعله اليوم إزاء تكبر الأعداء وطغيانهم ؛ أن نبشر قومنا بأن النصر حليفهم وإن طال الزمان ، وأن على الباغي تدور الدوائر ، وأن ندعوهم إلى الإيمان الصادق والعمل الصالح ، والجد والاجتهاد والجهاد ، { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة } ( الأنفال : 60 ) ، والرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه هذا ينطلق من السنّة القدرية المكنونة في قوله تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) ؛ أي أن النصر والغلبة في الحروب تكون تارة للمؤمنين على الكافرين ، وتارة للكافرين على المؤمنين ، وكل ذلك يجري بأسبابه التي قدّرها الله تعالى في إطار المشيئة الربانية التي تحوي حِكَماً عديدة من وراء علو الكافرين أحياناً وتسلطهم على المسلمين .
* أسباب إدالة الكافرين على المسلمين :
تجتمع أسباب إدالة الكافرين على المسلمين - أي غلبة الكافرين للمسلمين - في كلمة واحدة ؛ وهي : ( معصية المسلمين ربهم ) ، فمتى عصى المسلمون ربهم ، وانتشرت بينهم المعاصي بغير نكير منهم ، أو بنكير ليس فيه تغيير ؛ عاقب الله المسلمين بذلك ، وأظهر عليهم الكافرين جزاء ما فعلوا ، وقد تبين من النصوص الشرعية أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم مهما كانت قوة العدو وعدده وعدته ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار ؛ إذا كان المؤمنون صادقين عاملين بما يجب عليهم ، تاركين لما نُهوا عنه ، قد أخذوا من أسباب القوة ما كان في طاقاتهم ووسعهم ، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها ، وقد قال الله تعالى مبيناً ذلك : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( المجادلة : 21 ) ، وقال سبحانه : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ } ( الصافات : 173 ) ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ( غافر : 51 ) ، والآيات في ذلك كثيرة .
وكان عمر - رضي الله عنه - يحذر جيوشه المنطلقة للقتال في سبيل الله من الوقوع في المعاصي ، ويقول لهم : « إن أهم أمركم عندي الصلاة » [2] ، ويبين ابن رواحة - رضي الله عنه - أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة ، وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله ، ومعصية الكافرين لله ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة : « لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة ، والرأيُ المسير إليهم » [3] .
وقد كانت الجيوش الإسلامية التي يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف تقاتل الجيوش الكافرة التي تربو على مائتين وخمسين ألفاً ، ثم يكون النصر حليف المسلمين ، { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } ( البقرة : 249 ) ، ثم يعقب الله على ذلك بقوله : { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، والصبر هنا ، وفي مثله من المواضع ، ليس هو الصبر الذي يفهمه كثير من الناس اليوم بمعنى الإذعان للواقع والاستكانة للظلمة المتجبرين ، فإن من كان هذا حاله فإن الله لا يكون معه ، وإنما الصبر المراد هنا هو حبس النفس عن الجزع عند ملاقاة العدو ، والثبات على الحق ، وعدم التخلي عنه أو التحايل عليه ، وتحمل المشاق في الدعوة إلى الله والعمل الصالح رجاء ما عند الله من المثوبة [4] ، وقد بيَّن أهل العلم أن النصر والظفر قرين الطاعة .
قال الزجاج : « ومعنى نداولها : أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون ، فأما إذا أطاعوا فهم منصورون » [5] .
وقال القرطبي : « { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) ؛ قيل هذا في الحرب تكون مرة للمؤمنين لينصر الله دينه ، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ؛ ليبتليهم وليمحص ذنوبهم ، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون » [6] .
ومن هنا يتبين أن الجيش المقاتل في سبيل الله عليه أن يحرص على الطاعات والبعد عن الوقوع في المعاصي ؛ مثل أو أكثر مما يحرص على امتلاك السلاح المتقدم ، فإن السلاح المتقدم بيد العاصي الخوار الجبان أقل غنى من السلاح العادي بيد الطائع القانت لربه ، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً } ( الأنفال : 17 ) .
* الحكمة من إدالة الكافرين على المسلمين :(/2)
ولله سبحانه وتعالى في ذلك حكم عظيمة ، ظهر أكثرها فيما ورد من الآيات التي عالجت غزوة أحد ، والتي ظهر فيها الكفار على المسلمين بسبب معصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بسبب ضعفهم أو قلّتهم ، قال الله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } ( آل عمران : 165 ) ، وقال سبحانه : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } ( آل عمران : 152 ) ، فبين أن ما لحق بهم كان لمعصيتهم بعد ما لاحت بشائر النصر ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - ما فهمه من الحكم المتعلقة بمداولة الأيام بين الناس في كتابه ( زاد المعاد ) ، نذكرها مختصرة مع زيادات قليلة تناسب المقام ، فمن الحكم والغايات المحمودة في ذلك : تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن هذا أشد عليهم من أسلحة أعدائهم . ومنها : أن النصر لو كان للمسلمين في كل مرة دخل معهم الصادقون وغيرهم ولم يتميز المؤمن حقاً من غيره .
ومنها : أنه لو انتُصر عليهم دائماً وكانوا على مر الزمان مقهورين لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة ، وهو إظهار الحق وإقامة الحجة على الناس .
ومنها : فضح المنافقين وإظهارهم للناس حتى يحذروهم ، وحتى يستقيم الصف بخلوّه منهم ، وذلك أن المنافقين عند هزيمة المسلمين يظهرون ما كانوا يكتمون ويصرحون بما كانوا يلوحون ، ومن هنا يدرك المسلمون أن لهم عدواً من أنفسهم يعيش معهم وبين ظهرانيهم لا يفارقهم ، فيستعدون لهم ويحذرون منهم ، وهذا من سنة الله تعالى أنه لا يترك المؤمنين مختلطين بالمنافقين من غير أن يُقدِّر امتحاناً أو بلاء تتميز به الصفوف ، قال الله تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ( آل عمران : 179 ) .
ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في الضراء كما هي في السراء ، وفيما يكرهون كما فيما يحبون ، فإن المسلم إذا ثبت على الطاعة والعبودية في السراء والضراء وفيما يحب وفيما يكره ؛ كانت عبوديته حقة ، وليس كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية . ومنها : أن الله لو نصر المؤمنين في كل موقف وكل موقعة فلربما طغت نفوس أكثر الناس ، وبغوا في الأرض ، ووقع في نفوسهم أن النصر من عندهم وليس من عند الله . ومنها : أنه إذا امتحنهم بالهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا وابتهلوا إلى الله وتضرعوا ، فيستوجبون بذلك من الله النصر والعز . ومنها : أن بلوغ الدرجات العالية في الجنة لا تنال إلا بالأعمال العظيمة ، ومن الناس من لا تبلغ أعمالهم تلك المنازل فيقيض الله لهم من أسباب الابتلاء والامتحان ما يرفع به درجاتهم . ومنها : أن الله يبلغ بعضاً من عباده درجة الشهادة التي هي من أعلى مراتب الأولياء ، ولا تنال هذه الشهادة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها . ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ؛ قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها الهلاك والمحق ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ، ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم ، فيكون ذلك سبباً في تعجيل العذاب في الدنيا للكفار وهلاكهم ، كما قال تعالى في بيان الحكمة من غلبة الكفار : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ( آل عمران : 141 ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - : « وقوله { وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ؛ أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم » [7] . ومنها : تنقية المؤمنين وتخليصهم من الذنوب وآفات النفوس التي قلّما ينفك منها الناس ، كما قال تعالى : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } .. إلى غير ذلك من الحكم والغايات المحمودة [8] .
* وسائل دفع غلبة الكافرين :(/3)
من أول هذه الوسائل : الإيمان الصادق والاعتقاد السليم ، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ إيماناً لا تخالطه شائبة ، إيماناً مبرءاً من البدع والقصور ، إيماناً يبعث على العمل الذي تتحق به المنجزات . ومنها : الحرص على الطاعة والبعد عن المعصية ، فإن هذا أولى ما تُوجه إليه الهمم بعد الإيمان ؛ بحيث يكون الغالب على جماعة المسلمين الطاعة ، وتكون المعصية منغمرة في جنب ذلك ليس لها ظهور ولا فشو ، فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : « أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ! إذا كَثُر الخبث » [9] ، ولذلك فإن من أهم ما يستحق العناية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقوم بذلك الأفراد والهيئات والدول ، فإن طاعة الله تعالى من أهم ما يجلب للمؤمنين نصره ، وللكافرين الهزيمة والخذلان ؛ ومنها : إعداد العدة المستطاعة لمنازلة العدو ؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والإسلام لم يطلب منا أن نعد العدة الكاملة القادرة على مواجهة الكفار ، ولكن طلب منا أن نبذل جهدنا واستطاعتنا ، فقال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة } ( الأنفال : 60 ) ، وذلك أن النصر من عند الله وليس من عند أنفسنا وليس من سلاحنا . ومنها : ترك الوهن والضعف والتخاذل الذي يقضي على كل همّة ، ويجلب الذل والهزيمة في ميادين الجهاد ، وترك الحزن الذي يستحكم في النفوس فيحيلها إلى نفوس هامدة قابعة ليس لها قدرة على المواجهة ، قال تعالى بعد هزمية المسلمين في أُحد مسلياً لهم ومحرضاً لهم على الثبات : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 139 ) . ومنها : اليقين بأن تسلط الكفار على المسلمين لن يدوم ، وإنما هذا ابتلاء من الله ، وأن الأيام يداولها الله بين الناس ، وأن على المسلمين أن يأخذوا بأسباب التغيير التي تغير الأوضاع التي بها تمكن الكفار منهم ، قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) . ومنها : اليقين بما وعد الله عباده المؤمنين ، ومن ثم العمل على تحقيق الوعد ، قال الله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } ( النور : 55 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » [10] .
وقال : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر » [11] .
نسأل الله من فضله أن يجعل ذلك قريباً ، وأن يوفقنا للعمل بالأسباب التي تجعل الدولة للمسلمين على الكافرين .
________________________
(1) رواه البخاري ، كتاب المناقب ، رقم 3343 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ ، 1/6 .
(3) سير أعلام النبلاء 1/240 .
(4) انظر تفسير ابن جرير الطبري ، 2/624 ، 10/38 .
(5) زاد المسير في علم التفسير ، لابن الجوزي ، 1/466 .
(6) تفسير القرطبي ، 4/ 218 .
(7) انظر : زاد المعاد ، لابن قيم الجوزية ، ففيه المزيد من الحكم في هذا الباب .
(8) تفسير ابن كثير ، 1/440 .
(9) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، رقم 3097 ، و مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة ، رقم 5128 .
(10) أخرجه مسلم ، كتاب الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم 5144 .
(11) أخرجه أحمد ، مسند الشاميين ، حديث رقم 16344 .(/4)
وجاءت الإجازة!
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم.. أما بعد:
فقد جاءت الإجازة الصيفية والشباب في قضاء أيامها ولياليها متفاوتون، ولما كانت الإجازة الصيفية تختص غالباً بطلاب المدارس والجامعات وكان أغلبهم من الشباب والشابات كان الاعتناء بهذه المرحلة العمرية الخطيرة أهم؛ لأنه بصلاح الشباب تصلح المجتمعات، وبفسادهم تفسد.
أخي الحبيب:
هل أدركت أن الإجازة نعمة من الله لك لترتاح فيها من تعب الدراسة؟ ولتغير جواً جديداً يعينك على مواصلة الدراسة في المراحل القامة؟ وذلك أن الدراسة الدائمة تبعث على الملل والخمول، فلما كانت الإجازة هدفها عظيم وهي محسوبة عليك من أيام عمرك التي ستسأل عنها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).1
لما كان الأمر كذلك حسن بك استغلال إجازتك فيما يعود عليك وعلى أمتك ومجتمعك بالخير والنفع، واحذر أن تمر بك سدى وهملاً.. بل أخطر من ذلك: احذر أن تمر وأنت إلى المعاصي مسارع، وعن الطاعات هارب وشارد.
أخي الكريم:
من هنا تعلم أن الإجازة فرصة من الفرص التي ينبغي علي وعليك الانتفاع بأيامها ولياليها ما دمت مسلماً مؤمناً بالله -تعالى- ونبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فسارع إلى رضوان الله، وذلك بفعل ما يقربك منه، وأعظم ما يمكن أن تتقرب به إلى ربك في الإجازة هو الالتحاق في قافلة طلب العلم الشرعي، ولا بأس من إفراد أجزاء من وقت يومك أو ليلتك لتعلم العلوم الأخرى، كدورات الكمبيوتر، أو الالتحاق بمعاهد اللغات التي تتعلم فيها لغة أمة من الأمم، فتفيد بذلك نفسك وأمتك.. والمهم التركيز على العلم الشرعي الذي يقربك من الله -تعالى-، وما أجمل أن تفكر في الالتحاق بالدورات والمراكز الصيفية التي تقام في كثير من المساجد والمدارس والمراكز، والتي يحضرها جمع من أهل العلم والدعاة إلى الله -عز وجل-.
وهل سمعت قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ولكل من اتبعه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} الشرح:7-8. ما معنى هاتين الآيتين يا ترى؟ لندع الإمام ابن كثير يبين لنا معناها، يقول -رحمه الله-: (أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة..)2
وأنت أخي الكريم: إذا فرغت من الدراسة وامتحانات العام وسهرها وهمها، فانصب إلى طلب العلم الذي هو من أعظم العبادات، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة..) الحديث3.
واعلم أنه ليس في حياة المسلم العاقل وقت للفراغ والضياع، بل إن أنفاسه محسوبة، ولحظاته معدودة، وأيامه ولياليه مسؤول عنها.
ويأسف الإنسان عندما يسمع بعض الشباب -هداهم الله- يقول بعضهم لبعض: تعال بنا نقضي وقتنا في كذا وكذا!. فيذهبون إلى اللعب الدائم الذي يضيعون فيه شبابهم وزهرة عمرهم، وليس من الممنوع أن يقضي الشاب بعض وقته في الرياضية واللعب المباح الذي لا يشتمل على منكرات، كلعب الكرة، أو التمارين الرياضية المختلفة، أو التدرب على كمال الأجسام وتقويتها، ولكن لا يأخذ ذلك جُلَّ وقته، بل ينبغي أن يخصص لها وقتاً محدداً من اليوم، ويقصد بها وجه الله -تعالى.
أخي الحبيب:
ننصحك من قلب مشفقٍ عليك بأن تستغل وقت إجازتك في الدورات العلمية والتربوية. تلك الدورات التي تستفيد فيها شيئاً من العلوم الشرعية، وتحفاً من الآداب المرعية، فما أجملك وأحسنك عندما تتحلى بالعلم الشرعي! وتتسلح بالمعرفة الحقيقية، التي تستعين بها على نوائب الزمن، وتقلبات الحياة.
لو لم يكن في طلبك للعلم الشرعي إلا أنه نور لك في الحياة، ونجاة من الفتن والشهوات والشبهات، وزينة لك بين العباد لكان ذلك عظيماً، فكيف وهو سبب نجاتك يوم القيامة إن أخلصت فيه لله! وكيف وهو طريقك إلى الجنة، ورافع درجاتك يوم القيامة عند الله رب العالمين؛ كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}المجادلة:11.(/1)
ثم إن التحاقك بهذه الدورات يعينك على الجلوس مع أقوام صالحين يذكرون الله ويتدارسون كتاب ربهم وسنة نبيهم، فتكون ممتثلاً لقول الله -عز وجل-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف:28. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (.. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).4
واستغلالك للإجازة بتعلم العلم الشرعي يحجزك عن رفقاء السوء، الذين يسعون إلى هلاكك وضياع مستقبلك، وأنت تعلم أن الإنسان يندم أشد الندم يوم القيامة إذا كان له أصدقاء في الحياة الدنيا صدوه عن اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاهتداء بشرعه، وقد بين الله موقف الجاهل المغرور الذي صاحب الأشرار في الدنيا كيف يكون ندمه، وكيف تبلغ به الحسرات! فقال -عز وجل-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ( ) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} الفرقان:27-29.
نسأل الله لنا ولك حياة طيبة، وميتة حسنة، ومردّاً غير مخزٍ ولا فاضحٍ.
والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
1- رواه الترمذي والدارمي والطبراني في المعجم الكبير واللفظ له، وصحح الألباني في صحيح الجامع (7300).
2- تفسير ابن كثير الجزء 4 / ص( 2046) ط: دار الفكر 1424هـ .
3- رواه مسلم.
4- رواه مسلم.(/2)
وجوب الفقه في الدين وفضله- وجوب معرفة أحكام الصلاة ومكانتها- جهل كثير من المصلين بأحكام سجود السهو وسبب ذلك- أسباب سجود السهو ثلاثة : زيادة أو نقص أو شك- الواجب في كل نوع ودليل ذلك.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دينكم واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فإن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، واعلموا أن من أهم ما يجب عليكم معرفته أحكام الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وعمود الدين.
ومن أكثر ما يقع الخلل فيها سجود السهو في الصلاة حيث كان يجهله كثير من المصلين، فسجود السهو له أسباب وأحكام ومواضع ينبغي على كل مسلم معرفتها حتى يكون على بصيرة من أمره إذا وقع له ذلك.
فأسباب سجود السهو إجمالا ثلاثة : الزيادة والنقص والشك.
فأما الزيادة فمتى زاد المصلي في صلاته ركوعا أو سجودا أو قياما أو قعودا أو ركعة كاملة فأكثر وجب عليه سجود السهو، ومحله بعد السلام كما وقع ذلك للنبي قال ابن مسعود : (صلى النبي الظهر خمسا فقيل له: أزيد في الصلاة ؟ قال: وما ذلك قالوا: صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم) رواه الجماعة .
ومتى علم المصلي بالزيادة وهو في أثناء الزيادة وجب عليه الرجوع عن الزيادة وسجود السهو، وإذا سلم المصلي قبل تمام الصلاة ناسيا فذكر قبل أن تمضي مدة طويلة وجب عليه أن يتمم صلاته ويسجد للسهو بعد السلام، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى بهم الظهر أو العصر ركعتين ثم سلم، فأخبروه بأنه نسي فتقدم وصلى ما بقي من صلاته ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم، وأما إذا طال الفصل أو أحدث المصلي قبل أن يذكر نقص الصلاة فإنه يعيد الصلاة من أولها، لأنه لا يمكن أن يبنى آخر الصلاة على أولها مع طول الفصل أو انتقاض الطهارة .
وأما النقص فمتى نقص المصلي شيئا من واجبات الصلاة ناسيا وجب عليه سجود السهو جبرا لما نقص من صلاته ويكون قبل السلام، فإذا نسي التشهد الأول وقام إلى الركعة الثالثة و استتم قائما فليمض في صلاته ولا يرجع ثم يسجد سجدتين للسهو قبل السلام، فعن عبد الله بن بحينه أن النبي صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى في صلاته فلما كان في آخر الصلاة سجد قبل أن يسلم ثم سلم متفق عليه ، ومثل ذلك إذا نسي أن يقول سبحان ربي الأعلى في السجود أو نسي شيئا من التكبير غير تكبيرة الإحرام .
وأما الشك فإذا شك المصلي كم صلى ثلاثا أم أربعا ولم يترجح عنده شيء فليطرح الشك وليبن على ما استيقن وهو الأقل، فليتم عليه ثم يسجد سجدتين قبل السلام، قال النبي : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدِْركم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن صلاته وإن كان صلى إتماما كانتا ترغيما للشيطان)) رواه أحمد ومسلم ، وإذا شك المصلي هل صلى ثلاثا أو أربعا وترجح عنده أحد الأمرين بنى عليه وأتم الصلاة على ما ترجح عنده ثم سلم ثم سجد سجدتين بعد السلام لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي قال : ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين )) .
هذه أيها المسلمون هي الأصول في سجود السهو، وقد تبين منها أن سجود السهو له موضعان: موضع قبل السلام، وموضع بعده.
فمواضع سجود السهو بعد السلام ثلاثة، الأول: إذا زاد في صلاته ، الثاني: إذا سلم قبل إتمامها وهو من الزيادة في الواقع ، الثالث: إذا شك فلم يدركم صلى وترجح عنده أحد الأمرين، وما عدا ذلك فمحله قبل السلام .
أيها الناس إن كثيرا من المصلين ينكرون سجود السهو بعد السلام ويستغربونه، وذلك لأنهم يجهلون هذا الحكم الشرعي الذي يرى بعض العلماء أن ما كان من سجود السهو قبل السلام فهو واجب قبل السلام وما كان بعده فواجب أن يكون بعده، وسبب جهلهم عدم تعلمهم لذلك وعدم العمل به من أئمة المساجد، وأئمة المساجد منهم من لا يدري بذلك ويحسب أن سجود السهو قبل السلام في كل حال، ومنهم من يدري ولكن لا يعمل يقول: أخشى من التشويش، وهذا ليس بعذر في ترك ما أمر به النبي ،بل الحق الذي يكون به براءة الذمة ونشر السنة أن يسجد بعد السلام إذا كان موضع السجود بعد السلام حتى يعرف الناس ذلك ويفهموه ويعملوا به ويزول عنهم التشويش ويكون لفاعله أجر من أحيا سنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً [النساء:26-28].(/1)
وحدة الصف ضرورة
محمد بن عبدالله الدويش
يتفق العقلاء من الناس على أن الاجتماع والائتلاف مطلب ضروري لا غنى عنه لأمة تريد الفلاح. وقد جاء الشرع بالتأكيد على هذا الأصل ورعايته، ولكن المواقف والأحداث تعصف بالناس، وتحوج إلى التأكيد على هذه المعاني والوصية بها.
وقد أفرزت الأحداث الأخيرة اختلافاً في الآراء والمواقف، وهذا أمر لا بد أن يقع من البشر، لكن هذا الاختلاف اتسعت شقته، وبدأ يتجاوز قدر الاختلاف في الرأي، وبدا معه أن الحاجة ماسة إلى الوصية والتأكيد على معاني الاجتماع والائتلاف.
وثمة أمور بها تتضح أهمية وحدة الصف والحاجة إليه:
الأمر الأول: نصوص القرآن الكريم:
جاء التأكيد في القرآن الكريم على مراعاة هذا الأصل، ومن ذلك:
قال ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ *وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
[آل عمران: 102 - 103] .
وقال ـ عز وجل ـ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
[هود: 118 - 119].
روى ابن جرير عن الحسن في قوله ـ تعالى ـ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} «وأما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم»(1).
وروى فيها عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «خلقهم فريقين: فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف؛ وذلك قوله: فمنهم شقي وسعيد»(2).
الأمر الثاني: أن هذا مما بعث الله الأنبياء به:
كان الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ دعاة لوحدة الصف وجمع الكلمة، قال الإمام البغوي: «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة»(1).
وقد اختلف الأنبياء من قبل في الرأي، فاختلف موسى وهارن: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 92 - 94].
ولو وقع مثل هذا الأمر في عصرنا فقد تجد من يتهم مثل هارون بأنه سكت عن إنكار الشرك الأكبر، وأن المسألة خلل في الاعتقاد وانحراف في المنهج....إلخ. وبغض النظر عن الأصوب من الاجتهادين فالخلاف حصل، وعذر كل منهما الآخر.
كما اختلف الخضر وموسى، واختلف سليمان وداود: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78 - 79]، واختلفا ـ عليهما السلام ـ في شأن المرأتين اللتين اختصمتا في الابن، واختلف آدم وموسى.
ولم يكن هذا الخلاف موجباً للفرقة والاختلاف.
واختلفت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في شأن قاتل المائة حين مات بين القريتين(2).
الأمر الثالث: نصوص السنة:
لقد تكررت الوصية في السنة بالاعتناء بالاجتماع ووحدة الصف، وتكرر النهي عن التفرق والاختلاف، ومما ورد في ذلك:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»(3).
وعن الحارث الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها..... الحديث وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمسٍ اللهُ أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع ...»(4).(/1)
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: خطبنا عمر بالجابية فقال يا أيها الناس! إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يُستحلف، ويشهد الشاهد ولا يُستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن»(5).
وعن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور»(6).
الأمر الرابع: واقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :
لقد كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اعتناء بالغ بهذا الأمر، وكان الخلاف في الرأي يحصل بينهم، ومع ذلك كانت النفوس صافية نقية.
نقل الحافظ في الفتح عن القرطبي قوله: «مَنْ تَأَمَّلَ مَا دَار بَيْنَ أَبِي بَكْر وَعَلِيٍّ مِنْ الْمُعَاتَبَةِ وَمِنْ الاعْتِذَارِ وَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنْ الإنْصَافِ عَرَفَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِ الآخَرِ، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ مُتَّفِقَة عَلَى الاحْتِرَام وَالْمَحَبَّة، وَإِنْ كَانَ الطَّبْع الْبَشَرِيّ قَدْ يَغْلِب أَحْيَانًا لَكِنَّ الدِّيَانَة تَرُدُّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ»(7).
عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أسألها عن شيء فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئاً، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به»(8).
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة ـ رضي الله عنه ـ فقالت: «لا تسبه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»(9).
وها هو ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يثني على ابن الزبير رغم ما كان بينهما. قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شيء، فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله؟ فقال: معاذ الله! إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية محلين، وإني والله لا أحله أبداً، قال: قال الناس بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه؟ أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم ـ يريد الزبير ـ وأما جده فصاحب الغار ـ يريد أبا بكر ـ وأمه فذات النطاق ـ يريد أسماء ـ وأما خالته فأم المؤمنين ـ يريد عائشة ـ وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم ـ يريد خديجة ـ وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته ـ يريد صفية ـ ثم عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن»(1).
وفي حديث الإفك تعتذر عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن سعد ابن عبادة فتقول: «فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية»(2).
وقد خالف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عمر بن الخطاب في مسائل بلغت المائة - كما ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين ـ ومع ذلك فحين أتى ابن مسعود اثنان أحدهما قرأ على عمر، والآخر قرأ على غيره، فقال الذي قرأ على عمر: أقرأنيها عمر ابن الخطاب، فجهش ابن مسعود بالبكاء حتى بلَّ الحصى بدموعه، وقال: اقرأْ كما أقرأك عمر؛ فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن. وقال عنه عمر ـ رضي الله عنه ـ قولته المشهورة: «كنيف مُلِئَ علماً».
إنها النفوس التي صفت وتسامت على حظوظها، فلم يجد الهوى بينهم مكاناً، وحين يحصل بينهم ما يحصل بين البشر لا يمنعهم ذلك من العدل، ولا يقودهم إلى تتبع الزلات وملاحقة العثرات.
الأمر الخامس: الاجتماع من سمات أهل السنة وصفاتهم:
من سمات أهل السنة الاجتماع والائتلاف، وهم من أشد الناس حرصاً عليه ودعوة له، كيف لا وهم الجماعة وهم السواد الأعظم.
قال الطحاوي رحمه الله: «ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً»(3).
قال النووي حول حديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثا»: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تفرقوا» فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام»(4).(/2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «والخير كل الخير في اتباع السلف الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيه، والاعتصام بحبل الله، وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعو إلى الخلاف والفرقة، إلا أن يكون أمراً بيناً قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة فعلى الرأس والعين، وأما إذا اشتبه الأمر: هل هذا القول أو الفعل مما يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب؟ فالواجب ترك العقوبة»(5).
الأمر السادس: مصالح الاجتماع لا تقارن بمفاسد الفرقة:
ثمة طائفة ممن يثيرون الفرقة يدفعهم لذلك الحرص والاجتهاد الخاطئ، ويسعون إلى تحقيق مصالح من تصحيح ما يعتقدون أن الآخرين أخطؤوا وتجاوزوا فيه، لكن يغيب عنهم أن مصالح الاجتماع لا تقارن بالمفاسد الناشئة عن الافتراق والاختلاف.
عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة والفرقة عذاب»(6).
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة؛ فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة»(7).
وأشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: «ولا سيما إذا آل الأمر إلى شر طويل وافتراق أهل السنة والجماعة؛ فإن الفساد الناشئ في هذه الفرقة أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية».
الأمر السابع: حاجة الصحوة لوحدة الصف:
لئن كان الاجتماع ووحدة الصف ضرورة في كل وقت وحين، فالصحوة اليوم أحوج إليه من أي وقت مضى.
إنها تعاني من ضعف الطاقات ومحدودية الإمكانات، وفي الافتراق والخلاف إضاعة للجهود، وتشتيت للطاقات.
وهي تعاني من تآمر المفسدين وكيدهم، وفي إشاعة الاختلاف والفرقة خدمة لهؤلاء وخذلان لعباد الله الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة: 14]. فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب»(1).
وحين تريد الصحوة الإسلامية تقديم مشروعات عامة، وحين تريد إنكار منكرات أو تحتسب على باطل، وحين تريد دعم قضية من قضايا المسلمين، فإن ذلك كله لن يتأتى مع التفرق والصراع والتشاحن، بل سيؤدي بطائفة من الناس إلى قصد مخالفة من لا يتفقون معه، ولو أدى ببعضهم إلى الوقوف في صف أهل الفساد أو تسويغ باطلهم، والهوى يصنع العجائب.
من وسائل وحدة الصف:
أولاً: إدراك أهمية وحدة الصف:
لا بد من التأكيد على أهمية وحدة الصف وإشاعة الحديث حول ذلك حتى يتأكد هذا المعنى ويستقر، كما أن امتناع الداعية وطالب العلم المقتدى بهم عن بعض ما يطلب منهم رغبة في وحدة الصف، وتنازلهم عن كثير من حقوقهم الشخصية من أجل ذلك، كل هذا يربي تلامذتهم على الاعتناء بهذا الأصل، ويؤكده لديهم.
ثانياً: تقوية الأواصر والصلات:
مما يعين على وحدة الصف أن تتقوى الأواصر والصلات بين الدعاة والمصلحين، ويمكن أن يتم ذلك من خلال العلاقات الشخصية، والتزاور والاجتماع، وإقامة المشروعات المشتركة، والتعاون على الأعمال الدعوية والاحتسابية.
ومع ما في ذلك من تحقيق للمحبة والمودة فإنه يفتح المجال للنقاش حول أمور الخلاف حين يوجد الخلاف، فتكون هناك جسور مفتوحة يمكن التواصل من خلالها، أما حين لا يتم التواصل إلا عند الخلاف والنقاش فالغالب أنه يصعب أن يتحقق المراد.
ثالثاً: الموازنة بين قول الحق ووحدة الصف:
إنه لا يتصور أن يسعى شخص بقصد وإرادة إلى شق وحدة صف الأمة ودعاتها إلا مَنْ في قلبه نفاق وكره لانتصار الدين، لكن عامة ما يحصل إنما هو شعور بالغيرة على الدين، ورغبة في بيان ما يعتقد الشخص بأنه هو الحق، وإن كان الغالب أن أمثال هؤلاء لا يسلم من ملابسة الهوى.
ومن ثم فإن الاحتجاج ببيان الحق وحده لا يكفي، ولا بد ها هنا من مراعاة أمور:
أ - أن يكون الحق واضحا جلياً؛ ذلك أن كثيراً من المسائل التي يشق فيها الصف، إما أن تكون من مسائل الاجتهاد والأمر فيها واسع؛ فحينها لا ينبغي الإنكار فيها، فضلاً عن إثارة الخصومة.(/3)
أو أن يكون الأمر فيها تحقيق مناط وتنزيل حكم على واقعة؛ فالأمر فيه واسع ولا يجوز أن يلزم الشخص بأصل الحكم؛ فمن يرى عدم مشروعية عمل من الأعمال المنسوبة للجهاد مثلاً لا يجوز أن يوصم بأنه ضد الجهاد والمجاهدين.
أو أن يكون الأمر إلزاماً بما لا يلزم الشخص أو لا يلتزم به.
ب - أن يقتضي الأمر البيان، وتكون مصلحة البيان أرجح من مصلحة السكوت، فليس كل ما يُعلم يقال.
وقد بوب البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب العلم من صحيحه: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وأورد فيه أثر علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟».
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»(2).
ج - أن يكون بيان الحق بالأسلوب المناسب؛ وأن يسلك فيه صاحبه العدل ويجانب البغي والظلم، ويجب أن يعلم أن من مسؤوليته ـ مع قول الحق وبيانه ـ وحدة الصف والسعي لجمع الكلمة.
د - أن يكون بيان الحق من الشخص المناسب؛ فالقضايا الكبار ينبغي أن يتحدث فيها الأكابر، وتغليط الكبار لا ينبغي أن يجاهر به الأغمار.
هـ ـ حين يتم بيان الحق فلا ينبغي أن يستمر الناس في الخوض فيما لا أثر له إلا إيغار الصدور وإثارة الفرقة، وما أجدر الغيورين على مصالح الأمة أن يمسكوا عن الجدل واللغط.
رابعاً: الاعتدال في الحكم على الأخطاء:
لا يمكن أن يسلم البشر من الوقوع في الخطأ، ومهما بلغ الإنسان من العلم والتقوى والورع فهو عرضة للجهل والهوى والزلل؛ فالبحث عمن لا يزل ويقصِّر من البشر بحث عن محال.
كما أن الخطأ يتفاوت أمره؛ فثمة فرق بين الكبيرة والصغيرة، والكبائر تتفاوت فيما بينها، والخطأ في المسائل الظاهرة ليس كالخطأ في المسائل الخفية، ومخالفة الدليل الصريح الصحيح ليست كمخالفة دليل محتمل أو فتوى عالم من العلماء.
وحين يترجح بيان خطأ عالم أو داعية فينبغي الاعتدال في ذلك، ومجانبة الغلو والشطط، وكثير من مواطن الافتراق والاختلاف تنشأ من مجانبة الاعتدال، فيشعر المنتقد أنه ما دام على الحق فهذا يسوِّغ له أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يشاء.
خامساً: الفصل بين الأشخاص والمواقف:
من الأمور التي ينبغي أن يعنى بها مريد الحق أن يكون حديثه عن الحق أو الباطل متجنباً الأشخاص ما لم يترتب على ذلك مصلحة شرعية.
ومن المعلوم أنه لا يلزم من وقوع الشخص في الخطأ تأثيمه أو تضليله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وهذا فصل الخطاب في هذا الباب؛ فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله ألبتة خلافاً للجهمية المجبرة وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله؛ لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه خلافاً للقدرية والمعتزلة»(1).
وقال أيضاً: «ولكن الأنبياء ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب. فأما الصديقون، والشهداء، والصالحون: فليسوا بمعصومين. وهذا في الذنوب المحققة. وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم، ويقولون: إنهم معصومون. وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان لا يُعصَمون، ولا يُؤثَّمون»(2).
سادساً: الحد من تسلط الأغمار:
كان لمحدودية وسائل الاتصال أثر في قصر انتشار المقولات على من اشتهر بالعلم والرأي في الغالب، ومع اتساع انتشار هذه الوسائل صار من شاء يكتب ما شاء(3)، وأدى هذا إلى تصدر كثير من الأغمار وحديثهم فيما لا يحسنون، وصارت لهم جرأة عجيبة على الأكابر.
إن الأكابر ليسوا بمنأى عن النقد وبيان ما أخطؤوا فيه، لكن لا بد من حد أدنى لمن يتحدث عنهم وينتقدهم.
وأهل العلم والدعوة في الأمة يؤمل عليهم أن يشيعوا ثقافة احترام الأكابر، وضرورة تواضع الأصاغر، ولئن لم يرق لأحدهم قول، أو رأى الحق بخلافه فليدعه، لكن لا يتحدث مع الناس فيما لا يحسن.
سابعاً: الحذر من الانشغال بعيوب الناس:
المسلم مأمور بحفظ لسانه وصيانة أعراض المؤمنين، ومن أعظم الآفات أن ينشغل المرء بعيوب الآخرين، فكيف حين يكون من يُنشغل بعيوبهم من أهل الصلاح والعلم والدعوة، ومم يعرفون بالخير في الأمة؟
وجدير بمن لا يُعرف لهم تصنيف إلا في الرد والتعقيب أن يراجعوا أنفسهم ويتأملوا حالهم؛ فقد يكون مبدأ الأمر غيرة ومنتهاه جري وراء الهوى.
ثامناً: توقير الأكابر:(/4)
لقد جاء الشرع بوضع الناس في منازلهم، ومن ثَمَّ فالخطأ منهم ليس كالخطأ من غيرهم، لذا كان لزاماً حفظ منزلتهم ومكانتهم، وحين يصدر الخطأ والزلل منهم فالأمر يختلف عمن دونهم.
قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: «ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله»(4).
وقال الذهبي: «ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين؛ فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة»(5).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين»(6).
تاسعاً: البعد عن تضخيم الخلاف:
لا ينشأ الخلاف من فراغ، وكثير من مواطن الصراع والافتراق بذرتها خطأ وتقصير، يغذيها هوى، أو غلو وتضخيم.
ومن الناس من لا يجيد الاعتدال، فيضخم الخطأ، فيقع في البغي والعدوان، ويعتقد بالتلازم بين الغلظة على من أخطأ والحمية على الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فبالجملة فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفي لهذه المسألة؛ فإن العلم كثير؛ وإنما الغرض بيان أن هذه «المسألة» ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعاراً ويوجب تفريق القلوب وتشتت الأهواء. وليست هذه «المسألة» فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة؛ فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم ـ والناس بعدهم ـ في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا؛ وقالوا فيها كلمات غليظة كقول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجراً ولا تقاطعاً. وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواماً من أهل السنة في «مسألة الشهادة للعشرة بالجنة» حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات وكان أحمد وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة»(1).
وقال أيضاً: «وهنا آداب تجب مراعاتها: ـ منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ـ رؤية الكفار ربهم ـ ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره وإن كان يعتقد أحد الطرفين؛ فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية دون الساكت؛ فهذه أوْلى. ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعاراً يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم؛ فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله. وكذلك [أن] لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به»(2).
وقال أيضاً: «وأما الاختلاف في «الأحكام» فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر . وقال قوم: لم يُرِدْ منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحداً من الطائفتين». أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر»(3).
عاشراً: التفريق بين الخلاف في الرأي واختلاف القلوب:
لا بد أن يحصل الخلاف في الرأي وتتعدد الاجتهادات، لكن من واجب المسلم أن يحذر من أن يؤدي ذلك إلى اختلاف القلوب، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من ذلك؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»(4).
الحادي عشر: الخلاف لا بد منه:
يطمع بعض الغيورين والحريصين على وحدة الكلمة في قطع دابر الاختلاف والفرقة؛ لكنهم يتطلعون إلا نفي الخلاف في الرأي، ويسعون إلى الاتفاق على ما لا يمكن الاتفاق عليه.
وإذا كنا نريد وحدة الصف وجمع الكلمة فلا بد من استيعاب تعدد الآراء والاجتهادات ـ فيما يسع فيه ذلك ـ بل لا بد أن نتجاوز ذلك إلى استيعاب تعدد المدارس الفكرية كما تعددت المدارس الفقهية، ولا يمكن أن يكون الناس نسخة واحدة.(/5)
وبدلاً من السعي لتذويب ما لا يمكن تذويبه من الفوارق ينبغي أن يتركز الأمر على استجلاء الثوابت، وضبط الاجتهادات وتسديد المسيرة.
الثاني عشر: فتح المجال للحوار وإشاعة أخلاقياته:
إن مما يقلل الاختلاف والصراع أن يفتح المجال للحوار، وأن يسود بين شباب الصحوة ودعاتها جو الحوار؛ وبدون الممارسة العملية سيبقى الحديث عن آدابه وأخلاقياته حديثا نظرياً.
ومن تأمل واقع السلف رأى ذلك جلياً؛ فكانوا يختلفون ويسود بينهم الحوار والمناظرة والجدل بالتي هي أحسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله ـ تعالى ـ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين»(5).
الثالث عشر: سعي المصلحين لرأب الصدع وتدارك الخلاف:
من المهم حين يشيع خلاف تبدو منه بوادر الافتراق أن يسعى المصلحون للأخذ بزمام المبادرة، فيبذلون وسعهم في الإصلاح ورأب الصدع قبل أن يتأصل الخلاف وتطول الخصومة، ومما ينبغي على المصلحين مراعاته:
أ - أن يكفوا عن الخوض فيما لا يليق بهم أن يخوضوا فيه، ويكونوا بذلك قدوة لغيرهم، وفي كل موطن من مواطن الخلاف والصراع تتميز فئة ممن رزقهم الله العلم والبصيرة فيمسكون عن الخوض في الفتن؛ فما أجمل أن يقتدي الدعاة وطلاب العلم بأمثال هؤلاء.
ب - أن يحذروا من الانسياق وراء المتحمسين والمندفعين فيما لا يحقق المصلحة؛ فكم رأينا من مواقف دفع فيها الشبابُ بعضَ أهلِ العلم والدعاة إلى مواقف لا تليق بمن هو دونهم فضلاً عن أمثالهم.
ج - أن يسعوا للإصلاح بين المتخاصمين بأنفسهم، وقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم معيناً بذلك؛ فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي! فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة؛ فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها أنزلت: {وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]»(1).
وعن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة ....»(2).
ويعظم سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ شأن الإصلاح فيقول: «ألا أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى! قال: إصلاح ذات البين، وإياكم والبغضة؛ فإنها هي الحالقة»(3).
وفي حادثة الإفك انشغل النبي صلى الله عليه وسلم بالإصلاح بين المسلمين، وترك ما كان يريد الحديث عنه من أمر عظيم ألا وهو عِرْضُه صلى الله عليه وسلم، وترك الحديث عن اتهام أحد أصحابه للآخر بالنفاق؛ ففي حديث الإفك: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبتَ لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبتَ لَعَمْرُ اللهِ واللهِ لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان: الأوس والخزرج؛ حتى هموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت»(4).(/6)
وكان لأهل السنة ـ رحمهم الله ـ اعتناء بذلك؛ فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يكتب لطائفة من إخوانه الذين تجاوزوا في ذلك فيقول: «والذي أوجب هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا: أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله هو المسؤول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم، ويصلح ذات بيننا، ويهدينا سبل السلام ويخرجنا من الظلمات إلى النور ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا، ويجعلنا شاكرين لنعمه مثنين بها عليه قابليها ويتممها علينا. وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في «مسألة رؤية الكفار ربهم» وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد؛ فالأمر في ذلك خفيف... ثم ذكر الجواب»(5).
أسأل الله أن يمن على عباده المؤمنين بالاجتماع، وأن يجنبهم مواطن الزلل والفرقة والخصومة؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده.
(1، 2) تفسير ابن جرير 12/134.
(1) معالم التنزيل 4/122. (2) انظر: إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير ، ص 119.
(3) رواه مسلم (1715). (4) رواه أحمد (16718) والترمذي (2863).
(5) رواه الترمذي (2165) وأحمد (115). (6) رواه الطبراني والبيهقي.
(7) فتح الباري. (8) رواه مسلم (1828).
9) رواه البخاري (6150).
(1) رواه البخاري (4665). (2) رواه البخاري (2661).
(3) متن العقيدة الطحاوية. (4) صحيح مسلم بشرح النووي، 12/11.
(5) مجموع الفتاوى 6/505).
(6) رواه البيهقي عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني صحيح الجامع، 3014.
(7) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (158-159) والآجري في الشريعة (13).
(1) مجموع الفتاوى 3/421). (2) رواه مسلم في مقدمة الصحيح.
(1) مجموع الفتاوى (19/216-217) . (2) مجموع الفتاوى (35/69).
(3) أفادني طالب في المرحلة الثانوية أنه صنف كتابا في الرد على من يعتنون بالتخصصات غير الشرعية، وآخر في المرحلة نفسها أنه سيعقد درساً لبعض الطلاب يشرح لهم فيه كتاب «الفتوى الحموية» لشيخ الإسلام ابن تيمية! ولا ندري ماذا في المستقبل من النوادر والأوابد؟!
(4) الكفاية (ص102) جامع بيان العلم وفضله (2/821).
(5) سير أعلام النبلاء (14/40). (6) إعلام الموقعين (3/283).
(1) مجموع الفتاوى (6/502).
(2) مجموع الفتاوى (6/503-504).
(3) مجموع الفتاوى (24/173).
(4) رواه البخاري (3217).
(5) مجموع الفتاوى (24/172).
(1) رواه البخاري (2691) ومسلم (1791).
(2) رواه البخاري (1234) ومسلم (421).
(3) رواه مالك في الموطأ (1676) .
(4) رواه البخاري (2637) ومسلم (2770).
(5) مجموع الفتاوى (24/176-177).
موقع مجلة البيان
http://www.albayan-magazine.com/bayan-176/176-04.htm(/7)
وحدة الأديان
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
إن الله تعالى أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين وجعل دينه المهيمن على كل الأديان قال تعالى:وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ1. وبين الله تعالى في كتابه الكريم أنه لن يقبل من أحد غير دين الإسلام الذي بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام قال تعالى:وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ2. فليست هناك مساومة بين الإسلام وبين أي دين آخر: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ3 واليوم نسمع عمن يدعو إلى ما يسمى بوحدة الأديان ونسمع عن جملة من المؤتمرات التي تعقد بدعوى التفاهم الإسلامي النصراني ويحضر هذه المؤتمرات مندوبون عن مختلف الأديان المنتشرة في العالم، سواء كانت أدياناً ذات أصل سماوي، أو أدياناً أرضية، كالبوذية والهندوسية، ويشارك في هذه المؤتمرات حاخامات يمثلون الديانة اليهودية، وقساوسة يمثلون الديانة النصرانية، كما يشارك فيها مشايخ رسميون يمثلون الإسلام!!. وتُعدُّ في هذه المؤتمرات أوراق عديدة، من قِبَلِ يهود أو نصارى أو مسلمين أو آخرين، وتُلقى محاضرات عديدة، وتعقد ندوات كثيرة، يؤكد المتحدثون فيها على الأمور المشتركة بين الديانات، ويطالبون بالتعاون والتنسيق بين أصحابها لتحقيق أهداف مشتركة للمشاركين والمتحدثين.
بعض ما يجري في مؤتمرات الأديان:
ويقدم ممثلو كل دين أنفسهم للمؤتمرين أنهم على حق وصواب، وأن دينهم الذي يدينون به دين صحيح مقبول عند الله، وأن أتباعه مؤمنون موحدون، وهم خالدون في الجنة في الآخرة، سواء كان ذلك الدين يهودية أو نصرانية أو هندوسية أو بوذية، أو قاديانية أو غير ذلك.
ويتعامل المؤتمرون في هذه المؤتمرات مع الإسلام كما يتعاملون مع أي دين آخر على قدم المساواة، ويقولون: الإسلام حق وصواب، واليهودية حق وصواب، والنصرانية حق وصواب!!! ويوافق المشايخ المشاركون في هذه المؤتمرات على هذه الطروحات والأفكار، ويعلنون اعتراف الإسلام باليهودية والنصرانية، وأن هاتين الديانتين صحيحتان ربانيتان، وأن أتباعهما مؤمنون موحدون، وأنهم على صواب، وأنهم من أصحاب الجنة، وأنهم جميعاً أبناء إبراهيم عليه السلام! ويستشهد هؤلاء المشايخ وغيرهم من المسلمين المتحدثين في هذه المؤتمرات بآيات من القرآن، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث عن التوراة والإنجيل، والحديث عن موسى و عيسى وغيرهما عليهم الصلاة والسلام، والثناء على مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى!!
مشاركة بعض المسلمين فيها بسذاجة أو خبث:(/1)
وبدايةً نقرر أن هذه المؤتمرات العالمية حول وحدة الأديان، وتعاون أتباعها لتحقيق السلام ومواجهة الإرهاب مؤتمرات مشبوهة يعدها ويرتب لها خبثاء ماكرون من اليهود والماسونيين والصليبيين لتحقيق أهداف اليهودية العالمية في السيطرة على العالم، واستغفال الآخرين وخداعهم. وليست المشكلة عند الذين يرتبون لهذه المؤتمرات من اليهود والماسونيين؛ فإنهم يحققون أهدافهم الشيطانية منها، وهم يخدمون شياطينهم ومخططاتهم في ذلك؛ ولكن المشكلة عندنا هي في أولئك المشايخ والكتاب والمفكرين المسلمين من ذوي الأسماء اللامعة، والمراكز العالية الذين يشاركون في هذه المؤتمرات، ويسمعون كلام ممثلي الأديان الأخرى، ويوافقونهم عليه، ويقبلون أن يتعاملوا مع الإسلام كما يتعاملون مع اليهودية والنصرانية على قدم المساواة والاعتراف!! إنهم يشاركون في هذه المؤتمرات بسذاجة وغفلة وبلاهة، وبعضهم يعرف حقيقة أهداف القائمين عليها، ويوافقهم عليها، ويشارك فيها بخبث وسوء نية! والكلام الذي يقدمه هؤلاء المشايخ في المؤتمرات كلام باطل، وفهمهم للآيات والأحاديث التي يقدمونها خاطئ، وهم يحرفون معانيها، ويخرجون بها لتكون شاهدة لأهداف المؤتمرات الخبيثة! وعندما تناقش هؤلاء المشايخ والمفكرين المسلمين في أفكارهم، وتنتقدهم في مشاركاتهم يحتجون بآيات من القرآن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: أليست آيات القرآن تدعونا إلى مجادلة أهل الكتاب ومحاورتهم ؟ ألم يوجه القرآن الدعوة إلى أهل الكتاب ؟ ألم يحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب ؟ نقول لهم: نعم! لقد دعا القرآن إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، ولقد دعا القرآن أهل الكتاب إلى كلمة سواء، ولقد حاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب، ودعاهم إلى اتباع الحق والدخول في الإسلام! لكن أين هذا مما أنتم تشاركون فيه وتدعون إليه ؟ شتان ما هما!
الرسول صلى الله عليه وسلم يطبق دعوة القرآن إلى كلمة سواء:
الدعوة الموجهة إلى أهل الكتاب للتفكير في كلمة سواء، دعوة قرآنية صريحة، لكنها دعوة لها شروط، لا بد من تحققها وإلا فقدت الدعوة معناها وهدفها، وكان القرآن دقيقاً في تحديد شروط الدعوة وأهدافها!!
قال الله عز وجل:{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}4 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من طبق مفهوم هذه الآية، والتزم بشروطها عندما وجه الدعوة إلى أهل الكتاب، وبلَّغهم الإسلام، وأقام عليهم الحجة: ففي صيف السنة السابعة من الهجرة وبعد صلح الحديبية وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى حاكم أقوى دولة نصرانية وأكبرها هرقل زعيم الروم، وسجَّل في كتابه له هذه الآية، وطالبه بالدخول في الإسلام، وحمَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتابه الصحابيَّ: دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه وكلفه بالذهاب إلى هرقل وتبليغه الدعوة! ولما وصلت الدعوة إلى هرقل أوشك أن يستجيب لها ويسلم، لكنه آثر ملكه وسلطانه فرفضها، وقد ذكر الإمام البخاري تفاصيل الحوار بينه وبين أبي سفيان حول ذلك.
حقائق من كتاب الرسول إلى هرقل:
ومن الواضح في نص كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل أنه لا ينظر لدين هرقل النصراني على أنه مساوٍ للإسلام في الحق والصحة كما يفعل المشاركون في مؤتمرات الأديان وإنما اعتبر أن الإسلام وحده هو الحق والصواب، وأن النصرانية دين باطل منسوخ مردود، ولذلك لا بد أن يتخلى عنه أصحابه، ويتبعوا الإسلام.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً في دعوة هرقل إلى الدخول في الإسلام: أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم5. فإن لبى هرقل الدعوة ودخل في الإسلام فإن الله يؤتيه أجره مرتين وليس مرة واحدة: مرة لإيمانه بعيسى ابن مريم عليه السلام، ومرة لإيمانه بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن رفض الدعوة للدخول في الإسلام، وأصر على البقاء على نصرانيته فسيكون ضالاً كافراً خاسراً، وسيحمل إثم الأريسيين من شعبه وقومه، لأنه بكفره يكون قد صدهم عن الدخول في الإسلام!6.
حقائق قرآنية من الدعوة إلى كلمة سواء:(/2)
وعندما نمعن النظر في الآية موضوع الكلام، فإننا نأخذ منها ما يلي:{قل}7 هي: قل التلقينية فالله هو الذي يلقن رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، ويأمره أن يقول هذا القول لأهل الكتاب، فالله هو الذي يوجه الدعوة إلى أهل الكتاب للدخول في الإسلام، والله هو الذي يحدد الشروط الضرورية لهذه الدعوة، وهذا معناه أن هذا الموضوع موضوع رباني، وليس اجتهاداً بشرياً خاضعاً لأهواء البشر، أو متأثراً بأهوائهم وتقلباتهم! هذا الأمر{قل}ليس موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما يتعداه ليشمل كل مسلم من بعده، قادر على محاورة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان؛ لأنه من المعلوم أن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن خطاب لأمته، ما لم يقم دليل على تخصيصه به.وقوله:{يَا أَهْلَ الكِتَابِ}8 المراد بأهل الكتاب في القرآن اليهود والنصارى فقط، وهذا المصطلح وقف عليهم. لأن الله أنزل لكل طائفة منهم كتاباً؛ حيث أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأمر بني إسرائيل باتباعها، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام وأمر النصارى باتباعه. ولكن اليهود لم يتبعوا كتاب الله التوراة، وإنما حرفوها وبدلوها فنسخها الله، والنصارى لم يتبعوا كتاب الله الإنجيل، وإنما حرفوه وبدلوه، فنسخه الله، ووصف الفريقين بالكفر في آيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ}9.
المسلم يوجه الدعوة ويضع الخطة:
يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يأتوا إليه، للاتفاق علىكَلِمَةٍ سَوَاءٍ بينه وبينهم. وكونه هو الذي يوجه لهم الدعوة:{تَعَالَوْا}يدل على أنه هو صاحب الأمر والنهي، وأنه هو الذي يقرر ويوجه، وأنه هو الذي يضع الأهداف ويحدد الشروط والمواصفات، وأن اليهود والنصارى مدعوون للمشاركة والمجادلة والحوار، والالتزام بخطة صاحب الدعوة وبرنامجه.
وهذا من صلاحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي على حق، ورسالته حق، ودينه حق، ودعوته حق، وهم على باطل، ولا بد أن يحاورهم ليقيم عليهم الحجة، ويتخلوا عما هم عليه من باطل، ويتبعوا ما معه من حق. وهذا ليس خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ينطبق على كل إمامٍ أو سلطانٍ للمسلمين من بعده، وكل عالم أو مفكر أو داعية من بعده! فالأصل أن تصدر الدعوة إلى أهل الكتاب من المسلمين، وأن يضع برنامج المؤتمر المسلمون، وأن يعد الكلمات والمحاضرات المسلمون، بهدف الحوار والنقاش، وتقديم الإسلام الحق لأهل الكتاب! وهذا مفقود في مؤتمرات الأديان المشبوهة!!
والكلمة السواء هي الكلمة المستوية العادلة، ولن تكون مستوية عادلة إلا إذا انطلقت من الحق، والتزمت بالحق، وكان هدفها بيان الحق والاحتجاج له والبرهنة عليه، ونقد الباطل وتزييفه.
شروط قرآنية ثلاثة للكلمة السواء:
وقد فسرت الآية الكلمة السواء المقصودة من الدعوة تفسيراً محدداً، وذلك في:{أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ}10.
إن المؤتمرات الحوارية مع أهل الكتاب لا بد فيها من الالتزام بشروط ثلاثة،: الأول: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ}عبادة الله وحده، وعدم عبادة مخلوق غيره، وهذا غير موجود عند اليهود والنصارى؛ فهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ولكنهم يعبدون معه غيره من أحبارهم ورهبانهم. الثاني {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}عدم الإشراك بالله، وعدم تأليه غيره من المخلوقين، وهذا موجود عند اليهود والنصارى؛ فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، ويعبدون آلهة ثلاثة، يسمونها: "الأقانيم" الثلاثة الأب والابن والروح القدس وهذا شرك منهم بالله.
الثالث:{وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ}عدم الاعتراف بالربوبية لغير الله، وعدم قبول تشريع غير الله، وهذا غير موجود عند اليهود والنصارى؛ فهم يزعمون إيمانهم بالله رب العالمين، لكنهم مع ذلك يتخذون أرباباً غيره من أحبارهم ورهبانهم. وأخبرنا الله عن ذلك بقوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}11.فالمسلمون وحدهم هم الذين: لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون به شيئاً، ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
نتيجة المؤتمرات: الجهر بالإسلام وكفر غير المسلمين:(/3)
وهدف مؤتمرات الحوار مع أهل الكتاب التي ينبغي أن يُعِدَّ لها المسلمون أنفسَهم تخلي اليهود والنصارى عن الشرك بالله وتأليه غير الله أو ربوبيته، وعبادة الله وحده، ولن يكون هذا إلا بتخليهم عن دينهم المحرف الباطل المنسوخ، والدخول في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}12 تُقدِّم هذه الجملة من الآية الحل الصحيح للمسلمين المشاركين في مؤتمرات الحوار مع أهل الكتاب، فإن رفض أهل الكتاب قبول الأمور السابقة التوحيدية، وتولوا عن الحق، وأعرضوا عن الدعوة، وأصروا على يهوديتهم ونصرانيتهم فعلى المسلمين أن يكونوا صريحين معهم، وأن يخاطبوهم قائلين:{اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
إنهم يجهرون بإسلامهم معتزين، وهذا معناه أنهم وحدهم المسلمون، وأن اليهود والنصارى ليسوا مسلمين، ومن ثَمَّ ليسوا موحدين لله، وليسوا على حق، وإنما هم كافرون، ومتبعون للباطل. هذا هو توجيه القرآن للمسلمين عندما يدعون أهل الكتاب إلى كلمة سواء، وهكذا فلتكن مشاركة المفكرين المسلمين في مؤتمرات الأديان، فإن لم تكن المشاركة هكذا على أساس توجيهات القرآن فلا تجوز، لأن المشاركين المسلمين حينئذ يكونون شهود زور!!!13 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملحق بدرس وحدة الأديان:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
نظراً لأهمية هذا الموضوع رأينا أن نلحق به فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات، وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى وحدة الأديان: دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء: مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد، إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب. وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي: أولاً: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، التي أجمع عليها المسلمون: أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبقَ على وجه الأرض دين يُتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}14 والإسلام بعد بعثة محمد هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.
ثانياً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: القرآن الكريم هو آخر كتب الله نزولاً وعهداً برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يُتعبد الله به سوى: القرآن الكريم قال الله تعالى:{وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِ}15.(/4)
ثالثاً: يجب الإيمان بأن التوراة والإنجيل قد نُسِخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}16 وقوله جل وعلا:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}17 وقوله سبحانه:{وَإنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}18 ولهذا فما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ألم آتِ بها بيضاء نقية ؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي19.
رابعاً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام: أن نبينا ورسولنا محمداً هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رسول الله وَخَاتَمَ النبيينَ}20 فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حياً لما وسعه إلا اتباعه وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك كما قال الله تعالى:{وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}21 ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد وحاكماً بشريعته. وقال الله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ}22 كما إن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}23 وقال سبحانه:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رسول الله إلَيْكُمْ جَمِيعاً}24وغيرها من الآيات.
خامساً: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار كما قال تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حََتَّى تَاًتِيَهُمُ البَيِّنَةُ}25 وقال جل وعلا:{إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ}26 وغيرها من الآيات.
وثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار27 . ولهذا: فمن لم يكفّر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: من لم يكفّر الكافر فهو كافر.
سادساً: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية؛ فإن الدعوة إلى: وحدة الأديان والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وجرّ أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه:{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا}28.وقوله جل وعلا:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}29.(/5)
سابعاً: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول:{قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}30 ويقول جل وعلا:{وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ}31
ثامناً: إن الدعوة إلى وحدة الأديان إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان؛ وبناءً على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
تاسعاً: وتأسيساً على ما تقدم:
1- فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها، والانتماء إلى محافلها.
2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردَين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد!! فمن فعل ذلك أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق القرآن الكريم والمحرف أو الحق المنسوخ التوراة والإنجيل.
3- كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة ولأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك.
كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس بيوت الله وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنها عبادة على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}32 بل هي: بيوت يُكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى 22/162: ليست أي: البيع والكنائس بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها؛ فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار.
عاشراً: ومما يجب أن يُعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة؛ ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام؛ وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة قال الله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}33أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عُرَى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون؛ والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى:{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ}34
وإن اللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة: وحدة الأديان، ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سبباً في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم.
نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين35.
________________________________________
1 -(المائدة:48).
2 - (آل عمران:85).
3 -(الكافرون:1-6).
4 -( آل عمران: 64 ).(/6)
5 - أخرجه البخاري كتاب بدء الوحي باب بدء الوحي برقم (6).
6 -الأريسيون هم الرومان من أتباع آريوس الذي كان موحداً لله، ويرى أن عيسى عليه السلام هو عبد الله ورسوله، وليس ابناً لله، فحاربه وحارب أتباعَه الرهبانُ الذين ألَّهوا عيسى عليه السلام.
7 - آل عمران: 64.
8 -( آل عمران: 64 ).
9 -( البينة: 1 ).
10 - ( آل عمران: 64 ).
11 -( التوبة: 31 ).
12 - ( آل عمران: 64 ).
13 - راجع مجلة البيان العدد 152 ص 40 مقال بعنوان: دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء.
14 -آل عمران: 85.
15 -المائدة: 48.
16 -المائدة: 13.
17 - البقرة: 79.
18 -آل عمران: 78.
19 - أخرجه أحمد في مسنده برقم (14623).
20 -الأحزاب: 40.
21 - آل عمران: 81.
22 -الأعراف: 157.
23 -سبأ: 28.
24 -الأعراف: 158.
25 -البينة: 1.
26 -البينة:6.
27 -أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس برقم (218).
28 -البقرة: 217.
29 -النساء: 89.
30 -التوبة: 29.
31 -التوبة: 36.
32 - آل عمران: 85.
33 - آل عمران: 64.
34 -المائدة: 49.
35 - هذه الفتوى الشرعية الموثقة صدرت برقم 19402 في 25/1/1418 هـ عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء (الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء) السعودية واللجنة التي أصدرت هذه الفتوى مكونة من سماحة الرئيس العام ومفتي عام المملكة العربية السعودية (الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز) رئيساً و (الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله آل الشيخ نائباً) وعضوية كل من الشيخ د بكر أبو زيد، و الشيخ د صالح بن فوزان الفوزان.(/7)
وسائل الثبات على دين الله
يتناول الدرس الثبات على دين الله كمطلب أساسي لكل مسلم صادق، يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، وذكر أهمية هذا الموضوع ثم ذكر وسائل الثبات، ونماذج من صور الثبات، ثم ذكر مواطن الثبات .
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
أهمية هذا الموضوع:
الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق، يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، وتكمن أهمية الموضوع في أمور منها:
أولا: وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً: [ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ] رواه الترمذي . ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر؛ لفساد الزمان، وندرة الأخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر .
ثانيا: كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن .
ثالثا: ارتباط الموضوع بالقلب ؛ الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه: [ لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع رقم 5147. ويضرب عليه الصلاة والسلام للقلب مثلاً آخر، فيقول: [إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع 2364. فسبق الحديثُ قولَ الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها .
وسائل الثبات :
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه، وعلى لسان نبيه، وفي سيرته صلى الله عليه وسلم وسائل كثيرة للثبات، أستعرض بعضاً منها:
أولاً: الإقبال على القرآن: القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، وقد نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار:} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [32]{ سورة الفرقان .
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت ؟
1- لأنه يزرع الإيمان، ويزكي النفس بالصلة بالله .
2- لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله .
3- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور؛ فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص .
4- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
نماذج:
1- ما هو أثر قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[3]} سورة الضحى. على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال المشركون: [ ودع محمد … ] ؟
2- وما هو أثر قول الله عز وجل: }لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[103]{ سورة النحل . لما ادعى كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر، وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة ؟
3- وما هو أثر قول الله عز وجل: }أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [49]{ سورة التوبة. في نفوس المؤمنين لما قال المنافق: }ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي...[49]{ سورة التوبة؟ أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات، وإسكاتاً لأهل الباطل .. ؟ بلى وربي .(/1)
ومن العجب أن الله يعد المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائم كثيرة يأخذونها- وهي غنائم خيبر - وأنه سيعجلها لهم، وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم، وأن المنافقين سيطلبون مرافقتهم، وأن المسلمين سيقولون:لن تتبعونا، وأنهم سيصرون يريدون أن يبدلوا كلام الله، وأنهم سيقولون للمؤمنين: بل تحسدوننا، وأن الله أجابهم بقوله: } بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا[15]{ سورة الفتح ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة وخطوة بخطوة وكلمة بكلمة ... ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين: الذين ربطوا حياتهم بالقرآن، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، ومنه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم، وشغلهم الشاغل ... ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن، وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم .
ثانياً:التزام شرع الله والعمل الصالح: قال الله تعالى: } يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27]{ سورة إبراهيم .قال قتادة:' أما الحياة الدنيا: فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة: في القبر '. وقال سبحانه: } وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا[66]{ سورة النساء أي: على الحق، وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهم الخطب ؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيما؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل . وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه . وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: [ مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وهو في صحيح النسائي . أي: السنن الرواتب . وفي الحديث القدسي: [وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ]رواه البخاري.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل: والدليل على ذلك قوله تعالى: }وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[120] { سورة هود. فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتلهي والتفكه، وإنما لغرض عظيم هو: تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفئدة المؤمنين معه .
نماذج للتأسي:
إبراهيم عليه السلام : فلو تأملت قول الله : }قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ[68]قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[69]وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [70] { سورة الأنبياء . قال ابن عباس: [ كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] رواه البخاري. ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب، يدخل نفسك، وأنت تتأمل هذه القصة ؟
موسى عليه السلام: لو تدبرت قول الله عز وجل في قصة موسى: } فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61]قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62] { سورة لشعراء . ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة ؟
سحرة فرعون: لو استعرضت قصة سحرة فرعون، ذلك المثل العجيب للثلة التي ثبتت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: }قَالَ ءَامَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71] {سورة طه . ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: }قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[73]{ سورة طه ... وهكذا: قصة المؤمن في سورة يس، ومؤمن آل فرعون، وأصحاب الأخدود، وغيرها: يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة .(/2)
رابعاً: الدعاء: من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: }رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا[8]{ سورة آل عمران ، }رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا[250]{ سورة البقرة . ولما كانت: [قُلُوب بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ] رواه مسلم و أحمد؛ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: [ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ] رواه الترمذي وابن ماجه، وهو في صحيح الجامع .
خامساً: ذكر الله: وهو من أعظم أسباب التثبيت؛ تأمل في هذا: الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[45]{ سورة الأنفال . فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد، وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً ... وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها ؟ ألم يدخل في حصن: }مَعَاذَ اللَّهِ... [23]{ سورة يوسف . فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟ وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين .
سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً: والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق: أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل . سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع، وآخرين هداهم الله، فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس ؟! فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين .
سابعاً: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة:
التربية الإيمانية: التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل الرجال، فهي عامل أساسي من عوامل الثبات.
التربية العلمية: القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمعية الذميمة .
التربية المتدرجة: التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة ... ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائل أنفسنا:ما هو مصدر ثبات صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، إبان فترة الاضطهاد ؟ كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر، وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره ؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة، صقلت شخصياتهم ؟ لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر، ثم تطرحه عليها عاري الظهر، فلا يطفئها إلا ودك [ أي شحم ] ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله ؟ وبلال تحت الصخرة في الرمضاء، وسمية في الأغلال والسلاسل ... وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني: من الذي ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم؟ كلا .. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء ؟
ثامناً:الثقة بالطريق:كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر، ولهذا وسائل منها:
1- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداً، ولا وليد زمانك، وإنما هو طريق عتيق قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون؛ فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أنساً، وكآبتك فرحاً وسروراً؛ لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.(/3)
2- الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل:}قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ[59]{ سورة النمل وقال: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [32]{ سورة فاطر .وقال: }وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [6]{ سورة يوسف. وكما أن الله اصطفى الأنبياء فاللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء، وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء ...ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك، وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة؛ من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك ؟
تاسعاً: ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل: النفس إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس:الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات، وتنجز المهمات: }فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [15]{ سورة الشورى ... والدعوة إلى المنهج الصحيح- ببذل الوقت، وكدّ الفكر، وسعي الجسد، وانطلاق اللسان، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل - تقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة . زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق، والمعاندين، وأهل الباطل، وهو يسير في مشواره الدعوي؛ فيرتقي إيمانه، وتقوى أركانه، فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات، والحماية من التراجع والتقهقر، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه .
عاشراً: الالتفاف حول العناصر المثبتة: تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ]رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم، وانظر الصحيحة. البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات . وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال، وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت:'وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ' الوابل الصيب، وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة؛ فالزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية
الحادي عشر: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام: نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، قال تعالى: }وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[146]وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[147]فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[148]{ سورة آل عمران . ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فماذا قال ؟ قال: [ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ]رواه البخاري وأبو داود وأحمد . فعرض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهم في تربيتهم على الثبات .(/4)
الثاني عشر: معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به: ففي قول الله عز وجل: } لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[196]{ سورة آل عمران تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم... وفي قوله عز وجل:} لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[17]{ سورة الرعد ؛ عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له. ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل، وتعرية أهدافهم ووسائلهم: } وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[55]{ سورة الأنعام. حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام . وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت، ودعاة زلت أقدامهم، ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم.
الثالث عشر: استجماع الأخلاق المعينة على الثبات: وعلى رأسها الصبر، ففي حديث الصحيحين: [ مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي ومالك والدارمي وأحمد. وأشد الصبر عند الصدمة الأولى، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عدم الصبر .
الرابع عشر: وصية الرجل الصالح: من عوامل الثبات أن يقيض الله للمسلم رجلاً صالحاً يعظه ويثبته، فتكون كلمات ينفع الله بها، ويسدد الخطى، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله، ولقائه، وجنته، وناره، وهذا مثال من سيرة الإمام أحمد رحمه الله، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقيا ً. لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه:فهذا أعرابي قال للإمام أحمد:'يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ' قال الإمام أحمد:' وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه' . فاحرص على طلب الوصية من الصالحين، واعقلها إذا تليت عليك .
الخامس عشر: التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت: فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت، فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه،فقد مر بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله، فقال لهم: [صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة] رواه الحاكم وهو حديث حسن صحيح.
مواطن الثبات :
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام:
أولاً:الثبات في الفتن: ومن أنواع الفتن:
1- فتنة المال: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ[75] فَلَمَّا ءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[76]{ سورة التوبة .
2- فتنة الجاه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[28] {سورة الكهف
وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال صلى الله عليه وسلم: [مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ]رواه الترمذي وأحمد والدارمي وهو في صحيح الجامع .والمعنى: أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم .
3- فتنة الزوجة : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[14] {سورة التغابن.
4- فتنة الأولاد : [الولد مجبنة مبخلة محزنة] رواه أبو يعلىوهو في صحيح الجامع .
5- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم : ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل: }قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ[4]النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ[5]إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[6]وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ[7]وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[9] {سورة البروج .(/5)
6- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: [ إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ... عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي...] رواه ابن ماجه،وانظر:صحيح الجامع .
ثانياً:الثبات في الجهاد: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [45] {سورة الأنفال . ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف، وكان عليه الصلاة والسلام، وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين: [............ وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا]رواه البخاري وأحمد والدارمي .
ثالثاً: الثبات على المنهج: }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23] { سورة الأحزاب مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل .
رابعاً:الثبات عند الممات: أهل الصلاح والسنة؛ يوفقهم الله للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين، وقد يُرى من هؤلاء تهلل وجه، أو طيب رائحة، ونوع استبشار عند خروج أرواحهم، ومثل هؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[30] {سورة فصلت . اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/6)
وسائل الثبات على دين الله
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد .
وتكمن أهمية الموضوع في أمور منها :
- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون ، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون ، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً ، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً ( القابض على دينه كالقابض على الجمر ) .
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف ، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر ؛ لفساد الزمان ، وندرة الأخوان ، وضعف المعين ، وقلة الناصر .
- كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب ، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر ، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن .
- ارتباط الموضوع بالقلب ؛ الذي يقول النبي e في شأنه : ( لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياً ) رواه أحمد 6/4 والحاكم 2/289 وهو في السلسلة الصحيحة 1772 . ويضرب عليه الصلاة والسلام للقلب مثلاً آخر فيقول : ( إنما سمي القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح طهراً لبطن ) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2361 . فسبق الحديث قول الشاعر :
وما سمي الإنسان إلا لنسيانه
ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها .
وسائل الثبات
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته e وسائل كثيرة للثبات . أستعرض معك أيها القارئ الكريم بعضاً منها :
أولاً : الإقبال على القرآن :
القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى ، وهو حبل الله المتين ، والنور المبين ، من تمسك به عصمه الله ، ومن اتبعه أنجاه الله ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم .
نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت ، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار : ( وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة ، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) الفرقان /32 .
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت ؟؟
- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله .
- لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة ، ويطمئن قلبه بذكر الله .
- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله ، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ، ولا تتناقض أقوله باختلاف الأحداث والأشخاص .
- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول ، وهذه نماذج :
1- ما هو أثر قول الله عز وجل : ( ما ودعك ربك وما قلى ) الضحى /3 على نفس رسول الله e ، لما قال المشركون : ( ودع محمد … ) أنظر صحيح مسلم بشرح النووي 12/156 .
2- وما هو أثر قول الله عز وجل : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) النحل /103 لما ادعى كفار قريش أن محمداً e إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة ؟
3- وما هو أثر قول الله عز وجل : ( ألا في الفتنة سقطوا ) التوبة /49 في نفوس المؤمنين لما قال المنافق : " ائذن لي ولا تفتني " ؟
أليس تثبيتاً على تثبيت ، وربطاً على القلوب المؤمنة ، ورداً على الشبهات ، وإسكاتاً لأهل الباطل .. ؟ بلى وربي .
ومن العجب أن الله يعد المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائم كثيرة يأخذونها ( وهي غنائم خيبر ) وأنه سيعجلها لهم وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم وأن المنافقين سيطلبون مرافقتهم وأن المسلمين سيقولون لن تتبعونا وأنهم سيصرون يريدون أن يبدلوا كلام الله وأنهم سيقولون للمؤمنين بل تحسدوننا وأن الله أجابهم بقوله: ( بل كانوا لا يفقهون حديثاً ) ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة وخطوة بخطوة وكلمة بكلمة .
- ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً ، ومنه ينطلقون ، وإليه يفيئون ، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل .
- ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم .
ثانياً : التزام شرع الله والعمل الصالح :
قال الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) إبراهيم /27 .(/1)
قال قتادة : " أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، وفي الآخرة في القبر " . وكذا روي عن غير واحد من السلف تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/421 . وقال سبحانه : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ) النساء /66 . أي على الحق .
وهذا بيّن ، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهم الخطب ؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيماُ . ولذلك كان e يثابر على الأعمال الصالحة ، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل . وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه . وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته .
وكان e يقول : ( من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة ) سنن الترمذي 2/273 وقال : الحديث حسن أو صحيح . وهو في صحيح النسائي 1/388 وصحيح الترمذي 1/131 . أي السنن الرواتب . وفي الحديث القدسي : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) رواه البخاري ، انظر فتح الباري 11/340 .
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل :
والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) هود /120 .
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله e للتلهي والتفكه ، وإنما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله e وأفئدة المؤمنين معه .
- فلو تأملت يا أخي قول الله عز وجل : ( قالوا حرقوه وأنصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ) الأنبياء /68-70 قال ابن عباس: " كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل" الفتح 8/22
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة ؟
- لو تدبرت قول الله عز وجل في قصة موسى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا إن معي ربي سيهدين ) الشعراء /61-62 .
ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين ، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة ؟ .
- لو استعرضت قصة سحرة فرعون ، ذلك المثل العجيب للثلة التي ثبتت على الحق بعدما تبين .
ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول : ( آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النجل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) طه /71
ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاضٍ ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) طه /72 .
- وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة .
رابعاً : الدعاء :
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم :
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) ، ( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا ) . ولما كانت ( قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً انظر مسلم بشرح النووي 16/204 . كان رسول الله e يكثر أن يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً تحفة الأحوذي 6/349 وهو في صحيح الجامع 7864 .
خامساً : ذكر الله :
وهو من أعظم أسباب التثبيت .
- تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ) الأنفال /45 . فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد .
" وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها " ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء . بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً .
- وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها ؟ ألم يدخل في حصن " معاذ الله " فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه ؟
وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين .
سادساً : الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً :
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة ، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل ، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل ..
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك : لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه ؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم ؟؟.(/2)
فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى علم الكلام والاعتزال إلى التحريف والتأويل إلى التفويض والإرجاء ، ومن طريقة في التصوف إلى أخرى ..
وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون ، وانظر كيف حُرم أهل الكلام الثبات عند الممات فقال السلف : " أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام " لكن فكر وتدبر هل رجع من أهل السنة والجماعة عن طريقه سَخْطَةً بعد إذ عرفه وفقه وسلكه ؟ قد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهات عرضت لعقله الضعيف ، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه .
ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد e ؟ قال هرقل لأبي سفيان : " فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ " قال أبو سفيان : لا . ثم قال هرقل : " وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب " رواه البخاري ، الفتح 1/32 .
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع وآخرين هداهم الله فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى ، ولكن هل سمعنا العكس ؟!
فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين .
سابعاً : التربية :
التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات .
التربية الإيمانية : التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة ، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة ، والعكوف على أقاويل الرجال .
التربية العلمية : القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والأمعية الذميمة .
التربية الواعية : التي لا تعرف سبيل المجرمين وتدرس خطط أعداء الإسلام وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً ، المنافية للانغلق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة .
التربية المتدرجة : التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً ، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون ، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة .
ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات ، فلنعد إلى سيرة رسول الله e ونسائل أنفسنا .
- ما هو مصدر ثبات صحابة النبي e في مكة ، إبان فترة الاضطهاد ؟
- كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره ؟
- هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ، صقلت شخصياتهم ؟
لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه ، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك ( أي الشحم ) ظهره حين يسيل عليها ، ما الذي جعله يصبر على هذا كله ؟ .
- وبلال تحت الصخرة في الرمضاء ، وسمية في الأغلال والسلاسل ..
- وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني ، من الذي ثبت مع النبي e في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين ؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم ؟ كلا .. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله e .
لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء ؟
ثامناً : الثقة بالطريق :
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم ، كان ثباته عليه أكبر .. ولهذا وسائل منها :
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه - يا أخي - ليس جديداً ولا وليد قرنك وزمانك ، وإنما هو طريق عتيق ( عتيق صفة مدح ) قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون ، فتزول غربتك ، وتتبدل وحشتك أنساً ، وكآبتك فرحاً وسروراً ، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
- الشعور بالاصطفاء ، قال الله عز وجل : ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) النمل /59 . وقال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) فاطر /32 . وقال : ( وكذلك يجتبك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ) يوسف /6 . وكما أن الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء .
- ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً ، أو دابة ، أو كافراً ملحداً ، أو داعياً إلى بدعة ، أو فاسقاً ، أو مسلماً غير داعية لإسلامه ، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء ؟
- ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك ؟
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل :
النفس إن لم تتحرك تأسن ، وإن لم تنطلق تتعفن ، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس : الدعوة إلى الله ، فهي وظيفة الرسل ، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات ، وتنجز المهمات ( فلذلك فادع ، واستقم كما أمرت ) . وليس يصح شيء يقال فيه " فلان لا يتقدم ولا يتأخر " فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، والإيمان يزيد وينقص .(/3)
والدعوة إلى المنهج الصحيح - ببذل الوقت ، وكدّ الفكر ، وسعي الجسد ، وانطلاق اللسان ، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل - يقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة .
زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق ، والمعاندين ، وأهل الباطل ، وهو يسير في مشواره الدعوي ، فيرتقي إيمانه ، وتقوى أركانه .
فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات ، والحماية من التراجع والتقهقر ، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع ، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه ، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه .
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة :
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر ) حسن رواه ابن ماجة عن أنس مرفوعاً 237 وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/127 وانظر السلسلة الصحيحة 1332 .
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين ، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات . وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال .
ومن ذلك : ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى " أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة " .
وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت : " وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا ، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها " . الوابل الصيب ص 97 .
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت ، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق ، والركن الشديد الذي تأوي إليه فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة .. الزمهم وعش في أكنافهم وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
الحادي عشر : الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام :
نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر ، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها ، قال تعالى : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) آل عمران /146-148 .
ولما أراد رسول الله e أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فماذا قال ؟
جاء في حديث خباب مرفوعاً عند البخاري : ( وليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف الله والذئب على غنمه ) رواه البخاري ، انظر فتح الباري 7/165 .
فعرض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهم في تربيتهم على الثبات .
الثاني عشر : معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به :
في قول الله عز وجل : ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) آل عمران /196 تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم .
وفي قوله عز وجل : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) الرعد /17 عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له .
ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) الأنعام /55 حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة ، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام .
وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم .
الثالث عشر : استجماع الأخلاق المعينة على الثبات :
وعلى رأسها الصبر ، ففي حديث الصحيحين : ( وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر ) رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب الاستعفاف عن المسألة ، ومسلم في كتاب الزكاة - باب فضل التعفف والصبر . وأشد الصبر عند الصدمة الأولى ، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عدم الصبر .
- تأمل فيما قاله ابن الجوزي رحمه الله : " رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته ، فقال : ما ينبغي لأحد أن يدعو ، فإنه ما يستجيب . ثم قال : إن الله تعالى يعاند فما يترك لنا ولداً " الثبات عند الممات لابن الجوزي ص34 تعالى الله عن قوله علواً كبيراً .
- لما أصيب المسلمون في أحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم بالنصر ، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء : ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم ) آل عمران /165 ماذا حصل من عند أنفسهم ؟(/4)
فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا .
الرابع عشر : وصية الرجل الصالح :
عندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه ليمحصه ، يكون من عوامل الثبات أن يقيض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبته ، فتكون كلمات ينفع الله بها ، ويسدد الخطى ، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله ، ولقائه ، وجنته ، وناره .
وهاك أخي ، هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد رحمه الله ، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقياً .
لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال ، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه ، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد : ( يعز عليّ يا أبا عبد الله ، أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله e ، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف ) البداية والنهاية 1/332 .
وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت ؛ ففي السير للذهبي 11/238 عن أبي جعفر الأنباري قال : " لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرت ، فعبرت الفرات ، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه .
فقال : يا أبا جعفر تعنيت .
فقلت : يا هذا ، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك ، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق ، وإن لم تُجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، لابد من الموت ، فاتق الله ولا تجب . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر أعِد ..
فأعدت عليه وهو يقول : ما شاء الله ... أ.هـ "
وقال الإمام أحمد في سياق رحتله إلى المأمون : " صرنا إلى الرحبة منها في جوف الليل ، فعرض لنا رجل فقال : أيكم أحمد بن حنبل .
فقيل له : هذا . فقال للجمال : على رسلك .. ثم قال : " يا هذا ، ما عليك أن تُقتل ها هنا ، وتدخل الجنة " ثم قال : أستودعك الله ، ومضى .
فسألت عنه ، فقيل لي هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له : جابر بن عامر يُذكر بخير " سير أعلام النبلاء 11/241 .
وفي البداية والنهاية : أن أعرابي قال للإمام أحمد : " يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله ، فاصبر على ما أنت فيه ، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل " .
قال الإمام أحمد : وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه . البداية والنهاية 1/332
وفي رواية أن الإمام أحمد قال : " ما سمعت كلمة وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي كلمني بها في رحبة طوق وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات ، قال : " يا أحمد إن يقتلك الحق متّ شهيداً ، وإن عشت عشت حميداً .. فقوي قلبي " سير أعلام النبلاء 11/241 .
ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمد معه في الفتنة :
ما رأيت أحداً - على حداثة سنه ، وقدر علمه - أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير .
قال لي ذات يوم : " يا أبا عبد الله ، الله الله ، إنك لست مثلي ، أنت رجل يُقتدى بك ، قد مد الخلق أعناقهم إليك ، لما يكون منك ، فاتق الله ، واثبت لأمر الله . فمات وصليت عليه ودفنته . سير أعلام النبلاء 11/242 .
وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد ، قد ساهموا في تثبيته .
فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس : " لست أبالي بالحبس - ما هو ومنزلي إلا واحد - ولا قتلاً بالسيف ، وإنما أخاف فتنة السوط "
فسمعه بعض أهل الحبس فقال : " لا عليك يا أبا عبد الله ، فما هو إلا سوطان ، ثم لا تدري أين يقع الباقي " فكأنه سُرِّي عنه . سير أعلام النبلاء 11/240 .
فاحرص أيها الأخ الكريم على طلب الوصية من الصالحين : وأعقلها إذا تليت عليك .
- اطلبها قبل سفر إذا خشيت مما قد يقع فيه .
- اطلبها أثناء ابتلاء ، أو قبل محنة متوقعة .
- اطلبها إذا عُينت في منصب أو ورثت مالاً وغنى .
وثبت نفسك ، وثبت غيرك والله ولي المؤمنين .
الخامس عشر : التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت :
والجنة بلاد الأفراح ، وسلوة الأحزان ، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب ، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق .
فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل ، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض ، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.(/5)
وكان النبي e يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه ، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله e بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله تعالى فقال لهم : ( صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) رواه الحاكم 3/383 ، وهو حديث حسن صحيح ، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103 .
وكذلك كان e يقول للأنصار : ( إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) متفق عليه .
وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر ، والحشر ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، وسائر منازل الآخرة .
كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي ، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها . لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله ، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات ، فكيف تسول له نفسه أن يزل ، أو يتمادى في الانحراف ، ولأجل هذا قال e : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) رواه الترمذي 2/50 وصححه في ارواء الغليل 3/145 .
مواطن الثبات
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل ، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام :
أولاً : الثبات في الفتن :
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن ، فإذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم .
ومن أنواع الفتن :
- فتنة المال : ( ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ) التوبة /75،76
فتنة الجاه : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ) الكهف /28 .
وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال e : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الإمام أحمد في السند 3/460 وهو في صحيح الجامع 5496 . والمعنى أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم .
- فتنة الزوجة : ( إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ) التغابن /14 .
- فتنة الأولاد : ( الولد مجبنة مبخلة محزنة ) رواه أبو يعلى 2/305 وله شواهد ، وهو في صحيح الجامع 7037 .
- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم : ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل : ( قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد ) البروج 4-9 .
وروى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله e وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، فقال عليه السلام : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه ( رواه البخاري ، انظر فتح الباري 12/315 .
- فتنة الدجال : وهي أعظم فتن المحيا : ( يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال .. يا عباد الله ، أيها الناس : فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي .. ) رواه ابن ماجه 2/1359 انظر صحيح الجامع 7752.
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي e : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى يصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، إلا ما أشرب من هواه ) رواه الإمام أحمد 5/386 ، ومسلم 1/128 واللفظ له . " معنى عرض الحصير : أي تؤثر الفتن في القلب كتأثير الحصير في جنب النائم عليه . ومعنى مربداً : بياض شديد قد خالطه سواد ، مجخياً : أي مقلوباً منكوساً . "
ثانياً : الثبات في الجهاد :
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) الأنفال /45 . ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف وكان عليه الصلاة والسلام وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين : ( وثبت الأقدام إن لاقينا ) رواه البخاري في كتاب الغزوات ، باب غزوة الخندق انظر الفتح 7/399 .
ثالثاً : الثبات على المنهج :
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلاً ) الأحزاب /23 مبادئهم أغلى من أرواحهم ، إصرار لا يعرف التنازل .
رابعاً : الثبات عند الممات :
أما أهل الكفر والفجور فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت ، وهذا من علامات سوء الخاتمة كما قيل لرجل عند موته : قل لا إله إلا الله فجعل يحرك رأسه يميناً وشمالاً يرفض قولها .(/6)
وآخر يقول عند موته : " هذه قطعة جيدة ، هذه مشتراها رخيص " ، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج . ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية ، أو ذكر معشوق .
ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا .
وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتن رائحة ، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما أهل الصلاح والسنة فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات ، فينطقون بالشهادتين .
وقد يُرى من هؤلاء تههل وجه أو طيب رائحة ونوع استبشار عند خروج أرواحهم .
وهذا مثال لواحد ممن وفقهم الله للثبات في نازلة الموت ، إنه أبو زرعة الرازي أحد أئمة أهل الحديث وهذا سياق قصته :
قال أبو جعفر محمد بن علي ورّاق أبي زرعة : حضرنا أبا زرعة بما شهران قرية من قرى الري وهو في السَّوْق أي عند احتضاره وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم ، فذكروا حديث التلقين ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه ، فقالوا تعالوا نذكر الحديث ، فقال ابن واره : حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ، وجعل يقول ابن أبي - ولم يجاوزه - فقال أبو حاتم : حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح ، لم يجاوز ، والباقون سكتوا ، فقال أبو زرعة وهو في السَّوْق " وفتح عينيه " حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله e : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) وخرجت روحه رحمه الله . سير أعلام النبلاء 13/76-85 .
ومثل هؤلاء قال الله فيهم : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فصلت /30 .
اللهم اجعلنا منهم ، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/7)
وسائل محاربة الشيطان وأتباعه
عناصر الموضوع :
1. وسائل الوقاية من الشيطان
2. أتباع الشيطان وحربهم للإسلام
وسائل محاربة الشيطان وأتباعه:
لقد حذرنا الله عز وجل من دخول سبل الشيطان، الذي هو عدونا وعدو أبينا آدم، هذا الشيطان الذي طرده الله من رحمته وتوعده بالنار خالداً فيها، فطلب من رب العزة أن يمهله وأخذ العهد على نفسه أن يعمل على إضلال بني آدم، ولما كان الشيطان بهذا الخبث والمكر شرع الله لنا كل طريق للاستعاذة منه ومن شره، والوقاية منه ومن مكره.
وسائل الوقاية من الشيطان:(/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:5-6]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208]. على رأس كل طريق شيطان يدعو إليه، فإياك أيها المسلم! من دخول سُبل الشيطان التي حذرنا الله منها، هو عدوك وعدو أبيك آدم، هذا الشيطان الذي طرده الله من رحمته وتوعده بالنار خالداً فيها، فطلب من رب العزة أن يمهله وأخذ العهد على نفسه أن يعمل على إضلال بني آدم، ولما كان الشيطان بهذا الخبث والمكر شرع الله لنا كل طريق للاستعاذة منه ومن شره، والوقاية منه ومن مكره، وتجنبه ورد كيده في نحره. ومن أعظم طرق الشيطان ما قاله الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ... * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] وكم من المسلمين يقعون اليوم في شرب الخمور التي هي من أعظم وسائل الشيطان لصد المسلم عن طاعة ربه وعبادة الله الواحد الأحد، وكذلك أنواع الميسر التي انتشرت بين الناس في بيوعهم وشراءاتهم، فلا يزالون يقعون فيها ويلعبون مختلف الألعاب التي تقوم على فكرة الميسر: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]. فهناك مجالس لأعوان الشيطان؛ يزين الشيطان للمسلم أن يقعد فيها، فيحذر الله من هذا أشد التحذير، وللشيطان سُبل كثيرة، لكن ما هي الوسائل التي تقي المسلم كيد إبليس؟ وما هي الأعمال التي يقوم بها فيبتعد بها عن شر هذا العدو؟ إن الشريعة قد جاءت بأمور كثيرة فمن ذلك: الأذان: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال -تحول من موضعه- وله ضراط حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا سكت -يعني: المؤذن- رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته -صوت المؤذن- فإذا سكت رجع فوسوس للمصلي) فعليكم -عباد الله- بالأذان وإقام الصلاة، ولا تفعلوا كبعض الضعفاء الذين يستحيون إذا صاروا في بر أو موضع فيه أناس يستحيون من التأذين، وهذا شعار الإسلام ومطردة للشيطان. ومما شرعه الإسلام لنا قول: باسم الله إذا وضع أحدنا ثوبه؛ لأن باسم الله ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم. ومن ذلك: أن المرء المسلم ينبغي أن يخلو بذكر الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان رادفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه -من هذه الأمور المذمومة- إلا كان رديفه شيطان) فانظر إلى أصحاب السيارات والمسافرين كم يحملون معهم من أشرطة الأشعار والأغاني التي هي من سبل الشيطان، يصحبون بها أنفسهم في السفر بدلاً من أن يصحبوا أنفسهم بذكر الله فيصحبهم الله في سفرهم. وكذلك إذا قمت من النوم -يا عبد الله- فاستنثر ثلاث مرات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه) فاعتن بهذا الاستنشاق والاستنثار، ودع عنك ما يفعله الجهال من وضع الماء على طرف الأنف دون سحبه إلى الداخل. وإذا سمعتم نهيق حمار أو نباح كلب بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن يرين مالا ترون، وكذلك استعذ بالله عند قراءة القرآن كما قال الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] وعند الغضب (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد) وعند دخول الخلاء قل: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) هؤلاء ذكران الشياطين وإناثهم، وأنت تستعيذ بالله منهم ومن شرهم قبل دخول الخلاء. وكذلك فإن مما شرعه الله للمسلم أن يتعوذ بالمعوذتين: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يتلوهما بعد كل صلاة ثلاث مرات وقبل النوم ثلاث مرات مع السورة العظيمة التي تعدل ثلث القرآن، إن مجموع هذه السور تحصن المسلم أشد تحصين من الشيطان وشره، من عين أو سحر أو كيد ونحو ذلك. وهؤلاء ينامون كالجيف لا يذكرون الله قبل النوم، ولا يتعوذون بالله فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2].. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ(/2)
النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:1-4]. والعوام تعودوا إذا حصل لهم شيء أن يلعنوا إبليس وأن يسبوا الشيطان بدلاً من أن يذكروا الله عز وجل، وهذا أقل ما فيه أنه يفوت عليه خيراً عظيماً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الشيطان وتعوذوا بالله من شره) وأرشدنا إلى أمر أهم وقال: (لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صرعته ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى صار مثل الذباب). أرشدتنا الشريعة إلى قراءة سورة البقرة في البيت، وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يُقرأ فيه سورة البقرة) فكم من قارئ لسورة البقرة في بيته! وإذا مررت بسورة فيها سجدة فاسجد -يا عبد الله!- فإن سجودك إرغام للشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلاه! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار) هكذا يتحسر إبليس. وأنت يا أيها الزوج مع زوجته تجنب الشقاق والفراق، فإن هذا من أعظم مداخل إبليس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم -من الشياطين الصغار إلى القائد إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيدنيه منه ويقول: نعم. أنت الذي قمت وعملت) أنت الناجح في عملك. وهؤلاء المغتاظون من الرجال يطلقون ألفاظ الطلاق مرات عديدة متوالية، يؤزهم الشيطان أزاً، ولا يفكرون بمستقبل الأولاد، يعميهم الشيطان بالغضب أن يفكروا في مصالح أنفسهم. رصوا الصفوف -يا عباد الله!- فإن رص الصفوف من وسائل محاربة الشيطان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصفوف ولا تذروا فرجات للشيطان، أقيموا صفوفكم وتراصوا فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشياطين بين صفوفكم كأنها غنم عفر -بيضاء ليست بناصعة- بين أظهركم) فإذاً: ما حال الذين يتباعدون بينهم وبين جيرانهم في الصف، ولا يريدون إلزاقاً ولا سداً للفرجة، هؤلاء من الذين تشتد وسوسة الشيطان عليهم في صلاتهم، فإذا صليت يا أيها الإمام! ويا أيها المنفرد! اجعل سترةً أمامك فإنها مهمة في دفع الوساوس في الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يمر الشيطان بينه وبينها -وفي رواية- لا يقطع الشيطان عليه صلاته) فإذا جاءك في الصلاة فوسوس لك وذكرك بموضوعات الدنيا، وأدخلك في أوديتها ومتاهاتها، وأولجك شعبها فإن لك من نبيك نصيحة. قال أحد الصحابة: (يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت فأذهبه الله عني) فإذا كنت تصلي وحدك أو ليس بجانبك أحد وجاء الوسواس في الصلاة؛ فإنك تتفل عن يسارك كما في الحديث مع الاستعاذة، وإن كان بجانبك أحد فلم تحب أن تؤذي أحداً فاستعذ بالله من الشيطان أثناء الصلاة، فإن الله يُذهب عنك كيده ووسوسته، وما سجدتي السهو بهذه المناسبة إلا ترغيماً للشيطان الذي يوسوس للمصلي، فابن على الاستيقان وهو الأقل، إذا شككت ولم تعرف ترجيحاً لعدد الركعات التي صليتها، ثم بعد ذلك تسجد سجدتين للسهو ترغم بها أنف الشيطان. ويا أيها المصلي المتشهد القارئ للتحيات! لا تنس رفع الإصبع أثناء التشهد في الصلاة، فإنه أثقل على الشيطان من الحديد، ارفعه وحركه، واجمع بين الرفع والتحريك دون عبث ولا سرعة شديدة جداً. فإذا تثاءبت في الصلاة فلا يصدر منك ذلك الصوت الكريه، فإن الشيطان يضحك منك، وعليك أن تغطي فاك ولا تذره يدخل، فإنه يدخل مع التثاؤب ويضحك منك، بل اكتم التثاؤب ما استطعت ورده، وأغلق الفم ولا تذرها مضحكة للشيطان تؤذي عباد الله بصوتك ومنظرك الكريه. وإذا دخلت بيتك فاذكر اسم الله تعالى حين تدخل وحين تطعم، فإنك إذا فعلت ذلك قال الشيطان لأعوانه: لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه؛ قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيده يد أعرابي وجارية جاءا يسعيان إلى الطعام لم يذكرا الله عز وجل؛ معهما يد ثالثة وهي يد الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فوالذي نفسي بيده إن يده مع يديهما في يدي) وانظر إلى حال المتفرجي.
أتباع الشيطان وحربهم للإسلام:(/3)
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا الله مالك الملك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أشهد أنه عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين. ومن أعظم أتباع الشيطان: اليهود والنصارى والمشركون، الذين عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، هؤلاء الذين يقتلون إخواننا يومياً، يقتلون المسلمين في أرض فلسطين ، ويقتلونهم اليوم في البوسنة ، ويقتلونهم اليوم في الهند ، هؤلاء الكفرة المشركون عباد الشيطان الوثنيون. إن هذه الحادثة التي حدثت مؤخراً من إقدام الهندوس الكفرة الوثنيين عبدة الشيطان والأصنام، الذين يعتقدون البقرة إلهاً، ويستعد أحدهم ليحرف قطاراً عن مساره من أجل بقرة، عقولهم الوثنية التي تجعلهم يستحمون في نهرهم المقدس ويحرقون المرأة بعد موت زوجها، لأنه لا قيمة لها عند ذلك. هذه التقاليد العفنة التي أورثها الشيطان لأولئكم القوم، والذين قاموا اليوم بتحريكٍ من أوليائهم من اليهود والنصارى بهدم مسجد تاريخي للمسلمين مسجد البابلي في الهند ، هؤلاء الذين فعلوا فعلتهم ثم أتبعوها بفعلة أشنع وأقسى، ولكن كثيراً من الناس عنها غافلون، ألا وهي الإقدام على قتل المسلمين الذين احتجوا في الهند على هدم المسجد بالرصاص، حتى بلغت الإحصائيات المعلنة نحواً من تسعمائة شخص حتى الليلة الماضية. وزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن بغير حق، وقتل المؤمن أعظم من هدم المسجد، ولكنهم أتبعوا هدم المسجد بقتل نحو من تسعمائة مسلم، هذا ما أعلن وما خفي كان أعظم، قتل المؤمن أشد من هدم المسجد، ولكنهم قتلوا مؤمنين ومسلمين كثر، وأنت يمكن أن تعرف حجم المأساة في صبيحة ذلك اليوم الذي وصلت فيه الأخبار أنك لو دخلت إلى البقالات والدكاكين التي يوجد بها عمال مسلمون من الهند ، لوجدت حجم الكارثة على وجوههم، ونحن غافلون، ونحن نوظف الكفرة من الهندوس في الوظائف المختلفة عندنا. يا أصحاب الأعمال! توبوا إلى الله، أما كفاكم أن يقوموا بتقتيل إخوانكم وهدم مساجدكم ونحن أمة واحدة لا فرق بين شرقيها وغربيها، ثم توظفونهم وتعطونهم الرواتب لكي يدفعوا منها إلى منظماتهم المنحرفة هناك، لتقوم بتمويل أعمال الاضطهاد ضد المسلمين، وتقوونهم اقتصادياً بهذه الرواتب والتحويلات الهائلة، حرام عليكم أن تفعلوا ذلك، كيف وقد نهاكم نبيكم أن تبقوهم في جزيرة العرب ، فاتق الله يا من تستخدم هندوسياً أو كافراً وقد أعلنوا الحرب على إخوانك، ثم أنت توظفهم.. فلعنة الله على الظالمين. ثم إن هؤلاء الهندوس قد فرحوا حتى وهم بين أظهرنا، ووزعوا الحلويات وهم بين أظهرنا بعد هدم المسجد، أقصد الذين يعيشون بيننا منهم ويشتغلون عندنا وزعوا الحلويات فرحاً بهدم المسجد. يا من وضعت المسلمين والكفار في سكن واحد! كيف شعور إخوانك وهؤلاء يكيدون لهم ويغيظونهم الآن بعد هدم المسجد؟ أين رجل الأعمال المسلم، والتاجر المسلم، والمقاول المسلم، وصاحب البيت المسلم وهو يوظف هؤلاء الكفرة؟ نعم. هم تآمروا على أن يجعلوا الوظائف، وعمال الاستقدام، ومكاتب الاستقدام تدفع بهم إلينا، لكن نحن لنا عقول ولنا وسائل، والمفروض أن نتجه لنصرة دين الله. لقد نوى أمير المؤمنين عمر أن يفتح الهند ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند وعصابة يقاتلون مع المسيح ابن مريم) إذاً: هذا الجيش الذي فتح الهند ووصل إليها أحرزه الله من الشيطان، وأحرزه الله من النار بشارة بفتح الهند . وقد تولى البداية في ذلك محمد بن القاسم رحمه الله تعالى لما استولى الوثنيون على سفينة فيها نساء للمسلمين، فاستنجدن بالمسلمين فجرد الجيش، وفتحت الأطراف، وخاض المسلمون البحر إليهم ودخلوا الدبيل وهي مدينة كراتشي اليوم، ثم اكتملت الفتوحات الإسلامية، وأشهر من توغل في بلاد الهند من المسلمين محمود بن سبكتكين الغزنوي رحمه الله، الذي انطلق من قاعدته غزنة في أفغانستان ليدخل بلاد الهند فاتحاً منصوراً، مكسراً أصنامهم، هادماً لمعابدهم، رافعاً راية التوحيد، عاملاً بين كل ثلاثة أميال مسجداً ورتب له إماماً ومؤذناً، وارتفعت راية التوحيد في بلاد الهند ، فقتل الله من ملوكهم خلقاً عظيماً، قاتلوا المسلمين بالفيلة ولكن الله نصر عسكر التوحيد، هذا السلطان الذي آثر ما عند الله على أن يُعطَى من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة مقابل أن يترك صنمهم الأعظم، لكنه آثر أن ينادى: يا عبد الله هادم الصنم عند الله يوم القيامة، أحسن من أن يقال: يا عبد الله يا آخذ اللآلئ والذهب والجواهر والفضة مقابل أن تتركها لهم. هؤلاء اليوم يريدون القضاء على تاريخ المسلمين في الهند ، حتى لو كان هناك مساجد لا يصلى فيها فهم يريدون هدمها، ولعلهم قد وقتوا ذلك مع هجوم شنيع على عاصمة(/4)
البوسنة سراييفو ، لتكون المصائب مجتمعة على المسلمين في آن واحد، وهذا تخطيط ماكر ولا شك، يريدون إيقاع المصائب متعددة في وقت واحد للمسلمين، فيوقتون هذه الأشياء لِنُصاب نحن بالإحباط، ونحن مع اعتقادنا ويقيننا أننا أكثر أمة مستهدفة في العالم. نحن الذين نعرف كما اعترف اللورد البريطاني في الهند حينما كانت مستعمرة، قال: إننا نرى أن عدونا الأكبر هم المسلمون، إن هؤلاء القوم في قلوبهم عداوة لنا شديدة فلا بد أن نتجه إلى الهندوس، ولذلك في أيام الاستعمار ولوهم المناصب وأعطوهم أشياء كثيرة جداً، حتى آل الحال إلى ما آل إليه الآن، رغم أن الهند كانت تحكم قروناً بالإسلام. إن جمع المصائب على المسلمين، وإغراق المسلمين بالأخبار السيئة والهجمات الشرسة التي يراد منها إحباط روح المعنوية، إنها -أيها المسلمون- خطة ماكرة، ولكننا على ثقة بأن الله سينصر دينه، المهم أن ننصر الله حتى ينصرنا الله، فإذا لم ننصر الله ولا شريعة الله ولا دين الله فكيف ينصرنا الله. ولذلك: فإننا نتوجه إلى الله العلي العظيم مالك الملك الجبار، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر الإسلام والمسلمين، وتقمع الكفر والكافرين، اللهم أفشل مخططات الكفار، واجعل كيدهم في نحرهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الكافرين، واشدد وطأتك عليهم يا قوي إنك على كل شيء قدير. اللهم اجعل بأسهم بينهم، واردد سهامهم في نحورهم، ورد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اهد فاسقنا إلى الدين، وثبت المهتدي منا على السنة والحق المبين، اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم أصلح ذرياتنا ونياتنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/5)
وصايا في وداع رمضان
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
وقفنا قبل بضع جمع في أول يوم من شهر رمضان، يوم الجمعة الأغر استقبلنا هذا الشهر العظيم وها نحن اليوم مرة أخرى في يوم الجمعة الأغر نودع شهر الخير والإحسان شهر الذكر والقرآن شهر العبادة والإيمان، الشهر الذي جعل الله فيه الرحمة والمغفرة والعتق من النيران .
إنها وقفات ينبغي أن تثير مشاعر المؤمنين وأن تحرك كوامن قلوبهم ، وأن تستجيش عواطفهم الإيمانية ومشاعرهم الإسلامية ، وأن يتذكروا ما سلف من أيام هذا الشهر ولياليه وأن يتذكروا ما سيستقبلون بإذن الله عز وجل من أيام وليالي قادمات، وصايا في وداع شهر رمضان .
إن هذه الوصايا - أيها الإخوة - تتكرر داماًَ ولا يكاد أن ينقضي شهر رمضان أو تأتي أيامه الأواخر إلا ويعاد مثل هذا الحديث، ونحن نرى اليوم شهر رمضان وهو يودعنا وفي الوقت نفسه يوصينا ويذكرنا .
فينبغي أن نرعي لهذه الوصايا سمعنا وان نصغي إليها بقلوبنا وأن نعزم على أن نمتثلها في سلوكنا وأن نحرص على أن نتواصى بها في مجالسنا ومساجدنا ، وأن نسعى أن نكون بعون من الله - عز وجل - وفضل ممن كتب له القبول ورضوان الله سبحانه وتعالى .
الوصية الأولى : فلا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين
إن من أعظم الجرم وإن من أكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسراً وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم ، وأن يرتد بعد الإقبال مدبراً وبعد المسارعة إلى الخيرات مهاجراً وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضاً ؛ فإن هذه الأمور لتدل على أن القلوب لم تحيا حياة كاملة بالإيمان ولم تستنر نورها التام بالقرآن وأن النفوس لم تذق حلاوة الطاعة ولا المناجاة وأن الإيمان ما يزال في النفوس ضعيفاً وأن التعلق بالله عز وجل لا يزال واهناً لأننا أيها الإخوة على مدى شهر كامل دورة تدريبية على الطاعة والمسارعة إلى الخيرات والحرص على الطاعات ودوام الذكر والتلاوة ومواصلة الدعاء والتضرع والابتهال والمسابقة في الإنفاق والبذل والإحسان ثم ينكس المرء بعد ذلك على عقبه .
إن ذلك أيها الإخوة أمر يدل على استحواذ الشيطان على الإنسان المؤمن وأن خنوس الشيطان في رمضان فترة مؤقتة لم يتمكن الإيمان في القلوب والذكر في النفوس والصلة بالله - عز وجل - في كل آن، حتى تعصم المرء من وساوس الشيطان { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } ، إن المسألة أيها الإخوة تحتاج إلى أن نتدبر في معناها ومغزاها إن المخالفة لله عز وجل والمعصية لأوامره والانتهاك لحرماته والتجاوز والتعدي على حدوده أمر عظيم تنخلع له قلوب المؤمنين الصادقين .. إنه كما قال سلفنا : " لا تنظر إلى صغر الذنوب ولكن انظر إلى عظمة من عصيت " ، وكان أحدهم يقول : " إن الكافر يرى الذنب كذبابة جاءت على أنفه فقال بها هكذا - أي لا قيمة لها ولا يكترث بها ولا يصيبه الغم مما وقع فيه من المعاصي - أما المؤمن فإنه يرى الذنب كالجبل يوشك أن يقع عليه " ، فلا يزال في هم منه وفي استغفار دائم لله - عز وجل - منه وفي سعي دائب ودائم على أن يكفر ذلك الذنب وأن يجدد التوبة وأن يصحح النية لله عز وجل وأن يستزيد من الخيرات والطاعات .
أيها الإخوة ينبغي لنا أن نبرأ من حال من وصف الله - سبحانه وتعالى - في كتابه بقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } . إنه ينبغي لنا أن ندرك أن الحرمان من الطاعة بعد التوفيق إليها وأن الوقوع في المعصية بعد الاعتصام منها نوع من عدم رضوان الله - عز وجل - على العبد ونوع من حرمانه من قبول العمل ؛ لأن الله - عز وجل - قد وعد ووعده الحق أن الطاعة تولد الطاعة ، وأن الذي يجاهد في سبيل الله وطاعته أنه عز وجل يسهل له الطريق ويمهد له السبيل { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } هكذا وعد الله عز وجل ؛ فإن كنا صادقين في جهادنا لأنفسنا واجتهادنا في طاعة ربنا ؛ فإن الله - عز وجل - يسَّر لنا امرنا وجاعل لنا عاقبة أمرنا خيراً لنا من عاجلتنا وجاعل خير أعمالنا خواتيمها وجاعل كل يوم من الأيام زيادة في الخير والطاعة والقرب له سبحانه وتعالى .
ولذلك ينبغي لنا أن نتذكر - أيها الإخوة - أن الارتداد على الأعقاب وأن المخالفة بعد الطاعات ، وأن الوقوع في المعاصي بعد المداومة على الخيرات هو من أعظم البلاء ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمة الله عليه : " إن أعظم ما يبتلى به العبد وقوعه في الذنب ، وأعظم من ذلك أن لا يشعر بأثر الذنب فذلك موت القلوب " .(/1)
وهو أعظم بلية يبتلى بها الإنسان في هذه الدنيا ـ نسأل الله السلامة ولنعلم أيها الإخوة أن الأيام تنقضي ، وأن الأعمار تفنى ، وأن الأجل يقدم ، وأن الإنسان إذا وفق للطاعات اليوم فقد يحرم منها غداً إما بمرض أو بعجز ، وإما بقهر وإما بسبب من الأسباب . { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } .
ولنعلم - أيها الإخوة - أن هذا الأمر الذي يقع فيه كثير من الناس عاقبته إنها تعود على الإنسان نفسه، فالله عز وجل غني عن طاعة الطائعين مستغن عن عبادة العباد قال جل وعلا في الحديث القدسي الصحيح المعروف : ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ) ، هو سبحانه الغني ونحن الفقراء إليه فإن أطعناه في ذلك طمأنينة في قلوبنا وانشراح لصدورنا وسعادة لنفوسنا وبركة في أموالنا وأوقاتنا وذرياتنا وحسن عاقبة في آخرتنا بإذن الله عز وجل .
وإن عصيناه - لا قدر الله - فإن ذلك ظلمة في القلب وضيق في الصدر وهم وغم وتوالٍ للبلاء وتوالٍ وتكرر لما يقضيه الله عز وجل من فتنة ومحنة ؛ لأن الله - عز وجل – قال : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا } فكيف لو أراد الله - عز وجل - قضى أن يعاقب كل أحد على معصيته لكان كما قال الله جل وعلا : { ما ترك على ظهرها من دابة } ، وقال الله جل وعلا : { فمن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } إنما هو المتضرر هو أنت - أيها العبد المؤمن - كيف ترضى بعد الغنيمة في مواسم الخير أن تعود خاوي الوفاق وان تتحمل الديون من جديد، إن هذا التاجر الذي يصنع هذا الصنيع لا شك انه أحمق وأنه يجني على نفسه جناية عظمى وأنه يكون عند الناس غير مرضي عنه ولا مقبول عمله .
ثم انظروا - أيها الإخوة - ما ساق الله لنا في هذا الشهر الكريم . انظروا ما كنا عليه بحمد الله عز وجل مما ينطبق بإذنه سبحانه وتعالى وصف وشهادة الحق في قوله : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } ، هذه الشهادة كنا ننالها بحمد الله ونحن نأتي إلى المساجد زرافات ووحداناً ونحن نتسابق إليها مع آذان المؤذن وقبل دخول الوقت ونحن نمكث فيها نظل فيها أوقاتاً طويلة ويعتكف المعكفون ويتهجد المتهجدون ويتطوع المتطوعون .
فكيف بنا بعد ذلك نتخلى عن هذا الخير وقد يصدق في بعضنا قول الله جل وعلا { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً } ما بالنا أيها الأخوة وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام بالمثوبة والأجر في هذا العمل العظيم والركن الركين ، والأساس المتين في هذا الدين ، ثم بعد ذلك نفرط هذا التفريط وكنا في هذا الشهر بحمد الله - عز وجل - ممن يخاطبون، يقول الله جل وعلا : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فهل ننتكس بعد ذلك ونرتكس ويكون حالنا كمن قال الله - جل وعلا - في شأنهم عن المنافقين : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } .
لا ينبغي لنا أن ننزل عن مرتبة المنفقين المسارعين في البذل والإنفاق حتى نصل بعد ذلك وفي نهاية الشهر إلى الوصف الذميم الذي ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسند احمد ( أن المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة ) ، وقد ذم النبي - عليه الصلاة والسلام - البخل والشح فينبغي لنا أن نبرأ من هذا الداء العضال وقد تبرأنا منه طيلة الشهر فلا ينبغي لنا أن نعود كما قال جل وعلا : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } ، وكيف بنا - أيها الإخوة - وقد كان لنا عظيم الصلة بكتاب الله - جل وعلا - وكنا مقبلين على تلاوته نرطب به ألسنتنا ، ونمتع به أسماعنا ، ونحيي به قلوبنا ، ونتذكر به أوامر ربنا ، ويحق فينا بإذنه قوله جل وعلا : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور } ، وكنا بحمد الله - عز وجل - ممن يصدق فيهم وصفه سبحانه وتعالى : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } ، فكيف بنا بعد ذلك نرتد للقرآن هاجرين وعن آياته منقطعين وعن أوامره غافلين وقد يصدق في بعض منا قوله جل وعلا : { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشره بعذاب أليم } .(/2)
وقبل هذه الآية ما يدل على كيفية استبدال الناس بالقرآن بغيره من الغناء ومن اللهو والعبث ومزامير الشيطان ، فقال جل وعلا : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } هكذا - أيها الأخوة - مفارقة عجيبة ليس بينها في الزمن إلا يوم واحد أو ليلة واحد يكون فيها الناس على الخير مقبلين وبعد ذلك مباشرة يكونون عنه نافرين .. يكونون في طاعة الله - عز وجل - ورحمته ورضوانه ثم ينسلخون ويفرون إلى معصيته وسخطه وعقابه واستحقاق نيرانه، إنها وصية يذكرنا بها رمضان في آخر يوم من أيامه { ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } .
الوصية الثانية : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً
وما ينقضي رمضان و لا تأتي أواخر أيامه إلا وقد انعقدت القلوب على معاهدات كثيرة مع الله عز وجل ، من معاهدة على ترك المنكرات ، ومن معاهدة عل فعل الخيرات والطاعات ومن معاهدة ومعاهدة ، فكيف بنا لا نفي بوعدنا وعهدنا مع الله عز وجل { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً } ، ومثوبة عظيمة من الله عز وجل : { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً } ، { بل من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } .
فينبغي لنا أن نستجيب لأمر الله { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } ، والله - عز وجل - يبين لنا شأن المؤمنين الصادقين في قوله جل وعلا : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر } إنها المرابطة على طاعة الله عز وجل إنه الإتيان بموجب العهد والعقد الذي وجد في قلبك ونطق به لسانك وتاقت إليه نفسك أن تكون مع الله - عز وجل - ليكون الله - سبحانه وتعالى - معك بإذنه - جل وعلا - ولا يكن أحدنا كما وصف الله اليهود عليهم لعائن الله : { أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } .
إن العهود - أيها الأخوة - في مجال الخير لا بد أن يحرص المرء على الوفاء بها ولا بد أن يحرص على ان لا ينسلخ منها وان لا يخالف موجبها .
الوصية الثالثة : خير الأعمال أدومها وإن قلّ
لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - يبين لنا أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ ، و قليل دائم - أيها الإخوة - خير من كثير متقطع، نحن نعلم أن النفوس في هذا الشهر باجتماع المصلين والذاكرين ، وبفضيلة الزمان وبغير ذلك من الأسباب تنشط بالطاعات بصور أعظم وأكبر، لكنها ينبغي أن تبقى الحد الأدنى الأقل الذي تستطيعه وتواظب عليه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى يحب من العبد إذا أحدث عبادة وطاعة أن لا ينقطع منها وكان سلفنا الصالح إذا سرعوا في طاعة واظبوا عليها وكان احدهم في كل يوم يزيد عن اليوم الذي قبله في الخير والطاعة .
الوصية الرابعة : وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون
أيها الإخوة كنا نشعر في شهر رمضان بتلاحم الأمة كنا نذكر أخواننا في البوسنة وفي فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان نذكرهم بدعائنا وبكائنا نذكرهم في سجودنا وصلاتنا، ثم نذكرهم بإنفاق أموالنا ثم نذكرهم بما ندعوا به على أعدائنا كل ذلك ونحن نستشعر أننا نعيش معهم ترابطاً وطيداً وعلاقة حميمة ووحدة يحققها قول الله جل وعلا :{ إنما المؤمنون إخوة } ، ونستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) نحن نتحقق بهذه المعاني كلها في شهر رمضان المبارك، ونشعر أن لنا أخوة يصومون وهم خائفون ونحن بحمد الله عز وجل في أمن وأمان يصومون وهم يحارِبون ويحارَبون ونحن في سلم وسلام يصومون وهم يضطهدون ويعذبون ونحن في كرامة وسلامة ونعمة وعافية .
ينبغي لنا أن لا ننسى إخواننا لم لا ندع لهم كما كنا ندعو لهم في وترنا؟ لم لا ننفق في دعمهم ولأجل مواساتهم وكفالة أيتامهم فيما بقي من أيام عمرنا وأيام حياتنا وأيام عامنا ؟ لم لا نبقى دائماً على تذكر لما يجنيه عليهم أعداؤنا المجرمون الذين ينبغي لنا أن نبغضهم بقولنا وأن نلعنهم بألسنتنا ، وأن ندعو الله عليهم بالليل والنهار ،وأن نأخذ أسباب القوة والعدة التي تهيئ لنا أسباب النصر عليهم بإذن الله عز وجل .
الوصية الخامسة : إن الحسنات يذهبن السيئات
يقول الحق جل وعلا : { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } وقد أقمنا بحمد الله الصلوات آناء الليل وأطراف النهار وملأنا الأوقات بالأذكار والاستغفار وشغلنا اللسان بالدعاء والابتهال، وأحيينا القلوب بمعاني الإيمان ومشاعر الإسلام كل ذلك كان أيها الإخوة ونحن نحسن الظن بالله - جل وعلا - كما قال في الحديث القدسي : ( أنا عند حسن ظن عبدي بي ) نحن نأمل ونرجو أن تكون هذه الحسنات قد كفرت ما سلف ومضى من السيئات، فلنبدأ صفحة جديدة مع الله سبحانه وتعالى .(/3)
ولنبدأ أياماً جديدة نجدد فيها العهد ونواظب فيها على العمل لا نرتد فيها على أعقابنا نشعر بوحدتنا مع إخواننا ونشعر دائماً أننا في حاجة إلى الاستغفار وتكفير السيئات وتكثير الحسنات، فذلك باب عظيم من الأبواب العظيمة في حياة المؤمن والله عز وجل قد جعل لنا في أيام شهرنا نفحات نتعرض لنفحات الله لنتطهر من الذنوب والآثام والخطايا : ( رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر ) ، إذاً قد نثق إن شاء الله بتكفير الذنوب والخطايا ولكنا نحتاج بذلك أن نستقبل أيامنا إستقبال الطاعة والإنابة والمسارعة إلى الخيرات فالله اسأل أن يختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من نيرانك ، وأن يرزقنا الإستقامة بعده والهداية على طريقه والثبات على الحق وان يجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاه وهو راض عنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن شهر رمضان غايته التقوى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، فالله الله في تقواه ، والله الله في مراقبته ، والله الله في طاعته ، والله الله في اجتناب معاصيه .
أيها الإخوة الأحبة : قد أسلفت أن هذه الوصايا مكررة وأنها دائماًَ تذكر في آخر شهر رمضان ولكننا لا بد أن نذكُر ونذكِّر { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } والمؤمن إذا سمع آيات الله إذا سمع أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عرف سيرة السلف الصالح تجدد عزمه وقويته همته على أن يكون على آثارهم مقتدياً وعلى طريقهم سائراً ، إن الأمر أيها الإخوة جد وإن حال الأمة في تخلف وترد بسبب عدم التزام أوامر الله - عز وجل - وعدم استمساكها بحبله وعدم إقامتها وثباتها على دينه وتفرقها واختلافها ونكوسها وارتدادها على أدبارها، إن الأمر أيها الإخوة يظهر لنا في شهر رمضان بعض هذه الصور، وقد ذكر منها مراراً في الجمع الماضية وأذكر بها حتى يعيها إخواننا جميعاً، نحن نرى التخلف والتأخر والضعف مع طول المدى والزمن فنحن نرى كما قلت في الجمع الماضية أن الجمع الأخيرة من رمضان يتخلف عنها المتخلفون وينام النائمون ويتأخر المتأخرون، وذلك يدل على أن ارتباطنا بالطاعة إلى أن يعيدوا إلى مدى متواصل ليس كما ينبغي أن يكون، ولذلك أيها الإخوة ينبغي لنا أن نتذكر هذه الوصايا في آخر شهر رمضان .
الوصية السادسة : أن نجدد رمضان في أيامنا
لم ننقطع عن الصوم وقد فتح الله لنا أبواباً من الخير عظيمة، وقد جعل أبواب التطوع كثيرة نلقى بها الأجر ونستفيد التربية والتهذيب الإيماني والخلقي من الصوم، ويباعد الله عز وجل بيننا وبين النار وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام وطبق في حياته كثيراً من السنن المتعلقة بصيام التطوع من صيام يومي الاثنين والخميس، كما في حديث عائشة في مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس، وفي سنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) .
ومن باب التذكير أيضاً وذلك تجديد وإبقاء لمعاني رمضان وعبادة رمضان في سائر العام لما ورد في الحديث الصحيح من حديث أبي أيوب الأنصاري عند الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر كله ) فهل نحن في غنى عن فضل ربنا ؟ وهل نحن قد ضمنا وأمنا من مكر ربنا ؟ وهل نحن قد استغنينا عن الحسنات وعن المسارعة إلى الخيرات .
ينبغي لنا أيها الإخوة أن نحرص ولو في الشهر ثلاثة أيام ولو في الشهر يوماً واحداً أن نصوم لنتذكر رمضان ونتذكر معاني رمضان ونلقى الأجر من الكريم المنان سبحانه وتعالى، ما بالنا ننقطع عن رمضان كأنه سحابه صيف مرت وليس لها أثر ، وكأنه فترة من الزمن ليس لما قبلها ولما بعدها ارتباط بها ! إن المؤمن ينبغي له أن يتذكر وأن يرتبط بالعبادة بكل صورة وسبب .
ومما يذكر به أيضاً في آخر الشهر صدقات الفطر وزكاة الفطر التي هي جبر للصيام وإتمام له والذي لا يؤديها يبقى صيامه معلقاً بين السماء والأرض وقد فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر صاعاً من بر أو طعام فهذه الصدقة أو الزكاة تخرج عن كل مسلم صغيراً وكبيراً ذكراً وأنثى حراً وعبداً فإن هذه الزكاة تشمل كل أحد وهي صاع من غالب قوت أهل البلد وعند الجمهور لا يجزئ إخراج قيمة عنها، وكذلك وقت خروجها من ليلة العيد إلى صلاة العيد ويجوز تقديمها بيوم أو يومين وإذا أداها بعد صلاة العبد ؛ فإنها صدقة وليست زكاة فطر، وينبغي للمرء أيضاً أن يحرص على زكاة الفطر وأن يسعى إلى إخراجها وأن يكون متحرياً فيها غير متساهل وغير عابئ ومكترث فإنها من كمال وتمام صيامه .(/4)
والله أسأل - أيها الإخوة الكرام - أن يوفقنا لما يحب ويرضى وان يجعل قلوبنا واثقة به مرتبطة به راجية فيما عنده خائفة من عذابه ونسأله سبحانه وتعالى أن يقيمنا على الطاعة ، وأن يرزقنا الاستقامة ، ونسأله - سبحانه وتعالى - الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد والهمة في أبواب الخير كلها .(/5)
وصايا للمسلمين في المحن
الفتن, المسلمون في العالم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
10/8/1422
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- محاسن الإسلام. 2- المستقبل لهذا الدين. 3- حاجة المسلمين إلى مراجعة أنفسهم. 4- حاجة الأمة إلى مراجعة نصوص الكتاب والسنة. 5- وجوب التضافر والتناصر والتعاون بين المسلمين. 6- مقتضيات رابطة العقيدة. 7- عظم حرمة المسلم. 8- معاناة المسلمين في هذا الزمن. 9- جرائم اليهود في فلسطين. 10- شروط النصر.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن نعم الله على عباده كثيرة، ومننه عليهم كبيرة غزيرة، وإن من نعمه الكبار، ومننه الغزار أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا لمعالم هذا الدين الذي ليس به التباس، دينٌ كامل، وشرعٌ شامل، وقولٌ فصل، وقضاءٌ عدل، من تمسك به حصل على المناقب الفاخرة، وحصلت له السعادة في الدنيا والآخرة، ومن حاد عنه وتنكّب الطريق، حصل له الشقاء والاضطراب والضيق، دينُ القيمة، آدابه سامية، وتعاليمه عالية غالية، نعيمٌ مغدق فياض، وفضائلُ ومكارمُ ورياض، حكمه بالغة، وحججه دامغة، دعا إلى كل خير ورشاد، ونهى عن كل شر وفساد، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ليس على وجه الأرض دينٌ حق يُتعبَّد الله به سوى دين الإسلام، الذي هو خاتمٌ وناسخٌ لما قبله من الملل والشرائع والأديان، وكل من لم يدخل دين الإسلام بهو كافر عدوٌّ لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو من أهل النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) [أخرجه مسلم][1].
أيها المسلمون، مهما حاول أعداء الإسلام ومهما سعوا في إنزال أنواع الفشل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، يقول جل في علاه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذل ذليل، عزّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) [أخرجه أحمد][2]، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) [أخرجه مسلم] [3]، ويقول ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) [أخرجه مسلم] [4].
أمة الإسلام، ما أحوج المسلمين اليوم في زمنٍ عظمت فيه المصيبة، وحلَّت به الرزايا العصيبة، وتخطَّفت عالَم الإسلام أيدي حاسديه، ونهشته أيدي أعاديه، فالكرامة مسلوبة، والحقوق منهوبة، والأراضي مغصوبة، ما أحوج المسلمين في زمن الحوادث والكوارث إلى أن يراجعوا دينهم، وينظروا في مواقع الخلل، ومواطن الزلل، ويصلحوا ما فسد، ويكونوا وَحدةً كالسجد، ليغسلوا عنهم أوزار الذل والهوان، ويزيلوا غُصص القهر والخذلان، ويتخلّصوا من التبعية المقيتة، والمجاراة المميتة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) [أخرجه أبو داود] [5].(/1)
أيها المسلمون، وما أحوج الأمة في زمنٍ مُيِّعت فيه الحقائق الشرعية، وضُيِّعت فيه الثوابت المرعية، في مسارات فكرية مسمومة، ومصطلحات شيطانية مذمومة، واجتهادات عقيمة، وآراء سقيمة، لا تتفق مع الدين الحنيف، ولا مع العقل الحصيف، ما أحوجها في هذا الوقت إلى أن تراجع نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، في قضاياها المعاصرة، ومشكلاتها المحاصرة، لتفهم جذور المشكلات، وأسباب الويلات والنكبات، وتقرأ المتغيرات، وتوجد التحليلات والتعليلات، وتتوقع المستجدات، وترجع إلى أهل العلم الثقات، وتنهض بالمسؤوليات والواجبات، بصدق لا يشوبه كذب، وإخلاص لا يخالطه رياء، وتجرّد لا يتخلله هوى، وتوحيد لله لا يكدّره شرك ولا شكّ، وثقة به جل في علاه لا تهزها أراجيف المرجفين، ولا تخذيل المخذّلين، حتى لا تواقع الأمة الأمر المحظور، أو تقترف الخطأ المحذور، يقول جل وعلا: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
أيها المسلمون، إن الواجب على أهل الإسلام كلما اشتدت بهم البلايا والرزايا أن يقوى تضافرهم، ويشتدَّ تناصرهم، لنصرة دينهم وحماية بلادهم، وأن يكونوا صفاً واحداً متعاضدين متساعدين متساندين، متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، نابذين العداء والبغضاء، حتى يفوّتوا على العدو فرصته وبُغيته في زرع بذور التمزُّق وجذور التفرق، وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) [6].
أيها المسلمون، إن رابطة العقيدة والدين رابطة عظمى، وآسرة كبرى، لها مقتضياتها وواجباتها، وتكاليفها وحقوقها الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله ، رابطةٌ تنكسر تحتها شوكة أهل الكفر والعدوان، وتنزاح أمامها قوى الظلم والطغيان، يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز وكلامه البليغ الوجيز: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، ويقول جل في علاه: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، ويقول : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم)) [أخرجه أبو داود] [7]، ويقول : ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه)) [أخرجه أبو داود] [8].
أيها المسلمون، إن المجتمعات الإسلامية على اختلاف أجناسها وألوانها وبلدانها بنيانٌ واحد وجسدٌ واحد، يسعدُ بسعادة بعضه، ويتألّم لألمه ومرضه، يجمعهم دين واحد هو دين الإسلام، وكتاب واحد هو القرآن، ونبي واحد هو سيدنا سيد الأنام نبينا محمد ، يقول ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخفروا الله في ذمته)) [أخرجه البخاري] [9]، ويقول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) [10]، ويقول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [أخرجه مسلم] [11]، وفي لفظ له: ((المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كلّه، وإن اشتكى رأسه اشتكى كلّه)) [12].
أيها المسلمون، إن المسلم له حرمةٌ عظيمة، ومكانةٌ كريمة، وفي النوازل المدلهمّة والمحن الملمَّة يتوجب التذكير بها، والتحذير من انتهاكها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) [أخرجه الترمذي] [13]، ويقول النبي : ((لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً)) [أخرجه أبو داود] [14]، وقال : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [متفق عليه] [15]، وقال : ((أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلما، فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر)) [أخرجه أبو داود] [16].(/2)
أيها المسلمون، أصيخوا سمعكم، وأصغوا قلوبكم لقول الصادق المصدوق : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [أخرجه الترمذي] [17].
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الرسول فيما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه وزجر، يتحقق لكم العيش الرغيد، والمردّ السعيد.
أيها المسلمون، يلاقي المسلمون في هذه الأعصار في عدد من الأمصار أعتى المآسي وأدمى المجازر، فظائع دامية، وجرائم عاتية، ونوازل عاثرة، وجراحاً غائرة، غصصا تثير كوامن الأشجان، وتبعث على الأسى والأحزان:
في كل أفق على الإسلام دائرةٌ ينهدُّ من هولها رضوى وسهلانُ
ذبحٌ وسلبٌ وتقتيلٌ بإخوتنا كما أُعدِّت لتشفِّي الحقد نيرانُ
يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يُغثهم بيوم الروع أعوانُ
فاليوم لا شاعرٌ يبكي ولا صحف تحكي ولا مرسلات لها شانُ
هل هذه غيرة أم هذه ضعةُ للكفر ذكر وللإسلام نسيانُ
هولٌ عاتٍ، وحقائق مرة، تسمو على التصوير والتبيين، في كل ناحية صوت منتحب، وفي كل شبر باغ ومأفون ومغتصب.
أيها المسلمون، هذه الصهيونية العالمية، الأمة الخوانة، التي ليس لها عهد ولا أمانة، تمارس في فلسطين أبشعَ صور الظلم والقهر والتخويف والإرهاب، تفرض ألوان الحصار، وتقتل الرجال والنساء والصغار، وتهدف إلى إبادة المسلمين، وتصفيتهم جسدياً، وإرعابهم نفسياً، بمذابح جماعية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.
إن إسرائيل تمارس أمام نظر العالم وسمعه الإرهاب بمختلف أشكاله وألوانه، وبجميع أنواعه وأدواته، تمارسه عقيدة وسياسة، ضاربةً بالمعاهدات والمحادثات والاتفاقات الدولية عرض الحائط، فأين من يوقف وحشية هذا الإرهاب وبشاعته، ويطارد رجاله وقادته، ويستأصل شأفتهم، ويقتلع كافَّتهم؟! أين ميزان العدل والإنصاف يا من تدعونه؟! أين شعارات التقدم والتحرر والحضارة والسلام، التي لا نراها إلا حين تصبّ في مصلحة يهود ومن وراء يهود؟!! ولكن صدق القائل:
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
أيها المسلمون، كيف يهنأ المسلم بعيش، أو يرقأ له دمع، أو يدرك فرحا بأمنية في دار كلها قذى وأذى، المسلمون فيها ما بين قتيل مرمّل، وجريح مجدّل، وأسير مكبّل.
أيها المسلمون، إن تنتصر هذه الأمة على نفسها وأهوائها، وتطبق شريعة الله في جميع مناحي حياتها، ويستقم أفرادها على دين خالقها تنتصر على عدوها، وتعلُ كلمتها، وتُحرَصْ نعمتها، ويدُمْ عزّها، وتشتدّ قدرتها، وتزددْ قوتها، وتنفض الوهن عن عاتقها، ذلك الوهن الذي أخبر عنه رسول الله بقوله: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها))، قالوا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبّ الحياة، وكراهية الموت)) [أخرجه أحمد وغيره] [18].
أيها المسلمون، إن لم تقمْ الأمة بذلك فهي على خطر أن ينالها وعيد الله في قوله جل في علاه: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم [محمد:38]، وقوله تبارك وتعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [218].
[2] أخرجه أحمد (28/154-155) [16957] ، والبيهقي (9/181) ، وصححه الحاكم (4/430) ، ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي في المجمع (6/14) : "رجاله رجال الصحيح". وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[3] أخرجه مسلم في الفتن [2889].
[4] أخرجه البخاري في المناقب [3369] ، ومسلم في الإمارة [3548] من حديث معاوية رضي الله عنه ، واللفظ لمسلم.
[5] أخرجه أحمد [4825 ، 5007 ، 5562] ، وأبو داود في البيوع [3462] ، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19) ، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104) ، وصححه الألباني لمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة [11].
[6] أخرجه مسلم في الأقضية [3236],
[7] أخرجه أحمد [6691 ، 7012] ، وأبو داود في الجهاد [2371] ، وابن ماجه في الديات [2675] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وصححه ابن الجارود (ص194 ، 269) ، وكذا الألباني في الإرواء [2208].
[8] أخرجه البخاري في الأدب المفرد [239] ، وأبو داود في الأدب [4272] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/252) ، وكذا الألباني في صحيح الأدب [178].(/3)
[9] أخرجه البخاري في الصلاة [378] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في المظالم (2266] ، ومسلم في البر [4684] من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
[11] أخرجه مسلم في البر [4685] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[12] هو عند مسلم في البر [4686] كذلك.
[13] أخرجه الترمذي في البر [1955] ، وصححه ابن حبان [5763] ، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2339].
[14] أخرجه أحمد [23064] ، وأبو داود في الأدب [5004] ، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسنه العراقي كما في فيض القدير (6/447) ، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام [447].
[15] أخرجه البخاري في الإيمان [46] ، ومسلم في الإيمان [97] ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[16] أخرجه أبو داود في السنة [4067] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وأصل الحديث في البخاري في كتاب الأدب [5639] ، ومسلم في كتاب الإيمان [92] بلفظ "أيما امرئ قال لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه".
[17] أخرجه الترمذي في الديات [1315] والنسائي في المحاربين [3922] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وقال الترمذي : "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة" ، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه ، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22) ، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام [439].
[18] أخرجه أحمد [22397] واللفظ له ، وأبو داود في الملاحم [3745] ، من حديث ثوبان رضي الله عنه ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [958].
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن وحدة الشعور بين المسلمين واجبٌ معظَّم، وفرضٌ محتَّم، شعورٌ يحمل على العون والعطف والإشفاق، والإحسان والبذل والإنفاق، يقول : ((من أصبح ولم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم)) [أخرجه الحاكم] [1].
أيها المسلمون، أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعاً، أو تقضي له ديناً، و((من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[2]، و((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) [3]، يقول رسول الهدى : ((عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكّوا العاني)) [أخرجه البخاري] [4].
أيها المسلمون، ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تشاتموا، وكونوا عباد الله إخوانا)) [5]، و((المستبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)) [6]، ((فما قالا فهو على البادئ حتى يعتدي المظلوم)) [7].
أيها المسلمون، بالعزمات الصِّحاح يشرق صباح الفلاح، وما حصلت الأماني بالتواني، ولا ظفر بالأمل من استوطن الكسل، والدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فيها فرض محال، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلّث بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد ...
[1] أخرجه الحاكم (4/320) ، من حديث ابن مسعود وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان ، قال الذهبي في التلخيص : "ليسا بثقتين ولا صادقين" . وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر وقال : "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك".
[2] أخرجه مسلم في الذكر [4867] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المظالم [2262] ، ومسلم في البر [4677] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في الأطعمة [4954] من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(/4)
[5] أخرجه البخاري في الأدب [5606] ، ومسلم في البر [4648] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، واللفظ له ، وليس في شيء من الروايات "ولا تشاتموا" .
[6] أخرجه أحمد [17483] ، والبخاري في الأدب المفرد [427 ، 428] من حديث عياض بن حمار ، وصححه ابن حبان [5726 ، 5727] والعراقي كما في الفيض (6/267) ، وهو في صحيح الجامع [6696].
[7] أخرجه مسلم في البر [4688] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، بلفظ : "المستبان ما قالا فعلى البادئ حتى...".
محامد و أدعية(/5)
وصايا من الله للدعاة
عناصر الموضوع :
1. توجيهات للدعاة
2. مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء
3. مراتب الدعوة إلى الله
4. توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية
وصايا من الله للدعاة:
لقد وصى الله تعالى الناس عموماً والدعاة خصوصاً بواجب الدعوة إليه، وحثهم على استشعار المسئولية ببذل وسعهم في إيجاد الأساليب الناجحة للدعوة، ودلهم على اتباع أساليب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، سواءً كان بالكلام أو بالقدوة والفعال.
توجيهات للدعاة:(/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. عباد الله! لقد أُنزل علينا القرآن الكريم لنتدبر ما فيه ونعمل بمقتضاه، وقد جاءت فيه توجيهات كثيرة في شتى فروع الحياة وأوديتها، وجاءت فيه مواعظ من ربنا لجلاء صدأ قلوبنا، وحمل نفوسنا على السير في الصراط المستقيم، وعدم الإعوجاج، ومن هذه التوجيهات: التوجيهات للدعاة إلى الله تعالى، والتوجيه للناس للقيام بواجب الدعوة إلى الله، وكلنا يجب أن نكون دعاة إلى الله. عباد الله: لقد فرطنا في هذا الواجب الشرعي.. واجب الدعوة إلى الله تعالى، وركنت نفوسنا إلى الدنيا، واشتغلنا بالملذات واتباع الشهوات، وكان الإعراض من الكثيرين عن العمل بالإسلام؛ فضلاً عن الدعوة إليه، والكل واجبات سنسأل عنها يوم القيامة: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44] فتعالوا بنا نستعرض شيئاً مما ذكره ربنا عن الدعوة إلى الله، والأمر بها، وأساليبها، وكيفية القيام بها، وتحمل المسئولية واستشعار الواجب في هذا الموضوع الجليل، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]. الاستقامة نصابها العلم والبصيرة، وزكاتها الدعوة والموعظة، والله أوجب علينا بقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] أي: لتكونوا أنتم أمة، صفتها: أنهم يدعون إلى الخير، وعلى فرض أن هذا أمرٌ لبعض الأمة بالدعوة؛ فإنه واجب وفرض على الكفاية لا يسقط إلا في حال تحقق الكفاية، فهل تحققت الكفاية في عصرنا؟! وهل وجد من الدعاة من يغطي الحال؟! كلا. أيها المسلمون! لقد صار واجباً علينا جميعاً أن نكون دعاة إلى الله تعالى، وينبغي أن يتحمل المسلم ما يلاقي في سبيل تبليغ دعوة ربه، وأن يكون الدعاة إلى الله عدتهم الصبر، وعتادهم اليقين بنصر الله وبلوغ أمره (وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار). الداعي إلى الله تعالى يحزن ويتحسر لمرأى جموع البشر تتخبط في دياجير الظلام؛ فيبادر ليجعل نفسه فتيلاً مشتعلاً في هذا الليل البهيم، والظلمة المدلهمة؛ راجياً الأجر من الله تعالى أولاً، وتنبيهاً للسائرين وإيقاظاً للنائمين ثانياً، ولذلك لما قال بعض بني إسرائيل للدعاة إلى الله منهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً [الأعراف:164] أي: لا فائدة من دعوتهم لأنهم مصرون على الباطل والإثم، فلم تشتغلون بدعوتهم؟ فكان جواب الدعاة إلى الله: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الأعراف:164] أي: إقامة الحجة والقيام بالأمر وتنفيذ التكليف، ثم: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164] أي: لعلهم يهتدون، وحتى لا يفقد الداعية بصيص الأمل، ولا يفقد احتمال الهداية، ولا يفقد أن يوجد من المدعوين من يقبل الدعوة ولو بعد حين، وكلمةٌ على كلمة وبعد كلمة يحصل الأثر بإذن الله، والداعية في عمله لا يتفضل على الناس؛ بل يقوم بواجبه مشفقاً عليهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]. أيها المسلمون! إن الدعوة إلى الله تحتاج إلى رجال يتسللون إلى قلوب الناس، ويأسرونهم بحسن سمتهم وخلقهم، ويعرفونهم بالله، ويذكرونهم بأيام الله، ويعينونهم على أنفسهم وعلى الشيطان. إن تسهيل طريق الخير أمام الناس، وإزالة العوائق الموهومة، وتأليف قلوبهم، وإشعارهم بمحبة الخير لهم، وأن الداعي بعيد في دعوته لهم عن المصالح الشخصية أمرٌ مهم جداً، قال الله عز وجل: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109] وعليه أن يفعل الأسباب المفضية والمؤدية إلى هداية الناس، ودلالتهم، ويقوم بالواجب بغير يأس ولا قنوط، فقد قام نوح بواجب الدعوة ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل،(/2)
لكن ذلك لم يثنه عن الدعوة إلى الله تعالى. أيها المسلمون: إننا شهداء الله في الأرض، يجب أن نقوم بالحق، وقد قال الله تعالى -أيضاً- مبيناً المسئولية التي ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بها، ولا يجعلوا لها فضول الأوقات، وإنما تكون لها الأوقات كلها، قال الله تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] أي: أن أخذ الكتاب يحتاج إلى مسئولية وشدة عزيمة وقوة شكيمة, ولا يطيق ذلك إلا من اختاره الله تعالى لأداء هذه المهمة. أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس لا يأخذون الكتاب أصلاً، وأعداد يأخذون بعض ما في الكتاب ويكفرون ببعض، وبعضهم يأخذه على ضعفٍ وتراخٍ، والله يقول: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف:171] فالمسألة تحتاج إلى تصميم وعزيمة، والمسالة تحتاج إلى حسن توجه وإلى نيةٍ خالصة حتى تحصل النتيجة.
مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء:
عباد الله: إن ربنا تعالى ذكر لنا أساليب متنوعة في دعوة الأقرباء والبعداء، ودعوة الأقوام عموماً، ولنأخذ أمثلة على دعوة الأقرباء:
أسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى التوحيد:
يقول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:-45]. تأمل يا عبد الله! كيف ترقى وتوخى إبراهيم عليه السلام مسالك الدعوة والحكمة فيها والرفق واللين، والبعد عن التفضل والمنة والازدراء والتحقير والشدة والغلظة، وإنما عمد إلى التملق والتزلف؛ لكي يحاول التسلل إلى قلب خاوٍ، إنه قلب أبيه المشرك، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- معلقاً على هذه الآيات العظيمة: ابتدأ إبراهيم خطابه بذكر أبوته -أبوة أبيه- الدالة على توقيره -بدون كلمة توقير تستهل بها الخطاب أو كلمة احترام تنشئ بها الكلام وتستهله قد لا يفتح لك مطلقاً- ولم يسمه باسمه، ولم يقل: يا آزر، وإنما قال: يا أبتِ، ثم أخرج الكلام مخرج السؤال، فقال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42] ولم يعمد إلى أسلوب الأمر المباشر والنهي المباشر، فيقول مثلاً: لا تعبد الشيطان، أو لا تعبد ما لا يسمع، وإنما قال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42]، ثم قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] فلم يقل له: إنك جاهل لا علم عندك؛ بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على المعنى، فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً [مريم:43] مثلما قال موسى لفرعون: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات:19]، قال إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:45] فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه مثلما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: "يمسك" والمس ألطف من غيره، ولم يقل: ينزل بك، أو يخسف بك، وإنما قال: يمسك، ثم نكَّر العذاب، فقال: عَذَابٌ ولم يقل: العذاب، ثم ذكر الرَّحْمَنِ ولم يقل الجبار ولا القهار تأليفاً له، واستجلاباً للإيمان بهذا الرحمن، واستشعاراً لرحمته، فأي خطاب ألين وألطف من هذا. ومع ذلك كله كان الرد قاسياً شديداً: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46] ومع ذلك يجيء جواب إبراهيم جواباً تلين له الحجارة؛ لأنه لم يكن يدعو لحظ نفسه حتى يثور، ولم يكن يدعو لأجل أن يقابل بالإيجاب؛ ولذلك لم يثأر ولم ينتقم؛ بل قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47].
أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عمه أبي طالب إلى الإسلام:(/3)
وآية أخرى من كتاب الله تعالى في موضوع الدعوة إلى الله، يقول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] هذه الآية التي درج بعض الناس على الاستشهاد بها إذا رآك تنصح إنساناً وتدعوه إلى الهدى؛ فسرعان ما يقول لك: دعه دعه؛ فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن هذه الآية ليس المقصود بها إيقاف الدعاة عن العمل، أو أن يتحسر الدعاة ويقولون: لا فائدة، وإنما المقصود أن الله تعالى بيَّن فيها أن أحداً لا يملك أن يدخل الإسلام والإيمان في قلب شخص أبداً، ولكن الله هو الذي يهدي من يشاء، فيدخله في الإسلام بعنايته، فكأنه يقول لك: يا أيها الداعية! لا تغتر بعملك ولو أثمرت بعض مجهوداتك، ولا تظن أنك أنت الذي أدخلت الهداية إلى قلبه، ولا تغتر فإن الله هو الذي أدخل الهداية إلى قلبه. ثم فيها فائدة أخرى بخلاف تجنيب الداعية من الغرور، وهي تجنيب الداعية من اليأس والتوقف عن الدعوة بأن يقال له: لقد أديت ما عليك وأجرك قد ثبت، والرجل مصر على الباطل، ولا تستطيع أنت أن تهديه فانظر غيره، ولا تذهب نفسك عليه حسرات، ولا تأسفن عليه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] أي: مهلك نفسك أنهم لا يؤمنون، فهذه الآية نزلت تسلية وتسرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إلى عمه أبي طالب يدعوه إلى الله تعالى، ولكن سبق القدر فيه، واختطفه من يده، واستمر على الكفر والعياذ بالله. والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فأبى أن يقول، فأنزل الله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] ومات أبو طالب الذي كان نصير الدعوة، والمدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمادح لأفكاره وآرائه ومعتقداته، وهو الذي كان ينصره ويحميه من أذى قريش، مات هذا الرجل في نهاية غير مرجوة أبداً، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو له لقاء هذه المجهودات-وهو عمه وأقرب الناس إليه- في أن يهتدي، ولكن الله أراد أن يعلم رسوله والمؤمنين درساً عظيماً، في أن الإنسان مهما بذل الأسباب؛ فإن الله إذا لم يشأ فلا يحدث المأمول أبداً، كما بين الله تعالى أن ميزان العقيدة هو الميزان الأول، وأن النسب لا ينفع القريب قريبه فيه أبداً، فيجعل الله يوم القيامة أبا طالب في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه، فليعلم الناس أن عليهم بذل الأسباب، والله يتكفل بالنتائج، والله معهم مقدر كل شيء، وأن الله إذا أراد هداية شخص فربما يهتدي بحلم من الأحلام أو مرض أو حادث، ولا يكون لأي داعية سبب في ذلك، وإذا أراد الله أن يضل شخصاً، واجتمع الناس كلهم على هدايته ما استطاعوا هدايته أبداً.
مراتب الدعوة إلى الله:(/4)
ثم إن الله ذكر في كتابه مراتب الدعوة، فقال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] وهذا أمر يقتضي الوجوب: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فمن الناس من هو جاهل يحتاج إلى تعليم، والحكمة: هي القرآن والسنة، فنعلمه ما يجهل، ونبين له حكم الله تعالى، ونبين له ما في القرآن والسنة، ومن الناس من ربما يكون عنده علم لكن فيه غفلة وقسوة قلب فيحتاج إلى تليين، والتليين يكون بالوعظ؛ ولذلك ينتقل الداعية إلى المرحلة الثانية وهي الموعظة الحسنة، فإن بعض الناس يحتاجون إلى موعظة للهداية، وبعضهم يحتاجون إلى تعليم للهداية، فهذه سبيل أخرى ذكرها الله تعالى آمراً نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعلم من يحتاج إلى تعليم، وأن يذكر من يحتاج إلى تذكير،وأن يجادل من عنده شبهة أو هوى بالتي هي أحسن. هذه المراتب العظيمة من تأملها وطبقها على الناس، عرف أن الله ذكر الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المدعوين، النوع الذي يجهل ويقبل التعليم ولو عُلِّم لتبع، والنوع الذي عنده غفلة وتأخر فيدعى بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وهما من أعظم أنواع الوعظ، ثم هناك معاند جاحد يجادل بالتي هي أحسن؛ بالبرهان والحجة واللسان القويم، وربما يكون عند بعض الناس خلفيات ثقافية، أو معلومات مسبقة خاطئة، فيحتاجون إلى محاورة، ومجادلة لكشف زيف ما يعتقدونه، والرد على الشبهات التي يأتون بها. وقد حاور النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران لما جاءوه، ونزلت سورة آل عمران محاورة ومجادلة لأهل الكتاب، ولوفدهم الذين جاءوا من نجران ، وحاور النبي -صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم وقد كان من زعماء النصارى، فحاوره بما هو موجود عنده في الكتاب، وبما يعلمه من دينه، وحاوره بأشياء، وأوقفه على أمور عجيبة، وسأل عمران فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء)، فسأله عن الإله الذي يعده للرغبة والرهبة، وعند نزول الملمات، وفي الأحوال الخطيرة وأي واحد هو من هذه الآلهة السبعة؟ فكانت نتيجة المحاورة أن قال: (إنه الذي في السماء) إذاً هو أولى بالعبادة. كما حاور عليه الصلاة والسلام أشخاصاً كثيرين. ولم يتوانَ صلى الله عليه وسلم في بذل أساليب الدعوة، سواء كان بالكلام، أو بالقدوة والفعال، كما ربط الأسير في المسجد ليسمع كلام الله وينظر أفعال المسلمين، وكيف يعيش المجتمع الإسلامي، وأرسل الرسائل إلى عظماء الأرض يدعوهم إلى الله. أيها المسلمون! حري بنا أن نتبع الأساليب الناجعة في الدعوة إلى الله، وألا نيأس من هداية الخلق، وأن نقوم بهذا الواجب الذي فرطنا فيه، فكم يوجد بيننا ممن لا يعلم شيئاً عن الإسلام؟! فتاة تقدم إليها أحد الخطاب، وهي ممن ينتسب إلى جمهور المسلمين، فحدثها عن الصلاة والحجاب؟ فقالت: أما الصلاة فلا أصلي، قال: لِمَ؟! قالت: لا أعرف كيفية الصلاة، قال: ما رأيت أناساً يصلون؟ قالت: نادراً، قال: ما تعلمت الصلاة في المدرسة؟ قالت: أدخلتني أمي مدرسة إنجليزية، فما علمونا الصلاة -وهي تعيش بين المسلمين- قال لها: المسألة بسيطة طهارة وصلاة، فقالت: الدنيا برد!! إذاً: ربما يوجد بين المسلمين من أبناء المسلمين من يجهل الدين بالكلية، ويوجد من ذهب إلى الكفار، ورجع وهو مغسول الدماغ، يستقبل صاحبه المبتعث في المطار، وقد كان يعرفه قبل الابتعاث إنساناًً مستقيماًَ أو مصلياً على الأقل، ولما رجع به من المطار بعد عناق واستقبال حار، كان وقت الصلاة قد حان؛ فأوقف السيارة بجانب أحد المساجد، وقال لصاحبه: ننزل، قال: ولِمَ؟ قال: لنصلي، قال: تغير علمك، لقد أصبحتُ نصرانياً، وأخرج الصليب من صدره فأراه إياه. إذاً يوجد -أيها الإخوة- مرتد يحتاج إلى دعوة، ويوجد من المسلمين جهلة بالإسلام، وخصوصاً العمالة الموجودة من بلادٍ إسلامية، ما علمناهم شيئاً أبداً، فانتهت عقودهم ومدة خدمتهم، ورجعوا إلى بلادهم ولم يستفيدوا شيئاً ألبتة، ويوجد كفار أصليون وغافلون من المسلمين يحتاجون إلى دعوة، وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى نوع خاص من الأساليب والوسائل. فهلاَّ تحركت الغيرة في قلوبنا، والقيام بالمسئولية، والخوف من السؤال يوم القيامة، والرغبة في الأجر، فإنك لا تدعو إلى خير إلاَّ وتؤجر عليه، وإذا عمل العامل بما نصحته فلك مثل أجره، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، ولسبيله من السالكين، ولهذا الإسلام من الحاملين والدعاة المناصرين، ونسأله تعالى أن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإيمان،وأن يتقبلنا في عباده الصالحين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية:(/5)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الملك الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله، الداعي إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وذهب إلى الله وذمته بريئة من كل مسئولية، فقد أدى ما عليه وبقي ما علينا نحن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الدعاة من بعده وفي حياته، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن هذا القرآن الذي ذكرنا منه أمثلة في الدعوة إلى الله تعالى، وآيات في الحث عليها والترغيب؛ وبيان الوسائل والأساليب. إن في هذا القرآن عبراً، وأنا أذكر لكم أمثلةً قليلة مما يوجد في القرآن, وهو مجال التدبر والتفكر الذي طلبه الله منا.
وقفات مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ...).(/6)
إن هذا القرآن يشتمل على توجيهات كثيرة جداً للدعاة وغير الدعاة، وفيه لطائف وحكم وأحكام، فتأمل مثلاً قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]. إذاً: يحمى عليها بالمنافيخ وغيرها؛ مما يضاعف حرها، فإذا اشتد العذاب جاءت مرحلة الكي، فيكوى في جبهته وجنبه وظهره ويكون في هذه المواضع، لأنه كما قال العلماء: إذا جاءه الفقير السائل صعر بوجهه، ثم إذا أعاد السائل عليه ولاه جنبه، زيادة إعراض، فإذا ألح عليه، ولاه ظهره وأعرض، فلذلك جعل الكي في هذه المواضع الثلاثة: الوجه والجنب والظهر، الكي في هذه المواضع أشد على الإنسان من غيرها، والكي في الجنب والوجه والظهر هو الكي في الجهات الأربع: الأمام في الجبهة، والخلف في الظهر، واليمين والشمال في الجنبين، فجاءه الكي في المواضع التي هي فيها شدة، ثم التي حصل بها الاعراض، فجوزي على عمله، والجزاء من جنس العمل. تأمل قول الله تعالى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59]. قال الله: وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ، بمعنى أرادوها وصارت هي همهم، ولم يقل: إنهم تناولوا منها؛ لأن الشهوات منها ما يكون حلالاً، فتناول الشهوة الحلال مباح، لكن تأمل السر في قوله: اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ صارت متبوعاً، وقائداً وهم منقادون، صارت مطاعة وهم مطيعون اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وكم الذين يتبعون الشهوات في زماننا، أناس كثر جداً، جعلوا الشهوات هي مقصودهم، والغربيون عندهم مبدأ اللذة هي الهدف الكلي؛ لذلك فسعيهم للذة المال، والمتعة، والجنس، وغير ذلك من أنواع اللذات إلا لذة الإيمان واليقين، وكثير من المسلمين يتبعون الشهوات؛ فيأخذ المال من حرام وحلال من أجل شهوة المال، ويرتكب أسباب العلاقة المحرمة بالجنس الآخر اتباعاً للشهوات؛ ولذلك كثير من الأوقات تذهب في المعاكسات الهاتفية، والمواعيد المحرمة، وارتكاب الفواحش، واتباع مطلق للشهوات. أيها المسلمون: هاتان آيتان تعرضان شيئاً من الأمراض الاجتماعية الموجودة، كالبخل والشح واتباع الشهوات، وهذان المرضان جديران بأن يدقق الدعاة إلى الله تعالى فيهما؛ لأنهما أعظم ما أصيب به المجتمع، وهذان المرضان -فعلاً- بحاجة إلى دراسة وتقويم، ثم بحاجة إلى علاج، ويحتاج الذين وقعوا فيهما أن يرجعوا إلى الله تعالى، فهذان مرضان في المدعوين يحتاج الدعاة إلى التأني والتأمل، ومعرفة السبيل الناجع في المداواة، ويبقى السبيل هو التعليم والوعظ والجدال بالتي هي أحسن. ولكن الاهتداء إلى موضع الخلل يحتاج إلى تدبر وتأمل؛ ولذلك بعض الناس ربما يدعو لكن لا يعرف أي شيء يقصد في دعوته، وما هو الهدف الذي يوجه إليه وسائل دعوته، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الحكمة والخطاب الحسن، ونسأله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين. اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم افتح قلوبهم بنور من عندك، واسلك بهم سبيل النور، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد،وارحمنا يوم المعاد، وارزقنا الثبات يوم التناد، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة لموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا،واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا عند اللقاء، وأن تثبتنا على الصراط يا رب العالمين. اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد،وأصلح الأئمة ولاة العباد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/7)
وضع ساتر بين الرجال والنساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المساجد بنيت ليعبد الله فيها، وليست خاصة بالذكور دون الإناث، بل هي للجنسين من الرجال والنساء، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجال بأن يمنعوا النساء من المساجد فقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)(1)، فلا يجوز منع النساء من الذهاب إلى المساجد، وإن كان الأفضل لهن أن يؤدين الصلاة في بيوتهن لحديث: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)(2)، وحديث: عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي، أنها جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك. قال (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي) قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل(3).
فإذا أرادت المرأة الخروج إلى المسجد لأداء الصلاة، أوشهود جماعة المسلمين وجمعتهم، أو حضور دروس العلم، فلا مانع من ذلك، وهذا أمر جائز؛ بشرط أن تلتزم بالضوابط الشرعية في المسجد، وفي طريقها إلى المسجد.
وقد كانت النساء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- تحضر إلى المسجد، وتصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحضرن الجمعة والجماعة، ويكن خلف الرجال، ولكن كان الصحابة -رضي الله عنهم- عندهم من الإيمان بالله، والتقوى والخوف من الله ما يمنعهم من النظر إليهن، أما في وقتنا الحاضر فضعف إيمان الناس، وأصبح وجود النساء بتلك الحالة فتنة لهم، فإذا وجد ستار أو جدار يفصل الرجال عن النساء فهذا أمر جائز بل الأفضل وجوده، حتى يزول السبب الداعي للفتنة، وهو رؤية النساء.
وقد عرض سؤال على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-، ونصه: (يوجد في أحد المساجد ستارة بين الرجال والنساء فحصل خلاف في أهمية هذه الستارة فرأى بعضهم أنه لا حاجة لها وأنه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن هناك ستارة، وأصر الآخرون على وجودها فحصل خلاف نتيجة ذلك ربما يؤدي بالذين يرون بعدم وجودها إلى ترك الصلاة في المسجد، علماً أنه يحدث هناك شيء من الاختلاط أو النظر عند الانصراف لطبيعة دين الموجودين من الرجال، فهل نصر على إبقاء الستارة ولو ترك الصلاة من ترك أو نزيل الستارة ولو حصل ما حصل من النظر؟
فأجاب: (الستارة تبقى وكونها لم توجد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إما لعدم السبب المقتضي لها، وإما لوجود المانع، أما الأول فلأن الصحابة -رضي الله عنهم- عندهم من الإيمان بالله ما يمنعهم من النظر إلى النساء، وأما المانع فلأن حال الصحابة كما نعلم لا سيما قبل الفتوح حال عسر لا يستطيعون أن يضعوا ستارة تحول بينهم وبين النساء، وإذا خلصنا إلى هذا رأينا أيهما أبعد عن الفتنة أن توجد الستارة أو لا توجد؟ كلٌ يقول: الأبعد عن الفتنة وجود الستارة، وإذا كان كذلك فكلما كان أبعد عن الفتنة فهو أولى، وإذا قلت: لو أصررنا على هذا لتخلّف الذين يقولون بإزالتها، فالجواب: أنهم إذا تخلفوا فهم الذين جنوا على أنفسهم؛ لأنهم لا يعذرون بترك الجماعة لوجود هذه الستارة، إذ أن وجودها ليس معصية حتى يقولوا إننا لن نحضر لنشاهد المعصية، فيكونون إذا تخلفوا آثمين بتركهم الجماعة) انتهى(4).
نسأل الله أن يتقبل منا أعمالنا، ويجعلها خالصة له سبحانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
000000000000000
1 - متفق عليه.
2 - رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3833).
3 - رواه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، وقال الألباني: "حسن لغيره" انظر صحيح الترغيب والترهيب رقم (340).
4 - نقلاً من موقع: الإسلام سؤال وجواب. الرابط: (www.islam-qa.com).(/1)
وظائف المشرف على الحلقات القرآنية
الحمد لله الذي شرفنا بالقرآن، وبين لنا الحلال والحرام، وأكرمنا ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، فله الحمد أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً. والصلاة والسلام على محمد القائل: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)1، وعلى آله وصحبه الأفاضل، وعلى التابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فإن المشرف على الحلقات القرآنية قد تحمل مسؤولية هامة وصعبة، وهو داخل في قوله- صلى الله عليه وسلم-: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)؛ وذلك أنه يقوم بوظيفة هامة، وهي الإشراف على الحلقات القرآنية، فهو ممن تعلم القرآن وهو كذلك ممن علمه، أو أعان على تعليمه. ولذلك فإن المشرف على الحلقات القرآنية يتحمل مسؤولية مهمة، ويمكن تصنيف هذه المسؤولية في ثلاث وظائف عامة هي:
أولاً: الوظيفة الإدارية.
ثانياً: الوظيفة التعليمية.
ثالثاً: الوظيفة الاستشارية.
وهذه النواحي الثلاث لوظيفة المشرف متداخلة مع بعضها، ولا تظهر منفصلة عن بعضها، بل تعتمد كل على الأخرى وتساندها، والمشرف ما هو إلا شخص واحد يؤدي عملاً واحداً متماسكاً ذا ثلاثة جوانب قُسمت هنا لغرض الدراسة فقط، فهو لا يستطيع أن يقول في أي لحظة من اللحظات: إنه يقوم بعمل إداري فقط، أو انه يقوم بدور المعلم فقط، أو دور المستشار والريادة الثانوية فقط، وذلك لأن العمل الواحد قد يتناول وجهين من أوجه الإشراف، أو ربما يتناول الأوجه الثلاثة دفعة واحدة2.
أولاً: الوظيفة الإدارية:
1. اختيار الإدارتين المساعدين له والمعلمين، وترشيحهم إلى الجهة العليا لاعتمادهم وظيفتهم، مما يترتب عليه الأمور المالية والإدارية الأخرى.
2. تعريف العاملين بالمؤسسة وطبيعة العمل فيها، وطبيعة المسؤوليات والمهام التي ينبغي عليهم أن يضطلعوا بها، ومن هذه النقطة تبدأ عملية الإشراف الفعلية.
3. شرح سياسة المؤسسة نحو الموضوعات المختلفة التي تتعلق بسير العمل، وذلك مهم لبث روح الثقة والطمأنينة بينهم، ومن الأهمية بمكان أن يقوم المشرف بشرح العلاقة بين سياسة المؤسسة وبين برامجها وموظفيها.
4. شرح الالتزامات الإدارية، التي يتطلبها العمل، وذلك مثل: التسجيل، وكتابة التقارير الدورية، والاستمارات المطلوبة للحفاظ.
5. شرح علاقة البرامج المختلفة التي تقوم بها المؤسسة مع بعضها وتوضيحها، وذلك مثل: مشروع بناء المساجد، أو مشروع الأضاحي، أو مشروع إفطار صائم، أو مشروع كفالة الأيتام وعلاقته بالحلقات، وذلك في حال قيام المؤسسة بمثل هذه المشاريع المتعددة.
6. تعيين المعلم في المكان والحلقة المناسبة له، ملاحظاً في ذلك الخبرة العلمية وزمان التعليم ومكانه، ويعتمد ذلك على مهارات كل معلمٍ وخبراته وقدراته على حدة.
7. مساعدة العاملين- إداريين ومعلمين- على تنظيم أعمالهم وتنسيقها، سواءٌ أكانوا موظفين دائمين أم متطوعين، وذلك لضمان حسن سيرها، وتوفير الزمن والجهد اللازمين لأدائها.
ثانياً: الوظيفة التعليمية:
يمكن تقسيم المسؤولية من الناحية التعليمية إلى قسمين متداخلين:
أ . يتعلق أولهما بالمؤسسة عامة، والعوامل المختلفة التي تؤثر فيها.
ب . القسم الثاني يتعلق بالمعلمين.
ويمكن حصر مسؤولية المشرف التي تتعلق بالمؤسسة فيما يلي:
1. تاريخ المؤسسة وأغراضها ووظيفتها وتنظيمها البنائي.
2. الفلسفة التي تقوم عليها الإدارة ونظمها في المؤسسة.
3. التطبيق العملي للنواحي الإدارية فيما يتعلق بوضع الخطط، والموظفين، والميزانية، واللجان وأعمالها، والندوات، والعلاقات الاجتماعية.
4. اقتراح خطة تعليمية لطلاب الحلقات ورفعها للمؤسسة لاعتمادها.
5. تنفيذ ما تعتمده المؤسسة من قرارات وتوجيهات بخصوص الحلقات.
وأما ما يتعلق بوظيفة المشرف تجاه المعلمين، فيمكن إيجازها فيما يلي:
1. يساعد المشرف المعلمين على استيعاب الطلاب بغض النظر علن الفروق الفردية بينهم وبذل الجهود المستمرة لتعليمهم وتطويرهم.
2. يساعد المشرف المعلمين على دراسة طبيعة نفسية الطلاب، وفهم ديناميكيتها، وشرح طبيعة الحلقات القرآنية وتفاعل الأفراد فيها، والأهداف التي يريد الأفراد أن يحققوها نتيجة لانضمامهم لها.
3. يدرب المعلمين على استخدام المناهج والبرامج المرافقة لحفظ القرآن، ويشترك مع المعلمين في وضع هذه البرامج والأنشطة العلمية في الحلقات بحيث تحقق حاجات الطلاب ورغباتهم، وتتمشى مع قدراتهم ويقومون على تنفيذها بمساعدتهم لهم، وذلك مثل: منهج الحديث والفقه والآداب والأخلاق والأذكار، ونحو ذلك.
4. يساعد المشرف المدرسين على قبول وفهم المؤسسة التي تنتمي إليها الحلقات، ويقومون هم بمساعدتها على النمو والتقدم، ويشمل ذلك فلسفتها وسياستها وتأثير ذلك على سير العمل في الحلقات.
5. يساعد المشرف المدرسين على فهم المجتمع المحلي وتأثيره في حياة الطلاب الذين تقوم المؤسسة بخدمتهم، ومعرفة حاجاتهم ورغباتهم..
ثالثاً: الوظيفة الاستشارية:(/1)
1. يعتبر المشرف مرجعاً استشارياً مزدوجاً، فهو من جهة مرجع للمدرسين في كل ما يعترضهم من عقبات في طريق التدريس في الحلقات، ومن جهة أخرى يعتبر مرجعاً للمؤسسة نفسها، حيث ترجع إلى الأخذ بآرائه، واعتبارها، والعمل على تلبية مقترحاته الخاصة بترقية مستوى أداء الحلقات، من خلال تقاريره التي تعدها عن سير العمل، فقوله مقدم على غيره لأنه يتكلم من الميدان، لا من خلف المكاتب ومن بين الجدران.
2. كما أنه يمثل الجهة المسؤولة أمام المجتمع والجهات الرسمية، وهؤلاء كثيراً ما يحتاجون إلى أخذ آرائه ووجهات نظره فيما يخصه من أعمال فلا بد أن يكون لديه ضوءٌ أخضر في هذه المهمة من إدارة مؤسسته العُليا، وأن توضح له الخطوط العريضة التي يمكن أن يتحول خلالها.
3. كما يعتبر المشرف مستشاراً بالنسبة لأولياء أمور الطلاب الذين يقصدونه لأخذ رأيه فيما يصلح لأبنائهم، وما هي الطريقة المثلى لتعليمهم، وترقيتهم، وهو بدوره لا يبخل عليهم بتوجيهاته3.. ويمكننا إيجاز أهم وظائف المشرف المنوطة به ملخصين لما سبق في النقاط التالية:
1. متابعة جهود المعلمين والطلاب في الحلقات القرآنية، وتوجيهها إدارياً وعلمياً.
2. تقييم وتقويم الأعمال بشكل دوريّ.
3. السعي إلى تطوير العمل ورفع مستوى الأداء والإنتاج بشتى الأساليب.
4. تفادي الوقوع في الأخطاء.
5. معالجة الأخطاء الحاصلة4. والله من وراء القصد.
0000000000000
1 - أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وأحمد.
2 - انظر : " الإشراف في العمل مع الجماعات، للدكتور/ محمد شمس الدين أحمد(5-6) بتصرف.
3 - راجع" الإشراف في العمل مع الجماعات" (9- 10). لمحمد شمس الدين أحمد.
4 -"الإدارة التعليمية أصولها وتطبيقاتها" صـ(352- 354) للدكتور محمد منير مرسي. بتصرف. نقلاً عن: "فن الإشراف على الحلقات والمؤسسات القرآنية"، صـ(247- 252) للدكتور/ يحيى بن عبد الرزاق الغوثاني.(/2)
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
...
عبد العظيم بدوي الخلفي
... ...
1106
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- بعض الأمور التي كانت علامات على اقتراب أجل النبي . 2- بداية مرض رسل الله الذي كان فيه موته. 3- ما حصل قبل وفاة رسول الله بخمسة أيام. 4- حال الصحابة بعد وفاة رسول الله واتفاقهم على بيعة أبي بكر الصديق.
عن أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي فقال: ((إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله))، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: ((يا أبا بكر لا تبك، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)).
كانت هذه الخطبة قبل أن يموت النبي بخمس، وهذا يدفعنا إلى محاولة الوقوف على حقيقة هذه الأيام الأخيرة من حياته ، فنقول وبالله التوفيق: خرج رسول الله في السنة العاشرة من الهجرة للحج، وفي هذه الحجة استشعرت النفوس قرب أجله ، وذلك لما نزل عليه فيها من القرآن الكريم، فقد نزل عليه بعرفة قول الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3].
فلما تلاها على أصحابه بكى عمر ، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وقد أشار إلى هذا الذي فهمه عمر فقال وقد وقف عند جمرة العقبة: ((خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد حجتي هذه)). وفي أوسط أيام التشريق نزلت عليه سورة النصر، فنعى نفسه إلى فاطمة ابنته: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت النصر دعا النبي فاطمة فقال: ((نعيت إلى نفسي))، فبكت.
فقال: ((لا تبكي فإنك أول أهلي لحاقاً بي)) فضحكت، فرآها بعض أزواج النبي فقلن: يا فاطمة! رأيناك بكيت ثم ضحكت؟ قالت: إنه أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت، فقال لي: لا تبكي فإنك أول أهلي لحاقاً بي فضحكت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم، وما رأيت أنه أدخلني معهم إلا ليريهم. فقال: ما تقولون في قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح – السورة – فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أعلم به؟ قال: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول، وهكذا استشعرت النفوس قرب أجله في حجة الوداع، ثم رجع إلى المدينة في ذي الحجة فأقام بها بقيته والمحرم وصفرا، وبعث بعثا إلى الشام وأمر عليهم أسامة بن زيد .
فبينا الناس على ذلك ابتدى بشكواه التي قبض فيها، لما أراده الله له من رحمته وكرامته في بضع ليال بقين من صفر، أو أول شهر ربيع الأول.
وكان أول ما ابتدى به صداع شديد يجده في رأسه، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((رجع رسول الله ذات يوم من جنازة من البقيع وأنا أجد صداعا، وأنا أقول: وارأساه!! فقال : بل أنا يا عائشة وارأساه. ثم قال: وما ضرّك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصلّيت عليك ودفنتك! قلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك فرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك! فتبسم ، ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه.
وكان يدور على نسائه، كلما أتى واحدة قال: أين أنا غدا؟ - يريد عائشة – حتى اشتد عليه وجعه، وغلبه على نفسه وهو في بيت ميمونة. فبينما هو كذلك لدّوه، فجعل يشير إليهم أن لا تلدّوني. فقالوا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدّوني؟ قالوا: قلنا كراهية المريض للدواء. فقال: لا يبقى في البيت أحد إلا لدّ، إلا عمي العباس فإنه لم يشهدكم.
ثم استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة فأذنّ له. فخرج بين رجلين من أهل بيته حتى دخل بيت عائشة.
وكان يقول: ((يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)).
وكان يخرج للصلاة فلما غلبه الوجع قال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال : مه! إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا)).(/1)
قالت عائشة: لقد عاودت رسول الله في ذلك، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاؤم الناس بأبي بكر، وإلا أني علمت أن لن يقوم مقامه أحد إلا تشاؤم الناس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر إلى غيره.
فكان أبو بكر يصلي بالناس في حياته .
ثم إنه وجد من نفسه خفّة، فخرج يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض من الوجع. فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي أن مكانك. ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه، فكان يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
ويوم الخميس اجتمعوا عنده وقد اشتد به وجعه، فقال: ((ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه! فقال : ((دعوني فالذي أنا فيه خير)).
ثم أراد أن يخرج للخطبة، فقال لأهله: ((أهريقوا علي من سبع قرّب لم تحل أوكيتها لعلي أعهد إلى الناس، قالت عائشة: فأجلسناه في مخضب لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده: أن قد فعلتن)).
قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله الناس وقال: ((إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير، فكان رسول الله هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله : إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر)).
وعن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي خليل منكم، وإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)).
ثم انقطع عن أصحابه بقية يوم الخميس، والجمعة، والسبت، والأحد، وبينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي بالناس لم يفجأهم إلا ورسول قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة ثم ابتسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة.
قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله ، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، ثم مات ضحى ذلك اليوم الاثنين.
وقد وجد من الموت شدة حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد ما رأيت النبي .
وعن ابن مسعود قال: دخلت على رسول الله وهو يوعك فقلت: يا رسول الله، إنك توعك، وعكا شديدا، قال: ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل. ذلك كذلك. ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)).
وعن أنس قال: لما ثقل جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه! قال لها: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم)).
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه ويقول: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
قالت عائشة: لولا ذلك لأبرز قبره، خشي أن يتخذ مسجدا.
وعنها قالت: كان رسول الله يقول وهو صحيح: ((إنه لن يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير )). قالت: فلما نزل به ورأسه على فخذي غشى عليه ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى)). فقلت: إذا لا يختارنا.
وكانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي ويومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل علي عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتنوله فاشتد عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمرّه، وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) حتى قبض فمالت يده.
عن أنس قال: (لما مات رسول الله قالت فاطمة: يا أبتاه! أجاب ربا دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه).
فلما مات وضعت عائشة رأسه على وسادة وسجّته ببردة فاستأذن عمر والمغيرة فأذنت لهما وضربت الحجاب.(/2)
فنظر عمر إلى رسول الله فقال: واغشياه! ما أشد غشي رسول الله ، ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر! مات رسول الله ، فقال عمر: كذبت! بل أنت رجل تحوسك فتنة. إن رسول الله لا يموت حتى يفني الله المنافقين. فخرجا على الناس، وقام عمر يخطب الناس ويتوعد من قال مات بالقتل والقطع، ويقول: والله ما مات رسول الله ، وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم.
فلما اختلفوا في موته ذهب سالم بن عبيد إلى الصديق بمنزله وأخبره، وكان الصديق حين صلى الفجر ورأى رسول الله بخير انصرف إلى منزله، فجاء فكشف عن رسول الله فقبّله فقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس: فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون ، وقال: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
فنشج الناس يبكون، وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلّني رجلاي، وهويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله قد مات.
واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حباب بن المنذر: لا والله لا تفعل، منّا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارا، وأعربهم حسبا، فبايعوا عمروا أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، وذلك يوم الاثنين الذي توفي فيه رسول الله .
فلما كان الغد اجتمع الناس في المسجد، فصعد عمر المنبر فتكلم وأبو بكر صامت فقال عمر: كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا، فإن يك محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به، هدى الله به محمدا وإن أبا بكر صاحب رسول الله ، وثاني اثنين، وإنه أولى المسلمين بأموركم، فقدّموا فبايعوه. ثم نزل عمر وقال لأبي بكر: اصعد، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه عامة الناس بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر: فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
أما بعد:
أيها الناس: إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علّته إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله.
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع في قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وهكذا انشغل أصحاب رسول الله بقية يوم الإثنين وبعض يوم الثلاثاء عن تجهيز النبي ببيعة الصديق، فلما تمهدت وتوطدت وتمت شرعوا بعد ذلك في تجهيزه ، معتدّين في كل ما أشكل عليهم بأبي بكر .
فلما أرادوا غسله قالوا: ما ندري أنجرّد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره، ثم كلّمهم مكلّم من ناحية البيت لا يدرون من هو: (أن غسّلوا رسول الله وعليه ثيابه). فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، فيدلكون دون أيديهم. فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل رسول الله إلا نساؤه.
وعن علي : (أنه لما غسّل رسول الله ذهب يلتمس منه ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا، فقال: بأبي الطيب! طبت حيا وطبت ميتا).
فلما فرغوا من غسله كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. كما قالت عائشة رضي الله عنها.
ثم أخذوا في الصلاة عليه فرادى، لهم يؤمهم أحد، دخل الرجال ثم النساء ثم الصبيان .
فلما أرادوا دفنه اختلفوا أين يدفنونه؟ فقال أبو بكر : سمعت من رسول الله شيئا ما نسيته، قال: (ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، فدفنوه في موضع فراشه).
وكان بالمدينة رجل يلحد، وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه. فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي .(/3)
قالت عائشة رضي الله عنها: ما علمنا بدفن النبي حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء. فلما فرغوا من دفنه قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب!!.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بينما نحن مجتمعون نبكي لم ننم، ورسول الله في بيوتنا، ونحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرارين في السحر، فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذن بلال بالفجر، فلما ذكر رسول الله بكى وانتحب فزادنا حزنا.
فيا لها من مصيبة ما أصيب المسلمون بمثلها قط، يا لها من مصيبة أظلمت لها المدينة، وتنكرت بعدها القلوب.
عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب وإنا لفي دفنه حتى أنكرت قلوبنا.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أدخلنا مدخل نبينا، وأوردنا حوضه، واحشرنا معه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وعزاؤنا فيه قوله: ((إذا أراد الله رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لهافرطا وسلفا بين يديها)).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله دينارا ولا درهما، ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء. بل لقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير أخذها لأهله.
فاللهم صلي على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/4)
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
عناصر البحث مجملة:
أولا: أهمية الحدث.
ثانيا: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله.
ثالثا: بداية المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وسببه.
رابعا: تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين الموت والخلد.
خامسا: مرض النبي صلى الله عليه وسلم.
سادسا: وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته.
سابعا: اليوم الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم.
ثامنا: عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين مات.
تاسعا: حزن الصحابة على فقد حبيبهم صلى الله عليه وسلم.
عاشرا: غسل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه ودفنه.
أولا: أهمية الحدث.
- يجتمع في شهر ربيع الأول أحداث ثلاثة، وهي مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى المدينة ووفاته. ولا ريب أن كلاً منها كان حدثاً مهمًّا في حياة المسلمين، لا بل وفي حياة الثقلين أجمعين.
- ويوافق بعض المسلمين النصارى وغيرَهم من الوثنيين، فيجعلون حدث المولد أهمَّ الأحداث الثلاثة، بل ويعتبره بعضهم أهمَّ أحداث السيرة النبوية قاطبة.
- والحق أن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم حدثٌ مبارك، حيث أشرق صلى الله عليه وسلم على الأرض بمولده، لكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل عليه الصلاة والسلام.
- والحدث الأهم من ولادته هو هجرته صلى الله عليه وسلم التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قروناً طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مرّ الزمن، ولأهمية هذا الحدث أرخ به عمر بن الخطاب والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي. وقد روى ابن أبي شيبة عن الشّعبيّ أنّ أبا موسى كتب إلى عمر: إنّه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ, فجمع عمر النّاس, فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث, وبعضهم: أرِّخ بالهجرة, فقال عمر: (الهجرة فرّقت بين الحقّ والباطل فأرّخوا بها).[المصنف 7/26]
- والحدث الأهم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاته عليه الصلاة والسلام، لأن وفاته صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء؛ إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
- وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظم هذه المصيبة التي حلت بالمسلمين فقال: ((يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)) [ابن ماجه (1599)]، قال السندي: "((فليتعزّ)) ويخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة". [حاشية السندي على ابن ماجه (1599)]
- وها هي أم أيمن رضي الله عنها بكت حين مات النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لها تبكين فقالت: (إني ـ والله ـ قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت، ولكن إنما أبكي على الوحي الذي انقطع عنا من السماء). [أحمد (12179)]
- وعن أبي بردة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) [مسلم (2531)].
قال النووي: "((وأنا أمنة لأصحابي, فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون)) أي: من الفتن والحروب, وارتداد من ارتدّ من الأعراب, واختلاف القلوب, ونحو ذلك ممّا أنذر به صريحًا, وقد وقع كلّ ذلك".[شرح النووي (8/316) ]
قال أبو العتاهية:
اصبر لكل مصيبة وتجلَّد واعلم بأن المرء غير مخلَّد
واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوبٌ تنوب اليوم تكشف في غد
أوما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصد
فإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
ثانيا: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله.
بشر النبي صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله في آيات عدة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر:30]، وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34، 35]، وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران:144]، وقوله: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [سورة النصر].(/1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أنزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع. [سنن البيهقي (9464)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: (أجَلٌ أو مَثَلٌ ضُرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه) [البخاري (4969)].
وقال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. قال ابن العربي: "وما من شيء في الدنيا يكمل إلا وجاءه النقصان ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله" [العواصم من القواصم (ص59)].
وقد أشعر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أكثر من موطن بقرب أجله وانتقاله إلى جوار ربه، فعن معاذ بن جبل قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ـ أو قال: ـ لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري))، فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) [ أحمد (21547)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي، كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحباً بابنتي))، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكي؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إليَّ: ((إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي)) فبكيت، فقال: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين)) فضحكت لذلك. [البخاري (3624)، مسلم (2450)].
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف، وقال: ((لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)) [الترمذي (886)].
ثالثا: بداية المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وسببه:
كان سبب مرض النبي صلى الله عليه وسلم مؤامرة اليهودية حين دست له السم في طعامه صلى الله عليه وسلم الذي دعته إليه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وأكل القوم فقال: ((ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة))، ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ((مازلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان قطعت أبهَري)) [أبو داود (4512)].
قال في النّهاية: "الأبهر عرق في الظّهر وهما أبهران, وقيل: هما الأكحلان اللّذان في الذّراعين, وقيل: هو عرق مستبطن القلب فإذا انقطع لم تبق معه حياة" [انظر: عون المعبود (21/151)].
وفي الحديث أن أم مبشِّر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما تتَّهِم بنفسك؟ فإني لا أتهم إلا الطعام الذي أكَلَ معك بخيبر، وكان ابنها مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((وأنا لا أتهم غيره، هذا أوان قطع أبهري)) [أحمد ح33415]. فجمع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بين الشهادة على يد قتلة الأنبياء من اليهود وهي أكرم الميتات، وبين المرض والحمى وفيهما ما فيهما من رفع الدرجات.
وأما أول معالم عود المرض إليه صلى الله عليه وسلم فكان بعد رجوعه من دفن أحد أصحابه، قالت عائشة رضي الله عنها: رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وا رأساه، قال: ((بل أنا وا رأساه)) قال: ((ما ضرَّكِ لو متِّ قبلي فغسلتُك وكفنتُك ثم صليتُ عليك ودفنتك))، قلت: لكني ـ أو لكأني ـ بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعتَ إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بُدئ بوجعه الذي مات فيه. [أحمد (25380)، وابن ماجه (1465)].
رابعا: تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين الموت والخلد:(/2)
عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي))، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى))، قال: ثم أقبل عليَّ فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة)) قال: قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: ((لا ـ والله ـ يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل والجنة))، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبُدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قضاه الله عز وجل فيه حين أصبح. [أحمد ( 15567)، الدارمي (78)].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال: ((إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله))، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. [البخاري (3654)، مسلم (2382)].
وتقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخيَّر))، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: ((اللهم في الرفيق الأعلى))، فقلت: إذًا لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح. [البخاري (4437)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من نبي يمرض إلا خيِّر بين الدنيا والآخرة))، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [النساء:69]، فعلمت أنه خير.[البخاري (4586)، ومسلم (2444)]
واختلف العلماء في مراده صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى على أقوال، فقيل : الله عز وجل، وقيل: ملائكته، وقيل: أنبياؤه، وقيل: الجنة، ولكل منها دليل.
قال ابن حجر: "قال الجوهريّ: الرّفيق الأعلى الجنّة، ويؤيّده ما وقع عند أبي إسحاق: الرّفيق الأعلى الجنّة, وقيل: بل الرّفيق هنا اسم جنس يشمل الواحد وما فوقه، والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية، وقد ختمت بقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}... وزعم بعض المغاربة أنّه يحتمل أن يراد بالرّفيق الأعلى اللّه عزّ وجلّ لأنّه من أسمائه، كما أخرج أبو داود من حديث عبد اللّه بن مغفّل رفعه: ((إنّ اللّه رفيق يحبّ الرّفق)) كذا اقتصر عليه, والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى. قال: والرّفيق يحتمل أن يكون صفة ذات كالحكيم, أو صفة فعل. قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس, ويحتمل أن يراد به الجماعة المذكورون في آية النّساء، ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على طاعة اللّه وارتفاق بعضهم ببعضٍ, وهذا الثّالث هو المعتمد، وعليه اقتصر أكثر الشّرّاح" [فتح الباري (8/137)].
وأما دليل من قال بأن المقصود هم الملائكة فهو قوله صلى الله عليه وسلم في رواية ابن حبّان: ((أسأل اللّه الرّفيق الأعلى الأسعد, مع جبريل وميكائيل وإسرافيل)) [ابن حبان (14/555)]، وظاهره أنّ الرّفيق المكان الّذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين.
خامسا: مرض النبي صلى الله عليه وسلم:
بدأ المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم في مطلع شهر ربيع الأول، وقد نُقل إلينا بعض أخباره وأحواله صلى الله عليه وسلم في مرضه:
من أحواله صلى الله عليه وسلم قبل اشتداد المرض:
قالت عائشة: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي، فأذنَّ له، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخطُّ رجلاه في الأرض، بين عباس ورجل آخر، قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس فقال: أتدري من الرجل الآخر؟ قلت: لا، قال: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكانت عائشة رضي الله عنها تحدِّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعدما دخل بيته واشتد وجعه: ((هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس))، وأُجلس في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا نصب عليه تلك حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس. [البخاري (198)، ومسلم (418)].(/3)
قال ابن حجر في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سبع قرب)): "قال الخطّابيّ: يشبه أن يكون خصّ السّبع تبرّكًا بهذا العدد; لأنّ له دخولاً في كثير من أمور الشّريعة وأصل الخلقة. وفي رواية للطّبرانيّ في هذا الحديث: ((من آبار شتّى))، والظّاهر أنّ ذلك للتّداوي لقوله في رواية أخرى في الصّحيح: ((لعلّي أستريح فأعهد)) أي: أوصي". [فتح الباري (1/303)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبٌ رأسه بخرقة فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)).
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فخرج أبو بكر فصلى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه. قيل للأعمش: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم. [البخاري (664)، مسلم (418)].
وعن أنس بن مالك قال لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه، فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يُقدَر عليه حتى مات. [البخاري (681)، مسلم (419)].
وعن هشام عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: ((أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)) حرصاً على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن. [البخاري ح3774].
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه. [البخاري (4439)، مسلم (2192)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حُضِر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده))، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا، يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا عني)). قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. [البخاري (114)، مسلم (1637)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لددنا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال: ((لا تلدوني)) فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: ((لا يبقى أحد منكم إلا لُد غير العباس فإنه لم يشهدكم)) [البخاري (4458)، مسلم (2313)].
قال ابن حجر: "قوله: ((لددناه)) أي: جعلنا في جانب فمه دواء بغير اختياره, وهذا هو اللّدود. وفي قوله: ((فجعل يشير إلينا أن لا تلدّوني)), فقلنا: كراهية المريض للدّواء، وإنّما أنكر التّداوي لأنّه كان غير ملائم لدائه, لأنّهم ظنّوا أنّ به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها, ولم يكن به ذلك" [فتح الباري (8/147)].
شدة وجعه صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة: ما رأيت رجلاً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. [البخاري (5646)، مسلم (2570)].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكاً شديداً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم))، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) [البخاري (5648)، مسلم (2571)].(/4)
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ويمسح وجهه بالماء وهو يقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت)) [ أحمد (23835)، والترمذي (978)، وابن ماجه (1623)].
وعن أنس رضي الله عنه قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة: وا كرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) [البخاري (2644)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن أمه أم الفضل قالت: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، فقرأ بالمرسلات قالت: فما صلاها بعد حتى لقي الله. [البخاري (4429)، مسلم (462)].
مدة مرضه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن حجر: "اختُلف أيضاً في مدة مرضه عليه السلام، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوماً، وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه... وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح". [فتح الباري (7/736)].
سادسا: وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته:
لا ريب أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً موضع للعبرة والعظة، لكنه صلى الله عليه وسلم اختص أمته ببعض النصح وهو في مرض موته، وهو مقبل على الآخرة مدبر عن الدنيا، فما هي آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم؟
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجداً))، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً. [البخاري (1330)، مسلم (531)].
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى، قلت: يا أبا عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ((ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً))، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع... فقال: ((ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه))، فأمرهم بثلاث قال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم))، والثالثة خير، إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. [البخاري (3053)، مسلم (1637)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئاً يضر فيه قوماً وينفع فيه آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم))، فكان آخر مجلس جلس به النبي صلى الله عليه وسلم. [البخاري (3628)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: ((أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم)) [البخاري (479)].
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: ((الصلاةَ وما ملكت أيمانكم))، فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه. [ابن ماجه (1625)].
قال السندي: "قوله: ((الصّلاة)) أي الزموها واهتمّوا بشأنها ولا تغفلوا عنها، ((وما ملكت أيمانكم)) من الأموال أي أدّوا زكاتها ولا تسامحوا فيها... ويحتمل أن يكون وصيّة بالعبيد والإماء أي: أدّوا حقوقهم وحسن ملكتهم، فإنّ المتبادر من لفظ: ما ملكت الأيمان في عرف القرآن هم العبيد والإماء، قوله: ((حتّى ما يفيض بها لسانه)) أي: ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه، من فاض الماء إذا سال وجرى حتّى لم يقدر على الإفصاح بهذه الكلمة" [حاشية السندي على ابن ماجه (1625)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) [ابن ماجه (2697)].
سابعا: اليوم الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم:
عن أنس بن مالك الأنصاري أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر، فتوفي من يومه. [البخاري (680)، مسلم (419)]، وفي رواية أخرى: وتوفي من آخر ذلك اليوم. [البخاري (754)].(/5)
قال ابن كثير: "وهذا الحديث في الصحيح، وهو يدل على أن الوفاة وقعت بعد الزوال، وذهب النووي وابن رجب إلى أنه توفي ضحى ذلك اليوم" [البداية (5/223)، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (ص 23)، لطائف المعارف (ص 113)].
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمره وبين يديه ركوة أو علبة -يشك عمر- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات))، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) حتى قبض ومالت يده. [البخاري (4449،5217)، مسلم (2443)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ البخاري (4982)، مسلم (3016)].
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق)) [البخاري (2444)، مسلم (4440)].
قالت: فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))، قالت: فكانت آخر كلمة تكلم بها ((اللهم الرفيق الأعلى)) [البخاري (4463)، مسلم (2444)].
قال ابن حجر: "وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعاً... ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عقبة والليث والخوارزمي وابن زبر مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه ورجحه السهيلي"، وهذا الأخير هو الذي اعتمده الحافظ. [فتح الباري (7/736)].
ثامنا: عُمْر النبي صلى الله عليه وسلم حين مات:
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين. [البخاري (4466)، مسلم (2349)].
وصح مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما. [البخاري ( 3903)].
وفي رواية أخرى عن ابن عباس: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين. [مسلم (2353)].
وصح عن أنس رضي الله عنه أنها ستون سنة. [البخاري (5900)].
وجمع النووي بين الأقوال، فقال: "توفي صلى الله عليه وسلم وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، وقيل: ستون سنة، والأول أصح وأشهر، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح.
قال العلماء: الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور، ومن روى خمساً وستين عد سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثاً وستين لم يعدهما، والصحيح ثلاث وستون". [تهذيب الأسماء واللغات للنووي (ص23)].
تاسعا: حزن الصحابة على فقد حبيبهم صلى الله عليه وسلم:
قال ابن رجب: "ولما توفي اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية" [لطائف المعارف (ص114)].
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنح.. فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً. ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: (ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وقال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ}، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ َ}، فنشج الناس يبكون. [البخاري (3670)]
وعن أنس أن فاطمة بكت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات فقالت: (يا أبتاه، من ربُّه ما أدناه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه) [النسائي (1844)]
ويقول أنس رضي الله عنه: (قلّ ليلة تأتي علي إلا وأنا أرى فيها خليلي عليه السلام) ويقول ذلك وتدمع عيناه. [أحمد (12855)](/6)
وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: (وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه) [أحمد (23509)].
ولما دفن قالت فاطمة عليها السلام: (يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!) [البخاري (4462)].
وقال أنس: (فما رأيت يوما قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر المدينة، وشهدت وفاته فما رأيت يوماً قط أظلم ولا أقبح من اليوم الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه) [أحمد (11825)].
قال أبو ذؤيب الهذلي: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله عليه وسلم. [انظر: فتح الباري (8/580)].
وقال عثمان: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة - وقد بويع أبو بكر – إذ مر بي عمر فسلم علي، فلم أشعر به لما بي من الحزن. [الطبقات الكبرى (2/84)].
لكن حزن الصحابة وعظيم المصاب لم يخرجهم عن الصبر والتصبر إلى النواح والجزع، قال قيس بن عاصم: (لا تنوحوا علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنَح عليه). [النسائي (1851)].
عاشرا: غسل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه ودفنه:
قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله، ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلِّم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه). [أبو داود (3141) ].
وعنها رضي الله عنها قالت: دخلتُ على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: ((فأي يوم هذا؟)) قالت: يوم الاثنين، قال: ((أرجو فيما بيني وبين الليل))، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرَّض فيه به ردع من زعفران، فقال: ((اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها))، قلت: إن هذا خلق، قال: ((إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة))، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح. [البخاري (1387)].
قال ابن كثير: "والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه عليه السلام توفي يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء" [البداية (5/237)].
سئل أبو عسيب وقد شهد الصلاة على رسول الله: كيف صلِّي عليه؟ قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر. [أحمد (20242)].
وعن سعيد بن المسيب قال: لما توفي رسول الله وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمراً زمراً يصلون عليه ويخرجون ولم يؤمهم أحد. [مصنف ابن أبي شيبة (7/430)]
قال ابن كثير: "وهذا الصنيع ـ وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه ـ أمر مجمع عليه لا خلاف فيه" [البداية (5/232)].
وعن أنس بن مالك قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم.[ابن ماجه (1557)]
وعن أبي مرحب أن عبد الرحمن بن عوف نزل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: كأني أنظر إليهم أربعة.
قال ابن إسحاق: "وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" [انظر: سيرة ابن هشام (4/418)].
وعن أنس بن مالك قال: ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. [الترمذي (3618)، ابن ماجه (1631)].
كتبه
د. منقذ بن محمود السقار
mongiz@maktoob.com(/7)
وفاة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)
153
السيرة النبوية
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
ملخص الخطبة
1- وفاة نبينا أعظم مصيبة يصاب بها المسلم 2- حَنين الجذع إلى النبي حال حياته 3- مرض النبي صلى الله عليه وسلم 4- ملك الموت يستأذن رسول الله في قبض روحه 5- وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 6- اضطراب الصحابة بعد وفاته 7- مكر اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
أما بعد:
أمة الإسلام: لقد كانت وفاة النبي – - مصيبة حلت بكل مسلم.
وللمصائب سلوان يهونها وما لما حل بالإسلام سلوان
روي عن النبي – - أنه قال: ((أن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد من مصيبتي)) يعني مصيبته بموتي، رواه ابن ماجة[1].
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
نعم أيها الإخوة إذاً! كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة رسول الله – - فكيف بقلوب المؤمنين؟!.
لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه النبي – - قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه، وصاح كما يصيح الصغير حتى تصدع وانشق، فنزل النبي – - من على المنبر فاعتنقه، فجعل يهدؤه كما يهدئ الصبي، وقال: ((لو لم أعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة))[2].
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
كان الحسن إذا حدث بهذا بكى، وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله – - فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
جعل النبي – - في آخر عمره يعرض باقتراب أجله. فإنه لما خطب في حجة الوداع، قال للناس: ((خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا))[3]. وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع.
ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس فخطبهم وقال: ((أيها الناس: إنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب))[4].
وعن أبي سعيد الخدري – - قال: خرج رسول الله في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر فقال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها، فاختار الآخرة))، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر – - فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا يا رسول الله. ثم هبط رسول الله من على المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة))[5].
ورأى العباس بن عبد المطلب – - عم النبي – - في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان [6] شداد – يعني حبال – فقصها على رسول الله – - فقال: ((ذاك وفاة ابن أخيك)) رواه الطبراني[7].
كل هذا توطئه لوفاة النبي – -. بدأ المرض برسول الله – - في أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما أو قريبا من ذلك. وكان أول ما ابتدئ به رسول الله – - من مرضه وجع رأسه، وكان صداع الرأس يعتريه كثيرا في حياته، ويتألم منه أياما. وفي مرضه اشتدت عليه الحمى، فكان يجلس في مخضب، ويصب عليه الماء من سبع قرب، يتبرد بذلك.
وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على القطيفة، ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه، ثم يفيق.
قالت عائشة – رضي الله عنها – ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله – - [8].
واشتد عليه الوجع ليلة الاثنين، وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت)). قالت عائشة رضي الله عنها: وكان يقول: ((لا إله إلا الله، وإن للموت لسكرات))[9].
وفي حديث معضل أنه قال: ((اللهم أعني على الموت وهونه عليّ))[10].
لما ثقل النبي – - جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة – رضي الله عنهما-: واكرب أبتاه! فقال لها: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم))[11].
ولم يقبض رسول الله- - حتى خير بين الدنيا والآخرة، غشي عليه ساعة، وهو على فخذ عائشة – رضي الله عنها – وكانت تنظر إليه متحيرة حبيبها بين يديها يموت، ولا تملك له نفعا، ولا تدفع عنه ضرا. ثم أفاق، فاشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))[12]. فاختار لقاء ربه. وأصابته بحة شديدة، وقال: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء:69]. اختار رسول الله – - الآخرة على الدنيا، وأحب لقاء ربه.
والله لو أنك توجتني بتاج كسرى ملك المشرق
وقلت لي: لا نلتقي ساعة اخترت يا مولاي أن نلتقي
قال عبد الله بن مسعود – -: نعي إلينا حبيبنا ونبينا – بأبي هو ونفسي له الفداء – قبل موته بست، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت آمنا عائشة – رضي الله عنها – فنظر إلينا فدمعت عيناه. رواه البزار[13].
حق والله لتلك العينين أن تدمع، إنها صعوبة الفراق والنأي عن الأحباب.
ومدت أكف للوداع تصافحت وكادت عيون للفراق تسيل(/1)
وفي أيامه الأخيرة وقد عصبت رأسه قال للفضل: خذ بيدي فأخذ الفضل بيد النبي حتى انتهى إلى المنبر ثم قال للفضل: صح في الناس فلما اجتمعوا، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ((يا أيها الناس إني قد دنا مني أجلي فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله – - ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حق إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس ألا وإني لا أرى ذلك مغنيا عني حتى أقوم فيكم مرارا)) رواه الطبراني[14].
وكانت وفاته – - في يوم الاثنين ثاني عشر من شهر ربيع الأول.
وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر، فهم المسلمون أن يفتتنوا من فرحهم برؤيته حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحب، وظنوا أنه يخرج للصلاة، وأنه شفي من مرضه، جعل النبي – - ينظر إليهم وهم ينظرون إليه.
إنها النظرات الأخيرة، نظرة الوداع.
هممت بتوديع الحبيب فلم أطق فودعته بالقلب والعين تدمع
فأشار إليهم النبي – - أن مكانكم ثم أرخى الستر وتوفي رسول الله – - حين اشتد الضحى من يوم الاثنين.
وروي أن ملك الموت استأذن النبي – - في قبض روحه، فقال: ((امضِ لما أمرت به)) فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! هذا آخر موطئي من الأرض وجاءت التعزية يسمعون الصوت ولا يرون الشخص كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [آل عمران:185]. إن في الله عزاء من كل مصيبة.
وكانت وفاته – - في يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول بغير خلاف، والمشهور أنه كان ثاني عشر ربيع الأول.
ولما توفي رسول الله – - اضطرب المسلمون؛ فمنهم من دهش فخولط؛ ومنهم من أقعد فلم يطق القيام؛ ومنهم من أعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية من شدة وجده عليه.
بلغ أبا بكر الصديق – - الخبر، فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة – رضي الله عنها – ورسول الله – - مسجى، فكشف أبو بكر عن وجه رسول الله – - وأكب عليه، وقبل وجهه مرارا وهو يبكي، ويقول: وانبياه! واخليلاه! واصفياه!.
إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله.
فلو أن رب العرش أبقاك بيننا سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
ودفن رسول الله – - ورجع أصحابه بعد دفنه.
لئن رجعت عنك أجسامنا لقد سافرت معك الأنفس
فقالت فاطمة – رضي الله عنها -: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله – - التراب ؟[15].
لبيك رسول الله من كان باكيا فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا
جزى الله عنا كل خير محمدا فقد كان مهديا وقد كان هاديا
وكان رسول الله روحا ورحمة ونورا وبرهانا من الله باديا
وكان رسول الله بالقسط قائما وكان لما استرعاه مولاه راعيا
وكان رسول الله يدعو إلى الهدى فلبى رسول الله لبيه داعيا
أينسى رسول الله أبر الناس كلهم وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا
أينسى رسول الله أكرم من مشى وآثاره بالمسجدين كما هيا
تكدر من بعد النبي محمد عليه سلام كل ما كان صافيا
وبعد موت النبي – - دخل أبو بكر المسجد، وعمر يكلم الناس، وهم مجتمعون عنده، وهو يقول من شدة وجده على النبي – -: إن محمدا لم يمت. فتكلم أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر. فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وتلا:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران:144].
فاستيقن الناس بموت النبي – - وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل، فتلقاها الناس، وجعلوا يتلونها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
[1] رقم (1599)، ضفعه البوصيري في الزوائد (578) وعزاه لابي يعلى الموصلي في مسنده .
[2] أحمد (1/249)، وابن ماجة (1415)، والدارمي (1/19) ، والطبراني (12/187)، غيرهم . وصححه ابن كثير وانظر طرقه عنده في البداية : 6/131 فما بعد وكذا الالكائي : 4/797 . وقال البوصيري في الزوائد (500): اسناد صحيح رجاله ثقات . وعزاه لاحمد بن منيع في مسنده وعبد بن حميد والحارث ابن ابي اسامة . وانظر رقم (501).
[3] جزء من حديث جابر الطويل رواه مسلم (1297).
[4] مسلم (2408).
[5] أحمد (3/91) ، وابن حبان (593)، الإحسان ، وابو يعلى (1155)، والدارمي (87) وانظر صحيح البخاري (3904)، ومسلم (2382).
[6] الشطن :الحبل.
[7] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/24): رواه البزار الطبراني ورجالهما ثقات .
[8] البخاري (5646)، ومسلم (2570)والنسائي وابن ماجة كما في تحفة الأشراف :12/307.
[9] انظر جامع الاصول لابن الاثير الجزري :11/64.
[10] قال العراقي في تخريج للإحياء(3930) : رواه ابن ابي الدنيا في كتاب الموت من حديث طعمة بن غيلان الجعفي وهو معضل سقط منه الصحابي والتابعي .
[11] البخاري (4462)، وابن ماجة (1629)، والدارمي :1/41، من حديث أنس – - .
[12] البخاري (4437)، ومسلم (2444)،واحمد:6/89.(/2)
[13] انظر قول البزار فيه في مجمع الزوائد :9/25، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وهو ثقة . رواه الطبراني في الاوسط بنحوه .
[14] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/26): رواه الطبراني في الكبير والاوسط وأبو يعلى بنحوه … وفي إسناد أبي يعلى عطاء بن مسلم، وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جماعة ، وبقية رجال أبي يعلى ثقات وفي إسناد الطبراني من لم اعرفهم . اما قصة القضيب والقصاص من رسول الله – - فباطل . انظر مجمع الزوائد للهيثمي (9/31) قال : رواه الطبراني وفيه عبد المنعم بن ادريس وهو كذاب وضاع .
[15] البخاري (4462)، وابن ماجة (1629)، والدارمي :1/41 ، من حديث أنس – - .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أمة الإسلام: إن حبيبكم ونبيكم محمدا – - مات شهيداً قتيلا مسموما.
قتله وسمّه تلك الأمة المغضوب عليها (اليهود) أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل قتلة الأنبياء وأكلة السحت، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء وديدنهم العداوة والشحناء بيت السحر والكذب والحيل، لا يرعون لنبي حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
لما كان يوم خيبر أهدت امرأة يهودية للنبي – - شاة مسمومة فأكل منها فجعل السم يثور عليه أحيانا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي – - يقول في مرض موته: ((لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم))[1].
والأبهر: عرق في الظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.
وجعل الله موت نبيه على يد اليهود لننابذهم العداوة.
أساجلك العداوة ما بقينا وإن متنا نورثها البنينا
إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده [سورة الممتحنة:4].
أمة الإسلام: إن اليهود قتلوا عددا من الأنبياء والأصفياء، وتواتر غدرهم ونقضهم للمواثيق، ومن الأمثلة على ذلك ما حصل من يهود بني قينقاع، كان بينهم وبين النبي – - عهد إلا أنهم نقضوا عهدهم بإعتدائهم على امرأة مسلمة حين دخلت سوق بني قينقاع، وجاءت إلى صائغ يهودي لعلها تشتري منه حليا، فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها من خلف، وعقده إلى ظهرها، وهي جالسة دون أن تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحك اليهود وسخروا بها، فصاحت المرأة واستغاثت بالمسلمين لشرفها المهان، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله فشدت اليهود على المسلم فقتلوه وقامت الحرب بين المسلمين واليهود.
فأجلى النبي – - يهو بني قينقاع من المدينة.
وهكذا يهود بني النضير حين أتاهم النبي – - في نفر من أصحابه وقعد إلى جنب جدار.
قال اليهود: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلوا على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه. فلما صعد أحدهم ليلقي على رسول الله – - الصخرة، نزل الوحي على رسول الله – - وأخبره بغدر اليهود.
فرجع النبي – - إلى المدينة وجهز الجيش وأجلى يهود بني النضير منها.
وهكذا بنو قريظة، نقضوا عهدهم وخانوا رسول الله – - يوم الأحزاب حين تكالب عليه أعداؤه ولكن الله سلط عليهم رسوله والمؤمنين وعاقبهم رسول الله – - عقابا شديدا وطهر رسول الله – - المدينة من اليهود.
وهذا لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، سحر النبي – - في مشط ومشاطة ووضعة في بئر (ذروان) حتى كان النبي – - يخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله[2].
هذه صور من غدرهم ومكرهم عليهم لعنة الله. فهل من مدكر.
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد [آل عمران:12].
[1] البخاري (4428)، واحمد :6/18.
[2] البخاري (3268)، ومسلم (2189)، ابن ماجة (4535)، أحمد:6/57.(/3)
وقفات دعوية في العطلة الصيفية
" عبد السلام العييري "
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْعَصْرِ ( ) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( ) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( ) }1
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
إن من الواجب على الشباب المسلم نصرة دين الله والعمل لأجل هذا الدين ، ومن أهتم لهذا الأمر أستغل جميع الفرص المناسبة للدعوة فإن مرت عليه إجازة فإنها لا تنقضي حتى يتشبع منها وهو يعمل للدين، وإن مرت به عطلة الأسبوع أستغلها أحسن استغلال. فالمؤمن في هذه الحالة يصدق عليه أنه كيس فطن لا يترك الفرص ولا يدعها تفوت عليه. ولا يفوّتها على غيره، فعليه في المواسم والإنجازات أن يملأ الفراغ المحيط به وإلا ساءت حاله وتراجع عن الهداية. ومن باب المشاركة وتفتيق الأذهان وفتح المجالات أردت الكتابة عن هذا الموضوع، سائلا الله عز وجل الإعانة والتسديد والعفو عن الزلل.
وقد قسمتها إلى عدة مجالات وطرق بدأت بما يتعلق بالنفس وكيف يتعامل معها الشاب لئلا تفلت عليه ثم ارتقيت إلى البيت والجيران وجماعة المسجد والحي ثم المدينة ثم المنطقة ثم القرى والهجر المجاورة .
أ – فيما يتعلق بالنفس وما هي الأسباب والوسائل التي تعين الشاب على الثبات واستغلال أوقاته ونفع نفسه:
1. لا يستغني الشاب عن كتاب الله حفظاً وتلاوة وفهما وتعلماً وتعليماً. وإن استغنى عن الطعام والشراب وقتاً ومن الأوقات إلا أن حاجته إلى الوحي أعظم وأشد، يقول الإمام أحمد: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام الشراب فإنهم يحتاجون الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وأما العلم فيحتاجونه بعدد أنفاسهم. آه
2. الحفظ إما عن طريق شيخ أو معلم وهذا الأولى فإن لم يوجد فمع إمام المسجد أو الزملاء أو الأصدقاء فإن لم يحصل ذلك فبينك وبين نفسك.
3. حفظ السنة وهي المبنية للقرآن فعلى حسب قرب الشاب من الكتاب والسنة تحصل له النجاة وعلى حسب بعده وإحجامه عنهما يحصل له الهلاك والعطب. فإن لم يستطع الحفظ فيقرأ الأربعين النووية ثم عمدة الأحكام ثم بلوغ المرام ثم البخاري ومسلم ويكررها حتى ترسخ في الذهن.
4. لا يستطيع الشاب الاستمرار في طريق الهداية الطلب إلا عن طريق شيخ يرتبط به في درس إما في العقيدة أو الفقة أو الحديث أو الأصول أو هي جميعاً ويقدم منها ويؤخر ما شاء على حسب اهتمامه وحاجته .
5. من الطرق النافعة في طلب العلم أن يقسم الإجازة على حسب العلوم والفنون فمثلا في العطلة الصيفية يركز اهتمامه على التوحيد فيتدرج في متونه حفظاً وفهماً وقراءة وبحثاً فيرتقي في هذا الفن حتى يتقنه ثم ينتقل إلى فن أخر وهكذا. فما تمر عليه عدة إجازات حتى يضبط عدة متون من عدة فنون.
6. العبادة أمرها مهم في حياة الشاب فمما تستغل به الإجازات الصيام والقيام والأذكار والنوافل وعموم الطاعات وهي من أسباب محبة الله وإعانته للعبد ،كما جاء في الحديث القدسي عند البخاري ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ).
7. ترتيب الأوقات فالذي يعين الشاب على تطبيق ما تقدم اهتمامه بوقته فإن كان حريصاً عليه مستغلا له استفاد وإلا ندم.
والوقت يستطيع تقسيمه لعدة أجزاء كل جزء لإنجاز عمل معين فمثلا بعد الفجر الجلوس في المسجد لحفظ القرآن ومراجعته ثم الانتقال إلى السنة إما حفظاً أو قراءة. ثم بعد ذلك إن كان عنده درس وإلا جلس في المكتبة للإطلاع والبحث والمراجعة والتحضير، وبعد العصر هكذا، وبعد المغرب يتركه لأهله ثم بعد العشاء ينام ليقوم بنفس العمل من اليوم الثاني.
8. من أسباب إضاعة الأوقات وغثائية كثير من الشباب كثرة الخلطة والاجتماع والقيل والقال، فمما يؤسف له أن نجد بعض الشباب المنتمين للصحوة يجلسون الساعات الطوال في قيل وقال ثم ينتقلون إلى المكروه من الأقوال والأفعال.
فإذا أحسن الشاب استغلال وقته وضبطه ارتاح وانتفع .
9. من العجيب أن تقام الدورات الشرعية الصيفية في بعض المدن وتجد كثيراً من الشباب غافلاً عنها مع أنها تضم ثلة من طلبة العلم الذين قد لا يتهيأون في أجازات قادمة . ولو عكف الشاب على الكتب عدة ساعات ما استطاع أن يستخرج المسائل كاستخراج الشيخ أثناء الدرس لأن الشيخ جلس لطلاب العلم واستفاد من جلوسه،فهو يعرف مداخل ومخارج المسائل، وكيف يوردها؟ وماذا يُغفل من المسائل؟ وهل كل مسألة تطرح أم لا؟ وما هي المسائل الجديرة بالطرح والاهتمام؟
10.القراءة على حسب الدرس الذي تأخذه من الشيخ فإن لم يكن عندك درس فعلى حسب الفنون أو على حسب ما تحتاجه.(/1)
11.لا يرسخ العلم ولا يستفاد منه إلا بالتقييد فإنك إن تركت تدوين الفوائد نسيتها ، أما لو جعلت لك لكل فن أوراقاً خاصة أو دفاتر تضم الفوائد المعلومات المتناثرة في الكتب فإنك بهذه الطريقة تجمع مواد متكاملة بلا عناء ولا تعب وأنفع ما جرب في ذلك الباب، تقييد الفوائد والمسائل الواردة من كل كتاب في كل الصفحات البيضاء الأولى من كل كتاب ، فإن كانت المسألة طويلة أقتصر على ذكر طرف منها وذكر الصفحة. ويمكن فيما بعد تصويرها من كل كتاب وجمعها في ملف واحد.
12.الشريط له فوائد لا تحصل في غيره وكيفي أنه يدخل في كل بيت بلا استئذان وأنه يجلس مع الصغير والكبير والمرأة والطفل وكل أفراد المجتمع فالناس بحاجة إليه.
وفي التسجيلات أشرطة ذات فوائد جمة مؤصلة فلا بد أن يكون للشباب نصيب منها سمعاً وتلخيصاً وجمعاً .
13.كثير من الأشرطة النافعة كالأشرطة العلمية لا تتم الفائدة منها إلا بتكرار سماعها أكثر من مرة كحال الكتب المقروءة فيحسن تكرار سماعها.
14. يستطيع الشاب الاستفادة من الأشرطة إذا وضع له دفتراً وفرغ فيه عدة أشرطة وزاد عليها بعض الفوائد وبهذه الطريقة يخدم التسجيلات الإسلامية في تلخيص الأشرطة وأخذ الفوائد والقصص منها فإذا أراد أصحاب التسجيلات إنتاج شريط منوع أخبرهم بمواده المتفرقة.
بل ويستطيع الشاب إعداد دروس متكاملة من خلال الأشرطة في شروح المتون أو غيرها .
وأيضا فهو يخدم من يريد توزيع الأشرطة لكل فرد من أفراد المجتمع. فإذا استمع إلى عشرة أشرطة حول الشباب استطاع أن ينصح من يريد التوزيع بما يراه المناسب منها وهكذا الأشرطة حول المرأة وغيرها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الشباب يريد توزيع الشريط لكنه لم يستمع إليه وليس عنده تصور عما يريد توزيعه فقد يقوم بتوزيع شريط لا يناسب أو تكون فائدته قليلة فالأولى أن لا تصرف فيه التبرعات وغيره أولى منه.
15. على الشاب أن ينمي مهاراته في المجال الذي يحسنه فإن كان يحسن توزيع الكتاب والشريط اهتم وعمل ما استطاع لأجل إيصالها للناس بشرط ألا يغفل عن جوانب أخرى فلا يؤثر التوزيع على حفظه للقرآن والسنة ولا على الدروس. فيعمل كل ما تقدم ويهتم بجانب واحد منها مع الاستمرار في المجالات الأخرى .
16. إن لم يأت أحد طلاب العلم لمنطقتك أو بلدتك لإقامة الدروس فعليك بأهل العلم الذين عندك ولا تكاد تخلو منطقة من المناطق إلا فيها من أهل العلم وطلابه والدعاة والمصلحين وطلاب الجامعات، فما علينا إلا أن نحرك هؤلاء ونستفيد منهم ومن علومهم ونربطهم بالشباب فيحصل من هذا خير كثير.
ب – واجبنا تجاه بيوتنا :
1. إن لأهلك عليك حقا وأولى من تقدم لهم هذه الحقوق وهذه المنافع الوالدان.
2. البر بالوالدين وخدمتهما والقيام بشؤونهما من أسباب هدايتهما، وقد اهتدى كثير من الآباء والأمهات بسبب بر أبناءهم بهم.
3. نفع أهل البيت وخدمتهم من أسباب قبول الدعوة إذا صدرت ممن نفعهم.
4. بعض الأسر تتساهل في الخروج إلى الأسواق أو الشواطئ أو المنتزهات المختلفة ففي هذا مفاسد كثيرة على أهله فعليه أن يبن لهم خطورة هذا الأمر ويمتنع من الذهاب بهم وأن يناصحهم بحكمة وحسن خلق وأبلغ أسلوب في التأثير على أهل البيت كون الشباب قدوة طيبة في عبادته وسلوكه وخدمته لأهل بيته وتركه لما حرم الله من الأقوال والأفعال.
5. على الشاب مسؤولية عظيمة تجاه بيته وإنه من المؤسف أن يمتد نفع بعض الشباب إلى القاصي والداني أما أهل بيته فلم يظفروا منه بشي بل لا يروه إلا عند الطعام والنوم ، فيكون حينئذ كما تقول العامة: كالنخلة العوجاء بطاطها في غير حوضها.
6. إذا قام منكر في البيت فعلى الشاب أ، يتلطف بوالديه ويطلب منهم إزالته وأن لا يقدم على أمور تزيد المنكر وأن لا يتسلط على أهله بل يواصل النصح والتعليم والدعوة بالتي هي أحسن ، لكن عليه أن يلاحظ المنكر الأكبر منها فيحاول إزالته وأن يؤخر الأخف منهما لأنه إذا طالب بإزالة عدة منكرات في وقت واحد ثقل على أهله ذلك.
7. في حالة إزالته للمنكر يعطي أهله البديل من الخير ولا يكتفي بالإنكار والتحريم فقط بل لا بد من الأمر بالمعروف وتهيئة سبل الخير في البيت، والأسباب والوسائل متنوعة ولله الحمد ، فإن أخرج التلفاز من بيته ومنع إخوته الصغار منه فعليه توفير البديل المناسب من كتاب وشريط وربطهم بحلقة في المسجد والخروج بهم في رحلة وإحضار الألعاب المسلية لهم وهكذا.
8. وضع حلقة للعلم في البيت يحضرها أفراد الأسرة فيحفظون فيها شيئاً من القرآن مع معرفة تفسيره وحفظ شيئا من الأحاديث مع ضبط شروحها وطرح بعض المواضيع المناسبة والمسابقات والفوائد والإجابة على بعض الأسئلة المهمة في البيت في أحكام الطهارة والصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من المواضيع المهمة.
9. إذا قام الشاب بإصلاح نفسه وبيته عليه أن يحافظ على هذا ولا يترك المجال لغيره في الإفساد.(/2)
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ؟ إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ولا شك أن أهله سيرتبطون بالأهل والأقارب والجيران فعليه أن يؤثر في الأقارب من خلال أهله وأن يوفر لهم الكتاب والشريط والنشرة على حسب المواسم يوصلها لهم من طريق أمه وأخته أو زوجته .
10.مما يسبب فساد بعض الأسر التعرف على بيوت غير محافظة فعلى الشاب أولاً تبيين الأمر لوالديه وأن هذا الأمر يضر بأهله ويسئ لهم فإن لم يوافق على هذا فله أن يمتنع عن الذهاب بهم وأن يواصل مناصحتهم إلا إذا كانوا يذهبون إلى أقارب فلهم حق القرابة فيذهب إليهم ولا يطيل عندهم ولا يقرهم على المنكر وينهاهم بالتي هي أحسن.
جـ - الدعوة في المسجد:
فرص الدعوة كثيرة وسهلة لأنها واسعة كما تقدم وإن من أعظم هذه المجالات التي ينبغي استغلالها المسجد ومما يؤسف له أنك تجد ذلك الشاب الصالح المستقيم يصلي في هذا المسجد الفروض الخمسة لأعوام عديدة وما حدث نفسه أن يقدم شيئاً من الدعوة في مسجده المجاور له الذي لا يحتاج عناء ولعل في هذه التوجيهات التي أقدمها لك دفعة قوية تقدم من خلالها ما تستطيع .
1. المسجد فرصة للدعوة إلى الله والمجال مفتوح والمكان مهيأ وتتوفر فيه أمور لا تتوفر في غيره.
2. المسجد ملتقى للمجتمع كله الصغير والكبير الذكر والأنثى والغني والفقير فبإمكان إمام المسجد أو من يصلي معه من الشباب إيصال الدعوة لهؤلاء.
3. إذا اهتم الشاب بإصلاح نفسه وبيته عليه بتوسيع دائرة الدعوة فينتقل إلى المسجد ثم إلى الجيران، بل عليه يسعى إلى القيام بذلك حتى ولو لم يتم فراغه من إصلاح نفسه وبيته فيقوم بذلك كله في أن واحد.
4. المساجد ليست للصلاة فقط بل إن أهدافها أعظم وأوسع وصلاة الجماعة من حكم شرعيتها الاجتماع والتعرف فإذا صلى المسلم وخرج ولم يتعرف على أحد فإنه لم ستفد من هذه الشعيرة العظيمة الاستفادة المطلوبة.
5. الإمام هو أول من يتحمل مسؤولية الجماعة ثم بعده المؤذن فالإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، ويستطيع الإمام بمسؤوليته إذا هيأ المسجد للدعوة وخاطب قلوب الجماعة من خلال الكلمة المنضبطة والحديث والجلسة والزيارة.
6. لا يستطيع الإمام التأثير على جماعته حتى يواظب على الإمامة ما استطاع وألا ينقطع إلا بعذر.
7. إذا واظب على الصلاة في مسجده استطاع أن يتابع المتخلفين.
8. لابد للمصلين من كلمة أو حديث أو درس ثابت إما أن يجعلها كل يوم أو يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع على حسب الحاجة وإقبال الجماعة على ذلك.
9. يغفل بعض الأئمة عن أهمية الدرس أو الكلمة مع أنه يستطيع أن يبلغهم ما يريد من العلم.
10.الدروس والكلمات إما أن يجعلها الإمام سلسلة في العقيدة أو الفقة أو تفسير القرآن أو شرح الأحاديث أو مواضيع عامة حسب المواسم والمناسبات وألا يغفل عن التراجم والسير والقصص فإنها أخف على النفوس من الأحكام.
11.أن يقدم المناسب منها فلا يتكلم مثلاً عن التيمم ويشبع الموضوع في حين أن الجماعة في حاجة ماسة أن يستمعوا فضل صلاة الجماعة ووجوبها والحث عليها وعقوبة المتخلف.
12.بعض الأئمة لا يريد الإثقال على الجماعة فله أن يأتي بأحد طلاب العلم في درس أسبوعي أو يكلف أحد الشباب الذين في المسجد. ومما يؤسف له أن بعض المساجد فيها قرابة الخمسة أو العشرة من الشباب ولم يقدم أحد منهم لجماعته درساً أو كلمة، مع أن منهم المتخرج من الجامعة أو من حفظة القرآن أو من طلبة العلم.
13.أن يهتم الإمام بتطبيق السنن في الصلاة وحث المصلين عليها وتعريفهم بها لئلا تهجر وتستغرب، ومن السنن التي على الأئمة الاهتمام بها سنة الجلوس بعد الفجر إلى طلوع الشمس فإن لم يستطع ففي الأوقات الفاضلة كأيام رمضان أو عشر ذي الحجة.
14.الحرص على النشئ من خلال حلقة تحفيظ القرآن فإما أن يهيأ لهم مدرساً أو يجلس لتدريسهم ، وأثناء حفظ القرآن يجعل لهم شيئاً من الحديث وخاصة أذكار الصباح والمساء والنوم ، ويستطيع أن يعطيهم درساً يوجههم فيه ويحثهم على الحفظ والاهتمام بالصلاة وبر الوالدين وترك المنكرات .
15.لابد من جلسة لجماعة المسجد أسبوعية أو شهرية على حسب الحاجة والإقبال ،وهذه الجلسة تضم جميع المصلين كباراً وصغاراً ويكون في المسجد أو في بيت من البيوت ، ولو كانت في المسجد فهو أولى لتعود رسالة المسجد والمقاصد الشرعية التي لأجلها بنيت المساجد.
16.أثناء الجلسة يهتمون بالتعارف والسؤال عن الأحوال وإخراج ما في القلوب من الظغائن التي سببها اختلاف وجهات النظر التي قلما يخلوا منها مسجد، ومن خلالها يتم مناقشة أوضاع الحي ومشاكله ، ومعرفة المتخلفين عن الصلاة والمرتكبين لما حرم الله والذهاب إليهم في منازلهم ومناصحتهم وتذكيرهم، ويتعرفون على الفقراء والمحتاجين ويحسنون إليهم.
17.لابد لهذه الجلسة من كلمة توجيهية سواء كانت من الإمام أو من أحد الجماعة.(/3)
18. يستطيع الإمام مع الجماعة أن يربطوا بين الجيران ويعرفوا بعضهم على بعض لأنه من أسباب التخلف عن الصلاة عدم السؤال عن المتخلفين وخاصة من الجيران.
19.لا بأس أن يكون للنساء نصيب من الجلسة لتعم الفائدة.
20.أما المتخلفون عن الصلاة أو صاحب المنكر من جماعة المسجد أو المجاور للمسجد إذا كان لا يصلي فيه ، فإن على الجماعة أن ينصحوه وأن يقدموا له هدية حول ما هو واقع فيه وأنفع ما يقدم الكتاب والشريط ، فإن كان يتساهل في السائقين والخدم قدم له الإمام مع الجماعة هدية حول هذا ، وإن كان عنده تلفاز كذلك يقدمون لكلك شخص ما يناسبه ، وللإمام أن يجعل هناك صندوقاً للمسجد تجمع فيه الأموال لمساعدة المحتاجين في الحي أو لشراء الهدايا .
21.البيوت المحيطة بالمسجد لابد أن يصلها الخير والنفع فلو قام المصلون من خلال جلستهم بجمع مال يشترون به كتباً وأشرطة تناقش مشاكل البيوت وقاموا بتوزيعها على البيوت لحصل بذلك خير كبير.
22. في أثناء الدروس أو المحاضرات التي تلفى في المسجد يوجد هناك من لا يأتي إلى هذه الدروس من الشباب والشيوخ والنساء فلو حضروا لكان أنفع لهم فإن لم يحضروا استمعوا الفائدة عبر المكبر.
23.من خلال الجلسة يشكلون لجنة تقوم بمتابعة المنكرات في الحي فيقومون بمناصحة صاحب المنكر أو إبلاغ ولي أمره، ومتابعة المتخلفين عن الصلاة ومناصحتهم والاتصال عليهم وقت صلاة الفجر خاصة أو طرق بيوتهم.
24. لا شك أن في كل حي تموينات ومحلات خياطة وحلاقة وأحياناً فيها حدائق عامة، فعلى جماعة المسجد أن يوصلوا الكتاب والشريط لكل محل من هذه المحلات فإن كان في التموينات دخان ومجلات ناصحوه وخوفه بالله من شنيعة هذا الجرم. وإن كان هناك محلات خياطة تؤخذ منها مجلات الأزياء لأن فيها صور نساء وتعوض مكانها المجلات الخالية من الصور. وإن كان محل الحلاقة يحلق اللحى ناصحوه وأخبروه أنه مشترك بهذا الإثم، وأيضا في محلات الحلاقة مجلات للإطلاع فلو أزيلت هذه المجلات واستبدلت بكتب مفيدة كان أفضل.
25. إذا انضمت هذه الجهود إلى الجهود المساجد الأخرى ظهرت الأحياء فيها حياة وطهرت من المنكرات .
26. هذه الجهود لا تؤتي ثمارها إلا بعد اجتماع أئمة المساجد بقدر الإمكان واستفادتهم من بعض وطرح المواضيع المهمة التي يحتاجها الناس وأن تكون العلاقات قوية بين الأئمة ليفيدوا غيرهم، لأن الجهود إذا كانت مبعثرة اضمحلت وتلاشت.
27. وينتفع الناس إذا كان هناك اجتماع للخطباء وتداولوا فيه المواضيع الجديرة بالإلقاء ثم استفادوا من بعض في الخبرة وكيفيه التحضير وطريقة الإلقاء وتتضح أهمية الاجتماع إذا حصل في البلد حدث اتفق الخطباء أن يخطبوا عنه في وقت واحد فسيكون له صدى بين الناس فإن الخطباء والائمة إذا اجتمعوا على موضوع واحد في وقت واحد انتبه الناس إليه وحرصوا عليه.
28.أن يضع كل إمام في مسجده صندوقاً يضع الناس فيه أسئلتهم واستفساراتهم ويجيب عليها كل أسبوع والذي لا يعرفه منها ويسأل فيه أهل العلم، وإن كان من الخطباء استطاع أن يحضر موضوعاً بناء على ما يرد عليه من الأسئلة ، لأنها تنبئ عن حال المجتمع وما هم عليه.
29. على الإمام ألا يغفل عن كبار السن فبعض الناس يظن أنه إذا تعدى الأربعين أنه لا يستطيع التعلم فعليه أن يغير هذا التصور وأن يبدأ بتعليمهم القرآن أو يحضر لهم مدرساً إن كان تدريسه لهم فيه إحراج لهم لصعوبة حفظهم وثقل نطقهم فبعضهم يستحي من الإمام ولا يستطيع الاستمرار.
30.إنشاء مكتبة صغيرة في المسجد للإطلاع وأشرطة للاستعارة.
31. صيام الاثنين والخميس والإفطار في المسجد والدعوة تكون عامة حتى لغير الصائمين من الفقراء وغيرهم، إحياء لهذه السنة وقد جربت هذه الطريقة في أحد المساجد فوجدت ناجحة.
32. من بكر إلى المسجد مع الأذان استطاع أن يختم كل يوم جزءا من القرآن على الأقل من غير صلاة المغرب لقصر الوقت بين الأذان والإقامة.
33. بعض الشباب قد يكون ملتزماً أو طالب علم أو مهتماً بالدعوة لكنه يتأخر عن الصلاة فبعضهم لا يأتي إلا قرب الإقامة أو بعدها والمتقدمون هم من العامة. فهذا من عوائق قبول جماعة المسجد للشباب إذا كانوا بهذه الصفة بل منهم من يسهر إما في رحلة أو جلسة أو مركز وتفوته صلاة الفجر ولا يرى بذلك باساً، فإذا كان الشاب على هذا الفعل فإنه سيرفض من قبل الجماعة ولا يسمع كلامه ولا يعدونه شيئا.
د – فيما يتعلق بالبلد كله:(/4)
1. لا شك أن كل بلد فيه من الأئمة والخطباء وطلبة العلم والدعاة فلوا حصل لهم اجتماع ليعرف بعضهم بعضاً وناقشوا في حال البلد وما يحتاجه وحالة الشباب وكيف يوجهونهم للعلم والدعوة. وعلى الشباب أن يتحركوا ويحاولوا جمع المشايخ في جلسة حتى لو كانت كل شهر لينتفع بعضهم ببعض، ومن المؤسف أن يعيش بعض طلاب العلم في مدينة واحدة وكلهم يسعى للدعوة إلى الله ومع ذلك لم يلتق أحدهم بالأخر وقد حصل هذا في مدن ليست كبيرة والدعاة فيها قلة، فهم أولى الناس بالاجتماع والتشاور.
2. كل بلدة فهيا مجتمعات للناس إما شواطئ أو حدائق أو طرق عامة يجتمع فيها العوائل والشباب، فلا بد أن يحظى هؤلاء بالدعوة وألا يتركوا وهم شريحة كبيرة من المجتمع. حتى إن بعض الأماكن يجتمع فيها أعداد هائلة من الناس في بعض ليالي الأسبوع وفي الإجازات والمناسبات.
3. أحياناً في هذه الأماكن يوجد بها مساجد يجتمعون فيها للصلاة فمن المناسب أن يتولى الشباب هذه المساجد بالوعظ والإرشاد والتذكير وذكر المنكرات في الشواطئ والحدائق والتحذير منها، وأن تحذر المرأة من كثرة الخروج من بيتها لغير حاجة وأن تنصح عن التبرج، وهكذا من المواضيع التي قل من يتكلم عنها خاصة في مثل تلك الأماكن.
4. الشباب عماد الأمة وليس صحيحاً أن يتركوا في الطرق والشواطئ بلا نصيحة وهم ولله الحمد يتقلبون ولا يعارضون بل إنهم يحرصون على المتكلم كثيراً ويحترمونه وينصتون إليه.
5. على الشباب أن يختاروا الأفضل والأحسن من الشباب الذين يستطيعون التعامل مع هؤلاء ويحسنون الكلام معهم، وعلى المتكلم أن يحسن اختيار الموضوع فلا يتهجم عليهم ولا يعنفهم بل يقدم لهم النصح الحسن وأن يحرص على سرد القصص والأخبار فإنهم أقرب إليها من غيرها.
6. قبل التحدث معهم علينا أن نعرف عموماً مشاكل شباب الأمة وما هي طموحاهم وما يصبون إليه ، فعلى سبيل المثال من المواضيع لمهمة: 1. طاعة الوالدين. 2. البحث عن السعادة. 3. الفراغ القاتل وأهمية الوقت. 4. الحب والعشق. 5. الاهتمام بالكرة والفن. 6. الجفوة والبعد عن الصالحين. 7. قرناء السوء وضررهم. 8. رسالة المسلم في الحياة. 9. التحذير من مخططات الأعداء ضد الشباب. 10. خطأ تتبع المديلات والموضات. 11. الاهتمام بالسيارة والثياب والشعر أكثر من الدين والقلب. 12. علينا أن نكون يدا واحدة ضد الأعداء.
7. من آفات المتكلم الإطالة عموماً وخاصة على الشباب لأنهم خرجوا في نزهة ولا يريدون أن يفوتوا الوقت.
8. من الطرق المناسبة أن يبدأ معهم بحديث ومن خلاله ينتهز الفرصة ويدخل في الموضوع المناسب ولا ينقلهم عن كلامهم نقلة بعيدة.
9. تقديم والشريط لركاب سيارات الأجر والحافلات والقطارات، فإن أفضل ما تستغل به الأسفار الكتاب والشريط ولو أعطينا كل سيارة نقل شريطاً استمع له قرابة المائة راكب وبعضهم أكثر وبعضهم أقل.
10. في كل بلد سوق بل في بعض البلدان في كل حي سوق وهذه الأسواق تضم كثيراً من المحلات المختلفة فلو استغل كل التجار الأخيار فيها ثم يوزع الكتاب والشريط على المتسوقين من خلالهم.
11.لو خصص كل مجموعة من الشباب لهم وقتاً يخرجون فيه للأسواق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتناوب على أيام الأسبوع عدة جماعات لقلت المنكرات بشكل واضح.
هـ - فيما يتعلق بالتسجيلات الإسلامية:
1. إنها تعاني من تقلص وركود في المبيعات ، فلا بد أن تدعم من قبل الشباب بشراء أكبر الأعداد قدر الإمكان.
2. تقديم الاقتراحات والتوجيهات المناسبة ومنها:
أ – إخراج الأشرطة القديمة لكبار العلماء ونشرها وتصفيتها مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد الرحمن الدوسري والشيخ عبد الرزاق عفيفي وغيرهم وتعريف الشباب بهم.
ب – إن لم يمكن إخراج أشرطتهم جميعاً فتجمع مادة من أشرطة كل شيخ وتخرج.
جـ - إخراج سلسلة فيها تفسير آيات الأحكام العلماء والمشايخ وتكون السلسلة مفرقة عليهم كل ملقٍ له بعض الآيات.
د – تعامل الأحياء من قبل الخطباء والأئمة مع التسجيلات وإحضار الأشرطة بسعر مخفض.
هـ - إخراج أشرطة فيها أحكام البيوع والتحذير من الغش والبيوع المحرمة وتكون الأشرطة جامعة بين الوعظ والفقة.
و – في التسجيلات بعض الأشرطة فيها رسالة إلى تاجر وإلى مربٍ وغيرها فلو جعل لكل شريحة من أفراد المجتمع شريطاً يخصها.
ز – الاهتمام بالشريط والكتاب وتوزيعه أثناء السفر كما يلي:
1. في الطريق حالة الوقوف. 2. عن طريق الشباب في المناطق ومكاتب الدعوة. 3. في المراكز الصيفية. 4. في تجمعات الشباب على الأرصفة. 5. في الحدائق والمنتزهات.
حـ - تجميع الأشرطة التي فرغ صاحبها من سماعها ثم توزيعها من جديد إلى من يحتاج إليها وهذه الأشرطة كثيرة جداً لدى الناس وقد يكون صاحبها قد تضايق منها فيحسن التفكير في سبيل تحصيلها وتجميعها من الناس ومن ذلك: قيام الإمام بجمعها من جماعة مسجده والمدرس في مدرسته والشاب من بيته وأقاربه .. وهكذا.(/5)
و – فيما يتعلق بمراكز الدعوة والجاليات :
1. من أقل الأعمال التي تشارك فيها أن تكون مندوباً للحي الذي أنت فيه لتعليق الإعلانات للدروس والمحاضرات والندوات، وأن تقوم بترتيبها في المساجد في الحي وأن تنشط المساجد المهجورة من قبل طلبة العلم فتأتي بالدعاة والمشايخ لها حتى ولو كانت صغيرة.
2. بعض الأحياء تمتلئ من الدروس والمحاضرات وبعضها لا يأتيها الخير إلا كل ثلاث سنوات أحياناً بل في بعض الأحياء لم يذكر في يوم من الأيام أن قام فيها كلمة أو محاضرة أو درس .
3. أن نقوم بمناصحة القائمين على المراكز وألا نكتفي بالتأفف والأماني وأن نقدم لهم المشاريع الدعوية المناسبة ومن خلال المشاريع نذكر لهم الشباب المستعدين للعمل فيها.
4. أن نعين المراكز على ما عندهم في توزيع الكتب والأشرطة والإعلانات.
5. في كل حي لابد أن يوجد فيه بعض الجاليات فمن خدمة الإسلام أن تأتي بالدعاة إلى المسجد في حيك على حسب اللغات الموجودة فيه فإن كان في المسجد قلة من الفلبينين مثلا جمعوا من كل مسجد ثم ألقيت عليهم محاضرة أو ذُهب بهم إلى مقر الدعوة لتعليمهم ودعوتهم.
6. في بعض المناطق يكثر الكفار فهل قدمنا لهم تعريفاً عن الإسلام، بل إننا في كثير من الأحيان نخشى أن تمتد دعوتهم إلينا فعلينا أن ندعوهم قبل أن يفسدوا بلادنا.
7. لا يصعب على الشاب أن يمر على الجاليات ويأخذ منهم النشرات ويضعها في سيارته فإذا التقى بأي كافر أو مسلم لا يعرف العربية قدمها له ودعاه إلى زيارة المركز.
8. أن نعرف مواقع الكفار وغيرهم حتى من المسلمين الغير ناطقين بالعربية لنأتي بالدعاة لهم فقد يكون في شركة أو مؤسسة فما علينا إلا أن نذهب إلى مركز الجاليات ونحضر لهم الداعية.
9. في بعض التسجيلات أشرطة غير عربية نافعة في هذا المجال فلو وضعها الشاب في سيارته وعند أي مناسبة يوزعها كان حسنا، بل عليه أن يحمل معه من الأشرطة والكتيبات لغير الجاليات فقد يأتي لمجتمع شباب فيرى من المناسب أن يوزعها لهم.
10.أن نطلب من مركز الدعوة إقامة دورات علمية وتكون الدورات حسب المواسم فقبل رمضان يقيمون دورة فيها بعض طلبة العلم إما في خارج المنطقة أو في داخلها، ويكون وقت الدورة مناسباً، والمكان معروفاً ومتوسطاً في البلد، وقبل الحج تقام دورة عن المناسك متكاملة ليستفيد منها أصحاب الحملات لأنهم في حاجة لتعلم المناسك فقد لا يأتي معهم طالب علم فيضطروا إلى تعليم الناس إياها في الحج.
ومن الدورات المناسبة :
أ – دورة في منجية؛ طالب العلم وكيف يقدم على العلم ؟ وماذا يقدم من العلوم؟ وهل يبدأ بالقرآن أو بالدروس ؟ وما هي آداب طالب العلم ؟ وما موقف طلاب العلم من الخلاف؟ فيتعلم الطالب أسبابه ومواقف العلماء منه وكيف يتعامل معه وهكذا.. وهذه الدورة مهمة للطلاب عموماً لأنه وجد أناس دخلوا العلم بلا منهج فلم يستفيدوا من العلم شيئاً بل إن بعضهم قد يمل ويترك العلم بسبب هذا.
ب- دورة لتخرج الدعاة بتعليم الشباب منهج الأنبياء والمصلحين والعلماء في الدعوة، وصفا الداعية وأخلاقه وحكمته وطريقه في دعوة الناس.
جـ – دورة مكلمة لما سبق لتعلم الخطابة لأنه من المؤسف أن يحرص بعض الشباب على العلم ولا يستطيع أحدهم الكلام أمام الناس، فهذه الدورة يستفيد منها كل شاب وطالب علم بالأخص، وفيها كيف يجمع الخطيب الموضوع وكيف يلقيه ويتعلم فيها الحضور الأساليب وكذلك كيفية إلقاء الموضوع إذا كان درساً أو في مجلس وما هي الأخطاء التي ينبغي اجتنابها.
د – دورة في الرقية تحفظ الآيات والأحاديث والأدعية وكيف يتعامل القارئ مع المريض وكيف يعرف مرضه، وما الفرق بين المرض النفسي والعين والسحر والحزن والاكتئاب وغيرها التي حصل فيها خلط عند كثير من الناس من خلالها يتخرج لنا شباب نستغني بهم عن المشعوذين والدجالين.
هـ - دورة في تغسيل الأموات وكيفية التكفين والدفن وبدع أخطاء التغسيل والتكفين والدفن وأحكام التعزية.
11.هذه على سبيل المثال ويستطيع الشاب أن يكتب دورة متكاملة ويقسم الجدول وينظم ويضع في كل يوم طالب علم ويقدم الأوراق لمركز الدعوة ليقوموا بتنفيذه، ولا يلزم أن ننتظر مركز الدعوة يعمل أو يقيم دورة لأنه من الممكن لمجموعة شباب أن يتكفل رئيسهم بتعليمهم ما سبق وأن يقيموا دروساً فيما بينهم على غرار الدورات الرسمية.
12.بعض الشباب يدرسون في جامعات خارج مناطقهم فبإمكان هؤلاء أن يخدموا مراكز الدعوة في جلب المشايخ وتنظيم الدورات العلمية لهم.
13. وضع درس أسبوعي للسجناء أو محاضرة أو كلمة.
14. الخطبة في جوامع السجون.
15. الإشراف والتدريس في الحلقات التابعة للجماعة في السجون.
16. كثير من السجناء عنده بعض الإشكالات والتساؤلات إما فيما يتعلق بقضيته أو في غيرها فلو جمعت الأسئلة من السجناء وذهب بها إلى أحد العلماء وأجاب عنها وأخرجت في كتاب أو شريط أو نشرة لكان في ذلك نفع كبير للسجناء.(/6)
17.التعرف على أصحاب الديون منهم والقضاء عنهم.
18.الذي يقبل على الخير في السجن يسعى في سداد الديون التي عليه، أو إعالة أهله من قبل دور الخير.
ز – فيما يتعلق بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1. مناصحتهم أولا ثم خدمتهم من خلال المساجد فكل إمام يرصد المنكرات التي حوله ويكتب بها بعد مناصحة صاحب المنكر.
2. زيارتهم وتشجيعهم.
3. تتبع بعض المنكرات ودراسة أصولها وأسبابها وكيف يتم إبطالها وتقديم الأوراق لهم. مثل انتشار الفواحش في بعض المدن لو اجتمع بعض الشباب ووضعوا لهم دراسة متكاملة حول المنكرات وقدموها لهم لاستفادوا منها بل يستفيد الخطباء، فيستطيع الخطيب بتكليف من الهيئة أن يخطب حول المنكر المنتشر بل يستطيع عدة خطباء أن يخطبوا في نفس الموضوع كما تقدم من خلال الجلسة المستمرة بينهم.
مثال أخر: حول ما يتعلق بمنكرات النساء وما يحصل منهن في الأسواق والشواطئ فالموضوع المدروس من هذه المنكرات يجعل الهيئة تستفيد منه.
4. إقامة دورة في الحسبة وصفات المحتسب وما ينبغي أن يكون عليه وكيف يتعامل مع المنكرات وعلى أيها يقضي إذا اجتمع عنده عدة منكرات في مكان واحد، وفي أثناء الدورة يدعى الشباب عموماً للتعاون مع الهيئات إما رسمياً بتقديم أسمائهم أو من خلال الأحياء فكل حي يشكل له لجنة تقض على المنكرات ويكون القائم عليهم في حيهم خطيب الجامع ويراجع في المنكرات الهيئة أو مراكز الدعوة.
حـ - متفرقات:
1. بعض المدن لا يوجد بها أحد من أهل العلم فيستطيع الشباب أن يحفظوا ويقرؤوا فيما بينهم وما أشكل عليهم يسألون فيه أهل العلم ثم إذا قدمت الإجازة يذهبون سوياً ويقيموا مدة شهر أو أكثر عند أحد العلماء أو طلاب العلم فيأخذوا عنه العلم، وفي كل إجازة يفعلون هذا ثم إذا رجعوا إلى مناطقهم قاموا بتدريس ما أخذوا من العلم.
2. الدورات العلمية المقامة في بعض المناطق تيسر للشباب هذه الطريقة لأنها مكثفة وفي وقت محدد والسكن بكل دورة مهيأ فما على قادة الشباب في كل منطقة إلا أن يقدموا بالشباب إلى هذه الدورات.
3. إذا قدم عشرة من كل منطقة فمن المناسب أن يتوزعوا إلى خمسة مجموعات مثلاً وكل اثنين يأخذون فناً من الفنون فمجموعة تأخذ المصطلح وأخرى تأخذ الأصول وأخرى النحو والرابعة التوحيد والخامسة القواعد الفقيهة فإذا رجعوا إلى بلدهم استفادت كل مجموعة من الأخرى وحصل هلم النفع جميعاً أما إذا حضروا كلهم عند واحد من العلماء ورجعوا جميعاً فإنهم يضطرون إلى الرجوع في العام القادم ولو أشكل عليهم شيء في غير ما تعلموا ما استطاعوا معرفته فهذه الطريقة تسهل لهم أخذ العلم ونشره.
4. لا تخلو منطقة من القضاة فما دورنا تجاههم؟ ومنهم أهل العلم الكبار وأصحاب القوة في الحق فلا بد أن نستفيد منهم وأن نجعلهم أول من يتصدر هذه المشاريع ويدعمونها وأن يشاركوا في إلقاء الدروس والمحاضرات والندوات وإنكار المنكرات.
5. في المستشفيات أماكن للانتظار وكذلك المستوصفات والخطوط الجوية وغيرها فمن المناسب أن توضع على هذه الأماكن مجموعات توافيها بالمجلات الإسلامية والكتب والنشرات وأن تستبدل المجلات والجرائد الموجودة فيها بما يناسب من الكتب وغيرها.
6. لا تغفل عن المرضى ففي أثناء زيارة أحد الأقارب أو أحد الأصدقاء يحسن بالزائر أن يصطحب معه شيئًا من الكتب والأشرطة يعطيها إياهم، وكذلك يسألهم عن الأحكام المتعلقة بهم في حال مرضهم ليطمئن على عملهم بها ويبين لهم ما يجهلونه.
7. النصيحة بالكتاب أمرها مهم فلو كتب لكل صاحب مخالفة أو منكر لقلت كثير من المنكرات ومن المهم من هذا مناصحة أصحاب النشاطات التجارية المرتكبين لكثير من المنكرات وكذلك المسؤولين في الصحة والمواصلات والإعلام وغيرها، فأما في الصحة فمن الأمور التي يبديها الممرضات وما يحصل منهن من المنكرات، وأما المواصلات فتقدم النصائح لهم فيما يتعلق بالتلفاز في سيارات النقل، وأما الإعلام فتقدم النصيحة لهم فيما يتعلق بعرض المحرمات في التلفاز والأغاني في الإذاعة أيضاً، وغيرها من المحرمات التي لو أردنا عدها لاحتجنا إلى تأليف كتاب لذكرها وتقترح عليهم بعض الأشرطة التي توزع على الركاب وكذلك الخطوط الجوية فيما يتعلق بالمضيقات، فالنصيحة فيها صلاح وأعذار أمام الله.
8. من وسائل الدعوة إمامة المساجد في رمضان فإذا بحث الشاب عن مسجد قبل رمضان وأم المصلين وتكثر الجماعة ويساعدهم على القيام والتهجد فيحصل من هذا خير كثير زيادة على ما ذكر.
9. إلقاء الخطب والنيابة عن بعض الخطباء فبعض المساجد يسافر الإمام أو يمرض أو يحصل له ظرف فما يجد من يخطب عنه.
10.إيجاد مشاريع تجارية يكون ريعها لصالح الدعوة.
11.مخاطبة التجار عن طريق أئمة المساجد والقضاة والعلماء والدعاة وطلبة العلم وحضهم على المساهمة في هذا الباب.
12.مخاطبة المدرسين والموظفين ومطالبتهم بتخصيص جزء ولو يسير من مرتباتهم لصالح هذا المشروع.
ط – المراكز الصيفية:(/7)
1. إلقاء الدروس والمحاضرات والكلمات عليهم.
2. ترتيبها مع طلبة العلم أو حتى من الشباب المجيدين لبعض المتون.
3. بعض المراكز يكثر فيها الشباب الناشطين وبعضها لا يوجد فيها أحد، فمن المناسب أن يتوزعوا على المراكز ليعم النفع.
4. إقامة دورات علمية فيها.
5. تنظيم رحلة بإشراف مركز الدعوة أو العلماء والمشايخ.
6. الدعوة في الأسواق والشواطئ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7. اختيار مجموعة من الشباب وإرسالهم لطلب العلم عند أحد العلماء خارج المنطقة.
8. غالب المراكز تذهب في نزهة في أخر الصيف فلا ينسوا الكتب والأشرطة والكلمات في القرى والمدن التي يمرون عليها وإن كان في الوقت سعة فليرتبوا مع بعض طلبة العلم في مدن التي تواجههم ويعرفون الطلاب بالدعاة والمشايخ.
ك – القرى والهجر:
1. إذا انتهى الشباب من الدعوة في مدنهم فلا ينسوا من حولهم من أهل القرى.
2. طلب التعيين فيها للتدريس أو للعمل.
3. القرى والهجر بأمس الحاجة للشباب وطلاب العلم ولا يشترطون أحد من العلماء أو المفتين بل صغار طلاب العلم يكفونهم.
4. الجهل فيهم منتشرة وواضح ونحن المسؤولون. فلقد وجد في بعض القرى القريبة من المدن قوم لا يحسنون الفاتحة ولا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا غيرها بل إن بعض القرى تفشى فيها الشرك والسحر والتعلق بالمشعوذين والكهنة والعرافين والمكلف بهؤلاء والمسؤول عنهم طلاب العلم، ولا يصلح أن ننتظر العلماء أو مراكز الدعوة أن تنظم لهم الرحلات الدعوية بل على كل من تعلم العلم واستفاد أن يدعوا فيها بشرط ألا يخرج على جهل بل يتعلم عند العلماء ويدعوا إلى ما تعلمه.
5. بعض المدن تقتض بالعلماء والمشايخ فلوا تفرقوا في الإجازات في القرى والهجر لكان حسناً والذي يضبط الأمر لو وزعت المناطق على العلماء والمشايخ فكل مجموعة منهم تهتم بمنطقة بحيث يقيم لهم الدروس والمحاضرات والندوات والدورات.
6. الدرس الذي يلقى في أسبوع أو شهر لا يكفي فلا بد من الإقامة في القرى لمدة أشهر لشدة الحاجة إلى المصلحين.
7. وفي كل إجازة وموسم تنتقل المجموعة من منطقة إلى أخرى.
8. لا بد أن يستفاد من طلاب المراكز الصيفية في الدعوة في القرى لأنه يوجد من بينهم من عنده حصيلة من العلم ولا علم إلا بعمل ودعوة وصبر.
9. يتم في كل رحلة ترشيح بعض القضاة والخطباء ومدرسي المعاهد العلمية وطلاب الجامعات والذهاب إلى القرى يميناً وشمالاً.
10.إذا أحجم هؤلاء عن الدعوة فإن القرى على ما فيها من جهل فإنها عرضة لقدوم البدع إليها من الرافضة والصوفية والإسماعيلية بل وأهل التنصير إلى بعض القرى من خلال عمل الشركات والأطباء في المستشفيات.
11.وهذه المجموعات تواصل أعمالهم في خلال السنة ففي إجازة الأسبوع تقام المحاضرات والدروس والخطب في القرى المجاورة.
12.ربط شباب القرى والهجر بالدعاة في المدن وتهيئة السكن المناسب لهم للإقامة في الإجازات لطلب العلم.
13.وهؤلاء الشباب إذا رجعوا عادوا ودعوا أهلهم وأقاموا بينهم ولا ينسوا الكتب والأشرطة التي تعينهم على الدعوة.
14.في الطريق إلى الرحلة أثناء السفر يواجهون بعض المساجد في المحطات فلا بد أن تحظى من هؤلاء بكلمة، وقد جرب في المحطة توزيع الأشرطة والكتب فلوحظ عليه إقبالاً، ووجد منه انتفاعاً، وهذا الأمر لا يحتاج إلى كبير وقت بل إن العشر دقائق يوزع فيها قرابة الخمسين إلى سبعين شريط وكتاب.
15.بعد كل رحلة يكتبون كل ما عملوا وما رأوا وما هي الأخطاء التي فعلت وما الأمور التي فأتتهم وحاجت المناطق وما يحتاجون من مواضيع. وهذه التقارير يستفاد منها في رحلات قادمة بل ويستفيد الدعاة من قبل مركز الدعوة.
16.الابتعاد عن تجريح الأشخاص ونقل الشباب عن مثل هذه المجالس إلى مجالس العلم في الدروس والمحاضرات.
17. إلقاء محاضرة أو ندوة يعلن عنها رسمياً تتحدث عن الدعوة في الهجر ومن المناسب أن تسجل بشريط ليستفيد منها.
18.الاهتمام بخطبة الجمعة والمواعظ في المساجد والمناسبات العامة كالزواجات والولائم.
19.جمع الطعام الباقي بعد الولائم والذهاب به إلى الجمعيات الخيرية أو توزيعه.
20.زيارة الدوائر الحكومية والقطاعات العسكرية.
21. زيارة القضاة وأعيان البلد من طلبة العلم والتجار وأعضاء الهيئة وجماعة التحفيظ. والحديث مع كل فئة بما يناسبها من نفع للدعوة.
وفي الختام أسال الله تعالى أن يوفقنا ويتقبل منا.
وأنبه إلى أمور :
1. لا أدعي أني استقصيت جميع الاقتراحات والمشاريع.
2. الذي دعاني للكتابة حاجة الصحوة لمثل هذا الموضوع ولست أهلاً لسد هذه الثغرة بل هي تنبيه للعلماء وطلبة العلم أن يعيدوا كتابتها وأن يدققوا النظر فيها فما كان منها صواب فمن الله وحده وما كان منها خطأ فمن نفسي والشيطان.
3. لا بد من المناصحة فأي خطأ في المنهج أو الأسلوب أو الإملاء أو اللغة فإني أدعوا كل من يعثر عليه أن يفيدني فيه ولا نكتفي بالنقد والغيبة والجرح بلا نصيحة .(/8)
4. تعمدت عدم ذكر الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم لأنها للتذكير وليست للتعليم ولو ذكرت فيها النصوص لطالت وإني متيقن أن كل طالب علم يحفظ النصوص الواردة في هذه المقترحات، فلا يخفى علينا شأن الدعوة وما قال الله عنها وما قال رسوله صلى الله عليه وسلم وكيف كان حال السلف فيها وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5. لا بأس بإعادة كتابتها ونشرها والتقديم والتأخير فيها بشرط ألا يدخل بالموضوع وألا ينسب لي ما لم أكتب فالزيادة توضع بين قوسين.
6. هذه الاقتراحات ليست حكراً على أحد فبإمكان كل شاب أن يجمع مثل هذه المادة بل أوسع منهاً.
7. أحيانا تمر بالعبد مشاريع وخواطر دعوية فمن المناسب أن يقيدها في وقتها ويجمعها ليستفيد منها.
8. أن نشغل مجالسنا بمثل هذه المشاريع النافعة لعموم الأمة وهذا خير لنا من قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
9. أن نسعى في نشرها واستشارة أهل العلم فيها قبل ذلك لما للمشاورة من الأهمية البالغة لأنك قد يحسن شيء في نظرك وهو ضرر عليك فبعد المشاورة تسلم من كثير من الأضرار التي قد يسببها شخص واحد على الصحوة.
والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الأربعاء 9/ محرم / 1416هـ
-------------
1 - سورة العصر.(/9)
وقفات شرعية مع حادثة العبارة المصرية
إعداد / أحمد السيد إبراهيم
فوجئ العالم بكارثة إنسانية صبيحة يوم الجمعة 3/2/2006م، تمثلت في غرق العبارة السلام 98، وقد تناقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة هذا النبأ الأليم، وأطلت علينا الكثير من التحليلات عن حكم هؤلاء الغرقى وأسباب الكارثة، ولنا معها الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: حكم هؤلاء الغرقى
لا يشك أحد في أن الغريق شهيد، وذلك ثابت فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الغريق وذكر أنه شهيد في أكثر من حديث، منها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله».
[أخرجه البخاري ومسلم]
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغريق شهيد».
[رواه ابن عساكر في تاريخه، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4172]
ولكن لابد أن نوضح الحقائق الآتية عن الشهادة:
1 ـ الشهداء ثلاثة:
قال النووي في المجموع (5/225): الشهداء ثلاثة أقسام: أحدها: شهيد في حكم الدنيا: أي يعامَل في الدنيا معاملة الهشيد «وحكمه ترك الغسل والصلاة عليه»، وفي حكم الآخرة بمعنى أن له ثوابًا خاصًا، وهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذا هو الذي مات بسبب من أسباب قتال الكفار قبل انقضاء الحرب. والثاني: شهيد في الآخرة دون الدنيا، وهو المبطون والمطعون والغريق وأشباههم. والثالث: شهيد في الدنيا دون الآخرة وهو المقتول في حرب الكفار وقد غل من الغنيمة أو قتل مدبرًا، أو قاتل رياءً ونحوه فلهم حكم الشهداء في الدنيا دون الآخرة. اهـ.
فالغريق يُغسل ويُكفن ويُصلى عليه، أي لا تجرى عليه أحكام الشهادة في الدنيا وإنما تجرى عليه في الآخرة فقط.
2 ـ ضوابط الحكم بالشهادة:
لكي يحكم لشخص بالشهادة فلابد من أمرين:
الأول: الإسلام، فلا يحكم بالشهادة لكافر، فلو غرق كافر فلا يقال عنه شهيد، قال تعالى حاكيًا عن فرعون: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90) آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون [يونس: 90- 92].
الثاني: الطاعة: فلا يحكم لمن مات متلبسًا بالمعصية وقد تحقق فيه سبب من أسباب الشهادة كالغريق مثلاً بالشهادة فإذا صحب رجل امرأة ليزني بها فسقطت سيارته في البحر فمات الاثنان فلا يقال عنهما شهداء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يبعثون على نياتهم».
[رواه البخاري ومسلم]
ورأي بعض العلماء أن من مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة فله أجر شهادته وعليه إثم معصيته.
3 ـ الحكم بالشهادة لشخص بعينه:
إذا كان الغريق شهيدًا فهل يجوز الحكم لشخص بعينه كمحمد أو أحمد مثلاً بالشهادة لمجرد أنه مات غريقًا ؟ الجواب على ذلك أنه لا يقال فلان شهيد وإنما يقال نحسبه من الشهداء والله حسيبه، فمن مات في المعركة ربما قاتل رياءً أو سمعة، فلا يقال عنه شهيد، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي قتل في المعركة في النار، وذلك لأنه تعجل الشهادة فوضع نصل السيف على صدره وقتل نفسه، ولذلك بين العلماء أن من أقسام الشهادة شهيد الدنيا أي يظنه الناس شهيدًا وهو ليس كذلك، والعلة في عدم قولنا فلان شهيد أنه أمر غيبي لا يطلع عليه أحد فلا يُجزم به.
4 ـ هل يلزم لشهادة الغريق أن يكون ركوبه البحر في سبيل اللَّه؟
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الغريق في سبيل اللَّه شهيد.
[البخاري في التاريخ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4173]
الراجح أنه لا يلزم أن يكون ركوبه البحر في سبيل اللَّه أي مجاهدًا بل تحمل في سبيل اللَّه على الإسلام.
قال السندي رحمه اللَّه: المراد بسبيل اللَّه في الأول أي قوله صلى الله عليه وسلم: «المقتول في سبيل اللَّه شهيد» أي في الجهاد، وفي غيره هو المتبادر أيضًا فإنه المراد عرفًا من مطلق هذا الاسم، لكن مقتضى الأحاديث المطلقة خلافه فيحتمل أن يراد به الإسلام توفيقًا بين هذه الأحاديث وبين الأحاديث المطلقة.
الوقفة الثانية : أحكام المفقود
انقسم ركاب العبارة إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ أحياء تم إنقاذهم.
2 ـ موتى تم إيجاد جثثهم.
3 ـ مفقودين لم يتم العثور عليهم.
فما حكم المفقودين الذين لم يعثر عليهم ؟
نتعرض لحكمهم في النقاط التالية:
1 ـ المدة التي يحكم بعدها القاضي بموت المفقود:(/1)
اختلف الفقهاء في المدة التي يحكم بعدها القاضي بموت المفقود على عدة أقوال، وقد أخذ القانون المصري بمذهبي المالكية والحنابلة في حالة المفقود الذي فُقد في أحوال يغلب عليه الهلاك فيها كالحروب والغرق والحرق، فقضى بوفاته بمضي أربع سنوات من تاريخ فقده، وأخذ بمذهبي الحنفية والشافعية في حالة فقده في ظروف لا يغلب عليه فيها الهلاك فقضى بتفويض أمر المدة التي يحكم بموت المفقود بعدها إلى القاضي وذلك بعد التحري عند جميع الطرق الممكنة الموصلة إلى معرفة إن كان المفقود حيًا أو ميتًا.
وقد تم الموافقة على تعديل هذه المدة إلى سنة، ثم تم تعديلها بعد حادثة العبارة لتصبح (15) يومًا، وذلك لصرف التعويضات لورثة المفقودين دون المساس بالمدة الأصلية الخاصة بزوجته وميراثه.
2 ـ حكم زوجة المفقود:
إذا غاب المفقود أربع سنوات في ظروف يغلب عليه فيها الهلاك فإن القاضي يحكم بموته، وكذا يحكم بموته إذا مات في ظروف لا يغلب عليه فيها الهلاك بعد مرور المدة التي يراها القاضي مناسبة للتأكد من موته.
وفي هذه الحالة فإن لزوجته أن تتزوج بغيره بشرط أن تعتد عدة المتوفى عنها زوجها «أربعة أشهر وعشرة أيام»، ويرى البعض أنها لا تعتد، فإذا عاد زوجها المفقود فإنه يخير بين أمرين أن تعود إليه أو أن يأخذ صداقها، (قيل الذي أصدقه إياها وقيل بل صداق الزوج الآخر، وقالوا فيمن يغرم الصداق إن اختاره الزوج يغرمه الزوج الآخر، وهو قول الجمهور وقيل تغرمه المرأة وهو قول الزهري، ودليل ما ذكرنا ما جاء عن حماد بن سلمة عن داود عن أبي هند عن أبي نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن امرأة فقدت زوجها فأتت عمر فسأَل جيرانها وقومها فصدقوها فقال لها: اعتدي أربع سنين وتزوجي، فجاء زوجها بذلك فخيره عمر بين الصداق وبين امرأته.
[ابن حزم في المحلى 10/134، وصححه]
3 ـ حكم مال المفقود:
1 ـ يرى الفقهاء أنه يعتبر حيًا فتبقى الأموال موقوفة محفوظة إلى أن تنكشف حقيقة أمره بما يلي:
أ- أن تقوم بينة على موته فيعتبر ميتًا من هذا الوقت الذي حددته البينة وينتقل ماله إلى من كان حيًا من ورثته في ذلك الوقت.
ب- أن يحكم القاضي بموته فيعتبر ميتًا من وقت حكم القاضي بموته، ولا يرثه إلا من كان باقيًا على قيد الحياة، وقت الحكم دون من مات قبل ذلك، ثم إذا ظهر حيًا بعد حكم القاضي فإنه يأخذ ما بقي من أمواله في أيدي الورثة.
4 ـ فيما يتعلق بإرثه من غيره:
أ- إن كان المفقود هو الوارث الوحيد لمن مات من أقاربه أثناء فترة الفقد أو معه ورثة محجوبون به فإنه توقف التركة كلها حتى يظهر أمره، فإن ظهر حيًا أخذ ما يستحقه وإن ظهر ميتًا ردت التركة إلى بيت المال في حالة عدم وجود ورثة أو إلى الورثة الآخرين الذين كانوا محجوبين بوجوده حيًا.
ب- إن كان معه ورثة غير محجوبين به فإنه يوقف نصيبه الذي يستحقه حتى يتبين حاله، ويأخذ بقية الورثة أنصبتهم، فإن ظهر حيًا أخذ نصيبه الموقوف، وإن ثبت موته بالبينة اعتبر ميتًا من الوقت الذي ثبتت فيه وفاته فلا يرث إلا من مات قبله، أما من مات بعده فلا يرث منه، وعليه يرد حينئذ ما كان موقوفًا له إلى الورثة الذين نقصت سهامهم لهذا الاعتبار، أما إن حكم القاضي بموته فإنه يعتبر ميتًا من وقت فقده لا من وقت الحكم، فلا يرث ممن مات أثناء غيابه وفقده وقبل الحكم بموته، ويرد النصيب الموقوف له إلى ورثة مورثه، فإن ظهر حيًا بعد الحكم بموته أخذ ما بقي من ماله بأيدي الورثة الذين وزع عليهم.
الوقفة الثالثة: الأسباب التي أدت إلى هذه الكارثة:
1 ـ عدم الشعور بالمسئولية:
فقد انعدم الشعور بالمسئولية لدى كثير من المسلمين، فنجد بعض المسلمين يقوم باستيراد آلات ومعدات غير مطابقة للمواصفات وهو يعلم ذلك، ويعلم أنها قد تؤدي لوفاة مستخدمها ولا يشعر بأنه مسئول أمام اللَّه عن ذلك؛ لأن همه الأكبر الربح، وكذلك الحال بالنسبة لمن يقوم بتسيير مركبة أو سفينة أو طائرة وهو يعلم أنها غير صالحة فهذا تغافل ونسي قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين [الحجر: 92]، وقوله تعالى: ولتسألن عما كنتم تعملون [النحل: 93]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته». [أخرجه البخاري]
2 ـ تفشي الرشوة:
الراشي والمرتشي أفسدا البلاد والعباد، واستحقا الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لعنة اللَّه على الراشي والمرتشي». [أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 2313]
فبالرشوة تتحول الأشياء الفاسدة إلى صالحة للاستخدام ويترتب على هذا التغيير هلاك البلاد والعباد.
3 ـ عدم محبة بعض المسلمين لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم:
وفي الحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». [متفق عليه]. فلو وضع الواحد منا نفسه مكان أخيه لانتهى كثير منا عن فعل ما يؤذي المسلمين أو يؤدي إلى هلاكهم.
الوقفة الرابعة: الدروس المستفادة من الكارثة:(/2)
1 ـ لكل أجل كتاب، فقد جاء بإحدى الصحف المصرية أن رجلاً تم إنقاذه من الغرق عام 1991م حيث كان من بين ركاب العبارة سالم إكسبريس، فهذا ما يزال له عمر لابد أن يستوفيه، فلكل أجل كتاب.
2 ـ ضرورة تعليم أولادنا السباحة:
حيث ورد في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل». وهي من قبيل الأخذ بالأسباب.
3 ـ وما تدري نفس بأي أرض تموت: فمن الركاب من كان قبره في السفينة، ومنهم من التهمه حوتٌ أو سمكة قرش فصار في بطنها، وإذا جاء وعد الآخرة جاء اللَّه بهم لفيفًا.
4 ـ الصبر على المصائب والاستعداد ليوم الرحيل: قال تعالى: وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:155-157].
5 ـ محاسبة المقصرين: ولا ينافي هذا الرضا بقضاء اللَّه تعالى، فالمسلم ينقاد لأمر اللَّه ويسلم له ولا يمنع هذا من محاسبة من أخطأ أو من تعمد الخطأ.
وفي النهاية لا نملك إلا الدعاء أن يرحم اللَّه من مات ويجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وأن يجنبنا وسائر المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن. آمين.(/3)
...
...
وقفات في تعاقب السنين ...
...
د.عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين (*) ...
</TD ...
ها نحن أولاء نودع عامًا هجريًّا بعد انقضائه، ونستقبل عامًا جديدًا..
بل إن هذا العام الخامس في بداية عِقْدٍ جديدٍ من تاريخ المسلمين، بعد أن شارفوا منتصف العقد الثالث (رُبْعَ قَرْنِ) من هذا القرن (الخامس عشر الهجري).
فالمسافر حين يجتاز مرحلة طويلة من الطريق فيحط الرحال، ويقف ليستريح، فيتلفت وراءه ليرى كم قطع؟ وينظر أمامه ليبصر كم بقي؟.
والتاجر تنتهي سنته؛ فيقيم موازينه ويحسب غلته، ليعلم ماذا ربح؟ وماذا خسر؟ ". (1)
أينقضي عام ويدخل عام، وتمر الأيام والأعوام.. دون أن نقف عليها ساعة نستفيق من غفلتنا ونفكر ونعتبر؟
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فما أحرانا أيها الإخوة الكرام أن نكون أشد حرصًا على أعمارنا وأوقاتنا من التجار والصناع وغيرهم . قال الإمام الحسن البصري-رحمه الله-: "أدركت أقوامًا كان أحدُهم أشحَ على عمره منه على درهمه". (2)
وفيما يلي أقف بعض الوقفات في تعاقب الأعوام والسنين :
1ـ التأريخ الهجري نقطة مضيئة في حياة الأمة :
أجمع الصحابة في عهد عمر بن الخطاب على اختيار التاريخ بهجرة النبي، لما في ذلك الحدث العظيم من نصر وتمكين وقيام دولة الإسلام في مدينة رسول الله ، وقد جرى على ذلك سلف الأمة، ولا يصح استعمال التاريخ الميلادي أو ما أشبهه استقلالاً، فالتاريخ الهجري مرتبطة به عبادات عديدة، كما أن له تاريخًا وثيقًا بتاريخ الأمة وهويتها.
2ـ معادلة معكوسة :
ينقضي العام فنظن أننا عشناه وزدنا عامًا، وفي الحقيقة قد فقدناه ونقصنا عامًا من أعمارنا، وربما يعجب من هذا الكلام ! وهو حق، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذَهَبَ يوم ذَهَبَ بعضك". (3)
فكل عام يمضي من أعمارنا نقترب به من الموت، ونهاية المطاف أشبه بالموظف الذي يأخذ إجازة ثلاثين يومًا، إذا قضى فيها عشرة أيام، يكون قد خسر منها عشرة أيام فصارت عشرين يومًا، فإذا انقضت الإجازة فكأنها لم تكن. (4)
3-الحذر من التسويف والتأجيل :
من الأمراض الاجتماعية الشائعة في مجتمعاتنا كثرة تأجيل الأعمال والتسويف في أدائها، حتى تمر الأيام والسنون الطويلة ولم نفعل شيئًا، ونحن لا ينقصنا العلم، بل ينقصنا الشروع في العمل بما نعلم .
وما أجمل الحكمة المشهورة : "لا تؤجل عمل اليوم إلى غد" . ومع ذلك كله فكثير من الناس يُسوفون ويُؤجلون، ويقولون سوف نعمل كذا، وسوف نتوب! وجاء عن بعض السلف : (أنذرتكم سوْفَ).
وأضرب لذلك مثالاً؛ تبدأ الدراسة فيقول الطالب : أذاكر غدًا -إن شاء الله-، ثم يأتي الغد فيقول بعد غد.. وهكذا يؤجل من يوم إلى يوم، ومن أسبوع إلى آخر حتى إذا اقترب موعد الامتحان، وأصبح أمامه وهو لم يذاكر؛ ندم أشد الندم على ما فات في تسويفه وتفريطه، ولات حين مناص.
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوصي ألا يؤخر عمل اليوم إلى غد، خشية أن تجتمع الأعمال الكثيرة، فتضيع الواجبات. (5)
وكان عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- حريصًا على أداء الواجبات والأعمال وعدم تأجيلها، وذات يوم قال لَهُ أحد أبنائه: لو أخرَّتَ عمل هذا اليوم إلى غد فاسترحت؛ فقال : قد أجهدَنا عمل يوم واحد، فما بالك بعمل يومين مجتمعين .
وقال الشاعر :
إن أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا *** ندمت على التفريط في زمن البذر
4ـ استدراك ما يفوت من العمل واستغلال مواسم الخير :
كثير من الناس يُبذرون في أوقاتِهم، والوقتُ سريعُ الانقضاء، فلا نجدهُ حتى نفقدهُ، ولا يكادُ يبدأُ حتى ينقضي، فلا يعودُ أبدًا.
وإِنْ فات عملُ الخير في النهار؛ فالليلُ خلفة منه قال تعالى : (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا)، وكان من عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا غلبه عن قيام الليل من نوم أو وجع، صَلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة . بمعنى أنه يُصليها في الضحى، أي يستدرك بالنهار ما فاته من الليل، وفي الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: "من نَامَ عن حزبِهِ، أو عن شيءٍ منه، فَقَرَأَهُ فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِبَ لَهُ كأنَّمَا قَرَأَهُ من الليل"(6). وقال تعالى : (وجعلنا الليل والنهار آيتين فَمَحَونا آيَةَ الليل وَجَعلنَا آيَةَ النهَار مُبْصِرَةً لِتَبتغوا فَضلاً من ربكم ولتعلموا عَدَدَ السنينَ والحسابَ وَكُلَّ شَيءٍ فصلناه تفصيلاً). وكذلك استغلال مواسم الخيرات: استغلال شهر رمضان بالصيام والقيام، وصيام شهر الله المحرم، لا سيما عاشوراء، وصيام ست من شوال، وعشر ذي الحجة، وكذلك قيام الليل والإنفاق والبر والجود وسائر الطاعات.(7)
5ـ لا يأتي عامٌ إلا والذي يليه شرٌ منه.(/1)
بوب البخاري -رحمه الله- باب "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه"، وذكر فيه حديث أنس: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرُّ منه حتى تلقوا ربكم" (8)،(9). قال ابن بطال : "هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يُعلم بالرأي وإنما يُعلم بالوحي" (10). والمقصود لا يأتي زمان إلا والذي بعده أَشَرُّ، مثل كثرة الفتن وابتعاد الناس عن معين الشريعة وانغماسهم في المعاصي كلما مرت السنون والأعوام، وهذا من حيث الأعم .
ويقول عبد الله بن مسعود معلقًا على حديث "لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة": "لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علمًا من اليوم الذي مضى قبله؛ فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون". ومن طريق مسروق عن الشعبي -رحمهما الله- قال: "وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يُفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه".(11)
ومصداق ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعُهُ من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رُؤوسًا جُهالاً فسُئلوا؛ فأفْتَوا بغير علم، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا" (12).
ففي الأعوام المنقضية القريبة فقدنا كوكبة من العلماء والفضلاء والدعاة، يتصدرهم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مناع القطان، والشيخ عطية محمد سالم، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ سيد سابق، والشيخ محمد بن صالح العثيمين وغيرهم..-رحم الله الجميع-، وإن أمة منها هؤلاء لأمة خيرٍ وَهُدى، وفي رحيلهم تبعات ومسؤوليات، وعبر وآيات، وما يعقلها إلا العالمون.
6ـ الحياة قصيرة وإن طالت في نظرنا :
الكل منا يعلم أن الحياةَ الدنيا لها أشكال كثيرة وألوان عديدة، ويريد أن يعب من لذائذها الكثير، ويستمتع بشهواتها، ويحرص على الاستمتاع بلحظاتها، لكن حياتنا الدنيوية متعتها زائلة، وشهواتها رخيصة مهما بذل الإنسان في أثمانها، وساعاتها قصيرة مهما طالت، وكل منا سيلقى حتفه وهلاكه ولو بعد حين .
قال مطرف بن عبد الله -رحمه الله-: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه" (13)، ولا ندري من يعيش يومًا آخر أَوْ عامًا جديدًا؛ بل لو تأملنا أعمارنا على اختلاف فيما بيننا لوجدنا أن عمرنا المنصرم سواءً أكان أربعين سنة أم ثلاثين أم عشرين.. أشبه بدقائق مرت مرور الكرام، وهكذا الحياة الدنيا قصيرة؛ فالحذر من التقصير!، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا، إنما مَثَلي وَمَثَلُ الدنيا كمثل راكبٍ قَالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتَرَكَهَا"، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابرُ سبيل". وكان ابن عمر يقول : "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري)(14) وخرجه الترمذي، وزاد فيه: "وعُدَّ نَفْسَكَ من أصحاب القبور". (15)
فالحذر الحذر من الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، قال أحد السلف: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد".(16)
فالإنسان المسلم يُؤمن بما بعد هذه الحياة الدنيا فيُدرك قيمة الزمن، ويُسخر ساعات هذه الحياة للبِرِّ والتقوى، وللعمل بما يُرضى الله تعالى (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم). (17)
7ـ دور الأمة في تسخير الأوقات :
إن الأمم تحسب أعوامها بمقدار ما تبنيه وتقدمه للبشرية جمعاء، فالسلف الصالح-رضوان الله تعالى عليهم- بنوا الحضارة الإسلامية في أزهى صورها في زمن قصير حتى أفاد من حضارتهم المجيدة الأمم الأخرى في الشرق والغرب، وشهد القاصي والداني بعظمة تلك الحضارة في ذلك الزمن القصير بعد ظهور الإسلام وانتشاره، وبقوة أولئك الأفذاذ المؤمنين بالله ورسوله، وسخروا إمكاناتهم العقلية والجسدية والزمنية لخدمة دينهم الذي ارتضاه الله لهم، فكانت أوقاتهم محسوبة منظمة، فلم يضيعوا فرصة، ولم يهدروا طاقة إلا فيما يبني أمتهم ويعلي مكانتهم بين الأمم والشعوب .(/2)
ولذا فالأمة التي لا تحسن الإفادة من الوقت لا تكون في مركز الصدارة والقيادة، وإنَّ مما يؤسف له أن غير المسلمين-في الوقت الحاضر- أشد حرصًا على الانتفاع بالوقت في العمل والبناء والجد والانضباط، أما المسلمون فهم أزهد الناس في الإفادة من أوقاتهم، فكثيرًا ما يمضونها في العبث والقيل والقال، وهم مسؤولون عن تضيع أوقاتهم ومغبونون بها، والناس عموما يعرفون قيمة الوقت، ولكن كثيرين لا يعرفون كيف يستغلونه، وذلك مصداق قول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة والفراغ" (رواه البخاري) (18) ، يقول ابن بطال-رحمه الله-معلقًا على الحديث: (كثيرٌ من الناس) "أي أن الذي يوفق لذلك قليل" (19). وجاء عن عمر بن الخطاب قوله : "إني لأكره أحدَكُم سُبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخره" ومعنى سبهللاً : أي فارغًا.
يقول الوزير ابن هبيرة :
الوقتُ أنفسُ ما عنيت بحفظه *** وأراهُ أسهل ما عليك يضيعُ
مع ملاحظة أن الوقت إذا لم يشغل بالخير شُغِلَ بالباطل، وكما يقال: إن الشيطان يسكن حيث يجد المكان فارغًا.
8ـ التخطيط للمستقبل :
من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتوقف عندها في انقضاء الأعوام، مسألة التخطيط للمستقبل، كيف نخطط لمستقبل الأمة الإسلامية مستلهمين الأعوام الماضية، مستشرفين الأعوام القادمة، مقدرين حاجات الأمة وعجزها، ومحاولة سد هذه الثغرات في المستقبل؟ والجواب على ذلك يكمن في وضع الخطط العملية الإيجابية الممكن تحقيقها على مراحل وخطوات؛ فالتخطيط للمستقبل يقوم على الإفادة من أحداث الماضي-قربت أم بعدت- حتى يتكامل البناء الحضاري للأمة الإسلامية، وترجع قيمتها بين الأمم، وهناك دراسات تُعنى بالمستقبل برع فيها الغرب، فما أحرانا -نحن المسلمين- أن نعد العدة لمستقبل الأيام والسنين ونخطط لها ونبتعد عن الأعمال العشوائية والارتجالية في حياتنا.
------------------------------
(*)عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
[1] صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص5.
[2] شرح السنة للبغوي (14/225(.
[3] حلية الأولياء للأصبهاني (2/148(
[4] انظر : صور وخواطر، ص6.
[5] انظر : تاريخ عمر بن الخطاب t لابن الجوزي ، ص151 .
[6] رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 747 .
[7] للإفادة : يراجع كتاب لطائف المعارف لابن رجب، فهو مفيد في الموضوع .
[8] تلقوا ربكم : أي حتى تموتوا .
[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (13/19-20(.
[10] المرجع السابق (13/21(.
[11] المرجع السابق
[12] رواه البخاري، 3-كتاب العلم ح(100)، ومسلم،47-كتاب العلم، ح(2673).
[13] لطائف المعارف، ص32.
[14] ح(6416).
[15] ح(2333) .
[16] لطائف المعارف، ص18 .
[17] ( سورة الشعراء )
[18] ح(6412)
[19] فتح الباري (11/230)
المصدر : الإسلام اليوم
...(/3)
وقفات في سيرة عثمان
1483
سيرة وتاريخ
تراجم
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
26/10/1419
اللحيدان
ملخص الخطبة
1- نسب عثمان وإسلامه. 2- إسلام عثمان. 3- شيء من فضائل عثمان. 4- إنفاق عثمان. 5- تواضع عثمان. 6- جمع المصحف. 7- حياء عثمان. 8- وصية عثمان.
الخطبة الأولى
أيها الأخوة المؤمنون:
خطبتنا هذه الجمعة عن علم من أعلام التاريخ، ومصباحٍ من مصابيح الدجى، بحياتهم تدفع المحن، وبموتهم تتعاقب الإحن وتكثر الفتن، كنظام عقد انقطع سلكه فتتابع.
حديثنا هذه الجمعة عن شخصية فذة من سجلات التاريخ، ومن صناّع الحياة وناسجو الأحداث.
حديثنا عن رجل حكم المسلمين بالعدل والإحسان، وسار فيهم سيرة سيد الأنام وطبّق فيهم شريعة سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، فقد كان وأرضاه كصاحبيه إحساناً وتقوى، وهدىً وعلماً. حكم الأمة الإسلامية اثنا عشرة سنة، كثرت في عهده الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وجمع الله به ما اختلف عليه الناس، فقد جمع القرآن في عهده على حرف واحد ونشر في الأمصار، لكل مصر مصحف، وبالجملة فقد كان عادلاً رحيماً مطبقاً لشريعة الله في حياته القولية والعملية، فأحبه الناس ورضوا به، ولذلك لما كان يوم موته أرقل يوم شهادته حزن الناس عليه حزناً شديداً، وبكى كبار الصحابة من البدرين وغيرهم، وتأسفوا عليه أسفاً بالغاً. ولعمري لماذا لا يبكون ويتأسفون ويحزنون وهم يفتقدون رجلاً صالحاً وإماماًً عادلاً، إماماً نشر فيهم العلم والدين، وحكم بهم بشريعة الله، ولم يداهن أعداء الله ولم يحارب في دين الله، فكان صدقاً وعدلاً من الأشداء على الكفار الرحماء بينهم.
حديثنا أيها الأخوة المؤمنون عن صاحبي جليل القدر والمكانة، ويكفي أن أول ما شرف به هذا الصحابي أنه ولد على يد أبي بكر الصديق ، وكان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البررة وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، ومنصور من نصره إنه صاحب الهجرتين، وزوج الابنتين ذو النورين أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة. ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار، فكان ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
إنه عثمان الخير، إنه عثمان الحياء، إنه عثمان الصدق والإيمان، إنه عثمان البذل والتضحية بالنفس والنفيس، إنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين.
أيها الأخوة المؤمنون: ولماذا سيرة هؤلاء العظماء وأخبار هؤلاء المصلحين؟ لأننا بحاجة ماسة لسيرة مثل هؤلاء الأفذاذ وأخبار هؤلاء العظماء، في زمان لمع فيه من لا خلاق له، ولا دين له.
وأبرز من لا قدر له في الإسلام، وطمست سيرة هؤلاء الأفذاذ وتناساها الناس.
نحن أيها الأخوة بحاجة ماسة لأن نربي أنفسنا وجيلنا على أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء قد أخرجت لنا قادة دان لها الشرق والغرب، وأنبتت لنا علماء ما زالوا يؤتون أكلهم كل حين بإذن ربهم، وأيضاً ينبغي أن نجعل ميزاننا وميزان من نعلّم ميزانا شرعياً، فالمحبوب عندنا من أحبه الله، والمكروه والمبغوض من أبغضه الله، وهذا نعرفه من جهة الظاهر وأما السرائر فإلى الله.
لا أخرج بكم بعيداً عن سيرة هذا الصحابي الجليل الذي أسلم في السنة السادسة عام الفيل وكان أول السابقين إلى الإسلام، فما إن سمع من أبي بكر عرض الدعوة إلا وانطلق لسانه يردد الكلمة التي دان لها العرب والعجم في ذلك الزمن. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن تلك الساعة انطلق عثمان لينصر دين الله في أرضه. وتحت سمائه فأخذ يشارك في غزوات النبي لا ببدنه فحسب بل حتى بماله .
كان عثمان من أجمل الرجال وجهاً، وأحسنهم شكلاً حتى من جماله كان الناس قبل نزول الحجاب على النساء يحتارون في أيهم أجمل هو أم زوجته رقية بنت رسول الله .
ولذلك يقول راجزهم:
أحس زوج رآه إنسان رقية وزوجها عثمان
قال أسامة: بعثني رسول الله إلى منزل عثمان بصحفة فيها لحم. فدخلت، فإذا رقية رضي الله عنها جالسة، فجعلت مرة انظر إلى وجه رقية، ومرة أنظر إلى وجه عثمان، فلما رجعت سألني رسول الله ، قال لي: دخلت عليهما؟ قلت: نعم، قال: فهل رأيت زوجاً أحسن منهما ؟ قلت لا يا رسول الله.
كان معتدل القامة، كبير اللحية، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس حسن الثغر قال عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان، فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.(/1)
أيها الأخوة: لقد جمع الله لعثمان من الفضائل والمكارم ما جعله بحق أن يكون في الدرجة الثالثة في الإسلام بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلقد تزوج بنت رسول الله رقية رضي الله عنها فلما توفيت زوجه رسول الله أم كلثوم، فتوفيت أيضاً في صحبته فقال رسول الله : ((لو كان عندنا أخرى لزوجناها عثمان))، قال الحسن البصري إنما سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره.
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي في حائط من حيطان المدينة (أي بساتينها) فجاء رجل فاستفتح (أي استأذن بالدخول) فقال النبي : ((افتح له وبشر بالجنة)) ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي : ((افتح له وبشره بالجنة)) ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: ((افتح له، وبشر بالجنة على بلوى تصيبه))، فإذا عثمان. فأخبرته بما قال رسول الله فحمد الله ثم قال: الله المستعان. [متفق عليه].
ولما صعد رسول الله الجبل جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف (أي الجبل) فقال: ((اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)) [رواه مسلم].
ولقد كان عثمان صاحب ثروة عظيمة وجاه في قريش، لكنه لم يسلط هذه الثروة الطائلة في احتقار الآخرين والاستعلاء على عباد الله المؤمنين.
لكنه استعمله في مرضاة الله، في الإنفاق في سبيل الله، فقد كان يبذل البذل العظيم لنصرة هذا الدين فقد أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي وهو يحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على جيش العسرة مرة أخرى، فقال يا رسول الله علي مائتي بعير بإحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على الجيش، فقال عثمان يا رسول الله عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله وهو يقول: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وهو الذي اشترى بئر رومة حيث قال رسول الله: ((من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة))، قال عثمان فاشتريها من خالص مالي.
أيها الأخوة: ولم يكن عثمان سباقاً في مجالات الجهاد بالمال والنفس فحسب، بل لقد كان عابداً خاشعاً خائفاً من الله لا يمل من قراءة القرآن، فقد روي عنه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود، أيام الحج.
وقد كان هذا دأبه . ولذلك قال ابن عمر في قوله تعالى: أمّن هو قانت أناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة.
هو عثمان بن عفان، وقال ابن عباس في قوله تعالى: هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
وكان يقول هو (عثمان) لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.
وكان رحيماً بأهله ويخدمه فقد كان إذا استيقظ من الليل لا يوقظ أحداً من أهله ليعينه على الوضوء، إلا أن يجده يقظاناً، وكان يعاتب في ذلك، فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟ فيقول: لا الليل لهم يستريحون فيه. فأين بعض الناس من ظلمهم الخدم وهم وعمالهم يكلفونهم ما لا يطيقون.
وإن أعظم منقبة سجلت لعثمان ولا ينساها التاريخ له أبداً، بل لا ينساها أهل الإسلام أبداً.
لأنه بها اجتمع شمل الأمة وذهب كيد الشيطان عنها.
ألا وهو جمعه الناس على حرف واحد، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله في آخر سنين حياته. وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان أخبره أنه لما كان في بعض الغزوات، رأى الناس يختلفون في قراءاتهم ويجهل بعضهم بعضاً في ذلك بل ويكفر بعضهم بعضاً، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى في كيدهم، وذكر له ما شاهد هناك.
فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد.
وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به.
فوافقه الصحابة، فأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب القرآن، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصراً آخر، وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى مكة واليمن، وأقر بالمدينة مصحفاً.
فرضي الله عن عثمان وجمعنا به في جنات النعيم.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين.
قلت ما قد سمعتموه واستغفروا الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه الطاهرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة في الله:
إن سيرة هذا العلم مليئة بالأحداث وما زالت فضائله مشهورة بين الناس، وأن أميز صفة تميز بها عثمان ، والتي أصبحت ملازمة لاسم عثمان، فما تذكر عثمان إلا وتذكرها ولا تذكرها إلا ذكرت عثمان، إلا وهي صفة [الحياء].(/2)
فقد كان عثمان حيّيا، كأنه العذراء في خدرها من شدة حيائه. فقد كان إذا اغتسل يغتسل جالساً لئلا يكشف شيء منه مع أنه في بيت مغلق عليه.
وتروي لنا عائشة قصة عجيبة يشهد فيها رسول الله أنه الملائكة تستحي من عثمان. فقد قالت رضي الله عنها كان رسول الله مضطجعاً في بيتي، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فيتحدث ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ولم تباله، (أي لم تغير من حالك شيء) ثم دخل عمر فلم تهتشّ له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) [رواه مسلم].
الله أكبر، لا إله إلا الله عبجباً لك يا ابن عفان تستحي منك الملائكة لشدة حيائك وتشد عليك ثيابك حتى لا يظهر شيء منك وتغتسل وحدك فلا تقيم صلبك حياءً من الله أن ترى شيئاً من عورتك وتحدثنا عن نفسك، وتقول: إنك ما مسست فرجك بيمينك منذ بايعت رسول الله ، فكيف لو رأيت زماننا هذا الذي ظهرت فيه النساء لا أقول الرجال بل النساء ظهرن بلباس فاتن وأظهرن مفاتنهن للرجال.
بل أين أنت من رجال لا يتورعون ولا يستحون أن تبدو شيء من عوراتهم ويلبسون القصير ويجولون فيه كل سوق واجتماع دون حياء من أنفسهم أو من الناس، وإلى الله المشتكى، فرضي الله عن عثمان بن عفان، فلقد كان مثلاً رائعاً للصدق والإيمان والحياء والبذل في سبيل الله.
فلما كان يوم مقتله رأى في المنام رسول الله وأبا بكر وعمر وأنهم قالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، فلما أصبح شد عليه سراويله خشية أن تبدو عورته إذا هو مات أو قتل وقال لأهله: إني صائم.
ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه وأخذ يقرأ فيه حتى قتل من يومه، وذلك قبيل المغرب بقليل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فكان خبر مقتلة فاجعة على الأمة الإسلامية فبكته النساء وبكاه الصحابة وأكثرهم حزناً عليه علي بن أبي طالب، واغتمت المدينة تلك الليلة وأصبح الناس بين مصدق ومكذب حتى استبانوا الأمر وتيقنوا الخبر، ووجدوا في دمه قد سقط على قوله تعالى في سورة البقرة فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ووجدوا صندوقاً وإذا فيه ورقة مكتوب فيها.
هذه وصية عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها نحيا وعليها نموت وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.
فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة مع حبيبنا محمد .(/3)
... ... ...
وقفات في سيرة عثمان ... ... ...
خالد الشارخ ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- نسب عثمان وإسلامه. 2- إسلام عثمان. 3- شيء من فضائل عثمان. 4- إنفاق عثمان. 5- تواضع عثمان. 6- جمع المصحف. 7- حياء عثمان. 8- وصية عثمان. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أيها الأخوة المؤمنون:
خطبتنا هذه الجمعة عن علم من أعلام التاريخ، ومصباحٍ من مصابيح الدجى، بحياتهم تدفع المحن، وبموتهم تتعاقب الإحن وتكثر الفتن، كنظام عقد انقطع سلكه فتتابع.
حديثنا هذه الجمعة عن شخصية فذة من سجلات التاريخ، ومن صناّع الحياة وناسجو الأحداث.
حديثنا عن رجل حكم المسلمين بالعدل والإحسان، وسار فيهم سيرة سيد الأنام وطبّق فيهم شريعة سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، فقد كان وأرضاه كصاحبيه إحساناً وتقوى، وهدىً وعلماً. حكم الأمة الإسلامية اثنا عشرة سنة، كثرت في عهده الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وجمع الله به ما اختلف عليه الناس، فقد جمع القرآن في عهده على حرف واحد ونشر في الأمصار، لكل مصر مصحف، وبالجملة فقد كان عادلاً رحيماً مطبقاً لشريعة الله في حياته القولية والعملية، فأحبه الناس ورضوا به، ولذلك لما كان يوم موته أرقل يوم شهادته حزن الناس عليه حزناً شديداً، وبكى كبار الصحابة من البدرين وغيرهم، وتأسفوا عليه أسفاً بالغاً. ولعمري لماذا لا يبكون ويتأسفون ويحزنون وهم يفتقدون رجلاً صالحاً وإماماًً عادلاً، إماماً نشر فيهم العلم والدين، وحكم بهم بشريعة الله، ولم يداهن أعداء الله ولم يحارب في دين الله، فكان صدقاً وعدلاً من الأشداء على الكفار الرحماء بينهم.
حديثنا أيها الأخوة المؤمنون عن صاحبي جليل القدر والمكانة، ويكفي أن أول ما شرف به هذا الصحابي أنه ولد على يد أبي بكر الصديق ، وكان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البررة وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، ومنصور من نصره إنه صاحب الهجرتين، وزوج الابنتين ذو النورين أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة. ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار، فكان ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
إنه عثمان الخير، إنه عثمان الحياء، إنه عثمان الصدق والإيمان، إنه عثمان البذل والتضحية بالنفس والنفيس، إنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين.
أيها الأخوة المؤمنون: ولماذا سيرة هؤلاء العظماء وأخبار هؤلاء المصلحين؟ لأننا بحاجة ماسة لسيرة مثل هؤلاء الأفذاذ وأخبار هؤلاء العظماء، في زمان لمع فيه من لا خلاق له، ولا دين له.
وأبرز من لا قدر له في الإسلام، وطمست سيرة هؤلاء الأفذاذ وتناساها الناس.
نحن أيها الأخوة بحاجة ماسة لأن نربي أنفسنا وجيلنا على أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء قد أخرجت لنا قادة دان لها الشرق والغرب، وأنبتت لنا علماء ما زالوا يؤتون أكلهم كل حين بإذن ربهم، وأيضاً ينبغي أن نجعل ميزاننا وميزان من نعلّم ميزانا شرعياً، فالمحبوب عندنا من أحبه الله، والمكروه والمبغوض من أبغضه الله، وهذا نعرفه من جهة الظاهر وأما السرائر فإلى الله.
لا أخرج بكم بعيداً عن سيرة هذا الصحابي الجليل الذي أسلم في السنة السادسة عام الفيل وكان أول السابقين إلى الإسلام، فما إن سمع من أبي بكر عرض الدعوة إلا وانطلق لسانه يردد الكلمة التي دان لها العرب والعجم في ذلك الزمن. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن تلك الساعة انطلق عثمان لينصر دين الله في أرضه. وتحت سمائه فأخذ يشارك في غزوات النبي لا ببدنه فحسب بل حتى بماله .
كان عثمان من أجمل الرجال وجهاً، وأحسنهم شكلاً حتى من جماله كان الناس قبل نزول الحجاب على النساء يحتارون في أيهم أجمل هو أم زوجته رقية بنت رسول الله .
ولذلك يقول راجزهم:
أحس زوج رآه إنسان رقية وزوجها عثمان
قال أسامة: بعثني رسول الله إلى منزل عثمان بصحفة فيها لحم. فدخلت، فإذا رقية رضي الله عنها جالسة، فجعلت مرة انظر إلى وجه رقية، ومرة أنظر إلى وجه عثمان، فلما رجعت سألني رسول الله ، قال لي: دخلت عليهما؟ قلت: نعم، قال: فهل رأيت زوجاً أحسن منهما ؟ قلت لا يا رسول الله.
كان معتدل القامة، كبير اللحية، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس حسن الثغر قال عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان، فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.(/1)
أيها الأخوة: لقد جمع الله لعثمان من الفضائل والمكارم ما جعله بحق أن يكون في الدرجة الثالثة في الإسلام بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلقد تزوج بنت رسول الله رقية رضي الله عنها فلما توفيت زوجه رسول الله أم كلثوم، فتوفيت أيضاً في صحبته فقال رسول الله : ((لو كان عندنا أخرى لزوجناها عثمان))، قال الحسن البصري إنما سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره.
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي في حائط من حيطان المدينة (أي بساتينها) فجاء رجل فاستفتح (أي استأذن بالدخول) فقال النبي : ((افتح له وبشر بالجنة)) ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي : ((افتح له وبشره بالجنة)) ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: ((افتح له، وبشر بالجنة على بلوى تصيبه))، فإذا عثمان. فأخبرته بما قال رسول الله فحمد الله ثم قال: الله المستعان. [متفق عليه].
ولما صعد رسول الله الجبل جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف (أي الجبل) فقال: ((اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)) [رواه مسلم].
ولقد كان عثمان صاحب ثروة عظيمة وجاه في قريش، لكنه لم يسلط هذه الثروة الطائلة في احتقار الآخرين والاستعلاء على عباد الله المؤمنين.
لكنه استعمله في مرضاة الله، في الإنفاق في سبيل الله، فقد كان يبذل البذل العظيم لنصرة هذا الدين فقد أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي وهو يحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على جيش العسرة مرة أخرى، فقال يا رسول الله علي مائتي بعير بإحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على الجيش، فقال عثمان يا رسول الله عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله وهو يقول: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وهو الذي اشترى بئر رومة حيث قال رسول الله: ((من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة))، قال عثمان فاشتريها من خالص مالي.
أيها الأخوة: ولم يكن عثمان سباقاً في مجالات الجهاد بالمال والنفس فحسب، بل لقد كان عابداً خاشعاً خائفاً من الله لا يمل من قراءة القرآن، فقد روي عنه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود، أيام الحج.
وقد كان هذا دأبه . ولذلك قال ابن عمر في قوله تعالى: أمّن هو قانت أناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة .
هو عثمان بن عفان، وقال ابن عباس في قوله تعالى: هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .
وكان يقول هو (عثمان) لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.
وكان رحيماً بأهله ويخدمه فقد كان إذا استيقظ من الليل لا يوقظ أحداً من أهله ليعينه على الوضوء، إلا أن يجده يقظاناً، وكان يعاتب في ذلك، فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟ فيقول: لا الليل لهم يستريحون فيه. فأين بعض الناس من ظلمهم الخدم وهم وعمالهم يكلفونهم ما لا يطيقون.
وإن أعظم منقبة سجلت لعثمان ولا ينساها التاريخ له أبداً، بل لا ينساها أهل الإسلام أبداً.
لأنه بها اجتمع شمل الأمة وذهب كيد الشيطان عنها.
ألا وهو جمعه الناس على حرف واحد، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله في آخر سنين حياته. وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان أخبره أنه لما كان في بعض الغزوات، رأى الناس يختلفون في قراءاتهم ويجهل بعضهم بعضاً في ذلك بل ويكفر بعضهم بعضاً، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى في كيدهم، وذكر له ما شاهد هناك.
فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد.
وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به.
فوافقه الصحابة، فأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب القرآن، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصراً آخر، وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى مكة واليمن، وأقر بالمدينة مصحفاً.
فرضي الله عن عثمان وجمعنا به في جنات النعيم.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين.
قلت ما قد سمعتموه واستغفروا الله العظيم لي ولكم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه الطاهرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة في الله:(/2)
إن سيرة هذا العلم مليئة بالأحداث وما زالت فضائله مشهورة بين الناس، وأن أميز صفة تميز بها عثمان ، والتي أصبحت ملازمة لاسم عثمان، فما تذكر عثمان إلا وتذكرها ولا تذكرها إلا ذكرت عثمان، إلا وهي صفة [الحياء].
فقد كان عثمان حيّيا، كأنه العذراء في خدرها من شدة حيائه. فقد كان إذا اغتسل يغتسل جالساً لئلا يكشف شيء منه مع أنه في بيت مغلق عليه.
وتروي لنا عائشة قصة عجيبة يشهد فيها رسول الله أنه الملائكة تستحي من عثمان. فقد قالت رضي الله عنها كان رسول الله مضطجعاً في بيتي، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فيتحدث ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ولم تباله، (أي لم تغير من حالك شيء) ثم دخل عمر فلم تهتشّ له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) [رواه مسلم].
الله أكبر، لا إله إلا الله عبجباً لك يا ابن عفان تستحي منك الملائكة لشدة حيائك وتشد عليك ثيابك حتى لا يظهر شيء منك وتغتسل وحدك فلا تقيم صلبك حياءً من الله أن ترى شيئاً من عورتك وتحدثنا عن نفسك، وتقول: إنك ما مسست فرجك بيمينك منذ بايعت رسول الله ، فكيف لو رأيت زماننا هذا الذي ظهرت فيه النساء لا أقول الرجال بل النساء ظهرن بلباس فاتن وأظهرن مفاتنهن للرجال.
بل أين أنت من رجال لا يتورعون ولا يستحون أن تبدو شيء من عوراتهم ويلبسون القصير ويجولون فيه كل سوق واجتماع دون حياء من أنفسهم أو من الناس، وإلى الله المشتكى، فرضي الله عن عثمان بن عفان، فلقد كان مثلاً رائعاً للصدق والإيمان والحياء والبذل في سبيل الله.
فلما كان يوم مقتله رأى في المنام رسول الله وأبا بكر وعمر وأنهم قالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، فلما أصبح شد عليه سراويله خشية أن تبدو عورته إذا هو مات أو قتل وقال لأهله: إني صائم.
ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه وأخذ يقرأ فيه حتى قتل من يومه، وذلك قبيل المغرب بقليل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فكان خبر مقتلة فاجعة على الأمة الإسلامية فبكته النساء وبكاه الصحابة وأكثرهم حزناً عليه علي بن أبي طالب، واغتمت المدينة تلك الليلة وأصبح الناس بين مصدق ومكذب حتى استبانوا الأمر وتيقنوا الخبر، ووجدوا في دمه قد سقط على قوله تعالى في سورة البقرة فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، ووجدوا صندوقاً وإذا فيه ورقة مكتوب فيها.
هذه وصية عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها نحيا وعليها نموت وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.
فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة مع حبيبنا محمد . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
وقفات مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه
221
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
8/3/1416
جامع السلام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل الصديق الأكبر رضي الله عنه. 2- جوانب من عظمة أبي بكر وتضحياته في مهد الإسلام. 3- مكانة الصديق عند رسول الله . 4- عظمة الصديق في خلافته نموذج لأولياء أمور المسلمين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتقوا الله ـ إخوة الإيمان رحمكم الله ـ. أيها المسلمون، الأمم والشعوب كما تحقق العز والمجد يمسها الضعف والهوان، وتاريخ الإسلام ليس مجرد أحداث مدونة ووقائع مسجلة، ولكنه عقيدة الأمة ودينها ومقياسها وميزانها وعظتها واستكبارها والتاريخ هو الكنز الذي يحفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والتجربة، وهو الذي يمدها ـ بإذن الله ـ بالحكم التي تحتاجها في مسيرة الزمن وتقلّبِ الأحداث. والأمة التي لا تحسن فقه تأريخها، ولا تحفظ حق رجالها أمة ضعيفة هزيلة مضيعة لمعالم طريقها.
إخوة الإيمان، نقف اليوم بكم مع رجل لا كالرجال, وفذ لا كالأفذاذ, يكفيه أنه صاحب رسول الله المقدَّم، إنه عظيم القدر رفيع المنزلة، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جَِهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، ولم يقدره قدره بعض أجيالنا ورجالنا ومثقفينا وكتابنا, يعرفون عن مغنية أو مغنًّ أو لا عب رياضي أو ساقط أو ساقطة، أكثر مما يعرفون عن هذا العَلمَ، إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه من وُِزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، لم يُؤْثر عنه أنه شرب خمرا قط، ولم يُْؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل بربا قط، ولم يُؤْثر عنه كذب قط، إنه من لا يخفى،فهو أبو بكر الصديق وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه من الرافضة والباطنية والضلال، نقف بكم اليوم على شيء من خبره وفيض من سيره، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير أمثال هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، ولنعلم أنه يوم تدارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة، وضيعت الأمانة.
روى ابن كثير في سيرته: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (لما اجتمع أصحاب رسول الله ألح أبو بكر على رسول الله في الظهور وعدم الاختفاء، فقال : يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى وافقه على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد وقام أبو بكر خطيبا في الناس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وثار عليه المشركون وثاروا على المسلمين معه، وضربوا أبا بكر ضربا شديدا حتى أن عتبة بن ربيعة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم ينزو على بطنه حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم قوم أبي بكر وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأرا لأبي بكر، وأبو بكر مغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه، فما تكلم إلا آخر النهار، فماذا قال ؟ لقد قال: ما فعل رسول الله ؟ هذا همه الذي يشغله حتى عن نفسه وراحت أمه تلح عليه أن يطعم شيئا وهو يقول: ما فعل رسول الله ، فتقول: والله يا بني ما لي علم بصاحبك، فيقول لها: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، فخرجت إليها: فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، فقالت لها أم جميل: أتحبين أن أذهب معك إلى ابنك، تريد سرية الأمر، فقالت: نعم، فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعا، فقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، فيقول أبو بكر مرددا: ما فعل رسول الله ، فقالت: إنه سالم صالح، فقال: أين هو ؟ فقالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا، حتى آتي رسول الله ، فانتظروا حتى سكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، ثم قال:يا رسول الله هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادع الله لها وادعها إلى الله، فدعاها ودعا لها رسول الله ، فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)[1]، وهذا من أعظم البر.. .
هذا موقفه، وهذه تضحيته في سبيل الله، الذي به علا شأنه، وارتفعت مكانته، وأبو بكر كان السبب في دخول الكثير في الإسلام منهم ستة من العشرة المبشرين: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة رضي الله عنهم.
وهو من أعتق عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار، هي كل تجارته، ليحقق معنى الجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.(/1)
ثم إلى وقفة أخرى مع الصديق حينما أسُري وعرج بالنبي في حادثة ومعجزة غريبة لم يعتدها مشركو قريش، بل لقد تأثر بعض ضعاف المسلمين وُِفتن بأن كَذَّب بالإسراء والمعراج، وحصوله في ليلة واحدة، فيذهب بعضهم إلى أبي بكر يريدون زعزعة عقيدته وإيمانه، فيخبرونه الخبر فوقف أمامهم ثابتا، وهو يقول: (إن كان قال فقد صدق الآن..) [2]، واستحق أبو بكر أن يلقب بالصديق.
أما حديثه في الهجرة فهو الحديث الذي لا ينقضي منه العجب، هل أحدثكم عن رغبته الملحة بمرافقة النبي ، وإعداده لهذه الرحلة وتربية أولاده لخدمة الدعوة في هذه الرحلة، أم أحدثكم عن فرحته العارمة حينما أذن الله لنبيه بالهجرة، وصحبته معه حتى أن فرحته هذه أبكته، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: (ما علمت الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح) [3]، ترى هل كان فرحه لمرافقة النبي لنزهة صيفية؟، لا إنها رحلة إلى عمق الأخطار، حيث قريش تبذل مائة ناقة لمن يأتي برأس أحدهما، أم أخبركم عن محافظته على النبي في هذه الرحلة حين كان يمشي أمامه تارة ثم يرجع خلفه ثم يذهب يمينا ثم شمالا، فيسائله رسول الله عن ذلك فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إذا تذكرت الرصد تقدمت، وإذا تذكرت الطلب تأخرت، فدعا له النبي بخير وقبل دخول الغار، يدخل أبو بكر ليتفقد الغار من الحشرات الضارة ويسد خروق الغار، بيديه ورجله حفاظا على النبي [4].
إنها التضحية والفداء في سبيل نماء هذه الدعوة، وظهورها، فبذل أبو بكر والصحابة معه كل قدراتهم في سبيل ذلك فأين نحن من هذا ؟! أين دورنا مع الدعوة إلى الله ؟! أين دفاعنا عن الدعاة والعلماء والذب عن أعراضهم ؟!.
أيها الإخوة المؤمنون، أما وقفتنا التالية مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - فهي تبين لنا مكانته عند النبي ، أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: (كنت جالسا عند رسول الله ، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى ركبته، فلما رآه قال: أما صاحبكم فقد غامر، أي وقع في هول وخطر، فأقبل حتى سلم على رسول الله ثم قال: يا رسول الله: إنه كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه – أي أخطأت عليه – ثم إني ندمت على ماكان مني فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فتبعته البقيع كله حتى تحرز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله ؛ فيقول : ((يغفر الله لك يا أبا بكر يغفر الله لك يا أبا بكر))، ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يصفح عنه فخرج يبحث عنه، حتى أتى منزل أبي بكر، فسأل هل ثمَّ أبو بكر، فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله فأقبل إلى رسول الله ، حتى إذا سلم فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره فجثا أبو بكر على ركبتيه، وقال: يا رسول الله، كنتُ أظلم كنتُ أظلم، فيقول - مبينا مكانة أبي بكر – ((إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟! فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟! )) فما أوذي الصديق بعدها أبدا[5].
أما بذل الصديق وعطاؤه، فيصفه لنا عمر بن الخطاب فيقول: كما روى الترمذي بسند حسن: (ندب النبي وسلم للصدقة ذات يوم فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر ولم أكن أسبقه في شيء طول الدهر، فجئت بنصف مالي فتصدقت به، فقال : ما أبقيت لأهلك، قال عمر: أبقيت لهم مثله، ويأتي أبو بكر بكل ماله لم يبق قليلا ولا كثيرا، فيقول له رسول الله : ما أبقيت لأهلك، قال: أبقيت لهم الله ورسوله !! فيقول عمر: فقلت في نفسي والله لا أسابقك إلى شيء بعد اليوم أبدا) [6].
وروى الإمام أحمد أن النبي قال: ((أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي))، فقال أبو بكر وددت يا رسول الله أني معك حتى أنظر إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)) [7].
هذه مواقف أبي بكر، هذه تضحياته، هذا فضله. أما حاله حين ولي الخلافة، حين ولي مقاليد الأمة، فهو الحال الذي تفتقده أمة الإسلام اليوم في ولاتها وحكامها، وجدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئا أن يتأمل سيرته وحاله في ولايته، أرأيتم خطبته حين تولى فماذا قال؟!
(أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتهما فلا طاعة لي عليكم)[8] هذا هو دستور أبي بكر في خلافته وولايته، فهل كانت هذه خطبة رنانة، وأقوالا فضفاضة، كالتي تنشر على شعوب الإسلام اليوم ولا يطبق حرف؟ هل كان قوله هذا غشا أو تجارة أو دعوة لانتخابه فقط؟ لا؛ إنه أبو بكر، إنه الصديق.(/2)
أول ما عمل أن سير جيش أسامة الذي ندبه النبي فأرهب به الروم والعرب، ثم قام بحرب المرتدين، وما تهاون معهم بل قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه للنبي لقاتلتهم عليه)[9]، روي في السير عن عمر بن الخطاب قال: (كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يوما فإذا هو بظاهر المدينة – أي خارجها – قد خرج متسللا، فأدركته وقد دخل بيتا حقيرا في ضواحي المدينة، فمكث هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت لأدخلن هذا البيت فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء، وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ فقالت: أنه ليتردد علينا حينا، والله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل ؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك، وقال: الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبكر) [10].
إننا إخوة الإيمان، تحت ضغط الحياة المادية نعتبر هذا الكلام نسج خيال، ولكنه الإيمان الذي وقر في قلوب أصحاب النبي فحولوه من أقوال إلى أعمال ومن آيات تتلى وتحفظ إلى أحكام تطبق ويعمل بها.
هذه جهود أبي بكر في الإسلام وهذا عمله، وهذه ولايته، ولذلك فقد استحق عن جدارة قول النبي فيما رواه الترمذي: ((ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها إلا أبا بكر فإن له عند الله يدا يكافئه بها يوم القيامة ))[11]، وختم حياته أبا بكر عنه بالمسك بأن ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعده فكانت خلافته عزًا وقوة للإسلام، وأوصى أبو بكر في حال موته، فقال: "أما قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهما، ولا دينارا، ولُكْنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي "، فما تَرِكتُه يا ترى؟ ما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه ؟ لقد خلف عبدا حبشيا وبعيرا كان يسقي عليه وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، فلما بعثوا بها إلى عمر بكى حين رآها حتى سالت دموعه، وقال: (رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده) [12].
نعم رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وسائر صحابة رسول الله لقد ودع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلا للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.[يوسف:111]
---
[1] البداية والنهاية لابن كثير (3/29 ـ 30).
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (3/62 ـ 63) وصححه ووافقه الذهبي.
[3] هذه اللفظة ليست في حديث البخاري، وانظر القصة في صحيح البخاري (3906)، وقول عائشة هذا أخرجه ابن إسحاق في سيرته (سيرة ابن هشام 2/485)، وراجع فتح الباري (7/235).
[4] أخرجه الحاكم (3/6) وقال: صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه. ووافقه الذهبي.
[5] صحيح البخاري (3661).
[6] سنن الترمذي (3675) وقال: حسن صحيح.
[7] لم أجده في مسند أحمد، وأخرجه أبو داود (4652)، قال الألباني: إسناده ضعيف. مشكاة المصابيح (6024).
[8] سيرة ابن هشام (4/661).
[9] أخرجه البخاري (1400) ومسلم (20).
[10] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، كما ذكر ذلك السيوطي في تاريخ الخلفاء (1/78) بنحوه.
[11] سنن الترمذي (3661)، وصححه الألباني. صحيح الترمذي (2894).
[12] انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي (1/78).(/3)
وقفات مع بداية الدراسة محمد بن مبارك الرشدان ...
1- انقضاء الإجازة السنوية بما حملته من أحداث جسام. 2- صور من حسن الخاتمة. 3- الاستعداد لما بعد الموت. 4- الهدف من تعليم أبنائنا في المؤسسات التعليمية. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أيها المسلمون، انقضت إجازة تُعدّ من أطول الإجازات، طُويت فيها صحائف، ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد من ولد، وأطلّ على الدنيا خلالها جيل جديد: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]، فسبحان الله؛ أيام تتعاقب، وليل ونهار، وأشهر وسنون؛ تقودنا إلى الآجال وإلى النهاية التي لن تُخطيء أحداً.
رأيت الدهر دولابا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور
وكم بنت الملوكُ لها قصورا فلم تبق الملوك ولا القصور
رأيت الناس أكثرهم سكارى وكأس الموت بينهم يدور[1]
كم مات في هذه الإجازة ممن نعرف؟ وكم مات ممن لا نعرف؟
شاب في مقتبل العمر ـ 29 سنة ـ دخل إلى غرفته ينام، والمستقبل مشرق بين عينيه، دخل ينام، وكله أمل أنه سيفعل ويبني ويتزوج؟ ولكنّ الإنسان لا يدري ماذا مخبأ له غدا! بعد ساعات، سمع أخوات هذا الشاب شهقة لأخيهم، فظنوا أنه يحلم، وما دروا أنها سكرات الموت، وبعد دقات انتهى كل شيء، مات الشاب اليافع القوي، مات من دون سبب ـ فيما نعلم ـ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42]، وسألت أخاه عن سبب موته، فردّ علي بحكمة فقال: الموت ما يعرف صغيراً أو كبيراً.
وشاب آخر ـ 25 سنة ـ من أهل هذه المنطقة؛ وأعرفه، من أهل الخير والصلاح، أدى العمرة مع زملائه، ثم ذهبوا إلى مدينة الرسول، وفي طريقهم راجعين، في يوم الجمعة، وبعد أن قرؤوا سورة الكهف في السيارة، أتى أمر الله، فحصل لهم حادث، هذا الشاب بعد الحادث أغمي عليه، ثم أفاق ونطق بالشهادتين، ثم مات رحمه الله، مات بعدما كتب وصيته قبل سفره، ووعظ فيها أهله، مات وقد خطب قبل سفره، رحمه الله ومن معه رحمة واسعة، نحسبه أنه من أهل الخير، فقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، دخل الجنة)) [أخرجه أحمد]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَه، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملا صالحا قبل موته، ثم يقبضه عليه)) [أخرجه أحمد, صححه الألباني]. وهذه الخاتمة الحسنة ـ نسأل الله حُسن الختام ـ نتيجة الطاعة والاستمرار عليها، والله سبحانه أمرنا أن نستمر على الطاعة؛ حتى نموت عليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه" اهـ.
والمشكلة ـ يا إخواني ـ ليست في الموت، لأنّ الموت نهاية كل حي، ولكن المشكلة ما بعد الموت، من الحساب:
ولو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بُعثنا ونُسأل بعد ذا عن كل شيء
بعد الموت يحاسب الإنسان ويُسأل عن كل شيء، يُسأل عن صلاته: ضيعها أم حفظها، يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه، وأين أنفقه، يُسأل عن الأمانات التي عنده؛ الأولاد والبنات: كيف ربّيتهم؟ هل بذلت الأسباب لصلاحهم؟ أم هيأت لهم أسباب الانحراف؟! من: فضائيات وما فيها من الرقص والمصائب التي تُقسّي القلب، وإنترنت وما فيه من المواقع المحرّمة والصور الفاضحة، ومجلات سخيفة عليها نساء كاسيات عاريات، تدعو إلى التخلّق بأخلاق الممثلات والمغنيات والراقصات، فمن هنا ينحرف الأولاد والبنات؛ فيأتون يوم القيامة ـ يا أيها الأب ـ ويتعلقون بك، يقولون: أنت السبب في فسادنا وانحرافنا!! وعندها تفرّ منهم وتهرب، ولكن: أين المفر؟!
فيا أخي، حاسب نفسك، واعتبر بما مضى من الليالي والأيام، واسأل نفسك: ماذا قدّمتُ لغدٍ؟
كم نسمع من يقول: مضت الإجازة بسرعة! بالأمس بدأت، والآن انتهت! نعم، وهكذا ما بقي من عمرك ـ أيها الإنسان ـ سيمضي سريعاً كالذي مضى قبله، فماذا أعددت لآخرتك؟ وبماذا ستلقى ربك؟ هل أنت مستعد للقاء الله، تخيل نفسك لو أنك أنت ذلك الميت؛ ماذا ستقول لربك إذا وقفت بين يديه وسألك: عبدي ألم أعطك الصحة والعافية والمال والولد، فأين حقُّ هذه النعم من الشكر.
هذه وقفة أولى وقفناها مع بداية هذا العام الدراسي: أن نعتبر بمضي الأعوام والمواسم، ففي سرعة الزمن عبرة للمعتبر؛ إذ هو منبه لقصر الأعمار، وقرب الآجال.(/1)
والوقفة الثانية: هل الشهادة هي الهدف؟ هل الهدف من التعليم ـ عندنا نحن المسلمين ـ أن نُخرّج مهندسين وأطباء ... فقط، بغض النظر عن الفكر والهمّ الذي يحملونه. للأسف هكذا نحن نربي أبناءنا، أليس الأب يقول لولده: (ذاكر يا ولد حتى تكبر وتصير مهندساً!! ادرس حتى تكون الأول!!).
من الذي يقول لولده الآن: (ذاكر يا ولدي واجتهد حتى تخدم دينك وأمتك، وحتى تصير مسلماً قوياً).
لا بد أن يكون مع التعليم تربية، نعم نعلم أبناءنا الهندسة والكيمياء والطب والحاسوب، ولكن لا ننسى أن يكون مع التعليم تربية على الأخلاق الفاضلة، نربيهم على حب هذا الدين والبذل له، ابنك عندما يرى إخوانه المسلمين في فلسطين تهدم بيوتهم، ويُشرّدون في العراء، اسأل طفلك في هذا الموقف: يا بني ماذا قدمت لهؤلاء المساكين؟ اجعله يشعر بشعور المسلمين، ويحزن لحزنهم، ويفرح لسرورهم، ويحاول أن يعمل شيئاً لمساعدتهم، حتى يشبّ ويكبر ومعه هذا الهمّ.
وهذا الكلام ليس موجهاً للآباء فقط بل حتى للمعلم.
فالهدف من التعليم: أن نربي جيلاً يفخر بدينه، وينافح ويدافع عنه، وينشره في العالمين، إن كان طبيباً في عيادته، أو مهندساً في مصنعه، أو معلما في مدرسته..
لا أن نربي جيلاً مهزوز العقيدة، لا قيم لديه، ولا هدف، دينه شهوته وفرجه ورياله!!
وهذا البذل للدين والعيش من أجله ليس مطلوباً من أبنائنا فقط؛ بل حتى منا، ينبغي أن نكون لهم قدوة في ذلك.
فيحاول كل واحد منا أن يخدم الإسلام ويبلغ دين الله بما يستطيع، كل على حسب جهده وطاقته وفي مجال تخصصه.
امرأة سوداء كانت تكنس المسجد، في نظر الناس عمل تافه، ولكنه عند الله ورسوله عمل عظيم.
فقدها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عنها فأخبره الصحابة أنها ماتت، فلما سمع هذا منهم، أحب أن يبين لهم منزلة هذه المرأة وجلالة العمل الذي كانت تقوم به؛ ذهب قبرها فصلى عليها[2].
فالإسلام يريد الطبيب المسلم العفيف الذي يكون أميناً على أرواح الناس وأعراضهم، ويريد التاجر المخلص الذي يثق به الناس وببضاعته، كما أنه يحتاج للعالم في الشرع البصير بدين الناس ودنياهم.
يقول أحد الدعاة: إن طبيباً أسلم على يديه عشرات من زملائه في المستشفى، وهذا الطبيب ليس عالماً، ولا طالب علم بل إنسان عادي، ولكن يجري في عروقه ودمه حب الدين، والتضحية له، والفخر والاعتزاز في انتسابه للإسلام، عكس كثير من المثقفين الذين يخجلون من إظهار بعض شعائر الإسلام وتعاليمه، خاصة إذا كانوا في بلاد الكفر أو مع الكفار في عمل أو غيره، فلا حول ولا قوة إلا بالله، أين عزة المسلم بدينه وعقيدته: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
نفعني الله...
[1] انظر: عيون الأشعار للحمصي (ص168).
[2] القصة أخرجها البخاري في الجنائز (1337)، ومسلم في الجنائز (956)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ...
المنبر
...(/2)
وقفات مع حديث الواصلة
إعداد/ المستشارأحمد السيد علي إبراهيم
ازداد الجدل في الآونة الأخيرة حول أحاديث الوصل والوشم والنمص
والتفليج، وبدأ بعض الناس يهرفون بما لا يعرفون وزادت حيرة المؤمنات من كثرة ما
سمعنه، فكان لنا هذه الوقفات لاستجلاء الحقيقة:
الوقفة الأولى: ذكر بعض
الأحاديث
1- عن أسماء رضي اللَّه عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول
اللَّه، إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمرق شعرها (أي سقط)، وإني زوجتها، أفأصل فيه
؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن اللَّه الواصلة والموصولة». [متفق عليه]
2- وعن عائشة رضي الله
عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنة لها فاشتكت فتساقط شعرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت: إن زوجها يريدها، أفأصل شعرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لُعن الواصلات».
[هذا
لفظ مسلم والحديث متفق عليه]
3- عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية رضي الله
عنه عام حج على المنبر وتناول قُصّة من شعر (أي خصلة) كانت في يد حرسي (أي
شرطي)، فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه
ويقول: «إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم». [متفق عليه] وفي رواية
للنسائي قال: «ما بال المسلمات يصنعن مثل هذا؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما
امرأة زادت رأسها شعرًا ليس منه فإنه زور تزيد فيه».
[رواه النسائي وصححه
الألباني في صحيح النسائي برقم 5092]
4- عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه
قال: لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات
خلق اللَّه. فبلغ ذلك امرأة من بني سعد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه
بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في
كتاب اللَّه ؟! فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللوحين فما وجدتُ فيه، ما تقول. فقال:
لئن كنت قَرَأْتِهِ لقد وَجَدْتِهِ، أما قرآتِ: وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى
عنه، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه. قال: فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت فلم تر من
حاجبها شيئًا، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتنا. [متفق عليه]
5- عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: «لُعنت الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة والواشمة
والمستوشمة من غير داء». [أخرجه أبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم
4170]
معاني المفردات:
الواصلة: هي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر، والمستوصلة:
التي تطلب أن يفعل بها ذلك ويقال لها موصولة.
والواشمة: فاعلة الوشم، وهي أن
تغرز إبرة أو مسلة أو نحوهما في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن
المرأة حتى يسيل الدم ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضر، وقد يفعل ذلك
بدارات ونقوش، وقد تكثره وقد تقلله والمفعول بها موشومة، فإن طلبت فعل ذلك بها
فهي مستوشمة.
النامصة: هي التي تزيل الشعر من الحاجبين والمتنمصة: التي تطلب
فعل ذلك بها.
المتفلجات: المراد مفلجات الأسنان بأن تبرد ما بين أسنانها؛
الثنايا والرباعيات، وهو من الفلج: وهي فرجة بين الثنايا والرباعيات، وتفعل ذلك
العجوز ومن قاربتها في السن إظهارًا للصغر وحسن الأسنان؛ لأن هذه الفرجة
اللطيفة بين الأسنان تكون للبنات الصغار، فإذا عجزت المرأة كبرت سنها وتوحشت
فتبردها بالمبرد لتصير لطيفة حسنة المظهر، ويقال له أيضًا الوشر ومنه لعن
الواشرة والمستوشرة.
الوقفة الثانية: حكم الوصل والوشم
والنمص والتفليج
قال
النووي رحمه اللَّه: «وهذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن الواصلة
والمستوصلة مطلقًا وهذا هو الظاهر المختار، وقد فصله أصحابنا فقالوا: إن وصلت
شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر
المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف لعموم الأحاديث، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر
الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه، وإن وصلته بشعر
غير آدمي فإن كان شعرًا نجسًا وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في
حياته فهو حرام أيضًا للحديث، ولأنه حمل نجاسة في صلاته وغيرها عمدًا، ويستوي
في هذين النوعين المتزوجة وغيرها من النساء والرجال.
إن سلف الأمة يقولون بحرمة
ذلك بالنسبة للزوج أو لغيره، فقد قال النووي رحمه اللَّه: «وفي هذا الحديث أن
الوصل حرام سواء كان لمعذورة أو عروس أو غيرهما». اهـ.
وقال الطبري: «لا يجوز
للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها اللَّه عليها بزيادة أو نقص التماسًا
الحسن لا للزوج ولا لغيره». اهـ.
وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث
العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، حيث قالت في فتواها رقم (10896):
«النمص الأخذ من شعر الحاجبين وهو لا يجوز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة(/1)
ويجوز للمرأة أن تزيل ما قد ينبت لها من لحية أو شارب أو شعر ساقيها أو
يديها».
الوقفة الثالثة: الفوائد المستنبطة
من هذه الأحاديث
1- أن الشعر الذي
بين الحاجبين ليس من الحاجبين فيجوز نتفه، وقد أفتت بهذا اللجنة الدائمة في
فتواها رقم 8701 .
2- يجب على المسلمة أن تتقي اللَّه ولا تنساق إلى دعاة
التيسير في غير موضعه فقد قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس
منه». [رواه البخاري ومسلم]
4- أن المرأة إذا احتاجت إلى إزالة بعض الأشياء من
أسنانها كسن طويلة تعيقها عن الأكل فلا بأس لقول عبد اللَّه بن عباس: فمن فعلت
لداء فلا إثم عليها.
5- الواجب على الدعاة أن يلزموا زوجاتهم بهذا حتى لا
يُؤتوا من قبلهم، فأم يعقوب حينما ألجمتها الآية قالت لابن مسعود رضي الله عنه
فإن أهلك يفعلونه أي أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون [البقرة:
44]
6- أن هذه الأفعال موجبة للهلاك كما هلك بنو إسرائيل.
7- لا يجوز فعل
المحرمات بدعوى التزين للزوج إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما أنه سيفتح
باب شر إذ سيقول زوج: إني لا يعجبني أنف زوجتي وأريد تصغيره فهل هذا
يجوز؟
والله الموفق(/2)
وقفات مع عودة المدارس الشيخ/ محمد بن إبراهيم السبر ...
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم، أحمده تعالى وأشكره على مايسر وأنعم، وأشهد ألا إله إلا لله وحده لا شريك له, ذو الفضل والنعم, أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وألزم. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله غفر الله له ما تأخر من ذنبه وما تقدم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سبيله بإحسان إلى يوم الدين أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281)
منظرٌ جميلٌ ومشهدٌ زاهي أن ترى فتىً غضاً طرياً في أحسنِ حلةٍ، وأبهى طلعةٍ ينؤ بحمل حقيبته، متأبطاً كتبه, متوجهاً إلى محضن التربية ومنهل العلم ومنبع الثقافة ومأرز الدين والخير ..
إنه مشهدُ الآلاف تتجه زرافاتٍ ووحداناً إلى المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ، إنه منظرٌ يسرُ الناظرَ لمجدِ أمتهِ , الطموحَ لعزِ دينه ومجتمعه،عند ما يرى العلمَ يسري في دماء شبابِ الأمةِ, والجهلَ يتضعضعُ أمامَ نورِ العلمِ، والأميةَ تتراجعُ أمامَ إشراقةِ الفكرِ، إنه منظر في طريقٍ لا يؤدي في النهاية إلا للعزِ والرفعةِ وتأمينِ العيشِ وهل أمةٌ سادت بغيرِ التعلمِ، وأعلى من ذلكَ وأجل: " من سلكَ طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهلَ اللهُ به طريقاً إلى الجنةِ " رواه مسلم.
وفي هذه الأيام نعيشُ فورةً عارمةً، واستنفاراً للطاقاتِ والجهودِ، استنفاراً في البيوت والأسواق لتأمين مستلزمات الدراسة وتسجيل الأبناء وتهيأتهم لخوض معترك العام الدراسي..
ولنا مع عودةِ الطلابِ عودةٌ ومع بدايةِ العامِ الدراسيِ وقفةٌ...
وأول هذه الوقفات: دور الآباء والأولياء:
فما هو دورك أيها الأب؟ إننا بحاجة إلى أبٍ يعي ويفقه متطلبات الشباب وحقوق البنوة على الأبوة ؟! إن بعض الآباء يعتقد أن دوره لا يتعدى شراءَ الكراريس والأقلام وتسجيل الأبناء, ويقول أنا انتهى دوري عند هذا الحد فأحسنُ اللباس ألبسته، وأحسنُ المدارس أد خلته، سيارةٌ بالسائق إلى المدرسة تُقله، والدراهمُ تملأُ جيبه و..و.. أظن أن دوري انتهى عند هذا الأمر، فما ذا تريدون مني!!
نقول: نعم بارك الله فيك جميلٌ منك هذا فهذا واجب النفقة وقد أديته بكل اقتدار وأنت مأجورٌ على ذلك إذا احتسبت ذلك عند الله فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أفضل دينار ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله، ودينارٌ ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" رواه مسلم ، وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك".
إنه من الخطأ أن يهتم بعض الآباء والأمهات بهذا الجانب جانب النفقة وتوفير الملبس والمأكل والمشرب دونما عناية بالجانب الأهم, وهو الاهتمام بالمخبر لا المظهر وخدمة القلب والروح .
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
والله جل وعلا يقول: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197) ، ويقول جل ذكره: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف:26) .
أيها الآباء والأولياء: إن مهمة التربية والتعليم ليست مقتصرةً على المدرسة فحسب بل لكم فيها النصيب الأكبر، فأنت أيها الأب تتحمل المسؤولية الكبرى عن تعليم ولدك وتربيته ومتابعته فالوالد هو المخاطب بقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6) ، وهذه الآية أصل في تعليم الأهل والذرية، قال علي رضي الله عنه عن هذه الآية: (قُوا أَنْفُسَكُمْ..) : أي: " علموهم وأدبوهم"، رواه الحاكم وصححه، وذكر ابن كثيرٍ - رحمه الله - في تفسيره عن الضحاك ومقاتل - رحمهما الله -: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه. أهـ (8/167).
نقول هذا أيها الأحبة: في غمرة مشاغل الأب وكثرة وظائفه وارتباطاته وأعماله فهو قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله وولده . قد يقول قائل إن المدرسة تقوم بهذا !! فيقال إن هذا لا يعني أن نُسقط التبعة عن الآباء ونلقي بالمسؤولية على كاهل المدرسة وحدها، لأن الوالد هو المربي والمدرس الاول فـ" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ".
وينشأ ناشئ الفتيان فينا***على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى*** ولكن يعوده التدين أقربوه(/1)
نعم إن المدرسة توجه وتربي لكن الابن لا ينام فيها، ولا يجلس فيها غالب وقته!! فالمعلم دوره توعوي وتوجيهي فهو يربي الطالب ويعلمه الدين والصلاة والآداب الشرعية كآداب النوم والأكل والشرب..الخ , ويأتي الأبُ ليؤكد ذلك فعلياً بالمتابعة والتنفيذ لأن الأب هو المخاطب بقوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه:132) ، وهو المخاطب بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " ..
إن الأب مطالب بتربية ابنه التربية الإسلامية وهكذا كانت تربية الجيل الأول لأولادهم روى البخاري في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة قال كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " قال عمر: " فما زالت تلك طعمتي بعد. وقال سعد: " كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن "
إن الأب مع المدرسة صنوان وعمودان لخيمة نجاح الأبناء، لكن المدرسة تشتكي أباً لا يزورها ولا يحضر مجالس الآباء، بل إذا حصلت مشكلة أو أزمة لابنه مع المدرس أو مع زملائه لا يكلف نفسه أن يسأل عن ملابسات الأمر.. المدرسة تشتكي أباً لا يطلع على التقارير الشهرية!! ولا يتابع واجبات أولاده ولا يساهم في تقويمهم وتسديدهم..
أخي الأب : إن حضورك ولو مرة في الشهر مهمٌ في تربية أبنائك لعدة أمور:
1- في ذلك تشجيع وتحفيز له على التحصيل وباعث له على التفوق – بإذن الله- ، كما ان ذلك يشعره بالثقة والاطمئنان لقرب أبيه منه.
2- قد يكون الابن يعاني من مشكلة أخلاقية أو نفسية أو صحية كضعف نطق أو نظر لا يعلمها الأب , وهذه المشكلة هي سبب في ضعف تحصيله وتقدمه, فيساهم حضور الأب وتفاعله في حلها وعلاجها.
3- الزيارة لها دورٌ إيجابي على الابن فبعض الطلاب في المنزل يكون هادئاً مؤدباً أمام والده هيبةً وخوفاً، ولكنه في المدرسة على النقيض من ذلك فهو مزعج أمام مدرسيه وزملائه ؟! ولو زار الوالد المدرسة لحل مثل هذا التناقض وهذه الازدواجبة ومنها يعرف الوالد طبيعة ولده.
إن الأب مطالب أن يتفهم رسالة المعلم ويؤازرها لا أن يحطمها ويدمرها إن مدارسنا - بحمد لله - ملأى بالأساتذة الصالحين والمعلمين المربين الذين هم على قدرٍ عال من الأمانة والمسؤولية بل ويساعدون في نمو الشاب عقلياً وفكرياً ونفسياً لكننا نجد الأب – مع الأسف- ينسف هذا كُلَهٌ شَعُرَ أم لم يشعر، درى أم لم يدري!!
فالمدرس الذي يعلم الطالبَ أن الغناءَ والدخانَ حرامٌ ووالده يناقض ذلك فيرتفع صوت الغناء في منزله وسيارته، بل ويجعل الابن وسيلةً لشراء الدخان ؟!
والمدرسة تعلم الأبناء والبنات أن الخلوة مع المرأة الأجنبية حرام، ووالدهم يناقض ذلك فيجعل الفتاة وهي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعية تذهب مع السائق بلا محرم, والوالد لا يرى غضاضة في الخلوة بالخادمة في المنزل ؟! فكيف نريد للمدرسة أن تؤدي دورها وبعض الآباء يهدمون..
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه*** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وما أكثر الهادمين في هذه الأيام فالشاشة تهدم، والمجلة الهابطة تهدم، ومواقع الأنترنت غير اللائقة تهدم، والشارع يهدم، وصحبة السوء تهدم..
أرى ألف بانٍ لا تقوم لهادم*** فكيف ببان خلفه ألفُ هادم
ومن عجب أن بعض الآباء يترك مسؤولية أبنائه وبيته ويقول أهم شئ عندي أن ينجح ويكفل نفسه وهو حر وتعلمه دنياه، ويتركه سِلماً للعوادي ..
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له*** إياك إياك أن تبتل بالماء
يا هذا أذكرك قولَ النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله سائل كل رجل عما استرعاه أ حفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته "، رواه ابن حبان وإسناده حسن، وقولََه صلى الله عليه وسلم :" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته "، [ متفق عليه ].
معشر الآباء والآمهات: الله الله في حقوق المعلمين والمعلمات ، اغرسوا في قلوب أبنائكم وبناتكم حب العلم والعلماء، و إجلال المعلمين والمعلمات وتوقيرهم واحترامهم طلباً لمرضات الله سبحانه وتعالى، علموهم الأدب قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطلب. علموهم الأدب مع الكبار والعطف على الصغار, علموهم الهدوء واحترام المساجد ودور العلم والعبادة .
هذه أم الإمام القبس مالك بن أنس رحمة الله عليه وعليها، لما أرد أن يطلب العلم ألبسته أحسن الثياب ثم أدنته إليها، ومسحت على رأسه، وقالت: يا بنيّ أذهب إلى مجالس ربيعة، وأجلس في مجلسه، وخذ من أدبه ووقاره وحشمته قبل أن تأخذ من علمه. علمته الأدب قبل أن يجلس في مجلس الدرس والطلب.(/2)
وهذا رب العزة والجلال يخاطب كليمه موسى عليه السلام فيقول: ( اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) [طه:13-14]. علمه سبحانه الأدب: أدب المكان : ( اخلع نعليك) علمه أدب الحديث: ( فاستمع لما يوحى) ثم أوحى إليه بالتوحيد والشريعة: ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري). الأدب ثم الأدب قبل أن يجلس الإنسان في مجالس العلم والطلب، يتعلم للعلم الوقار، يتعلم له الحشمة والقرار.
معشر الآباء والأمهات: أعينوا الأبناء والبنات على ماللعلم من مشاق ومتاعب، هذه أم سفيان الثوري رحمة الله عليه وعليها، ويا لها من أم صالحة، توفي أبوه وكان صغير السن حدثا، فنشأ يتيماً لا أب له، ولكن الله رزقه أماً صالحة كانت عوضاً له عن أبيه، أم وأي أم هذه الأم الصالحة، لما توفي زوجها تفكر سفيان رحمه الله في حاله وحال إخوانه وحال أمه فأراد أن يطلب العيش والرزق، وينصرف عن طلب العلم، فقالت له تلك الأم الصالحة مقالة عظيمة مباركة قالت له: أي بني اطلب العلم أكفك بمغزلي، فانطلقت الأم تغزل صوفها وتكافح في حياتها حتى أصبح سفيان علماً من أعلام المسلمين، إماماً من أئمة الشريعة والدين.. وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة الصالحة أعظم الله ثوابها وجزاها عن المسلمين خيراً.. عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا انفق الرجل على أهله نفقةً يحتسبها فهي له صدقة" متفق عليه.
أيها الاحبة: نقفُ وفقاتٍ مهمة مع بيت القصيد ومحط الركب ؟! نقف مع الموجه المربي ؟! إنها مع المدرس الذي هو أكثرُ الناس اتصالاً بأبنائنا الذي يقول فيسمعُ له، ويأمر فيصغى له ؟!
إننا نقول لكل من اشتغل بالتدريس إن أقل ما ينظر فيك أن يكون مظهرك إسلامياً، وأن يتفق القول مع الفعل وأن تكون الروح إسلاميةً حقاً..
نريد مدرساً أميناً على فلذات أكبادنا فإذا تكلم فلا يتكلمُ إلا بخير، حسنَ التعامل فلا تصدر منه إلا عبارات التربية والتوجيه، قدوةً في مظهره، محافظاً على صلاته، إذا دخل على الطلاب قابلهم بالبسمةِ وطلاقةِ الوجه قال صلى الله عليه وسلم :" لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" رواه مسلم، إذا دخل حياهم بتحية الإسلام...لا بتحية العوام صباح الخير مساء الخير ؟! إذا بدأ حديثه وشرحه بدأه بالحمد لله والثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم وهكذا نغرس التربية الإسلامية في نفوس أجيالنا ونربيهم على الأخلاق الحميدة.
وإنه لمنظر سيء أن تجد المدرس الفاضل يُغذي في الطلاب التعصب الرياضي، فيحلل لهم المباريات وأسباب خسارة الفرق الرياضية.. منظرٌ مشين أن ترى مربي الأجيال يتسلل لواذاً بين الحصص ليلوث فاه بالدخان.. منظرٌ سيئ أن ترى بعض المدرسين لا يحسن العدل مع الطلاب فيفضل هذا على هذا لا لأدبه ولا لجده بل لحاجةٍ في نفسه وظلمٍ في قلبه- نسأل الله العافية - وعلى العدل قامت السماوات والأرض.. منظرٌ سيئ أن ترى المدرس لا يتقن شرحه لدروسه بل ينام بقية الدرس أو يتضاحك مع الطلاب ساخراً ..
وإنني أتسآل أيها الأخوة: الطالب الذي يرى مدرسه في حالٍ من الميوعة والتسيب كيف يتعلم الفضيلة والرجولة!! الطالب الذي يسمع من مدرسه السبَ والشتمَ والبذاء كيف يتعلم حلاوةَ المنطق!!
والطالبة التي ترى معلمتها تسير خلف صرخات الموضة وصيحات الأزياء، وتتلقى كل ما يصدره الأعداء كيف تتعلم الفضيلة والعفاف.. والطالبة التي ترى مدرستها متبرجةً سافرةً كيف تلتزم بالحجاب والجلباب!! والطالبة التي ترى مدرستها تركب مع السائق وحدها , كيف تبتعد عن الاختلاط بالاجانب والخلوة بهم ؟! ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3). .
إنها مصيبة أن تختل الموازين حينما يتولى مهمة التربية والتعليم مَنْ لا يلتزم بأحكام الإسلام, متهاونٌ في أمر الله قد استحوذ عليه الشيطان، لأن المطلوب من المعلم المربي الإرشاد إلى كُلِ خلقٍ حسنٍ، والتحذير من كُلِ خلقٍ ذميمٍ، ولكن فاقد الشئ لا يعطيه..
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضـ ـنى كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ماوعظت ويقتدى بالعلم منكَ وينفعُ التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عارعليك إذا فعلت عظيم
أيها المدرسون والمدرسات: مهنتكم من أعز المهن، وقد قيل كاد المعلم أن يكون رسولاً .. إنها وظيفة ومهمة الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، قال صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت معلماً " {الضعيفة 1/66رقم 11}، فجملوا هذه المهنة بالإخلاص واحموها بالجد والمتابعة.(/3)
أخي المعلم: الأمانةَ الأمانةَ في الحضور .. في الانصراف .. في التصحيح .. في العدل بين الطلاب.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من عبد يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " رواه مسلم.ويقول صلى الله عليه وسلم : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك "
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم:( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
معاشر الطلبة والطالبات: ها قد عدتم إلى مقاعد الدراسة، والعود أحمد إن شاء الله، فكيف بدأتم هذا العام هل جددتم النية وأخلصتموها لله جل وعلا في طلب العلم، هل تتذكرون يوم أن تسعوا كُلَ صباح إلى أماكن الدراسة قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم :" من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة "، هل تستحضرون تقوى الله في طلبكم للعلم والله يقول:( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282).
أيها الإخوة الطلاب: لا أظن أنكم تحتاجون إلى من يذكركم بآداب طلب العلم والتزام الأخلاق الفاضلة .
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه***ما لم يتوج ربُه بخلاقِ
ماهو مدى أدبكم مع معلميكم وأساتذكم ومشايخكم، ماهو مبلغ الأدب فيكم مع زملائكم فالأدب مفتاح العلم، والاحترامُ والتقديرُ أساسُ الطلب، فيتعلمُ الطالبُ أدبَ الجلوسِ وأدبَ الاستماع وأدبَ السؤالِ والإنصاتِ وأدبَ الاعتذارِ والاستدراك.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ( كنت أصفح الورقة بين يدي شيخي مالك صفحاً رقيقاً لئلا يسمع وقعها )، ويقول الربيع: ( والله ما اجترأت أن اشرب الماء والشافعيُ ينظرُ إليَّ هيبةً له ).
أما ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم, ولندع ابنَ عباسٍ يكمل ويصور حاله فيقول : ( فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ من التراب , فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ما جاء بك هلا أرسلت إليّ فآتيك , فأقول لا أنا أحق أن آتيك قال : فأساله عن الحديث ) .
هذا هو الأدب حقاً قال بعض الشعراء مبيناً مغبة ازدراء المعلم قال الشاعر:
إن المعلمَ والطبيبَ كلاهما *** لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه *** وأصبر لجهلك إن جفوت معلما
وقال الآخر:
قم للمعلم وفه التبجيلا*** كاد المعلم أن يكون رسولاً
قال بعض العلماء : من لم يتحمل ذلَ التعلمِ ساعةً , بقي في ذل الجهل أبداً ، وينبغي أن يبدأ الطالب دراسته بكل همة ونشاط ومتابعة ودراسة لكي يُحَصِّل أكثر وأكثر. قال يحي بن أبي كثير : " لايستطاع العلم براحة الجسم " مسلم ، يقول أحد العلماء: من لم تكن له بداية مُحْرِقة لم تكن له نهاية مشْرِقة.
وأجدها فرصةً لأقف مع الطلاب وقفةُ مهمةُ فأقول: أخي الطالب ما نوع الزملاء والأصدقاء الذين تختارهم وتصطفيهم لرفقتك وصحبتك في المدرسة وفي الشارع والحارة ؟! هل هم من النوع المرضي في دينه الذي يعينك على الخير ويدلك عليه أم هم من النوع المسخوط في دينه الذي يدعوك إلي الرذائل ويسوغ لك فعل الباطل. .ألا ففر من المجذوم فرارك الأسد , وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" المرء على دين خليله "، ويقول أيضاً : " المرء مع من أحب"، ويقول : " لا تصاحب الا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ". ولذا قال جماعة من السلف: اصحب من ينهضك حاله ، ويدلك على الله مقاله.
إذا ماصحبت القوم فاصحب خيارهم***ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
نسأل الله للجميع العلمَ النافعَ والعملَ الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علماً وعملاً يارب العالمين.. صيد الفوائد
...(/4)
وقفات وفوائد في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لقد زكى الله تعالى الصادقين في توبتهم، ودعا المؤمنين إلى أن يكونوا معهم.
قال جل ذكره: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:18،19].(/1)
ولقد أخبر كعب بن مالك رضي الله عنه عن قصة هؤلاء الثلاثة وتخلفهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتبْ أَحَد تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ العَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الغَزَاةِ. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزاةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَعَدُوًا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ- يُرِيدُ الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ. وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا. فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ- بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِن الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي. فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ- وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ(/2)
يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ؟» أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ». فَقُمْتُ. وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ المُخَلَّفُّون، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ. فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُوننِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي. ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، فَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ. فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي. حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِن البَلاَءِ. فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا. حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِن الخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ. بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ. قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ(/3)
أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ. لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبْكِ». قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ. فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِنَا. فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ: قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ. قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِن الفَرَسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ. وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ. وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ حَتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَأَني، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ غيرُه، وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِن السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ». قَالَ قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِه. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِن المُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الحَدِيثِ- مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [التوبة:711] إِلَى قَوْلِهِ-: وكونوا مع الصادقين [التوبة:911] فوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ- بَعْدَ أَنْ هَدَانِي للإِسْلاَمِ- أَعْظَمَ، فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ(/4)
الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، فَقَالَ عز وجل: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم [التوبة:59] إِلَى قَوْلِهِ-: فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:69] قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَن الغَزْوِ، إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ. أ. هـ
وفي هذا الحديث من الفوائد الكثيرة؛ نذكر منها:
الأولى: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، وما ترتب على هذا التقصير من هجر ولوم وتأنيب وانعكاس ذلك على نفسه حتى ضاقت عليه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وفي ذكر هذا التفريط والتقصير نصيحة للمسلمين حتى يقبح لهم المعصية والمخالفة، ليتأسوا بذلك فيهجروا المعاصي ويتركوا الذنوب لما يترتب عليها من آثار سيئة وعاقبة وخيمة، فالعاقل من اعتبر بغيره، ثم إن كعبًا رضي الله عنه حين يعطي خلاصة هذه التجربة إنما يريد أن ينصح بها، ليتجنب من يبلغه الحديث أسباب ما وقع فيه، وفيه الحض على الإسراع بفعل الخير وعدم التكاسل عنه.
الثانية: جواز إخبار الرجل عن جوانب الخير في نفسه إن لم يكن فخرًا أو كبرًا والتحدث بنعمة الله تعالى التي مَنَّ بها على العبد، فلقد أكرم الله تعالى هؤلاء الثلاثة ودعا المؤمنين إلى أن يكونوا معهم، فإخبار كعب عن هذه التوبة وإتمام نعمة الله عليهم فرحةً وتحدثًا بنعمة الله، كل هذا جائز، فالله تعالى يقول: وأما بنعمة ربك فحدث [الضحى: 11]، وإن كانت تزكية النفس منهيًا عنها فإنها في هذا الموطن جائزة كما تجوز حين يريد الرجل أن يلفت النظر إلى نعم الله التي أنعم بها عليه، فلقد قال الله تعالى عن يوسف: قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف: 55].
الثالثة: جواز تعزير المتخلف عن الجهاد مع ولي أمر المسلمين حتى يشعر بألم المخالفة وينبغي لولي الأمر أن يذكره ويعنفه ويوبخه.. إلى غير ذلك من أنواع التعزير، حتى يأخذ بيده إلى الله تعالى، لأن إهمال المسلمين المقصرين وعدم السؤال عنهم يفسدهم ويعرضهم للزلل والزيغ، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا وقال: «ما فعل كعب؟» وأهمل المنافقين ولم يسأل عنهم لأنهم رجس، نعوذ بالله من الخذلان.
الرابعة: فضل بيعة العقبة والتواثق على الإسلام حتى إن كعبًا كان لا يراها دون مشهد بدر، وذلك لأن المسلمين في بادئ الأمر لاقوا من الاضطهاد والتعذيب ما جعلهم يخفون إسلامهم، ثم في ليلة العقبة يذهب المسلمون الجدد ليبايعوا ويعاهدوا الله ورسوله على الإسلام وهم يخافون أن يطلع عليهم أهل الكفر، فهذا يبين فضل ليلة العقبة وإن كانت بدر هي أشرف مشاهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولقد سمى الله يوم بدر يوم الفرقان.
الخامسة: عدم الاكتفاء بسرد ما حدث، بل التحدث بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والإخبار عنها قدر المستطاع، ففي أثناء حديث كعب يقول: «ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها». ثم يذكر أيضًا في حديثه: «وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس». ثم يذكر أيضًا: «وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر». وكذلك جاء في بعض الروايات: «وكان لا يقدم من سفر إلا نهارًا في الضحى». وهذا يدل على أن المسلم حتى وهو يسرد واقعة حديث له لابد ألا ينسى هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يغيب عنه هذا الهدي الكريم، ثم الحرص على الفائدة، وبذل النصيحة والمعروف ولو لم يطلب منه ذلك، وهذه صفة في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل في مسألة أجاب وربما يزيد لحاجة السائل كالذي سأله عن الوضوء بماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». [رواه أحمد 1/201، 202]
السادسة: الحذر من الجواسيس، وستر بعض الأمور عن الرعية للمصلحة، ولذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، وهذه حكمة عالية فالحذر شيء مطلوب، وكانت هذه عادته صلى الله عليه وسلم أن يعمي على الأعداء ليفوت عليهم فرصة الانقضاض على الإسلام والمسلمين، كما حدث ذلك في هجرته صلى الله عليه وسلم .
السابعة: لم يكن للجيش ديوان يجمعهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من دون الديوان ولذلك كان الرجل إذا تخلف ظن أن ذلك سيخفى على المسلمين، ما لم ينزل بذلك وحي من الله تعالى.(/5)
الثامنة: الندم على ما فات من تقصير وأن هذا الندم يدفع الهمم للطاعة لتدارك ما فات، ولذلك قال كعب: «فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت».
التاسعة: أن المتخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إما مغموص عليه النفاق، أو رجل من أهل الأعذار، أو من خلفه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة.
العاشرة: الرد والذب عن عرض المسلمين، فلقد رد معاذ على من طعن في كعب بقوله: حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا. ولو أن كل طاعن وجد من يقوم طعنه، لما تفشى القيل والقال، ولنجِىَّ الله تعالى أعراض المسلمين من الخوض فيها.
الحادية عشرة: الستر على صاحب الخطأ رجاء إصلاحه وعدم فضح أمره، فحينما رَدَّ معاذ عن كعب وَرَدَ ذكر اسمه، أما الذي قال: «حبسه براده والنظر في عطفيه فقال عنه: فقال رجل من بني سلمة» ولم يذكر اسمه، وكذا حينما صدق كعب مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ثار رجال من بني سلمة خلفه يؤنبونه، ولعل العلة في عدم ذكر أسماء هؤلاء وغيرهم حتى لا يشتهر عنهم المخالفة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في نصيحته: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. ولا يصرح بأسمائهم رجاء إصلاحهم وتجنبًا لفضح أمرهم.
الثانية عشرة: عظم أمر المعصية وقبحها، قال ابن حجر: وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله، ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حرامًا ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟
الثالثة عشرة: أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين، فانظر إلى عدد المتخلفين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يمتنع هو وأصحابه عن كلام أحد منهم إلا هؤلاء الثلاثة، ولما كان إيمانهم بهذه المكانة صبروا وتحملوا وخرجوا من هذه المحنة أقوى وأخشع وأتقى لله تعالى.
الرابعة عشرة: إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى، فمع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم كذب المنافقين إلا أنه قَبِلَ منهم علانيتهم ووكل السرائر إلى الله عز وجل، لأننا لم نؤمر أن نشق عن صدور الناس.
والله أعلم.(/6)
وقفة مع آخر العام ...
محمد عبدالكريم ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1- حدث جلل انقضت سنة في أعمارنا بما فيها من حسنات وسيئات. 2- هجرة النبي إلى المدينة. 3- نصر الله نبيه في مواطن الشدة. 4- صحبة الصديق للنبي في الهجرة. 5- بعض أحداث رحلة الهجرة. 6- وصول النبي إلى المدينة. 7- صيام عاشوراء. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
لا إله إلا الله, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب .
أما بعد:
وانقضت سنة من أعمارنا, وانقضت سنة من أعمارنا بالأمس إذ لفظت السنة أنفاسها الأخيرة وطوت هذه السنة أعمارنا فيها فما عُمل فيه من خير فقد دون ما عُمل فيه من شر فقد سُطِّر في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة, سُطرت الشهور, سُطرت الأيام, سُطرت كذلك الساعات بل الدقائق والثواني, نسخت الأعمال, نسخ الخير والشر, فهو في كتاب عند ربنا تعالى سيعرض علينا يوم الدين, وسننظر إلى السنة الماضية كأنها سنة حاضرة, ولن نكون كحالنا الآن ناسين السنة الماضية غير متذكرين إلا القليل القليل, غير ناظرين إلا إلى أعمال قليلة, لن يكون حالنا يوم القيامة كذلك, بل سنتذكر السنة المنصرمة وكأنها ساعة جلسنا فيها بل كأنها سويعةٌ جلسنا فيها, قال تعالى: فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى وقال تعالى أيضًا: ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم .
إي والله, إي والله, كأنها ساعة, هذا هو العمر كله, فكيف بسنة قد انصرمت, وكيف بسنة قد ذهبت, إن هذه السنة حين تنصرم من أعمارنا تذكرنا بحدث جلل حدث لرسولنا عليه الصلاة والسلام, يذكرنا به اسم هذه السنة, اسم هذه الأعوام التي تتوالى علينا هي أعوام هجرية نسبة إلى الهجرة, نسبةً إلى الكفاح, نسبةً إلى النصر الذي حققه الرسول , العام حين ينصرم نتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام كيف وقد خرج من مكة خرج فائزًا منتصرًا والظاهر أنه خرج عليه الصلاة والسلام فارًا بدينه, لا والله ليس هذا الفرار بالدين من الذلة والصغار, ليس هذا الفرار بالدين من المهانة, إنما هو من العزة والرفعة لهذا قال الله عز وجل: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذا هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فسمّاه الله عز وجل نصرًا, حين يبدو في الأنظار خروجًا وفرارًا قال تعالى: إلا تنصروه أي: إن أحجمتم عن نصرة هذه الدين وانشغلتم بالدنيا ولم تقدموا على الجهاد ولم يكن الدين في حياتكم له وزنًا, إلا تنصروه, إلا تنصروا محمد حيًا وميتًا فنصره عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم الدين, فإن موته عليه الصلاة والسلام لا يعني توقف نصره, إلا تنصروه أي: لو تخادلتم جميعًا عن نصرته فقد نصره الله, متى؟ متى كان نصر الله للنبي؟ لا يقول الله تعالى يوم بدر, لا يقول الله تعالى يوم فتح مكة, إنما يقول الله تعالى: إذ هما في الغار حين كان النبي عليه الصلاة والسلام في الغار في غار ثور إذ يقول صاحبه لا تحزن إن الله معنا ورد في الصحيح عنه لمّا دخلا في الغار وجاءت صناديد قريش تنظر إلى الغار: قال أبو بكر: "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال : ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) إنها الثقة بالله تعالى, ماذا تظن اثنين الله ثالثهما, رب العباد معهما, إن الأمير أو السلطان في الدنيا لو مال بكنفه على أحد من الناس لهاب الناس ذلك الذي مِيل إليه, لأقام الناس وزنًا لهذا الذي مِيل إليه, فكيف برب العباد؟ فكيف بالحيي الذي لا يموت إذا رضي بعبد من عبيده لذا كان معه معية نصر ومؤازرة ومعاونة ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)), إذ يقول لصاحبه لا تحزن تثبيتًا لصاحبه يقول للصديق: إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه , أنزل الله الطمأنينة في قلبهما وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا يا سبحان الله وكأن العمر قد انقضى وكأن الأيام قد تداولت, فترى أنفسنا أمام نصر مؤزر, فترى أنفسنا وكأن كلمة الذين كفروا السفلى ونرى أنفسنا وكأننا في يوم فتح مكة يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة خافظًا رأسه متواضعًا بالنصر الذي أكرمه الله تعالى به, يدخل فترى رأي العين كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا, مقدمة هذا النصر كان هناك في غار ثور في طريق هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام, وأبو بكر فزعٌ خائف والرسول يقول له: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).(/1)
تقول عائشة رضي الله عنها ـ والحديث مسطر في صحيح البخاري ـ: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين إلا وهما يدينان بالإسلام, ولم يمر عليّنا يوم إلا يأتينا فيه الرسول طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المؤمنون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أسيح بأرض الله, قال: أسيح في الأرض أعبد ربي, فقال له ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج, فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق, فأنا لك جار, ارجع واعبد ربك ببلدك, فرجع فطاف ابن الدغنة على قريش عشية فقال: إن أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج, فإنه يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكَل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق, فلم تكذبه قريش في جواره وقالوا له: مُرّ أبا بكر فليصلي بداره وليقرأ ما شاء في داره ولا يظهرن ذلك فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فأمره ابن الدغنة بذلك فكان أبو بكر الصديق في بداية الأمر يصلي في داره ويقرأ القرآن ثم بدا له أن يبني مسجدًا خارج داره فكان يقف ويقرأ القرآن قالت عائشة: وكان أبا بكر رجلاً بكاءًا إذا مر على القرآن بكى فتلتف النساء والصبيان حوله (فتقف النساء والصبيان حوله) فيستمعون إلى قراءته فلما سمعت قريش بذلك جاءت إلى ابن الدغنة وقالت: إنا كرهنا أن نخرج عليك جوارك فمر أبا بكر أن يكون في داره أو ليرد عليك ذمتك, فرجع ابن الدغنة إلى أبي بكر الصديق فأخبره بالخبر فقال: أرد عليك جوارك فإني في جوار الله عز وجل فمكث أبو بكر الصديق على ذلك يقاسي ما يقاسي من أذى قريش حتى جاء الفرج من الله تعالى فأمر رسول الله بالهجرة إلى المدينة فقال: كأني أنظر إلى مهاجركم في نخل بين حرتين قالت: الصحابة: كنا نظن أنها هَجَر أو اليمامة فإذا هي المدينة فخرجت الصحابة رضوان الله عليهم واستعد أبو بكر للهجرة فقال له : أمسك, فقال: لمَ يا رسول الله؟ فقال: إني أرجو أن يأذن لي ربي بإذن فقال: الهجرة؟ قال: نعم, فقال له أبو بكر: الصحابة.. الصحابة يا رسول الله, أي الصحبة الصحبة يا رسول الله, فقال له الرسول : نعم. فأخذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه راحلتين فعلفهما بورق التمر (بالخبط) مدة أربعة أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس عند أبي بكر الصديق جاءنا رسول الله في ساعة ما كان يأتينا فيه فقال القائل هذا رسول الله قد قدم فقال أبو بكر الصديق: بأبي هو وأمي والله ما قدم الساعة إلا في أمر فقال له رسول الله وكان متقنعًا اخرج إليّ, فقال: يا رسول الله, إنما أهلي أهلك فقال : ((إني أُمرت بالخروج)) قال: الصحبة يا رسول الله, فقال: نعم, قال: خذ أحد هذين البعيرين فقال : بالثمن, أي أنقدك الثمن, فهذه رحلة مباركة والتقديم فيها بالمال خير, فقال: بالثمن, قال: نعم, فأعطاه الراحلة.
قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحسن جهاز, ووضعنا لهما سفرةً في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب, فبذلك سميت ذات النطاق, قالت: ثم لحق رسول الله بغار في جبل ثور فمكث فيه ثلاث ليال, يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن, فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت, فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه, لا يسمع عبد الله في مكة أمرًا يكتادان به (أي الرسول وأبي بكر) إلا أخبرهما إذا ذهب إليهما في المساء, إلا وعاه حتى يأتيهما حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيذهب عليها حتى تذهب ساعة من العشاء أي يطمس آثارهما, فيبيتان في رسل وهو لبن مِنْحِتَهِما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر فهيرة حين تذهب ساعة من العشاء حين يغلس, يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.(/2)
فاستأجر رسول الله وأبي بكر الصديق رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا ـ والخريّت الماهر بالهداية ـ وهو على دين الكفار فأمناه فدفعا إليه راحلتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال (صبح ثلاث) وانطلق معهما عامر بن فهيرة فأخذ معهم طريق الساحل ـ أي الطريق الذي لا تفطن إليه قريش ـ ولمّا غدا رسول الله في ذلك الطريق مَرّ على بني مدلج وفيهم سراقة بن مالك بن جعشم فجاء إليه رجل فقال: فكأني بمحمد وأصحابه قد مَرّوا بكم قال سراقة بن مالك بن جعشم وكلامه في صحيح البخاري قال: إنما هما فلان وفلان رأيناهما بأعيينا فذهب فلبث هنيهةً ثم أمر جاريته بأن تُعد له فرسه فركب فرسه وانطلق في أثارهما فرأى النبي وصاحبه على مد البصر, فإذا فرسه تخر في الأرض قال: فاستخرجت الأزلام فاستقسمت بها ـ أخرج أزلامه كما كانت تفعل قريش ـ فأقسم بها فخرج الذي أكره فخالفتها ـ أي خالف الأزلام التي خرجت بما يكره, فذهبتُ في إثرهما فخارت فرسي في الأرض أكثر من الأول فعلمت أنه سيظهر أمره ـ أي علمت بأن الرسول عليه الصلاة والسلام سيظهر أمره, وفي الرواية التي في البخاري أنه لما قرب منهما في الثانية كان رسول الله يقرأ وكان أبو بكر الصديق يلتفت لماذا؟ خوفًا على نفسه؟ لا والله, خوفًا على الرسول عليه الصلاة والسلام, إنما هو رجل إذا هلك لم يهلك الدين, أما الرسول إذا مات خسرت البشرية كثيرًا فكان يلتفت رضي الله عنه يمنة ويسرة خوفًا على الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال سراقة بن مالك: فناديت فيهما بالأمان, فقربت منهما وقلت لهما: إن قريشًا قد أعدت مائة من الإبل في إثركما, وأعطيتهما الزاد فلم يسألاني وقالا: غَمِّم علينا ـ أي أخف عنا ـ أي إذا ذهبت إلى قومك فلا تخبر بآثارنا, وإنما عليك أن تصرف آثارهم عَنّا, قال أهل السير: فكان سراقة بن مالك يدل الناس على غير طريقه عليه الصلاة والسلام, فكان في أول النهار طالبًا لهما وفي آخر النهار حارسًا عليهما, وهكذا الله سبحانه وتعالى يحمي عباده تعالى إنه على كل شيء قدير.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بهديه عليه الصلاة والسلام في أمره كله إنه هو القادر على ذلك وهو العليم الخبير. ...
...
الخطبة الثانية ...
الحمد لله الذي رزقنا وكفانا وآوانا, الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام, نعمًا ظاهرة وباطنة فله الشكر وله الحمد ليل نهار, والصلاة والسلام على من أرسله تعالى رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركنا على المحجة البيضاء فصلى الله عليه كما عرفنا به ودعا إليه. أما بعد:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ وذلك في حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري ـ فنزلنا عند شجرة لها ظل, أي في طريق هجرته عليه الصلاة والسلام فقال للنبي امكث حتى آتيك وكان يحرسه فذهب إلى راعي غنم يرعى غنمات له فقال: لمن هي؟ فقال لرجل من أهل مكة أو المدينة, فطلب منه اللبن, فحلب له فوضعه في إداوة وأتى به النبي فوجده نائمًا فكره أن يوقظه, فلما استيقظ قال أبو بكر: فصببت عليه الماء حتى برد من أسفله فأعطيته النبي حتى رأيت أنه قد شرب من اللبن, فقال الرسول : متى الرحيل؟ فقلت: الآن يا رسول الله, وكان أبو بكر الصديق ـ كما هو في صحيح البخاري ـ كان الصديق أكبر من النبي سنًا فكان إذا رآهما الرائي أقبل على أبي بكر فقال: من هذا الذي بين يديك فكان الصديق رضي الله عنه يقول: هادٍ يهديني الطريق فيظن أنه الطريق وإنما هو بسبيل الخير أي يوري على الناس فيقول هذا هادٍ يهديني الطريق, وهو الطريق لكنه طريق الجنة, أي هو سبيل الخير كان على ذلك رضي الله تعالى عنه حتى قدم النبي المدينة المنورة وكانت الأنصار من الأوس والخزرج من بني عمرو بن عوف يخرجون إلى النبي في كل يوم حتى وقت الظهيرة فإذا اشتد الحر عادوا, حتى كان يوم هجرته فرآهما رجل من اليهود فلم يتمالك نفسه أن صرخ في بني عمرو بن عوف: أيها العرب هذا جدكم, فأقبلوا على النبي وكانوا لا يعرفونه فظنوا أنه أبو بكر الصديق فكانوا يقبلون على أبي بكر يصافحونه ظنًا منهم أنه الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أتت الشمس على النبي فوضع الصديق رداءه عليه فعرفوا بأنه عليه الصلاة والسلام فأقبلوا عليه يسلمون عليه ويقبلونه .
هذا هو طريق النصر الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام, وينبغي ونحن نستقبل مثل هذا العام أن نذكر هذا الكفاح الذي كافحه وأن ننصر دينه وإلا كما قال تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله , يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .(/3)
فنسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله وأن يجعلنا من الناصرين لدينه, وعلينا أيضًا إخوة الإيمان أن نستقبل هذه السنة بالأعمال الصالحة إذا كان يستقبل هذا الشهر شهر الله الحرام بالصيام, كان يستقبله بطاعة الأعمال كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة, وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان فقال : ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل, وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)). والحديث عند مسلم وأبي داود.
فكان يستقبل سَنته الجديدة بطاعة الله تعالى آكد الآيام في الصيام في هذا الشهر الذي نستقبله هو يوم التاسوعاء والعاشوراء؛ فقد صامه الرسول كما ثبت ذلك عنه في الصحيح لما قدم المدينة فوجد يهودًا تصوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا: يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم وأغرق فيه فرعون وقومه, فصامه موسى شكرًا لله, فقال رسول الله : ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه, أي صام عاشوراء, وأمر بصيامه وذلك في ابتداء الأمر ثم كان بعد ذلك من شاء صام ومن شاء تركه. فقال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن تاسوعاء)), فأكمل الصفات لصيامه أن يصوم الإنسان التاسع والعاشر وإلا اقتصر على العاشر, والله سبحانه وتعالى أعلم. ...
موقع المنبر ...(/4)
وقفة مع النفس في موسم الطاعات
جمال سعد حاتم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أما بعد:
تتوالى مواسم الطاعات وتنجلي، بالأمس القريب ودعنا شهر رمضان، وها نحن نستقبل موسمًا آخر من مواسم الطاعات، فمن قصر في أيامه الخالية فعليه أن يستدرك ما فات، وأن يغتنم عمره قبل الممات، وأن يتوب إلى الله من العصيان، وأن يكون على ما يحبّ الرحمن فيما يستقبل من الزمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه". {صحيح مسلم} فكم من مستقبل يومًا لم يكمله، وكم من مؤمل لم يدرك أمله، والأجل لا يأتي إلا بغتةً، لا يفرق بين صغير وكبير، ولا ذكر وأنثى قال تعالى: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين *ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون {المنافقون:10-11}.
إن عالم اليوم يعيش محطات تاريخية فاصلة، تأتي أمة الإسلام في قلبها وبؤرتها، إن العالم من حولنا يعيش متغيرات وتقلبات تحتّم على الأمة أن تتوقف لتحاسب نفسها وتراجع مسيرتها، فالأمة مدعوّة وبقوّة للمراجعة والنظر مليًّا في ماضيها القريب، فأمة الإسلام محاصرةٌ من قبل أعدائها في الداخل وفي الخارج مما يستدعي وقفة عميقة وجادة لتنظر ماذا تصنع وكيف تتدبر، وكيف تقاوض، في نفس الوقت الذي يجب فيه على الأمة أن تراجع علاقاتها مع شعوبها وحكوماتها وقياداتها وأنظمتها.
مدرسة الحج عبر وفوائد!!
ومع توالى مواسم الخير ونحن على أبواب موسم الحج، وأفئدة المسلمين إلى بيت الله الحرام حيث يستعد الحجيج للتوجه إلى الأراضي المطهرة، وقلوبهم وأبصارهم تتطلع إلى أرض الله الحرام، إلى البيت المعمور، يتجهون إليه كل يوم في صلاتهم، فول وجهك شطر المسجد الحرام {البقرة:144} وأنظارهم تتطلع لبقاع مباركة تتجدد فيها العبر والعظات، قال سبحانه: فيه آيات بينات {آل عمران:97}، الأمن والأمان في ربوعه بأمان من الله قال جل وعلا: ومن دخله كان آمنا {آل عمران:97} نفعه متعدِّ للحاضر والباد، ليشهدوا منافع لهم {الحج:28}، الأرزاق إليه دارة، والنعم حوله متوالية قال جل وعلا: أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون {القصص:57}.
وحج بيت الله الحرام بابٌ رحبٌ لحط الأوزار والآثام يقول عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص عند إسلامه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؛ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!. {رواه مسلم}
ففيه غسل أدران الخطايا والرزايا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". {متفق عليه صحيح البخاري ومسلم} ثوابه جنات النعيم يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". {رواه مسلم}
ومع اقتراب موسم من مواسم الطاعات واستعداد الحجيج للسفر إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة فرضها الله على القادر من عباده، فإن في الحج منافع وعبر وفوائد، فالتجرد من المخيط تُذكِرُ بلباس الأكفان بعد الرحيل.
وفيه إرشاد إلى التواضع ونبذ الكبرياء، الجمع كله إزار ورداء، والرأس خاضع للدّيان، هيأته الخضوع والاستكانة للرحمن، وإخلاص العمل لله وإفراده بالعبادة شعار الحجّ وبه افتتاح النُسُك "لبيك اللهم لبيك" فيها إعلان التوحيد ونبذ الشرك: "لبيك لا شريك لك لبيك" فيها تذكيرٌ بإسداء النِّعِمَ والثناء على المُنعِم: "إن الحمد والنعمة لك". ومن لبّى في بلد الله الحرام كان إلى التزام نداء الله بعد حجّه واستجابته لأوامره بعد أداء نُسُكِه أقرب.
ومع اقتراب موسم الحج ففي رؤية بيت الله المعمور مشهدٌ لإخلاص الأعمال لله. الخليل وابنُه يرفعان أشرف معمور ومع هذا يسألان الله قبول العمل وعدم رده وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم {البقرة:127}.
وللطواف وقع على القلوب ومهابةٌ في النفوس في بساط بيت الله الآمن، فلا موطن على الأرض يُتَقرَّب فيه إلى الله بالطواف سوى الكعبة المشرَّفة.
وفي تقبيل الحجر الأسود حسن الانقياد لشرع الله وإن لم تظهر الحكمة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضرَّ، ولولا أني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". {البخاري ومسلم}.
ومع اقتراب موسم الحج ففي مناسكه درسٌ في التقيُّد بالسنَّة وحسن الاتباع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذو عني مناسككم". {أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه} فعلى المسلم اتباع المصطفى في كل قربة واقتفاء أثره في كل طاعةٍ، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر:7}.(/1)
ومع اقتراب موسم الحج ففيه يوم عرفة يومٌ أغرّ، ملتقى المسلمين المشهود، يوم رجاء وخشوع وذُلِّ وخضوع، يوم كريم على المسلمين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه".
وأفضل الدعاء دعاء ذلك اليوم يقول ابن عبد البر في التمهيد 6-41: "دعاء يوم عرفة مجاب كلُّه في الأغلب" والإكثار فيه من كلمة التقوى مع مفهوم مدلولها ومعانيها خيرُ الكلام، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". {رواه الترمذي في سننه}. يوم يكثر فيه عتقاء الرحمن ويباهي بهم ملائكته المقرَّبين، يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة...". {صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها}. قال ابن عبد البر: "وهذا يدلّ على أنهم مغفور لهم، لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران". {التمهيد:1-120} فكُن مُخْبِتًا لله في ذلك اليوم، متواضعًا خاضعًا لجنابه، منكسرًا بين يديه، طامعًا في كرمه، راغبًا في وعده، راهبًا من وعيده.
إن اجتماع الناس في عرفة تذكير بالموقف الأكبر يوم الحشر لفصل القضاء بين الخلائق ليصيروا إلى منازلهم؛ إمَّا نعيم وإما جحيم.
ومن عظم الله على عباده أن جعل الدعاء في ذلك اليوم عظيم المكانة، رفيع الشأن، يرفع الحاج إلى مولاه حوائجه ويسأله من كرمه المتوالي، فتقيد بشروطه، وتمسّك بآدابه، واحذر من الوقوع في شيء من موانع إجابته، وتحرّ الأوقات والأمكنة الفاضلة لقبوله، وتوجه إلي الله بقلبك امتثالا لأمره في قوله: فادعوا الله مخلصين له الدين {غافر:14}، وارفع له سؤالك، وناجه بكروبك، وأيقن بتحقيق الإجابة، وألحَّ على الكريم في الطلب، ولا تيأس من تأَخُّرِ العطاء، ففي التأخير رحمة وحكمة وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون {يس:82}.
ومع اقتراب موسم الحج فإننا نُذكِرُّ بأن نُسُكَ النحر عبادة محضة لله، يتقرب بها المسلمون لربهم من هدي أو أضحية، لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم {الحج:37}.
يقترب موسم الحج وفي وضع النواصي بين يدي ربها حلقًا أو تقصيرًا استسلام لهيمنة الله وخضوعٌ لعظمته تَذَلُّلٌ لعزّته، والذكر وسيلة لِحياة القلب، وتهذيب النفوس، وتزكية الفؤاد، وإقامةُ ذكر الله، والإكثار منه في المشاعر مقصد من مقاصد أداء تلك الشعيرة، وأرجى لقبولها وأصدق في إخلاص فعلها، قال تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات {الحج:28} وقال جل وعلا: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام {البقرة:198}، وقال جل جلاله: فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا {البقرة:200}، وقال سبحانه: واذكروا الله في أيام معدودات {البقرة:203}، فصاحب ذكر الله في سائر حجِّك فمشاعر الحج شُرعت لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ولإقامة ذكر الله". {سنن الترمذي وأبي داوود}.
إصلاح العقيدة أساس كل إصلاح
يقترب موسم الحج والمسلمون في أمس الحاجة لتبصر أحوالهم في هذا المنعطف الخطير من تأريخ أمتهم. وليعلموا أن ما لحق بهم من ذلٍ ومهانة، وما مسهم من لغوب واستكانة في كثير من المجتمعات إنما يعود إلى تمزقُّ عُراهم وتفرق قواهم، وما شعيرة الحج إلا دعوة للمسلمين إلى وجوب الوحدة والاتحاد وثنيٌ لهم عَمَّا مُنُوا به في هذه الحقبة المعاصرة من ضعف وتدابر، لقد آن الأوان أن تجعل أمة الإسلام من هذا الموسم فرصة لاجتماعها، ومناسبة لاتحادها بعدما فرقتها الفتنُ والأهواء وشتتتها المحن، والله عز وجل يقول: إنما المؤمنون إخوة {الحجرات:10}، ويقول سبحانه: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا {آل عمران:103}.
وصلاح العقيدة سبب لكل صلاح فتوحيد الله من أعظم المقاصد في الحج، والإذعان له من كل فج والتقرب له سبحانه، وما التلبية التي يدوي بها الحجيج وتهتزلها جنبات البلد الأمين، وتجلجل بها المشاعر المقدسة إلا عنوان التوحيد والإيمان، وشعار الطاعة والإذعان وقد وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إهلال النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". {أخرجه مسلم}(/2)
إن الغيور على دينه من أهل الإسلام عمومًا، وقاصدي المسجد الحرام خصوصًا أن يكون مثلا عاليًا في إسلام الوجه لله، وإفراده بخالص التوحيد، وصدق العبوديّة، مع التمسُّك الوثيق بالسنّة والتزام منهج الإسلام الحق في الاعتدال والوسطية وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس {البقرة:143}، والتحلي بجميل الأخلاق والمزايا وكريم الشمائل والسجايا.
أمة الإسلام وأصحاب الهوى!!
الحج مشهد جليل مهيب من مشاهد هذه الأمة يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، وإن الناظر في أحوال الحجيج يقف على صورة جليَّة تحكي واقع الأمة الإسلامية بحلوه ومرِّه، ولذلك فإن المنطلقات المهمة أن تستثمر الأمة هذه المناسبة العظيمة لإصلاح واقعها في جميع جوانبه، والمستقرئ لأحوالها يرجع بالأمس لما آل إليه أمرها في كثير من أوضاعها، حيث اندرست جملة من معالم الشريعة حينما كدّرتها شوائب الضلالة وأصحاب الهوى ممن على صوتهم، وخفت عملهم، وكثرت شعاراتهم الجوفاء، فانفرط عقد وحدتها، وتناثر سلسال رونقها، وتفرقت بها السُبل والآراء، وتجارت بها المحن والأهواء، وذرّ قرن الفتنة في كثير من مجتمعاتها، وتكلمت الرويبضة، واستنسَر خفافيش الظلام ممن في نفوسهم عَرض وفي قلوبهم هوى ومرض ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!
فيا أمة الإسلام، يا حجاج بيت الله الحرام، يا جموع الطائفين بكعبة الله، القائمين حول بيته، الراكعين الساجدين في حرم الله، يا من أتيتم من كل فج عميق، واجتمعتم في هذا البيت العتيق، هذه قبلتكم قبلة واحدة، وهذه أمتكم أمّة واحدة، فبأي مسوِّغ شرعي تختلفون؟! وبأي مقتضى علميّ تتفرقون؟! وبأي موجب منطقيِّ تتنازعون، وأنتم أمام قبلتكم تجتمعون، وحيثما كنتم إليها تتوجّهون وشطرها تيممون؟! أما تعلمون وتوقنون أن في مخالفتكم ما أمرتم به من الاعتصام بحبل الله جميعًا ذهاب ريحكم، وضياع هيبتكم، وتسليط عدوكم عليكم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف العظيم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي".
نناشدكم الله أن تكونوا في طليعة الأمة إلى إصلاح أحوالها، وفي الصدارة إلى استقامة أوضاعها إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم {الرعد:11}.
ولتستقبلوا أيامكم بصفحة ناصعة منعمة بجلائل الأعمال، ولتعلموا أن من أسباب صلاح الحال ورفع البلاء الإلحاح على الله بالدعاء.
إحذروا عدَّوكم الشيطان الذي يريد أن تكون حياتكم لهوًا ولعبًا وكسلا عن الطاعات، ويريد أن ينغمس الإنسان في اللذائذ المحرمَّات والشهوات، وأن يفرق في بحار الغفلة والموبقات، فاعتصموا بربكم واثبتوا على صراط الله المستقيم فإنه الطريق إلى جنَّات النعيم.
تقبل الله منا ومنكم الطاعات ورفع شأن الأمة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين!!(/3)
وقفة مع عيد الحب
هشام برغش
1627
ملخص المادة العلمية
1- تعريف بعيد الحب وتاريخه. 2- حرمة المشاركة في أعياد الكفار وشعائرهم. 3- موقف الإسلام من الحب. 4- الحياة الزوجية والحب. 5- حقائق عن فشل ما يسمونه بزواج الحب. 6- حقائق عن موضع الزوجية في المجتمع الغربي. 7- واجب المسلمين تجاه هذا العيد.
ففي سلسلة من الهجمات الشرسة التي يشنها الكفار على الأمة الإسلامية لطمس معالمها والقضاء على قيمها يروج الإعلام الغربي وحلفاؤه لعيد خبيث، سموه باسم شريف، لينشروا الرذائل في أثواب الفضائل تلبيسًا وتدليسًا على المسلمين، ذلكم هو عيد الحب، أو عيد القديس فالنتاين!!
ماذا تعرفون عن يوم 14 فبراير؟!
ربما يقول البعض: لا نعرف عنه شيئاً، أو هو يوم كغيره من الأيام، ولكن الكثيرين سيقولون: إنه يوم الورود الحمراء والقلوب الحمراء والهدايا الحمراء... إنه عيد الحب ( Valantine’s day).
ولكن هؤلاء وأولئك ربما لا يدركون قصة هذا اليوم ولا سببه، ولا أنهم بذلك يشاركون النصارى في إحياء ذكرى قسيس من قسيسيهم.
ولكن ما قصة هذا اليوم وماأصله؟!
جاء في الموسوعات عن هذا اليوم أن الرومان كانوا يحتفلون بعيد يدعى (لوبركيليا) في 15 فبراير من كل عام، وفيه عادات وطقوس وثنية؛ حيث كانوا يقدمون القرابين لآلهتهم المزعومة، كي تحمي مراعيهم من الذئاب، وكان هذا اليوم يوافق عندهم عطلة الربيع؛ حيث كان حسابهم للشهور يختلف عن الحساب الموجود حالياً، ولكن حدث ما غير هذا اليوم ليصبح عندهم 14 فبراير في روما في القرن الثالث الميلادي.
وفي تلك الآونة كان الدين النصراني في بداية نشأته، حينها كان يحكم الإمبراطورية الرومانية الإمبراطور كلايديس الثاني، الذي حرم الزواج على الجنود حتى لا يشغلهم عن خوض الحروب، لكن القديس (فالنتاين) تصدى لهذا الحكم، وكان يتم عقود الزواج سراً، ولكن سرعان ما افتضح أمره وحكم عليه بالإعدام، وفي سجنه وقع في حب ابنة السجان ، وكان هذا سراً حيث يحرم على القساوسة والرهبان في شريعة النصارى الزواج وتكوين العلاقات العاطفية، وإنما شفع له لدى النصارى ثباته على النصرانية حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفو عنه على أن يترك النصرانية ليعبد آلهة الرومان ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له، إلا أن (فالنتاين) رفض هذا العرض وآثر النصرانية فنفذ فيه حكم الإعدام يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلة 15 فبراير عيد (لوبركيليا)، ومن يومها أطلق عليه لقب "قديس".
وبعد سنين عندما انتشرت النصرانية في أوربا وأصبح لها السيادة تغيرت عطلة الربيع، وأصبح العيد في 14 فبراير اسمه عيد القديس (فالنتاين) إحياء لذكراه؛ لأنه فدى النصرانية بروحه وقام برعاية المحبين، وأصبح من طقوس ذلك اليوم تبادل الورود الحمراء وبطاقات بها صور (كيوبيد) الممثل بطفل له جناحان يحمل قوساً ونشاباً، وهو إله الحب لدى الرومان كانوا يعبدونه من دون الله!!وقد جاءت روايات مختلفة عن هذا اليوم وذاك الرجل، ولكنها كلها تدور حول هذه المعاني.
هذا هو ذلك اليوم الذي يحتفل به ويعظمه كثيرٌ من شباب المسلمين ونسائهم، وربما لا يدركون هذه الحقائق.
لماذا الحديث عن هذا اليوم؟
لعل قائلاً يقول: إنكم بذلك تروجون لهذا اليوم الذي ربما لم يكن يعرفه الكثير؟!
ولكن نقول لأخينا إن المتأمل في أحوال كثير من الشباب في هذا اليوم وكذلك الحركة التجارية والتهاني المتبادلة في هذا اليوم ليدرك مدى انتشار هذا الوباء وتلك العادة الجاهلية والبدعة المذمومة في بلاد الإسلام انتشار النار في الهشيم، وهي دعوة وراءها ما وراءها من أهداف أهل الشهوات وإشاعة الفحشاء والانحلال بين أبناء المسلمين تحت اسم الحب ونحوه.
ثم قد يقول قائل: أنتم هكذا تحرمون الحب، ونحن في هذا اليوم إنما نعبر عن مشاعرنا وعواطفنا وما المحذور في ذلك؟!
والجواب:
أولاً: من الخطأ الخلط بين ظاهر مسمى اليوم وحقيقة ما يريدون من ورائه؛ فالحب المقصود في هذا اليوم هو العشق والهيام واتخاذ الأخدان والمعروف عنه أنه يوم الإباحية والجنس عندهم بلا قيود أو حدود . . . وهؤلاء لا يتحدثون عن الحب الطاهر بين الرجل وزوجته والمرأة وزوجها.
ثانياً: ثم إن التعبير عن المشاعر والعواطف لا يسَوِّغ للمسلم إحداث يوم يعظمه ويخصه من تلقاء نفسه بذلك، ويسميه عيداً أو يجعله كالعيد فكيف وهو من أعياد الكفار؟! .
وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم على التحذير من ذلك أشد التحذير:
فمن النصوص التي جاءت تحذر من المشاركة في أعيادهم:
1ـ قول الله تعالى في وصف عباد الرحمن : والذين لا يشهدون الزور[الفرقان:72]. قال ابن سيرين: "هو الشعانين" (عيد من أعياد النصارى). وقال مجاهد: "أعياد المشركين". وروي نحوه عن الضحاك.
2 ـ وقوله : لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه[الحج: 67].
3- وقوله تعالى :لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا[المائدة: 48].(/1)
قال ابن تيمية: "الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقال: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره, ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا)) [البخاري 952، ومسلم 892ا"[الاقتضاء (1/471ـ472)].
كما أن الأعياد من خصائص الأديان:
جاء في حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) [البخاري 952، ومسلم 892].
وفي حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))[أبو داود 2419،وهو صحيح].
قال ابن تيمية: "هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، ومعلوم أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك، ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد ..... وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعًا قويًا عن أعياد الكفار ويسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل". [الاقتضاء (1/444 ـ 445)].
كما أنه جاءت نصوص كثيرة في الأمر بمخالفة الكافرين واجتناب أفعالهم الدينية والدنيوية:
1- قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) [البخاري 3462، ومسلم 2103].
2- وقال عليه الصلاة والسلام: ((خالفوا المشركين؛ أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) [البخاري 5892، ومسلم 259].
3 ـ وقال عليه الصلاة والسلام: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود،صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً)) [أحمد 1/241.قال أحمد شاكر (2154): إسناده حسن].
علة النهي عن التشبه بالكافرين:
من الحكم العظيمة التي من أجلها نهى الله عز وجل عن التشبه بالكافرين أن مشابهتهم تورث محبتهم وموالاتهم، وذلك ينافي الإيمان.
قال ابن تيمية: "لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم".
هذا في المشابهة في الأمور الدنيوية، فكيف بمشابهتهم في الأمور الدينية؟ لاشك أن إفضاءها إلى المحبة والموالات أكثر وأشد.
وبعد أخي الحبيب وأختي الكريمة أما يكفينا معاشر المسلمين ما شرعه لنا رب العالمين وسنه لنا إمام المرسلين ؟!
اسمعوا لهذا الحديث لحبيبكم صلى الله عليه وسلم وهو ينهى الأنصار عن الاحتفال بعيديهم في الجاهلية: ((إن الله قد أبدلكما خيراً منهما: يوم الأضحى وعيد الفطر)) [أبو داود 1134، والنسائي 1556، وأحمد(3/103)، وهو صحيح].
ثالثاً:لا يوجد دين يحث أبناءه على التحابب والمودة والتآلف كدين الإسلام، وهذا في كل وقت وحين لا في يوم بعينه بل حث على إظهار العاطفة والحب في كل وقت كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [أبو داود 5124، والترمذي 2392، وهو صحيح]، وقال: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أَوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم)) [مسلم54
بل إن المسلم تمتد عاطفته لتشمل حتى الجمادات فهذا جبل أحد يقول عنه عليه الصلاة والسلام : (( هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)) [البخاري 2889، ومسلم 1365].
ثم إن الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى من قصره على صورة واحدة وهي الحب بين الرجل والمرأة، بل هناك مجالات أشمل وأرحب وأسمى؟ فهناك حب الله تعالى وحب رسوله عليه السلام وصحابته وحب أهل الخير والصلاح وحب الدين ونصرته، وحب الشهادة في سبيل الله وهناك محاب كثيرة؛ فمن الخطأ والخطر إذن قصر هذا المعنى الواسع على هذا النوع من الحب.
الحياة الزوجية والأسرية الناجحة إنما تقوم على المودة والرحمة:
لعل البعض متأثراً بما تبثه وسائل الإعلام والأفلام والمسلسلات ليل نهار، لعله يظن أنه لا يمكن أن ينشأ زواج ناجح إلا إذا قامت علاقة حب كما يقولون بين الشاب والفتاة حتى يتحقق الانسجام التام بينهما ومن ثم تكون حياة زوجية – إن وجدت – ناجحة.(/2)
وناهيك عما في ذلك الكلام من دعوة للاختلاط والانحلال وكثير من الانحرافات الخلقية وما ينشأ عنه من فساد كبير وجرائم عظيمة وضياع للحرمات والأعراض، لن نتناول الرد على هذه الدعوى من هذا المنطلق ولكن من واقع الدراسات والأرقام:
ففي دراسة أجرتها جامعة القاهرة (وهي جامعة علمية محايدة وليست جهة إسلامية حتى يشكك فيها)حول ما أسمته زواج الحب، والزواج التقليدي، جاء في الدراسة:
الزواج الذي يأتي بعد قصة حب تنتهي 88من حالاته بالإخفاق. أي بنسبة نجاح لا تتجاوز 12%. وأما ما أطلقت عليه الدراسة الزواج التقليدي فقد حقق 70من حالات النجاح.
وبعبارة أخرى فإن عدد حالات الزواج الناجحة في الزواج الذي يسمونه تقليدياً تعادل ستة أضعاف ما يسمى بـ"زواج الحب".[رسالة إلى مؤمنة 255].
وهذه الدراسة أكدتها جامعة سيراكوز الأميركية في دراسة تبين منها بما لا يقبل الشك إطلاقاً أن الحب أو العشق ليس ضمانة لزواج ناجح بل في الأغلب يؤدي إلى الإخفاق، وما هذه النسب المخيفة في حالات الطلاق إلا تصديق لهذه الحقائق.
ويقول الدكتور صول جوردن الأستاذ المحاضر في الجامعة السابقة تعليقاً على هذه الظاهرة: "إنك حين تكون في حالة حب؛ فإن العالم كله بالنسبة إليك يدور حول شخص من تحب، ويأتي الزواج ليثبت عكس ذلك، وليهدم تصوراتك كلها، لأنك تكتشف أن هناك عوالم أخرى لابد أن ننتبه لوجودها ليس عوالم البشر فقط؛ بل عوالم المفاهيم والقيم والعادات التي لم تكن لتنتبه لوجودها من قبل". [المرجع السابق].
ويقول د.فريدريك كونيغ أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة تولين: "إن الحب الرومانسي قوي وعاطفي جداً ولكنه لا يدوم، بينما الحب الواقعي مرتبط بالأرض والحياة ويستطيع أن يصمد أمام التجربة". ويضيف: "إنه من المستحيل أن يصل الإنسان إلى تطويع العواطف القوية في الحب الرومانسي؛ إن هذا الحب يبدو مثل الكعكة، يحس الإنسان بالمتعة وهو يتناولها، ثم يجيء زمن الهبوط، بينما الحب الواقعي هو الذي يعني تقاسم الحياة اليومية، والتعاون من أجل أن يستمر، وفي مثل هذا التعاون يستطيع الإنسان أن يصل إلى حاجته الإنسانية". [ملحق جريدة القبس 5537 نقلاً من رسالة إلى حواء 296].
وذلك الذي يتحدث عنه الكاتب ولا يدركه ويسميه الحب الواقعي هو ما عبر القرآن عنه بالمودة في قوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21].
فالصلة بين الزوجين صلة مودة ورحمة وليست علاقة عشق وهيام وصبابة وغرام؛ فهي صلة محبة هادئة (مودة) وصلة (رحمة) متبادلة، لا أوهام عشقية لا تثبت على أرض الواقع، ولا خيالات غرامية لم يقم عليها أي زواج ناجح.
وما أفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال ـ مخاطبًا النساء ـ: "إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام".
ولكن لا يفهم أحد من كلامنا أننا ندعو إلى إغفال العواطف بين الأزواج أو جفاف المشاعر والأحاسيس بين الزوجين ...
وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يضرب لنا أروع الأمثلة في محبته لأهل بيته كما جاء في السنة المطهرة :فيحرص عليه الصلاة والسلام أن يشرب من الموضع الذي شربت منه زوجه عائشة رضي الله عنها، وفي مرض موته يستاك بسواكها ويموت عليه الصلاة والسلام على صدرها،بين سحرها ونحرها فأي حب أشرف وأسمى من هذا؟!
ولكن هذا شيء وما يهدفون إليه من وراء دعوتهم هذه شيء آخر.
ثم أين دعوى الحب وتخصيصهم يوم عيد له، وهذا واقعهم كما تقول دراساتهم وإحصاءاتهم:
1 ـ في دراسة أمريكية عام (1407 هـ/ 1987م) جاء فيها:79من الرجال يقومون بضرب النساء، بخاصة إذا كانوا متزوجين ....!!
[جريدة القبس (15/2/1988)].
2 ـ وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء فيها: 17من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف من ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء. 83دخلن المستشفيات سابقًا مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أصبن بها: كان دخولهن نتيجة الضرب. وأضافت الدراسة أن هناك نساء أكثر لا يذهبن إلى المستشفى للعلاج بل يضمدن جروحهن في المنزل.
3ـ وفي تقرير للوكالة الأمريكية المركزية للفحص والتحقيق F.P.T فإن هناك زوجة يضربها زوجها كل 18 ثانية في أمريكا.
4 ـ ونشرت مجلة التايم الأمريكية أن حوالي 4000 زوجة من حوالي ستة ملايين زوجة مضروبة تموت نتيجة ذلك الضرب!!
5 ـ وفي دراسة ألمانية: ما لا يقل عن 100 ألف امرأة تتعرض سنويًا لأعمال العنف الجسدي أو النفساني التي يمارسها الأزواج أو الرجال الذين يعاشرونهن مع احتمال أن يكون الرقم الحقيقي يزيد على المليون.
6 ـ وفي فرنسا تتعرض حوالي مليوني امرأة للضرب.
7 ـ وفي بريطانيا في أحد استطلاعات الرأي شاركت فيه 7 آلاف امرأة قالت 28منهن: إنهن يتعرضن للهجوم من أزواجهن أو أصدقائهن.
ما الواجب على المسلمين تجاه هذه الانحرافات:(/3)
أولاً: التأكيد على عقيدة الولاء والبراء، ولوازمها، والتحذير من مشابهة أهل الكتاب في مظاهرهم وأعيادهم وأيامهم.
ثانياً:التحذير من الانسياق وراء الشعارات البراقة والدعاوى الكاذبة والمظاهر الخداعة، والتي تهدف في حقيقتها إلى جر المسلمين إلى حمأة موبوءة وفساد عريض.
ثالثاً: نداء إلى القائمين على أجهزة الصحافة والإعلام والمسؤولين عن عرض تلك الأفلام والمسلسلات والتي تزين الحب بين الفتى والفتاة، وتصور العشق مقدمة لابد منها لأي زواج ناجح كما يزعمون، فهي مع كونها ترسخ في أذهان الفتيات الصغيرات أوهاماً وخيالات تجعلهن عرضة للخطأ، وصيداً سهلاً لشباك الشباب الزائغ الضائع، فإلى جانب ذلك تعمل على هدم المجتمع وترفع نسب الطلاق؛ فتهدم المجتمع بإثارة الفتنة والشهوات بين أبنائه، وترفع نسب الطلاق حين تحسب الفتاة بعد الزواج أن زواجها قد أخفق؛ لأن مشاعر العشق توقفت، وواقعية الزواج ظهرت، والمسؤوليات تسارعت؛ فتحسب المخدوعة أن زواجها أخفق.
وكذلك يحسب الفتى الذي يجد زوجته قد انشغلت ببيتها وأولادها، ولم تعد تظهر له العواطف القديمة ومشاعر العشق الوالهة، أن زواجه قد أخفق؛ فينشأ الشجار لأتفه الأسباب، وتشتد الخلافات، ويحتدم الشقاق، ليقع الطلاق أو يمسكه على هون!!.
رابعاً: نداء إلى أصحاب المحلات والتجار المسلمين ألا يدفعهم حرصهم على ربح عاجل يوشك أن يفنى ألا يدفعهم ذلك إلى مشاركة هؤلاء في أفعالهم وإعانتهم عليها ببيع ما يستعينون به على ذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن بيعهم في أعيادهم للأكل والشرب واللباس يكره كراهة تحريم؛ لأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معين" . [اهـ بتصرف يسير من الاقتضاء (1/251)].
وهذا المنع إذا كان يبيعه لأهل الكتاب ليستعينوا به على دينهم ؛ فكيف ببيعه للمسلم المأمور بعدم التشبه بهم أصلاً؟!
فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين في الاحتفال بهذا اليوم
سئل فضيلته: انتشر بين فتياننا وفتياتنا الاحتفال بما يسمى عيد الحب (يوم فالنتاين)وهو اسم قسيس يعظمه النصارى يحتفلون به كل عام في 14 فبراير، ويتبادلون فيه الهدايا والورود الحمراء، ويرتدون الملابس الحمراء، فما حكم الاحتفال به أو تبادل الهدايا في ذلك اليوم وإظهار ذلك العيد جزاكم الله خيرًا. فأجاب حفظه الله:
أولاً: لا يجوز الاحتفال بمثل هذه الأعياد المبتدعة؛ لأنه بدعة محدثة لا أصل لها في الشرع فتدخل في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي مردود على من أحدثه.
ثانيًا: أن فيها مشابهة للكفار وتقليدًا لهم في تعظيم ما يعظمونه واحترام أعيادهم ومناسباتهم وتشبهًا بهم فيما هو من ديانتهم وفي الحديث: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ثالثًا: ما يترتب على ذلك من المفاسد والمحاذير كاللهو واللعب والغناء والزمر والأشر والبطر والسفور والتبرج واختلاط الرجال بالنساء أو بروز النساء أمام غير المحارم ونحو ذلك من المحرمات، أو ما هو وسيلة إلى الفواحش ومقدماتها، ولا يبرر ذلك ما يعلل به من التسلية والترفيه وما يزعمونه من التحفظ فإن ذلك غير صحيح، فعلى من نصح نفسه أن يبتعد عن الآثام ووسائلها.
وقال حفظه الله: وعلى هذا لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود إذا عرف أن المشتري يحتفل بتلك الأعياد أو يهديها أو يعظم بها تلك الأيام حتى لا يكون البائع مشاركًا لمن يعمل بهذه البدعة والله أعلم.
وبعد: أيها المسلمون، أما لكم في عيد الأضحى وعيد الفطر غنية وكفاية؟! أوليس دينكم هو دين السعادة والهداية؟! فاحذروا هذه الأعياد البدعية الكفرية، احذروها وحذِّروا الناس منها، واعتزوا بدينكم، وتميّزوا عن الضالين من غيركم، واربؤوا بأنفسكم عن أن تسيروا على آثارهم، أو تتأثروا بأفكارهم، فلأنتم أشرف عند الله من ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/4)
ولا تقربوا الزنا
الحمد رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وقائد الغر المحجلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فإنَّ من الأمور الخطيرة، والمنكرات الفظيعة، والموبقات المهلكة التي حذرنا الله منها في كتابه، ورسوله في سنته؛ ارتكاب فاحشة الزنا، قال الله-جل وعلا-: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} سورة الإسراء(32). وهذه قمة في البلاغة، ومعناه لا تتعاطوا الوسائل والأسباب المؤدية إلى الوقع في هذه الكبيرة. ومن الوسائل والأسباب التي قد تؤدي بصاحبها إلى الوقوع في هذه الفاحشة شرب الخمور- أم الخبائث- والنظر إلى الكاسيات العاريات، وسماع الأغاني الماجنة، ومشاهد الأفلام الخليعة، والخلوة واختلاط الرجل بالمرآة، وغير ذلك من الوسائل والأسباب، قال الذهبي -رحمه الله-: النظرة بشهوة إلى المرآة والأمرد زنا، ولأجل ذلك بالغ الصالحون في الإعراض عن المردان وعن النظر إليهم، وعن مخالطتهم ومجالستهم1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًاً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان (68) (69). وقال عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات: وذكر منها: (الزنا)2. والآيات والأحاديث في ذم هذه الفعلة والتشنيع على فاعلها كثيرة جداً.
والذي يجب علينا أن نعلمه هو الزنا حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، وأن بعضه أشد تحريماً من بعض، قال ابن حجر- رحمه الله-: عد الزنا من الكبائر هو ما أجمعوا عليه...وبعض الزنا أغلظ من بعض، فالزنا بجليلة الجار، أو بذات الرحم، أو بأجنبية في شهر رمضان، أو في البلد الحرام، فاحشة مشينه3. كما يجب علينا أن نعلم أن الله- سبحانه وتعالى- لم يحرم علينا أمراً إلا لأن فيه ضرر علينا في ديننا أو دنيانا، ولم يوجب علينا أمراً أو يبحه لنا إلا لأن فيه منفعتنا في الدنيا والآخرة. وقد تبين من خلال ما ذكره العلماء، وما نشاهده في الواقع أنَّ للزنا مفاسد عديدة، دنيوية وأخروية، ومضار مخيفة؛ من هذه المفاسد والمضار:
1. أن الزنا (الزاني والزانية) يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة.
2. أنه يورث غضب الرب -تبارك وتعالى- بانتهاك حرمه، وإفساد خلقه.
3. أنه دليل على خبث النفس، وذهاب الحياء، ورفع الحشمة.
4. سواد وجه الزاني وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين.
5. ومن مضاره ظلمة القلب، وطمس نوره.
6. أنه يورث الفقر اللازم؛ لأن الله -عز وجل- مفقر للزناة.
7. أنه يهذب حرمة فاعله، ويعرضه للحد في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
8. أنه يسلب الزاني أحسن الأسماء، وهي العفة والبر والأمانة، ويعطيه أضدادها كالفاجر والفاسق والزاني والخائن.
9. أنه يفارق الزاني وصف الطيب الذي يبتسم به أهل العفاف، ويستبدل به الخبث الذي يتصف به الزناة، وقد حرم الله الجنة على كل خبيث، وجعلها مأوى للطيبين4.
10. ومن مضار الزنا على المجتمع اختلاط الأنساب واشتباهها، ويؤدي إلى ضيق في الأرزاق، وخراب في الديار، وإيقاع الوحشة بين أبناء المجتمع.
11. أن الزنا سبب لظهور أمراض وبلايا لا يعلمها إلا الله -عز وجل-، ومنها مرض فقد المناعة (الإيدز) الذي شاع في المجتمعات الفاجرة هذه الأيام.
12. في زنا الزاني جناية على ذريته بجلب العار والخزي لهم من ناحية، وتعريضهم-إلا من رحم الله- لمثل هذه الفعلة الشائنة من ناحية أخرى5.
ولكن باب التوبة مفتوح لكل تائب مهما كان ذنبه مالم يغرغر، وهذه وقت خاص بالتوبة، أو مالم تطلع الشمس من مغربها؛ وهذه وقت عام؛ فيجب على من وقع في فاحشة الزنا، أو تسبب في ذلك أو أعان عليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يندم على ما مضى، وألا يرجع إليه إذا تمكن من ذلك، وأن ينكسر بين يديه مخبتاً منيباً، عسى أن يقبله، ويغفر سيئاته، ويبدلها حسنات: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} سورة الفرقان(68-70). والله نسأل أن يتوب علينا إنه تواب رحيم.
---
1 - انظر الكبائر (58) بتصرف يسير.
2 رواه البخاري ومسلم.
3 - الزواجر صـ(541) وما بعدها بتصرف واختصار.(/1)
4 - غذاء الألباب (1/443) بتصرف.
5 - موسوعة نظرة النعيم (10/4583)(/2)
ولذكر الله أكبر
178
الدعاء والذكر
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- الذكر حياة القلوب وجلاؤها. 2- فضيلة عبادة الذكر. 3- دور الذكر في حرب المؤمن للشيطان. 4- دور الذكر في عون المؤمن على شؤونه الدنيوية. 5- الذكر يكون على كل حال. 6- الذاكرون الغافلون. 7- مجالس الغفلة عن ذكر الله.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل ، اتقوه في السر والعلن ، اتقوه واعبدوه ، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون .
أيها الناس :
إن قلوب البشر طُرا ، كغيرها من الكائنات الحية ، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء ، ويتفق العقلاء جميعا ، أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد ، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع ، وتجف كما يجف الضرع ؛ ولذا ، فهي تحتاج إلى تجلية وري ، يزيلان عنها الأصداء والظمأ ، والمرء في هذه الحياة ، محاط بالأعداء من كل جانب ؛ نفسه الأمارة بالسوء ، تورده موارد الهلكة ، وكذا هواه وشيطانه ، فهو بحاجة ماسة ، إلى ما يحرزه ويؤمنه ، ويسكن مخاوفه ، ويطمئن قلبه . وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء ، ويحرز من الأعداء ، ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها ؛ فهو جلاء القلوب وصقالها ، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها .
قال ابن القيم رحمه الله : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف يكون السمك إذا فارق الماء ؟
عباد الله :
العلاقة بين العبد وبين ربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح ، أو في المساء فحسب ، ثم ينطلق المرء بعدها ، في أرجاء الدنيا غافلا لاهيا ، يفعل ما يريد دون قيد ولا محكم ؛ كلا هذا تدين مغشوش ، العلاقة الحقة ، أن يذكر المرء ربه حيثما كان ، وأن يكون هذا الذكر مقيدا مسالكه بالأوامر والنواهي ، ومبشراً الإنسان بضعفه البشري ، ومعينا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه .
لقد حث الدين الحنيف ، على أن يتصل المسلم بربه ، ليحيا ضميره ، وتزكوا نفسه ، ويطهر قلبه ، ويستمد منه العون والتوفيق ؛ ولأجل هذا ، جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ، ما يدعوا إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال ؛ فقال عز وجل : يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً [سورة الأحزاب:41-42].
وقال سبحانه : والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا ًعظيماً [سورة الأحزاب:35]. وقال جل شأنه : واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون [سورة الأنفال :45]. وقال تعالى : فاذكروني أذكركم [سورة البقرة:152]. وقال سبحانه: ولذكر الله أكبر [سورة العنكبوت :45].
وقال : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم )) متفق عليه .
وقال : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : وذلك ما هو يا رسول الله ، قال :. ذكر الله عز وجل )) رواه أحمد .
وقال : ((من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة )) رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه .
عباد الله :
ذكر الله تعالى ، منزلة من منازل هذه الدار ، يتزود منها الأتقياء ، ويتجرون فيها ، وإليها دائما يترددون ، الذكر قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا ، وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورا بورا ، وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق ، والماء الذي يطفأ به لهب الحريق .
بالذكر أيها المسلمون ، تُستدفع الآفات ، وتستكشف الكربات ، وتهون به على المصاب الملمات ، زين الله به ألسنة الذاكرين ، كما زين بالنور أبصار الناظرين .
فاللسان الغافل ، كالعين العمياء ، والأذن الصماء ، واليد الشلاء .
الذاكر الله ، لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله ، ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة ، وتستوي عنده الخلوة والجلوة ، ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها .
ذكر الله عز وجل ، باب مفتوح بين العبد وبين ربه ، ما لم يغلقه العبد بغفلته .
قال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، وفي الذكر ، وقراءة القرآن ، فإن وجدتم ، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق .
إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم ، إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل ؛ لأن ذكر الله تعالى ، سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم ، أو غضب وسخط الرب العظيم ، وعلى الضد من ذلك ، التارك للذكر ، والناسي له ، فهو ميت ، لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء .(/1)
قال تعالى : ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين [سورة الزخرف:36]. وقال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى [سورة طه :124].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خنس .
وكان رجل رديف النبي على دابة ، فعثرت الدابة بهما ، فقال الرجل: تعس الشيطان ؛ فقال له النبي : ((لا تقل : تعس الشيطان ؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت ، ولكن قل : بسم الله . فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب )) رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح .
وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف ، أنهم قالوا : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي ، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين ، فيقولون : ما لهذا ؟ فيقال : قد مسه الإنسي .
الإكثار من ذكر الله ، براءة من النفاق ، وفكاك من أسر الهوى ، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه ، وما أعده له من النعيم المقيم ، بل هو سلاح مقدم ، من أسلحة الحروب الحسية التي لا تثلم ، فقد ثبت عن النبي في فتح القسطنطينية : (( فإذا جاءها نزلوا ، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم ، قالوا : لا إله إلا الله والله أكبر ؛ فيسقط أحد جانبيها ، ثم يقولوا الثانية : لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ، ثم يقولوا الثالثة : لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا .. الحديث )) رواه مسلم في صحيحه .
أيها الناس :
ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال ، وأطهر ما يمر بالفم ، وتنطق به الشفتان ، وأسمى ما يتألق به العقل المسلم الواعي ، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب ، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت ، أو يدفعوها إذا أوشكت ، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل ، يحيي في نفوسهم استشعار عظمة الله ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن شيئا لن يفلت من قهره وقوته ، وأنه يكشف ما بالمعنى إذا ألم به العناء ، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يغمران قلبه وجوارحه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [سورة الرعد:28].
أيها المسلم :
لا تخش غما ، ولا تشك هما ، ولا يصبك قلق ، ما دام قرينك هو ذكر الله . يقول جل وعلا في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )) رواه البخاري ومسلم .
واشتكى علي وفاطمة رضي الله عنهما إلى رسول الله ، ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد ، فسألته خادما ، فقال رسول الله : ((ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم ، إذا أويتما إلى فراشكما ، فسبحا الله ثلاثا وثلاثين ، واحمداه ثلاثا وثلاثين . وكبراه أربعا وثلاثين ؛ فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان )).
فقال علي : ما تركتها بعدما سمعتها من النبي ، فقال رجل : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين . رواه أحمد وليلة صفين : ليلة حرب ضروس دارت بينه وبين خصومه رضي الله عنهم أجمعين .
عباد الله :
لو كلف كل واحد منا نفسه ، في أن يحرك جفنيه ، ليرى يمنة ويسرة ، مشاهد متكررة ، من صرعى الغفلة وقلة الذكر ، أفلا ينظر إلى ظلمة البيوتات الخاوية من ذكر الله تعالى ، أولا ينظر إلى المرضى المنكسرين ، أوكلهم الله إلى أنفسهم لما نسوه ، فلم يجبروا عظما كسره الله، وازدادوا مرضا إلى مرضهم ، أولا ينظر إلى المسحورين والمسحورات ، وقد تسللت إليهم أيدي السحرة والمشعوذين ، والدجاجلة الأفاكين ، فانتشلوا منهم الهناء والصفاء ، واقتلعوا أطناب الحياة الهادئة ، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم .
أو لا يتفكر الواحد منكم في أولئك المبتلين بمس الجان ومردة الشياطين يتوجعون ، ويتقلبون تقلب الأسير على الرمضاء ، تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار ، ولا يهدأ لهم بال ، أرأيتم عباد الله ، لو كلف كل واحد منكم نفسه بهذا ، أفلا يُسائل نفسه أين هؤلاء البؤساء من ذكر الله عز وجل ؟! أين هم جميعا من تلك الحصون المكينة ، والحروز الأمينة ، التي تعتقهم من عبودية الغفلة والأمراض الفتاكة ؟!! أما علم هؤلاء جميعا ، أن لدخول المنزل ذكرا وللخروج منه ؟! أما علموا أن للنوم ذكرا وللاستيقاظ منه ؟! أو ما علموا أن للصباح من كل يوم ذكرا ، وللمساء منه ؟ ! بل حتى في مواقعة الزوج أهله ، بل وفي دخول الخلاء – أعزكم الله – والخروج منه ؟ بل وفي كل شيء ذكر لنا منه الرسول أمرا ، علمه من علمه وجهله من جهله .(/2)
والواقع أيها الناس ، أنه إنما خذل من خذل من أمثال هؤلاء الغافلين ، لأنهم على عجزهم وضعفهم ، ظنوا أنفسهم شيئا مستقلا ، لا سباق لهم في ميدان ذكر الله ، بينما نجد آخرين عمالقة في قوتهم ، وهم من ذلك ، يرون أنفسهم صفرا من دون ذكر الله تعالى ، فكانت النتيجة أن طرح الله البركة واليمن على من ذكروه ، فنجوا وأفلحوا ، ورفع رضوانه وتأييده عمن اعتز بنفسه ، فتركه مكشوف السوءة عريان العورة .
وفي حضارتنا المعاصرة ، كثر المثقفون ، وشاعت المعارف الذكية ، ومع ذلك كله ، فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام . ما الأمر وما السبب في ذلك ؟ إنه خواء القلوب من ذكر الله ، إنها لا تذكر الله كي تتعلق به وتركن إليه ، بل كيف تذكر ، من تتجاهله ؟!!!
إن الحضارة الحديثة ، والحياة المادية الجافة ، مقطوعة الصلة بالله إلا من رحم الله ، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف ، ومهما علم فعلمه قاصر وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء ، وذكر الله في النوازل عزاء للمسلم ورجاء الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [سورة الرعد :28]. ولو تنبه المسلمون لهذا ، والتزموا الأوراد والأذكار ، لما تجرأ بعد ذلك ساحر ، ولا احتار مسحور ، ولا قلبت بركة ، ولا تكدر صفو ، ولا تنغص هناء .
عباد الله :
هناك من الناس من يذكرون الله ، ولكنهم لا يفقهون معنى الذكر ، فتصبح قلوبهم بعيدة عن استشعار جلال الله ، وقدره حق قدره ، وذكر الله عز وجل ، كلام تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، غير أن الناس مما ألفوا منه ، وما جهلوا من معناه ، لا يرددونه إلا كما يرددون كلاما تقليديا ، وإلا فهل فكر أحد في كلمة ((الله أكبر)) التي هي رأس التكبير وعماده ، وهي أول ما كلف به الرسول حين أمر بالإنذار يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر [سورة المدثر:1-3].
إنها كلمة عظيمة ، تحيي موات الأرض الهامدة ، لصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم ، أو هي أشد وقعا .
إنها كلمة ، ينبغي أن تدوي في أذن كل سارق وناهب ؛ لترتجف يده ، ويهتز كيانه . وكذا تدوي ، في أذن كل من يهم بإثم أو معصية ، ليقشعر ويرتدع ، وينبغي أن تدوي في أذن كل ظالم معتد متكبر ، ليتذكر إن كان من أهل الذكرى ، أن هناك إلها أقوى منه ، وأكبر من حيلته واستخفافه ومكره ، أخذه أقوى من أخذ البشر ومكرهم وخديعتهم ، فالله أكبر ، الله أكبر كبيرا .
فاتقوا الله أيها المسلمون ، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، واتق الله أيها المسلم الغافل ، فإن كنت بعد هذا ، قد أحسست أنك ممن قد فقد قلبه بسبب غفلته ، فلا تيأس من وجوده بذكر الله ،
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [سورة المنافقون:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد :
فاتقوا الله معشر المسلمين ، واعلموا وفقكم الله ، أن لسائل أن يسأل : ما بال ذكر الله سبحانه، مع خفته على اللسان وقلة التعب منه ، صار أنفع وأفضل ، من جملة العبادات مع المشقات المتكررة فيها ؟
فالجواب : هو أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقدارا ، وجعل لها أوقاتا محدودة ، ولم يجعل لذكر الله مقدارا ولا وقتا ، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار ، لأن رؤوس الذكر هي الباقيات الصالحات ؛ لما ثبت عن النبي أنه قال : ((خذوا جُنتكم . قلنا : يا رسول الله ، من عدو قد حضر ؟ قال : لا ، جنتكم من النار ، قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، والله أكبر . فإنهن يأتين يوم القيامة منجبات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات )) رواه الحاكم وصححه .
ثم ليعلم كل مسلم صادق ، أن المؤثر النافع ، هو الذكر باللسان على الدوام ، مع حضور القلب ؛ لأن اللسان ترجمان القلب ، والقلب خزانة مستحفظة الخواطر والأسرار ، ومن شأن الصدر ، أن ينشرح بما فيه من ذكره ، ويلذ إلقاءه على اللسان ، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه ، متأولا قول الله عز وجل : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [سورة الأعراف:205].
فأما الذكر باللسان ، والقلب لاه ، فهو قليل الجدوى ، قال رسول الله : ((اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه )) رواه الحاكم والترمذي وحسنه .(/3)
وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر ، والذهول عنه لحظات كثيرة ، هو كذلك قليل الجدوى؛ لأن القلب لا يخلو من الالتفاف إلى شهوات الدنيا ، ومن المعلوم بداهة أن المتلفت لا يصل سريعا ؛ ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات ؛ بل به تشرف سائر العبادات وهو ثمرة العبادات العملية .
ولذا فإن رسول الله حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله عز وجل فيها بقوله : (( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة )) رواه أبو داود والحاكم .
فهذا رسول الله يمقت مجالس الغافلين ، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله ، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله ، وتنفض عن لغط طويل ، حول مطالب العيش ، وشهوات الخلق ، في تهويش وتشويش ، وهمز ولمز ؛ هي مجالس نتنة ، لا شيء فيها يستحق الخلود ، إنما يخلد ما اتصل بالآخر سبحانه وتعالى ، ولذا فقد قال صلوات الله وسلامه عليه : ((من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك )) رواه الترمذي وابن ماجة .
هذا ، وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأفضل البشرية .(/4)
... ... ...
ولذكر الله أكبر ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الذكر حياة القلوب وجلاؤها. 2- فضيلة عبادة الذكر. 3- دور الذكر في حرب المؤمن للشيطان. 4- دور الذكر في عون المؤمن على شؤونه الدنيوية. 5- الذكر يكون على كل حال. 6- الذاكرون الغافلون. 7- مجالس الغفلة عن ذكر الله. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل ، اتقوه في السر والعلن ، اتقوه واعبدوه ، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون .
أيها الناس :
إن قلوب البشر طُرا ، كغيرها من الكائنات الحية ، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء ، ويتفق العقلاء جميعا ، أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد ، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع ، وتجف كما يجف الضرع ؛ ولذا ، فهي تحتاج إلى تجلية وري ، يزيلان عنها الأصداء والظمأ ، والمرء في هذه الحياة ، محاط بالأعداء من كل جانب ؛ نفسه الأمارة بالسوء ، تورده موارد الهلكة ، وكذا هواه وشيطانه ، فهو بحاجة ماسة ، إلى ما يحرزه ويؤمنه ، ويسكن مخاوفه ، ويطمئن قلبه . وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء ، ويحرز من الأعداء ، ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها ؛ فهو جلاء القلوب وصقالها ، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها .
قال ابن القيم رحمه الله : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف يكون السمك إذا فارق الماء ؟
عباد الله :
العلاقة بين العبد وبين ربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح ، أو في المساء فحسب ، ثم ينطلق المرء بعدها ، في أرجاء الدنيا غافلا لاهيا ، يفعل ما يريد دون قيد ولا محكم ؛ كلا هذا تدين مغشوش ، العلاقة الحقة ، أن يذكر المرء ربه حيثما كان ، وأن يكون هذا الذكر مقيدا مسالكه بالأوامر والنواهي ، ومبشراً الإنسان بضعفه البشري ، ومعينا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه .
لقد حث الدين الحنيف ، على أن يتصل المسلم بربه ، ليحيا ضميره ، وتزكوا نفسه ، ويطهر قلبه ، ويستمد منه العون والتوفيق ؛ ولأجل هذا ، جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ، ما يدعوا إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال ؛ فقال عز وجل : يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً [سورة الأحزاب:41-42].
وقال سبحانه : والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا ًعظيماً [سورة الأحزاب:35]. وقال جل شأنه : واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون [سورة الأنفال :45]. وقال تعالى : فاذكروني أذكركم [سورة البقرة:152]. وقال سبحانه: ولذكر الله أكبر [سورة العنكبوت :45].
وقال : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم )) متفق عليه .
وقال : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : وذلك ما هو يا رسول الله ، قال :. ذكر الله عز وجل )) رواه أحمد .
وقال : ((من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة )) رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه .
عباد الله :
ذكر الله تعالى ، منزلة من منازل هذه الدار ، يتزود منها الأتقياء ، ويتجرون فيها ، وإليها دائما يترددون ، الذكر قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا ، وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورا بورا ، وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق ، والماء الذي يطفأ به لهب الحريق .
بالذكر أيها المسلمون ، تُستدفع الآفات ، وتستكشف الكربات ، وتهون به على المصاب الملمات ، زين الله به ألسنة الذاكرين ، كما زين بالنور أبصار الناظرين .
فاللسان الغافل ، كالعين العمياء ، والأذن الصماء ، واليد الشلاء .
الذاكر الله ، لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله ، ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة ، وتستوي عنده الخلوة والجلوة ، ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها .
ذكر الله عز وجل ، باب مفتوح بين العبد وبين ربه ، ما لم يغلقه العبد بغفلته .
قال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، وفي الذكر ، وقراءة القرآن ، فإن وجدتم ، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق .
إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم ، إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل ؛ لأن ذكر الله تعالى ، سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم ، أو غضب وسخط الرب العظيم ، وعلى الضد من ذلك ، التارك للذكر ، والناسي له ، فهو ميت ، لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء .(/1)
قال تعالى : ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين [سورة الزخرف:36]. وقال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى [سورة طه :124].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خنس .
وكان رجل رديف النبي على دابة ، فعثرت الدابة بهما ، فقال الرجل: تعس الشيطان ؛ فقال له النبي : ((لا تقل : تعس الشيطان ؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت ، ولكن قل : بسم الله . فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب )) رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح .
وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف ، أنهم قالوا : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي ، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين ، فيقولون : ما لهذا ؟ فيقال : قد مسه الإنسي .
الإكثار من ذكر الله ، براءة من النفاق ، وفكاك من أسر الهوى ، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه ، وما أعده له من النعيم المقيم ، بل هو سلاح مقدم ، من أسلحة الحروب الحسية التي لا تثلم ، فقد ثبت عن النبي في فتح القسطنطينية : (( فإذا جاءها نزلوا ، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم ، قالوا : لا إله إلا الله والله أكبر ؛ فيسقط أحد جانبيها ، ثم يقولوا الثانية : لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ، ثم يقولوا الثالثة : لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا .. الحديث )) رواه مسلم في صحيحه .
أيها الناس :
ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال ، وأطهر ما يمر بالفم ، وتنطق به الشفتان ، وأسمى ما يتألق به العقل المسلم الواعي ، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب ، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت ، أو يدفعوها إذا أوشكت ، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل ، يحيي في نفوسهم استشعار عظمة الله ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن شيئا لن يفلت من قهره وقوته ، وأنه يكشف ما بالمعنى إذا ألم به العناء ، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يغمران قلبه وجوارحه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [سورة الرعد:28].
أيها المسلم :
لا تخش غما ، ولا تشك هما ، ولا يصبك قلق ، ما دام قرينك هو ذكر الله . يقول جل وعلا في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )) رواه البخاري ومسلم .
واشتكى علي وفاطمة رضي الله عنهما إلى رسول الله ، ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد ، فسألته خادما ، فقال رسول الله : ((ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم ، إذا أويتما إلى فراشكما ، فسبحا الله ثلاثا وثلاثين ، واحمداه ثلاثا وثلاثين . وكبراه أربعا وثلاثين ؛ فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان )).
فقال علي : ما تركتها بعدما سمعتها من النبي ، فقال رجل : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين . رواه أحمد وليلة صفين : ليلة حرب ضروس دارت بينه وبين خصومه رضي الله عنهم أجمعين .
عباد الله :
لو كلف كل واحد منا نفسه ، في أن يحرك جفنيه ، ليرى يمنة ويسرة ، مشاهد متكررة ، من صرعى الغفلة وقلة الذكر ، أفلا ينظر إلى ظلمة البيوتات الخاوية من ذكر الله تعالى ، أولا ينظر إلى المرضى المنكسرين ، أوكلهم الله إلى أنفسهم لما نسوه ، فلم يجبروا عظما كسره الله، وازدادوا مرضا إلى مرضهم ، أولا ينظر إلى المسحورين والمسحورات ، وقد تسللت إليهم أيدي السحرة والمشعوذين ، والدجاجلة الأفاكين ، فانتشلوا منهم الهناء والصفاء ، واقتلعوا أطناب الحياة الهادئة ، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم .
أو لا يتفكر الواحد منكم في أولئك المبتلين بمس الجان ومردة الشياطين يتوجعون ، ويتقلبون تقلب الأسير على الرمضاء ، تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار ، ولا يهدأ لهم بال ، أرأيتم عباد الله ، لو كلف كل واحد منكم نفسه بهذا ، أفلا يُسائل نفسه أين هؤلاء البؤساء من ذكر الله عز وجل ؟! أين هم جميعا من تلك الحصون المكينة ، والحروز الأمينة ، التي تعتقهم من عبودية الغفلة والأمراض الفتاكة ؟!! أما علم هؤلاء جميعا ، أن لدخول المنزل ذكرا وللخروج منه ؟! أما علموا أن للنوم ذكرا وللاستيقاظ منه ؟! أو ما علموا أن للصباح من كل يوم ذكرا ، وللمساء منه ؟ ! بل حتى في مواقعة الزوج أهله ، بل وفي دخول الخلاء – أعزكم الله – والخروج منه ؟ بل وفي كل شيء ذكر لنا منه الرسول أمرا ، علمه من علمه وجهله من جهله .(/2)
والواقع أيها الناس ، أنه إنما خذل من خذل من أمثال هؤلاء الغافلين ، لأنهم على عجزهم وضعفهم ، ظنوا أنفسهم شيئا مستقلا ، لا سباق لهم في ميدان ذكر الله ، بينما نجد آخرين عمالقة في قوتهم ، وهم من ذلك ، يرون أنفسهم صفرا من دون ذكر الله تعالى ، فكانت النتيجة أن طرح الله البركة واليمن على من ذكروه ، فنجوا وأفلحوا ، ورفع رضوانه وتأييده عمن اعتز بنفسه ، فتركه مكشوف السوءة عريان العورة .
وفي حضارتنا المعاصرة ، كثر المثقفون ، وشاعت المعارف الذكية ، ومع ذلك كله ، فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام . ما الأمر وما السبب في ذلك ؟ إنه خواء القلوب من ذكر الله ، إنها لا تذكر الله كي تتعلق به وتركن إليه ، بل كيف تذكر ، من تتجاهله ؟!!!
إن الحضارة الحديثة ، والحياة المادية الجافة ، مقطوعة الصلة بالله إلا من رحم الله ، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف ، ومهما علم فعلمه قاصر وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء ، وذكر الله في النوازل عزاء للمسلم ورجاء الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [سورة الرعد :28]. ولو تنبه المسلمون لهذا ، والتزموا الأوراد والأذكار ، لما تجرأ بعد ذلك ساحر ، ولا احتار مسحور ، ولا قلبت بركة ، ولا تكدر صفو ، ولا تنغص هناء .
عباد الله :
هناك من الناس من يذكرون الله ، ولكنهم لا يفقهون معنى الذكر ، فتصبح قلوبهم بعيدة عن استشعار جلال الله ، وقدره حق قدره ، وذكر الله عز وجل ، كلام تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، غير أن الناس مما ألفوا منه ، وما جهلوا من معناه ، لا يرددونه إلا كما يرددون كلاما تقليديا ، وإلا فهل فكر أحد في كلمة ((الله أكبر)) التي هي رأس التكبير وعماده ، وهي أول ما كلف به الرسول حين أمر بالإنذار يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر [سورة المدثر:1-3].
إنها كلمة عظيمة ، تحيي موات الأرض الهامدة ، لصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم ، أو هي أشد وقعا .
إنها كلمة ، ينبغي أن تدوي في أذن كل سارق وناهب ؛ لترتجف يده ، ويهتز كيانه . وكذا تدوي ، في أذن كل من يهم بإثم أو معصية ، ليقشعر ويرتدع ، وينبغي أن تدوي في أذن كل ظالم معتد متكبر ، ليتذكر إن كان من أهل الذكرى ، أن هناك إلها أقوى منه ، وأكبر من حيلته واستخفافه ومكره ، أخذه أقوى من أخذ البشر ومكرهم وخديعتهم ، فالله أكبر ، الله أكبر كبيرا .
فاتقوا الله أيها المسلمون ، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، واتق الله أيها المسلم الغافل ، فإن كنت بعد هذا ، قد أحسست أنك ممن قد فقد قلبه بسبب غفلته ، فلا تيأس من وجوده بذكر الله ،
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [سورة المنافقون:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم … ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد :
فاتقوا الله معشر المسلمين ، واعلموا وفقكم الله ، أن لسائل أن يسأل : ما بال ذكر الله سبحانه، مع خفته على اللسان وقلة التعب منه ، صار أنفع وأفضل ، من جملة العبادات مع المشقات المتكررة فيها ؟
فالجواب : هو أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقدارا ، وجعل لها أوقاتا محدودة ، ولم يجعل لذكر الله مقدارا ولا وقتا ، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار ، لأن رؤوس الذكر هي الباقيات الصالحات ؛ لما ثبت عن النبي أنه قال : ((خذوا جُنتكم . قلنا : يا رسول الله ، من عدو قد حضر ؟ قال : لا ، جنتكم من النار ، قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، والله أكبر . فإنهن يأتين يوم القيامة منجبات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات )) رواه الحاكم وصححه .
ثم ليعلم كل مسلم صادق ، أن المؤثر النافع ، هو الذكر باللسان على الدوام ، مع حضور القلب ؛ لأن اللسان ترجمان القلب ، والقلب خزانة مستحفظة الخواطر والأسرار ، ومن شأن الصدر ، أن ينشرح بما فيه من ذكره ، ويلذ إلقاءه على اللسان ، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه ، متأولا قول الله عز وجل : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [سورة الأعراف:205].
فأما الذكر باللسان ، والقلب لاه ، فهو قليل الجدوى ، قال رسول الله : ((اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه )) رواه الحاكم والترمذي وحسنه .(/3)
وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر ، والذهول عنه لحظات كثيرة ، هو كذلك قليل الجدوى؛ لأن القلب لا يخلو من الالتفاف إلى شهوات الدنيا ، ومن المعلوم بداهة أن المتلفت لا يصل سريعا ؛ ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات ؛ بل به تشرف سائر العبادات وهو ثمرة العبادات العملية .
ولذا فإن رسول الله حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله عز وجل فيها بقوله : (( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة )) رواه أبو داود والحاكم .
فهذا رسول الله يمقت مجالس الغافلين ، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله ، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله ، وتنفض عن لغط طويل ، حول مطالب العيش ، وشهوات الخلق ، في تهويش وتشويش ، وهمز ولمز ؛ هي مجالس نتنة ، لا شيء فيها يستحق الخلود ، إنما يخلد ما اتصل بالآخر سبحانه وتعالى ، ولذا فقد قال صلوات الله وسلامه عليه : ((من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك )) رواه الترمذي وابن ماجة .
هذا ، وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأفضل البشرية . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
...
...
وماذا بعد رمضان ؟؟ ...
...
أبو نور ...
</TD ...
الأحبة في الله : فبعد أيام قلائل من رحيل شهر رمضان المبارك !!
كيف حالكم بعد رمضان ؟ فلنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان !!
إيه أيتها النفس ؟! كنت في أيام... في صلاة , وقيام , وتلاوة , وصيام , وذ كّر , ودعاء , وصدقه , وإحسان , وصلة أرحام ! .
ذقنا حلاوة ا لإيمان وعرفنا حقيقه الصيام , وذقنا لذّه الدمعه , وحلاوة المناجاة في الأسحار !!
كنا نُصلي صلاة من جُعلت قرةُ عينه في الصلاة , وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه , وكنا ننفق نفقه من لا يخشى الفقر , وكنا .. وكنا .. مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك الذي رحل عنا !.
وهكذا .. كنا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه حتى قال قائلنا ... ياليتني متّ على هذا الحال !!
ياليت خاتمتي كانت في رمضان ..! .
رحل رمضان ولم يمضى على رحيله إلا القليل ! ولربما عاد تارك الصلاة لتركه , وآكل الربا لأكله , ومشاهد الفحش لفحشه , وشارب الدخان لشربه .
فنحن لا نقول أن نكون كما كنا في رمضان من الأجتهاد .
ولكن نقول : لا للإنقطاع عن الأعمال الصالحة , فلنحيا على الصيام , والقيام , والصدقة , ولو القليل .
الوقفة الأولى : ماذا أستفدنا من رمضان ؟ !
ها نحن ودعنا رمضان المبارك ... ونهاره الجميل ولياليه العطره .
ها نحن ودعنا شهر القرآن والتقوى والصبر والجهاد والرحمة والمغفرة والعتق من النار .
فماذا جنينا من ثماره اليانعة , وظلاله الوارقه ؟!
هل تحققنا بالتقوى ... وتخرجنا من مدرسه رمضان بشهادة المتقين ؟!
هل تعلمنا فيه الصبر والمصابرة على الطاعة , وعن المعصية ؟!
هل ربينا فيه أنفسنا على الجهاد بأنواعه ؟!
هل جاهدنا أنفسنا وشهواتنا وانتصرنا عليها ؟!
هل غلبتنا العادات والتقاليد السيئة ؟!
هل ... هل ... هل...؟!
أسئلة كثيرة .. وخواطر عديدة .. تتداعى على قلب كل مُسلم صادق .. يسأل نفسه ويجيبها بصدق وصراحة .. ماذا استفدت من رمضان ؟
أنه مدرسة إيمانية ... إنه محطة روحيه للتزود منه لبقية العام ... ولشحذ الهمم بقيه الغمر ...
فمتى يتعظ ويعتبر ويستفيد ويتغير ويُغير من حياته من لم يفعل ذلك في رمضان ؟!
إنه بحق مدرسة للتغيير .. نُغير فيه من أعمالنا وسلوكنا وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله جل وعلا { .. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... } الرعد 11 .
الوقفة الثانية : لا تكونوا كالتي نقضت غزلها !!
الأحبة في الله :
إن كنتم ممن أستفاد من رمضان ... وتحققت فيكم صفات المتقين ... !
فصُمتم حقاً ... وقُمتم صدقاً ... واجتهدتُم في مجاهدة أنفسكم فيه ... !!
فأحمدوا الله وأشكروه وأسألوه الثبات على ذلك حتى الممات .
وإياكم ثم إياكم ... من نقض الغزل بعد غزله .
إياكم والرجوع الى المعاصي والفسق والمجون , وترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان .. فبعد أن تنعموا بنعيم الطاعة ولذة المناجاة ... ترجعوا إلى جحيم المعاصي والفجر !!
فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان ..!!
الأحبة في الله : ولنقض العهد مظاهر كثيرة عند الناس فمنها ..
(1) ما نراه من تضييع الناس للصلوات مع الجماعه ... فبعد امتلاء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح التي هي سُنه ... نراها قد قل روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض ويُكّفَّر تاركها !!
(2) الانشغال بالأغاني والأفلام .. والتبرج والسفور .. والذهاب إلى الملاهي والمعاكسات !!
(3) ومن ذلك التنافس في الذهاب إلى المسارح ودور السينما والملاهي الليلية فترى هناك - مأوى الشياطين وملجأ لكل رزيلة - وما هكذا تُشكر النعم .. وما هكذا نختم الشهر ونشكر الله علىّ بلوغ الصيام والقيام , وما هذه علامة القبول بل هذا جحود للنعمة وعدم شكر لها .
وهذا من علامات عدم قبول العمل والعياذ بالله لأن الصائم حقيقة .. يفرح يوم فطرة ويحمد ويشكر ربه على أتمام الصيام .. ومع ذلك يبكي خوفاً من ألا يتقبل الله منه صيامه كما كان السلف يبكون ستة أشهر بعد رمضان يسألون الله القبول .
فمن علامات قبول العمل أن ترى العبد في أحسن حال من حاله السابق .
وأن ترى فيه إقبالاً على الطاعة { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ.. } ابراهيم 7 .
أى زيادة في الخير الحسي والمعنوي ... فيشمل الزيادة في الإيمان والعمل الصالح .. فلو شكر العبدُ ربهُ حتى الشكر , لرأيته يزيد في الخير والطاعة .. ويبعد عن المعصية .والشكر ترك المعاصي .
الوقفة الثالثة : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين(/1)
هكذا يجب أن يكون العبد ... مستمر على طاعة الله , ثابت على شرعه , مستقيم على دينه , لا يراوغ روغان الثعالب , يعبد الله في شهر دون شهر , أو في مكان دون آخر , لا ... وألف لا ..!! بل يعلم أن ربّ رمضان هو ربّ بقية الشهور والأيام .... قال تعالى : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَك.. } هود 112 , وقال : { ... فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ... } فصلت 6 .
والآن بعد أنتهاء صيام رمضان ... فهناك صيام النوافل : ( كالست من شوال ) , ( والاثنين , الخميس ) , ( وعاشوراء ) , ( وعرفه ) , وغيرها .
وبعد أنتهاء قيام رمضان , فقيام الليل مشروع في كل ليله : وهو سنة مؤكدة حث النبي صلى الله عليه وسلم على أدائها بقوله : " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، ومقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم مطردة للداء عن الجسد " رواه الترمذي وأحمد .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل " ، وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل ، ولم يتركه سفراً ولا حضراً ، وقام صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حتى تفطّرت قدماه ، فقيل له في ذلك فقال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " متفق عليه .
وقال الحسن : ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ، ونفقة المال ، فقيل له : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً ؟ قال : لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره .
اجتناب الذنوب والمعاصي : فإذا أراد المسلم أن يكون مما ينال شرف مناجاة الله تعالى ، والأنس بذكره في ظلم الليل ، فليحذر الذنوب ، فإنه لا يُوفّق لقيام الليل من تلطخ بأدران المعاصي .
قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء ؟ فقال : لا تعصه بالنهار ، وهو يُقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف ، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
وقال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد : إني أبِيت معافى ، وأحب قيام الليل ، وأعِدّ طهوري ، فما بالي لا أقوم ؟ فقال الحسن : ذنوبك قيدتْك .
وقال رحمه الله : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ، وصيام النهار . وقال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل ، وصيام النهار ، فأعلم أنك محروم مكبّل ، كبلتك خطيئتك
وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله تعالى ، وتجعله قادراً على التغلب على مغريات الحياة الفانية ، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ، ونامت العيون وتقلب النّوام على الفرش . ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة ، وسمات النفوس الكبيرة ، وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى : ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) .
والآن بعد أن انتهت ( زكاة الفطر ) : , فهناك الزكاة المفروضه , وهناك أبواب للصدقه والتطوع والجهاد كثيرة .
وقرأة القرآن وتدبره ليست خاصه برمضان: بل هي في كل وقت .
وهكذا .... فالأعمال الصالحه في كل وقت وكل زمان ..... فاجتهدوا الأحبة في الله في الطاعات .... وإياكم والكسل والفتور .
فالله ... الله في الاستقامة والثبات على الدين في كل حين فلا تدروا متى يلقاكم ملك الموت فإحذروا أن يأتيكم وأنتم على معصية .
الوقفة الرابعة : عليكم بالاستغفار والشكر
أكثروا من الاستغفار ... فإنه ختام الأعمال الصالحة , ( كالصلاة , والحج , والمجالس ) , وكذلك يُختم الصيامُ بكثرة الأستغفار .
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار : يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة وقال :
قولوا كما قال أبوكم آدم " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " .
وكما قال ابراهيم : " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " .
وكما قال موسى : " ربي إني ظلمت نفسي فأغفر لي " .
وكما قال ذو النون : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " .
أكثروا من شكر الله تعالى أن وفقكم لصيامه , وقيامه . فإن الله عز وجل قال في آخر آية الصيام { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } البقرة 185 .
والشكر ليس باللسان وإنما بالقلب والأقوال والأعمال وعدم الإدبار بعد الإقبال .
الوقفة الخامسة : هل قُبِل صيامكم وقيامكم أم لا ؟؟
إن الفائزين في رمضان , كانوا في نهارهم صائمون , وفي ليلهم ساجدون , بكاءٌ خشوعٌ , وفي الغروب والأسحار تسبيح , وتهليل , وذكرٌ , واستغفار , ما تركوا باباً من أبواب الخير إلا ولجوه , ولكنهم مع ذلك , قلوبهم وجله وخائفة ...!!
لا يدرون هل قُبلت أعمالهم أم لم تقُبل ؟ وهل كانت خالصة لوجه الله أم لا ؟
فلقد كان السلف الصالحون يحملون هّم قبول العمل أكثر من العمل نفسه , قال تعالى :(/2)
{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } المؤمنون 60 .
هذه هي صفة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم
وقال علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) : كونوا لقبول العمل أشد أهتماماً من العمل , ألم تسمعوا قول الله عز وجل : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} . (المائدة:27) َ
فمن منا أشغله هذا الهاجس !! قبول العمل أو رده , في هذه الأيام ؟ ومن منا لهج لسانه بالدعاء أن يتقبل الله منه رمضان ؟
فلقد كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان , ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم ...
نسأل الله أن نكون من هؤلاء الفائزين .
من علامات قبول العمل :
1) الحسنه بعد الحسنه فإتيان المسلمون بعد رمضان بالطاعات , والقُربات والمحافظة عليها دليل على رضى الله عن العبد , وإذا رضى الله عن العبد وفقه إلى عمل الطاعة وترك المعصية.
2) انشراح الصدر للعبادة والشعور بلذة الطاعة وحلاوة الإيمان , والفرح بتقديم الخير , حيث أن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوءه سيئته .
3) التوبة من الذنوب الماضية من أعظم العلامات الدالة على رضى الله تعالى .
4) الخوف من عدم قبول الأعمال في هذا الشهر الكريم !!
5) الغيرة للدين والغضب إذا أنتُهكت حُرمات الله والعمل للإسلام بحرارة , وبذل الجهد والمال في الدعوة إلى الله .
الوقفة السادسة :
احذروا من العجب والغرور وألزموا الخضوع والانكسار للعزيز الغفار
الأحبة في الله : إياكم والعجب والغرور بعد رمضان !
ربما حدثتكم أنفسكم أن لديكم رصيد كبير من الحسنات .
أو أن ذنوبكم قد غُفرت فرجعتم كيوم ولدتكم أمهاتكم .
فما زال الشيطان يغريكم والنفس تلهيكم حتى تكثروا من المعاصي والذنوب .
ربما تعجبكم أنفسكم فيما قدمتموه خلال رمضان ... فإياكم ثم إياكم والإدلال على الله بالعمل ,
فإن الله عز وجل يقول : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } المدثر 6
فلا تَمُنّ على الله بما قدمتم وعملتم .ألم تسمعوا قول الله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } الزمر 47
فاحذروا من مفسدات العمل الخفية من ( النفاق _ والرياء _ والعجب ) .
اللهم لك الحمد على أن بلغتنا شهر رمضان ، اللهم تقبل منا الصيام والقيام ، وأحسن لنا الختام ، اللهم اجبر كسرنا على فراق شهرنا ، وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، واجعله شاهداً لنا لا علينا ، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار ، واجعلنا فيه من المقبولين الفائزين .
الله يتقبل أعمالنا ويغفر لنا ويكتبنا من عباده الصالحين في يوم الدين ..
والله سبحانه أعلم
وأستغفر الله من أي زلة أو خطأ أو نسيان.
{ أخيك المحب في الله نـ أبو ــور }
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)}. هود
...
صيد الفوائد ...(/3)
وماذا عن التكفيريين الشيعة؟ (1)
د.عبد العزيز مصطفى كامل
20/4/1427هـ
بين يدي المقال: لفرط ما تمضي النخبة الشيعية في الترويج لادعاء يلقي الاتهام دوماً في صحيفة أهل السنة بالتكفير, بما ينأى بالتهمة عن "التكفيريين الشيعة"، ويبرئ ساحتهم من التعرض لخصومهم بالتكفير والتخوين وغيرهما, يحاول هذا المقال أن يسلط الضوء على هذا الجانب المطمور من حقيقة العقيدة الرافضية في التكفير, وقد عالج الكاتب في جزئه الأول من المقال هذا الجانب في بعده العقدي والتأريخي التأصيلي له, فيما أفرد الحديث في الجزء الثاني الذي ينشره الموقع لاحقاً - بإذن الله - عن الواقع التكفيري لزعامات معاصرة لها حضورها وتأثيراتها السياسية الجلية في المشهدين العراقي والإيراني. [المسلم]
أكتب هذا المقال، بهذا العنوان لسببين:
السبب الأول: أنه شاع في الآونة الأخيرة على ألسنة العديد من رموز الشيعة الدينيين والسياسيين وصف المجاهدين بخاصة، وحَمَلة المنهج السلفي بعامة بوصف «التكفيريين» و«الوهابيين» و«الإرهابيين» مع أن الشيعة الروافض - عند المحققين - من أكثر الفرق غلواً في التكفير، وأشنعهم دموية في الثأر، وأكثرهم همجية في الانتقام، بل إني أرى أن غلوهم في ذلك قد فاق غلو الخوارج؛ لأن الخوارج - على الرغم من غلظ بدعتهم - لم يكفِّروا أبا بكر وعمر وعثمان وبعض أمهات المؤمنين - رضي الله عن الصحابة أجمعين -، ولم يتسببوا في كوارث أودت بالملايين من المسلمين مثلما حدث من الروافض إبَّان الحملات الصليبية والتتارية.
السبب الثاني: هو محاولتهم اصطناع البطولة، وادعاء الجدية، في تحمل المسؤولية عن قضايا الأمة الكبرى، بتصريحات طنانة، وشعارات رنانة، يطلقها قادتهم السياسيون بين الحين والآخر، بما يوشك أن يكرر «سيناريو الخداع الكبير» الذي وقع فيه فئام من الأمة أيام ظهور (الخميني) عندما أطلق على حركته وصف «ثورة المستضعفين»، فكشفت الأيام اللثام عن أنها لم تكن إلا ثورة على المستضعفين، وخدعة قدمت كل خدمة مأجورة للطغاة والمستكبرين، كما أظهرت أحداث أفغانستان والعراق.
وقبل أن أستطرد في الحديث عن الأمرين السابقين؛ أحب أن أنبه إلى أن قضية الكفر والإيمان من أخطر قضايا الاعتقاد، وأكثرها تأثيراً على الواقع، والانحراف فيها له صورتان بارزتان، كلاهما مخالف للفهم الرشيد في منهج أهل السنة والجماعة:
الصورة الأولى لهذا الانحراف هي: الجور في التكفير، ليشمل من لا ينطبق عليه وصف الكفر من عصاة أهل القبلة الذين يرتكبون ما دون الكفر من الكبائر، أو أصحاب البدع غير المكفِّرة، وهذه هي بدعة الخوارج، ومن سلك مسلكهم في التكفير بالكبائر، ولا شك أن التكفير بما هو أدنى من ذلك أشنع، وهي فعل الروافض الذين لم يسلم من تكفيرهم حتى المبشرين بالجنة!
والصورة الثانية: وهي صورة مقابلة، يمثلها «التبرع» بإدخال أصناف في الإيمان، واستحقاق عالي الجنان على الرغم من أنهم على مناهج أصحاب الجحيم المخالفة للصراط المستقيم، سواء كانوا من النصارى أو اليهود، أو الملحدين والمرتدين، وهذا فعل الجهمية.
وكِلا الصورتين حولهما تفاصيل موجودة في مظانها من كتب الاعتقاد، وكلاهما من الانحرافات المذمومة سلوكاً واعتقاداً، والمرفوضة ممن صدرت منه أياً كان، وكلاهما - بالمناسبة - قد غرف منها وغرق فيها الشيعة الروافض، فأكثروا من تكفير المؤمنين، وتأمين الكافرين بإدخالهم في الدين من غير استحقاق(1).
وقد يعجب المرء - وله الحق في العجب - عندما يعلم أن محسوبين على دين أو رسالة يتعبدون بسوء الظن، وإكثار التهم لجمهور حَمَلَة هذه الرسالة والسابقين في حمايتها، ولكن العجب يزداد عندما نرى أن هذه الاتهامات والظنون تتركز حول خاصة المبعوث بالدين، وحواريي المبلغ بالرسالة - صلى الله عليه وسلم -.
والعجب يتضاعف أكثر عندما نلاحظ أن مواقف القوم من الكفار والفجار تتناوب بين الموالاة والنصرة ظاهراً وباطناً، وبين الشفقة عليهم من الوصف بالكفر أو استحقاق العذاب، وفي أقل الأحوال كف الأذى عنهم، والانشغال بأذى غيرهم من المسلمين المسالمين، أو المقاومين لأعداء الدين.
إن هذه الحال المعكوسة كانت ولا تزال دين الشيعة وديدنهم؛ ففي حين يزعمون تعظيم الرسالة، وتعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يبالغون في أذية أمته، ولا يبرِّئون خاصته من أقرب بطانته، وألصق الناس به، وحتى أزواجه أمهات المؤمنين - رضي الله عنهنّ - ما نجون من التهم التي تُكال لهن ذات اليمين وذات الشمال، ولقد علم العقلاء الأمناء في هذه الأمة؛ أن هذا الطعن في حَمَلَة الرسالة هو طعن في الرسالة نفسها، بل في المبلّغ بها - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كيف يكون أمناؤه وأوصياؤه، وأصدقاؤه وأحبَّاؤه من الخائنين وهو لا يعرف أو يُعرَّف؟! وكيف يتنزل القرآن بالثناء عليهم دون «اكتشاف» أنهم سيرتدون بعد حين؟!(/1)
إن الشيعة الإثني عشرية - بجهل أو تجاهل - لم يستثنوا من جيل الصحابة العظيم ومن حواريي الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلا بضعة عشر شخصاً، بالغوا في رفعهم والغلو فيهم حتى رفعوهم إلى منزلة الملائكة أو أرفع، كما بالغوا في الوقت نفسه في الحط من شأن البقية المفترى عليهم، حتى وضعوهم في درك الشياطين أو أنزل!!
ليست هذه مبالغة في التعبير، ولكن المطّلع على مقالات القوم قديماً وحديثاً يفهم أن مداركهم ومفاهيمهم قد انحطت إلى ذلك الحضيض.
* التكفيريون السبئيون القدامى:
التكفير ثم التكفير ثم التكفير هو أبرز معالم العقيدة الشيعية السبئية القديمة، ولتثبيت مبدأ تكفير عامة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ابتكر عبد الله بن سبأ(2) بقية أركان عقيدتهم من الإمامة، والقائم، والرجعة، والتقية، والبراءة وغير ذلك.
وهذه «بعض» الإشارات عن الافتراءات على سادة البشر بعد الأنبياء، وخاصةِ الخلاصة من العظماء - رضوان الله عليهم جميعاً - تبين كيف أن هؤلاء المكفِّرين لخيار المؤمنين لم ولن يتورعوا عن التكفير والاستباحة لمن هم أدنى منهم من عموم المسلمين.
# فالتكفيريون السبئيون الشيعة يدَّعون أن الخلفاء الثلاثة الأُوَلَ أصحابُ ضلالة، ومن ذلك ما جاء في كتاب (الكافي)(3) للكليني منسوباً إلى أبي جعفر أنه قال: «الناس صاروا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة من اتبع هارون، ومن اتبع العجل، وإن أبا بكر دعا فأبى عليٌّ إلا القرآن، وإن عمر دعا فأبى عليٌّ إلا القرآن، وإن عثمان دعا فأبى عليٌّ إلا القرآن، وإنه ليس من أحد يدعو إلى أن يخرج الدجال إلا سيجد من يبايعه، ومن رفع راية ضلالة فهو طاغوت»(الكافي للكليني ص 247 الأثر رقم/456)!!
# والتكفيريون السبئيون الشيعة يقولون إن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - انعقدت لإبليس؛ ففي الكافي أيضاً ينسبون لعلي - رضي الله عنه - أنه قال لسلمان الفارسي - رضي الله عنه - عندما بويع أبو بكر بالخلافة: «يا سلمان! هل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت: لا أدري، إلا أني رأيت في سقيفة بني ساعدة حين خصمت الأنصار، وكان أول من بايعه بشير بن سعد، وأبو عبيدة بن الجراح، ثم عمر ثم سالم!!. قال: لست عن هذا أسألك، ولكن تدري أول من بايعه على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال سلمان: قلت: لا، ولكن رأيت شيخاً كبيراً متوكئاً على عصاه، بين عينيه سجادة شديدة التشمير، صعد إليه أول من صعد وهو يبكي ويقول: الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان، ابسط يدك، فبسط يده، فبايعه ثم نزل، فخرج من المسجد، فقال عليٌ - عليه السلام -: هل تدري من هو؟ قال: لا، ولقد ساءتني مقالته كأنه شامت بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عليٌ: ذاك إبليس لعنه الله»(الكافي للكليني ص 283 الأثر رقم (541)!!.
هكذا يقولون - عليهم من الله ما يستحقون - عن أبي بكر أفضل الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأول الخلفاء الراشدين، وأصدق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الملقب بـ(الصدِّيق)، وأول من أمَّ المسلمين في الصلاة باستخلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له في حياته، ومن أوصى له بالخلافة بعد مماته.
#والتكفيريون السبئيون الشيعة في تفاسيرهم ينكرون فضل أبي بكر - رضي الله عنه - الذي نزل به القرآن، ويحوِّلون مناقبه إلى مثالب؛ ففي قول الله - تعالى-: ((إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))[التوبة: 40]، قال عبد الله بن محمد رضا العلوي المتوفى سنة 1242هـ في تفسيره للقرآن المسمى (الوجيز): «{إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لا مدح فيه؛ إذ قد يصحب المؤمن الكافر، كما قال: ((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ))[الكهف: 37]، وقوله ((لا تَحْزَنْ)) يدل على أنه خاف وقبض واضطرب حتى كاد يدل عليه فنهاه»(تفسير الوجيز للعلوي ص 417).(/2)
#والتكفيريون الشيعة السبئيون يتهمون الصديق بأنه مكذب بالرسالة، ففي تفسير (الصافي) لمؤلفه محمود مرتضى المعروف بملاّ محسن الكاشي المتوفى سنة 1091هـ، أورد ذلك «المفسر» قصة مختلقة في هذه الآية، مفادها أن أبا بكر أخذته الرعدة وخاف، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يشغله بأن يطلعه على جعفر وأصحابه وهم يغوصون في البحر، فأضمر أبو بكر في تلك الساعة أنه أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ساحر، ثم نقل ذلك المفسر عن العياشي قوله: «يحتجون علينا بقوله - تعالى-: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ))، وما لهم في ذلك حجة، فوالله لقد قال الله - تعالى-: ((أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)) وما ذكره بخير»!!.
ولا ندري: أنعجب من افترائهم على الله في تفاسيرهم، أم افترائهم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليه في كتب أحاديثهم، أم افترائهم على التاريخ في الآثار والأخبار المكذوبة، أم افترائهم على الحقيقة والعقل في نقل ما لا يصدقه عقل؟!
#والتكفيريون السبئيون الشيعة يكفرون الفاروق بآيات من الفرقان الذي عاش مجاهداً عنه، وقائماً به حتى لقى ربه، ففي تفسير قول الله - تعالى-: ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً))[الفرقان: 27 - 28]، روى «محدثهم» علي بن إبراهيم القمي عن أبي جعفر أن (الظالم) أبو بكر، والسبيل علي، والخليل عمر.
# والتكفيريون السبئيون الشيعة يجعلون عثمان ذا النورين من المرائين، وأنه ومن سبقه كانوا من المبدلين، فيدعي عالمهم ومحدثهم «الكشي» أن فيه نزل قول الله - تعالى-: ((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا))[الحجرات: 17]، ويذكر مفسرهم (القمي) أن قول الله - تعالى-: ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ))[آل عمران: 106] نزل في أبي بكر وعمر وعثمان، وأورد في ذلك «حديثاً» طويلاً يدعي فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ترد عليّ أمتي يوم القيامة على خمس رايات...) ثم ذكر (راية العجل) و (راية فرعون) و (راية السامري) و(راية زعيم الخوارج) و(راية المتقين)، ويقصدون بالأربعة الأُول رايات أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وبالراية الخامسة راية علي بن أبي طالب، وادعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أصحاب كل راية عما فعلوه مع (الثقلين) أي: القرآن وأهل البيت فكلهم اعترفوا بأنهم خذلوهما وظلموهما، فحق عليهم العذاب وقيل: ((أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))[آل عمران: 106]، وفي تفسيره لقول الله - تعالى-: ((لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ))[الانشقاق: 19] يقول (الملاَّ عبد اللطيف الكازراني) في تفسيره (مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار): «أي: لتركبن هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان... أي كانت ضلالتهم بعد نبيهم مطابقة لما صدر عن الأمم السابقة في ترك الخليفة (يقصد علياً - رضي الله عنه -) واتباع السامري وأشباه ذلك (مرآة الأنوار ص 23).
# والتكفيريون السبئيون الشيعة يتهمون خيار الأمة بخيانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته، فعند تفسيره لقول الله - تعالى-: ((وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً))[آل عمران: 144] قال (محمد بن حيدر الخراساني) من القرن الرابع عشر الهجري في تفسيره «بيان السعادة»: «المراد بالشاكرين هنا عليٌ ونفر يسير بقوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انهزم المسلمون»(تفسير بيان السعادة 1/166)، وعند تفسيره لسورة التحريم أورد «المفسر» نفسه العديد من القصص الملفقة، والأراجيف المخترعة؛ يستدل بها على أن كلاً من أبي بكر وعمر، وعائشة وحفصة؛ تآمروا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -!!
ومعروف موقف التكفيريين السبئيين القدامى الشائن من أكثر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أنهم أخرجوهن من مسمى (أهل البيت) بالرغم من وصف الله - تعالى- لهن بأنهن (أمهات المؤمنين) في قوله - سبحانه -: ((وأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ))[الأحزاب: 6]، ولم يسمع العقلاء من الناس بقوم يشهّرون بـ(أمهاتهم).(/3)
# ويلخص محمد باقر المجلسي في كتابه (حق اليقين) عقيدة الشيعة (التكفيرية) في أصحاب وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «وعقيدتنا في البراءة أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، والنساء الأربع: عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أتباعهم وأشياعهم، وأنهم من شر ما خلق الله على وجه الأرض، وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله والأئمة إلا بعد التبرؤ من أعدائهم» (المهدي في القرآن للشيرازي ص 144)، وقد كان الشيعة يرجئون انتقامهم من أهل السنة حتى يخرج «مهديهم» فيقودهم إلى ذلك، حتى جاء (الخميني) واخترع لهم «ولاية الفقيه»، وأذن لهم بـ«الجهاد» و«الإمامة» التي كانت ممنوعة بانتظار المهدي.
إن الشيعة الروافض يحملون عقيدة شاذة في أمر المهدي لا تزال موجودة في كتبهم بتفاصيلها حتى اليوم، ولا أريد أن أخوض في تفاصيلها المملة، ولكن الذي يرتبط بموضوعنا من هذا الاعتقاد الضال أنهم يؤمنون بأن المهدي (الذي نعتقد نحن أنه سيكون على سيرة الخلفاء الراشدين) سيأتي بمقتضى عقيدتهم لكي ينتقم من هؤلاء الخلفاء؛ لأنهم عندهم أئمة الكفر، وبدلاً من أن يخرج لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فإنه «سيتفرغ» للقصاص من قادة القسط، ورموز العدل من المسلمين، وعلى رأسهم كبار الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، لا بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه - في اعتقادهم - سيرجع وسيرجع معه إلى الدنيا علي والحسن والحسين وجميع الأئمة المنصوص عليهم، لا لينقذوا العالم ويخلصوه من الظلم؛ بل لينتقموا من «خصوم» أهل البيت، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان، وهو ما يسمى عندهم بعقيدة (الرجعة).
يقول صادق الحسيني الشيرازي في كتابه (المهدي في القرآن) عند قوله - تعالى-: ((وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون))[القصص: 6]: «إن فرعون وهامان هما شخصان من جبابرة قريش، يحييهما الله - تعالى - عند قيام القائم من آل محمد في آخر الزمان، فينتقم منهما بما أسلفا»، ويقول المجلسي في كتابه (حياة القلوب): «إذا ظهر الإمام المهدي فإنه سيحيي عائشة، ويقيم عليها الحد انتقاماً لفاطمة».
__________________
1) في برنامج يعد اختراقاً شيعياً لقناة الجزيرة وهو (حوار مفتوح) أو بالأحرى (مفضوح) استضاف مذيع البرنامج ذو الهوى الشيعي (غسان بن جدو) أحد مفكري الشيعة وهو (حسن سلمان) في حلقة (29/4/2006)، فنعى على من سمَّاهم (التكفيريين الإرهابيين) أنهم يكفرون اليهود والنصارى!!
2) كان ابن سبأ من يهود اليمن، وقد غاظه وقومه انتشار الإسلام وقوته، فلجأ إلى حيلة يهودية لإضعاف الإسلام من داخله، فادعى الدخول في الإسلام مع بقائه على اليهوديَّة، وظل ينقل العقائد والمفاهيم اليهودية تحت غطاء إسلامي يتدثَّر بمحبة آل البيت، وبدأ بإعلان مشايعته لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - داعياً إلى أفكار تغلو فيه وفي ذريته، فادعى أنَّ علياً وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أحق بالخلافة من بعده، ثم ادعى فيه العصمة وجعلها باقية في اثني عشر خليفة من أحفاده، ولا خلافة شرعية لأحد غيرهم حتى تقوم الساعة، وآخرهم المهدي أو (القائم) الذي سيرجع آخر الزمان للانتقام لآل البيت، وقد تمكن من حشد الأنصار لهذه الأفكار الضالة باسم التشيع لآل البيت، وهو ما تسبب في بث الفتن بين المسلمين، وكان أولها وأشدها مقتل عثمان - رضي الله عنه - بزعم أنه ناصب علياً العداء.
3) كتاب الكافي للكليني هو أهم كتب الحديث عند الشيعة، وهو يناظر عندهم كتاب البخاري عند أهل السنة، والكليني عندهم هو مجدد المئة الثالثة.
http://www.almoslim.net:(/4)
ومضات إصلاحية في الآيات القرآنية
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
" ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية " نجعلها حديث يومنا هذا ، وقد كثر الحديث عن الإصلاح وتنوعت صوره ، فمن إصلاحٍ تأتي به دبابة عسكرية ، إلى إصلاحٍ تبثّه قنوات فضائية ، إلى إصلاحٍ آخر يتجلى في مبادراتٍ سياسية ، إلى ثالثٍ ورابعٍ وخامس ..
وقلَّما سمعنا في الإصلاح الذي يأتي من الخارج ، أو الذي يروج في الداخل ، أو الذي يتناقل حسب وسائل الإعلام هنا أو هناك .. قلّما رأينا تأصيله من كتاب الله واسترشاده التام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن الثوب إذا كان من قماشٍ حسن ، وبخياطةٍ متقنة لكنه على غير مقاسك لا ينفعك ولا تستطيع الانتفاع به ، وكذلكم كل ما يأتي على غير الأساس الذي تقوم عليه وننطلق منه ونحتكم إليه وهو أساس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلن يكون محققا لمراداتنا وطموحاتنا من هذا الإصلاح .
وذلك يقين لا بد أن يستقر في النفوس ، والقلوب مع علمٍ وفكرٍ وبصيرةٍ تدرك أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما من القواعد الكلية والمقاصد الشرعية ما يستوعب مستجدات كل زمانٍ ، وما يصلح أحوال كل مكان ، وما ينفع الإنسان في تقلبات أحواله وتغيرات أزمانه .. فليس هناك قصور - كما يتوهم للبعض - ولا تخلف - كما يفتري البعض - بل كمال مطلق ، وصلاح دائم ، وتجدد مستمر ، ومرونة عظيمة مع أصالةٍ وثباتٍ يعصم به المؤمنون والمسلمون من أن تضل بهم الأهواء ، أو أن تتقاسمهم الآراء ، أو أن تستبدّ بهم الحيرة ، أو أن يغشاهم الاضطراب : { قل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين }.
وليس مقامنا هذا كافيا أن نتحدث عن منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ذلك يستوعب الحياة كلها في مجالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولية وغير ذلك .
وحسبنا في هذا المقام الذي نفتتح به حديث الإصلاح في القرآن والسنة أن يكون اليوم في ومضات قرآنيةٍ ، وربما جلّها نأخذه من قصةٍ واحدةٍ من قصص الإصلاح وحواراته من رسل الله عليهم صلواتهم وسلامه عز وجل .
قصة شعيب مع قومه
فيها ومضات منهجية نؤسس بها لقضية الإصلاح من خلال هذه الآيات ، ومن خلال غيرها من بعد بإذنه سبحانه وتعالى : { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط } .
نبي من أنبياء الله ، والأنبياء هم صفوة المصلحين ، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هديٍ من ربهم ، وبنورٍ من وحيه ، وبرقيٍ وسموٍ بما كانوا عليه من صلاح السرائر وجمال الأخلاق ، ورشد العقول ، وحسن التدبير ، وكمال السياسة التي كان عليها رسل الله وأنبياءه .
هذه دعوة شعيبٍ يبدأها بأول وأهم وأعظم أساسٍ لا يكون إصلاحٍ إلا به .. أساس الإصلاح الإعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه ، فلا شرك ولا إشراك ، ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجاءه إلى آلهةٍ متعددةٍ لم يسمها آلهة أول دعوةٍ بدأ بها وبدأ بها كل الرسل والأنبياء { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره } .
هذه الدعوة الإصلاحية الأولى كم أمة الإسلام محتاجة ؟ إليها كم نحن في حاجةٍ إلى إصلاح مسائل الإصلاح ، مسائل الاعتقاد والإيمان من جهةٍ ووجوهٍ شتى من وجوه الصحة والعلم والمعرفة المبنية على دليلها الثابت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعيد عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء؟
كم نحن في حاجةٍ من جهةٍ أخرى إلى دحض الشبهات ، وإلى بيان فساد المبتدعات ، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات .
ليس في ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه ، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس سبب الانحراف والضعف والزيغ الذي حلّ بأمتنا أو بكثيرٍ من أبناءها وفي كثيرٍ من أصقاعها ، ثم نحن كذلك في حاجةٍ إلى مراجعة قضية الإيمان والاعتقاد بعد المعرفة الصحيحة إلى الأثر الحقيقي في واقع الحياة .
هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب ؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس ؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق ؟ هل تضبط الخواطر والأفكار ؟ هل تهذب الأقوال والكلمات ؟ هل تقوم السلوك والأعمال ؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور ؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية ؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم ودموع أعينهم ووجل قلوبهم وورع نفوسهم ؟ هل حقيقة الإيمان موجودة ؟(/1)
لو أنها كانت على النحو المطلوب ، وعلى الوجه الكامل ، وعلى الصورة المؤثرة ؛ لرأينا كثير من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي في أحوال أمتنا ، وتزول من واقع حياتنا ، ولكنه الإيمان إذا انحرف فضل أربابه إلى صورٍ من شركٍ أو انحرافٍ وابتداع .. ولكنه الإيمان إذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب وسيرت النفوس وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة .. فحينئذٍ لا يرجى أن يكون أثر لأي إصلاح ، ما دام الفساد في القلوب مستقر ، وما دام الكدر والقدر موجود في النفوس لن تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي .
إن طهارة القلوب ، وزكاة النفوس ، ورشد العقول ، وحسن الأقوال ، وصحة الأعمال ، وصلاح الأحوال لا يمكن أن تنطلق إلا من أساسٍ صحيح في اعتقادٍ صحيحٍ راسخٍ مؤثر .. ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قومٍ من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية ، أهل فسقٍ وفجور ، أهل انحرافٍ وأهواء ، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم ، ويؤسسها على قاعدةٍ جديدة متينةٍ ركيزةٍ من شهادة التوحيد ، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس .
وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء .. جاء بها شعيب وقدمها ؛ لتكون أساسا يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان شائعاً في قومه الإفساد فيه .
وجاء بها موسى - عليه السلام - ليصلح بها الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون .
وجاء بها لوط – عليه السلام - ليصلح بها الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم إلى فسق فيما يأتون من الذكران من العالمين .
فكل قضيةٍ إصلاحيةٍ إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان ، وصحة الاعتقاد ، وحسن التعلق بالله وكمال الرجاء فيه وعظمة الخوف منه وصدق التوكل عليه ودوام الإنابة إليه تلك التي هي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم ويكون لهم بها بعد مماتهم أثر وسبب لنيل رحمة الله عز وجل ورضوانه .
قال شعيب عليه السلام : {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان } لأجل دنيا تريدون تحصيل المزيد من الأرباح فيها بتنكب الحق وارتكاب الغش .
وقال : { إني أراكم بخير } ما معنى ذلك ؟ أراكم بخيرٍ في معيشتكم ورزقكم ، أي فيما تأخذون من الحلال وإن كان قليلا فأخاف أن تسلبوا ما أنتم عليه بانتهاككم محارم الله .
قال ابن كثيرٍ في تفسيره : " إذ الإصلاح يعتمد كذلك على الطاعة لله عز وجل ، والموافقة لشرعه ، والمجانبة لمحاداته ومشاقته ، ومخالفة أمره ؛ فإن دواعي الفساد والإفساد إنما مبعثها مخالفة حكم الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما كان من التزامٍ بأمر الله وأمر رسوله فذلك فيه الصلاح والخير ولذلك قال : { إني أراكم بخير } أي إن استقمتم على أمر الله " .
ثم حذر فقال : { إني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط } تفسد أحوالكم في دنياكم ، وتحلّ بكم نقمة الله عز وجل ، وينزل بكم سخطه ، وتنزع منكم بركته في الدنيا ، ثم تكون العاقبة السيئة والعياذ بالله في الآخرة .
فالأساس الإصلاحي الثاني الذي تصلح به أحوال العباد بعد حسن الاعتقاد هو : حسن الامتثال
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
وهذه دعوات قرآنية كثيرة ، ودعوات نبوية عديدة ، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى ! قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )
وهذا أساس ينبغي أن نعلم سوء أثره في واقعنا .
لماذا افترقت النفوس ؟لماذا اختلفت الآراء لماذا تفرّقت الصفوف ؟ لماذا قست القلوب ؟ لماذا جحدت العيون وقحطت ؟ لماذا تغيرت أحوالنا ؟ إنه ضعف إيماننا بسبب كثرة معاصينا ، والمعصية آثارها عظيمة ، وأضرارها وخيمة ووبيلة ، والمؤمن الحق يدرك تماماً أن قضية أثر المعصية أمره عظيم ، ولقد كان أسلافنا - رضوان الله عليهم - يرون أثر المعصية في الأمر اليسير الهين الذي لا نلقي له بال .
قد كانوا يرون أثر المعصية إذا ساء خلق زوجة أحدهم أو دابته ؛ ردّ ذلك إلى قصورٍ في طاعته أو إلى غفلةٍ في ارتكاب شيءٍ من المعاصي ،كانوا يرون أن كل عارضٍ يعرض لهم فيه ضرب من الابتلاء ، أو ضرب من العناء إنما هو بسبب شيءٍ من غفلتهم عن أمر الله أو اجتراءهم على معصية الله .
واليوم وقد كثرت الذنوب والمعاصي ، وتعاظمت حتى صارت كأمثال الجبال ، بل ملئت ما بين السماء والأرض ، ثم بعد ذلك نسأل : ما السبب في تغير أحوالنا ؟ ولماذا لا نستطيع أن نحقق مرادنا ، ولا أن نصل إلى مبتغانا ، ولا أن نصلح أحوالنا ، ولا أن نداوي أمراضنا ؟(/2)
إن ذلك لا يكون ولن يكون إلا بصلح مع الله عز وجل ، وإصلاح ما بيننا وبينه وبالتعظيم والوفاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم .. استمساك بهده واتباع لسنته وذبّ عنه عليه الصلاة والسلام .
ولذلك حذّر شعيب هنا من هذه المعصية ، فماذا كان جواب القوم وإن كان لا يعنينا كذلك في هذا المقام إنما نريد أن ننظر إلى لسان المصلح ، ماذا كان يقول إلى نظريته التي يقدمها ؟ إلى توجيهاته التي يذكرها ؟
لكنهم في سياق ردهم عليه جاءوا بالتهكم والسخرية ، وأتوا بما يستوجبون به سخط الله عز وجل وحلول الفساد في أرضهم وديارهم ، وقبل ذلك في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم .. { قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } .
لم يقولوا ذلك ذكر لصفاتٍ حسنةٍ فيه ، ولكنهم يقولون عكسه ، أي إن مقتضى ما تقوله لنا يدلنا على أنك لست بحليمٍ ولا رشيد .. يقولون ذلك على سبيل التهكم ، ويذكرون هنا قضية مهمة في شأن الإصلاح يذكرها وللأسف بعض بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا عندما قالوا : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } .
لماذا تدخلون أمر الاعتقاد أمر الدين في صلب الحياة ما لدين والاقتصاد ؟ ما لدين والسياسة ؟ ما لدين والحياة الاجتماعية ، ما لدين وللحياة العلمية والتقنية ؟ أرادوا أن يقولوا له : بماذا جئتنا يا شعيب ؟ نحن ننكر ونستنكر ، ولا نقبل ولا نفهم أن تكون صلاتك التي تقوم بها ! أو ديانتك التي جئت بها .. تريد أن تغير أحوال حياتنا كلها .. تريد أن تضبط وتحكم تفاعلات جوارحنا ومعاملاتنا في سائر جوانب حياتنا .
وذلكم ما لعله اليوم يقال في ديار الإسلام وبألسنة بعضٍ من أبناء الإسلام لماذا لا نأخذ النظريات الاقتصادية من الشرق لماذا لا نأخذ النظم السياسية من الغرب لماذا لا نستفيد في جوانب الحياة الاجتماعية من هنا أو هناك كأننا فقراء لا منهج عندنا كأننا أمة مبتوتة لا تاريخ لها كأنه ليس بين أيدينا النور التام الذي تبحث عنه البشرية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم !
لقد أصبحنا اليوم نسمع عن الديمقراطية والحرية واقتصاديات السوق وغيرها من المصطلحات ، ما لم نعد نسمع له ذكر لآيةٍ من كتاب الله أو حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو صفحة مشرقة من صفحاتٍ كثيرةٍ مليء بها تاريخنا الذي رسم الحياة الإنسانية على القاعدة الإيمانية وفي ضلال الشريعة الإسلامية ، فأتى بالتقدم والرخاء الاقتصادي وأتى بالعدالة السياسية والقضائية ، وأتى حينئذٍ بأحسن الظروف والأحوال الاجتماعية ، وأقام فوق ذلك حضارة مدنية وتقدماً علمياً ما تزال أمم اليوم تعود نهضتها إليه ، ويرجع مبتدأها إليه ، فأين أمة الإسلام عن حقيقة الإصلاح في جوهر المنهج القرآني والرباني ؟
ثم استمعوا معي إلى ما قاله شعيب - عليه السلام - في هذه الكلمات التي يؤسس القواعد مع ما سبق أن ذكرناه من قاعدة الإيمان ، وحسن الاعتقاد وصحته وقاعدة الاستقامة وكمال الالتزام بشريعة الله عز وجل
قال عليه السلام - عندما ردوا عليه بهذا الرد قال : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .
في هذه الآيات منهج لكل مصلح منهج شامل .. ما الذي ينبغي أن يكون عليه في تكوين ذاته ونفسه ؟ ما الذي يجب عليه في حسن عرضه ودعوته ؟ ما الذي ينتهي ويرتكز عليه في قدرته ومواصلته ؟
استمعوا إلى هذه الآيات .. استمعوا إليها بالقلوب والعقول استماع فيه التدبر والتأمل وهو يقول : { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } .
أول أمرٍ - أيها المؤمنون المسلمون - لا بد أن نكون على بينةٍ من أمرنا ، وعلى بينةٍ من ديننا ، وعلى بينةٍ من نهجنا .. لا بد أن نعرف حقائق إيماننا وشرائع إسلامنا ، أن نعرف ما يثار من الشبهات ، أن نكون على بصيرة لا بد أن نعرف المنهج الإسلامي معرفة صحيحة من أصوله الصافية ومنابعه العذبة ؛ لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل وهذا هو الذي يثبت المصلح .
أما المصلح إذا لم يكن على بينةٍ من ربه وعلى معرفةٍ من نهجه ، فربما اضطرب أو تشكك ! وربما تراجع وتقهقر ! وربما وافق وداهن أو جامل فيما لا ينبغي أن يكون خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المفاسد والأطروحات والضغوطات المختلفة ، حتى صار الناس يدعون أمور ليست من الإسلام وينسبونها إليه ؛ لأنهم ليسوا على بينةٍ من ربهم .(/3)
وهذه أول أمرٍ ينبغي للمؤمن والمصلح والداعية والعالم وكل فاعل خير في هذه الأمة أن يتزود به وأن يتحصن به ، قال تعالى : { قل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به }
حتى وإن كذبت الدنيا كلها وإن صارت وسائل الإعلام تصك آذاننا كل يوم بمذاهب وضعيةٍ بشرية ؛ فإننا نقول : " إنا على بينة من ربنا " .
{وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به } ،كانوا يقولون أين أثر ذلك أين النتيجة لذلك واليوم يقول بعض المسلمين : أين أثر القرآن ؟ وأين أثر الإيمان ؟ وأين أثر شواهد الإسلام ؟ هل يمكن أن تطبق في واقع الحياة اليوم ؟ إن هذا التشكك لا يزيله إلا يقين راسخ ومعرفة تامة وبينة واضحة في منهج الإسلام .
{قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين }
ثم قال شعيب عليه السلام : { ورزقني منه رزق حسنا } ، قال أهل التفسير : " قصد النبوة أو الرزق الحلال " ، قال ابن كثير : " أي أخذت بالحلال ما كان موافق لشرع الله ، وتركت ما كان من الحرام مخالف لأمر الله " .
فالاستقامة هنا بعد وضوح المنهج ، إن كل مصلحٍ لا بد أن يكون قدوة لغيره ، لا بد أن يكون مسابق لكل خيرٍ يدعو إليه ، لا بد أن يكون مجتنب لكل سوء أو شرٍ يحذر منه ، لا بد أن يكون قدوة تتعلق بها القلوب ، وتتأثر بها النفوس ، وتكون أنموذجاً يقتفى ، وأسوة تحتذى .. هذه معالم مهمة في الإصلاح . ما بال كثيرٍ من أهل الإصلاح يقولون مالا يفعلون ، ويدعون إلى ما عنه يتخلفون ؟
هذه قضية مهمة .
ومن هنا أتبعها فقال : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه }
إن أعظم أثر سلبيٍ لدعوة الإصلاح أن يكون الداعي إليها أول مخالفٍ لها ! كيف نقول : إننا ننطلق من ثوابتنا ونحن نستورد من غيرنا ؟ كيف يقول ذلك المصلح أنه يريد خير وطنه وبلاده ، وقلبه وفكره في خارجها ؟ كيف يدعي أنه يريد الإصلاح كما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح وهو يتلقى توجيهاته أو إرشاداته أو نظرياته أو أفكاره ممن ليسوا على دينه ، ولا على ملته ، وليسوا من دياره ، ولا من بلاده ، ولا من غير ذلك من أمورٍ كثيرة نراها نسمع عنها ؟
ثم كذلك {ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } سواء كان ذلك في السر أو كان في العلن !
ذكر ابن كثيرٍ في تفسيره عند هذه الآية : " أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم " ، وقال قتادة: " لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه " .
ثم قال : { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }
وهذه قاعدة إصلاحية مهمة قاعدة الإخلاص والتجرد عن المصالح الذاتية .. قاعدة الارتباط بتغليب المصالح العامة للأمة .
إن الداعية المصلح لا يريد شيئا لنفسه ، لا يريد حظاً لدنياه ،. لا يريد شيئا يتصل به أو بجماعته أو بقبيلته أو بفئته ..
إن المصلح الحق إنما يريد وجه الله أولاً ، وخير أمته وأبناء أمته ثانياً .. لا يوجهه لذلك مصلحة ن ولا يرده عن ذلك مفسدة ، لا يدعوه إلى ذلك مغنم ، ولا يصده عن ذلك مغرم ، إنما أساسه الإصلاح ورغبته ، الإصلاح إرادته الجازمة وغايته الواضحة قال تعالى : { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }
وقضية الإصلاح والتغيير قضية ليست سهلة ؛ ومن هنا جاء قوله عليه السلام : { وما توفيقي إلا بالله }
إنه لا يمكن أن تحقق دعوة إصلاحية أثرها إلا بتوفيق الله عز وجل ، ولا يستدعى هذا التوفيق ولا يستجلب إلا بالإخلاص لله عز وجل ، وكمال التجرد له ، والرغبة في خير هذه الأمة وإصلاحها وتقديم الخير لها .
{وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } فلا اعتماد إلا عليه ولا رجوع إلا إليه ، قال السعدي في تفسيره في هذه الكلمات القرآنية الربانية العظيمة : " وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد وهما : الإستعانة بربه ، والإنابة إليه ،كما قال تعالى : { فاعبده وتوكل عليه } ، وكما قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } " .
فإن انطلقنا في دعوتنا للإصلاح مستعينين بالله مستحضرين رجوعنا إليه فذلك هو النهج القويم الذي ترجمته لنا آيات القرآن .
نسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا ونفوسنا .
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .
وإن من تقوى الله - عز وجل - الارتباط بمنهجه وبإرشاده وتوجيهه فيما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إصلاح أحوال العباد والبلاد ، التي نسأل الله عز وجل أن يمنّ بها علينا وعلى بلادنا بلاد الحرمين الشريفين ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بنهج القويم والصراط المستقيم ، وأن يدرأ عنا الفتن والمحن والأغاريق والأباطيل إنه ولي ذلك والقادر عليه .(/4)
ووموضات الإصلاح في القرآن كثيرة .. ولئن وقفنا مع هذه الآيات القليلات من جزءٍ من قصة شعيب عليه السلام ؛ فإنما وراء ذلك أكثر وأظهر ، ولنا عنه أحاديث لاحقة - إن شاء الله - غير أني أورد هنا ما ذكره ابن كثيرٍ في تفسيره لهذه الآيات ؛ لما له من دلالةٍ مهمةٍ عندما روى حديث عن أبي حميدٍ وأبي أسيدٍ رضي الله عنهما عنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين به أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه قريب منكم فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد منكم فأنا أبعدكم منه ) رواه الإمام أحمد في إسنادٍ صحيحٍ كما ذكره ابن كثير .
وسياق هذا الحديث في هذه الآيات دلالة على مسألةٍ مهمة :
إن دعوة الإصلاح ترتبط بالداعي إليها ، فإذا نظرنا إلى الداعي وأحواله فغلبت أحوال الخير عليه ، فلم نعرفه إلا من أهل الصلاح والتقى ولم نعرف له من المواقف إلا مواقف الخير والإصلاح ، ولم نسمع له من الكلمات إلا كلمات البر والإحسان ، ولم نرى له من الأفعال إلا أفعال النجدة والإغاثة والإصلاح ، فحينئذٍ قد جاء الشيء من معدنه فنقبله ، أما إن كانت الأخرى ؛ فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى ذلك .
إن كان ما نراه ونسمعه من دعوةٍ للإصلاح بتاريخٍ نعمله على غير الإصلاح في أقوالٍ وأفعالٍ وأحوالٍ وعلاقات ، فينبغي أن لا يضرنا حسن القول ، وننسى مثل هذه القاعدة المهمة على أن حسن الظن - وهو مطلوب من المسلم والمسلمين جميعاً - لا ينبغي أن يكون نوع من الغفلة والسجادة التي تضيع بها المصالح ؛ فإن الأمور تنتظم أوائلها مع أواخرها ، وتدل أواخرها على أوائلها ، وهذه مسألة مهمة ، وثمة ومضاتٍ كثيرةٍ لا يتسع لها المقام أذكر بعضاً منها ؛ ليكون لنا عنه حديث آخر بإذن الله عز وجل .
أول ذلك : أن التوفيق الرباني مقرون بالدعوة الإصلاحية بإذن الله
فالإصلاح قرين هذا التوفيق ، كما قال عز وجل في شأن الخلاف بين الزوجين والإصلاح بينهما : { إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } ، أي إن صلحت وخلصت النية للإصلاح جرى بإذن الله عز وجل التوفيق .
ثانياً : دعوة الإصلاح كذلك لها أثر مهم في الأمن والأمان من الهلاك
قال تعالى : {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون } ، لم يقل صالحون بل مصلحون !
إذا كان الصلاح والإصلاح في الأمة ساريا ، فذلك من أسباب درء العذاب عنها بإذنه جل وعلا .
والأساس الأول هو الارتباط بالله كما قال الحق جل وعلا : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } .
قال ابن كثيرٍ في نقله عن المفسرين : " أصلح بالهم ، أي شأنهم أو حالهم أو أمرهم " .
وقال السعدي : " أصلح دينهم ودنياهم وقلوبهم وأعمالهم ، وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيةٍ وأصلح جميع أحوالهم " .
نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا ، وأن يصلح قلوبنا ونفوسنا ، وأن يرشد عقولنا وأفكارنا ..(/5)
ونطق الرويبضة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} سورة النساء(131). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} سورة آل عمران(102). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء(1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سورة الحشر(18).
ثم اعلموا - أيها المسلمون- أننا نعيش في زمان كثرت فيه الفتن والبلايا، وعظمت فيه المحن والرزايا، وادلهمت فيه الخطوب، وتجلت فيه الكروب. إنه زمان ملئت فيه الدنيا جوراً وظلماً، وأسند الأمر فيه إلى غير أهله، ونطق الرويبضة، وساد السفيه، وتمكن الخائن، وقيل للحق باطل، وللباطل حقاً،-ولا حول ولا قوة إلا بالله-، وهذا ما أخبر به- عليه الصلاة والسلام- مما سيقع في آخر الزمان؛ كما في الحديث الذي حدث به أنس بن مالك وأبي هريرة-رضي الله عنهما- حيث قالا: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (سيأتي على الناس سنوات خداعات, يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق الرُّويبضة)، قيل: وما الرَّويبضة؟ قال:(الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)1. قال ابن الأثير- رحمه الله-: الرويبضة تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، وزيادة التاء للمبالغة. والتافه: هو الخسيس الحقير2.
أيها الناس: في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام نبوته-صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّ المتأمل والناظر في واقع الناس اليوم، وما نحن عليه يعلم يقيناً صدق ما أخبر به النبي-صلى الله عليه وسلم-، ويتقين أننا في تلك السنين التي أخبر النبي بأنها ستأتي، فلقد أتت، فلقد صُدِّق في هذا الزمان-والله والذي لا إله إلا هو- الكاذب، وكُذب فيه الصادق، وائتمن فيه الخائن، وخوّن فيه الأمين، وتكلم الرويبضة في قضايا الأمة العامة، وأسند الأمر إلى غير أهله!.
أيها المسلمون: لقد طعن الرويبضات في الإسلام باسم الإسلام، فكم رأيناهم يتباكون على الإسلام وهم أبعد الناس عنه. يسمون التمسك بالإسلام تطرفاً، والدفاع عن المسلمين ومقدساتهم إرهاباً، ونسوا- أو تناسوا-أنَّ التطرف هو الانحلال الخُلُقي والمسخ الخَلْقي الذي يعيشونه، والإرهاب هو ما يمارسونه ليل نهار في حق المستضعفين في فلسطين، وغيرها من بلاد المسلمين، ولكنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. إنها كلمات تلقوها من أساتذتهم من اليهود والنصارى! فنعقوا بها في كل واد وناد، وبها يتيهون ويهيمون، ونقنقوا بها نقنقة الضفادع الغائرة في الطين، وليتهم عرفوا مدلولها الشرعي فهي حجة عليهم، لكن مصيبتهم أنهم لا يُحسنون إلا ترديد الببغاوات. إن هؤلاء الرويبضات ديدنهم الكذب، وشعارهم التدليس، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، نذروا أنفسهم للشيطان، وتمردوا عن طاعة الرحمن، وفسقوا عن أمر ربهم خالق الإنس والجان، إذا رأوا عالماً أو طالب علم ولَغوا في عرضه ولوغ الكلاب في النتن، فتارة يتغامزون، وأخرى يهمزون ويلمزون، غافلون... عن قول الحق: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} سورة الهمزة(1). وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} سورة المطففين(29)(30). وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} سورة المؤمنون(109)(110) (111).(/1)
هل سمعتم -أيها العقلاء- أنَّ جمعاً من الرويبضات يفاوضون على تقرير مصير أمة، وتغيير تاريخ أجيال، وذلك تحت شعار: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} سورة الأنفال (61)؟!. إنه لن يكون حال الأمة أسوأ ولا أقبح من حالها حينما يعلو الزبد، وما ينفع الناس يذهب جفاء، حينما ينطق فيهم الرويبضة ويصول ويجول، وتخلو له الساحة؛ حينئذ: (ويل للعرب من شر قد اقترب)3، ويل لهم من شر غائب ينتظر. وليس لها من دون الله كاشفة، ففروا -عباد الله- إلى الله, واعملوا بالشرع وأحكامه، وبه زنوا الأمور والأحداث والأشخاص، وإياكم والانتكاس، إني لكم نذير مبين4. وأقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم،إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الله الواحد الأحد، الذي ي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله بلا حصر ولا عدد، وعلى آله وصحبه ما ركع راكع لله وسجد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد.
أيها المُوحِّدُون: من العجيب أنَّ الكفار أصبحوا يتكلمون بلسان أمة الإسلام، فنصبوا أنفسهم وكلاء على المسلمين، وكأنَّ المسلمين لم يبلغوا سن الحُلُم، أو ما أشبه ذلك، فلقد أصبحوا يفاوضون, بل ويحكمون بأن على الفلسطينيين أن يكفوا عن عملياتهم كما يصفونها بالإرهابية، وعليهم.. وعليهم..!.- ولا حول ولا قوة إلا بالله-. فأصبح الكفار هم العقلاء والمسلمون ليسو كذلك!.
أيها المسلمون: إنه ما تسلط علينا أولئك الأراذل من الكفار وغيرهم إلاَّ أننا تخلينا عن ديننا، وعصينا أمر ربنا، وركنا إلى هذا الحياة الدنيا، فسلط الله علينا شرار خلقه ليذيقنا بعض أعمالنا، ولعلنا نعود إليه ونتوب، ولكننا مع كل هذه المحن والرزايا، وإحداق الخطوب بنا من كل حدب وصوب، وضيق الأرض بنا بما رُحبت، وقلَّ المناصرون، وكثر المثبطون والمرجفون، وزمجر الفساد والمفسدون، وشُجع المبطلون، وكبت أهل الحق والدين، وتخلى الأمناء الشرفاء، ورفع السفهاء، وتظاهر بالوفاء كل خوان، ونطق الرويبضة، وغدى القرد ليثاً، وأفلتت الغنم، فلنرفْع أيدينا إلى من قال جل في عليائه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} سورة غافر(60). ولنصدق التوبة، ولنعترف بالخطأ، ولنندم على فعله، ولْنعْزم على عدم العودة إليه، ولْنتضرع إلى الله، ولْنتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته، وبما عملناه من عمل صالح، ولْنناجيه ولْنقل:
يا من أجبت دعاء نوح فانتصر ... *** ... وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله ... *** ... روحاً وريحاناً بقولك كون
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسا ... *** ... وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثلهم في كربة ... *** ... فارحم عباداً كلهم ذو النون
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المباركة باسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا ألسنة ذاكرة، وقلوباً خاشعة، وأعيناً مدرارة، وإيماناً نجد حلاوته يوم أن نلقاك. رباه إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك وحملة كتابك وأتباع رسولك يرجون رحمتك ويخشون عذابك. رباه لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين5. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وهو في الصحيحة رقم(1887).
2 - النهاية في غريب الحديث(2/185).
3 - جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم.
4 - انظر مجلة الأصالة. العدد السابع. صـ(9- 12). مع الحذف والزيادة.
5 - بتصرف من شريط لفضيلة الشيخ/علي بن عبد الخالق القرني- حفظه الله- بعنوان:" هكذا علمتني الحياة(2) .(/2)
وهديناه النجدين: بين ضلالات البشر والهدى الرباني
رد على مقالة الاستاذ امين هويدي
ساتجاوز في تعقيبي على ما جاء في مقالة الكاتب أمين هويدي (الحياة 30-11-2003 العدد 14859) من اعتراضات – وجيهة ولا شك- على صاحب الرسالة الالهية – جورج بوش- الذي يريد فرضها على العالم حيث قال في خطابه الشهير بان "الديمقراطية والحرية هي خطة السماء للانسانية وافضل امل للتقدم هنا على الارض" وقد يكون لنا موعد اخر مع صاحب الرسالة الالهية، الا اني اريد مناقشة الاستاذ أمين فيما زعمه من ان " الاسلام لا يتعارض مع الديمقراطية والتحديث ليس تغريبا ولا هو اتباع الثقافة الغربية" وان "شعوب المنطقة تتعطش الى الديمقراطية وتحاول تحقيقها" وهذا ما يفسر انزعاج الكاتب من سياسة بوش الحمقاء الخرقاء ويقدم الاستاذ أمين النصح لبوش حتى تصبح قضية الديمقراطية اسهل واقل تعقيدا بعد ان تتخلص من الارث الثقيل للسياسة الامريكية هذا الارث الذي اصبح عبئا على الديمقراطية ودعاتها بعد ان قام بوش – وفريقه من المحافظين الجدد- بما يجعل "تمثال الحرية يحني راسه خجلا" بحسب تعبير الاستاذ أمين.
وكما تساءل الاستاذ أمين "ما هي الديمقراطية التي يقصدها الرئيس (بوش)؟ وهل هي ديمقراطية الاثرياء؟ هل هي ديمقراطية اشباه الاحزاب؟ هل هي ديمقراطية القوة والسيطرة والارهاب؟"
فاني كنت اود لو انه افصح لنا عن الديمقراطية التي زعم ان الشعب العربي يتوق اليها بشدة؟ فقد تشابه البقر علينا ولم نعد ندر عن اي ديمقراطية يتحدثون وما المراد بها . فاستميح الكاتب – ومن راى رايه- بان ابدي وجهة نظري كوني احد ابناء هذا الشعب الذي يزعم التحدث باسمه واكون ممتنا شاكرا لو تفضل الاستاذ أمين – ومن يرى رايه من اهل الديمقراطية ودعاتها (محلية كانت ام مستوردة)- وصحح ما قد يكون البس علي فهمه.
فحسب علمي فان "الديمقراطية" هي مجرد شعار خادع يقف وراءه اصحاب الرساميل الضخمة في دول الغرب فيستخدمونها مطية لتبرر جرائمهم البشعة التي يندى لها ليس فقط جبين التماثيل المحنطة وانما جبين كل صاحب ضمير حي يعتز بكرامته الانسانية ويابى العبودية لنفسه ولملته من بني البشر.
ويؤلمني حقا ان اسمع وارى هذا وذاك من ضحايا الاستعمار الغربي القبيح ، ممن "ضبعوا " بالدعاية المضللة للغرب، يتسابقون للتنادي بان الديمقراطية هي امل الشعوب وهي السبيل الوحيد الى حرية واستقلال الشعوب" كما جاء في المقالة
فما حقيقة هذا الادعاء؟
نجد مثلا ان اهل الديمقراطية ودعاتها يسارعون الى الترويج لها كونها تقدم الحل الامثل لتمكين الشعوب من تحقيق معنى السيادة الشعبية عبر مشاركة افراد الشعب باليات الحكم فيعبرون عن رغباتهم في كيفية تصريف وتدبير شؤونهم عبر انتخاب من يمثلهم الى مجالس الحكم – من برلمان وما شابهه- وهذه المجالس المنتخبة ينتج عنها حكومة من "الشعب ومن اجل الشعب وباختيار الشعب"
اي- بعبارة اخرى- يسارع دعاة الديمقراطية الى تقديم الاختزال المخل المجافي للحق والصواب حين يقدمون للناخب – انا واشباهي من عامة الشعب- احد خيارين: اما دكتاتورية صدام حسين- واشباهه من حكام العرب الميامين- واما الديمقراطية الغربية التي تعكس عصر الانوار الذي انتج قمة الاسهام الحضاري الغربي الاوروبي؛ ولعل دعاة الديمقراطية – من حيث يشعرون او لا يشعرون- يوافقون على ما ذهب اليه فرنسيس فوكوياما في زعمه بان النظام الديمقراطي الليبرالي هو اخر محطة للبشرية في سيرها التاريخي المتعثر باحثة عن النظام الامثل لبني الانسان، كما جاء في كتابه الشهير "نهاية التاريخ"
فلننظر عن كثب الى مقولة "الحكومة التمثيلية" هذه لنر مدى صحة الزعم بان الديمقراطية المنشودة هي امل الجماهير والشعوب المستضعفة.
يقول إلفين توفلر في كتابه "الموجة الثالثة"( ص 68-70)(/1)
ان الحكومة التمثيلية- مع ما هدفت اليه من هدف نبيل من اعطاء الناخب مساهمة فعالة في انتخاب من يمثله للمشاركة في تقرير السياسات التي تؤثر في حياته ومصيره، ما هي الا خدعة كبرى من ارباب المجتمع الصناعي الجديد الذي قام على انقاض النظام الاقطاعي البائد، ويذهب في شرحه الى ان الية الانتخابات المزعومة هي في حقيقتها الية تمكن الراسماليين – صناع القرار الحقيقيين في النظام الراسمالي الذي يحرص على اخفاء جرائمه القبيحة وراء سواتر من الاقنعة المبهرجة التي ما هي الا دس للسم في العسل- من التحكم المستمر في مصير المجتمع. وبهذا فان الوهم الذي توجده الية الانتخابات بمساواة كافة افراد الشعب- حيث ان لكل مواطن صوت واحد – فهذا كله يوجد وهم المساواة لدى افراد الشعب من جهة ويوجد الوهم ان الشعب حقيقة يملك مصيره بيده وانه يملك تنصيب وعزل الحكام حسب سخطه او رضاه عنهم؛ بل ويذهب الى ابعد من ذلك حين يقول- وهذا الكتاب صدر في 1980- ان كلا من النظام الاشتراكي الشيوعي وغريمه النظام الراسمالي قد استفادا خير استفادة من هذه "الطقوس" التي اثبتت جدواها ليس من خلال ما ادت اليه من نتائج – اي فوز هذا المرشح او ذاك- وانما من خلال خلق الوهم الزائف لدى طبقات الشعب بانهم يساهمون مساهمة فعالة في تقرير مصيرهم.
ثم يضيف توفلر (ص 69) بانه برغم الجهود المضنية التي بذلها المصلحون والمتطرفون الديمقراطيون فان صناع القرار النخبة حافظوا على هيمنتهم التامة على انظمة الحكم التمثيلي؛ كل هذا – وتفاصيل اخرى اضرب عن ذكرها واحيل القاريء الكريم الى الكتاب المذكور- جعل توفلر يصدر حكمه بان "الحكم التمثيلي قد فشل من يومه الاول في تحقيق ما هدف اليه من جعل الشعب هو المتحكم في مصيره مهما اجتهدنا في التاويل والتفسير"
وبحسب تعبير توفلر فان " الحكم التمثيلي –او ما علمنا بانه الديمقراطية- ما هو الا الية تقنية صناعية (اي ناتجة عن النظام الصناعي الراسمالي) تهدف الى ضمان اللامساواة . الحكم التمثيلي كان حكما تزويريا كاذبا يزعم ضمان التمثيل الحقيقي (للشعب المغلوب على امره صاحب السلطات والسيادة – نظريا على الاقل)
ولذا فان الحكم التمثيلي ليس سوى الية تحكم سياسية موازية للمصنع – الذي يجبر الافراد على الانتظام عبر السلك الصناعي بكل ما يتطلبه من روتين روبوتي مثله شارلي شابلن في فيلمه المشهور" الازمنة الحديثة" . حقا –حسب قول توفلر- فان الحكم التمثيلي كان مصنعا لصناعة القرارات الجماعية – التي تحدد مصير الامة- وككل المصانع فقد كان يدار هذا المصنع من عل (عبرالنخبة اصحاب القرار)
ثم يختم توفلر بتنبوئه ان ايام الحكم التمثيلي صارت معدودة حيث سيقع ضحية للموجة الثالثة القادمة والتي ستحطم معظم اليات الموجة الثانية
وان المرء اليوم لينظر باعجاب الى دقة فهم توفلر وصواب ما ذهب اليه فها المجتمعات الغربية تكاد تجمع على سقوط الحكم التمثيلي كما يعبر عن ذلك الناخبون الغربيون بعزوفهم عن المشاركة في الانتخابات بعد ان ظهر لهم سماجة هذه المزحة الثقيلة، فاضحين بذلك ومعرين حقيقة النظام الراسمالي القائم لا على "صوت واحد لكل مواطن" وانما على "صوت واحد لكل دولار واحد"
ففي ظل هذا النظام الراسمالي لا امل باي حرية حقيقية لافراد الشعب المسحوق الذين يرجعون الى بيوتهم صرعى "سباق الفئران" – في تعبيرهم- للتمكن من دفع الفواتير وما جبلوا عليه من نمط حياتي استهلاكي ادى – من ضمن ما ادى اليه- الى تحطيم اواصر الاسرة ونسف القيم الاخلاقية وتفشي الجرائم العنيفة وازدهار صناعة السجون (في بلد تمثال الحرية هناك اليوم اكثر من مليوني مواطن امريكي قابعون وراء القضبان يتعلمون دروسا في الحرية-هذا دون ذكر النسبة الطاغية للافرو امريكيين من هؤلاء النزلاء، وتعجز الولاية الذهبية- كاليفورنيا- عن اللحاق بصناعة السجون المزدهرة اذ تحتاج الولاية الى بناء سجن في كل عام للتمكن من لملمة الاعداد المتفجرة من نزلاء الحرية الامريكية، وبينما كان في السجون 25 الف امراة بتهم المخدرات في 1985 فقد ارتفع الرقم الى 286 الف في عام 2000 ولا تسال عن مصير اولادهن فشارع الجريمة لا يمانع في استيعاب المزيد منهم بينما بوش ورمسفيلد لا يجدان ما ينفقانه على الخدمات الاجتماعية فهم مشغولون بنشر الديمقراطية عبر فوهات المدافع وال اف 16 والتوماهوك كروز)
طبعا ساهم سقوط الاتحاد السوفياتي في اطلاق الجشع الراسمالي من كل عقال، وادى غياب سيف البديل الاحمر الشيوعي الى سفور الراسماليين عن حقيقة اطماعهم اللامتناهية فحطموا ما تبقى من قيود السيادة الوطنية للدول المغلوبة على امرها ليبرروا ، تحت عنوان "العولمة" وافرازاتها، نهبهم لثروات الشعوب واستعباد اهلها تحت شعارات ودعايات هوليوود وماكدونالد الخداعة.(/2)
على كل وحتى لا نشتط بعيدا خارجين عن اصل موضوعنا فان الديمقراطية التي يصر كثير من النخب العربية على جعلها مرادفة للعملية الانتخابية وللحكم التمثيلي – وربما يشفع لهم في ذلك شدة سطوة النظم الدكتاتورية التي دفعتهم في حركة ردة فعل لا واعية للاتجاه نحو ما ظنوه فردوس الديمقراطية (نعم كالفراش الذي يندفع في شوق الى النار المحرقة)- تعكس عقيدة ودين شامل يتجاوز بكثير مسالة الانتخابات. .
والحق اننا لو تعمقنا في منشا الديمقراطية هذه لادركنا ان حكم الشعب بالشعب وللشعب- نظريا طبعا- ما هو الا الافراز السياسي لسلسلة تطورات فكرية عصفت بالمجتمع الاوروبي الذي ثار على جمود الكنيسة التي اصرت على محاربة عقارب الساعة بالتشبث بنظريات واهية تعود في جذورها الى وثنية اليونان وما اقتبسوه من فلسفات شرقية قامت على نزعة احتقار المادة والجد في طلب السمو الروحي ،هذه النظرة التي تناقض وتخالف طبيعة الانسان التي فطره خالقه وبارئه عليها.(ومن هنا منشا النظرة الدونية الى الجنس واعتباره مسلكا حيوانيا مدنسا للقيمة الروحية للانسان، والخطيئة الاصلية ..الخ)
فقد اثبتت الكشوفات العلمية بطلان وفساد النظريات الوهمية التي اصرت الكنيسة على فرضها بموجب نظرية الحق الالهي المتجسد عبر السلطة الباباوية،و ادت هذه الكشوفات ومارافقها من وعي فلسفي من جمهرة من الفلاسفة والمفكرين الاوروبيين الى خلع جذور النظام الديني القروسطي الذي كان متحالفا مع رجال الاقطاع، فوجد الملوك ضالتهم في تبني هذه الطروحات الاصلاحية ليكرسوا نفوذهم السياسي على حساب كل من الكنيسة ورجال الاقطاع مطلقين بذلك الموجة الثانية (بحسب تعبير توفلر) والتي فتحت الابواب مشرعة امام الثورة الصناعية التي واكبت عصر "الانوار" والذي مهد بدوره لديمقراطية اليوم حيث يتمتع افراد قلائل بثروات تفوق مئات الملايين مجتمعين؛ وحيث الالهة الجديدة من راسمالية الشركات المتعددة الجنسيات يقررون في اجتماعاتهم المغلقة مصير البشرية
الا انه مما يقدح في نبل متنوري اوروبا انهم لم يجدوا حرجا ليس فقط في غض النظر عن حروب الابادة الوحشية التي رافقت سعار الحملة الاستعمارية الامبريالية الواسعة في القرن ال 19 بل وفي تبريرها ايضا كون هذه القرابين البشرية (اي ابادة ملايين من السكان الاصليين، كما يذكر مايك ديفيس في كتابه "الهولوكست المنسي" ان 60 مليونا من سكان المستعمرات قضوا نحبهم نتيجة الموجة الاستعمارية فيما بين 1870-1906) ثمن ضروري لبناء المستقبل الزاهر للبشرية (كما ذهب داروين حين عقب على المجزرة ضد سكان تسمانيا على يد الجيش الانجليزي بان المستقبل سوف يثبت احقية الرجل الابيض في القضاء على العناصر الهمجية المنحطة بحسب نظريته في "البقاء للاصلح" )
ولذا فقد كان من المنطقي تماما ان يجرب هاري ترومان بعض العابه ضد الشعب الاصفر بالقائه قنبلتي هيروشيما وناغازاكي متفوقا بذلك على هتلر الذي لم يتاح له تنفيذ "الحل الاخير" القاضي بتفوق العرق الجرماني على ما سواه، كما كان من المنطقي تماما تجرية اسلحة النابالم في فيتنام والقنابل العنقودية في قانا واهداء رجل السلام شارون مائة طائرة من اف 16 وان يدفع 500000 من اطفال العراق الثمن لتحقق اولبرايت اهداف راسماليي الوول ستريت .
من هنا نرى ان الديمقراطية المزعومة ما هي الا افراز نتن لدين العالمانية الذي قام على انقاض دين الكنيسة الذي خرج عن خطه الاصيل الذي جاء به المسيح عليه السلام، حين اصر رجالات الكنيسة على اضفاء الصفة الالهية على اجتهاداتهم البشرية الخاطئة.
Secularism
اي "العالمانية" نسبة الى العالم ، هي دين قام على اساس انكار وجود الاله مطلقا ولذا فينحصر اهتمام هذا الدين بالركض الحيواني في الحياة الدنيا دون ادنى اعتبار لاي مقياس اخلاقي او روحاني اذ انه ينكر الناحية الروحية، والمتعلقة بالايمان بوجود خالق للكون وللانسان، انكارا تاما. ولذا لم يكن بدعا من القول التناقض الشنيع بين الالهة المتعددة فبينما يذهب توماس هوبس الى ان الانسان شرير بطبعه ولا بد من سلطة عليا تقمع جماحه ،يرى جون لوك انه خيرولكن لا بد من وجود عقد ينظم حدود علاقته بالاخرين، وكذا ذهب روسو الى وجوب اخضاع الاقلية الرافضة لدكتاتورية الاكثرية ...الا ان قرونا من التجارب الديمقراطية في حل العقدة الكبرى التي عبر عنها روسو بانها :ايجاد صيغة من العقد الاجتماعي تضمن شخص ومال كل فرد بحيث يستطيع الفرد طاعة نفسه فقط (اي يكون سيد نفسه) بينما هو عضو كامل العضوية في الجماعة الام (المجتمع)... هذه الصيغة لم يعثر عليها بعد ارباب الديمقراطية الغربية ، ولنا عودة في مقال اخر –بعون المولى- لتبيان فساد وبطلان وتناقضان اولئك القوم من المنظرين الغربيين
فمن من هؤلاء نتخذه ربا في تناقضاتهم الكثيرة؟؟(/3)
اخلص الى ان هناك فرق شاسع بين ان يكون الانسان عبدا لسواه من البشر –مهما حسنت نواياهم- من امثال جان جاك روسو او فولتير ، جون لوك او توماس هوبس او سواهم كامثال القضاة المشرعين الذين يحرمون اليوم ما اباحوه بالامس او العكس- او يكون عبدا لخالق السموات والارض بحسب وحيه الثابت المحفوظ الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالاسلام يتناقض جملة وتفصيلا مع دين العالمانية (وليس العلمانية كما يروق لبعضهم ان يروج الترجمة غير الدقيقة)
والله سبحانه هو الحكيم الخبير العليم بما ينفع البشر وما يضرهم في تسيير شؤون حياتهم
ولم يكن غرض الوحي يوما قط ان يشرح للناس علوم الرياضيات والفيزياء وغيرها من السنن الكونية، وانما اطلق الاسلام للعقل البشري حريته ليسع في عمارة الارض بما يخدم مصالحه الدنيوية ملتزما في ذلك كله بالشرع السماوي الذي يضمن للجميع- مسلمين وغير مسلمين- الحياة الكريمة النظيفة. و لايخفى ان اول اية نزل بها الوحي هي "اقرا".
فاختم بدعوة الاستاذ امين واهل الديمقراطية ان يعيدوا قراءة الهدي الرباني الذي بلغنا اياه النبي المصطفى حتى لا تختلط علينا حقائق الامور فقد جاءنا من ربنا ما يغنينا عن تخرصات البشر وتناقضاتهم
"وابتغ فيما اتاك الله الدار الاخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الارض ان الله لايحب المفسدين" القصص 77.
ولعلنا نعود لمزيد من التفصيل فالموضوع يطول ولا شك وانا شاكر ممتن لاي تصحيح او نقاش مثمر من القاريء الكريم اينما كان.
عثمان محمد بخاش
osman_bakhach@hotmail.com
...(/4)
ويأبى الله إلا أن يتم نوره
د. علي بن عمر بادحدح
نحن نعلم أن هذا العنوان هو شطر من آية في قول الحق - سبحانه وتعالى - : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة 32-33 ] .
وفي دلالة هذه الآية وما يتفرع عنها ، نبقى في هذا الدرس - بمشيئة الله تعالى - ونستهل ذلك بالمعنى الإجمالي الذي قاله ابن كثير في تفسيره حول هذه الآية ، ثم ننطلق بعد ذلك إلى آفاق عديدة متنوعة .
قال ابن كثير :
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } . قال : " يريد هؤلاء المشركين وأهل الكتاب ".
والآيات أصلاً في سياق ذكر الأحبار والرهبان من أهل الكتاب فهي أخص بهم وألصق بهم .
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } قال في معنى نور الله : " أي ما بعث به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق بمجد جدالهم وافتراءهم ، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخة ، وهذا لا سبيل إليه ، فكذلك ما أرسل به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يتم ويظهر ، ولهذا قال – تعالى - ومقابلاً في ما راموه وأرادوه : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }
والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه .
ثم قال تعالى :
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
فـ { الْهُدَى } هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة ، والإيمان الصحيح ، والعلم النافع .
{ وَدِينِ الْحَقِّ ...} هي الأعمال الصالحة النافعة في الدنيا والآخرة .
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ..... } أي على سائر الأديان " . انتهى كلامه رحمه الله .
وهذه الآيات نأخذ منها جملة من الحقائق المهمة :
الحقيقة الأولى
أن أعداء هذا الدين لا يزالون يحاربونه ، ويعادونه ، ويجتهدون في إطفاء نوره ، وطمس معالمه ، والتضييق على دعوته ، وحرب أهله ؛ لأن الله - جل وعلا - عبّر عن هذه الحقيقة بالآية القرآنية بالفعل المضارع الدال على الاستمرار .. { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ ... } .
و { يُرِيدُونَ ....} بالمضارع و{ يُطْفِئُوا ...} بالمضارع ، والمضارع يدال على الاستمرار والدوام .
والإرادة هي : عزم وجزم صادق بناءاً على علم ودراية وعقل .
فليست العداوة مجرد حالة طارئة ، ولا نزوة طائشة ، وإنما إرادة ماضية ، وإستراتيجية ثابتة ، وهذه الحقيقة هي من سنن الله - عز وجل - في الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
الحقيقة الثانية
فهي في التعبير القرآني في قوله : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }
والتعبير بأفواههم يشمل معانٍ عدة منها :
الحقيقة القرآنية أن عاقبة ما يريده الأعداء لا تتم ولا تكمل ، فلا يحصل إنتفاء نور الله ، ولا يتحقق محوه من الوجود ، ولا يمكن أن تزول زولته وأن تطوى رايته وأن توأد دعوته ... لماذا؟
لأن التعبير يقول : { بِأَفْوَاهِهِمْ } وكما قال ابن كثير : " كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخة فلا يمكن له أن يصل إلى مثل هذا " .
أو كما يقولون في المثل : " الذي يتق الشمس بالغربال " ، فإن هذا الغربال لا يمنع عنه الشمس وضياءها وشعاعها ، ولا يتحقق له به الظل .
وهذه حقيقة أيضاً يصدقها الواقع ، وإلا - كما سيذكر - فإن النظر المجرد ، والمقياس المادي ، يؤدي عندما نرى أهل الباطل ، وأعداء الحق ، وقوته ، وجهوده ، فإن العقل يحكم بهزيمة كاملة ، واندحار تام لهذا الدين ، ولكن الواقع ، يشهد بغير ذلك .
والحقيقة الثالثة
في قوله جل وعلا :{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ .... } . وهذا أيضاً يعبر عن سنة إلهية ، وهي أن دين الله - عز وجل - غالب كما قال - جل وعلا - : { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: من الآية21] .
وهذه السنة مذكورة في التعبير القرآني بما يجعلها حقيقة مسلمة لا يمكن الشك فيها .
لأن معنى { يَأْبَى ... } أي يمنع . ومن الذي يمنع هذا الإطفاء وهذه الجهود ضد الإسلام أن تبلغ مبلغها ، وأن تصل إلى غايتها !(/1)
قال الله عز وجل :{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ .... } . وإذا أراد الله شيئاً فإنه واقع ، وإذا منع شيئاً فإنه لا يمكن أن يتم ولا أن يكبر ، فإذا عرفنا أن الله - عز وجل - هو المتكفل ببقاء نور الإيمان ، والإسلام ، وبقاء هذا الدين ، وبقاء زمرة من أهله على الحق ظاهرين في كل زمان ومكان ، كما أخبر المصطفى – صلى الله عليه وسلم - في ما صح من حديثه . فإذن هذه حقيقة لا يمكن أن يتشكك فيها مسلم ومؤمن مطلقا .
الحقيقة الرابعة
قوله : {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.. } أي أن علو الدين يقع حالة كونهم كارهين لذلك .
أي أنهم لا يستطيعون أن يردوا تلك الغلبة للإسلام ، ولا الانتشار النووي ، رغم أنهم يريدون ذلك ويستعدون له ، لكنهم يكرهون على غلبة هذا الدين ، لأمور سيأتي ذكرها في تضاعيف أحاديثنا القادمة .
ثم تأكيد لهذا المعنى في قوله : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
وفي هذه الآية تأكيد لكل المعاني السابقة ، وهي كالتعضيد المفصل لكل ما سبق .
فقوله { نُورَ اللَّهِ .. } قال : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } .
{ هُوَ } { نُورَ اللَّهِ} عز وجل .. { وَدِينِ الْحَقِّ } كما قال ابن كثير هي الإعمال الصالحة .
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ولا شك أن الإظهار لابد أن يكون له مناوئة ، وهذه المناوئة هي التي في إرادتهم إطفاء نور الله عز وجل .
والإظهار هو في قوله : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } يقابلها { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
فتكتمل الحقائق الأربع في الآيتين على أسلوبين مختلفين تأكيداً وتعضيداً لهذا المعنى .
ثم نقول : لو أردنا أن ننظر إلى هذه الإرادة من أعداء الإسلام ضد نور الله - عز وجل - ؛ فإننا يطول حديثنا في ذلك ، لكن أذكر صوراً متنوعة من محاولات إطفاء نور الله عز وجل .
طبعاً الذين يقومون بذلك ونالوا أعظم إثم فيه وأكبر عمل فيه عبر التاريخ فيما مضى وإلى يوم الناس هذا هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
ومن أراد أن يطالع شيئاً من ذلك فليطالع عن جهود النصارى والتبشير في الغارة على العالم الإسلامي ، وليطالع صنائع اليهود ومكائدهم في حرب الإسلام في بروتوكولات حكماء صهيون .
أما الصور فأذكر منها صوراً شتى منها :
أولاً : الغزو الفكري .
ثانياً : التشويه الإعلامي .
ثالثاً : الحصار الاقتصادي .
رابعاً : الضغط السياسي .
خامساً : الاستعمار العسكري .
وكل صورة من هذه الصور لها أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى .
ففي الغزو الفكري
لا تحصى الكتب التي ألفت ، والشبهات التي أثيرت ، والقضايا التي أريد منها أن يظهروا للناس عواراً في الإسلام ، أو يشوهوا بعض حقائقه .
والتشويه الإعلامي
لا يحصى من المجلات ، والإذاعات ، والشاشات ، والأفلام ، والتمثيليات ، ما يهدف إلى تشويه صورة الإسلام ، بما هو عجيب وغريب ، ويدق أو يعجز عنه الوصف ولا يحيط به الحصر .
والحصار الاقتصادي
الذي يوجه ضد العالم الإسلامي ، لإفقار بلدانه ، ولتضيق على أهله ، وللإمساك بزمام التقنية الصناعية والقوة الاقتصادية ، أيضاً أمر ظاهر .
والضغط السياسي
الذي يتمثل في الظلم الذي يصب على كثير من ديار الإسلام ، دون أن يكون لها من ينصفها ومن يدافع عنها ، ومن يقيم حتى القوانين الدولية التي ترفع شعاراتها .
والاستعمار العسكري
قد سبق في أوائل هذا القرن وما يزال يتنوع بصور شتى .
ثم أضف إلى هذا أن تحقق هذه الصور كان ورائه إمكانيات ضخمة ، وهذه الإمكانيات أيضاً لها صور كثيرة ، وأنواع عديدة ، منها :
- إمكانيات مالية .
- وإمكانيات تقنية .
- وإمكانيات بشرية .
- وإمكانيات فكرية .
- وإمكانيات علمية .
ففي المالية
لا تحصى آلاف الملايين التي تنفق على حرب الإسلام بالصور المختلفة التي ذكرناها ، ويكفي أن أذكر أمثلة بسيطة لا يمكن أن تتصور وإنما هي تقرب الحقائق :
في عام 1992م ذكرت الإحصائيات أن ما أنفق على التبشير أو التنصير يبلغ مائتي مليون دولار أمريكي في العام الواحد .
لو أنفق ربع هذا أو عشره في الدعوة الإسلامية لتحقق أمر عجيب !
ولا أقول هذا لنيئس وإنما سنذكر أن هذا كله لا يحقق مراده لما ذكره الله - عز وجل - في هذه الآيات .
الإمكانيات التقنية
يكفي أن نعرف أن إحدى الدول الغربية فقط فيها نحو مائة وأربعة إذاعة تنصيرية تبشيرية ، وأكثر من أربعين محطة تلفزيون ، تبث أيضاً ، باسم الكنيسة والتنصير والتبشير .
هذا إضافة إلى مئات وآلاف أخرى في دول كثيرة من الدول الغربية والشرقية .
أما الإمكانيات البشرية(/2)
فأيضاً يجند لذلك في المعارك العسكرية وفي الحروب الاقتصادية وفي المبشرين والمنصرين أعداد هائلة ، تبذل من وقتها وجهدها وتنتقل وتسافر أدغال أفريقيا ، وإلى المناطق النائية لتحقق عدائها وحربها للإسلام وأهله .
والجهود الفكرية
تتمثل أيضاً في طاقات وإمكانيات ضخمة في المؤتمرات التي تعقد لدراسة الإسلام وأحوال المسلمين ، ودراسة التنصير والتبشير ووسائله ، وفي كيفية الوصول إليه وجمع التقارير ، والمعلومات واستقطاب المفكرين وجمع الآراء واستخلاص التجارب ، كل ذلك لتوجه سهاماً في صدور الإسلام وأهله .
والإمكانيات العلمية
أي العلمية في مجال التصنيع وفي مجال الأساليب التي يقصد بها صرف المسلمين عن دينهم وإضلالهم عن هدي رسولهم - صلى الله عليه وسلم - .
وكما قلت ليس هذا موضوع حديثنا وإلا فإن هذه الموضوعات التفريع والتفصيل فيها كثير وهو مفيد أيضاً .
كذلك انتقل إلى تأكيد المعنى الذي أشرنا إليه في الآية القرآنية ، في قوله :{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ...}
نؤكد هذا بوعود ربانية وبشارات نبوية ، وهي كثير أذكر بعضاً منها وأكتفي بهذا عما سواه .
أما الوعود الربانية فهي كثيرة ، من أمثلتها قول الحق جل وعلا :-
{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران:139] أي في كل زمان ومكان .
وقوله جل علا أيضاً :{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ..... } [ النور:55]
وهذا وعد الله - عز وجل - القاطع باستخلاف أهل الإيمان والإسلام في الأرض ، وتمكينهم فيها ، وتأمينهم من بعد خوفهم ، وهذا تحقق ويتحقق كلما تحقق شرطه .
وقال جل وعلا أيضاً : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات:173]
وهذا – أيضاً - الغالب اسم فاعل ، وهو يدل على تمكن الفعل من فاعله ، وإذا جاء بالتعريف دل على قوة الغلبة وشمولها بكل معانيها .
أي الغلبة في المبدأ و العقيدة ، والغلبة في القوة والحرب ، والغلبة في الأخلاق والفضائل إلى كل صورة من صور الغلبة .
وقال تعالى أيضاً : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]
وقال جل وعلا : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم:47] .
وأما البشريات النبوية فهي أيضاً كثيرة أذكر منها :-
حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) رواه مسلم في صحيحه.
والحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة أيضاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ( ليبلغن هذا الأمر الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر ) .
وهذه بشارة نبوية لا بد أن تتحقق .
وأظهر من ذلك حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الصحيح الذي يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص عندما سئل فقيل له : المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية . فدعا عبدالله رضي الله عنه بصندوق له حلق قال ففتحه ، ثم قال بينما نحن ند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب إذ سئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية ، قال : ( مدينة هرقل تفتح أولاً ) . يعني القسطنطينية وقد فتحت على يد القائد المسلم "محمد الفاتح" .
وما تحقق نؤمن به وما لم يتحقق نجزم بوقوعه عاجلاً أو آجلا .
أضف إلى ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها في شأن قتال اليهود وكلام الشجر والحجر( .. حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبدالله تعال هذا يهودي ورائي فاقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ) كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عند الإمام البخاري وغيره .
فهذه بشريات نبوية ، وتلك وعود ربانية ، فأس شيء يجعلنا نشك أو نضعف ، ومن ثم أنتقل إلى :
الهدف من ذكر هذا الموضوع
وهو أمر مهم لابد أن ندركه وأن نعرفه .
أول هدف : زيادة الإيمان وترسيخ اليقين(/3)
لأن بعض المسلمين قد دب في نفوسهم الوهن واعترى إيمانهم الضعف ، وتزعزع اليقين في نفوسهم ، ورأوا غلبة الباطل ، وكثرة صولجانه ، وكثرة أعداده وأصواته ووسائله ، فظنوا أن الحق قد طوي بساطه ، وأن الإيمان قد تضعضعت أركانه ، وهم في ذلك واهمون ، وما كان ذلك إلا من ضعف إيمانهم ، فلابد أن نذكر مثل هذا حتى يزداد الإيمان في القلوب ، ويعظم اليقين في النفوس ، ونبقى ثابتين على ما كان عليه أسلافنا ، لما كان عقبة بن نافع يخاطب البحر الممتد أمامه : " لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك حتى أغزو في سبيل الله عز وجل " .
وعندما كانوا على يقين كما علمهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يكبر ويبشر بالنصر ، قبل بدأ المعارك ، باليقين الراسخ ، والإيمان الصادق ، كما أخبر عن مصارع القوم في يوم بدر ، وكما كبر في يوم الأحزاب ، كما صنع - عليه الصلاة والسلام - عندما بشر سراقة بن مالك وهو - عليه الصلاة والسلام - خارج في صورة الطريد المهاجر يبشره بسواري كسرى ، وتاجه ، وتحقق ذلك في الوقت الذي لم يكن أحد يظن ولا بمجرد الظنون وجم الغيب ، أن يكون مثل هذا ، يتحقق بمحمد - صلى الله عليه وسلم -الذي لم يكن في ذلك الوقت له حول ولا طول ولا عدد ولا عدة ولكنها لم تمضي إلا سنوات قلائل حتى تحقق ذلك .
ثانياً : إزالة الروح الانهزامية ورفع الهمة والعزيمة الإسلامية
أصبح كثير من المسلمين اليوم ، كأنما هو كالمريض الذي على فراش الموت ، ضعف وخور ويأس ، و كسل ، لا تجد فيه معناً من معاني الحيوية ، ولا صورة من صور القوة ، ولا ملمحاً من ملامح الشموخ .
كل ذلك يدلنا على أننا نحتاج إلى أن نبعث هذه الهمة والعزيمة في النفوس .
ثالثاً : الاعتزاز والافتخار بالالتزام والانتساب للإسلام
بعض المسلمين اليوم بلغ به الحال في الانهزام أنه يستحي أن يذكر أنه مسلم ، وإذا سافر إلى بلاد غربية ، أو بلاد من شرق أو غرب تستر بإسلامه ، واستحيا أن يظهر إيمانه ، كأنه يرى في ذلك ما يخجله ! وكأنه يرى في ذلك ما ينبغي أن يتبرأ منه أو ينسلخ منه ! وهذا أيضاُ من أثر الروح الانهزامية .
رابعاً : استشعار المسئولية تجاه الإسلام وتجاه البشرية التائهة
عندما نوقن أن الإسلام سينتشر نعلم أننا ينبغي أن نكون قائمين بأمر الله - عز وجل - في مهمة رفع راية الإسلام ، ونشر دعوته ، وأن ننظر إلى هؤلاء الحيارى الذين يتخبطون في شرق الأرض وغربها ، ونحن عندنا النور والهدى الذي أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قال ذلك أولئك القوم أنفسهم ، قالوا هذا واستشعروه ، وأدركوا أن الناس يحتاجون إليه .
قال أحد الغربيين واسمه [ ليبولد فايس ] يقول : " يجب أن يتضح لدينا أن إهمال المسلمين وليس النقص في تعاليم الإسلام هو الذي سبب الانحلال الحاضر " .
إذن نرى هناك نقص في المسلمين وفي قيامهم بواجبهم ودورهم .
وفي الاعتزاز والافتخار يقول أحد من كانوا على البوذية ثم أسلم يقول : " للمسلم أن يعتز بقرآنه فهو كالماء فيه الحياة لكل من ينهل منه " .
خامساً / إدراك أهمية الاندراج في ركب الدعوة والعمل للإسلام
عندما ندرك أن الله - عز وجل - غالب على أمره ، ومتمّ دعوته ، وناصر دينه ، وناشر نوره ؛ فإننا نوقن أن هناك من يكون لهم شرف حمل هذه الرسالة ونشر تلك الدعوة ، ولا شك أنهم يؤجرون أجراً عظيماً كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الأجر : ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) .. ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم قيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) .
لاشك أننا ينبغي أن ندرك أهمية أن نعمل للإسلام ، وأن ننهض بالدعوة ، وأن نبذل من أوقاتنا ، وجهودنا ، وأموالنا ، وراحة أبداننا ، وهدوء بالنا ، أن نكون كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام ، وكما جعلنا القرآن الكريم على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الحق جل وعلا : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف:108] .
فأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قائمون بالدعوة ، ناشرون للعلم الشرعي الإسلامي ، قائمون وسائرون في ركب الجهاد الإسلامي .
لابد أن ندرك هذا .
سادساً / الإعانة لضعفاء وجهلة المسلمين
الذين يذهبون فريسة للتبشير أو التنصير ، أو التهويج وغير ذلك... ، ويقعون فريسة للانحلال والضلال وللشبه ، لماذا ؟
لأننا لم نقم برفع راية الإسلام ، وإعانتهم ، وتوضيح الحق لهم ، ومساعدتهم ، وإبراز محاسن الإسلام حتى يثبتوا على دينهم ، ولا يكونوا في شك من أمرهم .
ويقول أحد الألمان الشرقيين يقول " إن الاعتداء على الإسلام لا ترجى منه فائدة ، ولن يرد المسلمين عن دينهم ، ولن يعوق النهضة الإسلامية ، بل سيقويها " . وكما يقولون الحق : " ما شهدت به الأعداء " .(/4)
هذا رجل فهم الإسلام وحقيقته ، وأنه لا يمكن أن يؤيد الإسلام ، بل العداء والحرب للإسلام تقويه وتقوي أهله وتشجعهم ، فلذلك ينبغي أن نكون على بينة من امرنا .
ونتقل إلى خلاصة مهمة في هذا الموضوع عن :
الثوابت التي فيها دلائل انتصار وانتشار الإسلام
هناك ثوابت في طبيعة هذا الدين ، تدلنا على هذا ، وتجعل لهذا الإسلام العظيم دوام وجود أسباب انتصاره وانتشاره رغم تغير الظروف والأحوال ، ورغم ضعف أبناءه ، ورغم قلة أعداد حملته ، لكن هذه الثوابت تبقى دائماً ، كأنها ثوابت النصر الدائم لهذا الدين .
ومقابلها طبعاً سيكون هو الشواهد الحية على ظهور الإسلام في واقعنا المعاصر الذي سنفيض في بعض أمثلته .
الثوابت الدالة على انتصار وانتشار الإسلام
أولاً : موافقته للفطرة
موافقة الإسلام للفطرة في عقيدته ، وشريعته ، فليس هناك شيء لا يتوافق مع الفطرة ، أو يتعارض معها ، وهذه مسألة مهمة ستأتي الشواهد عليها .
ثانياً : الانسجام النفسي والعقلي في أحكام الإسلام وعقائده
فليس هناك شيء يبقى فيه حيرة واضطراب ، أو تشكك وتردد ، ليس هناك شيء يقع فيه نوع من التعارض كما سيأتي .
ثالثاً : تحقيق المصالح ودرء المفاسد
فإن الأحكام الإسلامية عند تطبيقها ، يقع بها تحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان ، ودرء المفاسد في كل الظروف والأحوال ، لأن هذا هو دين الله - عز وجل - التام الكامل الشامل ، والله عز وجل قد قال : {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]
فهو الذي خلق الخلق ، وهو الذي يعلم ما يصلح شأنه ، فجاء تشريعه - سبحانه وتعالى - في أحكام الإسلام محقق لأعلى المصالح ، ودافعاً لشتى لمفاسد ولكل المفاسد .
رابعاً : التجانس والتكامل بين الأنظمة والأنشطة في الحياة كلها
فالنظام الاقتصادي ليس له آثار سلبية على النظام الاجتماعي ، والنظام الاجتماعي ليس له آثار سلبية على النظام الأخلاقي ، والنظام الأخلاقي ليس له آثار سلبية على النظام العسكري وهكذا .... ، بل كل نظام وكل تشريع يكمل بعضه بعضاً ، وينسجم بعضه مع بعض .
بينما في غير الإسلام وفي القوانين الوضعية بالذات ، تدج أنه يصنعون كما يقولون خطة للإصلاح الاقتصادي .
فقد تكون مصلحة للاقتصاد في بعض الوجوه ، لكنها تعود على الناس في أخلاقهم ، وفي حياتهم الاجتماعية بأسوأ وأشد الأضرار التي يصيحون بعدها ويقولون : لا نريد إصلاح الاقتصاد ؛ لأنه كان على حساب فساد الأخلاق ، وهذا لا يكون في شرع الله عز وجل .
خامساً : التوازن والعدالة بين حقوق الفرد والمجتمع
فليس هناك حرية فردية مطلقة فيكون فيها كل إنسان حر حتى يعتدي على حقوق الآخرين ، وليس هناك هضم لحقوق الفرد ، ولا قيمة للفرد ، بحيث يكون كالترس في الآلة ، فلا هذا ولا ذاك .
وبالتالي يجد الفرد في الإسلام كيانه ، وشخصيته ، وله ملكيته ، وله رأيه ، وله حريته ، ولكن له حدوده وضوابطه ، وله مشاركته في المصلحة العامة ، وله العقوبة إذا هو اعتدى على حقوق المجتمع ، والمجتمع عندما يمشي ، وتنظم أحكامه لا يدوس على الفرد ، ولا يهمل الضعيف ، ولا يتخلى عن الذي لا يستطيع أن يسير في ركب هذه الحياة ، فهناك أيضاً هذا التكامل في هذا الجانب .
من هنا - أي من هذه الثوابت الخمس - تظهر مزايا الإسلام في الواقع المعاصر ، لأن عكسها هو الذي ، يقع في حياة غير المسلمين ، بل في حياة بعض المجتمعات الإسلامية ، التي تتخلى عن شريعة الإسلام .
لذلك سنرى عكس هذه الثوابت في واقع الحياة المعاصرة وخاصة حياة غير المسلمين ، سنجدها شواهد حية ، على تفوق وظهور وغلبة الإسلام ، هذه الشواهد الحية هي :
- الفطرة التي تصرخ .
- والحيرة التي تتزايد .
- والمفاسد التي تنتشر .
- والاضطراب الذي يتنامى .
- والعدالة التي تضمحل .
فإن واقع الحياة اليوم خاصة في المجتمعات الكافرة ، في المجتمعات الغربية والشرقية التي لا تأخذ بالإسلام ، نجد أن الفطرة عندهم تتمزق ، تتألم ، تصرخ ، تصيح ، لأنها لا تجد شيئاً يغذيها أو يوافقها أو يهدئها ، أو يسكنها .
ونجد أيضاً أن الانسجام النفسي و العقلي غير موجود ، فالحيرة تتزايد ، والانتحار يكثر ، والأمراض النفسية ، والخلل العقلي ، والحيرة تكاد تسيطر على شتا مناحي التفكير ومشاعر النفس عند كثير من أولئك القوم .
ويكفي أن نعرف أن إحصائية أكبر هذه الدول الغربية أن 50% من سكانها يترددون بانتظام على العيادات النفسية ، يعني عندهم خلل نفسي ، إما اضطراب عقلي كامل ، وإما نوع من الاكتئاب ، وإما نوع من الضيق ، وإما نوع مما يسمى التشتت والحيرة ؛ وكل ذلك يحصل لأنه ليس هناك الانسجام الذي يتحقق في شريعة الإسلام المنزلة من عند الله المبلغة على لسان رسول - صلى الله عليه وسلم - .
المفاسد تنتشر ؛ لأننا قلنا إن تشريع الإسلام يحقق المصالح ويمنع المفاسد .
ولا أدري ماذا يمكن أن نقول عن المفاسد التي تنتشر!عندهم إباحية وحرية ، فماذا حصل!(/5)
اغتصاب متكرر ، وجرائم اعتداء جنسي لا تنتهي ، وأمن غاب حتى لا يستطيع أحد منهم أن ينام لحظة وهو مطمئن البال ، والمفاسد تنتشر بالأمراض الفتاكة التي فتكت بهم فتكاً ذريعاً ، وتنتشر بأثر المخدرات والمسكرات والخمور التي يبيحونها ، فإذا بها تولد عنها الحوادث والجرائم والبلايا والرزايا ، والمصائب العظيمة ، والأمر في هذا كما قلت كثير ، وسنذكر بعض الشواهد في ما يتعلق بهذا .
أيضاً عدم التكامل الذي قلناه بين الأنظمة المختلفة حصل به الاضطراب الذي يتنامى ، فالاقتصاد يؤثر - كما قلنا - على الأخلاق ، والأخلاق تؤثر على الجرائم والأمن ، ونظام الأمن يؤثر على القضاء ، وأصبحت أمورهم مضطربة ، وفي كل يوم لهم نظام جديد ، وفي كل يوم لهم قانون جديد ، ليس هناك ثبات مطلقاً .
انظر إلى المجتمعات الغربية ، تجد أن كل يوم عندهم قوانين ، وتشريعات ، وأنظمة وأفكار ؛ لأنه ليس هناك استقرار ، بل الاضطراب هو المتحكم .
وأخيراً العدالة أيضاً تضمحل ، لأن الفرد يطحن ، طحنته الشيوعية ، يوم أخذت منه كل جهده ، ولم تعطيه إلا أقل القليل ، وطحنته الرأس مالية اليوم ، يوم جعلت القوي يتسلط على الضعيف وأصبح العالم اليوم كالذي بلغ به العطش أشد مبلغ وهو ينتظر الماء الذي يروي ضمئه ، ويعيد له الحياة ، وهذا هو الإسلام الذي سنذكر الشهادات التي تبين أن الله - عز وجل - ومتمّ نوره كما أخبر سبحانه وتعالى .
إحصائية للأمم المتحدة لم تتجاوز ثلاث سنوات ، يحسبون فيها بالتقديرات ، كم نسبة تضاعف الداخلين في الديانات ؟!.
بمعنى لو دخل في الإسلام مثلاً العام الماضي خمسة ، ودخله في هذا العام عشرة فيكون كم نسبة التضاعف ؟.
مائة في المائة 100% .
قبل نحو سنتين أو ثلاث سنوات الإحصائية تقول إن نسبة تضاف الذين دخلوا في الإسلام في ذلك العام بلغت سبعمائة بالمائة { 700%} .
وأن أقرب نسبة إليها نسبة الداخلين في النصرانية زادت عن الذي قبله فقط بنسبة خمسين في المائة {50%} .
وأين الذين هم يدعون للإسلام؟ ، ومن أين دخل هؤلاء المسلمين ؟! .
ليس هذا أو هذه النتيجة ثمرة للدعوة ولجهود المسلمين ، وإنما أكثرها والحق ما شهدت به الأعداء .
ما هو من الفطرة ..! من الانسجام ..! من الحيرة التي عند الناس ...!
فبدءوا يبحثون حتى دخلوا في الإسلام .
وكثيرون يدخلون في الإسلام من غير دعوة المسلمين ، بل ربما كان حال بعض المسلمين يصد عن دين الله ، ويمنع الناس أن يدخلوا في الإسلام ، فإذا قرأ الإنسان عن الإسلام ، أسلم بمعرفته للإسلام ، ,أنكر حال أولئك المسلمين .
هذه الإحصائية ، كما قلت تدلنا على هذا .
وننتقل إلى بعض الشهادات التي تدلنا على هذه الحقائق وسننتقل الآن إلى لب الموضوع من حيث الأمثلة والشواهد ، سنذكر الأمثلة التي تدلنا أن المستقبل للإسلام ، وأن نور الله - عز وجل - ينبثق هنا وهناك ، ويظهر في أماكن لم يكن أحد يتوقع ظهوره فيها ، بل يبقى في الأماكن التي اشتدت ضراوة الحرب فيها على الإسلام والمسلمين ، يظهر الإسلام ويبقى ، ولعل الجمهوريات الذي ظهرت وأظهرت أمراً لا يمكن أن يكون له دليل ، ألا إن هذا الدين هو دين الفطرة ، وإلا أن هذا النور هو نور الله - عز وجل - الذي يسري في القلوب ، وينتشر في النفوس ، ويقنع العقول ، ويهدي البصائر بإذن الله عز وجل .
وإلا كيف عاش هؤلاء سبعين عاماً تحت ظل الشيوعية التي تمنعهم أن يقرءوا العربية ، وأن يقرءوا القرآن ، ويتعلموا الإسلام ، لم يحافظ الأجداد على هذا الإسلام بل وجد بعد انتهاء الشيوعية ، أن الأحفاد كانوا يتعلمون القرآن ، في الأقبية تحت الأرض ، ثم لما انقشعت الغمة ، ظهر الإسلام ليس في أعداد قليلة ، بل بعشرات ومئات الملايين .
والإسلام اليوم في الصين ، التي فيها أكبر عدد من البشر في رقعة واحدة في العالم هي الصين التي يبلغ عدد سكانها كما هو معلوم ألف مليون ، وفيها أكبر كثافة سكانية في العالم على مستوى المساحة ، يقال أن الكثافة السكانية فيها في الكيلومتر مربع تبلغ ثلاث آلاف إنسان وألف حيوان .
الآن ينتشر الإسلام في الصين ، وبلغت أعداد المسلمين أو تجاوزت أعداد المسلمين في الصين اليوم ، أكثر من مائة مليون ، وما يزال المسلمون في تركستان الشرقية التي في الآونة الأخير قبل نحو شهرين تعرضوا لأسوء أنواع الاضطهاد والتضييق ، لماذا ؟
لأن الإسلام بدأ يظهر ، وبدأ يخشى منه .
ونذكر بعض الشهادات التي قالها أولئك الغربيون فرنسا وأمريكا وبريطانيا ، شهدوا فيها بأن المستقبل لهذا الإسلام وأن دين الله عز وجل ، فيه ما ذكرنا من تلك الفوائد .(/6)
يقول شيرم وهو عميد كلية الحقوق بجامعة فينا في مؤتمر الحقوق عام 1927م يقول " إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد - صلى الله عليه وسلم - إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً ، أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو صلنا إلى قمته بعد ألفي سنة - لا حظ - سنكون أسعد الناس إذا وصلنا إلى ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من التشريعات بعد ألفي عام " .
وهم اليوم يبحثون عن الإسلام بمعنى أنهم لو وجدوه ، لوجدوا أنه هو الذي سيحل مشكلاتهم ، كما سنذكر .
يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير برنارد شو قولته الخالدة : " لقد كان دين محمد - صلى الله عليه وسلم - موضع تقدير سامي لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة .. " حيوية يعني دائم النشاط ، ويقول " . وإنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة " .
يعني كل جد جديد في الحياة يستطيع هذا الدين الذي جعله الله - عز وجل - لكل زمان ومكان أن يهضم هذه التطورات ، وأن يجعل لها أحكام وأن ينظمها في مجريات الحياة .
يقول " هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة ، وأرى واجباً أن يدعى محمد - صلى الله عليه وسلم - منقذ الإنسانية ، وإن رجالاً كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث فسوف ينجح في حل مشكلاته " يعني لو جاءت شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقادت العالم اليوم فسوف تنجح في حل مشكلاته .
ولسنا نحن الذين نقول هذا القول حتى يقال إننا متعصبون للإسلام ، أو متطرفون في فرضه على الآخرين بل يقوله القوم ، بل زعماء منهم ومفكرون ، وعلماء ، وفلاسفة كما هم معروفون عندهم .
المؤرخ الإنجليزي ويلز يقول في كتابه [ ملامح تاريخ الإنسانية ] : " إن أوربا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية " .
والمؤرخ الفرنسي سيلو يؤكد وقول " إن قانون نابليون منقول ..." يعني بعض أساسياته ، طبعاً لكنهم انتفعوا بالإسلام حتى في قوانينهم الوضعية . يقول : " .. منقول عن كتاب فقهي في مذهب الإمام مالك هو شرح الدردير على متن خليل " يعني حتى مسمى الكتاب مذكور وهو كتاب مشهور من أشهر كتب المالكية المعروفة عندهم .
واستافلو قون الذي له كتاب حضارة العرب وهو كتاب مشهور متداول مطبوع بالغة العربية يقول " دخلت حضارة العرب في ذمة التاريخ منذ زمن طويل : " في هذه الفترة في ركود ، والحضارة الإسلامية في نوع من السكون أو ربما بعض الانحدار في الفترة السابقة ، قال " ولا نقول مع ذلك أنهم ماتوا تماماً فنرى الآن ديانتهم ولغتهم اللتين أدخلهما إلى العالم أكثر انتشاراً مما كانتا عليه في أنضر أدوارهم ، ولا يزال الإسلام جاداً في تقدمه ، واليوم يدرس في ما عدا الجزيرة العربية في مصر وسوريا وتركيا وأسيا الصغرى وفارس وقسم مهم من روسيا وأفريقيا والصين والهند وتناول القرآن مدغشقر وأفريقيا الجنوبية ، وعرف في جزر الملايو وعلمه أهل جاوا وسومطرا ، وتقدم إلى غينيا الجديدة ، ودخل أمريكا مع زنوج أفريقيا ، ويتقدم الإسلام في الصين تقدماً يقضي بالعجب ، حتى اضطر المبشرون الأوربيون إلى الاعتراف بالحدود وسيقوم الإسلام مقام البوذية ومسلمو الصين لا يشكون في ذلك ... " إلى آخر ما قال " مما يدل على أن نور الإسلام سيشع وينتشر " .
ثم يذكر هو بعض الأرقام التي تؤكد على ذلك ، أو التي تبين هذا في الدول وقت الشيوعية ، دول التي كانت حتى ظل الشيوعية ـ عمل إستفتاء عام 1972م في ببعض المدن الملحقة بجمهورية أوزباكستان فيعني دل هذا التحقيق أن 23% من الرجال و 20% من النساء يعلنون إلحادهم ، طبعاً المفروض في دولة شيوعية أنهم كلهم ملحدون قال : " معنى هذا أن 77% من الذكور 80% من الإناث مؤمنين ، بغض النظر إذا كانت لهم أصول إسلامية وتعلم الإسلام فهم مسلمين ... ". وهذا كما قلت أمر يطول كثيراً.
ثم نؤكد على المعاني التي ذكرناها أيضاً بقول بعض أولئك الغربيين :
دوقلس أرثر يقول : " لو أحسن عرض الإسلام على الناس لأمكن به حل كافة المشكلات ، ولأمكن تلبية الحاجات الاجتماعية والروحية والسياسية للذين يعيشون في ظل الرأس مالية والشيوعية على السواء ، فقد فشل هذان النظامان في حل مشكلات الإنسان ، أما الإسلام فسوف يقدم السلام للأشقياء ، والأمل والهدى للحيارى والضالين ، وهكذا فالإسلام لديه أعظم الإمكانيات لتحدي هذا العالم وتعبئة طاقات الإنسان لتحقيق أعلى مستوى من الإنتاج والكفاية ".
ولا أظن كلاماً يكون أوضح من هذا ، ولا أدل على المعاني ذكرناها في القرآن والسنة والبشارات والوعود من مثل هذا الذي نطق به أولئك القوم ، وهذا أمر بين ظاهر .
ثم أنتقل إلى الشواهد الخمسة التي ذكرناها
قلنا أن الفطرة عندهم تصرخ وسنذكر هذا وأمثلة له ونتدرج بعد ذلك :(/7)
الفطرة تصرخ :- فهذا ناجيم راموني من أفريقيا ولد لأبوين مسيحيين ووالديه كانا عضوين في الكنيسة البعثة المعمدانية وتلقى تعليمه في المدارس التبشيرية وبلغ العشرين وبدأ مهمته كمبشر متحمس ، لكنه في يوم من الأيام عثر على كتاب عن الإسلام فاهتزت قناعاته بالنصرانية أمام صدق الإسلام ، وهو يقول حتى ندرك معنى الفطرة يقول : " لم يكن لي خيار في المقارنة بين مبدأ توحيد الله في التصور القرآني ، وبين اعتقادي في الثالوث كمسيحي " ، الفطرة لا تقبل هذا يقولون لك أب ، أم ، روح القدس ، ثلاثة في كذا وواحد في الأقنوم .. هذه كما يقولون ما تركت في العقل .
قيل أن بعض المبشرين كانوا في بعض البوادي يبشرون أو يحاولوا تنصير المسلمين ، فكلما قالوا لهم التثليث ، وثلاثة وكذا ... ، لم يستطيعوا أن يقنعوهم ، لأنه لا يمكن أن تقنع إنسان بأن الثلاثة تساوي واحد .
فجاءوا لأحدهم بعد أن تعبوا بمنديل ، قالوا هذا ماذا؟
قال هذا منديل .
قال له : واحد !
قال : نعم .
ثم عطفه وقال له : هذا كم ؟
قال : واحد .
ثم عطفه مرة ثانية وقال له : كم ؟
قال : اثنين .
ثم عطفه ثالثة وقال له : كم ؟
قال : ثلاثة .
ثم قال له : هذه الثلاثة واحد .
قال له : لا أنا ما أريد هذا الإله المطوطو .
بالفطرة قال هذا إله مطوطو ، ويتطبق وكذا هذا لا يمكن أن يكون مقبولاً .
فهذه الفطرة جعلته يقول : " لم يكن لي عندي خيار أن أقارن بين توحيد الله - عز وجل -الواحد وهو الخالق وهو المالك ، وهو المدبر ، وبين ثلاثة وكلام مخلط إضافة إلى كلام الأحبار والرهبان وإلى غير ذلك من الأمور " ، ثم يقول : " وجدت أن المبدأ الأخير أدنى بكثير من المبدأ الإسلامي ومن تلك البقعة بالذات ، بدأت أفقد الثقة في الديانة المسيحية ، على اعتبار أن الإيمان بالله - عز وجل - هو أول وأهم مبدأ في أي دين من الأديان فإذا كان إيماني بالله خاطئاً بمفهوم الدين الصحيح فمعنى ذلك أن كل نشاط آخر يصبح عبثاً ، لا جدوى منه ولا معنى له " ، فهذا من واقع الفطرة ومن واقع الشعور بعدم التجانس ، ظهر له ذلك .
آخر عبر عن كمعنى آخر ، مثلاً بعض الديانات ، كالبوذية والهندوكية يجعلون من شعائر التعبد ، ماذا تتصورون ؟ .
القذارة .
الذي يكون عندهم من كبار المترقين في هذه الديانة هو الذي لا يتطهر ، ولا يغتسل ، وحتى في الديانة المسيحية والمحرفة طبعاً ، مذكور بعض المعاني التي تدل على هذا.
هذا رجل يعني هو طبيب فرنسي من أسرة كاثولوكية ، قرأ عن الإسلام ثم أسلم لكن يقول :" إن السكوت عن طهارة الجسد الذي نجده في الأديان الأخرى غير الإسلام - لا يوجد لا وضوء ولا غسل ولا غيره - إن السكوت عن طهارة الجسد الذي نجده في الأديان الأخرى غير الإسلام ، بل يخالطه كذلك شعور بالعداوة في ما يتعلق بالحياة الجسدية بالإنسان - جسد لا تطهره ، جسد لا بد أن تعذبه كما في البوذية وكذا - بينما اتضح لي أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتماشى مع الفطرة " .
وهذا رجل أيضاً هندي اسمه رودرك كان نصراني ثم أسلم يقول : " الاعتقاد الإسلامي بوحدانية الله هو حجر الزاوية ، بالنسبة للإسلام ، وهو أقرب إلى العقل ، والمنطق من مبدأ التثليث مثلاً ، إذ أن فطرتي إستساغة الإيمان بالله عز وجل الواحد " فهذا جزء مثل .
نأتي إلى أيضاً أمثلة أخرى تدل على هذا .
وهنا أنقل لكم حواراً ،وأنقله كما هو ثم نذكر التعليق اليسير على هذا .
هذا حوار مقابلة بين امرأتين ، مقابلة صحفية ، منشورة .
الصحفية تقول للمرأة التي تقابلها : ما عملك ؟ .
فتقول المرأة : أنا لا أعمل خارج البيت ، وأفضل حياتي الأسرية ؛ لأن المرأة خلقت للبيت وتربية الأطفال .
فتسأل الصحفية : أين تقضين أجمل أوقاتك ؟ .
قالت : داخل البيت .
قالت : دائماً .
قالت لها : نعم ، فهكذا أفضل .
قالت لها : لماذا ؟
قالت : الله خلق المرأة لتشرف على أمور البيت وتربية الأطفال .
فقالت لها الصحفية : والعمل ؟ .
قالت : المرأة لم تخلق له أساساً ، فلها مهمات أخرى .
قالت لها : والتعامل في أمور الحياة مع الزوج ؟ .
قالت : يمكن أن يتم في نواحي أخرى ، ليس العمل منها ، وأكرر أن البيت هو المكان الأمثل للمرأة .
هذه المقابلة لو سألت أحداً منكم ، يا ترى ستكون بين من ومن ؟ .
أظن كثيرين سيقولون هذه مقابلة ، بين مثلاً امرأة غربية ، والمجيبة امرأة مسلمة ، وتقول هذا من واقع إسلامهم .
لكن الحقيقة أن هذا ، حوار نشر في جريدة عربية ، قامت به صحفية مسلمة ، مع امرأة ألمانية مسيحية غير مسلمة ، وهي تقول هذا من واقع قناعتها ، لا تقوله بالآيات القرآنية ، ولا بالسنة النبوية ، ولا تقوله بتشريع الإسلام ، وإنما تقول المكان بالبيت ، لأنها وجدت هذا ، هو الذي يتوافق مع الفطرة .
وعمل استفتاء ، في بعض البلاد الغربية ، أيتهما تسعدكم أكثر الحياة الأسرية ، أم حياة العمل خارج المنزل ؟.(/8)
كانت الإجابة من 73% من النساء و61% من الرجال قالوا : إنهم يحصلون على متعتهم في حياتهم المنزلية ، بتفوق أكثر مما يحصلون عليه في حياة العمل .
وهذا أيضاً يدلنا على مثل هذا الأمر المعروف المشهود بهذا الجانب .
نقول أيضاً في المسألة الأخرى التي هي التوافق النفسي والعقلي الذي يقع به الإنسجام ، بينما عند الآخرين الحيرة ، والاضطراب ، نجد أنهم من واقع هذا التناقض ، عرفوا ما في الإسلام من الانسجام والتوافق ، فكان ذلك مدخلاً لقناعتهم بالإسلام .
هذا رودرك الذي ذكرناه آنفاً يقول : " لقد أعجبني كثيراً موقف الإسلام من الأديان الأخرى حيث نجد أن الإسلام ينظر إلى الأديان الكبرى في العالم بأن لها أصلاً سماوياً واحدا وهذا نوع من الاعتراف والتقدير للأديان وهو أقرب إلى المنطق والتسامح من الموقف النصراني الذي يصف الديانات الأخرى غير النصرانية بالوثنية ، والإسلام قد أقر الديانات المسيحية واليهودية في أصلها ، وأثبت تحريفها وكفر أهلها وتلاعبهم به " .
لكن الشاهد أن هذا من واقع ما قرأ في القرآن من حقيقة تبين هذا الانسجام ، والتوافق ، والمنطق العقلي ، كان ذلك له أثر في هذا .
أيضاً دلس الذي كان يوماً من الأيام وزيراً لخارجية أمريكا يقول في كتاب له اسمه [حرب أم سلام ] يقول في فصل بعنوان ( حياتنا الروحية ) يقول : " إن هناك شيئاً ما يسير بشكل خاطئ في أمتنا " .
هناك خلل ، هناك شيء ما فيه خلل " وإن لما أصبحنا في هذا الحرج وفي هذه العقدة النفسية لا يجدر بنا أن نأخذ موقفاً دفاعياً وأن يمتلكنا الذعر ، إن ذلك أمر جديد في تاريخنا ، إن الأمر لا يتعلق بالماديات ؛ فإن لدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية ، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي فبدونه يكون ما لدينا قليلاً ، وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم ، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم ، أو العلماء مهما كانت اختراعاتهم ، أو القنابل مهما بلغت قوتها ، وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها وهناك حيرة في عقول الناس ، وتآكل لأرواحهم ، وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي". ما معنى التغلغل المعادي ؟ .
إن الناس عندما يشعرون بهذه الحيرة والاضطراب والقلق ، ثم يجدون الاطمئنان والاستقرار والتوافق في الإسلام سيكون هذا هو التغلغل المعادي الذي تشهد له الحقائق اليوم ، بدخول كثير من الغربيين والشرقيين في الإسلام تباعاً .
أيضاً بالنسبة للحيرة : نجد أيضاً مر واضح جداَ يحصل به تناقض عندما يفكر العاقل ، فيجد مثلاً أن الديانة المسيحية التي فيها تحريف اليوم ، تجعل الأحبار والرهبان حق منح صكوك الغفران ، ومنح صكوك الجنة ، وغير ذلك من الأمور .. ، فلا يجد هذا مقبولاً .
لماذا هذا الإنسان له هذا الحق، ,لأي شيء يكون كذلك !
يقول جاك رسلر في هذا المعنى : " الدين الإسلامي ليست له قرابين ولا طقوس ، والصلاة صلته المباشرة بين الله والمؤمنين ، وفي المسجد ينبض قلب الإسلام ، وفي أرجائه يحس المرء إحساساً حياً أنه أمام الله عز وجل ، الحق أنه لاشيء في المسجد إلا البساطة والجمال والتجانس ، يشعر أن هذا هو الذي يكون فيه تكامل وتجانس وليس فيه مثل هذا الاضطراب ".
أيضاً الاضطراب الذي يحصل بأن يكون هناك جزء من الحياة للدين وجزء من الحياة كما يقولون للدنيا ، أو ما هو معروف بـ " دع ما لله لله ودع ما لقيصر لقيصر " ، وهي العلمانية التي دخلت أو أريد لها أن تدخل على بلاد المسلمين .
هم في الكنائس يوم الأحد دين ، وبعد ذلك في ستة أيام من الأسبوع لا دين ، وإنما قوانين وضعوها لأنفسهم ، هم في بعض الأمور دين ، ولكن في اقتصاد ، وفي سياسة وفي أمور أخرى لا دين .
فلذلك قال هذا رسلر قال " إن اسم الإسلام يمكن أن يؤخذ على ثلاثة معان مختلفة :
المعنى الأول : دين ، والثاني : دولة . والثالث : ثقافة وبالاختصار حضارة فريدة " .
وجد أن الإسلام بتكامله وشموله يحقق هذا التجانس المهم ، ولذلك نجد أن هذا الأمر واضح ، يقول ديبورا بوتر عن هذه الحقيقة يقول : " إن الناس في أوربا وأمريكا يقبلون على اعتناق الإسلام بأعداد كبيرة ، لأنهم متعطشون للراحة النفسية والاطئنان الروحي ، بل أن عدداً من المستشرقين ، والمبشرين النصارى الذين بدءوا حملتهم مصممين على القضاء على الإسلام وإظهار عيوبه المزعومة ، أصبحوا هم أنفسهم مسلمين ، وما ذلك إلا لأن الحق حجته دامغة ، لا سبيل إلى إنكارها " .
وهذا أمر كما قلنا يعني واضح ، ومسألة الطمأنينة والانسجام النفسي ، قضيته يعني كما قلنا كبيرة ، وأمثلته كثيرة .(/9)
في شأن تحقيق المصالح ودرء المفاسد وأن من لم يأخذ بشرع الإسلام وقع في مفاسد ، أمر ذلك كثير ، وعظيم والشواهد عليه لا تنتهي ، وأمر الجرائم وأمر كذا لا يمكن أن يتصور ، أذكر لذلك بعض الأمثلة في تشريعات الإسلام وعدم وجودها في تلك المجتمعات وكيف أن تشريعات الإسلام تحقق هذه المصلحة ، أمور بسيطة وعادية يتساهل فيها حتى وللأسف بعض المسلمين ، ودخلت على المسلمين في ذلك معان وفلسفات فارغة ، مثلاً :
من تشريع الإسلام أن المرأة لا تسافر إلا ومعها ذي محرم ، ولا يخلو بها رجل إلا ومعها ذو محرم ، وبعض الناس كما نسمع اليوم ، حتى وللأسف في بعض ما يكتب أو يذاع أو يبث على الناس أن هذا يناقض الثقة بالمرأة ، أو تسمع وتقول لك أنا واثقة من نفسي ، أن أستطيع أن أفعل كذا وكذا ..... ما هذا ؟ .
ابتعاد عن هذا التشريع ، طبعاً في الغرب لا يوجد عندهم مثل هذا ، لكن تجد اليوم مطالبة من النساء أن يكون معها من يحميها من الرجال ، طبعاً نقول من ذوي المحارم ؛ لأن هذه هي القصة أذكرها من مَثَلٌ حيٌ واقع لفتاة أو لامرأة كانت ابنتها تشكو من بعض الأعراض الصحية ، فأوصتها أن تراجع الطبيب الذي يبلغ من العمر ستة وخمسين عاماً ، والذي هو طبيب العائلة منذ أكثر من عشرين عاماً ، والذي هو صديقهم الشخصي الذي يزورهم ويأتي إليهم ، حتى أوصتها بأن تذهب إليه ، بخبرته ولهذه الأمور كلها ، وطلبت أيضاً أن يعيدها الطبيب إلى بيت أسرتها ، فذهبت الفتاة التي هي في مقتبل العمر ، وأخرها الطبيب ، حتى انتهى من كل مرضاة ، ثم اعتدى عليها واغتصبها ، في هذا الوضع ، فتقول الأم : لن أثق في أحد بعد الآن ، وأطلب من جميع الأمهات في العالم أن لا يرسلن بناتهن إلى الطبيب أي طبيب دون أن يرافقهن أب أو أخ .
هذه امرأة فرنسية تطالب بأن يكون المحرم مع المرأة عند الطبيب ، واليوم بعض النساء المسلمات وللأسف والرجال المسلمين يجعلون نسائهم يذهبون إلى الطبيب منفردات ، دون أن يكون معهن محرم ، وهذه من واقع المفسدة التي وقعت والجرائم التي انتشرت ، قالت مثل هذا القول وطلبت مثل هذا المطلب .
وأمثلة المفاسد في الحياة غير الإسلامية كثيرة ولعل الجرائم واختلال الأمن من أشهرها وأعظمها ، نضرب كما قلنا أمثلة يسيرة على ذلك :
فمثلاً شرب الخمور يفقد الناس عقولهم ، فيتهورون ويقودون سياراتهم ويقع من ذلك مشكلات كبيرة جداً ، حتى أن الشرطة البريطانية قررت أو أصدرت قرارات بتخفيض النسب المسموح بها من الشراب لمن يقودون السيارات إلى 50% بذات في قبيل عيد الميلاد كانت صدرت هذه التعليمات .
يقول خبر من عجائب المفارقات أن أحد رجال الشرطة المكلفين بحفظ الأمن في تلك الليلة قاد سيارته وهو في حالة سكر بعد أن خرج من حفلة شراب للشرطة بمناسبة عيد الميلاد ، مما تسبب في اصطدام سيارة أخرى وبعد ذلك بعد ساعات من إصدار قرار التخفيض السابق مما جعل مدير الشرطة يصدر أمراً لجميع أفراد الشرطة يحرم فيه عليهم شرب الخمر قبل قيادة السيارات ، ولو كان تحريم مؤقتاً ، لكن يدل على أن المفسدة وقعت فلجئوا إلى مثل هذه الأحكام أو تلك القوانين .
ونجد أمثلة ذلك كما قلنا كثيرة جداً ، من ذلك كما قلنا اختلال الأمن الذي أصبح مشكلة كبرى وأثار الاختلاط .
نحن في تشريع الإسلام ممنوع الاختلاط .
أحدهم مثل بمثال جيد قال : لو كانت هناك حديقة للحيوانات ، مفتوحة للزيارة ، ولكن أقفاص الحيوانات المفترسة مفتوحة ، فما رأيكم ؟ هل سيدخل الناس ليزوروا هذه الحديقة ويكونون عرضة للافتراس ! .
من يفعل ذلك ماذا يقال عنه !!
غبي ، أقل ما يقال إنه غبي ، ويقال عنه إنه لا يعرف مصلحة نفسه .
قال : لنفرض أن هناك من دخلوا ، وحصلت بالفعل حالات الاعتداء والافتراس والقتل والدماء ، فماذا سنقول ؟
متى سيزور الناس هذه الحديقة إذا حصل ماذا ؟
إذا أعيدت الوحوش إلى أقفاصها وأغلق عليها .
لكن لو قيل لا يمكن أن تعود إلى أقفاصها ، فما هو الحل ؟
الحل أن لا يدخل إلى هذه الحديقة .
يقول طبعاً تمثيلاً ، لما يحصل من اعتداء الرجال على النساء في الغرب بالاغتصاب وبالتهديد وبالخطف ، وحوش ، هؤلاء وحوش ، هل يمكن أن يحبسوا في البيوت ، وأن يكون الرجال في البيوت ؟
الجواب لا .
إذن ما هو المطلوب ؟
أن لا نجعل الزائرين هؤلاء النساء أن لا نجعلهم يختلطون بالوحوش حتى لا يتعرضوا للاعتداء . نظرية بسيطة وواضحة ، وهذا هو الذي بدأت تكون به المطالبة لماذا؟
لأن الأمن بدأ يختل بالذات عند النساء .
إحصائية تقول إن 50% من النساء الكنديات تعرضن لاعتداءات جنسية وجسدية ، وجسدية يعني فيها ضرب ، وفيها عنف ويكفي أن نعرف أن [700000] سبعمائة ألف امرأة يتعرضن للضرب وأن حوالي 20% إلى 25% من حالات الاعتداء على النساء تكون ضرب من الأزواج ومن الأقارب ، أو من الأصدقاء ، و60% من النساء الكنديات نتيجة لذلك يخشين السير في مناطق سكناهن منفردات عند حلول الظلام ، في مناطق السكن! .(/10)
لأن هناك خوف من هذه الوحوش . طيب لماذا تخرج للوحوش ؟.
يعني كما يقولون الباب الذي يأتيك منه الريح سده وأستريح .لو كانت العقول تفكر ، لكن بدأت هذه القضايا تفرز أنهم يحتاجون إلى تحقيق المصالح ، وغالباً لا يكون تحقيقها إلا بتشريعات وأنظمة تقترب من الإسلام .
الشرطة البريطانية وزعت على النساء في أوقات الصيف توجيهات ، تعليمات لغرض الحماية الأمنية بعد كثرة الاعتداء على النساء .
ماذا جاء في هذه التعليمات ؟
التوصية بلبس الملابس الطويلة الفضفاضة ، والابتعاد عن لبس المينيجيب ، وكذا ونحو ذلك...
لماذا ؟
هم لا يقولون هذا من واقع الإسلام والأخلاق ، هم نظروا أن هذا يحقق مصلحة ، ويمنع من وقوع مفسدة ، وكلما أرادوا تحقيق المصلحة والمفسدة كلما اقتربوا من تشريعات الإسلام ، وأخذوا بأجزاء منها ، أدركوا أم لم يدركوا .
هنا أيضاً في دراسة نشرت في بريطانيا تقول إن 80% من النساء البريطانيات اللاتي تتراوح أعمارهن من عشرين إلى خمسة وثلاثين سنة يشعرن بالخطر من السير بمفردهن في شوارع العاصمة .
أي حياة تكون إذا كانت 80% من النساء لا تستطيع أن تسير في الطريق وهي آمنة !
لماذا ؟
لأنها متبرجة ، ولأن الاختلاط له ما له ، وللأمور الأخرى التي تحتف بهذا .
يقول أيضاً أحد هؤلاء الغربيين في عالمنا اليوم : دعوة لحقوق الإنسان ننظر إلى حولنا فماذا نجد ؟
العلاقات الأسرية دمرت ، بينما نجد الإسلام يمنح كافة الحقوق للمرأة ، ويقيم عقد الزواج على أساس عقد حكيم عادل بين طرفين متكافئين .
إن مشكلات الأمهات غير المتزوجات غريبة عند المجتمع الإسلامي ، إذ أن الإسلام وضع عقوبات صارمة لجريمة الزنا ، على العكس من القوانين الحديثة التي تتساهل في ذلك ، ومن هنا نجد المجتمع الإسلامي نظيف طاهراً من كل ذلك ، إذا تم تطبيق الإسلام طبعاً .
فهو يقول إنه يريد أن تكون هناك عقوبات على هذه الجرائم التي هي عندهم حتى الآن ليست جرائم .
ويقول جويج شارتن : " حرّم الإسلام الخمر في مطلع دعوته ، وها نحن اليوم بعد أن انتشرت الخمور وزادت نسبة الكحول فيها إلى درجة فتاكة ندرك حكمة الإسلام وبعد نظره " .
فإذن كما قلنا هم في هذا الجانب الأمر واضح ولا نحتاج إلى تطويل القول فيه كما يقولون .
أيضاً في شأن التجانس والتكامل نجد أن الإسلام كما قلنا بينه وبين العلم وبينه وبين الفطرة وبينه وبين التشريع كله توافق لأنه كله من عند الله عز وجل .
فيقول فيلوينز : " التقدم العلمي في العصر الحاضر والمنجزات العلمية تتفق تماماً مع مبادئ الإسلام "
وهذا جزء من قول الله عز وجل : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ .... }
اليوم يكتشفون اكتشافات حديثة تكون الآيات وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قد ذكرتها بشكل واضح مفصل قبل أربعة عشر قرناً ... ماذا يدل هذا ؟
يدل على أن الإسلام دين الحق .
أبسط مثال في هذا أطوار خلق الإنسان من نطفة إلى علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم العظام أول ثم تكسى العظام لحماً هذه من كان يعرفها يوم بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ما كان أحد يعرفها بل إلى عهد قريب ما استطاعوا أن يعرفوا ذلك .
أما اليوم فهم يعرفون ذلك ويصورونه لنجد أن كل مرحلة هي بالضبط كما أخبر الله وكما أخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيح : ( يجمع الله خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون أربعين يوماً علقة ثم يكون مثل ذلك مضغة ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات ....) .
واليوم تجد هذه المدد التي لا يمكن أن تقال في مثل هذا العصر إلا بعد تجارب طويلة ومراقبات عديدة : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ .... }
وهيئة الإعجاز العلمي لها كتب عديدة الآن مطبوعة كلها تتكلم عن الكشوفات العلمية التي ثبتت قطعاً وليس مجال تحت التجربة والتي تدل الآيات والأحاديث على صدقها وعلى ثبوتها في تلك النصوص الإسلامية قبل أربعة عشر قرناً .
يقول هنا أحدهم : " أعتقد يقيناً أنني لو كنت إنساناً وجودياً لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية وجاءني نفر من الناس وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه لأمنت برب العزة والجبروت خالق السماوات والأرض ولن أشرك به أحدا ".(/11)
وهذا حصل وبعض كبار العلماء في علم الأجنة لما جاءوا في المؤتمرات وحضرها بعض علماء المسلمين من علماء الطب والأحياء ثم ذكروا لهم الآيات القرآنية ، ومعانيها ، قالوا لا يمكن أن يكون هذا إنسان في ذلك الزمن مطلقاً ، لا بد أن هذا أمر موحىً من الله - عز وجل - فآمنوا وأسلموا من أثر هذا القول .... إلى آخر الشواهد الكثيرة في الحقيقة والأمثلة عديدة جداً لا نود يعني يطيل الحديث عنها وهي - كما قلت - تحقق لنا أن فطرة القوم تصرخ ، وأن التناقض عندهم يتزايد ، وأن الحيرة تعظم ، وأن المفاسد تنتشر ، وأن العدالة تتوارى ، وأنهم لذلك في كل مرة وفي كل حدث يقتربون من الإسلام ويشهد عقلائهم بصحة ما جاء فيه من الأحكام ، والتشريعات ، ونجد دخول الناس بحمد الله عز وجل في دين الله أفواجاً ، ولا شك كما قلنا أن الهدف من هذا الموضوع هو أن ندرك هذه الحقيقة وأن يكون لنا دور فيها ، وأن نسهم وأن نعمل ، وأن نجتهد ، وأن نتيقن بحقيقة قول الله عز وجل : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .(/12)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
للشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإن من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن بعث فيها أفضل رسله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه وأكملها وأقومها وأشملها لخيري الدنيا والآخرة.
ولقد امتن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة على هذه الأمة في أكثر من آية؛ كما في قوله سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
ووصف كتابه الكريم بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنَّ فيه تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة؛ قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)(1) (الإسراء:9).
وقال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية89).
وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله حديثاً؛ فإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يجد هذه المعاني العظيمة واضحة وضوح الشمس، حيث لا يخفى على من له أدنى بصيرة ما تضمنه كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والرحمة والشمول لكل مصالح العباد، مع مراعاة لكل جوانب النفس البشرية ومخاطبتها بمنهج متوازن وميزان قسط وعدل لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا يرجح فيه طرف على آخر.
ولا غرابة في ذلك فهو صادر عن الله عز وجل، وما صدر عن الله تعالى فهو الكامل الشامل المتوازن؛ لأنه صدر عن الكامل في صفاته وأفعاله، الذي لا حدود لكماله، العالم بمصالح خلقه، والحكيم الذي يضع الشيء في موضعه الذي يجب أن يوضع فيه، الرحيم الذي يرحم عباده بما يأمرهم به من خير وينهاهم عنه من شر؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وإن من أبرز سمات هذا المنهج الرباني الهادي للتي هي أقوم أنه متسم بالشمول والتوازن والوسطية والعدل؛ ولذلك امتن الله عز وجل على هذه الأمة التي أنزل إليها كتابه الكريم ومنهجه القويم بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143).
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه السمة البارزة في هذا الدين فيقول: «وهو - مِنْ ثَمَّ - شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيرًا، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعًا. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خَلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؛ فليس أمامه - سبحانه - مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة، ومن ثَمَّ فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته، المتوازن مع كل جوانب كينونته ومع كل أطوار حياته، الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.(/1)
وهو - مِنْ ثَمَّ - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان؛ بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن، إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيِّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59)»(2) ا.هـ.
وقال الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9): «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسدُّ وأعدل وأصوب ... وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها؛ فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة»(3).
وقد جعلت عنوان هذه الرسالة الآية الكريمة من سورة البقرة؛ وهي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وذلك لأنطلق منها في بيان عظمة هذا الدين وشموله، وبركته وخيره على البشرية، موضحًا في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى بعضًا من جوانب عدله، ووسطيته وتوازنه في عقائده وأحكامه، وما فيه من الميزان الحق، واليسر والخير والتوافق مع العقل السليم والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
ونظرًا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض الآخر يضخم جانب الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو والإفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) وصدق الله العظيم في وصف المناهج البشرية بقوله سبحانه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: من الآية82).
ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون المفضلة. ولو أن هذه المواقف صدرت عن طوائف الضلال والبدع لكان الأمر غير مستغرب لأن كل إناء بما فيه ينضح، ولكن المستغرب صدورها من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة والاختلاف بين أصحاب المنهج الحق الواحد.
وفي ضوء كل ما سبق تأتي هذه الرسالة الجديدة من سلسلة الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لبيان عظمة هذا الدين، وشموله وكماله، وتوازنه وعدله، وأثر ذلك في توازن وضبط الأفكار والحركات والمواقف ودفعها إلى فعل الخير المثمر في الدنيا والآخرة.
وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام أمور كثيرة أشير فيما يلي إلى أهمها:
الأمر الأول:
ما ظهر في حياة كثير من الناس من المخالفة لحد الاعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير - ويتضح هذا في كثير من جوانب الدين سواء ما كان منه في جانب الاعتقاد؛ كمفهوم الإيمان، والقدر، والأسماء والصفات، والتوكل والخوف والرجاء، أو ما كان منه في جانب العبادة والنسك ما بين غال ومقصر، أو في جانب الأخلاق والسلوك ما بين مُفرِّط ومُفْرِط.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين»(4).
الأمر الثاني :(/2)
ما ظهر في هذه الأزمنة المتأخرة من فهم منحرف لمعنى (الوسطية)(5) والأمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لها. وقد أثمر هذا المفهوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط، فلا بد من التوسط في أخذ هذا الدين حتى لا ينفر الناس منه.
وهذا المفهوم المنحرف لمعنى الوسطية له ما يفسره، لكن ليس له ما يبرره، وقد انطلق بعض من يدعو إلى هذه الأفكار من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن الالتزام بهذا الدين وأخذه بقوة كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن دعوة الناس إلى ذلك هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية، ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام بل من بعض الدعاة من َيصِمْ بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف. وهذا كله إنما نشأ من الفهم المنحرف للوسطية والتشديد والتيسير؛ فلا بد إذن من تحرير مفهوم الوسطية كما جاء عن السلف الصالح رضي الله عنهم.
الأمر الثالث:
وهو فرع عن الذي قبله، ألا وهو:
ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تجر إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لا بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر ويسمون ذلك وسطية، ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.
الأمر الرابع:
في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة لظاهرة الاختلاف الحاصل بين الدعاة وطلبة العلم. وما نشأ ذلك إلا بسبب فقدان التوازن والوسطية في بعض الأخلاق والمعاملات؛ ومن ذلك التطرف في معالجة الأخطاء: ما بين غالٍ في الحب والتقدير لبعض الأشخاص فلا يرى أخطاءهم إلا بمنظار الحسن والتبرير، وغالٍ في الكره والخصومة فلا يرى إلا الأخطاء، وما كان من صواب فيسيء الظن بصاحبه.
وإن مثل هذه المواقف - فوق أنها فاقدة للتوازن والوسطية والعدل - يدخل فيها الهوى وحظ النفس، والوسط والعدل بين هذين الطرفين. ولا أبالغ إذا قلت إن الفُرقة الحاصلة اليوم بين أهل السنة إنما يعود السبب الأكبر فيها إلى فقدان الوسطية والعدل والتوزان في علاج الخلاف.
ولعل في هذه الدراسة مساهمة أقدمها لنفسي ولجميع المنتسبين لأهل السنة والجماعة؛ حتى نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر نحب الألفة والاجتماع، ونكره الفرقة والاختلاف، ولنكون من الأمة الوسط العادلة الشاهدة على الناس، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تكالب فيها الأعداء على المسلمين من كل صوب، ورموهم عن قوس واحدة، فتعينت المحافظة على وحدة الصف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي المخالف لنا في أصل الملة وليس في مسألة أو مسائل فرعية؛ لأن الفقه في الدين ومقاصد الشريعة، والتحلي بالعدل والإنصاف يفرضان على المسلمين تآلفهم وتحمل خلافاتهم الجزئية أمام الطامة الكبرى التي يريدها الكفار بالإسلام والمسلمين.
والمقصود أن غياب الوسطية واضطراب الميزان يقود إلى الإجحاف ومجانبة الرفق في تقويم الرجال والكتب والمواقف، وعدم إعذار من له عذر، وهذا بدوره يقود إلى التفرق والتعصب والغلو والعدوان. وعند فقد الميزان والوسطية والعدل تصبح الكبائر التي يعملها الشخص أو من معه في طائفته من اللمم والصغائر، وتنقلب الصغائر والاجتهادات الخاطئة إلى كبائر حينما تقع من الآخرين.
وهذه الظواهر لا يشك أحد في وجودها اليوم بين بعض العاملين في حقل الدعوة؛ وسببها غياب الميزان الحق والوسطية والعدل التي هي من أبرز سمات هذا الدين، ومن أخص خصائص هذه الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شاهدة على الناس.
الأمر الخامس :(/3)
ظهور بعض المتحمسين للدعوة والغيرة على الدين ممن لم يكن لهم علم كافٍ بمقاصد الشريعة، وبمبدأ الموازنات في الشريعة الإسلامية؛ حيث ركَّزت طائفة منهم النظر في المفاسد المترتبة على الأخذ ببعض القضايا المستجدة دون مراعاة لما فيها من المصالح، وطائفة أخرى ركزت على ما فيها من المصالح بغض النظر عن ما يترتب عليها من المفاسد وكلا الطرفين مذموم. والحق هو الموازنة؛ فما كانت محصلته الخير والصلاح في الدين أو الدنيا أُخذ به ولو كانت فيه مفاسد قليلة ترجح بها كثرة المصالح كمًا أو كيفًا. وما كان محصلته الفساد والشر فإنه يترك ولو ظهرت فيه بعض المصالح التي ترجح بها كثرة المفاسد كمًا أو كيفاً.
والمقصود أن ظاهرة الأحادية في النظرة والتعصب لها توجد اليوم من بعض الغيورين، وهي بدورها توقع أصحابها في مصادمة دائمة مع إخوانهم الدعاة، بل قد توقعهم في مصادمة مع بعضهم البعض أو مع أنفسهم.
والوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بمبدأ الموازنات هو أصل عظيم في تشريع الأحكام والحكم على النوازل، ورحم الله من قال: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين».
الأمر السادس:
إن الإلمام بخاصية العدل والتوازن والوسطية في أحكام الله عز وجل الكونية منها والشرعية لمن أكبر العون على معرفة سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتغير، والتي تتسم بصفة الاطِّراد والثبات والشمول والتوازن. وهذا بدوره يقود إلى معرفة السنن الربانية في تغير المجتمعات سواء من سوء إلى حُسن أو عكس ذلك. وما أحوج الأمة اليوم إلى إدراك هذه السنن الربانية؛ وبخاصة دعاتها وعلماؤها ومجاهدوها الذين يقع عليهم عبء المسؤولية وثقل الأمانة في إنقاذ الأمة - بإذن الله تعالى - مما هي فيه من ذلة وشقاء وفساد.
وفي إدراك هذه السنن المطَّردة المتوازنة هداية إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وفي المقابل فإنه عندما يكون الجهل أو الغفلة عن هذه السنن الربانية فإن ذلك مؤذن بالانحراف عن المنهج الصحيح للدعوة والتغيير والإصلاح.
الأمر السابع:
إن الحديث عن سمة الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين وأحكامه وأخلاقه ليبعث في النفس الغبطة والفرح والسرور، والفخر بدين الإسلام، وهذا بدوره يورث في النفس تعظيم الله عز وجل وحمده وشكره، وتعظيم دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله به إلى صراطه المستقيم؛ وبخاصة عندما ننظر إلى المناهج البشرية المضطربة التي فقدت هذه الخاصية فذهبت بها الأهواء تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشمال. كما أن ذلك يبث في النفس الطمأنينة والثبات على هذا الدين، ويدفع المسلم إلى الدعوة لهذا الدين وإيصاله إلى الناس لينعموا به في الدنيا وتسعد حياتهم به وبما فيه من العدل والتوازن والشمول والكمال، ولتكمل سعادتهم في الدار الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن خاصية التوازن في دين الإسلام: «... وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه الآفة التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أوَّلته تأويلاً خاطئًا وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة»(6).
وأكتفي بهذه البواعث التي دفعت إلى كتابة هذه الرسالة لتدل على غيرها من البواعث التي لم تذكر، والتي لا تبعد عما سبق، وإنما هي تفريعات لها.
وسيكون البحث في هذه الرسالة من خلال الأبواب والفصول التالية إن شاء الله تعالى:
الباب الأول : تفسير آية سورة البقرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وما في معناها من الآيات والأحاديث.
الباب الثاني : مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وأمره.
وتحته فصلان:
الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.
الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوزان في أمر الله عز وجل وشرعه.
وتحته مباحث :
المبحث الأول: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد.
المبحث الثاني: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.
المبحث الثالث: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في العبادات.
المبحث الرابع: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في الأخلاق والمعاملات.
الخاتمة .
____________
(1) انظر ما كتبه الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - من كلام طويل ونفيس عند هذه الآية في تفسيره المبارك «أضواء البيان»: (3/372-417).
(2) «خصائص التصور الإسلامي»: (ص 49، 50).
(3) «أضواء البيان»: (3/372)، باختصار.
(4) «روضة المحبين» (ص 220).
(5) سيأتي إن شاء الله تعالى بيان المعنى الصحيح لمفهوم (الوسطية) في مبحث قادم.(/4)
(6) «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»: (ص 136).
الباب الأول
تفسير قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)
المقصود من استعراض أقوال السلف من تفسير هذه الآية هنا هو الوقوف على المعنى الحق لمفهوم (الوسطية) والأمة الوسط؛ وذلك حتى ننطلق من هذا المعنى الصحيح في ذكر الأمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة المميزة للإسلام وأهله.
وقد ورد تفسير (الأمة الوسط) في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:
1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143). والوسط: العدل)(1).
2- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: «عدولاً»(2).
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين؛ كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها ب «عدولاً».
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها: «جعلكم أمة عدولاً».
وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأمم(3).
وقال الإمام الطبري: «وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط؛ قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم»(4).
3- قال ابن كثير(5): وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد(6) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). قال الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة(7).
4- قال صاحب المنار: «(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وهو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار؛ وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما»(8).
5- وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143): «أي: عدلاً وخيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين؛ وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلُّ على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشّريعة؛ لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم؛ لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعِهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.(/5)
ولا كالنصارى الذي لا يُنجسّون شيئًا ولا يحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم»(9).
6- وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزين ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة .. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا.
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
«أمة وسطًا» في التصور والاعتقاد لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
«أمة وسطًا» في التفكير والشعور؛ لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، وفي تثبت ويقين.
«أمة وسطًا» .. في التنظيم والتنسيق .. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك.
«أمة وسطًا» .. في الارتباطات والعلاقات .. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
«أمة وسطًا» .. في المكان .. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء...»(10).
7- ويستدل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً… الآية) (البقرة: من الآية143) على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم فيقول: «ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولاً؛ هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوه بهم، ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم، وتدعو لهم وتستغفر لهم.
والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق؛ فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: من الآية86).(/6)
فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به، فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ...»(11).
وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهمٌ واضحٌ محددٌ لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه الأمة وكونها أمة وسطًا.
وهذا الفهم يتحدد في معنيين هما:
الأول: الخيرية والأفضلية.
الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق، والبينية بين الإفراط والتفريط.
وكلا المعنيين داخل في الآخر؛ فإن الخيرية والأفضلية لم تتصف بها هذه الأمة إلا لكونها قائمة بالعدل والقسط والحق، ولكونها وسطًا بين الغالي والجافي. وكل من قام بالعدل والحق فهو الأولى بصفة الخيرية والفضل.
والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومان يكتنفان الوسط والعدل.
أحدهما: ينزع إلى الغلو والإفراط.
والآخر: ينزع إلى التفريط والإضاعة والجفاء.
وفي هذا المعني يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان»(12).
ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو والإفراط، ومفهوم الجفاء والتفريط بعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.
أولاً : الغلو والإفراط :
قال الجوهري: «وغلا في الأمر يغلو غلوًّا أي: جاوز فيه الحد»(13).
وقال في اللسان: «وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حده، وقال في التنزيل (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).... وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه ... ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم»(14).
وقد جاء في القرآن الكريم النهي عن الغلو في الدين في أكثر من موضع؛ ومن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171).
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه: غلا السعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم ... وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة»(15).
وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).
قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: «لا تُفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل. فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبدالله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه»(16).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن»(17).
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في آية المائدة: «أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تُطْروا من أُمِرْتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله»(18).
كما جاء النهي عن الزيادة والتكلف في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86).
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرًا تعطونيه من عَرَض الحياة الدنيا (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أُمِرْتُ به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة»(19).
وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلو والتشديد في الدين، وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.
الحديث الأول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غداة جمع: (هلمّ القط لي الحصى)، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلمَّا وضعهنَّ في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الديّن فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين)(20).
الحديث الثاني: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطّعون). قالها ثلاثًا(21).
قال النَّوويُ: «هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم»(22).(/7)
الحديث الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27)"(23).
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تعليقه على هذا الحديث: «فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين؛ وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقَدَر وإما بالشرع؛ فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به.
وبالقدر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم»(24).
الحديث الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)(25).
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «والتسديد: العمل بالسداد؛ وهو القصد والتوسط في العبادة؛ فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل ما لا يطيقه»(26).
الحديث الخامس: عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه)(27).
الحديث السادس: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؛ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(28).
وعند البخاري: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(29).
ومن خلال الأحاديث السابقة يتبين لنا معنى الغلو وحده وأنه مجاوزة الحد وتعدي ما أمر الله به، أو فعل ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
«ومن الألفاظ المرادفة لمعنى الغلو: الإفراط. وهو يشترك مع الغلو في كونه مجاوزة للحد، وان كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات أو بحرمان نفسه منها يكون وصف الغلو ألصق به، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة يكون وصف الإفراط ألصق به من الغلو»(30).
والمقصود أن كلاًّ من الغلو والإفراط خروج عن الوسطية.
ثانيًا : التفريط والجفاء :
بعد ما تعرفنا على معنى الغلو والإفراط، وأنه مجانب للوسطية، نقف في هذه الفقرة لنتعرف على الطرف الآخر المقابل له، ألا وهو التفريط والإضاعة والذي هو الآخر مجانب للوسطية والعدل والميزان المستقيم. فما معنى التفريط؟
قال في اللسان: «التفريط: هو التضييع. وقال الزجاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز، وفرط في الأمر يفرط فرطًا. أي: قصَّر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(31). ا.هـ.
وقال الجوهري: «فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(32).
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع:
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيَّعنا فيها.
قال السّديّ: أما (يَا حَسْرَتَنَا). فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة(33).
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم؛ يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه: (أنا فرطكم على الحوض)(34) ... ومنه في الدعاء للصبي: اللهم اجعله فَرَطًا لأبويه؛ فقولهم: (فَرَّطْنَا). أي: قدَّمنا العجز. وقيل: «فرّطنا» أي: جعلنا غيرنا الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا(35).
وقال تعالى في سورة الأنعام - أيضًا -: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه.(/8)
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلاّ قد كتبناه في أمّ الكتاب.
وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). قال: لم نغفل، ما من شيء إلاّ وهو في الكتاب(36).
وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61).
قال الطبريّ: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: «لا يُفرّطون». لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: «لا يفرّطون». لا يضيِّعون(37).
وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).
قال الطبريّ: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف(38).
قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ). قصَّرتم في شأنه(39).
وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علمًا بالطرفين المذمومين المخالفين للوسطية والعدل، وهما: طرف الغلو والإفراط، وطرف التفريط والتقصير، وأن الميزان العدل وسط بينهما في كل الأمور.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مبينًا منهج السلف القائم على العدل والوسط: «والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا - وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسُّنة - فإن الشيطان يَشُمُّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسُّنة أخرجه عن الاعتصام به؛ وإن رأى فيه حرصًا على السُّنة، وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها؛ فأمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل؛ فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها؛ فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
وهذا حال الخوارج الذين يَحْقِر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السُّنة إلى البدعة؛ لكن هذا إلى بدعة التفريط، والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان. إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط. ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان»(40).
ويقول - رحمه الله تعالى - في موطن آخر: «وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان فإما إلى غلو ومجاوزة وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذَّر السلف منهما أشد التحذير وخوَّفوا من ابتلي بأحدهما بالهلاك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق؛ يكون مقصرًا مفرطًا في بعض دينه، غاليًا متجاوزًا في بعضه، والمهدي من هداه الله»(41) ا.هـ.
تنبيه :
ما دام أن الوسطية سمة بارزة في هذا الدين، وأنه قائم على العدل والوسط والتوزان بين طرفي الغلو والتقصير، فإنه ينبغي الحذر ونحن في صدد الحديث عن الغلو والجفاء من أن نقع في الغلو في فهمنا للغلو والإفراط، أو في فهمنا للتفريط والتقصير. ذلك أن بعض الناس قد يفسر التمسك بالدين عقيدة وعبادة وشريعة وأخذ ذلك كله بقوة والالتزام بالسنة، قد يفسر ذلك بالغلو والتشديد وهذا غلط وغلو في الغلو؛ ففرق بين الملتزم بدينه المتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابت على عقيدته في ضوء الكتاب والسنة وبين من يشدد على نفسه بأمور لم تشرع في هذا الدين، أو يتجاوز حدود الله عز وجل في الآخرين قاصدًا بذلك التدين والتعبد لله تعالى.
فالأول ممدوح ومحبوب لله عز وجل، وأهله هم المتقون القابضون على دينهم قبض الجمر أيام الصبر والفتن، وهم أهل الله عز وجل وخاصته، وهم الطائفة المنصورة مهما قال عنهم المخالفون أو المخذلون ورموهم به من صفات الغلو والتنطع والتطرف؛ فإنهم كما جاء وصفهم في حديث الطائفة المنصورة: «لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»(42).
أما الفئة التي غلت في دين الله تعالى وتعبدت لله تعالى بما لم يأذن به سبحانه أو بما يسخط الله تعالى فهي الفئة التي يصدق عليها وصف الغلو والتطرف والتنطع.(/9)
وفي مقابل من يغلو في فهم الغلو فإن هناك من يغلو في فهم التفريط والتقصير؛ وذلك بأن ينظر إلى بعض اجتهادات الراسخين في العلم وما يفتون به في بعض النوازل والمستجدات مما هو قائم على الموازنة عند تزاحم المفاسد والمصالح، مما ينتج عنه ترك لبعض الأوامر أو لبعض السنن أو فعل لبعض المنهيات؛ فينظر الغالي في فهم التقصير والتفريط إلى هذه الاجتهادات على أنها إضاعة وتفريط وتقصير في أمر هذا الدين، دون أن ينظر إلى ما يقابل ذلك من مصالح عظيمة فيها حفظ مقاصد الدين والشريعة.
وعلى كل حال فإن مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم ولا يصلح أن يشتغل بها إلا الراسخون في العلم، المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخًا في العلم والتقوى، وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا؛ فهؤلاء هم الذين تتبع الأمة فتاواهم ومواقفهم لأنهم وإن بدا للوهلة الأولى أن في فتاواهم تقصيرًا، فإنهم قد انطلقوا في تقريرها من ضوابط شرعية دقيقة، ومن تجرد وإخلاص. فمثل هذه الفتاوى لا يقال عنها إنها تفريط وتقصير، وإنما هي من العدل والحق إن شاء الله تعالى. نعم لو أن من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم أو من المعروفين بالهوى وحظوظ الدنيا؛ فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى أو دون ضوابط شرعية، وحينئذ يصدق على أمثال هؤلاء وصفهم بالتفريط والإضاعة.
ذكر بعض الآيات التي ورد فيها القيام بالقسط والأمر به:
الآية الأولى: قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18).
الآية الثانية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135).
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «فأمر سبحانه بالقيام بالقسط - وهو العدل - في هذه الآية، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدوًا كان أو وليًّا، وأحق ما قام له العبد بقصدٍ: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله، مُنافٍ لما بعث به رسوله.
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده. وأولئك هم الوارثون حقًا، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معيارًا على الحق وميزانًا له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا»(43).
الآية الثالثة: قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).
«فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف ... وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيًا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيًا عن الطغيان والمجاوزة ... والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير»(44).
الآية الرابعة: قوله تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء:182، 183).
وهذه الآية وإن كانت في قوم شعيب الذين كانوا ينقصون المكيال لكنها تشمل كل وزن بالقسطاس والعدل في أي أمر حسي أو معنوي.
وفي هذا المعنى أيضًا قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين:1-3)، وهي وإن كانت في المكيال والميزان لكنها تحذر من التطفيف في كل شيء وتنهى عن أن يكون للرجل معياران: إن كان لنفسه ومن يحب وفَّى، وإن كان لغيره أو خصمه نقصه وبخسه حقه، وإنما الواجب أن يكون للمرء معيار واحد؛ وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.
الآية الخامسة: قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25).(/10)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ): «وهو النقل الصدق، (وَالْمِيزَانَ) وهوالعدل؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (هود: من الآية17)، وقال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية30)، وقال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن:7). ولهذا قال في هذه الآية (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25) أي بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به؛ فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام: من الآية115) أي صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (الأعراف: من الآية43)»(45).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس»(46).
والآيات في ذكر العدل والقسط والأمر به ومدح أهله وذم أهل الجور والعدوان وأهل الإضاعة والتفريط كثيرةٌ جدًا، وليس المقصود استقصاؤها في هذا المقام، وإنما المراد الإشارة إلى أن العدل والحق هو أصل هذا الدين وسمته الرئيسة، وهو الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل حتى يقوم أعظم العدل وهو عبادة الله عز وجل وتوحيده بلا ند ولا شريك، ثم العدل مع الخلق وإعطاؤهم حقوقهم وعدم بخسهم أشياءهم، ثم العدل مع النفس دون غلو ولا إفراط، ودون تقصير ولا تفريط. فما أعظمه من دين، وما أجله من تشريع جاء لإسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس المستقيم؛ فنحمده سبحانه على الهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه، وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم، وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادته وحده سبحانه، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
_____________
(1) البخاري (4487)، وقال الحافظ في الفتح: (8/22) قوله: (الوسط: العدل) هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(2) تفسير الطبري: (2/7)، والحديث رواه الترمذي: (5/190)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2361).
(3) تفسير الطبري: (2/7).
(4) تفسير الطبري: (2/6).
(5) عمدة التفسير عن ابن كثير: (1/263) تحقيق: أحمد شاكر.
(6) المسند: (3/32).
(7) سبق تخريجه عند البخاري، والترمذي (ص 17) من هذا الكتاب، وهو عند ابن ماجة برقم (4284).
(8) تفسير المنار: (2/4).
(9) تفسير السعدي: (1/157).
(10) في ظلال القرآن: (1/131).
(11) بدائع التفسير: (1/369).
(12) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.
(13) مختار الصحاح: (6/2448).
(14) لسان العرب: مادة (غلا).
(15) انظر زاد المسير: (2/260).
(16) تفسير الطبري: (6/316).
(17) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/289).
(18) تفسير ابن كثير: (2/82).
(19) تفسير ابن كثير عند الآية (86) من سورة: ص.
(20) النسائي: (5/268) برقم (3057)، وابن ماجة: (3029)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1283).
(21) مسلم: (2670).
(22) شرح مسلم للنووي: (16/220).
(23) أبو داود: (4904)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود: (1049).
(24) عن كتاب إغاثة اللهفان: (1/132).
(25) البخاري: (39).
(26) المحجة في سير الدلجة: (ص 51).
(27) أحمد: (3/428)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1168).
(28) مسلم: (1401).
(29) البخاري: (5063).
(30) انظر الوسطية في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور ناصر العمر.
(31) لسان العرب: مادة (فرط).
(32) مختار الصحاح: (3/1148).
(33) انظر تفسيرالطبري: (7/178).
(34) أخرجه البخاري في الرقاق: (6575)، ومسلم في الفضائل: (2297).
(35) انظر تفسير القرطبي: (6/413).
(36) انظر تفسير الطبري: (7/188).
(37) انظر تفسير الطبري: (7/218).
(38) المصدر نفسه: (13/35).
(39) انظر تفسير القاسمي: (9/3579).
(40) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.
(41) الروح لابن القيم: (545)، دار إحياء العلوم.
(42) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (4252)، وبنحوه عند مسلم في الإمارة (1924)، وغيرهما.
(43) بدائع التفسير: (2/81، 82).(/11)
(44) في ظلال القرآن: (4/1931) باختصار.
(45) تفسير ابن كثير: عند الآية (25) من سورة الحديد.
(46) مجموع الفتاوى: (10/99).
الباب الثاني
من مظاهر العدل والتوزان في خلق الله تعالى وأمره
قال الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54). فالخلق خلقه والأمر أمره، وهو الحكيم الخبير الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قام خلقه وأمره على الحق والعدل والميزان المستقيم.
قال تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (الملك: من الآية3)، وقال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (الأحقاف:3)، وقال عن كتابه الكريم المتضمن لأمره وشرعه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41،42)، وقال أيضاً عن شمول كتابه الكريم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89)، وقال سبحانه عن إتقانه لمخلوقاته: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية88).
ومناسبة إيراد الآيات السابقة لموضوع البحث هو ما تضمنته هذه الآيات من ذكر شمول علم الله عز وجل وبديع صنعه وحكمته البالغة في خلقه وأمره وشرعه، وما فيها من الدقة والتناسق والتوازن والعدل وقيام ذلك كله بالحق وللحق.
يتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54) فيقول: «فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، ... ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر ...»(1).
وقال في موطن آخر: «فانظر حكمة الله عزّ وجلّ في خلقه وأمره فيما خلقه وفيما شرّعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يختلّ نظامها ولا ينخرم أبدًا ولا يختلّ أصلاً، ومن الناس مَن يكون حظّه من مشاهدة حكمة الأمر أعظم من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤلاء خواصّ العباد الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا حكمته فيما أحكمه، وشهدت فطنهم وعقولهم أن مصدر ذلك حكمة بالغة وإحسان ومصلحة أريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجات لا يحصيها إلاّ الله.
ومنهم من يكون حظّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفر من حظّه من حكمة الأمر؛ وهم أكثر الأطباء الذين صرفوا أفكارهم إلى استخراج منافع النبات والحيوان وقِواها وما تصلح له مفردة ومركّبة؛ وليس لهم نصيب في حكمة الأمر إلاّ كما للفقهاء من حكمة الخلق بل أقلّ من ذلك.
ومنهم مَن فتح عليه بمشاهدة الخلق والأمر بحسب استعداده وقوّته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا؛ فإذا نظر إلى خلقه وما فيه من الحكم ازداد إيمانًا ومعرفًة وتصديقًا بما جاءت به الرّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا، لا كمَن حجب بالصنعة عن الصانع، وبالكواكب عن مكوكبها، فعمي بصره وغلظ عن الله حجابه؛ ولو أعطى علمه حقه لكان من أقوى الناس إيمانًا لأنه اطّلع من حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكن من حكمة الله أيضًا أن سلب كثيرًا من عقول هؤلاء خاصيّتها، وحجبها عن معرفته وأوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدّنيا - وهم عن الآخرة هم غافلون - لدناءتها وخسّتها وحقارتها، وعدم أهليّتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وهذا باب لا يطّلع الخلق منه على ما له نسبة إلى الخافي عنهم منه أبدًا؛ بل علم الأوّلين والآخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بموجب للإعراض عنه واليأس منه بل يستدلّ العاقل بما ظهر له منه على ما وراءه»(2).
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن منهج الله القائم على العلم المطلق والحكمة البالغة في الخلق والشرع فيقول: «إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملاً متكاملاً للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها ..(/12)
وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية .. ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني، ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق .. الأمر الذي لا يتوافر أبدًا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرًا من الأمر، وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة، ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني، ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض، و [من] الهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم.
وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولاً: لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيًا: لأنه - سبحانه - رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلاً من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد ..
وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله؛ لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله، صانع الكون وصانع الإنسان؛ فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه؛ بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعًا كونيًا، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض الذي يعيش فيه ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدَّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم»(3).
وبعد هذه المقدمة المجملة عن سمة الشمول والتوزان والحق والعدل في خلق الله عز وجل وشرعه ندخل في تفصيل مظاهر هذا الشمول والتوازن والعدل والوسطية من خلال هذين الفصلين:
الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.
الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه.
وتحته مباحث:
المبحث الأول: من مظاهر العدل والتوازن في أبواب الاعتقاد.
المبحث الثاني: من مظاهر العدل والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.
المبحث الثالث: من مظاهر العدل والتوازن في العبادات.
المبحث الرابع: من مظاهر العدل والتوازن في المعاملات والأخلاق.
_____________
(1) بدائع التفسير: (2/218).
(2) مفتاح دار السعادة: (1/244، 245).
(3) في ظلال القرآن: (2/890).
الفصل الأول
من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره
قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2).
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد لا عن شهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة؛ فهو الخالق المقدر فإياه فاعبدوه»(1).
وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في أضواء البيان عند هذه الآية: «قد جاء أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:2،3)، وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: من الآية8)، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) إلى غير ذلك من الآيات.
وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان»(2).
وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي قدَّر حجمه وشكله، وقدَّر وظيفته وعمله، وقدَّر زمانه ومكانه، وقدَّر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه لمما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا، ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير، وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2). يقول كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان (الإنسان لا يقوم وحده).(/13)
(... ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره - من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلاً في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.
وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية»(3).
ويقول في موطن آخر في الظلال: «إن التوازن ملحوظ في ملكوت السموات والأرض جميعًا ... إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء، ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائمًا لحظة، فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السموات والأرض جميعًا»(4).
ثم يذكر رحمه الله تعالى - بعض صور هذه الموازنات والتقديرات الدقيقة الحكيمة فيقول: «ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض ...
إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض!
بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مُقِلاّتٌ نَزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث.
الذبابة تبيض ملايين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددًا، وأسرعها تكاثرًا، وأشدها فتكًا - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرًا. تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء!
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح، وقوة البطش سلاح، وبينهما ألوان وأنواع.
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها، والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام!
والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء!
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس!
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء.
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام .. الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء ..
البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه.(/14)
والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلاً أبيض مائلاً إلى الاصفرار. ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض. وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين. ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات. ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو)(5)»(6).(/15)
واختم الكلام في هذا الباب عن مظاهر الحكم الباهرة والتوازن والعدل والإتقان في خلق الرحمن ببعض ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه النفيس مفتاح دار السعادة؛ حيث أطال النفس في تعداد هذه الصور وعجائب صنع الله تعالى وحكمته فيها. ومن ذلك قوله - رحمه الله تعالى -: «أعِد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية، مَن الذي دبّرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أُمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضر؟ فمن الذي أجرى إليك من دم الأُم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبنًا ولم يزل يغذّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسّب والطلب، حتى إذا كمل خلقك، واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلّب على الغبراء هاج الطّلق بأُمك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرّحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمّك قطّ ولم يشتمل عليك؟!. فيا بُعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعت نطفة، وبين هذا الدّفع والطّرد والإخراج، وكان مبتهجًا يحملك فصار يستغيث ويعجّ إلى ربك من ثقلك. فمَن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمّه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسّعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه؟!. فلو تأمّلت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب. فمَن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى لا تفسد هناك؟ وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليماً إلى أن خرجت فريدًا وحيدًا ضعيفًا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذّى به في بطن أُمك إلى خزانتين معلّقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف سَوق على مجارٍ وطرق قد تهيّأت له؛ فلا يزال واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر لا تنقطع مادتها، ولا تنسدّ طرقها يسوقها إليك في طريق لا يهتدي إليها الطوّاف ولا يسلكها الرجال؟! فمَن رقّقه لك وصفّاه، وأطاب طعمه، وحسّن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحارّ المؤذي ولا بالبارد الرديء، ولا المرّ ولا المالح ولا الكريه الرائحة؟! بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك في أشدّ أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأ شديد وجوع مُفرِط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمّظت وحرّكت شفتيك للرضاع؛ فتجد الثدي المعلّق كالإداوة قد تدلّى إليك وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك؛ فلا يضيق عنها، ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقبًا لطيفًا بحسب احتمالك، ولم يوسّعه فتختنق باللبن ولم يضيّقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك، فمَن عطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؛ فإذا أحسّت منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها على عدد الأنفس، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق إلاّ قائد الرحمة وسائق الحنان، تودّ لو أن كل ما يؤلمك بجسمها وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تُزاد في حياتك؟! فمَن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوي بدنك، واتّسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتدّ به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آلة القطع والطّحن؛ فنصب لك أسنانًا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها؟! فمَن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمة بأُمّك ولطفًا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟!. فلو أنك خرجت من البطن ذا سنّ وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أُمك بك؟ ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تسيغها إلاّ بعد تقطيعها وطحنها؟ وكلما ازددت قوًة وحاجًة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة زِيدَ لك في تلك الآلات حتى تنتهي إلى النواجذ؛ فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قوًة زِيدَ لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحن التي هي آخر الأضراس؛ فمَن الذي ساعدك بهذه الآلات، وأنجدك بها، ومكّنك بها من ضروب الغذاء؟ ثم إنه اقتضت حكمته أن أخرجك من بطن أُمك لا تعلم شيئًا، بل غبيًّا لا عقل ولا فهم ولا علم، وذلك من رحمته بك، فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة، بل كنت تتمزّق وتتصدّع، بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ فلا يصادفك ذلك وهلةً واحدًة، بل يصادفك يسيرًا يسيرًا حتى يتكامل فيك. واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سُبِيَ صغيرًا من بلده ومن بين أبويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك، وكلما كان أقرب إلى العقل كان أشقّ عليه وأصعب، حتى إذا كان عاقلاً فلا تراه إلاّ(/16)
كالواله الحيران. ثم لو ولدت عاقلاً فهيمًا كحالك في كبرك تنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص، وتنكّدت أعظم تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعًا معصّبًا بالخِرَق، مربّطًا بالقمط، مسجونًا في المهد عاجزًا ضعيفًا عمّا يحاوله الكبير؛ فكيف كان يكون عيشك مع تعلّقك التامّ في هذه الحالة؟ ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل، بل تكون أنكد خلق الله وأثقلهم وأعنتهم وأكثرهم فضولاً، وكان دخولك هذا العالم وأنت غبي لا تعقل شيئًا، ولا تعلم ما فيه أهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير، فتلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئًا فشيئًا حتى تألف الأشياء وتتمرّن عليها، وتخرج من التأمّل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحُسْن التصرّف فيها والتدبير لها والإتقان لها. وفي ذلك وجوه أُخَر من الحكمة غير ما ذكرناه. فمَن هذا الذي هو قيّم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدّمها عن وقتها، ولا يؤخرها عنه؟»(7).
وقال أيضاً رحمه الله: «ثم تأمّل حكمة الله عزّ وجلّ في الحفظ والنسيان الذي خصّ به نوع الإنسان، وما له فيهما من الحِكَم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوة الحافِظة التي خصّ بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى ولا ما سمع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر مَن أحسن إليه ولا مَن أساء إليه ولا مَن عامله ولا مَن نفعه فيقرب منه، ولا مَن ضرّه فينأى عنه، ثم كان لا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مرارًا، ولا يعرف علمًا ولو درسه عمره، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً؛ فتأمّل عظيم المنفعة عليك في هذه الخِلال وموقع الواحدة منها فضلاً عن جميعهنّ. ومن أعجب النِّعَم عليه نعمة النسيان؛ فإنه لولا النسيان لَمَا سَلاَ شيئًا، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزّى عن مصيبة، ولا مات له حزن، ولا بطل له حقل، ولا تمتّع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات، ولا رجا غفلة عدو ولا نقمة من حاسد؛ فتأمّل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادّهما، وجعله في كل واحد منهما ضربًا من المصلحة»(8).
وقال أيضاً في موضع آخر: «ثم تأمّل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحكم؛ إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحدًا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفًا كله لفاتت مصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعًا كله أو خريفاً كله؛ ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولّد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء؛ فيحصل السّحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حلّلته حرارة الصيف من الأبدان. وفي الربيع تتحرّك الطبائع وتظهر المواد المتولّدة في الشتاء فيظهر النبات، ويتنوّر الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل. وفي الصيف يحتدّ الهواء ويسخن جدًّا، فتنضج الثمار وتنحلّ فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه. فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السَّموم، وجعله الله بحكمته برزخًا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحرّ الشديد إلى البرد الشديد، فيجد أذاه ويعظم ضرره، فإذا انتقل إليه بتدرج وترتب لم يصعب عليه؛ فإنه عند كل جزء يستعدّ لقبول ما هو أشدّ منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول؛ حكمة بالغة وآية باهرة. وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف يتنقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حرّ هذا بتدرج وترتيب فتبارك الله ربّ العالمين وأحسن الخالقين»(9).(/17)
وقال: «ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحسّ اللمس، عند هبوبه يدرك جسمه، ولا يرى شخصه؛ فهو يجري بين السماء والأرض والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة فجعله رخاءً ورحمةً وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسّحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذّكر الأُنثى بالحمل. وتسمى رياح الرحمة المبشّرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقح. ورياح العذاب العاصف والقاصف - وهما في البحر - والعقيم والصرصر وهما في البرّ.
وإن شاء حرّكه بحركة العذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمًة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرًا ونحسًا وعاتيًا ومفسِدًا لما يمرّ عليه.
وهي مختلفة في مهابها؛ فمنها صِبًا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف؛ فريح ليّنة رطبة تغذّي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجفّفه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشدّه وتصلبه، وأخرى تُوهنه وتُضعفه. ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها؛ فريح تُثير السّحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذّي النبات»(10).
«فإذا تأمّلت السّحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوً صافٍ لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامِل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى أن يأذن له ربّه وخالقه في إرسال ما معه من الماء؛ فيرسله ويُنزله منه مقطّعًا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرشّ السّحاب الماء على الأرض رشًّا، ويرسله قطرات مفصّلة لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدّم متأخّرها، ولا يتأخّر متقدّمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتُمزَج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة»(11).
«ثم تأمّل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور؛ فإنها لو كانت ظاهرة أبدًا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة، ولو كانت كامنة لا تظهر أبدًا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها؛ فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام يُخرِجها ويُبقيها الرجل عند حاجته إليها، فيُمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربّها وفاطِرها فسقطت المؤنة والمضرّة ببقائها. فسبحان مَن سخّرها وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر؛ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (الواقعة:71)، إلى قوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة:74) فسبحان ربنا العظيم لقد تعرّف إلينا بآياته وشفانا ببيّناته وأغنانا بها عن دلالات العالمين فأخبر سبحانه أنه جعلها تذكرة بنار الآخرة، فنستجير منها، ونهرب إليه منها، ومتاعًا للمقوين وهم المسافرون النازلون بالقواء، والقواء هي الأرض الخالية وهم أحوج إلى الانتفاع بالنار للإضاءة والطبخ والخبز والتدفئة والأنس وغير ذلك»(12).(/18)
«ثم تأمّل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر بأن يكون طائرًا في الجو خفّف جسمه، وأدمج خلقته، واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزبل على حد واحد يجمعهما جميعًا، ثم خُلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجّه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء بسرعة وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله. ولمّا قدّر أن يكون طعامه اللحم والحبّ يبلعه بلعًا بلا مضغ نقّص من خلقه الأسنان وخلق له منقارًا صلبًا يتناول به طعامه فلا يتفسّخ من لقط الحبّ ولا يتعقّف من نهش اللحم. ولمّا عَدِمَ الأسنان، وكان يزدرد الحبّ صحيحًا واللحم عريضًا أُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحبّ وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ، والذي يدلّك على قوّة الحرارة التي أُعين بها أنك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الإنسان صحيحًا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يُرَى له أثر. ثم اقتضت الحكمة أن جُعل يبيض بيضًا ولا يلد ولادة، لئلا يثقل عن الطيران؛ فإنه لو كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران. وتأمّل الحكمة في كون الطائر المُرسَل السائح في الجوّ يُلهَم صبر نفسه أسبوعًا أو أُسبوعين باختياره قاعدًا على بيضه حاضنًا له، ويحتمل مشقّة الحبس؛ ثم إذا خرج فراخه تحمّل مشقّة الكَسْب وجَمْع الحبّ في حوصلته، وبزق فراخه وليس بذي رَوِيّة ولا فكرة في عاقبة أمره ولا يؤمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العَوْن والرفد وبقاء الذّكر. فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلّة لا يعلمها هو ولا يفكر فيها من دوام النسل وبقائه»(13).
«ثم تأمّل الحكمة في شجرة اليقطين والبّطيخ كيف لمّا اقتضت الحكمة أن يكون حملها ثمارًا كبارًا جعل نباته منبسطًا على الأرض، إذ لو انتصب قائمًا كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها، فاقتضت حكمة مُبدعها وخالقها أن بسطه ومدّه على الأرض ليلقي عليها ثماره، فتحملها عنه الأرض فترى العرق الضعيف الدقيق من ذلك منبسطًا على الأرض وثماره مبثوثة حواليه كأنها حيوان قد اكتنفها جراؤها فهي تُرضعهم. ولمّا كان شجر اللوبياء والباذنجان والباقلاء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته أنبته الله منتصبًا قائمًا على ساقه، إذ لا يلقى من حمل ثماره مؤونة ولا يضعف عنه»(14).
سؤال وجوابه :
قد يسأل سائل بعد ما تعرفنا على بعض آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، وما فيها من العجائب والحكم الباهرة: ما علاقة ذلك بموضوع هذه الرسالة الموسومة بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)؟
والجواب: أن في ذلك تنبيهًا إلى عظمة الخالق عز وجل وكماله وشمول علمه وحكمته لكل شيء، وأن هذه الآيات الباهرة في خلقه وتقديره هي مقتضى علمه عز وجل وعزته وقدرته ورحمته وعدله وحكمته. وأن مَنْ هذه صفاته - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل الكتاب الحكيم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وضمَّنه من الأوامر والنواهي والشرائع الكاملة الكفيلة بكل خير ورحمة للعباد، وأن من التزم بها وقام بحقها في نفسه ومع الناس فهو من الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون شاهدة على الناس ومبلغة دين الله إليهم.
والمقصود أن الأمة الوسط ما استحقت هذا الوصف - الذي هو العدل والقيام بالحق والميزان المستقيم - إلا لكونها امتثلت لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ومن مقتضياتها ما نراه في النفس والآفاق والأوامر والنواهي من الحِكَم العظيمة والمصالح العامة.
ففي ذكر حكمته سبحانه في خلقه وتقديره، وما يشتمل عليه من الإتقان والتوازن والعدل زيادة إيمان ويقين وبينة على أن الأمة المتبعة لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوسط الخيار التي تقوم بالعدل وبالحق؛ فكما أن خلق الله عز وجل وتقديره هو الحق والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فكذلك الملتزم بأوامر الخالق عز وجل وشرعه هو من الأمة الوسط؛ وذلك للزومه شرع الله عز وجل الوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وصدق الله العظيم: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54)؛ فالكل صادر منه سبحانه، فالخلق خلقه والأمر أمره والشرع شرعه، وما صدر عن الله عز وجل فهو الحق والعدل والخير وفيه الحكمة والمصلحة.(/19)
أما ما سوى الله عز وجل من المخلوقين الضعاف الجهلة الظلمة، محدودي الزمان والمكان والعقل، فلا يصدر منهم إلا ما يناسب صفاتهم من الجهل والظلم والهوى، فيا عجبًا ممن يؤثر شرع المخلوق الضعيف وقوانينه ونظمه الجائرة على شرع الله عز وجل المبرأ من النقص والجهل والظلم، ومن أجل ذلك نرى أن الدول والمجتمعات التي التزمت بغير ما أنزل الله تعالى وحكمت أهواءها قد جاءت أقوالها وأفعالها ونظمها ومواقفها مجانبة للوسطية والعدل والحق، وحل مكان ذلك الظلم والطغيان والإفراط أو التفريط، مما أفرز للناس حياة تعيسة كلها ظلم وشقاء وقلق واضطراب.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على دين الحق وأنا يعيننا على أداء واجب دعوة الناس إلى هذا الدين حتى يهنأوا في ظلاله في الدنيا ويفوزوا بالنعيم المقيم في الدار الآخرة.
_____________
(1) تفسير القرطبي: (13/3).
(2) أضواء البيان: (6/267).
(3) في ظلال القرآن: (5/2548-2549) بتصرف واختصار.
(4) في ظلال القرآن: (3/1406).
(5) عن كتاب الله والعلم الحديث، عبدالرزاق نوفل: (ص 46-48).
(6) في ظلال القرآن: (6/3437، 3438).
(7) مفتاح دار السعادة: (265-267).
(8) المصدر نفسه: (1/288).
(9) المصدر نفسه: (1/215).
(10) المصدر نفسه: (1/207).
(11) المصدر نفسه: (1/208).
(12) المصدر نفسه: (1/223).
(13) المصدر نفسه: (1/254).
(14) المصدر نفسه: (1/238).
الفصل الثاني
من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه
في الفصل السابق كان الحديث عن مظاهر العدل والحق والتوازن في خلق الله عز وجل وآياته الباهرة في الآفاق والأنفس.
وفي هذا الفصل وما تحته من المباحث سيكون الكلام - إن شاء الله تعالى - عن بعض مظاهر العدل والحق والوسطية في أمر الله عز وجل وشرعه.
وأول ما أمر الله عز وجل به: توحيده سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. والتوسط واضح فيه بكونه وسطًا بين الغلو والتفريط، كما يتضح التوسط والعدل في ما شرعه سبحانه من الأحكام في العبادات والمعاملات.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل؛ كقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) (البقرة: من الآية219)، (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (البقرة: من الآية219) وأشباه ذلك.(/20)
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه؛ فِعْلَ الطبيب الرفيقِ: يحمل المريضَ على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقًا في التدبير وسطًا لائقًا به في جميع أحواله، أوَلا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم، ولحصول منافعهم، ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم؛ كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة: من الآية22)، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (إبراهيم: من الآية32) إلى قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34)، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (النحل:10) إلى آخر ما عدّ لهم من النعم، ثم وُعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادَوا على ما هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته. فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أُخبروا بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كلا شيء؛ لأنها زائلة فانية، وضربت لهم الأمثال في ذلك؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) (يونس: من الآية24)، وقوله: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (محمد: من الآية36)... بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، أو نظرًا إلى هذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ مما أخافُ عليكم مَا يُفْتَح لكم من زهرات الدنيا»(1). ولمّا لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: من الآية32)، وقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) (المؤمنون: من الآية51)... ولمّا ذم الدنيا ومتاعها همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتّلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني»(2)، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: من الآية15).
والمال والولد هي الدنيا: وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يُزهِّدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك. وما سواه فلا ... فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.
وعلى هذا : إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها، والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار والنفقات)(3).
______________
(1) رواه مسلم: (1052).
(2) سبق تخريجه: (ص 29).
(3) الموافقات: (2/100-114) باختصار، ط. دار الفكر.
المبحث الأول
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن
في أبواب الاعتقاد وأصول الدين(/21)
لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلو والإفراط وبين التفريط والتقصير. وسلَّم الله عز وجل من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط. وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.
ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أهل السنة والجماعة وأنهم وسط في دين الله عز وجل بين الغالي والجافي؛ قال رحمه الله تعالى:
«[ 1 ] وهذه الفرقة الناجية «أهل السنة» وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل؛ فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.
ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79، 80).
[ 2 ] ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في «المسيح»؛ فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا هذا عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.
[ 3 ] وكذلك المؤمنون «وسط في شرائع دين الله»؛ فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142)، وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).
ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»(1).
[ 4 ] والمؤمنون قالوا: «لله الخلق والأمر» فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه.
وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: من الآية1). وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا.
[ 5 ] وكذلك في صفات الله تعالى؛ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة؛ فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة، وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به؛ فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب.
والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:93- 95).(/22)
[ 6 ] ومن ذلك أمر الحلال والحرام؛ فإن اليهود كما قال الله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء: من الآية160)؛ فلا يأكلون ذوات الظفر؛ مثل الإبل والبط. ولا شحم الثرب والكليتين؛ ولا الجدي في لبن أمه. إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما؛ حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا. والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
ولهذا قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:156، 157).
وهذا باب يطول وصفه.
[ 7 ] وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَق؛ فهم في «باب أسماء الله وآياته وصفاته» وسط بين «أهل التعطيل» الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين «أهل التمثيل» الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل.
[ 8 ] وهم في «باب خلقه وأمره» وسط بين المكذبين بقدرة الله؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل؛ فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية148).
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير؛ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله؛ فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله(2).
[ 9 ] وهم في «باب الأسماء والاحكام والوعد والوعيد» وسط بين الوعيدية؛ الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.
[ 10 ] وهم أيضاً في «أصحاب رسول الله» صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما. ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته(3).(/23)
[ 11 ] وكذلك في سائر «أبواب السنة» هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان»(4) ا.هـ.
ويضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - من الأمثلة على الوسطية والتوازن في أبواب الاعتقاد ما يلي:
[ 12 ] التوازن بين الخوف والرجاء:
وهذا كثير في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ فقلما تأتي آيات الوعيد والتخويف وذكر عظمة الله عز وجل وبطشه إلا ويسبقها أو يلحقها ذكر آيات الوعد والرجاء، وذكر رحمة الله تعالى وبره ولطفه.
ومن نزع إلى آيات الخوف والوعيد ونسي آيات الوعد والرجاء فإنه مجانب للعدل والوسطية وفيه شبه من الخوارج الوعيدية. ومن نزع إلى آيات الرجاء والوعد ونسي آيات الوعيد والتخويف، فإنه أيضاً يعد مجانبًا للعدل والوسط وفيه شبه من المرجئة.
والمذهب الوسط الحق هو مذهب أهل السنة والاتباع الذين يجمعون بين الأدلة كلها ويقبلون على الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء: خوف يسوقهم ورجاء يحدوهم. ويفصل القول في التوازن بين موجبات الخوف والرهبة وموجبات الأنس والرجاء الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فيقول: «والتوازن في علاقة العبد بربه بين موحيات الخوف والرهبة والاستهوال، وموحيات الأمن والطمأنينة والأنس؛ فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي حياة الناس والأحياء، تجمع بين هذا الإيحاء وذاك في توازن تام.
ويقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب ويزلزل الفرائص، ويهز الكيان، من مثل قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: من الآية24).
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16).
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )(البقرة: من الآية235).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة: من الآية196).
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:44،45).
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج:12).
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران: من الآية4).
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102).
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (المزمل:11-14).
وصور العذاب في مشاهد القيامة رعيبة رعيبة ... ويقرأ المسلم كذلك من صفات ربه ما يملأ قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنسًا وقربًا، ونفسه رجاء وأملا: من مثل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية186).
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) (النمل: من الآية62).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96).
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (البروج:14).
(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: من الآية207).
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (الكهف:2، 3).
وصور النعيم في مشاهد القيامة رخية رخية!
ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس، والفزع والطمأنينة، ويسير الإنسان في حياته، يقطع الطريق إلى الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول الأمل، حذرًا من المزالق، صاعدًا أبدًا إلى الأفق الوضيء. لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى. وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله؛ وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.(/24)
وحين نوازن بين هذا التصور وتصور الإغريق لكبير آلهتهم، القاسي الحسود الشهوان العربيد، المضطغن الحقود. أو تصور الإسرائيليين المنحرف لإلههم الغيور المتعصب، البطاش المتهور. أو تصور أرسطو لإلهه المترفع الذي لا يُعني نفسه بأمر الخلق على الإطلاق؛ ولا يفكر إلا في ذاته، لأنها أشرف الذوات، ولا يليق بالإله أن يفكر إلا في أشرف ذات! أو تصور الماديين لإلههم «الطبيعة» الصماء العمياء الخرساء! عندئذ تبدو قيمة هذا الجانب المتوازن في التصور الإسلامي، وأثره الواقعي في حياة البشر، وأثره كذلك في منهج حياتهم وأخلاقهم ونظامهم العملي»(5).
ولذلك فالمسلم السوي العدل هو الذي لا ييأس ولا يقنِّط الناس من رحمة الله تعالى، كما أنه لا يأمن ولا يؤمِّن الناس من مكر الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: من الآية87)، وقال في موضع آخر: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).
وبهذا التوازن المنضبط يسير العبد إلى ربه عز وجل محبًا له، خائفًا منه ومن عقابه، طامعًا وراجيًا في ثواب ربه سبحانه، محسنًا الظن به عز وجل. ولذا نجد أن من هذا شأنه يسعى بالعمل والكدح في فعل ما يحبه الله عز وجل، وترك ما يسخطه حبًا لله تعالى، وخوفًا من عقابه، ورجاء ثوابه. أما إذا تغلب جانب على آخر فإن النتيجة ترك العمل أو ضعفه، وإساءة الظن بالله تعالى.
وهنا مسألة وقع فيها شطط وانحراف عن العدل والوسط، ولها مساس بالخوف والرجاء؛ ألا وهي ما وقع فيه طائفة من الصوفية الذين يزعمون محبتهم لله عز وجل حتى قال قائلهم: (ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك ولكن حبًا لك).
وفي مقابل هؤلاء أناس ضعفت محبتهم لله تعالى، وتعبدوا لله تعالى بالخوف والرجاء فقط، ولولا ذلك لم يعبدوا ربهم، وهؤلاء أيضاً جانبوا العدل والوسط. وهَدَى الله عز وجل أهل السنة والاتباع إلى المنهج الحق العدل فجعلوا أصل عبادتهم محبة الله عز وجل، وجعلوا الخوف سائقهم، والرجاء حاديهم؛ فتعبدوا لله تعالى بمحبته وخوفه ورجائه.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته. فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادًا لا يرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه»(6).
وقال قبل ذلك: «ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالرجاء والخوف والمحبة فهو مؤمن»(7).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة: «القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. هذه طريقة أبي سليمان وغيره؛ قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الخوف والرجاء، وغلبة الحب. فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه»(8).
ويقول أيضًا: «وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راجٍ خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه. وكذلك خوفه؛ فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه؛ فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من: ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه. فرجاؤه أعظم رجاء، وأجَلُّه وأتمُّه.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة. فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء؛ وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة؛ بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة؛ بخلاف رجاء الأجير. وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حاليهما»(9).
ويُقَسِّم الناس في مواقفهم من عبادة الله عز وجل مبينًا الموقف العدل والمواقف المنحرفة فيقول: «فالناس في هذا المقام أربعة أقسام:
أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه؛ فهؤلاء أعداؤه حقًا، وهم أهل العذاب الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به، أو إما لإيثار العاجل عليه، ولو كان فيه سخطه.(/25)
والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه؛ وهؤلاء خواص خلقه. قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب:29). فهذا خطابه لخير نساء العالمين، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:19)، فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة. وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران: من الآية152) فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما.
وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه؛ فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله.
والقسم الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله؛ فهذا ناقص غاية النقص. وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ثَمَّ جنة ونارًا؛ فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه ألبتة. بل هذا حال أكثر المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر إلى وجه في الآخرة، وسماع كلامه وحبه، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله. وهم عبيد الأجرة المحضة. فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس ...
القسم الرابع: - وهو محال - أن يريد الله ولا يريد منه؛ فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم(10)، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام. وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئًا ...»(11).
ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في منزلة الأدب: (وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن ... إلخ): «يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله؛ فإن هذا الخوف مذموم.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (حد الخوف: ما حجزك من معاصي الله؛ فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه).
وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه وجهلٌ بها.
وأما (حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن): فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى الحد الذي يأمن معه العقوبة؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وهذا إغراق في الطرف الآخر.
بل حد الرجاء: ما طَيَّبَ لك العبادة، وحملك على السير؛ فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلتها إلى البغية»(12).
[ 13 ] الوسط والتوازن بين التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب:
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطًا. فأحد الطرفين عطَّل الأسباب محافظة على التوكل.
والثاني: عطَّل التوكل محافظة على السبب، والوسط: علم أن حقيقة التوكل لا تتم إلا بالقيام بالسبب، فتوكل على الله في نفس السبب. وأما من عطَّل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمنٍ؛ كمن عطَّل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛ فالتوكل نظير الرجاء، والعجز نظير التمني.
فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلاً له قد فوض إليه، كما يفوض الموكل إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته، ونصحه وأمانته، وخبرته وحسن اختياره. والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه؛ فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدَّره سبحانه ودبره واقتضته حكمته، وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره، بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه، وأخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة.
فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره، وقعد كسلان طالبًا للراحة مؤثرًا للدعة؛ يقول: الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي، ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي، ولو أني هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني.
فيقال له: نعم هذا كله حق، وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك؟ بسعيك أم بسعي غيرك؟ وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه؟ وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت أنه يقدر لك إتيانه عفوًا بلا سعي ولا كد؟ فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك، وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقًا! فإذا رأيت هذا عيانًا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك؟(/26)
وأيضًا فهذا الذي أورَدَتْه عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، فهل تعطلها اعتمادًا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو الأرض من متوكل صبر نفسه لله وملأ قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به، فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن إليه ووثق به، وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه، فلم يعطل السبب، وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده؛ فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك، أو من كماله؛ فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض عن أحدهما إلى الآخر.
ولا ريب أن هذا أكمل حالاً ممن امتلأ قلبه بالسبب، واشتغل به عن ربه. وأكمل منهما من جمع الأمرين؛ وهي حال الرسل والصحابة؛ فقد كان زكريا نجارًا، وقد أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة، ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتماداً على التوكل، بل كانوا أقوم الناس بالأمرين؛ ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه وآله»(13).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5):
«فالأمر له من قبل ومن بعد، وهو ينصر من يشاء؛ لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أراد الله عز وجل أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي ترد الأمر كله إلى الله؛ ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تتحقق فليس داخلاً في التكليف؛ لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل يصلي قائلاً: «توكلت على الله»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»(14). فالتوكل في العقيدة مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله»(15).
ومما له علاقة بمسألة الأسباب فعلاً أو تركًا: ذلك الخلاف القديم والجديد في النظر إلى الأسباب والمبالغة في أثرها والتعلق بها، أو إلغائها وإنكارها؛ فكان الناس فيها طرفين مذمومين منحرفين، وهدى الله عز وجل من شاء من عباده إلى الموقف الوسط العدل فيها.
ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام:
منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقلاء على عقله. وزعم أنه بذلك ينصر الشرع، فجنى على العقل والشرع، وسلط خصمه عليه.
ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار، ومدبر لها يصرفها كيف أراد؛ فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها، ويتصرف فيها كما يشاء ويختار.
وهذان طرفان جائران عن الصواب.
ومنهم: من أثبتها خلقًا وأمرًا، وقدرًا وشرعًا. وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من: كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوع المشيئة والإرادة، ومحل جريان حكمها عليها. فيقوِّي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل - إن شاء - بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، ويُعريها منها، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه؛ ليعلم خلقه أنه الفعَّال لما يريد، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت، مع كونه سببًا.
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد، وإثبات الحِكَم يوجب للعبد - إذا تبصر فيه - الصعود من الأسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارًا وضارها نافعًا ودواءها داءً وداءها دواءً. فالالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكار أن تكون أسبابًا بالكلية قدح في الشرع والحكمة. والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابًا - نقصان في العقل. وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، وشهود الجمع مع تفرقها، والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة. والله أعلم»(16).
[ 14 ] التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية:(/27)
وهذه الصورة من التوازن لها علاقة بالصورة السابقة، ولكن آثرت إفرادها في صورة مستقلة لأهميتها؛ وذلك أن الناس فيها طرفان ووسط.
الطرف الأول: من قصر نظره على ثبات السنن الكونية، واعتمد على ذلك اعتمادًا كليًا دون أن ينظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية، وغفل عن أن الله سبحانه الذي ثبَّت هذه السنن وجعلها مطردة حاسمة قادر متى شاء وكيف شاء أن يخرق هذه السنن؛ لأنه الفعال لما يريد، والقادر على كل شيء. وهذا الطرف الذي أفرط في النظر إلى ثبات السنن الكونية مثله مثل من أفرط في فعل الأسباب وتعلق بها كما في الصورة السابقة.
الطرف الثاني: من نظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية ولم يعتبر بثبات السنن الكونية وترتب النتائج على الأسباب، فأفرط في نظرته لطلاقة المشيئة الإلهية مما جعله يفرِّط في الأخذ بالأسباب والانتفاع من السنن الكونية، بل اعتمد على الخوارق دون بذل الجهد والعمل. وهذا مثله في الصورة السابقة مثل من ترك الأخذ بالأسباب زاعمًا أنه متوكل على الله تعالى.
والوسط: من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها وبذل الأسباب الممكنة دون أن يتعلق بها أو بكونها لا تنخرق أبدًا. بل يؤمن بأن الله عز وجل يخرقها متى شاء لمن بذل الأسباب والجهد واستنفد ما في وسعه من العمل والجهد والجهاد؛ كما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام؛ حيث بذلوا الجهد والعمل في سبيل الله عز وجل، واستحقوا أن ينصرهم الله عز وجل بجند من عنده، ويخرق لهم من السنن الثابتة ما يظن الناس أنها لا تنخرق وهذا هو ما في القرآن الكريم؛ حيث ذكر الله عز وجل أن له سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وفي ضوئها يعمل الناس وتنضبط حركاتهم وأعمالهم، ويكيفون حياتهم وفقها كما قال تعالى: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية43).
وفي مواطن أخرى من القرآن يذكر الله سبحانه أنه فعال لما يريد، وأنه متى شاء سبحانه خرق هذه السنن لمن شاء من عباده كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل:40)، وقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران:40)، وقوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: من الآية47)، وقوله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:68-70). وغيرها من الآيات التي تقرر نفوذ مشيئة الله عز وجل وعدم تقيدها بقيد ما مما يخطر على قلب بشر مما يحسبه الناس قانونًا لازمًا لا فكاك منه.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - : «وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة الإلهية يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها بمنهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته؛ لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئًا، ولا ييئس أمام ضغط الواقع أبدًا. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله - سبحانه - محصورة فيها! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور!
والمسلم يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. ويعمل وفق السُّنَّة، لأنه مأمور بمراعاتها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج؛ فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب طاعة لأمر الله.
وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال، موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان»(17).
[ 15 ] التوازن والوسطية في تكفير المعين :
إن مسألة تكفير المعين مسألة خطيرة وذلك من جهتين:
الأولى: من جهة تكفير المعين الذي لا يستحق التكفير بمجرد شبهات لا ترتقي إلى القطع بتكفيره.
الثانية: عدم تكفير المعين المقطوع بكفره والحكم بإسلامه.(/28)
وبناء على ذلك فإن الناس في تكفير المعين طرفان مذمومان ووسط محمود.
الطرف الأول: من غلا وأفرط في تكفير المعين بمجرد تلبسه بأمر مكفر دون أن ينظر إلى توفر الشروط في تكفيره وانتفاء الموانع. بل إن مجرد التلبس بقول، أو عمل مكفرين، فإنه عند هذا الفريق من الناس كافر بعينه مهما وجد من الموانع من ذلك؛ كالإكراه أو التأول، أو الخطأ أو غير ذلك من العوارض الشرعية..
الطرف الثاني: من فرَّط وتساهل في عدم تكفير المعين حتى أدى به الأمر إلى القول بأنه لا يجوز تكفير المعين مهما أتى بناقض من نواقض الإسلام ما لم يعتقد الكفر ويقصده قصدًا، مهما توفرت الشروط، وانتفت الموانع. وهذا جفاء وتضييع وتفريط ويؤول إلى أنه لا مرتد في الإسلام، وبالتالي لا حاجة إلى وجود أحكام المرتد في الفقه الإسلامي.
الموقف الوسط العدل: من فرَّق بين الكفر ومرتكب الكفر، وفصَّل في ذلك وقال: إن من تلبس بمكفر أو ناقض من نواقض الإسلام فإن المتعين في حقه أن ينظر إلى حال هذا المعيَّن فإذا لم تتوفر الشروط في تكفيره أو وجد مانع من تكفيره؛ كالإكراه والخطأ وغيرهما؛ فإنه لا يجوز تكفيره والحالة هذه. أما إذا رؤي أن شروط تكفيره متوفرة ولا يوجد مانع شرعي من تكفيره فإنه يحكم بتكفيره بعينه وتطبق عليه أحكام المرتد. وهذا التفصيل هو شأن الراسخين في العلم، الذين هم وسط بين الغالي والجافي، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم. وبهذا الموقف العدل يسلم المسلم من تكفير من لم يستحق التكفير، كما يسلم من جعل الكافر أو المرتد في عداد المسلمين.
[ 16 ] التوازن والوسط بين الدنيا والآخرة :
قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
يقول السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... أي قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعًا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يثلم دينك ولا يضر آخرتك»(18).
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه»(19).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة»(20).
والناس في نظرهم للدنيا والآخرة طرفان ووسط:
الطرف الأول: من جعل همه للدنيا وقصر نظره عليها، وكأنه مخلد فيها. وهو وإن كان يؤمن بالآخرة إلا أنه فصلها عن الدنيا ونظر إلى أنه لا يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة؛ فإما أن ينصرف إلى الدنيا وإما إلى الآخرة، واستدل أصحاب هذا الطرف بالنصوص التي فيها الحث على العمل والكسب ونسوا الأدلة الأخرى.
الطرف الثاني: يشارك الطرف الأول في فهمه للدنيا والآخرة؛ وذلك باستحالة الجمع بين الدنيا والآخرة، ويفترق عنه في أنه انصرف إلى الآخرة وانقطع عن الدنيا وأهلها، وترك الدنيا لأهل الفساد يعيثون فيها ويفسدون، واستدل أصحاب هذا الطرف بالآيات التي تحث على الزهد في الدنيا.(/29)
الطرف العدل والوسط: وهم أهل الحق الذين عملوا بالآية التي سبق شرحها في سورة القصص، وعملوا بكل الآيات والأحاديث الواردة في العمل والإصلاح في الدنيا، وكذلك التي وردت في التحذير من الدنيا والاستعداد للآخرة؛ فجمعوا بين النصوص، وتوجهوا إلى الدنيا بعمارتها وإصلاحها، ومدافعة المفسدين فيها، وعدُّوها مزرعة الآخرة فجعلوها في أيديهم لا في قلوبهم، ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها للآخرة، وأنها فانية لا تساوي شيئًا في مقابل النعيم الأبدي في الدار الآخرة.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والناس أقسام:
أصحاب «دنيا محضة»: وهم المعرضون عن الآخرة.
وأصحاب «دين فاسد»: وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهادات.
و «القسم الثالث»: وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق»(21).
ويقول الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله تعالى -:
«وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية:
فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان بلي بعض المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى، كما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومَنْ بعدَهم حصل عندهم الاضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا، وركن إليها، ولم يتحرز من قبول أي ولاية، ولم يتحرز من قبول أي منصب، ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛ فتوسعوا في ذلك توسعًا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومنهم طائفة مالت إلى العكس: فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا، حتى أنهم حرَّموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من يأخذ شيئًا من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق.
فهذا الأمر وإن كان أمرا واقعيًا - أي في التطبيق العملي - إلا أنه يوصلنا ويدلنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه.
خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة: وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله ويجمعون الدين كله»(22).
ويجلي هذه الحقيقة سيد قطب - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلاً للالتقاء بين الطرفين. ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع؛ لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا.
حقيقة: إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين. كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه. ولكن تراها ضربة لازب! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؟
كلا إنها ليست ضربة لازب! فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل، بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلاً، إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ!(/30)
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي. هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية؛ ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، ووفرة ونماء، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم ...
والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق؛ فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي ... إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الحياة الدنيا، والنجاح في الحياة الأخرى؛ إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسة فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله، وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه.
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا، فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى.
إنهم يؤدونها قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه، إذا هم آثروا اطراح الدين كله، على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب، ولا تطيق الفراغ والخواء. وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية، أو فلسفية، أو فنية على الإطلاق، لأنها جوعة النزعة إلى إله.
وهم يؤدونها كذلك قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله، وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني، والسلوك الديني، مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء، سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة العملية، وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله، وأن الحياة للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق، والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل!
وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسق.
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة، في فترة موقوتة؛ إذ نرى أممًا لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء.
إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني. والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:
- تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم؛ مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء، وحافلاً بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة. وهو بلاء على رغم الرخاء!..
- وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعًا من عدالة التوزيع، واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام!
- وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلاً أو آجلاً - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها. فالعمل والإنتاج والتوزيع: كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق. والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان!(/31)
- وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديًا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج، وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحاً كافياً يلفت الأنظار!
- وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة. وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية. ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء»(23) ا.هـ.
[ 17 ] العدل والتوازن في الولاء والبراء :
الولاء والبراء صلب عقيدة التوحيد؛ فكلمة التوحيد نصفها براءة من الشرك وأهله؛ وذلك من قول: (لا إله). والنصف الآخر ولاء لله عز وجل وعبودية له سبحانه؛ وذلك من قول: (إلا الله)؛ فالعبد لا يصح توحيده إلا بعبادة الله عز وجل وموالاته، ومحبة ما يحبه ومن يحبه سبحانه، والبراءة من كل ما يعُبد من دون الله تعالى، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه عز وجل. ولقد حصل في عقيدة الولاء والبراء - كما في غيرها من أبواب الاعتقاد - غلو وجفاء، فكان الناس في فهم الحب والولاء طرفان ووسط:
الطرف الأول: من غلا وأفرط في فهمه للمحبة والولاء؛ حيث غلا في الحكم على من وقع في موالاة الكفار، ولم يفرق بين الموالاة المكفرة وغير المكفرة، بل عدَّ أي نوع من أنواع الموالاة للكفار ردة وكفر. كما أن هذا الطرف لم يفرق بين المداراة والمداهنة؛ فعدَّ أي صورة من صور المداراة والتقية مداهنة وموالاة، كما غلا في بغضه للمخالف فتبرأ منه كما يتبرأ من الكفار.
الطرف الثاني: من فرَّط في فهمه وتطبيقه لهذه الشعيرة العظيمة، ووقع في موالاة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية، ولم يفرق بين المحرم منها والمخرج من الملة، بل هي عنده إما جائزة أو محرمة لا تخرج من الملة.
الموقف الوسط: وهو موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ وهو وجوب محبة الله عز وجل، ومحبة ما يحبه من الإيمان والأعمال الصالحة، ومحبة من يحبه سبحانه من أنبيائه وأتباعهم من المؤمنين، وبغض ما يبغضه الله عز وجل من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، والبراءة ممن يبغضه الله عز وجل من أهل الشرك والكفر والعصيان، ولكنهم يفرقون بين الكافر والعاصي في الموالاة؛ فهم يتولون المؤمنين الأتقياء ويحبونهم من كل وجه ولا يتبرأون منهم من أي وجه، ويتبرأون من كل كافر ومشرك ومنافق من كل وجه، ولا يوالونهم من أي وجه، وأما المؤمن العاصي المصر على فسقه فهم لا يتبرأون منه بإطلاق، ولا يتولونه باطلاق، بل يتولونه الولاء العام للمؤمنين بما معه من الإيمان، ويتبرأون منه من وجه بما يصر عليه من الفسوق والعصيان.
كما أنهم لا ينظرون إلى موالاة الكفار بحكم واحد، بل يرون أن موالاة الكفار تنقسم إلى: ولاء مكفر مخرج من الملة؛ وهو تولي الكفار ومحبتهم لدينهم، أو مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين، وولاء دون الكفر وهو ما لم يكن توليًا ومحبة ونصرة للكفار؛ فهم لم يعدوا جميع صور موالاة الكفار كفرًا أكبرًا كالطرف الأول، ولم يعدوها جميعها من الأمور المحرمة غير المكفرة كالطرف الثاني؛ فهم وسط بين الطرفين كما أنهم يفرقون بين المداراة والتقية المشروعة وبين المداهنة والتقية المحرمة؛ فلا يلغون المدارة والتقية مطلقًا، ولا يفتحونها على مصراعيها حتى توقعهم في المداهنة والموالاة المحرمة للكفار.
كما أنهم وسط في بغضهم ومحبتهم؛ فلا يغلون في حبهم للأشخاص حتى يقدسونهم أو يخلعون عليهم ثوب العصمة، ولا يغلون في بغضهم للأشخاص حتى يقعوا في ظلمهم وبخسهم حقهم أو اتهامهم بما لا يقولونه أو يعتقدونه أو يعملونه، ولا يتجاهلون حسناتهم وجهادهم وبلاءهم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»(24).
وأعرض فيما يلي بعض الأمثلة لفقد التوازن في الحب أو البغض:
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير أن محمد بن يحيى النيسابوري أخذه الحزن على أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ودفعه حبه لأن يقول: ينبغي لكل أهل دار بغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
علق الذهبي على هذا بقوله: (تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع)(25).
ومن ذلك أن إمام الحرمين أبا المعالي - شيخ الشافعية بنيسابور - حين مات غلقت الأسواق، وكسر أربعمائة من تلاميذه محابرهم وأقلامهم وجلسوا عامًا لا يغطون رؤوسهم، يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. قال الذهبي: (هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين)(26).(/32)
ومن ذلك قول من قال في الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر؛ يظنون أنه من الملائكة) وقول الآخر: (نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة). علق الذهبي على هذا الغلو منصفًا المحب والمحبوب بقوله: (هذا غلو لا ينبغي، لكن الباعث له حب ولي الله في الله)(27).
ومن صور غلو المخالفين في البغض:
التهوين من شأن مخالفهم والحط من قدره إلى درجة لا تعقل ولا تليق؛ ومن ذلك أن فقيهًا من فقهاء العراق - وهو من أهل الرأي - لما رجع من الحج أراد أن يبشر أهل الكوفة بتقدمهم في علوم الشريعة على من خالفهم فقال: (أبشروا يا أهل الكوفة؛ فإني قدمت على أهل الحجاز، فرأيت عطاء وطاووسًا ومجاهدًا، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم). يقول المغيرة - راوي هذه الواقعة -: (فرأينا أن ذاك بغي منه)(28).
وقد يدفع البغض أصحاب الغلو إلى الافتراء والبهتان؛ ومن ذلك أنه نسب البعض إلى ابن كُلاّب - رأس المتكلمين في البصرة - الذي كان يرد على المعتزلة والجهمية أنه إنما ابتدع ما ابتدعه - من القضايا الكلامية - ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك. يقول الذهبي في إنصاف الرجل: (وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة)(29).
ومن الافتراء على أهل العلم ما دُسَّ على ابن بطوطة في كتابه من أنه سمع ابن تيمية يقول على منبر مسجد دمشق الأموي: (إن الله ينزل كل ليلة ..) قال: كنزولي هذا، ونزل على المنبر. افتروا ذلك على ابن تيمية لتأييد دعواهم فيما ينسبونه إلىه من التشبيه والتجسيم، مع أن ابن تيمية كان في سجن قلعة دمشق أثناء مرور ابن بطوطة بدمشق(30).
وفي واقعنا المعاصر صور وأمثلة مؤذية من الغلو وفقدان العدل في الحب أو البغض، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى ذكر وتفصيل، وإن كان سيأتي لها ذكر في مبحث العدل والتوازن مع المخالف إن شاء الله تعالى.
[ 18 ] العدل والتوازن في الموقف من العقل :
أهل السُّنة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وردوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء؛ وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول. وكلا الطرفين ابتعد عن منهج أهل السُّنة، وهدى الله السلف وأتباعهم لما اختُلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به، ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجَّهوه لتدبرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تحط به العقول منها. والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية؛ كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وكما في قوله تعالى - وفي أكثر من آية -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم: من الآية24)، وقوله: (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّس: من الآية68)(31).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان: تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.
والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يُكذِّب به صريح العقل.
ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم.
بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلا بذلك؛ لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.(/33)
والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم»(32).
مسألة: تتعلق بدور العقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها:
وهذه أيضًا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق، وهدى الله عز وجل أتباع السلف إلى الحق فيها. فكان الناس فيها طرفان مذمومان ووسط عدل محمود.
الطرف الأول: من غلا وأفرط في دور العقل واستقلاليته في معرفة قبح الأشياء وحسنها، حتى آل بهم الأمر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت بالعقل وليس متوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.
الطرف الثاني: من فرَّط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح وإنما ذلك متوقف على الشرع.
الوسط العدل: يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.
وقد أفاض الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ذكر الأدلة التي يرد بها على الفريقين المذمومين: الغلاة والجفاة، وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال - رحمه الله تعالى -: «فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين من الناس: طائفة من أهل الكلام والنظر، وطائفة من أهل السلوك والإرادة.
فنفى لأجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين، وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه، بحيث يكون منشأ القبح، وكذلك الحسن، فليس للفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح، ولا مصلحة ولا مفسدة، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين السفاح والنكاح، إلا أن الشارع حرَّم هذا وأوجب هذا؛ فمعنى حسنه كونه مأمورًا به، لا أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبحه كونه منهيًّا عنه، لا أنه منشأ مفسدة، ولا فيه صفة اقتضت قبحه، ومعنى حسنه أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة، ولا فيه صفة اقتضت حسنه.
وقد بينا بطلان هذا المذهب من ستين وجهًا في كتابنا المسمى «تحفة النازلين بجوار رب العالمين»(33) وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك. وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطلانه.
فإن هذا المذهب - بعد تصوره، وتصور لوازمه - يجزم العقل ببطلانه. وقد دل القرآن على فساده في غير موضع، والفطرة أيضاً وصريح العقل.
فإن الله سبحانه فَطَر عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة والإحسان، ومقابلة النعم بالشكر. وفَطَرَهم على استقباح أضدادها. ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النَّتْن إلى مشامِّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم. وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون بين طيبه وخبيثه، ونافعه وضاره.
وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى الملائمة والمنافرة، بحسب اقتضاء الطباع، وقبولها للشيء، وانتفاعها به، ونفرتها من ضده.
قالوا: وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام في كون الفعل مُتَعَلّقًا للذم والمدح عاجلاً، والثواب والعقاب آجلا. فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنه لا يعلم إلا بالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتضٍ له.
فيقال: هذا فرار من الزحف؛ إذ ههنا أمران متغايران لا تلازم بينهما:
أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشأ لهما أم لا؟
والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المرتب على قبحه، ثابت - بل واقع - بالعقل، أم لا يقع إلا بالشرع؟
ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم، وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعًا استطالوا عليكم، وأبدوا من فضائحهم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه؛ وهم غلطوا في تلازم الأصلين، وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل: أنه لا تلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحًا موجبًا للعقاب مع قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان والأوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع.(/34)
فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع. والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل. وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا. لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل.
وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح. ونحن نبين دلالته على الأمرين:
أما الأول: ففي قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: من الآية15)، وفي قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية165)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الملك: من الآيتين 8، 9)؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذُر. وبذلك دخلوا النار ...
وأما الأصل الثاني: وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير جداً كقوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:28- 33)؛ فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشةٌ قبل نهيه عنه. وأمر باجتنابه بأخذ الزينة. و «الفاحشة» ههنا هي طوافهم بالبيت عُراة - الرجال والنساء- غير قريش. ثم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) أي لا يأمر بما هو مناف للحكمة.
ثم قال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام: قل إنما حرم ربي ما حَرَّم. وكذلك تحريم الإثم والبغي؛ فكون ذلك فاحشة وإثمًا وبغيًا بمنزلة كون الشرك شركًا؛ فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده.
فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركًا بعد النهي، وليس شركًا قبل ذلك.
ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك؛ لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.
نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحًا؛ فكان قبحها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها، وذَمّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها. كما أن العدل والصدق والتوحيد، ومقابلةَ نِعمَ المنعم بالثناء والشكر: حسن في نفسه، وازداد حسنًا إلى حسنه بأمر الرب به، وثنائه على فاعله. وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله»(34).
[ 19 ] العدل والتوازن في الإخلاص لله تعالى :
الإخلاص شرط في صحة الأعمال وقبولها عند الله عز وجل. والإخلاص عمل قلبي تبدو آثاره على الأعمال الظاهرة، وهو كغيره من الأعمال يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل بينهما. إذن فالإخلاص فيه طرفان ووسط.
الطرف الأول: طرف الإفراط والتقصير: وأهله هم الذين تتعرض بعض أعمالهم إلى ما يقدح في الإخلاص وابتغاء وجه الله تعالى؛ كأن يريدوا ببعض أعمالهم الدنيا من مال أو منصب أو شهرة وثناء، أو غير ذلك ما يقدح في الإخلاص.(/35)
الطرف الثاني: طرف الغلو والإفراط: وهم الذين يراعون الإخلاص، ويحرصون على أن تكون أعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى، ويحاسبون، ويدققون على أنفسهم في ذلك إلى أن يتجاوزوا العدل الوسط فيه بحيث يصل بهم الحال إلى التشكيك في نواياهم ونوايا الناس، أو يتركون بعض الأعمال الصالحة ظنًا منهم بعدم الإخلاص فيها، أو صعوبة تحقيقه، حتى يؤول الأمر بهم إلى السلبية والقعود عن أعمال البر والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا من تزيين الشيطان ومداخله الخطيرة؛ حيث يتحول الإخلاص إلى عمل سلبي يعوق عن فعل الخير.
الوسط والعدل: وهم الذين يجاهدون أنفسهم في تحقيق الإخلاص في جميع أقوالهم وأعمالهم، ويندفعون إلى كل عمل يرضي الله عز وجل، ولا يلتفتون إلى وساوس الشيطان في ترك ما يحبه الله عز وجل خشية عدم الإخلاص لله تعالى، أو صعوبة تحقيقه. وهم متوازنون في ذلك حيث يرون أن الإخلاص عملٌ قلبيٌ إيجابي يدفع المرء إلى فعل كل ما يستطيعه مما يحبه الله عز وجل ابتغاء مرضات الله تعالى، لا أنه عمل سلبي يحول بين المرء وفعل الطاعات ومجاهدة الفساد والمفسدين.
[ 20 ] العدل والتوازن في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف :
إن المتأمل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نصوصًا كثيرة بعضها يأمر بالاجتماع والائتلاف على الحق، وبعضها ينهى عن التفرق والتنازع، ويحذر من عواقب التفرق في الدنيا والآخرة. وأكتفي هنا بذكر الآيات الواردة في سورة آل عمران والتي جمعت بين الأمر بالاجتماع والاعتصام بحبله وبين النهي عن التفرق والاختلاف:
قال الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...) (آل عمران: من الآية103) إلى قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105).
وأمر الاجتماع والائتلاف كغيره من الأمور السابقة يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل المتوازن بينهما.
الطرف الأول: طرف التقصير والتفريط في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف. وهم الذين يحرصون على اجتماع المسلمين - وبخاصة أهل العلم والدعوة - دون أن يراعوا اختلاف العقائد والنحل. وهذا الطرف من الناس لا يمتنع عنده أن يجتمع أهل القبلة من المسلمين ويتحدوا فيما بينهم دونما مراعاة لتوجهات وعقائد المجتمعين؛ فيمكن أن يجتمع أهل السنة والجماعة مع أهل البدع والأهواء، كالصوفية المبتدعة أو الخوارج أو المرجئة أو المعتزلة، بل إن بعض الحريصين على جمع الكلمة لا مانع عنده من الاجتماع والتقارب مع أهل البدع الكفرية كالشيعة الرافضة والعلمانيين المنافقين. ولنا أن نتصور هذا الاجتماع المشكل من خليط من العقائد: كل عقيدة تضاد الأخرى، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فرقة لها مصادر تلقِّيها واستدلالها. فماذا عسى أن يثمر مثل هذا الاجتماع إلا المر والحنظل؛ لأنه لن ينتج عنه إلا تنازلات أو مزايدات تخرم أصول أهل السنة والجماعة وثوابتهم.
نعم؛ قد تمر بأهل السنة والاتباع ظروفٌ طارئة يضطرون فيها إلى أن يتحالفوا أو يجتمعوا مع بعض أهل القبلة المبتدعة - لا مع الكفرة الملاحدة - في دفع خطر داهم من قبل الكفار على بلاد المسلمين، أو في دفع منكر وفساد يتفق على دفعه الجميع. وهذا الاجتماع طارئ ومؤقت وفي مهمة معينة، لا أنه دائم وثابت أو أن فيه تنازلاً لأهل البدع أو سكوتًا عن بدعهم.
الطرف الثاني: الغالي والمفْرِط في تحقيق ضوابط الاجتماع؛ وذلك بأن يحَجِّر واسعًا، ويتشدد في وضع الشروط والضوابط التي تؤول بأهله إلى أن يرسموا لأنفسهم كيانًا معينًا مغلقًا يرون أنه هو الحق، وهو الممثل لكيان أهل السنة والاتباع؛ فمن دخله كان منهم ومن أخل بشيء من ضوابط الدخول فهو خارج عن دائرة أهل السنة وما كان عليه سلف الأمة. ولا يخفى ما في هذه النظرة من الغلو والإعجاب بالنفس؛ لأن أصحاب هذا الطرف سيجدون أنفسهم في دائرة ضيقة تمثل أهل السنة عندهم، وغيرهم خارج هذه الدائرة مستحقون للتبديع والتحذير منهم. وحجة هذا الطرف أن من تلبس بأي بدعة دقت أو جلت، وسواء كانت في العقائد أو الأعمال، وسواء كان المتلبس بها جاهلاً أو مقلدًا؛ كل أولئك مبتدعة ولا يجوز الاجتماع معهم. وقد يكون هذا المتلبس ببدعة دقيقة يعتقد ويتبع ما كان عليه سلف الأمة في جميع أموره غير أنه تلبس ببدعة أو بدعتين؛ فهذا عندهم من المفارقين، وقد تكون المخالفة في مسألة اجتهادية أو تدور بين راجح ومرجوح وليست في مسألة أصولية، ومع ذلك نجد أن هذا الطرف من الناس يفارق عليها، وينابذ صاحبها. وهذا من الغلو والإفراط المؤديين إلى مزيد من الفرقة والتخاصم والتدابر.(/36)
الموقف المتوازن وهو الوسط العدل: وهم الذين يحرصون على الاجتماع والائتلاف بين أهل السنة، دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة وثوابتها؛ فهم ليسوا كالطرف الأول المفرِّط في ضوابط الاجتماع الشرعية بل يخالفوهم في ذلك؛ فلا يرون الاجتماع مع أهل البدع المعروفين بأصولهم البدعية وبالدعوة إليها، ولو كانوا من أهل القبلة - كالخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم - فضلاً عن أن يكونوا من الخارجين عن الملة كفرق الباطنية من رافضة وغيرهم. ومع ذلك فهم لا يذهبون إلى رأي الطرف الغالي المفرِط في تحقيق شروط الاجتماع، بل إنهم يرون الاجتماع مع كل منتسب لأهل السنة والجماعة غير متبنٍ لأصل من أصول أهل البدع، ولو تلبس ببدعة من البدع جهلاً منه أو تقليدًا. فهذا عند الطرف العدل يعد من أهل السنة والجماعة جملة، وإن خالفهم في مسألة جزئية من مسائل الاعتقاد؛ فمثل هذا يقال إنه من أهل السنة بالجملة مخالف لهم في بدعته التي هو عليها؛ وعندها لا يُفَارق عليها ما دام أنه لم ينطلق في مخالفته تلك من أصول أهل البدع، مع الاجتهاد في نصحه وإزالة الشبهة عنه.
كما أنهم من باب أولى لا يجعلون المسائل الاجتهادية التي يخالفون فيها غيرهم سببًا في الافتراق، بل يرون الاجتماع مع المنتسبين لأهل السنة والاتباع ولو اختلفوا معهم في فرع أو أكثر من فروع الأحكام. فما زال العلماء من القديم وفي عصرنا يختلفون في أحكامهم واجتهاداتهم، ومع ذلك فقد كانوا إخوانًا متآلفين لم يتفرقوا بسبب اختلافاتهم.
ومن الفقه بمقاصد الشريعة المحافظة على الكليات ولو تخلفت بعض الجزئيات؛ أما أن يعكس الأمر فيحافظ على جزئي، ولو أدى إلى ذهاب الكلي، فهذا غلط وقلة فقه بمقاصد الشريعة. وبناء على ذلك فإن الاجتماع أصل كلي فلا يُفرَّط فيه ولا يضيع بمحافظتنا على جزئي فرعي. أما إذا أدى الاجتماع إلى ذهاب الكليات والتنازل عن الثوابت فهذا اجتماع باطل وهو كالزبد يذهب جفاءً؛ لأنه مبني على شفا جرف هار.
______________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: (14/210)، ورواه مختصرًا الترمذي في تفسير سورة براءة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالسلام بن حرب.
(2) وقد توسع الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة المهمة بكلام نفيس حيث قال: (والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة، وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم قضية «القضاء والقدر» أو «الجبر والاختيار». والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها ولا معها وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها. وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزًا ممتازًا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة؛ وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه.
ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51)، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء: من الآية78)...
ويقرأ كذلك في الجانب الآخر: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53)، (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7- 10)، (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) (النساء: من الآية111).(/37)
ثم يقرأ بعد هذا وذلك: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56)، (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: 29، 30)، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (آل عمران: 165، 166).
يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة؛ فيدرك منها سعة مفهوم «القدر» في التصور الإسلامي، مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة الإنسانية في حدود هذا القدر المحيط.
لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه - في هذه القضية - ولم تعد إلا بالحيرة والتخليط بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي المسلمين أنفسهم .. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الإغريقية أكثر مما تأثروا بالمنهج الإسلامي في علاج هذه القضية.
في التصور الإسلامي ليست هناك «مشكلة» في الحقيقة، حين يواجَه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه:
إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما يُخلق من الأحداث والأشياء والأحياء .. وهو الذي يصرّف حياة الناس ويكيّفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، وكون مرد الأمر كله إلى المشيئة الإلهية المطلقة، لا يبطل هذا ولا يعطله. فالأمران يجيئان مجتمعين أحياناً في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج، ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا عن حقيقة العلاقة بين المشيئة الكبرى وحركة الإنسان في نطاقها. إلا أن المنهج الصحيح: هو ألا نستمد تصوراتنا في هذا الأمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات الإلهية في المجال الذي لا دليل لنا فيه غير ما يطلعنا الله عليه منه؛ فهو قال: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (المزمل: من الآية19)، وهو قال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: من الآية30)، وهو قال: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، وهو قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: من الآية125)، وهو قال في الوقت نفسه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46).
فلا بد إذن - وفق تصور المسلم لإلهه وعدله في جزائه، وشمول مشيئته وقدره - من أن تكون حقيقة النسب بين مدلولات هذه النصوص في حساب الله من شأنها أن تسمح للإنسان بقدرٍ من الإيجابية في الاتجاه والعمل، يقوم عليه التكليف والجزاء دون أن يتعارض هذا القْدر مع مجال المشيئة الإلهية المطلقة، المحيطة بالناس والأشياء والأحداث .. كيف؟
كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها .. ليس في مقدور العقل البشري إدراكها. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق - مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله ورحمته وفضله - فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان، وبالتأثرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النِّسَب وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني. إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة والعلم المطلق الكامل. متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء.(/38)
وبهذا وحده يقع التوازن في التصور، والتوازن في الشعور، والاطمئنان إلى الحركة وفق منهج الله، والتطلع معها إلى حسن المصير ... إن الله قادر طبعًا على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه - أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة، وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحدًا من خلقه ليس إلهًا! وليس لديه العلم والإدراك - ولا إمكان العلم والإدراك - للنظام الكلي للكون، ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها.
والله وحده هو الذي يعلم؛ لأنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه،وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: من الآية14).
[عن كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: ص 143-150] مختصرًا.
(3) فهم وسط بين هؤلاء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم، ولا يغلون فيهم ولا يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها.
(4) مجموع الفتاوى: (3/370-375).
(5) خصائص التصور الإسلامي: (ص 160-162) باختصار.
(6) مجموع الفتاوى: (10/21).
(7) مجموع الفتاوى: (10/21).
(8) مدارج السالكين: (2/145) ط دار طيبة.
(9) مدارج السالكين: (2/227، 228) ط دار طيبة.
(10) وهم الذين يدَّعون أنهم يعبدون الله حبًا له لا رجاءً لثوابه ولا خوفًا من عقابه!!
(11) مدارج السالكين: (2/297-299) ط دار طيبة.
(12) مدارج السالكين: (3/214) ط دار طيبة.
(13) الروح: (ص 541، 542).
(14) رواه الترمذي: (2649)، وصححه الألباني برقم (2044) في صحيح سنن الترمذي.
(15) في ظلال القرآن: (5/2758).
(16) مدارج السالكين: (1/440، 441) ط دار طيبة.
(17) خصائص التصور الإسلامي: (ص 141، 142).
(18) تفسير السعدي: (4/40).
(19) تفسير ابن كثير عند الآية: (77) من سورة القصص.
(20) في ظلال القرآن: (5/2711).
(21) مجموع الفتاوى: (10/622، 623).
(22) عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: (وسطية أهل السنة والجماعة).
(23) في ظلال القرآن: (2/931 - 934) باختصار.
(24) رواه الترمذي في البر والصلة باب الاقتصاد في الحب والبغض، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (178).
(25) نزهة الفضلاء: (ص 814).
(26) نزهة الفضلاء: (ص 1311).
(27) نزهة الفضلاء: (815، 816).
(28) نزهة الفضلاء: (ص 486).
(29) سير أعلام النبلاء: (11/174).
(30) انظر (فقه الائتلاف) للأستاذ محمود الخزندار -رحمه الله تعالى-: (ص 330).
(31) انظر كتاب (فاستقم كما أمرت): (ص 170، 171) للمؤلف.
(32) مجموع الفتاوى: (3/338، 339).
(33) لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: (مفتاح دار السعادة)؛ حيث ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجهًا على بطلان هذا المذهب.
(34) مدارج السالكين: (1/420-427) باختصار، ط. دار طيبة.
المبحث الثاني
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو: ذروة سنامه، والطريق إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله عز وجل. وخيرية هذه الأمة وعزتها متوقفان على القيام بشعيرة الأمر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المرضي لله تعالى جاءت الآيات والأحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن الانحراف بها يمينًا وشمالاً، وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة للأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس.
وقد افترق الناس في القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا الأمر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية للأمر والنهي، ودون النظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودون مراعاة لأحوال الزمان أو المكان أو الأشخاص، بل قد يصل بهم الإفراط إلى الخروج على الأمة بالسيف، كما حصل ذلك من الخوارج، والمعتزلة ومن تأثر بهما.(/39)
ويتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن شمول الشريعة وكمالها وخيريتها ويضرب لذلك أمثلة فيقول: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعَاش والمعاد، وهي عَدْل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجوْرِ، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي مَنْ استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، وبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة.
وكلُّ خير في الوجود فإنما هو مستفَاد منها، وحاصل بها. وكل نقص في الوجود، فسببه من إضاعتها. ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبت الدنيا، وطُوِى العالم، وهي العصمة للناس، وقِوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خَرابَ الدنيا، وطَىَّ العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:
المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يُحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسُوغ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله ... ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه منكر أكبر منه ... فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة: موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمةُ. فإذا رأيت أهلَ الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كَرْمي النُّشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفُسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتَصْديِة، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفْت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدَع والضلال والسحرة، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع»(1).
الطرف الثاني: أهل التفريط والتقصير: وهم الذين قعدوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد، وبرروا ذلك باجتناب الفتن التي تترتب على الأمر والنهي كما حصل ذلك من المرجئة وأهل الفجور.
الموقف الوسط المتوازن: وهو الذي عليه أهل الاستقامة؛ أهل السنة والجماعة الذين قاموا بشعيرة الأمر والنهي مراعين في ذلك الضوابط الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، وحَذِروا وحذَّروا من الخروج على جماعة المسلمين بالسيف، ومع ذلك فهم يصدعون بالحق من دون سيف ولا عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من الأذى ما أصابهم؛ قال الله عز وجل: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).
وعن هذين الطرفين المذمومين - طرف الإفراط وطرف التفريط - يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك»(2).
أما عن الوسط بين هذين الطرفين فيقول رحمه الله تعالى: «ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان، كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.(/40)
وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميعًا أو ينهى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة، كما قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(3)، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق. ولأجل ما يُظَنُّ مِنْ تعارض هذين تَعْرِض الحيرة في ذلك لطوائف الناس. والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك - ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه»(4) ا.هـ.
أما الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن كان يدخل في الكلام السابق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه من المهم أن يفرد بكلام خاص عن الوسط والطرفان المذمومان اللذان بكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل: ما بين قاعد عاجز لا يفكر في الاستعداد وإعداد العدة للجهاد، وما بين متسرع ومطالب بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد الأدنى من القدرة والبيان الذي تستبان فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. وبين هذين الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن.
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن هذين الطرفين المذمومين فيقول: «وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي التي تحدد هذه وتلك ..
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفًا وحماسة وشدة واندفاعًا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام - كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! - فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوًا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله؛ من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء .. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام»(5).
ولمزيد من التفصيل يمكن القول بأن الناس في موقفهم من الجهاد في سبيل الله تعالى طرفان ووسط:
الطرف الأول: هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها.
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر. وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل.
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل. ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب.(/41)
وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية»(6) ا.هـ.
الطرف الثاني: وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم .. إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة؛ ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا ودعوة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمَّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»(7) ا.هـ.
وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار.
الموقف الوسط المتوازن: وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار. ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس وأوضح سبيل المجرمين وحذر منها، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.
تنبيه:
ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد دفع لا يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل الإيمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم الأمر.
____________
(1) إعلام الموقعين: (3/5-7) باختصار.
(2) الآداب الشرعية: (1/177).
(3) البخاري في الفتن، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» ح (7056)، ورواه مسلم في الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح (1709) .
(4) الاستقامة: (1/41، 42).
(5) في ظلال القرآن: (2/734).
(6) في ظلال القرآن: (3/1581).
(7) الصارم المسلول: (2/414).
المبحث الثالث
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في العبادات(/42)
والمقصود بالعبادات هنا: تلك العبادات التي بين العبد وربه - سبحانه - كما هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة القرآن وغيرها، مما لا يدخل في معاملات الخلق. وهذا من باب التقسيم الفني فقط، وإلا فكل أعمال العبد وحركاته ومعاملاته ينبغي أن تكون كلها عبادة لله تعالى، وأن يكون فيها العبد مستسلمًا لربه خاضعًا لشرعه؛ قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163).
وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها، ولكي تبرز هذه السمة بصورة واضحة فلا بد من التعرض للمناهج الأخرى السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطًا أو إفراطًا؛ وذلك كما يلي:
«المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوارة - بعد تحريفها - لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوارة ذكراً للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفاً من عقوبة عاجلة، بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153)، وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو. وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أيَّ حياة؛ حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95)؛ لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا وعبادتهم لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24)، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).
أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعلائها وتمجيدها، والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس: تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مؤذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة ولا برهان؛ (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27)....
وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم، ولذلك أُمِرْنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7)»(1).
إذن فشريعة الإسلام وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على التفريط والجفاء، وبين المنهج القائم على الغلو والإفراط والرهبانية.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.
فالقسم الأول: أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه.
والقسم الثاني: المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم. هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم؛ وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها، أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيرًا منهم.(/43)
والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون أن لا يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله عليّ أن لا آكل طعامًا بالنهار أبدًا، ويعاهد أحدهم أن لا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر. فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء، وهذا يلتزم أن لا يأكل الخبز، وهذا يلتزم أن لا يشرب الفُقَّاع(2)، وهذا يلتزم أن لا يتكلم قط، وهذا يَجُبُّ نفسه، وهذا يلتزم أن لا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة.
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله)(3) لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله؛ فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد في ذلك، ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق»(4).
ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعض النماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي:
النموذج الأول :
عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(5).
يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن: «فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل»(6).
ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذا الحديث وأمثاله فيقول: «والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة؛ كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال: (فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظامًا بشريًا لا تُدَمَّرْ فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير»(7).
النموذج الثاني :
عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)(8). فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.
النموذج الثالث :
«آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان)(9).
النموذج الرابع :(/44)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: (من هذه؟) فقلت: امرأة لا تنام تُصلي. قال: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا)، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه»(10). وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.
النموذج الخامس :
عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل مدود بين ساريتين. فقال: (ما هذا؟) قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد)(11).
«فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حرصًا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع»(12).
ولنستمع الآن إلى تعليق الإمام النووي النافع حول هذين الحديثين حيث يقول: «فيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصاً بالصلاة بل هو عام في جميع أعمال البر ... وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة...)(13).
ويلاحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلو والإفراط، وأنه قد ينتهي بصاحبه إلى الانقطاع والتوقف، أو الزيادة على ما لم يشرعه الله عز وجل، وبالتالي يصبح مردوداً على صاحبه.
وفي مقابل الغلو نهى الله عز وجل عن التفريط والإضاعة للصلاة، فقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره لهذه الآية: «لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، ذكر أنه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ). أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ). وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها؛ فهؤلاء سيَلْقَوْن غيًّا أي: خسارة يوم القيامة»(14).
النموذج السادس :
في قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «قال الإمام أحمد(15): حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم، متوارٍ بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا). قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ)؛ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن، حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً). أخرجاه في الصحيحين(16) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به.
وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء»(17).
وقال القرطبي: «روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قالت: أنزل هذا في الدعاء»(18).
والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما؛ وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار؛ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).
النموذج السابع :
في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205).
قال القرطبي: « (وَدُونَ الْجَهْرِ): أي دون الرفع في القول؛ أي أسمع نفسك؛ كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) أي بين الجهر والمخافتة»(19).
النموذج الثامن :
في قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55).(/45)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا رضي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) (مريم:3) وقال ابن جريج: يُكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): في الدعاء ولا في غيره. وقال أبو مجلز: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يسأل منازل الأنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي، حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدًا سمع ابنًا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوًا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء» وفي لفظ: «يعتدون في الطهور والدعاء» وقرأ هذه الآية: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل(20) ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن ابن لسعد عن سعد فذكره والله أعلم، وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها؛ فقال: يا بني، سل الله الجنة وعُذْ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور)(20)»(21).
النموذج التاسع :
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»(22)، والناس مع الرخص الشرعية طرفان ووسط.
الطرف الأول: من يتمادى في أخذ الرخصة، ويسترسل معها حتى يخرج بها عن المقصود الشرعي.
الطرف الثاني: من يتشدد في الورع حتى يترك الرخص الشرعية ويشدد على نفسه.
الوسط: وهو الذي يعظم أمر الله عز وجل ونهيه؛ فلا يعارضهما بترخص جاف ولا يعرضهما لتشديد غال ويزهد في رخص الله عز وجل.
ويفصل هذا الأمر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: «فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارَضا بترخُّص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال؛ فإن المقصود هوالصراط المستقيم الموصل إلى الله - عز وجل - بسالكه.
وما أمَرَ الله - عز وجل - بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراطٌ وغُلُوٌّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشامه: فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا؛ أخذه من هذه الخطة، فثبَّطه، وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرخاء، وغير ذلك، حتى ربما ترك العبدُ المأمورَ جملة.
وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تَفْتُرَ إذا فَتَروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدِّي، فيحمله على الغلوِّ والمجاوزة وتعدِّي الصراط المستقيم؛ كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه.
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بأن لا يقربَه ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.
وقد فُتِن بهذا أكثرُ الخلق، ولا يُنَجِّي من ذلك إلا علمٌ راسخٌ، وإيمان وقوة على محاربته، ولزوم الوسط والله المستعان»(23).
وقال أيضًا: «ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط.
مثال ذلك: أنَّ السنَّةَ وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخُّص الجافي أن يبرِدَ إلى فوات الوقت، أو مقاربة خروجه، فيكون مترخصًا جافيًا.
وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكرُّه وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط؛ لتعلق قلبه من ذلك بما يشوِّش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها.(/46)
فمن فقه الرجل في عبادته: أن يُقْبلَ على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرَّغ قلبه لله تعالى، ونصب وجهه له، وأقبل بكلِّيته عليه؛ فركعتان من هذه الصلاة يُغْفَرُ للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.
والمقصود أن لا يترخص ترخصًا جافيًا.
ومن ذلك: أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول أو تعسره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم؛ فجمعه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع، سواء وُجِدَ عذر أم لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سُنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون، وهذا لون.
ومن هذا: أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التُّخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف به الطعام، فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده. بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثُلُثٌ لطعامِهِ، وثُلُثٌ لشَرابِهِ، وثُلُثٌ لنفَسِهِ)(24).
ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردِّد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.
ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العبَّاد الذين نقص حظهم من العلم، حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد الإسلام، وكان يتقوَّت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط، والغُلُوُّ الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان»(25).
النموذج العاشر :
الوسطية في الطهارة والصلاة:
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والأدب: الوقوف في الوسط بين طرفين؛ فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له؛ فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين. والعدوان: هو سوء الأدب.
وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
فإضاعة الأدب بالجفاء؛ كمن لم يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها التي سَنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها. وهي قريب من مائة أدب: ما بين واجب ومستحب.
وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرًا، وتطويل ما السنةُ تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حَذْفُه سنة، وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سُرّاق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك. وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافّات، ويأمرهم بالتخفيف، وتقام صلاة الظهر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ويأتي أهله ويتوضأ، ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نقر الصلاة وسرقها؛ فإن ذلك اختصار، بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم، ويسمى به مصلياً...»(26).
وقال في موطن آخر وهو يفرق بين الاحتياط في العبادة والوسوسة فيها: «والفرق بين الاحتياط والوسوسة أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السُنَّة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط؛ فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السُنَّة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحد من الصحابة؛ زاعمًا أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه؛ كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاث فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارًا، أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطًا، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطًا، إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينًا وزعموا أنه احتياط.
وقد كان الاحتياط باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه أولى بهم؛ فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط، وعدل عن سواء الصراط. والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السُنَّة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كلهم»(27).
النموذج الحادي عشر :(/47)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جَمْعٍ: (هلم القط لي). فلقطتُ له حصياتٍ من حصى الخَذْف، فلما وضعهن في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)(28).
وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به أنه بين الحمص والبندق، فما زاد على البندق فهذا إفراط، وما نقص عن الحمص فهو تفريط، والعدل بين الإفراط والتفريط.
وأختم الكلام عن الوسطية في العبادات بكلام نفيس للإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصاد في العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا)(29). وقال: «إن هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغو»(30). وكلاهما في الصحيح.
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: (اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة) فمتى كانت العبادة توجب له ضررًا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة؛ مثل أن يصوم صومًا يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم.
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة. وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم، والنساء، وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح. ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم، والعدوان»(31).
______________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، علي الصلابي: (ص 491، 492) باختصار يسير.
(2) الفُقَّاع: هو شراب يُتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد.
(3) لم أجد لهذا الحديث بهذا التركيب وإنما ورد في حديثين مستقلين: الأول: (المجاهد من جاهد نفسه) وهذا رواه الترمذي (1687)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1322)، والثاني: (الكيس من دان نفسه ... الحديث) وهذا رواه الترمذي في القيامة، باب رقم (26) وقال: حديث حسن.
(4) مجموع الفتاوى: (41/459-461).
(5) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح: (5063).
(6) الوسطية في القرآن: (ص 494).
(7) في ظلال القرآن: (4/2139).
(8) صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح (6704).
(9) البخاري، كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، ح (6139).
(10) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، ح (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (785)، واللفظ له.
(11) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد ...، ح (1150)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (784).
(12) الوسطية في القرآن: (ص 497).
(13) شرح النووي على صحيح مسلم: (6/71).
(14) تفسير ابن كثير: (3/137).
(15) المسند: (1/251)، وصححه أحمد شاكر: (1853).
(16) صحيح البخاري: (4722)، ومسلم: (446).
(17) انظر تفسير ابن كثير: (3/68، 69).
(18) تفسير القرطبي: (10/344)، وانظر صحيح مسلم: (447).
(19) تفسير القرطبي: (7/355).
(20) مسند أحمد: (1/172)، ورواه أبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الماء (96)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (87).
(21) تفسير ابن كثير: (2/221، 222).
(22) مسند أحمد: (2/108)، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (564).
(23) الوابل الصيب: (ص 32) ت: سليم الهلالي.
(24) رواه الترمذي: (2380)، وابن ماجة: (3349)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: (2704).
(25) الوابل الصيب، ت: الهلالي: (ص 29-31).
(26) مدارج السالكين: (1/211، 212) ط. دار طيبة.
(27) الروح: (ص 542، 543).
(28) النسائي: (3057)، وابن ماجة: (3025)، وصححه الألباني في الصحيحة: (1283)، وأحمد في المسند: (1/215) واللفظ له، وصححه أحمد شاكر (1851).
(29) لم أحده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه الإمام أحمد في مسنده: (5/350)، وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4086).
(30) لم أجده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه النسائي، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وصححه الألباني في صحيح النسائي رقم: (4661).(/48)
(31) «مجموع الفتاوى»: (25/272).
المبحث الرابع
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأخلاق والمعاملات
لقد فطر الله عز وجل الإنسان على الخير، وركز في فطرته أصول الأخلاق الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحسن، والنفرة من القبيح، إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان. ومع ذلك جاء الإسلام بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير من الأخلاق السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.
والدين كله خلق: عقائده وعباداته وأحكامه ومعاملاته؛ كما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)(1).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «الدين كله خلق؛ فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين»(2).
ولكن الحديث في هذا الفصل سيكون متوجهًا إلى المعنى الخاص للأخلاق؛ كالمعاملات، والسلوك الحميد؛ مما لا يدخل في العقائد والعبادات.
وقد جاءت أخلاق الإسلام متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو وسط بين خلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلو والإفراط، والآخر ينزع إلى التفريط والتضييع.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذين هما توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو سط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ... وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو سط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان ... فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين لا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخَوَر ومهانة، بحيث يُطمِع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس.
وكذلك إذا انحرفت عن خلق «الصبر المحمود» انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع ... وإذا انحرفت عن خلق «الحلم» انحرفت: إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف.
كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق «الأناة والرفق» انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «العزة» التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «الشجاعة» انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق «المنافسة في المراتب العالية والغبطة» انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون.
وإذا انحرفت عن «القناعة» انحرفت: إما إلى حرص وكَلَب، وإما إلى خِسَّة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق «الرحمة» انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد؛ ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحمُ الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثًا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.
وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد بحيث يُذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رآه بديهًة هابه. ومن خالطه عِشْرة أحبه)(3). والله أعلم»(4).
وبعد هذا الإجمال في بيان الوسطية والتوزان في بعض أخلاق هذا الدين؛ فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض الأخلاق، ومنها تلك التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط والاعتدال، خاصة وأنها سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.
_____________
(1) صحيح مسلم: (746).
(2) مدارج السالكين: (3/73) ط. دار طيبة.
(3) رواه الترمذي في المناقب باب ما جاء في صفة النبي، وقال حسن غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي: (748).
(4) مدارج السالكين: (3/74-79) باختصار. ط دار طيبة.
أولاً : العدل والتوازن في الكلام والبيان :
إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها أو عاش بين الناس أبكمًا.(/49)
قال تعالى ممتناً على عباده بنعمة البيان: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4).
والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على الإنسان.
يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن نعمة البيان فيقول: «إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين، ويتفاهم، ويتجاوب مع الآخرين فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا القرآن إليها، ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى.
فما الإنسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف يُعلم البيان؟
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم؛ خلية ساذجة صغيرة، ضئيلة، مهينة، ترى بالمجهر ولا تكاد تبين، وهي لا تُبين ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تُكوِّن الجنين. الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة: عظمية، وغضروفية، وعضلية، وعصبية، وجلدية. ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة: السمع، البصر، الذوق، الشم، اللمس ثم .. ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم: الإدراك والبيان، والشعور والإلهام. كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة، التي لا تكاد تَبين، والتي لا تُبين!
كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن، وبصنع الرحمن.
فلننظر كيف يكون البيان؟. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (النحل: من الآية78).
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب: اللسان، والشفتان، والفك، والأسنان، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والشعب، والرئتان. إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية، وهي حلقة في سلسة البيان. وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب. ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه، ولا ندري شيئًا عن ماهيته وحقيقته. بل لا نكاد ندري شيئًا عن عمله وطريقته!
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة، مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن.
إنها تبدأ شعورًا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين. هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية .. المخ .. ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه. وهنا تطرد الرئة قدرًا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية، إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتًا تشكله حسبما يريد العقل. عاليًا أو خافتًا، سريعًا أو بطيئًا، خشنًا أو ناعمًا، ضخمًا أو رفيعًا، إلى آخر أشكال الصوت وصفاته. ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان؛ يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوّت الحرف بجرس معين.
وذلك كله لفظ واحد. ووراءه العبارة، والموضوع، والفكرة، والمشاعر السابقة واللاحقة. وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن»(1).
وبعد هذا الاستعراض البديع من سيد قطب - رحمه الله تعالى - لنعمة النطق والبيان، وكيف يقوم الإنسان بهما، يتعين علينا التعرف على تفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: الإفراط في الكلام والبيان: وصاحبه هو المهذار الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه؛ وما لا يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرض نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب وقول الباطل والسب والشتم وغيرها من آفات اللسان والقلم.
الطرف الثاني: التفريط في الكلام والبيان النافع: وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلة الكلام حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق أو السكوت على باطل، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن.
وعن هذين الطرفين يتحدث الإمام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول: «قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.(/50)
والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟.
فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأكُبَُّّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر»(2).
الموقف الوسط العدل: وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في الأمر حين يكون طاعة لله عز وجل، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ويُسخِّرون هذه النعمة في اللهج بذكر الله تعالى، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. ويسكتون حين يكون السكوت محبوبًا لله عز وجل؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيًة لله عز وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل وغير ذلك من آفات اللسان..
ويصف الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المواقف الثلاثة فيقول: «وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به»(3).
وهكذا كان السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - في طريقتهم في الكلام أو السكوت وسطًا بين الإفراط والتفريط.
فعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني. قال: لا تَكلَّمْ. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتلكم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكتْ. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك. قال زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة(4).
وعن يعلى بن عبيد قال: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني. ثم قال: قال لنا عطاء بن رباح: يا بني أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملَّ صدرَ نهاره، فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه(5).
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبدالله البخاري يقولُ: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدً.
قال الذهبي: صَدَقَ رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرحِ والتعديل علم وَرَعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفُه؛ فإنه أكثر ما يقولُ: منكر الحديث، سكتُوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَّ أن يقول: فلانٌ كذّاب، أو كان يضَعُ الحديث. حتى إنه قال: إذا قلتُ فلان في حديثه نظر، فهو متَّهم واهٍ. وهذا معنى قوله: لا يحاسبُني الله أني اغتْبت أحدًا. وهذا هو والله غاية الورع(6).
_____________
(1) في ظلال القرآن: (6/3446، 3447).
(2) الجواب الكافي: (ص 137، 138) ت: حسين عبدالحميد.
(3) الجواب الكافي: (ص 220)، ت: حسين عبد الحميد.
(4) صفة الصفوة: (1/549).
(5) صفة الصفوة: (2/213).
(6) سير أعلام النبلاء: (12/439).
ثانيًا : العدل والوسط في المزاح والانبساط :
والناس في هذا الخلق طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط في المزاح والانبساط: وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويكثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والانبساط؛ كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عن الآخرة، كما يؤدي إلى قلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط الذين لا يرون الانبساط مع الناس، ولا المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، والانقباض عن الناس، والعبوس في وجوههم.(/51)
الموقف العدل الوسط: وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق، فلم يكونوا يفرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين في وجوههم، مغلبين الحزن، والغم على حياتهم.
ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الأدلة والأمثلة على حسن هذا الموقف واعتداله:
عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: (إني لا أقول إلا حقًا)(1).
وقال محمد بن النعمان بن عبدالسلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك. قال الذهبي تعليقًا على ذلك: «الضحك اليسيرُ والتبسُّمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:
أحدهما: يكونُ فاضلاً لمن تركَهُ أدبًا وخوفًا من الله، وحُزنًا على نفسه المسكينة.
والثاني: مذمومٌ لمن فعله حمقًا وكِبْرًا وتصنُّعًا، كما أنَّ مَنْ أكثر الضحكَ استُخِفَ به، ولا ريب أن الضحك في الشاب أخفُّ منه وأعذرُ منه في الشيوخ.
وأما التبسُّمُ وطلاقةُ الوجه فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تبسُّمكَ في وجه أخيك صَدَقة)(2)، وقال جرير رضي الله عنه: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسَّم(3).
فهذا هو خلقُ الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَاءً بالليل، بَسّامًا بالنهار. وقال عليه الصلاة والسلام: (لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه)(4).
بقي هنا شيءٌ: ينبغي لمن كان ضحوكًا بسّامًا أن يُقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجَّهُ الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم، ويُحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خُلُقه، وكلُّ انحراف عن الاعتدال فَمَذمومٌ، ولا بدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب»(5).
ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلق البسام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان مَزَّاحًا. وحال الرجل في التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال. فقد روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إلا باكيًا، وكما قال الذهبي: كان رأسًا في الزهد والتأله والخوف. وهكذا يكون التوازن والقصد(6).
_______________
(1) الترمذي، في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.
(2) البخاري: (891).
(3) البخاري: (3035)، ومسلم: (2475).
(4) البزار: (1977)، والحاكم في المستدرك: (1/124)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله عن عبدالله المقبري: واه.
(5) سير أعلام النبلاء: (01/140، 141).
(6) انظر (فقه الائتلاف): (ص 331)، للأستاذ محمود خازندار رحمه الله تعالى.
ثالثًا : العدل والتوازن في الإنفاق:
قال الله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا، ولا هذا».
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل التوسط والاعتدال: «وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه؛ فقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26). فَمَنْعُ ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضاء الله فيما بينهما. ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم، وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين. والوسط دائمًا محمي الأطرف»(1).
ويقول في موطن آخر: «وأما الفرق بين الاقتصاد والشح: أن الاقتصاد خُلُق محمود يتولد من خلقين: عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد؛ وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31).(/52)
وأما الشح فهو خُلُق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعًا، والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج:19-21)»(2).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند آية الفرقان: «وهذه هي سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.
والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرًا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)»(3).
من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بيّن لنا المنهج العدل الوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين:
الأول: طرف القابضين أيديهم، البخلاء بأموالهم المقترين على أنفسهم وعلى أهليهم فضلاً عن من سواهم.
الثاني: طرف المسرفين المترفين، المفْرِطُين في إنفاق المال الذين بسطوا أيديهم كل البسط.
وبين هذين الطرفين تقف قلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزموا العدل والتوازن؛ وهؤلاء هم عباد الرحمن حقًا.
_____________
(1) الصلاة، لابن القيم: (ص 193، 194).
(2) الروح: (ص 503).
(3) في ظلال القرآن: (5/2578، 2579).
رابعًا : العدل والوسطية والتوازن في حقوق الخلق:
شرع الله عز وجل لعباده حقوقًا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق وللأولاد حقوق، وللأزواج حقوق، وللأقارب حقوق، وللجيران حقوق، وللضيف حقوق، ولليتامى والمساكين حقوق، وللأصحاب حقوق، وغير هؤلاء من الخلق.
والعدل في ذلك والتوازن: أن لا يطغى حق على حق، ولا تطغى حقوق هؤلاء على حق النفس، ولا يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق الله تعالى. والموفق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها.
والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى، أو حق النفس طرفان ووسط:
الطرف الأول: طرف من أفرط في حقوق الخلق، وقام بها حتى شغله ذلك عن حق الله عز وجل، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أو شغله ذلك عن نفسه، ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى.
الطرف الثاني: طرف من فَرَّط في حقوق العباد، حتى قصر في ما يجب عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوة أو تعليم أو حقوق صلة وبر، متعللاً بحق الله تعالى أو حق النفس.
الوسط والعدل: وهو من لم يطغ عنده حق على حق، بل وازن بين الحقوق كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثلاً في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي يتمثل في الرواية التالية:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: «ما شأُنك؟» قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له: كل، فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمانُ: قُمِ الآن، فصليَّا، فقال له سلمانُ: إنَّ لرِّبك عليك حقّا، وإنّ لنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كل ذي حق حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدَقَ سلمانُ)(1).
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن الأدب وأنه التوسط في الأمور: «ومثال ذلك - أي التوسط - في حقوق الخلق: أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها، بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار. وعلى هذا الحد، فحقيقة الأدب: هي العدل. والله أعلم»(2).
_____________
(1) رواه البخاري، في الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف: (6139).
(2) مدارج السالكين: (3/213) ط. دار طيبة.
خامسًا : العدل والتوازن في التواضع :
التواضع خلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به.(/53)
قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).
ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله - وهم أهل التكبر والمرح والبطر - قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).
والتواضع المحمود كغيره من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:
طرف الإفراط: وهو أن يُفْرط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة والخسة وابتذال النفس وإذلالها وهوانها. وأما وصف الله عز وجل عباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هونًا؛ فالهَون هنا كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «(والهَون) بالفتح في اللغة: الرفق واللين، (والهُون) بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران والنيران»(1).
طرف التفريط: وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق، والوقوع في ضده وهو الكبر والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك الانقياد له.
الوسط والعدل: وهو التواضع الذي وصفه الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- بقوله: «وهوالتواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوته جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع؛ وهو إنكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه»(2).
ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخلق العدل قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).
وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى «الأذلة» في الآية؛ قال رحمه الله تعالى: «لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عدَّاه بأداة «على» تضمينًا لمعاني هذه الأفعال؛ فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول»(3).
_____________
(1) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.
(2) انظر الروح لابن القيم: (ص 495).
(3) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.
سادسًا : التوسط والعدل والتوازن في التأني والتؤدة :
التؤدة والأناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)(2). ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين خلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى الإفراط والآخر إلى التفريط:
فطرف الإفراط: هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأني حتى تضيع عليه فرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلك إغراقًا منه في التأني والتؤدة.
وطرف التفريط: هو الذي يفرِّط في الأخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلك في العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه.
والوسط العدل : وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث لا يدفعه ذلك إلى الكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما لا يفرِّط فيه فيقع في العجلة والطيش.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها.
والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة»(3).(/54)
ويقول في موطن آخر: «فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمد أمره، ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفوت؛ فإنه لا يخاف من التثبيت إلاّ الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تمّ أمره. ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)(4)، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلاّ من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إلاّ من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والنمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانياً أفلح كل الفلاح، والله وليّ التوفيق»(5).
_____________
(1) رواه مسلم في الإيمان: (18).
(2) أبو داود: (4810)، وصححه الألباني في السلسلة: (1794).
(3) انظر كتاب الروح لابن القيم: (546، 547).
(4) رواه أحمد: (4/125)، ورواه النسائي: (1304)، وضعفه الألباني في ضعيف النسائي: (70).
(5) مفتاح دار السعادة: (1/146).
سابعًا : الوسطية والعدل والتوازن في الشجاعة :
الشجاعة خلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله تعالى وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد الاعتدال والتوسط فتكون تهورًا وجرأة، وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع.
إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: الإفراط والغلو في الشجاعة والإقدام، دون النظر في عاقبة ذلك، ويسمى هذا تهورًا، حيث تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك.
الطرف الثاني: التفريط وضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولد عنه الجبن والخوف. «والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فلا يظن الجبان بالظفر، ولا يساعده الصبر، فإذا ساء الظن ووسوست النفس بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته»(1).
الموقف الوسط المتوازن: وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ «لأن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من الصبر وحسن الظن ... والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولى ولت سائر جنوده»(2).
ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إلا أنه لا يتهور ولا يتجرأ على الإلقاء بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، ولا يقدم في غير موضع الإقدام.
_____________
(1) كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).
(2) انظر كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).
ثامنًا : التوازن والعدل والتوسط في الحذر وأخذ الحيطة :
إن أخذ الحيطة والحذر من الأعداء وممن يظن به الشر هو أمر مطلوب، وهو من باب الأخذ بالأسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71)، ولكن هذا الاحتراز قد يختل التوازن فيه، فيميل إما إلى الإفراط ومجاوزة الحد وإما إلى التفريط والإضاعة. والناس فيه طرفان مذمومان ووسط عدل.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفرط الذي أدى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجالات الخير أو السكوت على بعض المنكرات بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة والاحتراز ممن يظن به الشر، وإنما غلب عليهم البله وقلة الوعي حتى أحسنوا الظن بكل الناس وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.
الموقف العدل والمتوازن والمتوسط: وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى الأخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن شره وفساده، لكنه لم يُفْرِط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، بل الفرق عنده واضح بين الاحتراز وسوء الظن الفاسد.(/55)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعدَّ له عُدَّتَه، فهمُّه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب. وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه؛ فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم، الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض»(1).
ومن الآيات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة: قوله تعالى في صلاة الخوف: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:102).
ويجلي هذا التوازن في الآية صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - فيقول: «... الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً).. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!»(2).
_____________
(1) الروح: (ص 504).
(2) في ظلال القرآن: (2/748).
تاسعًا : التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح :
العفو والصفح خلقان محمودان ورد الحث عليهما في الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: من الآية40)، وقال عز وجل: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية134)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلاً بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)(1).
والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط فيه والغلو: وهم الذين يضعون العفو في غير موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر المتغطرس الذي لا يزيده العفو إلا ظلمًا وتمردًا وغرورًا؛ فمثل هذا لا يصلح في حقه العفو، وإما أن يكون العفو عن ذلة ومهانة وعدم قدرة على رد الاعتداء؛ فهذا عفوه ليس محمودًا، وإنما هو عجز ومهانة، وتضييع للحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في هذا الخلق الرفيع وأصبح ليس لهم هم إلا الانتقام من كل من أخطأ في حقهم، ولو كانت الهفوة منه زلة عابرة، أو خطأً غير مقصود؛ فلا يدفنون لمسلم زلة ولا يصفحون عمَّن ارتكب في حقهم مزلة.
الوسط العدل المتوازن: وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عن من لا يصلح في حقه العفو، ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز لا عن حلم وعفو واقتدار، ولم يفرِّطوا في هذا الخلق حتى أضاعوه بسبب شهوة الانتقام والانتصار للنفس، بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته ولا التكبر والغرور صفته، وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود.(/56)
ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الفرق بين العفو الناشئ عن الجود والكرم مع قدرته على الانتقام، وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز عن الانتقام فيقول: «والفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام؛ فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس؛ فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى:39).
فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم، وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40). فذكر المقامات الثلاثة: العدل وأباحه، والفضلَ وندب إليه، والظلمَ وحرمه....
قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء: من الآية149)»(2).
_____________
(1) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (1652).
(2) الروح: (ص 513، 514) باختصار.
عاشرًا : العدل والتوسط والتوازن في المنافسة والغبطة :
الغبطة والتنافس في الخير خلقان كريمان أمر بهما الشارع الحكيم، وعمل بهما سلفنا الصالح؛ حيث تنافسوا في مرضاة الله وجنته وتسابقوا إليها؛ قال الله عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)(1).
ومع جلالة هذا الخلق، فإنه كغيره من الأعمال والأخلاق مكتنف بخلقين مذمومين والناس فيه طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين تجاوزوا الحد في التنافس، فمالوا من العدل الممدوح إلى الغلو والإفراط فيه حتى أوقعهم ذلك في الحسد والحقد للجهة المنافسة، أو السابقة. والحسد خلة ذميمة ساقطة ممقوت صاحبها عند الله عز وجل وعند عباده.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين ضعفت هممهم عن التنافس في الخير ورضوا بالدون، ولم يثر عزائمهم تشمير الصالحين وتسابقهم إلى الخيرات وإلى دار المتقين، فلم ينافسوهم ولم يحرك ذلك في نفوسهم شيئًا.
الموقف الوسط والعدل المتوازن: وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - من الهمة العالية، حيث تنافسوا في الصالحات وسارعوا في الخيرات، وتسابقوا إلى الجنات، وتمنى أحدهم أن يكون على مستوى ما عليه أخوه أو يزيد عليه دون حسد ولا حقد، ولا تمنٍ من أحدهم زوال نعمة الله عز وجل الدينية أو الدنيونة عن أخيه المنافس.
«كما كان ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منافسته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومحاولة اللحوق به أو سبقه، فلمَّا علم أن أبا بكر رضي الله عنه قد استولى على الإمامة قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا. وقال: والله ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه.
والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر ويحرضه على مرضاة سيده»(2).
ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين الحسد والمنافسة فيقول: «والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26).
وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبة، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه؛ وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: من الآية148)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21).(/57)
والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير؛ فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أنْ لَوْ فَاتَهُ كسبُها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: من الآية109).
فالحسود عدو النعمة متمنٍ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمنٍ تمامها عليه وعلى من ينافسه؛ فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة؛ فمن جعل نصب عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرًا؛ فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا لا نذمه»(3).
______________
(1) البخاري: (5025)، ومسلم: (815).
(2) كتاب الروح: (ص 533) بتصرف يسير.
(3) كتاب الروح: (ص 533، 534).
حادي عشر : العدل والوسطية والتوازن في العزلة :
جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي فعل السلف الصالح ما يدل تارة على فضل العزلة وعدم الخلطة بالناس أو تقليلها، وورد تارة أخرى ما يدل على النهي عنها، والحث على الجماعة والاختلاط بالناس. ويحسب الناظر في هذه الأدلة والمواقف أنها متعارضة؛ وحاشا أن يوجد في هذا الدين ما ينقض بعضه بعضًا لأنه من عند الله العليم الحكيم، المبرأ من الجهل والنقص والهوى. ولكن بالجمع بين هذه الأدلة والمواقف يظهر لنا وسطية هذا الدين وعدله وتوازنه في مسألة العزلة؛ حيث لم يأمر بها بإطلاق، ولم ينه عنها بإطلاق؛ وإنما فصَّل في ذلك بحيث يكون الموقف العدل فيها كغيرها من المواقف والسلوكيات: وسط بين طرفين مذمومين.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين رأوا اعتزال الناس اعتزالاً كليًا، واعتزال ما هم عليه من المنكرات والفساد، والبعد عن مناسباتهم وعن الاختلاط بهم حرصًا منهم على صيانة دينهم وأخلاقهم، وتحقيقًا للبراءة من المنكر وأهله، وامتثالاً للنصوص الواردة في فضل العزلة؛ ومنها ما أثنى به الله عز وجل على أهل الكهف بقوله تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16). ولكن هذا أدى بهم إلى ترك الجمع والجماعات وقطع الأرحام، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح المجال للمبطلين والمفسدين يجولون ويصولون ويفسدون على الناس دينهم وأخلاقهم وأعراضهم بلا مجاهدة ولا مواجهة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(1).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في العزلة وأفرطوا في الخلطة، سواء كانت في الخير أو الشر، ولم يكن لهم خلوات بربهم وبأنفسهم؛ وهؤلاء في العادة يتأثرون بمن حولهم، ويضعف دينهم ويداهنون الناس فيما هم عليه من منكرات ومخالفات. وعن مثل هؤلاء وصنيعهم جاء النهي والتنفير، وجاء الحث على العزلة والتحذير من هذه الأحوال من الخلطة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «العزلة راحة من أخلاط السوء»(2)، وكما قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: «من خالط الناس لم يسلم ولم ينج من احدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، وإما أن يسكت إذا رأى منكًرا أو سمعه من جلسائه، فلا يغير فيأثم ويشركهم فيه»(3).
الوسط العدل المتوازن: وهو الذي لم يجنح إلى الإفراط في العزلة ولا التفريط، وإنما نظر إلى هذه المسألة نظرة متوازنة يلتمس فيها مرضاة الله عز وجل وما هو المحبوب منها لله تعالى.
وأكتفي بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في وصفه لهذا المنهج المتوازن؛ حيث يقول رحمه الله تعالى: «فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها - إما نزاعًا كليًا، وإما حاليًا - فحقيقة الأمر: أن «الخلطة» تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.
وجماع ذلك: أن «المخالطة» إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات؛ كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا؛ إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.(/58)
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره، ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته؛ كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف فيها بصره ولسانه. وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال؛ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم»(4) ا.هـ.
وبنحو ذلك قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: «فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفيًا وإثباتًا خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل. فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل»(5).
ولذلك رأينا الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق جملة من النقولات التي تمدح العزلة وتحسنها استدرك وأفرد في كتابه العزلة بابًا سماه: «باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة» قال فيه: «قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسَّنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا أجرينا، ولا إياه أردنا؛ فإن الإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين. وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق - عز وعلا - والحمل على النفس منها ما يؤودها ويكلها؛ فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف؟»(6). ا.هـ.
تنبيه:
إن القول بأن العزلة التامة للناس فيها مجانبة للوسطية والعدل لا يعني أنها لا تُمدح في بعض الأحوال أو الأمكنة أو الأزمنة، بل قد تكون في بعض الأحوال هي الموقف الحق الوسط العدل.
وأُمَثِّل لذلك بالأحوال التالية:
الحالة الأولى: عند فشو المعاصي وانتشارها انتشارًا واسعًا يتعذر علي بعض الناس حينها القدرة على الإنكار ولا يوجد المعاون، ولا يوجد المكان الصالح الذي يهاجر إليه، فإنه يشرع والحالة هذه لبعض الأفراد دون بعض العزلة؛ وذلك حين لا يستطيع الفرد الصبر على رؤيتها، فيتعجل بإنكارها بصورة شديدة غير منضبطة، أو أن المنكرات تعكر صفو حياته، ويعيش برؤيتها في هم وحزن، أو أنه يخاف على نفسه من الوقوع في المعاصي والفواحش خوفًا ظاهرًا قويًا. وهذه عزلة مقيدة بأحوال الأفراد وليست عزلة مطلقة لكل إنسان.
الحالة الثانية: أيام الفتن واختلاف المسلمين وتفرق كلمتهم واقتتالهم:
وفي هذه الأحوال يشرع اعتزال الناس حتى تنجلي الفتنة. ومن أراد لنفسه السلامة في الدنيا والآخرة فليعتزل الناس أيام الفتن بقلبه ولسانه ويده ولا يُلوِّث نفسه بشيء من كدرها وغبارها؛ وهذا ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إليه عند هيجان الفتن.
قال عثمان الشحام: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه، فقلت: هل سمعت أباك يحدِّث في الفتن حديثًا؟ فقال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة: القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟...)(7).
وهذا ما كان عليه سلف الأمة أيام الفتن:
فعن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، قال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد»(8).
وعن يزيد بن أبي عبيد - رضي الله عنه - قال: «لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولادًا، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة، فمات بها» أخرجه البخاري، وأخرج هو ومسلم «أن سلمة دخل على الحجاج، فقال: يا ابن الأكوع، أرتددت على عاقبيك؟ تعرَّبت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو»(9).(/59)
الحالة الثالثة: عند فساد الزمان وفساد الناس ومروج عهودهم وأماناتهم؛ وذلك حين يتعذر الإصلاح في الناس لاختلافهم وتناحرهم ورقة أديانهم؛ أي حين يطبق الانحراف التام العام والغربة الشاملة؛ فحينئذ يشرع للمسلم أن يعتزل الناس ويعتني بنفسه، كما يعتني بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه، ويهتم بصلاح شؤونهم، ويذر أمر العامة. وهذه الحالة إما أن تكون في مكان دون مكان؛ كما هو الحال في بعض الأماكن اليوم، وإما أن يشمل الانحراف العام كل الأرض وتستحكم الغربة والجاهلية فيها كلها؛ وهذا لا يكون إلا قرب قيام الساعة، والله تعالى أعلم.
وهذا المعنى هو الذي جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان - أو يوشك أن يأتي زمان - يغربل الناس فيه غربلة؛ تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم)(10).
ويعلق صاحب كتاب: (العزلة والخلطة) - حفظه الله تعالى - على هذا الحديث فيقول: «ومحصل هذه الصفات كلها: أن لا فائدة من الأمر والنهي والإصلاح في مجال العامة وهم الدهماء والجمهور، وإن ترأَّسوا وسادوا، بل ربما ترتب على الأمر والنهي ضرر بأن يتضاعف المنكر ويزداد، أو يُؤذَى الآمر في نفسه، أو أهله، أو ماله.
ولعل هذا هو الضابط العام لتلك الحال: ألا يكون ثَمَّ فائدة ترجى من الدعوة والأمر والنهي بين هؤلاء المسمين بـ «العامة»، وفي مقابل التحقق من عدم النفع، هناك توقع لحصول الضرر الديني والدنيوي للآمر ولغيره. ولا شك أن الأصول العامة تقتضي ترك الأمر والنهي - حينئذ - دفعًا للمفسدة المتوقعة التي لا توجد مصلحة تكافئها في فضل الأمر والنهي؛ فيكون الحديث مطردًا مع القاعدة العامة في المصلحة والمفسدة»(11).
______________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد: (388)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: (300).
(2) العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا: (ص 60).
(3) المصدر السابق نفسه: (ص 67).
(4) مجموع الفتاوى: (01/425).
(5) مختصر منهاج القاصدين: (ص 117).
(6) العزلة للخطابي: (ص 97).
(7) مسلم في الفتن، باب نزول الفتن: (2887).
(8) مجمع الزوائد: (7/584).
(9) البخاري في الفتن، باب التعرب في الفتنة، ومسلم: (1862).
(10) أبو داود في الملاحم: (4342)، وابن ماجة في الفتن: (3957)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (3648).
(11) العزلة والخلطة للشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى -: (ص 70).
ثاني عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الغيرة :
الغيرة بمعناها العام هي الغيرة على دين الله عز وجل ومحارم الله أن تنتهك. ولكننا هنا نريد الغيرة بمفهومها الخاص؛ ألا وهي الغيرة على المحارم والأعراض.
فهي خصلة كريمة من خصال المؤمنين، ومن سمات الرجولة والقوامة، والعزة والأصالة. ولا تفقد إلا عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة والدياثة. ولما تعجب الصحابة من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني»(1).
والغيرة المحمودة كغيرها من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في غيرتهم على محارمهم وأعراضهم حتى أوقعهم ذلك في الوساوس والشكوك والخواطر الرديئة فأتعبوا أنفسهم، وأتعبوا محارمهم. ومنشأ هذا الغلو: الإفراط في الظن السيء، والتجسس والتحسس؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...) (الحجرات: من الآية12).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في أمانتهم وقوامتهم وغيرتهم وحميتهم على أعراضهم ومحارمهم، وضيعوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها، ولم يبالوا بما يفعله نساؤهم ومولاياتهم مما يخدش الحياء، ويعرضهن لسهام المفسدين، ويجرأ أهل الشهوات والقلوب المريضة عليهن. وقد ظهرت في زماننا اليوم صور من ضعف الغيرة على النساء، وتسلط النساء وغلبتهن على أوليائهن، حتى أصبحت المرأة في بعض البيوت لها القوامة على البيت بما فيه من رجال ونساء، وصارت المرأة من زوجة أو بنت أو أخت تذهب إلى السوق وحدها، وتخلو بأصحاب المحلات، وتركب مع السائق وحدها، وتجلس مع الرجال الأجانب من أقاربها أو أقارب الزوج دون حشمة تذكر. كل ذلك يتم أمام ناظري الزوج أو الأب أو الأخ دون أن يحرك ذلك عندهم ساكنًا، أو أن تتحرك الغيرة في قلوبهم. نسأل الله عز وجل العافية في الدنيا والآخرة.(/60)
الوسط العدل: وهم الذين حفظوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها من أزواج وأخوات وبنات وموليات، فغاروا عليهن وصانوهن من كل ما يخدش أعراضهن وحياءهن، وبذلوا ما في وسعهم من التربية الصالحة لهن، وأبعدوا عنهن كل ما يفسد عليهن دينهن وأخلاقهن. مع إشعارهن بالثقة وإحسان الظن بهن، وقطع الطريق على الشيطان وكيده ووسوسته التي توقع من استرسل معها في الشك والوساوس الرديئة. فهذا دأب الشيطان مع الإنسان؛ إن لم يفلح معه في التفريط وقلة الغيرة أتاه من الغلو والإفراط في الغيرة والشك والوساوس الرديئة.
___________
(1) البخاري في الحدود: (6846)، ومسلم في اللعان: (1499).
ثالث عشر : التوازن والعدل والوسطية في سلامة القلب :
لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات:84)، وبين أنه لن ينجو من عذاب الله تعالى يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88، 89).
والقلب السليم هو الذي سلَّمه الله تعالى، من كل شبهة تعارض خبر الله تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه. ومن ذلك ما اشتهر عند الناس أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من شره، ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان:
الطرف الأول : الإفراط أو الغلو في سلامة القلب حتى ينقلب إلى بله وغفلة وانخداع لأهل الخداع، وقلة معرفة بالشر وأهله.
الطرف الثاني: التفريط والجفاء في التحلي بهذا الخلق الرفيع حتى يصبح القلب مأوىً للشبهات والشهوات والخداع والأحقاد وإرادة الشر والمكروه بالغير.
الوسط والعدل: وهو الذي من الله عليه بقلب سليم مطمئن يحرق ما يرد عليه من الشبهات والشهوات، ولا يحمل حقدًا ولا مكروهًا ولا غدرًا ولا خيانة لمسلم. في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين، عارف بالشر وأهله، حذر منهم ومن كيدهم.
ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين سلامة القلب والبله والتغفل فيقول: «والفرق بين سلامة القلب والبَلُه والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به.
وهذا بخلاف البله والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه. والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لست بخب ولا يخدعني الخب)، وكان عمر أعقل من أن يُخدع وأورع من أن يخدع، وقال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؛ فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم الذي سلم من هذا وهذا»(1).
_____________
(1) كتاب الروح: (ص 517).
رابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في الحياء :
الحياء خير كله، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق(1). ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)(2)، وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)(3)، (وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)(4). ومع حسن هذا الخلق، إلا أنه كغيره من الأخلاق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهو وسط بينهما.
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو الذين وصل بهم الإغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والأخروية، ومن آثار ذلك الرضى بالدون والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير، وتضييع الحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين قل حياؤهم وتجرأوا على فعل ما يعاب وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله عز وجل، ولا من الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة ولا آدابًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا.
الوسط العدل: وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده، واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل يخل بالآداب أو المروءات. كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في مصالحهم الدينية والدنيوية والصدع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهم في دينهم ودنياهم.(/61)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ... وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس»(5).
____________
(1) انظر مدارج السالكين: (2/601) ط. دار طيبة.
(2) البخاري: (24)، ومسلم: (36).
(3) البخاري: (6117)، ومسلم: (37).
(4) البخاري: (6119)، ومسلم: (2320).
(5) مدارج السالكين: (3/76، 77) ط. دار طيبة.
خامس عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بالقواعد الشرعية:
استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجد في حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل، ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي المنطلق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة. ومع ذلك فقد تجرأ على هذه القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم والاجتهاد المؤهلين للفتيا وبيان الأحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا، وأفرَّطوا، في تطبيقاتها وفرَّطوا، وحرَّموا وحلَّلوا، وحصل من جراء ذلك غلو وتضييق على الناس، أو تفريط وإضاعة ونشر للشر والفساد. ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم إلى التوسط في تناول هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها بضوابط شرعية(1) تحميهم من التطرف نحو الغلو والإفراط أو التطرف نحو التفريط والإضاعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور في أغلب الناس؛ مثل تقابلهم في بعض الأفعال يتخذها بعضهم دينًا واجبًا أو مستحبًا أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا أو محرمًا أو منهيًا عنه في الجملة»(2).
وأذكر على سبيل المثال قاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع الأحكام في هذا الدين؛ ألا وهي: (قاعدة سد الذائع)؛ يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذه القاعدة: «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين»(3).
وقد ذكر - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين وجهًا للدلالة على القاعدة؛ وهذه الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، ويظهر فيها أن السبب في تشريعها هو سد الذرائع، فليرجع إليها(4).
وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هذه القاعدة، وتوسعوا فيها، حتى ضيقوا على الناس بتحريم بعض المباحات نظراً إلى أنها قد تؤدي إلى محرم، ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ كمن يحرم بيع العنب على الناس لأن من بينهم من قد يصنع منه خمرًا أو يحرم بيع السلاح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم في العدوان على الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرَّطوا في اعتبار المآلات، وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يؤول إليه المباح وقصروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مباحًا فهو مباح وإن غلب على الظن أنه يقود إلى محرم. فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة، وعُطلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤلاء مثلاً لا يمانعون أن يباع العنب على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمرًا، ولا يمانعون من بيع السلاح أيام الفتن، ولو غلب على الظن أن يستخدم في قتال المسلمين؛ لأنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسلاح وهو الإباحة، ولم ينظروا إلى مآلات الفعل ومقاصد الفاعلين.
ومن الأمثلة المعاصرة: تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائلاً: إن الأصل مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار، وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة لا يتسع المقام إلى ذكرها. وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به الإمامان الراحلان الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين - رحمهما الله تعالى - عندما سُئلا عن قيادة المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه القاعدة الشرعية التي نحن بصددها وذكرا المفاسد الكثيرة التي يؤول إليها هذا الأمر. وبناءً على مبدأ سد الذريعة حرما قيادة المرأة للسيارة.(/62)
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم الذين تناولوا هذه القاعدة بتوازن ووسطية؛ فلم يلغوها من الاعتبار كما فعل المفرِّطون، ولم يغلوا فيها حتى ضيقوا من الدين ما هو موسعًا كما فعل المفْرِطون. بل أوقعوها في مكانها اللائق بها. فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يؤول إلى مفاسد محرمة حرموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين مثالاً من الكتاب والسنة. ومتى ما غلب على الظن أن فعل ذلك لا يؤول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر. وأسوق فيما يلي فتوى للصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن تدل على العناية بهذه القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها.
نقل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره قال: «روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلاً مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك(5).
______________
(1) انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب (فاستقم كما أمرت) للمؤلف: (ص 252-292).
(2) مجموع الفتاوى: (3/359).
(3) اعلام الموقعين: (3/159).
(4) انظر هذه الوجوه في إعلام الموقعين: (3/137-159).
(5) تفسير القرطبي: (5/333).
سادس عشر: التوازن والعدل والتوسط في عداء الكفار والتعامل معهم:
قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8، 9)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)، ومع وضوح هذا المنهج الرباني في العلاقة مع الكفار حسب أحوالهم إلا أن الخلل والتطرف قد تطرق لهذا النمط من العلاقات عند كثير من الناس، وأصبح الناس فيها طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الغو والإفراط في عداء الكفار؛ حيث أدى بهم ذلك إلى مجانبة العدل والقسط معهم وبخاصة المسالم منهم. وفي الآيات السابقة أمر بالعدل والقسط مع الكفار، والبر بهم وبخاصة إذا كانوا أقارب وأرحام ما داموا ليسوا حربيين.
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير آية الممتحنة: «وقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين؛ كالنساء والضعفة منهم، (أَنْ تَبَرُّوهُمْ)، أي تحسنوا إليهم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، أي: تعدلوا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قَدَمَت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفاصلها؟ قال: (نعم، صِلْي أمك)؛ أخرجاه(1).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبدالله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر بهدايا: صِنَاب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها(2)»(3).
وقد تصل الحال عند هؤلاء المفْرِطين إلى أن يعدوا التعامل مع الكافر المسالم بتجارة، أو بيع أو شراء، أو علم دنيوي ضروري، أو نحو ذلك من المعاملات إنما هو ضرب من ضروب الموالاة المحرمة للكافر، وأن عداوته وبغضه والبراءة منه تقتضي قطع أي صلة أو تعامل معه.
وقد سبقت الإشارة إلى هذا الموقف الخاطئ في مبحث الوسطية في الولاء والبراء(4).(/63)
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وأهل هذا الموقف هم المتساهلون في عدائهم للكفار، والبراءة منهم، حتى تجاوزوا العدل والقسط والبر مع المسالم منهم إلى المداهنة والمحبة لهم، والخوف منهم، وتعظيمهم وتقديمهم على المسلمين، والانبهار والاغترار بما هم عليه من دنيا وقوة وصناعات متقدمة، وائتمانهم على أموال المسلمين وأعراضهم وعقولهم وأسرارهم؛ بل وصلت الحال ببعضهم إلى التدسس بعقيدته والحياء من إظهارها ودعوة الناس إليها.
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم أهل السنة والاتباع الذين اقتفوا أثر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين له بإحسان، الذين تبرؤا من الكفر وأهله، وأعلنوا بكل فخر واعتزاز عقيدة الإسلام، ودعوا الناس إليها وجاهدوا في سبيلها. فمن أسلم من الكفار فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وهو أخ من إخوانهم المسلمين له حقوق وعليه واجبات. ومن لم يدخل في الإسلام وصالح المسلمين أو عاهدهم أو دفع الجزية مقابل أن يعيش آمنًا داخل الدولة الإسلامية فإن الواجب نحوه العدل والقسط وإن كان قريباً فله البر والإحسان. ولا يجوز ظلمه لكونه كافرًا، وجاز التعامل معه ببيع أو شراء أو إجارة أو غيرها من المعاملات في ضوء الشريعة الإسلامية، بشرط أن لا يكون في ذلك تقوية لاقتصاد الكفار المحاربين.
وهذا العدل وضمان الأمن للكافر المسالم هو ما أمر الله عز وجل به وطبقه المسلمون في تاريخهم الطويل في فتوحاتهم وتعاملاتهم مع الذين بقوا على دينهم من أهل تلك البلاد المفتوحة؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8). ومن تطبيقات هذا المنهج الرباني العادل في حياة الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما يلي:
لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، أرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: «والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض»(5).
لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المفلسين فلعبوا وأدوا الخراج.
فهؤلاء اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120) يقولون للمسلمين الذين عدلوا فيهم: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ...) وهل فوق هذا النصر من نصر(6).
ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى واليه على البصرة عدي بن أرطأة يوصيه، ونقتطف من رسالته بعض المقاطع؛ يقول: «ثم انظر مَن قِبَلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجْر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه .. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه»(7).
ويذكر في مواقف ابن تيمية السامية في الإنصاف حتى مع غير المسلمين أنه حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار، وعلم أنهم لن يطلقوا معهم أسرى أهل الذمة، أصر على إطلاق الجميع معًا وقال: «بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكهم، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة»(8).
_____________
(1) البخاري: (2620)، ومسلم: (1003).
(2) المسند: (4/4)، والحاكم: (2/485) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) تفسير ابن كثير عند الآية (9) من سورة الممتحنة.
(4) انظر: (ص 105) من هذا الكتاب.
(5) تفسير ابن كثير: (2/412) وروى بعضه الإمام أحمد: (3/367)، وأبو داود: (3410)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح: (2910).
(6) انظر كتاب الجهاد في سبيل الله، عبدالله القادري: (2/143).
(7) أحكام أهل الذمة لابن القيم: (1/38)، ت: صبحي الصالح.(/64)
(8) حياة شيخ الإسلام، للشيخ محمد بهجت البيطار: (ص 15).
سابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في التخطيط والتنظيم :
إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج ليتم تنفيذه إلى دراسة وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات والأولويات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويل الخطط والدراسات النظرية إلى واقع وعمل. وهذا كله يدخل في الأخذ بالأسباب وبذل الوسع في ذلك؛ لأن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، والأهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب الأسباب سبحانه ومشيئته النافذة، ومع أهمية التخطيط والتنظيم لأي فكرة أو مشروع إسلامي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين غلوا، وأغرقوا في التنظير والتخطيط حتى تمر الأيام والشهور بل والسنوات وهم ما زالوا في تخطيطهم ودراساتهم يقدمون رِجْلاً ويؤخرون أخرى؛ لا تراهم إلا مترددين خائفين من الإقدام على العمل مفْرِطين في أخذ الحيطة والحذر، مفوتين عليهم الفرص الكثيرة تمر عليهم دون أن يستثمروها، مبررين عملهم هذا بالتثبت والتأني والحكمة. (ارجع إلى مبحث التوازن والعدل في الحلم والأناة)(1).
ثم إذا قدر لهؤلاء أن ينتقلوا من التخطيط إلى التنفيذ والعمل فإنهم يغلون في تنظيم هذا العمل ويفرطون في وضع الترتيبات الإدارية والتنظيمية الدقيقة التي تعرقل العمل، ولا تمنح للفرد أن يستخدم عقله وطاقته، وإنما يبقى رهين أطر تنظيمية ومركزية تقيد الأعمال وتجعلها تراوح في مكانها إن لم تتراجع. كما أن الإفراط والغلو في التنظيم والترتيب قد يوقع أهله - وبخاصة أصحاب المشاريع الدعوية الجماعية - في حزبيات مقيتة وولاءات ملوثة؛ بحيث يصبح عند أهل التنظيم الواحد تحزب وتعصب لبعضهم يوالي بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا؛ ويعادون أو ينابذون من سواهم من الطوائف الإسلامية؛ لا على أساس الإسلام، وإنما على أساس الحزب أو التنظيم؛ وهذا غلو وتطرف.
الطرف الثاني: أهل الإفراط والإضاعة: وهم الذين أهملوا الأخذ بالأسباب فأهملوا التخطيط والدراسة المتأتية التي تسبق العمل والتنفيذ، فقامت مشاريعهم على الفوضى والتخبط، فكانت النتيجة المترتبة على ذلك ضياع الأوقات والأموال والأعمال؛ إن لم يكن أكثر من ذلك من المفاسد العظيمة والشرور الجسيمة. وهذا الطرف يقابل الطرف السابق أو هو ردة فعل له.
وكما أنهم أهملوا وفرطوا في الدراسة والتخطيط فكذلك أهملوا الأخذ بوسائل التنظيم والترتيب. فجاءت أمورهم نتاج أعمال فوضوية، وتصرفات فردية تفتقد الشورى والروح الجماعية. بل واتهموا أي عمل منظم مدروس بأنه عمل حزبي بدعي.
الوسط العدل المتوازن: وهم الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الذين أخذو بالأسباب والسنن الإلهية، فقامت أمور الدعوة والجهاد والمال عندهم على الدراسة والتخطيط، وحولوا ذلك إلى عمل مثمر مرتب يحكمه التنظيم وتوزيع الأدوار وتفعيل الطاقات، دون عرقلة للعمل ولا فوضى وفردية. إذن فأهل هذا الموقف لم تشغلهم الدراسة والتخطيط عن العمل والتنظيم، وتفعيل الطاقات والأدوار، ولم تنطلق أعمالهم وتنظيمهم دون دراسة وتخطيط، ولم يجعلوا أطرهم التنظيمية حجر عثرة لأعمال دعوية وخيرية، أو تعطيلاً للطاقات، أو حزبية مقيتة تلوث عقيدة الحب في الله والبغض في الله.
_____________
(1) ص (169-171).
ثامن عشر : التوازن في تقويم الأعمال الدعوية والجهادية :
التقويم: كلمة تحتمل معنيين كلاهما مقصود: التقويم بمعنى النقد وبيان قيمة الشيء، والتقويم بمعنى التعديل والتوجيه. وهما أمران متلازمان يكمل أحدهما الآخر(1)، والذين يقوِّمون الحركات الدعوية والجهادية في الأمة اليوم طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو في المدح والثناء: وهم الذين يعرضون هذه الدعوة أو تلك على أنها الدعوة المثالية وأنها امتداد لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتضطرهم هذه النظرة الغالية إلى تبرير للمواقف والأخطاء تبريرًا متكلفًا، حتى لكأنهم يعتقدون العصمة في القائمين عليها، كما يدفعهم ذلك إلى النظر في اجتهادات هذه الدعوة أو تلك على أنها الأمل الوحيد لنهضة الإسلام والمسلمين. وهذا بدوره يجعلهم ينظرون لغيرهم من الدعوات نظر الدونية وضعف الفهم والوعي والتربية والتخطيط.
الطرف الثاني: أهل الغلو والإفراط في النقد والتقويم: وهم الذين ينظرون إلى الدعوات الإصلاحية والحركات الجهادية نظرة تشاؤم وتحامل؛ فلا يرون إلا العيوب، فإن علموا شرًا أذاعوه وضخموه وإن علموا خيرًا كتموه أو أولوه أو أساءوا الظن بفاعليه.
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً عنيِّ وما سمعوا من صالح دفنوا
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم(2)
وأهل هذا الطرف يقابلون الطرف الأول.(/65)
أهل الموقف الوسط العدل: وهم الذين تناولوا تقويم هذه الدعوات ودراستها دراسة عادلة متوازنة بعيدة عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وبعيدة عن الإفراط في الحب أو الكره، وذكروا ما لهذه الدعوات من خير كثير وبلاء عظيم وأثر كبير في الأمة، مع الإقرار بالأخطاء والعثرات والاستفادة منها في تجنبها ومناصحة أهلها.
_____________
(1) مقالات في المنهج: (ص 90).
(2) المصدر السابق: (ص 90) وما بعدها.
تاسع عشر: الوسطية والعدل والتوزان في نقد المخالف ومعالجة الأخطاء:
هذا المبحث في هذه الرسالة من أهم مباحثها وأطولها؛ وذلك لمساسه بالواقع، وما نعاني فيه من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد ومعالجة الأخطاء والجور مع المخالف؛ في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الائتلاف والوحدة والاجتماع، لا إلى الفرقة والاختلاف، كما أننا في حاجة إلى أن يرحم بعضنا بعضًا، وأن يشفق بعضنا على بعض، وأن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويناصح بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وإن كان الأمر مما يسعه الاجتهاد عذر بعضنا بعضًا فيه.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين. والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل لحفظ الفرع»(1).
ونظرًا لأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إلى طرحه ومداولته بين الدعاة فسوف أطيل النفس فيه - إن شاء الله تعالى - محاولاً تغطيته من جوانبه المختلفة بإذن الله تعالى، فأرجو من القارئ الكريم أن يتحمل هذه الإطالة التي سأسعى إلى أن لا تكون مملة.
ومن أهم البواعث على التطويل في هذا الموضوع ما يلي:
1- «قلة الفقه بأنواع الخلاف، وما يسوغ منه وما لا يسوغ، وما ينكر منه، وما يسكت عليه، أو ينصح فيه، وعدم التمييز بين الخلاف في الأصول أو الفروع، واعتبار أصنافه كلها بمنزلة خلاف الأصول؛ كل ذلك أدى إلى كثير من الظلم والإجحاف والفرقة والاختلاف، فكان لا بد من عودة إلى ذلك الفقه الذي ينصف المخالفين ليعودوا مؤتلفين.
2- العصبية التي أهدرت الأوقات وأضاعت الجهود انحيازًا إلى مذهب أو إمام أو رأي فأورثت الفرقة والتباغض، وكان لا بد من تخفيف حدة العصبيات بالإنصاف، ولاءً للحق وتطييبًا لقلوب المخالفين.
3- عموم الإجحاف في تقويم الرجال والجماعات والكتب بسبب تعظيم الهفوات، وغياب الميزان العدل، وعدم اعتبار غلبة المحاسن، ولعدم التعامل بالاحترام اللائق مع المخالف، وبسبب التجريح الظالم لأهواء نفسية أو لمبالغة في تصوير المساوئ، بسبب كل ذلك عمَّت صور الظلم والتنافر فكان لا بد من ضوابط للتقويم تحقق الإنصاف وتشيع روح الألفة.
4- افتقاد كثير من المختلفين للموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل مع المخالفين، وعدم الخبرة بالأساليب الحكيمة في الدعوة، وفي الأمر والنهي؛ أدى إلى تظالم وتقاطع. فرأينا أن العودة إلى منهج أهل السنة تنصف المخالفين وتزيل القطيعة.
5- رجوع كثير من أسباب تظالم المختلفين إلى عدم إعذار المخالف بجهله، أو اجتهاده، وتأوله، أو قيام الشبهة لديه، وعدم قيام الحجة عليه مما أدى إلى تأثيم المخالف، والحكم بضلاله - وقد يكون ممن يعذره الله - فكان لا بد من إنصاف المخالفين بإعذار صاحب العذر منهم، مع مناصحته فيما أخطأ فيه، فهذا أعدل وأدعى إلى التآلف»(2).
والموضوع من الأهمية بحيث لا يستكثر الكلام فيه. أسأل الله عز وجل أن يعينني على هذا الأمر، وأن يجعل فيه بابًا إلى الإصلاح، واجتماع القلوب، وتوفير الجهود على نشر هذا الدين والتصدي لكيد الأعداء والمفسدين وتسلطهم.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ... فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب»(3).
وقبل الدخول في تفصيل الموقف العدل المتوازن في نقد الأخطاء والموقف من المخالف يحسن التقدمة لذلك بمقدمتين هامتين:
المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف المحمود منه والمذموم وأسبابه.
المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف.
_____________
(1) مجموع الفتاوى: (22/245).
(2) انظر «فقه الائتلاف»: (ص 12، 13) ملخصاً وبتصرف يسير.
(3) مجموع الفتاوى: (3/421).
المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف وأسبابه:(/66)
الخلاف من طبيعة البشر؛ وذلك لاختلاف العقول والمدركات، ودخول الهوى على النفوس، وهو قديم وحديث، لكنه قد يفتر أحيانًا وقد يتفجر أحيانًا. ويتميز كل زمان بمسائل معينة يدور حولها الخلاف، ومع كل ذلك فإن الحق واحد ويبقى محفوظًا لا يضره اختلاف المختلفين. وغالبًا ما يثور الخلاف في الأمة وينشغل به الناس حينما تنشغل عن الاهتمامات العالية والجهاد في سبيل الله تعالى، وتميل إلى الاسترخاء والدعة والترف، فيظهر حينئذ الترف الفكري والجدل والهوى.
وليس كل اختلاف في أمر من الأمور مذموم، بل إن هناك كثير من المسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، ولم تؤد بهم إلى الافتراق والتنابذ، بل بقيت المودة بينهم، وبقي الصف موحدًا والقلوب مؤتلفة.
أما من فارقه السلف من المخالفين من أهل البدع فإن ذلك لم يكن إلا حينما خالفوا الأصول، وخالفوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذا تفرق محمود.
أما الاختلاف الحاصل بين أهل السنة والجماعة فلا يعد مذمومًا إلا إذا انتهى بالمختلفين إلى الخصومة والتفرق؛ وذلك لوجود الجهل، أو دخول الهوى والبغي بين المختلفين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - كلامًا بديعًا عن الاختلاف وأنواعه، ومتى يكون مذمومًا، ومتى يكون محمودًا، أرى من المناسب تدوينه في هذا المقام ليمهد لما بعده.
قال - رحمه الله تعالى -: «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(1). وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(2)... ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه الأحاديث هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (آل عمران: من الآية105)، وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: (سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)(3)... فهذا يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النَّزَّال بين سبرة، عن عبدالله بن مسعود قال: «سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: (كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم(4).
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنًا فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ... فأفاد ذلك بشيئين:
أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب؛ وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئًا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئًا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات؛ لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه. ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين، والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادًا - إذ الضدان لا يجتمعان ... والاختلاف(*) على ما ذكره الله في القرآن قسمان:(/67)
أحدهما: يذم الطائفتين جميعًا، كما في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود: من الآيتين 118، 119). فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)، وكذلك قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (آل عمران: من الآية19)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105).
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(5) وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)(6).
فبيَّنَ أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنّة والجماعة.
وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد، وإرادة العلو في الأرض، ونحو ذلك؛ فيحب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله من حصول الشرف له والرئاسة، وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.
ويكون سببه تارة: جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالمًا بما مع نفسه من الحق حكمًا ودليلاً.
والجهل والظلم هما كل شر؛ كما قال سبحانه: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: من الآية72).
أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:
اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه:
منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقًا مشروعًا؛ كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم عن الاختلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلاكما محسن)(7).
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل.
ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها، ونحو ذلك؛ وهذا عين المحرم. ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرًا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر، أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر؛ لكن العبارتين مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
ومنه: ما يكون المعنيان غيرين، لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جداً.
ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين. ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم ...
وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك - إذا لم يحصل بغي - كما في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (الحشر: من الآية5)، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرَّها إلى أن وصل إلى بني قريظة ...
وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتضادان إما في الأصول، وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون «المصيب واحد» وإلا فمن قال: «كل مجتهد مصيب» فعنده هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد. فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيرًا من قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقًا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السنّة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.
وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرًا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.(/68)
ومن جعل الله له هداية ونورًا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنّة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور ...
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) (البقرة: من الآية253).
فقوله: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم الأخرى، وكذلك قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) (الحج: من الآية19) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...) (الحج: من الآية23). مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: «أنها أنزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة، والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد(8).
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك.
وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (البقرة: من الآية213)؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.
وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة»(9).
ومن هذا النقل النفيس عن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في أنواع الاختلاف وأسبابه نخلص إلى النتائج التالية:
الأولى : أن الخلاف مع الكفار والمبتدعة خلاف محمود؛ لأن الله عز وجل يأمر بمفارقة الكفار والمبتدعة ويحب المخالف لهم من أهل السنة والاتباع.
الثانية: أن الخلاف في مسائل الاجتهاد بين أهل السنة إذا لم يؤد إلى الفرقة وفساد المودة فهو خلاف محمود، أما إذا انتهى بالمختلفين إلى الفرقة والخصام، فإن كلا الطائفتين مذمومتان؛ إذ الغالب في مثل هذه الحال دخول الهوى والعصبية إلى النفوس. فمتى أدى الاختلاف في الاجتهاد بين أهل السنة إلى الفرقة، فليعلم أن الهوى أو البغي قد دخل في النفوس.
وفي ذلك يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «... فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً) (الأنعام: من الآية159) .. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها .. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .. وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين»(10).
الثالثة: أن أهم أسباب الخلاف بين المختلفين: إما الجهل بما عند المخالف من الحق والدليل أو الجهل بالأدلة الشرعية بعامة.
وإما البغي والهوى والحسد: إذ قد يتضح الحق للمخالف ولكنه يستنكف عن الانقياد له بغيًا وكبرًا عياذًا بالله عز وجل.
والكلام هنا موجه لأهل السنة والخلاف الحاصل بينهم، وكيف يمكن تفادي الفرقة الناشئة عنه، وما هو الميزان العدل الذي يوزن به هذا الخلاف. أما الخلاف مع أهل البدع والكفر فهو متعين وله مقام آخر.
_____________
(1) انظر سنن أبي داود: (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجة: (3991).
(2) مسند أحمد: (4/102).
(3) مسلم: (2890).
(4) الحديث لا يوجد في مسلم وإنما في البخاري: (2410).
(*) يقصد شيخ الإسلام بالاختلاف هنا ذلك الذي يؤدي إلى التفرق والخصومات.
(5) سبق تخريجه: (ص 207).
(6) انظر ما ذكره الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - عن حديث الافتراق في السلسلة الصحيحة (204).
(7) البخاري: (2410).
(8) البخاري: (2743).
(9) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/135 - 156) ملخصًا، ت: د. ناصر العقل.
(10) الموافقات: (4/221-222).
المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف:
قبل الشروع في الرد على المخالف - سواء كان مشافهة أو كتابة - فلا بد من مراعاة الضوابط الشرعية حتى يؤتي الرد ثمرته المطلوبة ولا يؤدي إلى مفاسد شرعية تربو على مفاسد ترك الرد.
ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:(/69)
أولاً : اتصاف الرَّاد بالعلم الشرعي الصحيح الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبخاصة في المسألة المراد الرد عليها ومناقشتها، وأن يكون الكلام بعلم ودليل، ومأخذ صحيح في الاستدلال؛ ومن ذلك التوثق والتثبت من كلام المردود عليه من كتبه أو كلامه لا من الظنون وكلام الناس. ومن ذلك تحديد موضع النزاع وتحريره.
ثانيًا : اتصاف الراد بالإخلاص والتجرد لله تعالى في رده وبعده عن الهوى والعصبية والتشفي، وهذا يلزم عليه أشياء كثيرة من أهمها:
العدل مع المخالف وإنصافه، وتجنب ظلمه وإهدار حقه وما عنده من المحاسن. وهذا يقتضي الحذر من الهوى والتعصب الأعمى.
وقد ذكر الشوكاني - رحمه الله تعالى - بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم العدل والإنصاف فقال: «واعلم أن أسباب الخروج عن دائرة الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب كثيرة جدًا منها:
[ أ ] نشأة طالب العلم في بيئة تمذهب أهلها بمذهب معين، أو تلقوا عن عالم مخصوص، فيتعصب ولا ينصف.
[ب] حب الشرف والمال، ومداراة أهل الوجاهة والسلطان، والتماس ما عندهم، فيقول ما يناسبهم ولا ينصف.
[جـ] الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم، والتعرض للمناظرات، وطلب الظهور والغلبة، فيقوى تعصبه لما أيده ولا ينصف.
[ د ] الميل لمذهب الأقرباء، والبحث عن الحجج المؤيدة له، للمباهاة بعلم أقربائه، فيتعصب حتى لخطئهم ولا ينصف.
[ هـ ] الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قالها، أو قول أيده واشتهر عنه، ثم تبين بطلانه، فيتعصب دفعًا للحرج ولا ينصف.
[ و ] الزلة في المناظرة مع من هو أصغر سنًّا، أو أقلّ علمًا وشهرة، تجعله يتعصب للخطأ ولا ينصف.
[ ز ] التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها، ويخطئ ما خالفها، وهي نفسها غير مسلمة على الإطلاق؛ فيتعصب بالبناء عليها ولا ينصف.
[ ح ] اعتماد أدلة الأحكام من كتب المذاهب؛ لأنه سيجد ما يؤيد المذهب باستبعاد دليل المخالف، فيتعصب ولا ينصف.
[ ط ] الاعتماد في الجرح والتعديل على كتب المتعصبين؛ إذ يعدلون الموافق، ويجرحون المخالف، فمن بنى على كتبهم يتعصب ولا ينصف.
[ي] التنافس بين المتقاربَيْن في الفضيلة أو المنزلة، قد يدفع أحدهما لتخطئة صواب الآخر تعصبًا ومجانبة للإنصاف.
[ك] الاعتماد على الآراء والأقوال - من علم الرأي - المخلوطة بعلوم الاجتهاد كأصول الفقه مما يترتب عليه تعصب للرأي وخروج عن الإنصاف»(1).
والإخلاص يقتضي الحذر من الكيل بمكيالين: مكيال للنفس يَستوفي فيه، ومكيال للمخالف يُخسره فيه يبخسه حقه.
«عند تقويم مواقف الرجال كم نستنكر سلوكًا لرجل نخالفه، ثم تمر السنون، ويدور الزمان دورته، ويصدر نفس السلوك في موقف مشابه من رجل نحبه ونتفق معه، فنعلل له ونبرر ونحسن الظن، بل ونكبر حكمته التي قد لا تدركها عقولنا!!! لماذا نقبل الشيء نفسه من امرئ ونعده عيباً في غيره؟!!!
قد تجد بعض الناس يبالغون في حب امرئ ومديحه، وقد لا يتركون شرفًا في الدنيا إلا وينسبونه إليه، وتمر أقدار، وبالخلطة والمعايشة الطويلة في السفر والحضر، والتعامل بالدرهم والدينار، وبالدخن والوساوس .. يغدو المادح قادحًا، والمزكي جارحًا، والممدوح مذمومًا .. صور كثيرة من هذه الأصناف نشهدها في بعض الوعاظ والخطباء والموجهين والناصحين الذين يرون في ما يقومون به واجبًا شرعيًا لا يسكت عنه، فإذا ألقيت النصيحة والموعظة إليه، وطرقت سمعه وانهالت التعليمات عليه صار ذلك من سوء الأدب أو سوء الظن به، أو الظلم والتجريح المنهي عنه شرعًا؛ نرى ذلك في الشرح لعيوب الناس ونواياهم، ويسمي تشريحه هذا تقويمًا وتعديلاً، فإذا وضع هو على المشرحة والتقويم سماها غيبة ونميمة، وعدم ستر العيوب بالنصيحة سرًا ...»(2) وغيرها من صور الكيل بمكيالين.
والإخلاص يقتضي حرص الرَّاد على سلامة قلبه نحو المخالف، وأن يحذر من التشفي في الرد والخصومة؛ لأن الإخلاص يقتضي حب الخير للناس والرحمة والشفقة بهم. وهذا شأن أهل السنة والاتباع المخلصين؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق»(3)، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر»(4).
وهذا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر عن نفسه أنه يحب الخير للمسلمين في كل مكان ولو لم يكن يعرفهم أو ينتفع بالخير الذي أصابهم.
فعن ابن بريدة الأسلمي قال: «شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن في ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة»(5).
ثالثاً: الحذر من ردود الأفعال التي قد تذهب بالرَّاد إلى طرف آخر مقابل للمردود عليه متجاوزًا حد التوسط والتوزان والاعتدال.(/70)
رابعًا: قبول ما يظهر على لسان المخالف من الحق والفرح به وبإصابته للحق ورد الباطل من كلامه وتفنيده.
قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: «... ومن أتاك بحق فأقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبًا حبيبًا»(6).
ويقول الشيخ بكر أبو زيد في وصاياه للدعاة: «التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، وباتخاذها رصيدًا ينفق منه الجرَّاح في الثَّلب، والطعن، وأن تدعو له بالهداية. أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين»(7).
خامسًا: لا يؤخذ المخالف بلازم قوله؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب. أي أن ما يلزم على كلام المخالف من لوازم باطلة لا يجوز أن تنسب إليه بمجرد أنها من لوازم قوله؛ فإن هذا من الظلم، كمن يلزم من أحل النبيذ بلازم قوله وهو استحلال ما حرم الله عز وجل، أو من لم ير الجمع بين الصلاتين في السفر بأنه يرد السنة ويهجرها. ولا يلزم أحد بلازم قوله حتى يتبناه صراحة ويعبر عنه بنفسه، أو أن يسأل فيجيب فيكون منطوق لسانه حجة عليه. وإنما يستخدم ذكر لوازم الأقوال لإبطالها، وبيان غلط وتناقض المردود عليه لكي يتراجع عن كلامه.
يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «وأما من كفَّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفرًا، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر .. فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به متجه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط»(8).
سادسًا: الحرص في نقد المخالف على وصف مقالته ونقدها والرد عليها، دون التعرض لشخصه أو نيته ومقصده، إلا إذا ظهرت قرائن قوية تدل على فساد النية وخبث الطوية.
سابعًا : الاعتناء الشديد بالدقة في التعبير والإفهام - سواء كان مشافهة أو كتابة - والبعد في الردود عن الألفاظ الغريبة الغامضة، أو الحمالة حتى لا يفهم كلام الراد على غير ما أراد.
______________
(1) انظر أدب الطلب ومنتهى الأرب: (ص 31) [عن كتاب فقه الائتلاف لخازندار: (ص 57)].
(2) انظر فقه الائتلاف: (ص 101، 102) بتصرف يسير باختصار.
(3) مجموع الفتاوى: (16/96).
(4) مسند أحمد: (3/2881)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1224).
(5) مجمع الزوائد: (9/284)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(6) الإحكام في أصول الأحكام: (4/586).
(7) تصنيف الناس بين الظن واليقين: (ص 77، 78).
(8) الفصل لابن حزم: (3/294).
ذكر الميزان العدل والوسط في نقد الأخطاء والموقف من المخالف:
بعد هاتين المقدمتين عن أنواع الخلاف: محموده ومذمومه وأسبابه، وضوابط النقد وأصوله، ندخل في صلب الموضوع الذي نحن بصدده؛ وهو ذكر الميزان العدل الوسط في نقد الأخطاء، والموقف من المخالفين، مع ذكر طرفي الانحراف عن هذا الميزان العدل. فأقول وبالله التوفيق ..
الناس في موقفهم من الأخطاء ونقدهم لأصحابها طرفان ووسط:
الطرف الأول : أهل الغلو والإفراط:
وهم الذين أفرطوا في نقد الأخطاء وأصحابها حتى جعلوا من الفروع أصولاً ومن بعض الجزئيات كليات. وجعلوا همَّهم تصيد الأخطاء والفرح بها وتضخيمها، ولم يرحموا من وقع فيها من طلاب العلم بل جاروا عليهم في ذلك حتى أساءوا الظن بهم، وبنواياهم، ومقاصدهم، وبخسوهم حقهم، وأهدروا حسناتهم وما لهم من بلاء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم. ولا يخفى ما في هذا الموقف من عدوان، ومجانبة للعدل والإنصاف. وفي أمثال هؤلاء يقول الشعبي - رحمه الله تعالى-: «والله لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة لأعدُّوا علي تلك الواحدة»(1).
ولو أن هؤلاء المنتقدين حاسبوا أنفسهم، وسألوها حينما يخطئون هل يودون أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك سببًا لمراجعة أنفسهم، واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال ومعالجة الأخطاء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.(/71)
وقد قال الله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر:33-35). فقد وصفهم الله بأنهم متقون. و(الْمُتَّقُونَ) هم أولياء الله. ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان»(2).
ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) فيقول: «فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملاً، ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامة الحجة لله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل»(3).
وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بيَّن فيها المسور بن مخرمة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعض عيوبه، وماذا رد عليه معاوية في ذلك لتكون منهجًا في معالجة أخطائنا.
عن عقيل، ومعمر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب. فهل تعدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى أن تُهلكك إن لم تغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العملُ، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني. قال عروةُ: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه(4).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة:
وهؤلاء وإن كانوا قد فرَّطوا في الأخذ بالحق ورد الباطل، والتقليد الأعمى، إلا إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال والتعصب لأخطائهم ولسان حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم.
ولذا ترى الواحد منهم يزعجه ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل، ويدفعه تعصبه لشيخه وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل مبررًا ذلك بمبررات سامجة متكلفة.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل الطرفين السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة الإسلام: «... وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا بمبلغ علمهم - والحق في خلافها - لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثِّم ولا نَعْصِم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ولا مسلكهم في الشيخين رضي الله عنهما»(5).
وينتقد - رحمه الله تعالى - هذين الطرفين بصورة أوضح في معرض ردِّه على بعض الشطحات التي وقع فيها الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين، وانقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات فيقول: «شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه ... [إلى أن قال]: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:(/72)
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم؛ فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار. وأساءوا الظن بهم مطلقًا؛ وهذا عدوان وإسراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حُجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: - وهم أهل العدل والإنصاف - الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته؛ فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردُّوا ما يرد»(6).
ويقول الشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى - في هذا المقام: «... ففي مجال الجرح والتعديل المعاصر تعود الكثيرون إما أن يثقوا بالرجل ثقة مطلقة لا مثنوية فيها، ويقلدوه في الجليل والحقير وإما أن يسقطوه من الحساب، فلا يقبلوا منه صرفًا ولا عدلاً. ومن عجب أنهم أحيانًا ينتقلون من النقيض إلى النقيض، فذاك الذي كان بالأمس ملء أسماعنا وأبصارنا، أصبحنا اليوم لا نملك إزاءه سمعًا ولا بصرًا! وهذه من ثمرات الاندفاع العاطفي غير البصير؛ فإن العاطفة إذا طغت سريعة التقلب لا تعرف الاستقرار والثبات.
سمعت أحدهم يقول على لسان طائفة: فلان أخطأ في مسألة كذا فلا نسمع منه شيئًا! حسنًا .. إذاً فأنتم لا تسمعون إلا من المعصومين؟! ومن أين لكم بهم؟! لا سبيل أمامكم إلا أحد سبيلين:
أولهما: ألا تستمعوا من أحد؛ لأنه ما من أحد إلا ويخطئ، قلّ خطؤه أم كثر، ومعنى ذلك أن تعتمدوا على أنفسكم فلا تنتفعوا بشيخ، ولا تجلسوا إلى فقيه، ولا تسمعوا إلى داع ولا تقتبسوا من مفكر، ثم من قال إنكم لا تخطئون؟ ولِمَ لَمْ تفترضوا أن المسألة التي تنقمونها على فلان أو فلان أنه هو المصيب وأنتم المخطئون؟
أما السبيل الثاني: فهو أن تسلكوا مسلك الفرق الضالة التي اخترعت لها «معصومين» وإن كانوا في الحقيقة «معدومين»، وجعلت قولهم تشريعًا، والرَّاد عليهم رادًا على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله، ولا يستغربن هذا الكلام أحد، أو يظن أنه يستحيل أن يحدث من بعض المسلمين؛ فإن من الناس من يقول هذا بلسان الحال إن لم يقله بلسان المقال»(7).
ويقول - حفظه الله تعالى - في موطن آخر مبينًا ظهور طرفي الإفراط والتفريط في المواقف من الكتب، والمؤلفات، وما فيها من أخطاء المؤلفين فيقول: «هل يتربى قراؤنا - وخاصة من الشباب - على «الموضوعية» والاعتدال في أحكامهم على الكتب؛ بحيث يستطيع القارئ أن يأخذ من الكتاب جوانبه الإيجابية التي أصاب فيها، ويدع ما سوى ذلك، أم أن الشباب - أعني كثيرًا منهم - لا يبيعون ويشترون إلا «بالجملة»! فإما أن يكون الكتاب كله موثقًا ومعتمدًا، وإما أن يكون خطأً وباطلاً. ونحن أناس لا توسط بيننا!
وصلة الكتاب بالمؤلف عريقة وعميقة .. ولذا فإن البعض يتعامل مع الكتب من خلال مؤلفيها فحسب؛ فمؤلفات زيد كلها حسنة ومفيدة، ومؤلفات عبيد كلها على الضد من ذلك. نعم .. هنالك مؤلفون غالب ما يكتبونه صالح، وهناك آخرون لا يحسنون إلا الهدم، فلا يأتي من يحتج مثلاً بمؤلفات أهل الضلالة .. لا. الكلام في مجال الدراسات الإسلامية وما يتعلق بها. وغيرها له حديث آخر، ومن الناحية الواقعية فإن أي كتاب - غير كتاب الله تعالى - لا يسلم من الخطأ والنقص مهما بالغ مؤلفه في تحريره والعناية به»(8).
الموقف العدل الوسط المتوازن:
وأهله هم الذين ذكرهم ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ما سبق وسماهم بالطائفة الثالثة حيث قال عنهم: «وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح؛ بل قبلوا ما يُقبل، وردوا ما يرد»(9) ا.هـ.
أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو والإفراط المضخمين للأخطاء، المهدرين لحق من وقع منه الخطأ، والمهدرين لحسناتهم، المتهمين لنياتهم، بل حفظوا لهم حقوقهم، ولم ينسوا لهم بلاءهم وجهادهم وحسناتهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم. وفي المقابل لم يذهبوا إلى تقديس الأشخاص، وادعاء العصمة لهم - سواء بلسان المقال أو الحال - بل نظروا للمخطئين بأنهم غير معصومين، ولم يدفعهم حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل ما يقولونه، أو أن يسحبوا ذيل الحسن على كل ما يفعلونه.
______________
(1) نزهة الفضلاء: (1/504).
(2) مجموع الفتاوى: (11/66، 67).
(3) بدائع التفسير: (2/105).
(4) سير أعلام النبلاء: (3/150)، ومعنى: (صلى عليه) أي: دعا له.
(5) إعلام الموقعين: (3/358).
(6) مدارج السالكين: (2/220-224) باختصار. ط. دار طيبة.(/73)
(7) مقالات في المنهج: (ص 81، 82).
(8) المصدر نفسه: (ص 86، 87).
(9) مدارج السالكين: (2/224) ط. دار طيبة.
وبعد وضوح الموقف العدل وما يكتنفه من الطرفين المذمومين أسوق فيما يلي نماذج رفيعة لأقوال السلف، ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين وردودهم على بعضهم؛ تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كل مسلم وبخاصة طلاب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في ضوئه وهداه(*):
النموذج الأول: عن عبدالرحمن بن شُمَاسَة قال: دخلتُ على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلتُ: من أهل مصر. قالت: كيف وجَدْتُم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلتُ: خَيْرَ أمير؛ ما يقفُ لرجل منَّا فرسٌ ولا بعيرٌ إلاَّ أبدلَ مكانَه بعيرًا، ولا غلامٌ إلاَّ أبدلَ مكانَهُ غُلامًا، قالت: إنه لا يمنعني قتلُه أخي أنْ أحدِّثكم ما سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول: «اللهُمَّ من ولي من أمر أُمتي شيئًا فَرفَقَ بهم فارفُقْ به، ومن شَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه»(1).
النموذج الثاني: قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة(2).
النموذج الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: «يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقُلْ له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلّغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر. لا تزيدن على ذلك شيئًا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتَّقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: من الآية40) فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم ابدر له إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبْخَسنّ باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل»(3).
النموذج الرابع: قال الذهبي في ترجمته لصاحب الأندلس الناصر لدين الله: «وقد كنتُ ذكرتُ ترجمَتَه مع جدِّهم، فأعدتُها بزوائدَ وفوائد، وإذا كان الرأس عاليَ الهمَّة في الجهاد، احتُملت له هَنَات، وحسابُه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلَمَ العباد، وللخزائن أباد، فإنَّ ربَّك لبالمرصاد»(4).
النموذج الخامس: وقال في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: «ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة(5).
النموذج السادس: كان إسحاق بن راهويه - رحمه الله تعالى - يشيد بعلم الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ويقول: «الحق يحبه الله عز وجل: أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني»(6). وكان أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول في إسحاق: «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا»(7).
النموذج السابع: قال الذهبي في ترجمة قتادة - رحمه الله تعالى -: «وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذُرُ أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كَثُرَ صوابُه، وعُلمَ تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعُه واتباعه، يُغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك»(8).
النموذج الثامن: يقول ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر ذاك في محاسنهم ،وكثرة وصوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين. والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لا سيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه»(9).(/74)
وقال أيضًا: «.. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علماً وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين ... وإن أنت أبيت النصيحة ... وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك لا تزداد لنفسك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبًا، وعن الحق إلا بعدًا، ومن الباطل إلا قربًا»(10).
النموذج التاسع: يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين»(11).
ويُطَبِّق هذا عمليًا في موقفه من شطحات الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها، فتراه بعد ذلك يعقب فيقول: «ولولا أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدراري. ومن كان عنده علم فليرشدنا، ومن رأى في كلامنا زيغًا، أو نقصًا وخللاً فليهد إلينا الصواب، نشكر له سعيه، ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم، والله أعلم وهو الموفق»(12).
ويقول - رحمه الله تعالى - بعد رده على الهروي في منزلة التوبة بعض شطحاته: «ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام(*) إهدار محاسنه، وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عُدَّ خطؤه؛ ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب؛ الذي زَلَّت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا - إلا أقلهم - على أودية الهلكات»(13).
وفي ردِّه - رحمه الله تعالى - على زلة كبيرة للهروي في منزلة (التلبيس) يعقب على ذلك فيقول: «شيخ الإسلام(*) حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه). وصدق رحمه الله؛ فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله. وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى»(14).
النموذج العاشر: رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك - رحمهما الله تعالى - ومما جاء فيها: «سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو.
أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة.
قد بلغني كتابُك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمَّه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا، فجزاك الله عما قدمت منها خيرًا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد أنشَطك ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيت فينا جميلاً، إلاَّ أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأَن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا يُنسب إليه العلم أكره لشَواذِّ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخذ لفُتْياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ونزول القرآن بها عليه بين [ظهراني](15) أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت.(/75)
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). فإن كثيراً من أولئك السابقين الأوَّلين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاءَ مرضاة الله، فجنَّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرْانَيْهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه ... وكان من خلاف ربيعة لبعض ما مضى ما قد عرفت، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأى من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فَرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتُك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسَنةٌ في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله ... [إلى أن قال في ختام رسالته]. وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهِبَ مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نَأَتْ الدارُ، فهذه منزلتك عندي، ورأيى فيك فاسْتيقِنْه، ولا تترك الكتابَ إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدِك وأهلك، وحاجةٍ إن كانت لك، أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أسرُّ بذلك.
كتبت إليك، ونحن صالحون، معافون، والحمد لله.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولينا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك، ورحمة الله»(16).
النموذج الحادي عشر: رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صدِّيق حسن خان - رحمهما الله تعالى - وما فيها من العدل والإنصاف والأدب الجم بين أهل العلم - وإن اختلفوا - وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي:
«من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد الملقب صديق زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالموجب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام؛ شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام. اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق فنفرح بذلك ونسر؛ لغرابة الزمان وقلة الإخوان وكثرة أهل البدع والأغلال، ثم وصل إلينا كتاب الحِطَّة وتحرير الأحاديث في تلك الفصول، فازددنا فرحًا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم والالتقاط من جواهركم؛ لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة الأهواء. فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكماله فرأينا أمرًا عجيبًا ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله وما قرب منه؛ لما من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة، وجعلت السنة كذلك، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشيه، وسلامة عقيدته، وتبعده من تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام. فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله سبحانه: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: من الآية65).(/76)
فالحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم؛ فزاد اشتياق التائق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة، والله على كل شيء قدير فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس. فمن العوائق تباعد الديار وطول المسافات؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة، ومنها خطر الطريق وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب الأموال واستباحة الدماء وإخافة السبيل، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلال بل وأهل الشرك من رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم؛ وكلهم أعداء قاتلهم الله. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا الدين من ينصره، وأن يجعلنا من أهله، وأن يسهل الطريق ويرفع الموانع، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه. ولما رأينا ما منَّ الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا تمكنكم من الآلات، وكانت نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية بين أيدينا، ولنا بها عناية ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا مزجاة من أبواب العلم جملة، وفيها مواضع محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدًا تصدى لشرحها؛ غلب على الظن أنك تقدر على ذلك. فافعل ذلك يكن من مكاسب الأجور وهي واصلة إليك إن شاء الله، فاجعل قِرَاها شرحها وبيان معناها، وأصلح في النية ذلك تكن حربًا لجميع أهل البدع؛ فإنها لم تبق طائفة منهم إلا ردت عليها فهذان مقصدان مِنْ بَعْثِها إليك: أحدهما: شرحها، والثاني: الاستعانة بها على الرد على أهل البدع؛ لأن مثلك يحتاج إلى ذلك؛ لكونك في زمان الغربة وبلاد الغربة، فإن كنت حريصًا على ذلك فعليك بكتاب العقل والنقل، والتسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة والجيوش الإسلامية لابن القيم، ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء. ولنا مقصد رابع مهم وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف 1297هجرية، فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج ولم أتمكن إلا من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه، والغالب على من صنف الكتب كثرة ترداده وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت؛ ويبدل العبارات؛ حتى يغلب على ظنه الصحة غالبًا، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك. والثاني: أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضًا بلفظه وبعضًا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك ولم تمعن النظر فيها - ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال - وما دخل عليك من ذلك فنقول: إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل. وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره. وإذا نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشرح الحديث وجد قلّته وما هو أكثر منه وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك أهل التأويل مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل وأنه من ذلك القليل. وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك. وأنا اجترأت عليك - وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك - لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل، ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك أنك تحب الاجتماع بأهل العلم وتحرص على ذلك وتقبل العلم ولو ممن هو دونك بكثير؛ فرجوت أن ذلك عنوان توفيق جعلك الله كذلك وخيرًا من ذلك...
فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنِّه وكرمه. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحًا لله ورسوله، رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ولم يبق إلا رسومه، وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب. ثم إني لما رأيت الترجمة وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفري. وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السؤول من أقضية الرسول، والروضة الندية شرح الدرر البهية، ونيل المرام شرح آيات الأحكام.
فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ومحبيك بها، وابعث بها إلينا مأجورًا إن شاء الله تعالى؛ وليكن ذلك على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة المشرفة، واكتب لنا تعريفًا بأحوالكم. ولعل أحدًا منكم من يتلقى هذا العلم ويعتني به ويحفظه عنك، واحرص على ذلك طمعًا أن يجمع لك شرف الدنيا والآخرة، ونسأل الله أن يهب لك ذلك.(/77)
ثم اعلم أني قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار لا آمن هجوم المنية، ولي أولاد ثمانية منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد المذكور أولاً، ويليه عبدالعزيز، وتحته عبداللطيف. ونرجو أنهم أهل الكتب وممن يعتز بها ويحفظها. وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب ومن دعائنا: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74)، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128)، لا تنسنا من صالح دعائك كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم»(17). ا.هـ (ملخصًا).
______________
(*) وفي هديه صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة للمواقف المتوازنة والمعالجات العادلة للأخطاء والمنهج الوسط في النقد ما يكفي ويغني. ويكفينا في ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في طريقة معالجته لخطأ حاطب ابن أبي بلتعة [انظر تفصيل هذه المعالجة في رسالة وإذا قلتم فاعدلوا للمؤلف: ص 34-37].
(1) نزهة الفضلاء: (1/327) والحديث رواه مسلم: (1828).
(2) سير أعلام النبلاء: (10/16).
(3) صفة الصفوة: (2/252، 253).
(4) سير أعلام النبلاء: (15/564).
(5) نزهة الفضلاء: (2/1127).
(6) نزهة الفضلاء: (2/775).
(7) المصدر نفسه: (2/840).
(8) سير إعلام النبلاء: (5/271).
(9) فقه الائتلاف: (ص 136).
(10) المصدر نفسه: (ص 206).
(11) إعلام الموقعين: (3/359).
(12) مدارج السالكين: (2/394) ط. دار طيبة.
(*) يقصد بشيخ الإسلام هنا: الهروي.
(13) مدارج السالكين: (1/366) ط. دار طيبة.
(14) مدارج السالكين: (4/352) ط. دار طيبة.
(15) كتبت في الأصل، ظهرى، والظاهر والله أعلم أن مراده هو ما أثبته.
(16) إعلام الموقعين: (3/110).
(17) رسالة لصديق حسن خان: تنبيه له على أخطاء وقعت له في تفسيره من الشيخ العلامة: حمد بن عتيق. (ملخصًا).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي ختام هذه الرسالة أقف وقفتين استدرك في أولاهما بعض ما فاتني فيها من مسائل تتعلق بالموضوع، وأقف في الأخرى لألخص أهم ما جاء في الكتاب من مسائل وموضوعات.
أولاً : وقفة الاستدراك :
كان من بين أبواب هذه الرسالة مبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الوسطية والعدل والتوازن. ولكن لما جمعت عناصر هذا الباب وجدته مشابهًا إلى حد كبير للباب الأخير من رسالة (فاستقم كما أمرت)(1) والذي يبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الاستقامة، ولما كانت الاستقامة تحمل معنى الوسطية والعدل والتوازن فإني اكتفي بما ذكر هنالك من تفصيل لهذه الأسباب، وأحيل إليها القارئ الكريم وأورد هنا ملخصًا سريعًا لبعضها:
1- العلم بالشرع والبصيرة في الدين:
فكلما وجد العلم بأصول هذا الدين ومقاصده ووزنت الحركات بميزان الشرع كانت الأقوال والأفعال والمعتقدات مسددة قويمة عادلة متوازنة. وعلى العكس من ذلك؛ فإن مجاوزة العدل والوسطية والتوازن في الأقوال والأعمال والمعتقد من أسبابها الجهل بهذا الدين وقواعده ومقاصده وأحكامه وعدم الوزن بميزان الشرع القويم.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم، وأنه مقتبس من مشكاة النبوة، ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة»(2).
كما أن في العلم حرق للشبهات التي عادة ما تكون سببًا رئيسًا في مجاوزة العدل والوسط: إما إلى إفراط، أو إلى تفريط؛ كما هو شأن أهل البدع والأهواء المتقابلة، والتي تراوح بين الغلو والإفراط وبين الجفاء والتفريط.
2- مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة :
إنَّ في مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة والتجربة من الدعاة الصادقين المعروف عنهم العدل والتوازن نفع عظيم؛ لأن الصاحب يؤثر على صاحبه فينطبع بأخلاقه ومنهجه. ومما يلحق بذلك مصاحبة السلف الصالح في كتبهم وقراءة سيرهم وما كانت عليه من العدل والتوازن والتوسط بين الإفراط والتفريط. فهذا مما يُؤثِّر في صياغة التفكير والسلوك.
3- مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور :(/78)
إنَّ في مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور والميل إما إلى الإفراط أو إلى التفريط، - سواء من بعض طلبة العلم المتعجلين أو بعض المنتسبين للدعوة الذين زادهم من العلم قليل وحظهم من التجربة والحكمة ضئيل - في مجانبتهم حماية من الوقوع في مجاوزة العدل. وهذا أيضًا يسري على الكتب والمؤلفات التي يغلب على أصحابها قلة العدل والتوازن، وعدم التأني في المواقف والأحداث؛ حيث ينبغي الإعراض عن مثل هذه الكتب والحذر منها. وأول ما يدخل في هذا كتب أهل البدع والشبهات والأهواء والشهوات الذين هم بين غالٍ مفْرِط أو مضيع مفرِّط.
4- العمل الصالح بأداء الفرائض وكثرة النوافل :
فقد جاء في الحديث الصحيح: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ... الحديث»(3).
فمن هذا الحديث يتبين فضل الأعمال الصالحة وآثارها في حفظ الله عز وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه؛ وذلك بحفظ جوارحه فلا يتحرك إلا في مرضات الله تعالى، ولا يبصر إلا بالله، ولا يسمع إلا بالله؛ ومن هذا شأنه فهو الموفق للحق والعدل والسداد.
ومن أفضل الأعمال الصالحة: الصلاة، والصيام، والذكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69).
5- الرفق والأناة وعدم التعجل :
إن العجلة والتسرع وترك التؤدة لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات والشهوات، وتجعل العبد يميل إما إلى الإفراط أو التفريط - سواء في المعتقد أو القول أو العمل - والعكس من ذلك في الأناة والرفق؛ فإنهما غالبًا ما يكونان بابًا إلى التعقل والحكمة والسداد في القول والعمل.
6- التواصي بالحق والتناصح بين المسلمين :
وهذا من أعظم ما يسد به باب التطرف والغلو والإفراط والتفريط؛ فكلما كثر التناصح بين المسلمين، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل كان في ذلك الاهتداء إلى الحق ومدافعة الباطل بشبهاته وشهواته. وعلى العكس من ذلك؛ فعندما يضعف التناصح والتواصي بالحق، ويقل الأمر والنهي فإن الأفكار المنحرفة تنتشر بين الناس من غير إنكار، فتتشربها القلوب وتستحسنها العقول، وأصحابها يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
7- الصبر وتقوى الله عز وجل :
قال الله عز وجل: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: من الآية90).
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
وقال عز وجل: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: من الآية186).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه»(4).
ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «فالتقوى تتناول فعل المأمور وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور»(5).
إذن فلزوم الاستقامة والعدل والتوازن في الأمور لا بد له من تقوى الله عز وجل، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والصبر على ذلك؛ لأن العلم بالشرع لا يكفي وحده في لزوم الوسطية والعدل وإصابة الحق إن لم يكن معه التقوى والصبر؛ فكم ممن يتجاوز العدل والحق إما لضعف دينه وتقواه، وإما لضعف صبره وتحمله.
8- دعاء الله عز وجل وسؤاله الهداية إلى الحق ولزومه :
يعد الدعاء من أعظم الوسائل والأسباب في لزوم الحق والعدل؛ لأن الله عز وجل هو الهادي والموفق إلى الحق والعدل، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى. قال الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27).
فمن سأل الله عز وجل الهداية للحق بصدق وإخلاص وأخذ بالأسباب المعينة على ذلك أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه. ومن أنفع الأدعية وأجمعها ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يستفتح صلاته في الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(6).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(7).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والسداد)(8).
وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم»(9).
ثانيًا : الوقوف مع أهم ما جاء في الكتاب من مواضيع :(/79)
تدور أبواب الكتاب ومباحثه على إبراز هذه السمة العظيمة لهذا الدين وأهله؛ ألا وهي سمة العدل والوسطية والمأخوذة من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).
ومن أهم المباحث التي جاءت في الكتاب ما يلي:
[ 1 ] أهمية دراسة هذا الموضوع المتمثلة في تحرير معنى الوسطية، وأنها العدل والحق والتوازن بين طرفي الإفراط والتفريط، وأنها ليست كما يفهمها بعض الناس في كونها الالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، أو الرضى بالحلول الوسط. كما أنها لا تعني التشدد والتضييق.
كما برزت أهمية الموضوع أيضًا في ما نعانيه اليوم من مجانبة للعدل والتوازن في كثير من أصول الدين وأحكامه وأخلاقه، والنزوع فيها إما إلى الغلو والإفراط وإما إلى الجفاء والتفريط والإضاعة.
كما تأتي أهمية هذا الموضوع في كون العلم به وبجوانبه المختلفة بابًا إلى إعادة النظر في المواقف المتشددة أو المتساهلة، وبخاصة في جانب المعاملات والسلوك والأخلاق. وهذا الفهم يقود بإذن الله تعالى إلى الاجتماع والائتلاف، كما يقود إلى تفهم رأي المخالف والمعالجة العادلة لأخطائه، وإشاعة الود والتراحم بين المؤمنين وإن اختلفوا.
[ 2 ] تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...) الآية، وذلك بذكر أقوال بعض المفسرين وبعض الأحاديث المعينة على فهم الآية الكريمة.
[ 3 ] ذكر الأحاديث الواردة في لزوم الوسط والعدل، والمحذرة من الغلو والإفراط أو من التفريط والإضاعة، مع شرح موجز لبعضها.
[ 4 ] تم تقسيم مظاهر الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين إلى قسمين كبيرين:
القسم الأول : مظاهرها في الخلق والتقدير:
وفي هذا القسم تم الحديث عن عظمة هذا الكون ودقة نظامه وتوازنه، والتي تدل على عظمة خالقه عز وجل وحكمته وعدله ورحمته، وذكرت أمثلة متفرقة لهذا التوازن والنظام الدقيق في خلق الله عز وجل؛ سواء ما كان منها في الآفاق كخلق السموات والأرض وما بينهما من الأفلاك، وما على الأرض من الآيات الباهرات، أو ما كان منها في الأنفس وما فيها من عجيب صنع الله تعالى ودقة نظامها، وما فيها من التوازنات التي تبهر العقول وتحير الألباب، وتدل على وحدانية رب الأرباب.
القسم الثاني : مظاهرها في الأمر والشرع :
وفي هذا القسم تم الحديث عن شريعة الله عز وجل المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما فيها من الوسطية والعدل والتوازن الواقعة بين الإفراط والتفريط. وذكرت تحت هذا القسم أربعة مباحث مهمة:
الأول : مظاهرها في العقيدة وأصول الدين.
الثاني : مظاهرها في شعائر التعبد.
الثالث: مظاهرها في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : مظاهرها في المعاملات والأخلاق.
وذكرت في باب العقيدة وأصول الدين مجموعة من الأمثلة التي يذكرها علماء السلف وأنها وسط بين طرفين مذمومين هما أهل الغلو والإفراط، وأهل الجفاء والتفريط؛ وذلك كقولهم إن أهل السنة والاتباع وسط في الأسماء والصفات بين المعطلة النفاة وبين المجسمة المشبهة، وهم وسط في باب القدر وأفعال العباد بين القدرية والجبرية، وهم وسط في الوعد والوعيد بين الخوارج الغلاة المكفرين لأهل الكبائر ومن نحا نحوهم كالمعتزلة وبين الجفاة المفرِّطين كالمرجئة ومن شابههم، وغيرها من أبواب العقيدة.
وذكرت أيضًا في شعائر التعبد مجموعة من الأمثلة على التوسط في كثير من العبادات، والتحذير من الوقوع في طرف الإفراط والغلو الذي لم يشرعه الله عز وجل أو في طرف التفريط والتقصير. وذكرت أمثلة ذلك في الصلاة والصيام ومناسك الحج، وحرمان النفس من بعض الطيبات، وحرمانها من الأخذ بالرخص الشرعية وغيرها.
كما ذكرت في باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطية هذا الدين فيها، وما يكتنف الوسط العدل من طرفين مذمومين هما الإفراط والتفريط.
وأما قسم المعاملات والأخلاق فقد أطلت النفس فيه، وذكرت أمثلة كثيرة من الأخلاق، وكيف يكون التوسط والعدل فيها؟ وما هما الطرفان المذمومان اللذان يكتنفان كل خلق محمود؟ وسبب الإطالة في هذا القسم ما نعانيه في واقعنا المعاصر من أزمة في الأخلاق؛ وبخاصة ممن ينتسب منا إلى أهل السنة والجماعة، مما كان له أكبر الأثر في التفرق والخصومات.
وقد ركزت من بين الأمثلة التي ذكرتها على التوسط والعدل والتوزان في النقد ومعالجة الأخطاء، وذكرت الوسط المحمود وما يكتنفه من الطرفين المذمومين، وتوجت ذلك بذكر طائفة من النماذج المضيئة للمواقف العادلة المتوازنة لسلفنا الصالح في نقدهم لبعضهم البعض، ومعالجة أخطاء بعضهم بعضًا علها تكون نبراسًا لنا وأسوة حسنة نقتدي بها في زمن كثرت فيه الأهواء، وتكالبت فيه الأعداء من خارج الأمة وداخلها.(/80)
وفي ختام هذه الخاتمة أتوجه إلى الله عز وجل بسؤاله الإخلاص والصواب فيما أقوله وأكتبه وأعمله، كما أسأله سبحانه الهداية للحق والعدل والانقياد لهما والعمل بهما.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عصر يوم السبت
الموافق 32/3/4241هـ
______________
(1) وهي الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة الوقفات التربوية.
(2) مدارج السالكين: (3/125) ط. دار طيبة.
(3) البخاري: (6502).
(4) عدة الصابرين: (ص 54).
(5) مجموع الفتاوى: (2/286).
(6) رواه مسلم: (770).
(7) الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أُصبُعي الرحمن، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2792).
(8) صحيح مسلم: (2725).
(9) صحيح مسلم: (2725).(/81)
يا أبت
محمد الدويش
المحتويات
مقدمة
هكذا شأن التربية
هدف الحياة يا أبت
الإهمال يا أبت
مفهوم الصداقة يا أبت
السيارة يا أبت
وسائل اللهو
بين الدراسة وصلاة الفجر
حين اكتشفت الشرارة
التعليم
يصلح إذا كبر
أزمة الثقة
مشاعري غالية يا أبت
أعطني جزءاً من وقتك يا أبت
المصارحة يا أبت
الواقعية يا أبت
الخوف والجبن
كيف يعالج الخطأ
القسوة والغلظة يا أبت
الرحمة والحنان يا أبت
المكافأة
الفجوة الحضارية يا أبت
فارق العمر يا أبت
الزواج يا أبت
الناس معادن يا أبت
القدوة يا أبت
مجالس الآباء حين يحضرها الابن
مرحلة الالتزام
1. هل كان لك دور يا أبت؟
2. لماذا تكون عائقاً يا أبت ؟
3. أتدري يا أبت كم حفظت من القرآن ؟
4. أتعرف أصحابي ؟
5. هل أنا متشدد فعلاً ؟
أختي يا أبت
· وأخيرا
مقدمة
هذه أفكار تربوية صاغها المحاضر على شكل رسالة أرسلها ابن إلى أبيه، يحدثه عن بعض الأخطاء التربوية، وهاهنا تنبيهات:
1- إن هذا الحديث لايعني أن نضع الآباء في قفص الاتهام، وقاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية، إن القضية ابتداءً وانتهاءً هي محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوى أعلى من التربية.
2- لن نتحدث في هذه الدقائق عن نظرية تربوية شاملة، ولا عن أسس تربية الابن، إنما هو محاولة لإلقاء الضوء على بعض التصرفات التربوية الخاطئة التي تصدر من بعض الآباء.
3- الكثير من الآباء يدرك مسؤوليته عن التربية، وخطورة إهمال ابنه ومصطلح ( تربية الأبناء) مصطلح واضح له دلالات محددة لديه. لكن هذا شيء وسلوك الطريق السليم شيء آخر.
4- إن هذا الحديث لايعني أن الأب وحده هو المسؤول الأول والأخير، وأن نقف موقف المحامي والمدافع عن الابن؛ إنما الأب بدون شك يتحمل جزءاً من المسؤولية، ولايعني من الذي يتحمل الجزء الأكبر بقدر مايعني ضرورة الوقوف على الخطأ وتصحيحه.
5- وحديثنا هنا لايعني أن هذا شأن الجميع، وأسلوب الكافة، بل هناك من يحسن التربية، ويجيد التوجيه وهو مثال للأب المربي الواعي.
6-ولايعني أيضاً سرد هذه الأخطاء التربوية أن كل أب يحوي هذه الأخطاء جميعاً، فالأول له نصيب من هذا الخطأ دون ذاك، والثاني كذلك، والرابع.. والخامس. بل لعل هذه الأخطاء لايمكن أن تجتمع في أب واحد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله علينا وعليكم نعمة الإسلام، والصحة والعافية، أحييك يا أبت بتحية أهل الإسلام، تحية المحبة والمودة، تحية من لهج قلبه بالتوقير والحب لك، ولسانه بالثناء عليك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا أبت أذكرك مع إشراقة كل شمس وغروبها، أذكرك مع إقبال الليل وإدبار النهار، حين أسافر وحين أقيم، حين أحل وحين أرتحل؛ فمحياك لايفارق ناظري، وذكراك لاتزول عن خاطري.
يا أبت كم هي عظيمة آلاؤك عليَّ، وكم هو جميل إحسانك لي، ولن أستطيع إحصاء أفضالك، أو عد محاسنك، فأنت الذي تفتحت عيني على رؤياه، وتحملت المشاق من أجلي .
يا أبت لقد قرأت في كتاب الله عز وجل حواراً بين إبراهيم وأبيه وفي كل كلمة يقولها لأبيه يصدرها بقوله يا أبت. فأحببت أن يكون هذا عنوان رسالتي إليك يا أبت.
ومعاذ الله، معاذ الله يا أبت أن أضع نفسي موضع إبراهيم، وأضعك موضع أبيه، أو أن أتحول إلى موجه لك ومعلم.
يا أبت لقد عِشْتُ مرحلة من العمر مضت بما فيها، مرحلة غفوة وصبوة، ثم من الله علي بالهداية، وجلست أفكر ملياً وطويلاً فيما مضى، وما أعانيه؛ فقررت بعد طول تفكير ، وجزمت بعد طول تردد أن أسطر لك هذه الرسالة لأتحدث معك بكل صراحة، وأخاطبك بكل وضوح فأصارحك ببعض ما أرى أنه كان لاينبغي تجاهي من أساليب تربوية، وأنا أجزم أنك بإذن الله ستتجاوز هذه الأخطاء تجاهي أولاً، وتجاه إخوتي ثانياً.
إن المصارحة ضرورة، يا أبت، والتهرب من الواقع لن يجني ثماره غيرنا.
يا أبت : لايدر في بالك أبداً أن ماأذكره عنوان نقص قدرك لدي، أو دليل ضعف محبتك، أو مبادئ عقوق حاشا لله. إني وحين أسطر هذه السطور لازلت أدعو لك في صلاتي، وما تركت موطناً أرجو فيه إجابة الدعاء إلا وتوجهت لك بالدعاء الخالص. ولازال لساني يفيض لك بعبارات الثناء والاعتراف بالجميل ، أسأل الله أن يعينني على برك وأداء حقك.
وقد تطول فصول هذه الرسالة لكن ذلك خير من أن تطول فصول المعاناة، ويكثر سرد الأخطاء وهو خير بكل حال من أن يكثر الندم والتحسر على الإهمال، وهذا أوان الشروع في المقصود.
هكذا شأن التربية :
[ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون].
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته "متفق عليه.(/1)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : " حافظوا على أبنائكم في الصلاة وعودوهم الخير فإن الخير عادة ".
قال ابن القيم : " قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق؛ فكما قال الله تعالى [ووصينا الإنسان بوالديه حسناً] وقال تعالى [قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة] قال علي بن أبي طالب : علموهم وأدبوهم. وقال تعالى [واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اعدلوا بين أولادكم " فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم قال تعالى [ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيرا] فمن أهمل تعليم ولده ماينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة؛ وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم على العقوق، فقال يا أبت إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً ".
وقال الغزالي :"الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل مانقش، ومائلٌ إلى كل مايمال به إليه؛ فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه، والوالي له. وإلى هذا أشر أبو العلاء في قوله :-
وينشأ ناشيء الفتيان فينا *** على ماكان عوده أبوه
ومادان الفتى بحجى ولكن *** يعلمه التدين أقربوه
وهاهو ابن باديس يا أبت يقول : " إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشرباً أرده، وقاتني، وأعاشني، وبراني كالسهم، وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً ".
هدف الحياة يا أبت :
كثيراً ما تحدثني يا أبت حديثاً مستفيضاً عن المستقبل، حديثاً ألمس منه الحرص، وحرارة العاطفة: " يابني اجتهد في دراستك لتتفوق بإذن الله فتحصل على الشهادة العالية، والوظيفة المناسبة، لقد كنت تحدثني عن بناء المنزل، والزواج، والأولاد، والوظيفة" حتى اختزلت أهداف الحياة لتصبح هذا الهدف الوحيد، والمراد الأهم والأساس، لكني يا أبت لم أسمع منك يوماً من الأيام الحديث عن دوري في الحياة يابني اجتهد لتكون أهلاً لأن تخدم أمتك، وتساهم في نصرة دينك. يابني لقد ابتعد الناس عن شرع الله وأعرضوا عن معينه الصافي، فالأمل فيك أن تعد نفسك، وتبني ذاتك لتكون أهلاً للمشاركة في إنقاذ الأمة من رقادها ". ألا ترى يا أبت أن هدف الحياة أعلى وأسمى من مجرد حطام الدنيا الفاني، ويؤسفني يا أبت أن أقول لك نشأت وترعرعت والدنيا همي، فلأجلها أدرس، وأتعلم، وأعمل.
لقد حفظت يا أبت مما حفظته في عمدة الأحكام حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ".
الإهمال يا أبت:
ألا تشعر يا أبت أن واجب التربية يفرض على المربي المتابعة لابنه ومعرفة مدخله ومخرجه؛ فما نصيبك أنت يا أبت من ذلك. إنك لاتعرف أحداً من أصدقائي اللهم إلا عن طريق الصدفة. أما أين أذهب؟ وكيف نقضي أوقاتنا؟ وماذا نمارس؟ فهذا مالاتعلم عنه شيئاً.
إن هذا السلوك التربوي والذي يكون دافعه الإهمال، أو الثقة المفرطة أحياناً. إن هذا السلوك يريح الابن، ويفتح له الباب على مصراعيه لكن نهايته يا أبت لن تكون محمودة العاقبة، ولامطمئنة النهاية.
إنني حين أدعوك يا أبت للمتابعة، والملاحظة فلست أدعوك أن تكون كوالد زميلي في الفصل والذي يحدثني عن نفسه يا أبت أن والده يفرض عليه رقابة صارمة، فلا يسمح له بالخروج من المنزل، ويشك في تصرفاته، ولابد أن يراه في المسجد وإلا فهذا يعني أنه لم يؤد الصلاة، ويقوم بتفتيش غرفته الخاصة، وأحياناً يتصنت على مكالماته الهاتفية. وتصور يا أبت أنه قام بقياس المسافة بين منزله والمدرسة ليعرف هل سار بسيارته إلى شيء آخر. إن هذا الأسلوب يا أبت يخرج ابناً محطماً لايثق بنفسه، ولايتعامل مع الآخرين، وحين تتاح له الفرصة فسينطلق دون قيد أو وازع. فحين ينتقل إلى الجامعة ويجاوز القرية فسينفتح على عالم لن يجيد التعامل معه، بل افترض أن والده قد مات فماذا ستكون حاله بعد ذلك؟
فالتوسط هو سنة الله في الحياة يا أبت؛ فالإهمال أمر مرفوض، والرقابة الصارمة والقسوة هي الأخرى مرفوضة كذلك.
مفهوم الصداقة يا أبت :(/2)
جليس السوء يا أبت كنافخ الكير كما شبهه صلى الله عليه وسلم وليس من وصف أبلغ من هذا الوصف. لقد كنت يا أبت تنهاني فعلاً عن جليس السوء لكني اكتشفت فيما بعد أن مفهوم السوء يحتاج إلى تحرير وتحديد. لقد سألتني عن صديقي محمد فقلت لك إنه ابن فلان، فقلت : نعم الرجل والده فقد كان صاحباً لي وخيِّراً، وكأني يا أبت سوف أصاحب والده، ومحمد يا أبت من أسوأ الشباب الذين صحبتهم، وأبناء خالي كانوا لايقلون عنه سوءاً، وقد كان لهم عظيم الأثر علي في مقتبل حياتي، ومع ذلك كانت قرابتهم هي المؤهل الوحيد لديك لتزكيتهم.
إن القرابة يا أبت، ومعرفة والد الصديق ليست معياراً في صلاحه.
السيارة يا أبت:
يا أبت لاأنسى ذاك اليوم الذي سلمتني فيه مفتاح السيارة، ومعه بعض الوصايا العاجلة، لقد فرحت بها، وقدرت لك الموقف في حينه، وكنت أقدم لك مايرضيك للحصول على هذا المطلب، وبعد أن تقدم بي العمر اكتشفت يا أبت، أنه كان الأولى أن يتأخر هذا القرار.
معذرة يا أبت إن قلت لك إنك اشتريت السيارة استجابة لضغط أمي وإلحاحها، وثانياً لأكفيك أمور المنزل وحاجات الأهل، إن من حقك يا أبت أن تبحث عما يرضي ابنك، ومن حقك تجاه ابنك وواجبه نحوك أن يكفيك مؤنة المنزل وأعباءه؛ لكن ذلك ينبغي أن لايكون على حساب التربية يا أبت.
نعم أقولها يا أبت وبكل أسف لقد كنت قبل أن يهديني الله أذهب بسيارتي إلى حيث مالايرضي الله، دون أن تعلم أبت أين أذهب، أو حتى والدتي، ومع اعترافي يا أبت بأني أتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية إلا أني أعتقد أن من أعطاني السيارة في ذاك الوقت يتحمل جزءاً لايقل عما أتحمله أنا.
وسائل اللهو:
يا أبت : من الذي أحضر جهاز التلفاز في البيت، وبعده جهاز الفيديو، وبعده صحن الاستقبال، من الذي سمح لي باقتناء المجلات الهابطة، والأغاني الساقطة، أليس أبي؟ ويطالبني بعد ذلك بالاتزان، بالجد في الدراسة والتفرغ لها، وقد تاه قلبي في أودية وشعاب أخرى لاتخفى عليك يا أبت.
ألا ترى أن الأولى كان يا أبت هو ذكر مساويء هذه الأجهزة، والتحذير منها، والنهي عنها بدلاً من تأمينها، أو السماح باقتنائها.
بين الدراسة وصلاة الفجر:
لقد حفظت يا أبت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر "، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لايتخلف عنها إلا منافق "، وأبي يوقظني لصلاة الفجر أحياناً، لكنه لايزيد على أن يوقظني بكلمة واحدة ثم ينصرف، وكم من مرة تخلفت عن الصلاة فلم أسمع منه كلمة عتاب، أما الإجازة فأنت تعلم متى كنت أصليها.
أما حين تخلفت يا أبت عن الدراسة فتعلم ماذا صنعت معي يا أبت، أترضى يا أبت أن يقول الناس عنك إن الصلاة أقل شأناً وأهون قدراً لديك من الدراسة وأمور الدنيا ؟ اسمح لي يا أبت إن قلت إن صنيعك يشعر الناس بذلك.
وكم كنت أتمنى أن تصنع كما يصنع والد جارنا محمد فهو يحدثني عن والده أنه يوقظه للصلاة بكل هدوء، ثم يصحبه إلى المسجد، وهذا شأنه من الصغر حتى اعتاد على ذلك. وذات يوم تأخر عن الصلاة فدعاه والده وقال له يابني لاتخفى عليك قيمة الصلاة وفضلها، وخاصة صلاة الفجر. واليوم لم تستيقظ للصلاة، فأرجو أن تفكر ملياً ما السبب في ذلك ؟ فإن اكتشفت أنه السهر حرصت على النوم مبكراً، وهكذا.
يالها من تربية عالية يا أبت.
حين اكتشفت الشرارة:
لازال في خاطري وهاجسي يا أبت موقفك حين اكتشفت أول مظهر من مظاهر الانحراف عند أخي - وقد كان ذلك بالطبع عن طريق الصدفة وبعد وقت طويل - أتذكر يا أبت كيف كان موقفك ؟ كلمات لاذعة كالعادة، وتأنيب قاس، وماهي إلا أيام وكأن شيئاً لم يكن، حتى استمرأ أخي ماهو عليه، وألف الفساد.
ما رأيك يا أبت لو كان البديل أن جلست معه جلسة خاصة، وفتحت له قلبك، وسألته المصارحة. ما السبب ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ أتعرف عواقب هذا الطريق ؟ وما ذا أستطيع أن أعينك به ؟ وهذا كله مع قدر من الحزم والجدية، ألا ترى أن هذا البديل قد يكون أنجع، وأن هذا الحل قد يكون أولى.
التعليم:
أعتقد يا أبت أن التربية أبعد مدىً من مجرد الأمر بالصلاة، والنهي عن المنكرات، والتي حتى لانسمعها إلا بلغة أعلنت المقاطعة التامة مع الرفق والحكمة. أليس من حقي يا أبت عليك أن تأخذ بيدي في وصية بالغة، أو موعظة، أو تذكير، أو تعليم مسألة من المسائل.
لقد قرأت يا أبت في كتاب الله عن لقمان الذي آتاه الله الحكمة وصيته الجامعة الفذة لابنه؛ وكم كنت أتمنى أن أتلقى منك مثل هذا التوجيه والتعليم.
يا أبت أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت.... "(/3)
قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : كان سعد يعلمنا خمساً يذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر " رواه البخاري.
قال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص : كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يابَني إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.
يا أبت : قال ابن سحنون في كتابه آداب المعلمين عن القاضي الورع عيسى بن مسكين أنه كان يقرئ بناته وحفيداته. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه، وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
لقد كان السلف يا أبت يعنون بتعليم أبنائهم وتوجيههم ومن ثم حفظ لنا التاريخ الوصايا الكثيرة التي تلقوها من آبائهم. روى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع أن إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي : ائت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
وحين سافرت يأبت مع أستاذي في رحلة مدرسية عشت فيها جواً أستذكر طيفه وخياله كل يوم، فكنت أسمع التوجيه، والموعظة، والتأديب، والفائدة من أستاذي بلغة التعليم، والتربية. مما كنت لا أسمعه من أبي وللأسف. ومما حفظته في المدرسة يا أبت :_
عود بنيك على الآداب في الصغر ***كيما تقر بهم عيناك في الكبر
فإنما مثل الآداب تجمعها*** في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
يصلح إذا كبر:
كنت أقدم الشاي يوماً للضيوف وأسمع بالطبع مايدور بينكم من نقاش كان يهمني بدرجة كبيرة لأنه حديث عنا معشر الأبناء. وصدمت بتعليقك : ( يكبر حين يصلح... هكذا الشباب... وقد كنا نحن في الصغر كذلك حتى هدانا الله... ) وقلت في نفسي نعم تقول كنا كذلك لأنك للأسف يا أبت لم تعلم ماذا نصنع، ولاتدري ماذا نمارس، ولو علمت بذلك كان لك منطق آخر ولغة أخرى، وقد تساءلت بمرارة يا أبت عن هذا المنطق يكبر حين يصلح، فمن يضمن ذلك، ولم لايكون البديل يزداد إيغالاً في السوء والانحراف؟ ثم هل تضمن له أن يكبر يا أبت ؟. أتذكر قبل شهرين حين توفي اثنين من زملائي تغمدهم الله برحمته، وبعدهم بأسبوعين توفي اثنان كذلك، ولم تتصور أن ابنك لن يكون كهؤلاء فيتخطفه الأجل قبل الموعد الموهوم الذي تنتظر أن يتوب فيه.
أزمة الثقة:
أجد يا أبت فرقاً شاسعاً بين ما ألقاه منك من تعامل حين أكون مع الناس، وبين مافي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام:" أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟" فقال الغلام : لا والله يارسول الله لاأوثر بنصيبي منك أحداً، فتله – أي وضعه – رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الشيخان يا أبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه : " من الشجر شجرة لايسقط ورقها ومثلها مثل المسلم فحدثوني ماهي؟" فذهب الناس في شجر البوادي وكان ابن عمر أصغر القوم فاستحيا أن يقول إنها النخلة، وحين أخبر أباه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له : لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا.
يا أبت لقد تجرأ ابن عمر رضي الله عنه أن يحدث أباه بعد ذلك بما دار في نفسه، وشجعه أبوه رضي الله عنه على أن يكون قالها، وفي الوقت نفسه لم يعاتبه ويوبخه على عدم قوله لها.
كنت أقرأ في التاريخ يا أبت عن سيرة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وعبدالله بن عمر، والأرقم بن الأرقم، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من شباب الصحابة الذين كانت لهم أدوار محمودة في تاريخ أمتهم، وفكرت يوماً من الأيام أن أتطلع لأكون مثلهم، وأقتدي بهم. لكني وجدت أن أبي قد رباني على أني لست مؤهلاً إلا لإيصال الأهل للسوق، وإحضار الخبز للمنزل؛ حتى الفاكهة لست مؤهلاً لشرائها من السوق، فضلاً عن الذبيحة، ومع ذلك لست مؤهلاً لاستقبال الضيوف، أو الجلوس معهم إلا حين أقوم بتقديم القهوة والشاي فقط.
ألا ترى يا أبت أن هذا قد أدى إلا طمس الثقة بنفسي حتى أصبحت أشعر أني لست مؤهلاً لأي دور في الحياة.
مشاعري غالية يا أبت:
أتذكر يا أبت حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي، وتعثرت في الطريق، أتذكر كلمات التأنيب أمام عمومتي وأقاربي؟ إن كنت نسيتها فإن الصافع ينسى مالاينساه المصفوع، وهل تتصور أني نسيت يا أبت حين قدمت إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي وفي مجلس قريب من المجلس نفسه فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لقيت؟ وهل تريدني أن أنسى ذاك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟(/4)
بل أحياناً يا أبت تحملني ما لم أتحمل؛ ففي ذات مساء أمرتني أن أحضر الطيب للضيوف فذهبت إلى أمي فوجدته لم ينته بعد وعدت إليك، ألم يكن لديك بديل عن التأنيب لي ولأمي ؟ أو ليس الأولى أن تقدر في نفسك أنه لما ينته بعد؟ وهب أنه تأخر لدقائق وما ذا في الأمر؟ أعتذر لك يا أبت عن الاستطراد في هذه الأمثلة لأقول لك بعد ذلك ألا تتصور أني إنسان أحمل مشاعر وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي ؟
لقد حفظت يا أبت في عمدة الأحكام أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لأحد أصحابه حين أهدى له صيداً وهو محرم، فلما رأى مافي وجهه دعاه، واعتذر له وقال:" لم نرده عليك إلا أنا حرم".
أعطني جزءاً من وقتك يا أبت :
كم هما شخصيتان متخلفتان يا أبت، شخصية أبي حين يكون مع أصحابه وزملائه يتحدث وإياهم بكل انبساطة وسعة بال، وقد علته ابتسامة مشرقة، والشخصية الثانية لأبي نفسه حين يجلس معنا فلا نراه إلا على وجبة الطعام، والسكوت قد خيم على الجميع لايقطعه إلا الأوامر التي ترد منه تارة وتارة. أما أن يصحبنا في نزهة، أو يباسطنا الحديث، أو يسأل عن أحوالنا فهذا ما لايمكن. إني حين أراك يا أبت مع أقرانك يؤسفني أن أقول إني أحدق النظر فيك، وأعيده مرة وأخرى. أهذا هو أبي فعلاً. لقد كنت أشعر أني يتيم حين حفظت في المدرسة :-
ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم الذي تلقى له*** أماً تخلت أو أبا مشغولاً
يا أبت أقترح عليك أن تمسك ورقة وقلماً وتسجل فيه كم ساعة تقضيها في العمل الرسمي من وقتك ؟ ثم كم ساعة للراحة ؟ وكم ساعة للزملاء ؟ وكم ساعة لمشاغلك الخاصة ؟ وأخيراً كم ساعة لتربية أبنائك ؟ أخشى أن تجد إجابة مزعجة يا أبتك أخبرك عنها سلفاً لأني أعرفك جيداً. ستجد أن وقت التربية - إن استطعت أن تحسبه - لايمثل إلا نسبة تافهة من وقتك لاتسحتق الذكر. هل فكرت ياأبي أن تقرأ كتاباً أو تسمع شريطاً عن التربية وأسسها. أهكذا قدر أبنائك عندك ؟ وقيمتهم لديك ؟
يا أبت لقد دعاني ذلك أن أمنح زملائي الثقة المفرطة، وأن أستأمنهم على مشكلاتي، وأستشيرهم في أموري، وأستأمرهم في قراراتي، مع أنني أدرك أن أبي أكثر خبرة، وأصدق لهجة، وأعمق نصحاً من زملائي، لكني لاأجد الوقت المناسب له لأفاتحه الحديث، ولو وجدت الوقت لكانت أمامي العقبة الآتية:
المصارحة يا أبت :
لقد حدثتني نفسي مرة يا أبت أن أصارحك ببعض مشكلاتي ومعاناتي حين كنت وإياك على مائدة الطعام وقد سيطر عليها الصمت المطبق كالعادة، ولكني لم أستطع لأني أعرف أن الجواب سيأتيني قبل أن أكمل حديثي، لأني أعرف أني لن أعطى الفرصة للحديث، ناهيك عن أن تناقش مشكلتي بهدوء وتجرد وبموضوعية بعيدة عن التشنج والغضب.
يا أبت ألا توافقني أن الابن يحتاج إلى أن يفتح الأب له صدره، حتى يفضي له بما يريد، ويشكو له مما يعاني؟ وأن لغة النقد والتشنج تقضي على كل حماسة منه للمصارحة يدفعه لها حرارة المشكلة؟
الواقعية يا أبت:
كم مرة يا أبت دعوتني وأنا خارج من المنزل لتكلفني بإيصال أهلي، أو إحضار طلب معين لك، فأخبرك أني على موعد مع أصحابي، فأطلب فرصة للاعتذار منهم على الأقل، أو أطلب تأخير طلبك لوقت آخر وهو قابل للتأخير. فلا ألقى منك إلا الزجر والتأنيب.
يا أبت : لاشك أن من حقك أن لاأتردد في تلبية أمرك، وأن لاأقدم عليك أحداً؛ لكن ألا توافقني يا أبت أنك لو كنت تعاملني بمرونة أكثر فتخبرني بطلبك قبل وقت كاف، وتسألني عن الوقت المناسب لي، وتؤخر لي أحياناً ما يحتمل التأخير، ويبقى قدر بعد ذلك لايتسع له هذا المجال يمكن أن أضحي فيه، أما أن يكون هذا هو القاعدة فقديماً قيل إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، ألا ترى يا أبت أن هذا الأسلوب يشعرني بالاحترام والتقدير، ويشعرني بالثقة في النفس، ويدعوني لأداء ماتطلبه بنفس راضية مطمئنة؟
الخوف والجبن:
إننا يا أبت أمة رسالة، أمة جهاد في سبيل الله، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، ومن لم يغز أو يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق، أليس من حقي عليك يا أبت أن تربي لدي الشجاعة، وعدم الخوف مما سوى الله سبحانه وتعالى؟
أترى أن أساليب التخويف في الصغر من الهر.... من اللص.... من العفاريت.... من عامل النظافة...- ولايتغير حين يتقدم بي السن إلا الأسلوب فقط - أترى أن هذه الأساليب تخرج شاباً مؤهلا ً لحمل الرسالة، والجهاد في سبيل الله والتضحية لأجله سبحانه؟ وهل تظن يا أبت أنت أو أمي أن مثل ذلك سيخرج أمثال خالد بن الوليد، أو صلاح الدين، أو نور الدين الشهيد؟
لقد كانت الشجاعة مضرباً للمثل في الثناء والمدح عند العرب، يربون أبناءهم عليها، ويغرسونها فيهم، ويعير أحدهم بالجبن. أفينكل عنها من اختارهم الله ليكونوا حملة الدين والرسالة؟
كيف يعالج الخطأ:(/5)
الخطأ يا أبت لايخلو منه بشر فهو صفة ملازمة للإنسان، فكيف بالشاب الصغير؟ ومن واجب الأب أن يصحح خطأ ابنه، وأن يوقفه على أخطائه، والجميع يوافقه بل ينتظر منه ذلك.
ولكن ألا تشعر يا أبت أن أسلوبك في معالجة الخطأ يحتاج إلى بعض المراجعة فهل يسوغ أن لاتترك صغيرة أو كبيرة إلا واجهتني بها؟ ثم لماذا تعالج الأخطاء بالقسوة دائماً؟ كثيرة هي المرات يا أبت التي أتلقى فيها ضرباً مبرحاً، أو لوماً عنيفاً، أو صداً وإعراضاً، والسبب خطأ تافه لايستحق مجرد الوقوف عنده، بل يا أبت إن بعض المواقف لاأكتشف خطئي فيها، أو لاأقتنع أن مافعلته خطأ فضلاً عن أن يصل إلى حد العقوبة.
ما رأيك يا أبت لو تم علاج الخطأ من خلال المناقشة الهادئة، والإشارة، والتلميح، والتغاضي عن بعض الأخطاء أحياناً، ألا تتصور يا أبت أن هذا أولى؟
وأود أن تطرح على نفسك هذا التساؤل : هل المقصود من الإجراء الانتقام لأني أخطأت ؟ أم المقصود التخلص من الخطأ وتجاوز آثاره ؟. وعلى ضوء الإجابة يتحدد الأسلوب الأمثل في معالجته. ويؤسفني يا أبت إن قلت لك إني مع يقيني أن مقصودك علاج الخطأ. إلا أن أسلوبك يشعرني أن المقصود هو الأول.
القسوة والغلظة يا أبت :
وتصور يا أبت أن بعض الآباء يسجن ابنه في دورة المياه أعزك الله، والآخر قد جهز غرفة في المنزل لسجن ابنه حين يقع في الخطأ، والثالث قد أعد سلسلة من الحديد يربط فيها ابنه حين يقع في الخطأ.
أما الضرب المبرح والقاسي فهو لايخفى عليك سنة يمارسها الكثير من الآباء.
إنك توافقني يا أبت أن هذا السلوك ينتج ابناً عدوانياً، متبلد الإحساس، ينظر إلى والده نظرة الكراهية والاشمئزاز، ويتمنى فراقه بأي وسيلة ولو كانت الوفاة يا أبت.
والبديل لذلك يا أبت ليس هو التدليل وترك الحبل على الغارب كما لايخفى عليك يا أبت.
الرحمة والحنان يا أبت:
لست أدري أين يذهب هؤلاء عن قول معلم البشرية ومربي الأمة " إنما يرحم الله من عباده الرحماء "وقوله: "من لايرحم لايرحم "وقوله: " الراحمون يرحمهم الرحمن "وقوله: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً بهم فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ".
وقوله في الثناء على النساء :" خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده ".
حفظت يا أبت في عمدة الأحكام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامه بنت ابنته زينب.
وجاء الحسن يتعثر في ثوبه وهو صلى الله عليه وسلم يخطب فينزل من المنبر ويحمله ويقول:"إن ابني هذا سيد وسوف يصلح الله به بين طائفتين من المسلمين" كم هو عظيم ذاك القلب الرحيم الذي يرعى حق الذرية ويحسن إليهم حتى وهو يحمل عبء الرسالة والدعوة، وحتى وهو يصلي بالناس، أو يخطب فيهم. أقول لك يا أبت إني مع الاعتذار الشديد كنت أحتاج إلى هذه المعاني فهلا استدركتها في حق إخوتي الصغار.
المكافأة:
قرأت يا أبت في مستدرك الحاكم أن ابن عباس رضي الله عنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضوءاً فقال له : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
أورد الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث عن النضر بن الحارث قال : سمعت إبراهيم بن أدهم يقول : قال لي أبي : يابني اطلب الحديث فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم فطلبت الحديث على هذا.
ليس بالضرورة أن يكون الثواب مالاً، بل الثناء الحسن، بل السؤال وحده كاف ليمنح التشجيع والحث، كم مرة يا أبت استخدمت هذا الأسلوب مع ابنك ؟ كم مرة سمع منك الثناء والتقدير ؟ فضلاً عن المكافأة ؟ وهل يمكن أن نضع ثوابك وعقابك في كفتين ؟.
الفجوة الحضارية يا أبت :
لقد عشت يا أبت في جيل وعصر له ظروف وملابسات، وتبدلت الأحوال، وتقلبت الأمور بعدك يا أبت، فها نحن نعيش في عصر جديد، تختلف موازينه، ومتغيراته، وقيمه. عشت يا أبت في بيئة محافظة في قريتنا العامرة لاتعرف إلا الخير والفضيلة، ولاترى ما وراء أسوار القرية، لكن نجلك يا أبت قد عاش في عصر آخر، عصر عمت فيه الفتن، وازدادت فيه المغريات، وأصبحت يا أبت أستيقظ وأصبح وأمسي عليها. لقد كان غاية ماتعترض له يا أبت من فتنة امرأة ترتدي عباءتها وتسير تحت الحائط قد أثر في جنبها من التصاقها به، أما أنا يا أبت، فحين أخرج من المنزل تقابلني يفوح العطر منها وقد أبدت مفاتنها، وأخرج بعد ذلك للمدرسة فأجلس مع زملائي فأسمع منهم من الأحاديث مايثير الغافل، ويوقظ الساهي، وأعود إلى المنزل فأراها أمامي على الشاشة فاتنة سافرة، تتكسر وتتغنج، وحين أذهب إلى المحل التجاري أرى المجلات وقد زينت أغلفتها بهذه الصور، أما جهاز الفديو يا أبت فلايخفى عليك مافيه، ويجهز علي مابقي جهاز الاستقبال الذي أصبح يعرض أمام ناظري قنوات العالم بأسره. هذا ما أواجهه يا أبت وهذا ما أعاني منه.
فهل لازالت بعد ذلك يا أبت تعاملني بعقلية العصر الذي عشته وألفته.
فارق العمر يا أبت :-(/6)
وبعيداً عما قلته يا أبت في الصفحة السابقة أنت بلغت أشدك، وأنا لازلت شاباً مراهقاً، أنت متزوج من اثنتين، وأنا لازلت أعزباً، فتجلس معي أمام شاشة التلفاز، فيثيرني مالايثيرك، ويحرك مشاعري مالايحرك لديك ساكناً، فهلا فكرت يا أبت وأنت ترى ما أنا عليه، بل وحتى تقييم أعمالي، وأخطائي، هل فكرت في سني ومبلغي من العمر؟
الزواج يا أبت :
ومع ماسردته لك يا أبت من معاناتي مع الشهوات والفتن، فلست بحاجة إلى أن أذكرك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم : " يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ". أتخشى ألا أقوم بأعباء الزواج وقد قال الله الذي بيده الأرزاق [وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم].
تعتذر يا أبت بعدم القدرة، لكنك بعد ذلك تزوجت الزوجة الثانية، وهذا أمرٌ من حقك ولا أتدخل فيه. لكني أتصور يا أبت أن حاجتي أكثر إلحاحاً من حاجتك للزوجة الثانية. وأظن أيضاً أنك قادرٌ على تزويجي بأقل من نصف مادفعته أنت للزوجة الثانية.
وبعد ذلك اشتريت لي السيارة بمبلغ كان يكفي أقل منه، فيوفر جزء من ذلك لما أنا أحوج إليه ألا وهو الزواج.
الناس معادن يا أبت:
لقد من الله يا أبت على أخي محمد بذكاء، وفطنة، وشخصية جادة تتعلق بمعالي الأمور، وصبر وجلد ليس لغيره من إخوته وأنا كذلك مثلهم. لكن ياأبي مابالك دائماً تريدنا أن نكون مثل محمد حتى في الذكاء، والحفظ، والفطنة، مما لانملكه، ودائماً تذكرنا به، وتعيرنا أنا لم نكن مثله مما أوغر صدورنا تجاهه، وجعله يتكبر علينا.
لقد اكتشفت يا أبت حين تقدم بي العمر أن الناس مواهب وطاقات، وأن الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، فهلا أخذت هذا في حسبانك يا أبت وأنت تعامل أبناءك؟
القدوة يا أبت:
كم مرة يا أبت أوصيتني أن أقول لمن يطلبك في الهاتف إن والدي غير موجود، وحين أوصلتني للمدرسة قبل أن تشتري لي السيارة أمرتني أن أعتذر بأعذار غير صادقة. في حين سمعت الإمام بعد صلاة العصر مراراً يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ". وقوله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف... ". وسمعت من أستاذي، ومن خطيب الجمعة النهي عن الكذب والتغليظ على من فعله، ألا ترى يا أبت أني تعلمت الكذب وبكل أسف في المنزل، وممن ؟ ممن كان الأولى به أن يكون القدوة الحسنة، من أكبر رجل في المنزل، وقل مثل ذلك في السماع الحرام، والنظر الحرام، والتهاون بالصلاة.
أليست التربية يا أبت بالقدوة من أول وأهم جوانب التربية ؟.
مجالس الآباء حين يحضرها الابن:
حين تجلس يا أبت مع أصحابك، وأقدم لكم الشاي دون أن أقول كلمة - كالعادة - أسمع ما يجري بينكم مما أرى أنه كان ينبغي الترفع عنه ولو أمامي على الأقل يا أبت.
لا أفهم يا أبت كيف تفيضون في أمور النساء، وغالب حديثكم لا يجاوز ما بين السرة والركبة. وأمامكم شاب مراهق، لديه من الشهوة مالا يفتقر إلى ما يثيره، فيسمع مثل هذا الحديث. هلا سألت يا أبت نفسك عن أثر مثل هذا الحديث على أمثالي.
أليس مدعاة لأن تثور الشهوة لدي وأنت تعلم أني لا أجد المصرف الشرعي.
أليس مدعاة إلى قدوة سيئة، واستمراء لمثل هذا الحديث في مجالسي مع أصحابي، وهناك حيث لا يضبطها ضابط، أو يمنعها وازع، فقد تتطور إلى مالايخفى عليك.
مرحلة الالتزام :
لقد عشت يا أبت مرحلة من الغفلة والصبوة كما قلت لك في بداية رسالتي ثم من الله علي بالهداية وانتقلت إلى مرحلة جديدة، أستأذنك يا أبت أن أحدثك قليلاً عنها :
1. هل كان لك دور يا أبت؟
كم كنت أتمنى أن يكون صاحب الفضل في التزامي واستقامتي بعد الله هو أحب الناس وأقربهم إلي هو أنت يا أبت.
ولكن كم يؤسفني أن هذا الرجل لم يكن له أي دور؛ بل وحين هداني الله كنت أنتظر التشجيع، أن أرى تغيراً؛ ولكن وللأسف لم أجد شيئاً يذكر.
2. لماذا تكون عائقاً يا أبت ؟
وحيث لم أجد ذلك يا أبت هل وقفت موقف الحياد، أم أن الأمر تغير بالاتجاه المعاكس. كم أعاني يا أبت حين أريد أن أسافر للعمرة، أو أشارك مع طلاب الحلقة.
ولست أدري يا أبت ما أقول هاهنا؟ كم مرة ودعت أصحابي ودموعي تذرف لأني لم أصحبهم لالشيء إلا أن أبي لم يوافق؟ كم من ورقة أحضرتها من المدرسة تطلب الموافقة على المشاركة في برامج الجمعية المدرسية، وكان إمضائك دائماً في زاوية لا أوافق؟
3. أتدري يا أبت كم حفظت من القرآن ؟(/7)
لقد التحقت بعد أن هداني الله يا أبت في حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، ومضيت في حفظ كتاب الله بجدية وعزيمة، وها أنا الآن قد أتممت حفظ القرآن، وابتدأت بحفظ عمدة الأحكام، ومع ذلك يؤسفني يا أبت أن أقرب الناس إلي لم يعلم عن ذلك شيئاً، إنه لم يوجه إلي سؤالاً في يوم من الأيام.
ماذا حفظت ؟ أي درس حضرت ؟ ماذا علمت ؟.
أي أثر يتركه يا أبت ذاك الأب الذي يسأل ابنه ماذا حفظ؟ وماذا تعلم؟ وما أخبار الحلقة، وأخبار الدرس الأسبوعي في المسجد؟ ويصحب ذلك بالتشجيع، والحث، والثناء والدعاء:" اللهم فقهه في الدين، وزده علماً وعملاً ".
4. أتعرف أصحابي ؟
كم مرة تقابلهم يا أبت لدى الباب، فلا يحظون منك بالسلام فضلاً عن الترحيب، والتقدير، أو الجلوس معهم، والتعرف عليهم، ومعرفة أحوالهم. ألا ترى يا أبت أن ذلك يشعرني بالتقدير، بالاهتمام، بالثقة، بالرجولة؟
5. هل أنا متشدد فعلاً ؟
كم سمعت منك هذا الوصف يا أبت؟ ولست أدري هل انتقلت إليك العدوى من وسائل الإعلام الغربية؟ فما أن أفوه بكلمة وما أن تراني على عمل حتى تنهاني عن التشدد، وحتى صيام النفل مدرج في القائمة لدى أبي ضمن التشدد، فضلاً عن قيام الليل، وحتى إنكار المنكر، وآلات اللهو هو الآخر يعتبر تشدداً.
لا أنكر يا أبت أني قد أقع في الخطأ، وقد أبالغ أحياناً لكن أهكذا تؤخذ الأمور ؟ فضلاً عن أن يكون الحق وفق ما رأيت.
أختي يا أبت :
وأخيراً والوقت يلاحقنا يا أبت أستأذنك في أن أحدثك عن معاناة أختي، والتي شأنها شأني لم تجد وقتاً للحديث، أو مجالاً للمصارحة، يا أبت تعلم مايخطط الأعداء للمرأة المسلمة، ومايعملون لجرها إلى الرذيلة والفساد، وأختي واحدة من هؤلاء.
فهل تستطيع أن تشكي لك مشكلة؟ أو تصارحك بهم يا أبت؟ بل هل تستطيع أن تجلس معك دقائق؟
يا أبت ألا ترى أن خلافك مع والدتي ينبغي أن يؤجل ليكون خاصًّا؟ هل ترى مما يخدم المصلحة-وبالذات مع أختي- أن تؤنب والدتي أمام الجميع، وعلى أمور تافه ربما زيادة أو نقص كمية الملح أو السكر في الطعام؟
يا أبت : أليس من حق أختي أن تعجل موضوع زواجها، بل أن تبحث لها أنت عن الزوج الصالح، ولنا سلف يا أبت في عمر حين عرض ابنته على الصديق.
يا أبت : أليس من حق أختي أن تأخذ رأيها في الزواج ؟ وأن لا تكون ضحية معرفتك وصداقتك لوالد زوجها، والذي معيار تزكيته لديك معرفتك لوالده وأخواله؟
أليست أجهزة اللهو مما يدمر أختي يا أبت؟ أتدري يا أبت أن أختي تعلمت مصطلحات الحب، العشق، الغرام، العلاقة العاطفية.. ومن أين؟ مما أمنه لها والدي ليسليها ويقضي وقت فراغها الذي وفرته لها الخادمة النصرانية.
وأخيرا :
وأخيراً يا أبت فهذا حصاد الخاطر المكدود، وهذه نتيجة العزيمة التي دفعتني إلى هذا الحديث الصريح، الذي أرجو ألا يكون فيه افتئات عليك، أو سوء أدب معك، أو إخلال بحقك في البر والإحسان.
موقع الدويش(/8)
يا أدعياء التسامح والديمقراطية من يكره من
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن العداء القائم ضد الإسلام والمسلمين وخاصة في كثير من الدول الغربية هو نتيجة طبيعية للصورة النمطية التي رسمها كثير من الكتاب والباحثين والمستشرقين والمنصّرين والتي تقوم على رسم المسلمين على أنهم عنصريون وأغبياء ومتخلفون وقتلة، وأنهم لا يستحقون الحياة، ومن ثم تتم الإساءة لدينهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يسوّدون به كتاباتهم منذ قرون.
ولم يكن ذلك وليد ما حصل مؤخراً مما أثارته صحيفة دانماركية بنشرها عدداً من الكاريكاتيرات وما أحدثته تلك الهجمة من ردود أفعال كبرى من المسلمين نصرة لنبيهم عليه الصلاة والسلام، ورفضاً لكل ما يسيء له؛ فإن ديمقراطيتهم المزعومة التي ينشرونها ويطالبون بتطبيقها وتتولى كثير من دولهم المقاتَلة على إقرارها مما هو معروف للجميع، وسنوضح كذبها وعدوانيتها وكراهيتها للإسلام ووصم ثقافته بأنها تقوم على الكراهية كما يزعمون!!
ونحن نتساءل بكل صراحة: هل من الديمقراطية والحرية الإساءة للآخرين والسخرية من أديانهم؟ وهل من الديمقراطية والحرية إهانة أنبياء الله المرسلين؟ أو حتى الإساءة والإهانة ولو لإنسان واحد بدون وجه حق؟
ثم أين ما يزعمون من حقوق في حرية الدين؟ وأين ما يدَّعونه من دعاوى حقوق الإنسان؟ وأين احترامهم لما في دساتيرهم من احترام للقيم الدينية والإنسانية؟ ولماذا يقتصر الاحترام لأمور بعينها تخصهم؟ حتى إنهم يجرِّمون من يتجرأ على مجرد ذكرها والتشكيك فيها كما في «مسألة الهولوكست» إلى حد أنه يمكن أن يعاقب ويسجن كل من ناقشها ولو ببحث علمي بحت كما حصل في حق «جارودي» حيما ألف كتابه الشهير «الدولة الصهيونية والأساطير المؤسسية» حيث شُهِّر به وعوقب وهو في أرذل العمر.
وأخيراً وليس آخراً نشرت وكالات الأنباء العالمية إدانة محكمة نمساوية في 21/2/2006 المؤرخَ البريطاني (ديفيد ارفنج) لإنكاره (الهولوكست) وحكمت عليه بالسجن 3 سنوات وكان معتقلاً منذ نوفمبر 2005، والويل لمن يجرؤ على الكلام بالنيل من الصهاينة حتى ولو كان ذلك بالحقائق!!
بينما الإساءة للإسلام والمسلمين قائمة في وسائل إعلامهم المرئية والمكتوبة والمسموعة؛ حيث تؤثر تأثيراً سلبياً وسيئاً في حق دين سماوي، ومن ثم التنفير من أن الإسلام مع أنه هو الدين الذي احترم الأديان الأخرى ولا يصح إسلام مسلم ما لم يؤمن بالإله ـ جل وعلا ـ وملائكته وكتبه ورسله، ولا يفرق بين أحد منهم، وأشاد بالأنبياء كلهم وساق قصصهم، وصحح كثيراً من الأخطاء التي نُسبت لهم مما يدفع كل قارئ منصف لأن يُعجَب بهذا الدين ويعلن إسلامه؛ ولذلك يعلن كثير من الغربيين إسلامهم ولسان كل واحد منهم: (لقد كسبت محمداً (-صلى الله عليه وسلم-) ولم أخسر المسيح) وهذا ما جعل متطرفيهم يعلنون العداء والعنصرية البغيضة ومحاربة ديننا الحنيف بدون وجه حق؛ خوفاً من أن ينتشر هذا الدين بينهم لما يتميز به من قيم أخلاقية ومبادئ إنسانية، وكما قيل: الإنسان عدو ما جهل. هذه مواقفهم غير الموضوعية؛ فمن يكره من؟
إن المتابع المنصف يلمس عداء القوم للإسلام والمسلمين في صور شتى معروفة كثيراً ما يسيئون بها لديننا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ الإساءة والإهانة لنبي الإسلام من خلال تلك الرسوم الكاريكاتورية المهينة، وهو ما أحدث ردود فعل كبرى لدى المسلمين في شتى ديار الإسلام، وحينما طالب المسلمون الدانماركيون بالاعتذار عن تلك الخطيئة رفضت الصحيفة في شخص رئيس تحريرها الاعتذار، وحينما رُفِعَ الأمر للقضاء رفض القضاء عندهم الشكوى بدعوى أن ذلك حرية رأي لا يملكون حيالها رداً، وزاد طغيانهم وعنصريتهم وحقدهم يوم قامت المقاطعة الشعبية لمنتجات المستهزئين بنا والتي لم يتوقعوها، وأحدثت في أيام محدودات أضراراً كبرى على اقتصادهم مما جعل رئيس وزرائهم بعد عدة أشهر يطالب بتهدئة الأمور؛ فهو تارة يعتذر، وتارة يصرّ على عدم الاعتذار؛ فمن يكره من؟
2 ـ إعادة العديد من الصحف والمجلات الأوروبية في فرنسا وإيطاليا والسويد والنرويج لتلك الرسومات المهينة نفسها مع ما فيها من إساءة وإهانة للمسلمين؛ فمن يكره من؟(/1)
3 ـ ارتكب حزب عصبة الشمال الإيطالي حماقة جديدة وخرجت صحيفة (لابدانيا) برسوم كاريكاتورية جديدة مسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطالب رئيس تحرير الصحيفة المذكورة في افتتاحيتها باتباع خطى الحكومة الدانماركية في رفض الاعتذار للمسلمين قائلاً: (أيها الرسامون اتحدوا من أجل معركتنا في مواجهتهم حتى لا يضعونا تحت أقدامهم...)، مع دعوته لبابا الفاتيكان الحالي لشن حرب صليبية ضد المسلمين وأنه سيحشد الشباب الكاثوليك ضد ما أسماه بالتغلغل الإسلامي، واتصل بالسفارة الدانماركية مؤيداً موقفهم من عدم الاعتذار للمسلمين، وهذا ما نشرته كثير من الصحف العربية(1)؛ فمن يكره من؟
4 ـ اليمين المتطرف في دولة السويد رفع سقف الإساءة لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بإعلانه في صحيفة حاقدة عن مسابقة كاريكاتورية جديدة لرسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في مارس المقبل، وقالت الصحيفة على لسان رئيس تحريرها: إن حرية التعبير تتجاوز المنع بشأن محمد؛ لافتاً إلى ضرورة دعم الصحيفة الدانماركية، وداعياً للتقدم برسوماتهم!! هكذا وبكل وقاحة! فمن يكره من؟
5 ـ أن القوانين الوطنية في كل الدول الغربية تحترم حقوق الإنسان ومنها حقه في التدين؛ ومن ثم تجريم الإساءة لمعتقدات المتدينين؛ فأين القوم من هذا التجييش الحاقد؟ وهذا العمل يجرمونه هم، وهو ما يسمونه بـ (التجديف) وهو ممنوع نظاماً لديهم؛ فكيف يتناسى أولئك العنصريون هذه الأمور بدعوى أنها حقوقهم في الحرية المزعومة؟ فمن يكره من؟
6 ـ معاناة المسلمين المهاجرين في جُل دول الغرب؛ فما زالوا يعانون الأَمَرَّين من المضايقات والسخرية وخاصة بحجاب الفتيات اللاتي يُمنعن من ارتدائه بدعوى أنه رمز ديني، بينما لباس المتدينات النصرانيات أقرب ما يكون للحجاب الإسلامي ولا يُمنع، فلماذا؟ لا شك أن ذلك يذكِّرهم بالإسلام؛ والتزام أهله به يسوؤهم، وخاصة أن قبولهم المهاجرين المسلمين كان متوقعاً منه في مخططاتهم دمجهم في مجتمعاتهم الغربية وإذابتهم فيها تماماً، لكنهم فوجئوا بالتزام الأجيال الجديدة بإسلامه واعتزازهم به، ورفضهم الذوبان في المجتمعات الغربية، وما لمسه الغرب من انتشار الإسلام بين الغربيين أنفسهم حتى صار الإسلام الديانة الثانية في أوروبا، وتناقصت أعداد الغربيين حتى صرخ أحد رموزهم محذراً من تلاشي قومه في كتابه «موت الغرب»(1). هذه فلسفتهم ورؤيتهم التي تقوم على الخوف من الإسلام مع أنه دين يحترم دينهم وله أخلاقياته المحترمة وقيمه الإنسانية الرفيعة، ومع ذلك يكرهونه ويحذرون منه؛ فمن يكره من؟
لقد أصبحت كراهية الإسلام ظاهرة مَرَضية يعانون منها كثيراً حتى سموها «الإسلام فوبيا» وقد ضرب على وتره العنصريون وذوو الاتجاهات اليمينية المتطرفة.
وللحق والحقيقة؛ فإن هناك أفراداً واتجاهات موضوعية في الغرب ترفض ذلك النهج العدواني وتحذر منه، ومن ذلك المستعرب (الألماني) الشهير (فريتس شيبات) في كتابه القيم «الإسلام شريكاً»، الذي تحدث فيه عن المفاهيم والأفكار الخاطئة التي يُروَّج لها في الغرب ضد الإسلام؛ داعياً قومه إلى تصحيحها، وأمرهم بتعديل مواقفهم الخاطئة من الاتجاهات الإسلامية، ومحاولة فهمها بشكل موضوعي بعيداً عن التعصب والنظرات الشوفينية(2).
ونحن نعتقد أن الشرق والغرب لم يكونوا برؤية الشاعر الإنجليزي (كبلنج) حينما قال: «الشرق شرق، والغرب غرب؛ ولن يلتقيا» بل سيلتقيان وإن اختلفت الأديان بعدما أصبح العالم قرية كونية، وذلك بإشاعة العلم والمعرفة والدعوة، وبتفعيل وسائل الاتصال، وبعد إزالة الشبهات المغرضة وكشف الاتجاهات العنصرية وفضحها؛ وخاصة بعدما صدر عام 2004م من قرارات أممية تجرِّم التطرف العنصري وتدين الربط بينه وبين الإسلام أو ربط الإسلام بالإرهاب، وكذلك رفض الممارسات والتمييز العنصري؛ وهذا يزيل العوائق التي يستشهد بها أعداء الإسلام في محاولاتهم البائسة في الإساءة للإسلام بهدف وضع العراقيل ضد انتشاره بينهم.
ونعتقد جازمين أنه لو فُتح المجال لدعاة الإسلام وبشتى الأساليب الإعلامية المختلفة لأمكن للغربيين أن يدخلوا في دين الله أفواجاً، وخصوصاً بعدما لمسناه مؤخراً من إدانة صريحة لتلك الموجة العارمة ضد الإسلام ونبيه من بعض رجال الدين النصارى وعلى رأسهم بابا الكاثوليك، ورؤساء بعض الكنائس الغربية في بريطانيا، وغيرهم.
ولقد تناولنا في هذا العدد ملفاً علمياً موضوعياً عن كشف منطلقات الإساءة للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، نصرةً له ـ عليه السلام ـ وكشفاً للاتجاهات المعادية لديننا الحنيف، آملين أن يجد فيه القارئ ما يشفي ويكفي، كما تطرقنا في ملف آخر عن انتصار حركة حماس الإسلامية في الانتخابات النيابية الأخيرة في فلسطين، وفيه يتضح مدى كراهية كثير من الغربيين للإسلام من زاويتين:(/2)
1 ـ الحقد الدفين المتمثل في الإعلان منذ وقت مبكر وقبل ظهور نتائج الانتخابات الفلسطينية من عدم تعاون الغرب مع حماس إن فازت، بل إنهم سيقطعون الإعانات الإنسانية عن الشعب الفلسطيني إن رشَّحَ حماس.
2 ـ سكوت الغرب حيال استفزاز الصهاينة للشعب الفلسطيني بالقتل والغارات العدوانية بعد فوز حماس، ولا نكاد نسمع أي اعتراض غربي على هذه الهجمات الهمجية، ولسان حالهم يقول للصهاينة: اعملوا ما تريدون، ولعل المقصود هو إفشال مشروع حماس في الإعداد القائم للحكومة المنتظرة، مع معاناتها من رفض التعاون معها حتى من رفاق السلاح والمقاومة؛ فهل يليق أن يكونوا مع العدو ضد (حماس)؟ سبحان الله العظيم!
ويبقى السؤال قائماً ومشروعاً: من يكره من؟
وهل ثقافة الكراهية المنسوبة زوراً للمسلمين صحيحة أم لا؟ أم هي ثقافة الآخر المعادي لنا ولديننا ولنبينا -صلى الله عليه وسلم-، والمخالفة لكل القيم والنظم الإنسانية؟
ندع الإجابة للقارئ الكريم؛ فقد اتضح لذي عينين أين تكمن ثقافة الكراهية وعند من.
ومما يبشر بالخير أن تلك الموجة العدوانية ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدانمارك جعلت الكثير من عامة الناس يبحثون عن حقيقة الإسلام، ومن هو هذا النبي الذي هوجم وسُخِرَ منه فثار له أتباعه والمؤمنون الذين يدافعون عنه؟ ونؤكد على أن الاحتجاج يجب أن يكون بعيداً عن العنف والتدمير؛ إذ لا مبرر له، بل إنه يضر أكثر مما ينفع.
لقد جعلت هذه الهجمة الظالمة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً من هؤلاء بعد الاطلاع على سيرته -صلى الله عليه وسلم- وتعاليم دينه يعلنون إسلامهم؛ فلله الحمد من قبلُ ومن بعدُ(/3)
يا باغي الخير! أقبل 1
عناصر الموضوع :
1. خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار
2. أبواب من الخير غفل الناس عنها
يا باغي الخير! أقبل:
لقد يسر الله لهذه الأمة العمل، وضاعف لها الأجر، وفتح لها من أبواب الخير أموراً كثيرة، وفي هذه الخطبة يواصل الشيخ الكلام عن هذه الأعمال التي قد سبق ذكر شيء منها في خطبة سبقت.
خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا في الخطبة قبل الماضية عن بعض أبواب الخير التي فيها أجر عظيم يجهلها أو يهملها كثير من المسلمين، وكنا نُريد إكمال تلك الخطبة بخطبةٍ أٌخرى كما فعلنا في المنكرات التي استهان بها الناس، وقطعنا بين ذلك، وهذه خطبة عن حكم مشاركة الكفار في أعيادهم لمناسبة تلك الخطبة في ذلك التاريخ، ومعلوم ما شاهدناه أيها الاخوة! من مشاركة كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للكفرة، وشاهدنا بأعيننا ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة من أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة. بل وجدنا بعض أبناء المسلمين يتحمسون لأعياد الكفار أكثر من تحمس الكفار أنفسهم، وأشرنا إلى أن الأعياد التي ابتدعها الكفرة كلها محرمة في دين الله وإن كان ظاهرها الخير والفائدة، فمثلاً: لا يجوز الاحتفال معهم ولو كان الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، كما لا يجوز لنا أن نحتفل بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أن نعمل بدعاً وموالد، وكذلك لا يجوز الاحتفال بسائر الأعياد، كعيد الأم أو عيد الأب، أو الطفولة، أو المعلم، أو عيد الوطن، أو عيد الثورة أو عيد العمال، أو عيد الربيع ... إلى آخر هذه البدع التي جاءتنا من الكفرة. وقد آلمني قصة نقلها إليَّ بعض الإخوان، فقال: إن رجلاً من المسلمين دخل على أٌمه قبل فترةٍ من الزمن، فقالت له: أين هديتي؟ فقال لها: وأية هدية؟ فقالت: ألا تعلم بأن اليوم عيد الأم، وهذا فلان صاحبك أو قريبك قد أهدى لأمه هدية بهذه المناسبة، فلماذا لا تهدي إلي؟! تغلغلت البدع حتى عند بعض العجائز، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأولئك الكفرة المجرمون يبرون بأمهاتهم يوماً من السنة ويعقونهن بقية الأيام، فأي برٍ هذا؟! وديننا يأمرنا أن نبر أمهاتنا وآباءنا كل يوم وساعة، فأيهما أعظم؟ وتحويل البر وسائر الأنواع من الخيرات إلى مناسبات معينة يحتفل بها في السنة ثم تُنسى هذه الأمور في بقية السنة، فهذا ليس من العقل والدين في شيء.
أبواب من الخير غفل الناس عنها:
نعود أيها الاخوة! في هذه الخطبة إلى إتمام الكلام عمَّا سبق أن بدأناه بأبوابٍ من الخير استهان بها الناس أو غفلوا عنها:
الحب في الله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد و مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (زار رجل أخاً له في قريةٍ فأرصد الله له ملكاً على مدرجته -على طريقه- فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمةٍ تردها؟ -هل أنعم عليك بشيء فتريد أن تقابله- قال: لا. إلا أني أحبه في الله، قال الملك: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته) إنه حديث عظيم في فضل السفر وشد الرحال لزيارة الإخوة في الله. وهذه سنة ضائعة؛ إذ قلما يُسافر أناسٌ في هذا الزمان سفراً نيتهم فيه زيارة إخوانهم في الله في الأماكن الأخرى، وهذا أمر لو تحقق لساعد في إقامة العلاقات والروابط بين المسلمين، ولو تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارهم، وعندما يُسافر المسلم بمشقة السفر ليزور أخاً له في الله، فإنه يُدلل على قيام أركان الأخوة الإيمانية في قلبه.
نصرة المسلم والذب عنه:(/1)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرته) حديث حسن، وقال: (من ذبَّ عن عرضِ أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يُعتقه من النار) رواه أحمد وهو حديث صحيح. فانظر الآن كم من إخوانك المسلمين يتعرضون للغيبة ونهش اللحوم في المجالس أمامك وأنت تسمع! ثم قل لي بربك: ماذا فعلت أمام هذا الهجوم من هؤلاء آكلي لحوم البشر كما شبههم الله عز وجل؟! هل قمت بحق الدفاع عن أخيك المسلم -على الأقل- حتى يُكتب لك هذا الأجر؟! وزد على ذلك حتى لا تكون ساكتاً في هذا المجال، والساكت عن الحق شيطان أخرس. ثم إننا قد استسهلنا -أيها الاخوة- غيبة إخواننا المسلمين في المجالس حتى كانت هذه الانتقادات والغيبات ديدن الكثيرين في مجالسهم بحيث لا يستطيعون الانفكاك عنها، ولو كان من عقلاءِ عبادِ الله من يقوم في المجالس ويعظهم، ويقول: يا فلان! أمسك عليك لسانك لمَا حصل هذا الاستشراء الشيطاني لهذه الغيبات للمسلمين في المجالس، وإنك تجد أن المغتاب يأتي إلى المجلس فيشترك هو ومن اغتابه قبل قليل في غيبة شخصٍ ثالث ... وهكذا.
زيارة المسلمين:
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ مسلمٍ يعود مسلماً -عندما يمرض- إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه ويدعون له، في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وإذا زاره في الليل ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه تلك الليلة حتى يصبح) حديث صحيح، وفي رواية أخرى: (إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة) وخِرافة الجنة هي: الثمر الذي يُجتنى منها، فكأنه يمشي وتتساقط عليه ثمار الجنة، ويكون له مثل هذه الثمار في الجنة بحجم وبمدى ما مشى لزيارة أخيه المسلم سواء بعدت المسافة أم قصرت، قال: (فإذا جلس غمرته الرحمة، ثم ابتعث الله له هؤلاء السبعين ألفاً من الملائكة يدعون له) فانظر -رحمك الله- كم جمع هذا الحديث من الأجر والثواب المرغب للزيارة؟ ثم قل لي بربك: كم من المسلمين اليوم يهتمون بزيارة إخوانهم المرضى في المستشفيات وفي بيوتهم؟ وإننا لنسمع أن فلاناً مرض ثم قام من مرضه ولم يره أحد، أو عاده نفرٌ يسير من أقربائه، زوروا مرضاكم! وادعوا لهم عند حضوركم فرشهم، فإن الملائكة تؤمن والله يستجيب، وقد يُشفى من مرض خبيث ببركة دعائك أنت يا أيها الأخ المسلم. ولا تصطحب معك ورداً ولا تشابه الكفرة، بل سن في زيارة المرضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بحاجةٍ شديدة إلى دعائك وسؤالك واهتمامك وليس إلى باقات وردك.
اتباع الجنائز:
وقال عليه الصلاة والسلام: (من تبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يُصلى عليها، ويفرغ من دفنها -من البداية إلى النهاية- فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد ..) مثل جبل أحد من الأجر، هل رأيتم جبل أحد ؟! إنه جبل عظيم مثله أجرٌ لمن يتبع جنازة أخيه حتى يصلى عليه ثم يدفن، (.. ومن صلى عليها ثم رجع إلى بيته فإنه يرجع بقيراط من الأجر مثل جبل أحد أجراً) فهل نريد بعد ذلك من المرغبات أكثر لكي نتبع جنائز إخواننا المسلمين، ونشهد الصلاة عليهم ودفنهم، ونتعظ بحضور ذلك الدفن وبشهود المقابر.
صلة الوالدين بعد موتهما:
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده) حديث صحيح، وكثير من المسلمين إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم انقطعت الصلة بين الأولاد وبين أصحاب الأب، ويتعذرون بفارق السن ... ونحو ذلك، والبر بالأب يقتضي أن تزور إخوانه وزملاءه وتصلهم بشتَّى أنواع الصلات والتحيات، حتى تكون باراً بأبيك ويصل برك إلى أبيك في قبره. أنتم يا من تسألون: مات الأب ماذا نفعل له من القرب؟أخبرنا ماذا نفعل له من الطاعات؟ إحدى الأشياء التي تستطيعون فعلها أن تصلوا إخوان آبائكم وزملاءهم وأصدقاءهم بعد أن يُولي الأب.
ترك اللباس تواضعاً لله:(/2)
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء أن يلبسها). بعض الناس يتركون اللباس لعدم القدرة على شرائه، وبعض الناس يتركون اللباس بخلاً على أنفسهم، لكن إذا تركت اللباس والمقصود اللباس غالي الثمن، فإذا تركته تواضعاً لله لا لشيء آخر وأنت قادر عليه فإن الله يُعوضك يوم القيامة على رءوس الخلائق حلل الإيمان في الآخرة، تلبسها تواضعاً لله، ولا يعني هذا أن نلبس الثياب المتسخة التي تنفر الملائكة وعباد الله المسلمين منا. وأيضاً لا يعني هذا أن نترك التزين لمجالس العلم والوعظ والخطب في المساجد! كلا. بل هذه هي السنة، ولكن انظر اليوم إلى حجم المصروفات التي ينفقها الناس على ثيابهم، وكم تبلع الأسواق التجارية ومحلات الملابس من أموال المسلمين، والملابس التي تجدد كل موسم بدون حاجة بل لمجرد أن الموضة قد بطلت كما يزعمون! لتعلم بعد ذلك كم من الأموال تذهب هدراً والمسلمون في أقطار الأرض يحتاجون إليها.
الاستياك قبل قيام الليل:
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم يُصلي من الليل فليستك -ليستعمل السواك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته -بعد استعماله السواك في الليل- وضع ملكٌ من الملائكة فاه على فيه -فم الملك على فم العبد المصلي- ولا يخرج من فيه شيءٌ -من فم العبد آيةٌ- إلا دخل فم الملك) لأنه استاك، فيضع الملك فاه على فيِّ العبد، فلا تخرج آيةٌ من المسلم إلا دخلت في فم الملك. والحديث صحيح. وفي حديث آخر مرسل صحيح رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلَّى، أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه، فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه) فانظروا! إلى فائدة هذا السواك في قيام الليل كيف أجلَّ الله صاحبه بإرسال هذا الملك المخصص لهذا الغرض؟!
المكوث في المساجد والخروج إلى الصلاة:
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : (إذا تطهر الرجل ثم مرَّ إلى المسجد يرعى الصلاة ما أخرجه إلا الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -أي: ينتظر إقامة الصلاة- كالقانت -في الليل- يكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه). فهذا إخلاص النية في إتيان المساجد لشهود صلاة الجماعة، ونحن نهدي هذا الحديث إلى المتأخرين عن الصلوات الذين لا يحتسبون أجراً ولا ثواباً اللهم إلا العادة في الخروج، ونهديه كذلك إلى الذي إذا تأخرت إقامة الصلاة شيئاً فإنهم يتململون في مجالسهم، ويتلفتون يميناً وشمالاً، وينظرون في ساعاتهم كأن خطباً جللاً ومصيبةً حلَّت بهم، ينتظرون متى يخرجون؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51] مع أن جلوسهم في المسجد ينتظرون الصلاة له أجر كأنهم في الصلاة، بل كأنهم من القانتين، فهل ترى بعد ذلك سيستعجلون وليس وراءهم حاجة تلجئهم إلى الاستعجال.
التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات وقبل النوم:
وقال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يُحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فذلك خمسون ومائة باللسان) كيف صارت خمسين ومائة؟ ثلاثون بعد الصلاة في خمس صلوات في اليوم مائة وخمسون، عشر باللسان في ثلاثة بثلاثين بعد كل صلاة،في خمسة بمائة وخمسين في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذه إحدى كيفيات الذكر بعد الصلاة، فقد ورد التسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وورد: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، فهذه مائة. وورد كيفية ثالثة: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً، فهذه كيفية أخرى، فتنوعت الكيفيات، وإن كان الأكثر التسبيح ثلاثاً وثلاثين كما هو واضح من الروايات. ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الخصلة الثانية .. (ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين) فصار المجموع مائة: أربعة وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تسبيحة قبل النوم، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في الليلة ألفين وخمسمائة سيئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يعمل ألفين وخمسمائة سيئة في اليوم) أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] ألفين وخمسمائة حسنة بهذه الأذكار بعد كل صلاة وقبل النوم، حديث صحيح.(/3)
الصوم واغتنام الشتاء لذلك:
وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) غنيمة تٌجر إليك وتساق مهداة بغير تعب، لأن النهار قصير وعدد ساعات الصيام فيه قصيرة، ولأنه لا جوع فيه ولا عطش ولا شمس ولا حر، فقال: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) تٌهدى وتقدم بلا تعب كبير، ونحن الآن في فصل الشتاء ينبغي الاستكثار من الصوم. وأقول أيها الإخوة: أرجو أن تعتبروا أن هذا الكلام الذي تسمعونه وكأنكم تقرءونه من كتاب، فإن مسئوليتي والله عظيمة، وأنا لا أرى أنني أقوم بهذه الأمور ثم أنصحكم بها، بل إنني أتواصى وإياكم -إن شاء الله- بالحق والصبر، فاعتبروها كأنكم تقرءونها في كتاب.
كف الغضب وكظم الغيظ ونفع الناس بقضاء دين أو طرد جوع أو غيره:
وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي أن من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، سبحانه وتعالى جلَّ شأنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي هدى الله به الناس وأرسله رحمةً للعالمين، فبيَّن لنا أبواب الخير وأمرنا أن نلجها، وبيَّن لنا أبواب الشر وحذَّرنا من ولوجها. قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم) من الأعمال -أيها الإخوة- ما يقتصر نفعه على الشخص، ومنها ما يعم اثنين أو ثلاثة، ومن الأعمال ما يعم نفعها خلقاً كثيراً من الناس، فكلما كانت المنفعة لعباد الله أكثر كلما كان أجرك أكثر. ويقول: (.. وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) بعض الناس يذبحون للضيوف، لكنه قد لا يعزم إلا كبار القوم ويترك الضعفاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويترك الضعفاء والفقراء)، وأيضاً تجد الأغنياء عندما يذبحون قد لا يدور في بالهم النية الحسنة بإطعام الناس الطعام، وإنما العادات تقتضي ذلك، ولا يدور في باله الأجر المترتب على إطعام الطعام وهذه غفلة عظيمة، يقول: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) هذا الأجر وزد على ذلك ما تنشئه هذه الأعمال في نفس الأخ المسلم الآخر. ذكر لي أحدهم قال: رأيت رجلاً قد تغير عليه إطار سيارته في الطريق. وهو واقف يؤشر للسيارات، فنزلت إليه فأخذت هذا الإطار وليس عنده إطار احتياطي، ثم أخذنا الإطار بسيارتي، وذهبنا إلى الورشة البعيدة وأصلحناه ورجعنا إلى السيارة، وركّبت له الإطار وهو قائم لا يتحرك، ثيابه ناصعة البياض وصاحبنا قد اتسخت ثيابه، يقول: هذا الرجل كان مندهشاً طيلة الوقت، كيف؟! السبب في عدم المشاركة أنه مندهش، كيف أقف؟ ثم آخذه إلى المكان البعيد ثم أرجعه ثم اشتغل له بنفسي؟! فانتهزتها فرصةً لأدعو الرجل إلى الله وأذكره، وإذا به يقول: إن لي ولداً متديناً مثلك، لكني في الحقيقة أقوم عليه وأنتقده وأظن أنه يضيع نفسه ودراسته بهذا التدين، والآن من تصرفك بانت لي حقيقة الأمر. وهذا -أيها الإخوة- من فوائد مساعدة الناس، أن يقوم المستقيمون بتقديم الخدمات للناس، عسى الله أن يهدي الله بهم هذه الفرق والطوائف. وقال عليه الصلاة والسلام: (.. ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).
لا تحقرن من المعروف شيئاً:(/4)
وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلبٍ يلهث -يأكل الثرى من العطش- فقال في نفسه: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي -كبد رطبة- فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله فغفر له) فالله شكر له صنيعه فغفر له كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر) بل إنَّ بغياً من بغايا بني إسرائيل -زانية- (كان كلب يطوف بركيةٍ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت لوقها -خفها- فاستقت له به فغفر لها) بأي شيء؟ برحمة هذا الحيوان. قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) كم يأخذ من الوقت إذا أتى إنسان بشيءٍ فارغ فتملأ له ثم تملأ لنفسك؟ لا شيء! لكن لا تحقرن من المعروف شيئاً، فقد تكون هذه مرجحةً لكفة حسناتك يوم القيامة. وقال عليه الصلاة والسلام: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك) مسح رأس اليتيم عمل يلين القلب، فإذا رأيت -أيها المسلم- يتيماً فامسح على رأسه، ومن مات أبوه ولم يبلغ سن الحُلم فإنه يتيم، فامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فإن الله يلين قلبك، ويأجرك على هذا أجراً عظيماً. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كَظَم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) أي: غضب وكظم الغضب، وتوقف ولم ينتقم، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يٌخيره من الحور العين يُزوجه منها ما شاء. أبواب الخير كثيرة، ولكن أين الوالجون؟ أبواب الخير أجورها كثيرة ولكن من الذي يعمل؟ ومن رحمة الله أن عدَّد لنا أبواب الخيرات، وضاعف الحسنات، ولكن أيها الإخوة! نحن في كسل وخمول، انشغال بالمعاصي، وغفلة عن الخيرات. نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين. اللهم ليِّن قلوبنا وثبتها يا مقلب القلوب، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أهلك اليهود وأعداء الدين، اللهم واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(/5)
يا باغي الخير! أقبل
عناصر الموضوع :
1. خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار
2. أبواب من الخير غفل الناس عنها
يا باغي الخير! أقبل:
لقد يسر الله لهذه الأمة العمل، وضاعف لها الأجر، وفتح لها من أبواب الخير أموراً كثيرة، وفي هذه الخطبة يواصل الشيخ الكلام عن هذه الأعمال التي قد سبق ذكر شيء منها في خطبة سبقت.
خلاصة الكلام في حكم أعياد الكفار:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا في الخطبة قبل الماضية عن بعض أبواب الخير التي فيها أجر عظيم يجهلها أو يهملها كثير من المسلمين، وكنا نُريد إكمال تلك الخطبة بخطبةٍ أٌخرى كما فعلنا في المنكرات التي استهان بها الناس، وقطعنا بين ذلك، وهذه خطبة عن حكم مشاركة الكفار في أعيادهم لمناسبة تلك الخطبة في ذلك التاريخ، ومعلوم ما شاهدناه أيها الاخوة! من مشاركة كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للكفرة، وشاهدنا بأعيننا ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة من أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة. بل وجدنا بعض أبناء المسلمين يتحمسون لأعياد الكفار أكثر من تحمس الكفار أنفسهم، وأشرنا إلى أن الأعياد التي ابتدعها الكفرة كلها محرمة في دين الله وإن كان ظاهرها الخير والفائدة، فمثلاً: لا يجوز الاحتفال معهم ولو كان الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، كما لا يجوز لنا أن نحتفل بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أن نعمل بدعاً وموالد، وكذلك لا يجوز الاحتفال بسائر الأعياد، كعيد الأم أو عيد الأب، أو الطفولة، أو المعلم، أو عيد الوطن، أو عيد الثورة أو عيد العمال، أو عيد الربيع ... إلى آخر هذه البدع التي جاءتنا من الكفرة. وقد آلمني قصة نقلها إليَّ بعض الإخوان، فقال: إن رجلاً من المسلمين دخل على أٌمه قبل فترةٍ من الزمن، فقالت له: أين هديتي؟ فقال لها: وأية هدية؟ فقالت: ألا تعلم بأن اليوم عيد الأم، وهذا فلان صاحبك أو قريبك قد أهدى لأمه هدية بهذه المناسبة، فلماذا لا تهدي إلي؟! تغلغلت البدع حتى عند بعض العجائز، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأولئك الكفرة المجرمون يبرون بأمهاتهم يوماً من السنة ويعقونهن بقية الأيام، فأي برٍ هذا؟! وديننا يأمرنا أن نبر أمهاتنا وآباءنا كل يوم وساعة، فأيهما أعظم؟ وتحويل البر وسائر الأنواع من الخيرات إلى مناسبات معينة يحتفل بها في السنة ثم تُنسى هذه الأمور في بقية السنة، فهذا ليس من العقل والدين في شيء.
أبواب من الخير غفل الناس عنها:
نعود أيها الاخوة! في هذه الخطبة إلى إتمام الكلام عمَّا سبق أن بدأناه بأبوابٍ من الخير استهان بها الناس أو غفلوا عنها:
الحب في الله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد و مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (زار رجل أخاً له في قريةٍ فأرصد الله له ملكاً على مدرجته -على طريقه- فقال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمةٍ تردها؟ -هل أنعم عليك بشيء فتريد أن تقابله- قال: لا. إلا أني أحبه في الله، قال الملك: فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته) إنه حديث عظيم في فضل السفر وشد الرحال لزيارة الإخوة في الله. وهذه سنة ضائعة؛ إذ قلما يُسافر أناسٌ في هذا الزمان سفراً نيتهم فيه زيارة إخوانهم في الله في الأماكن الأخرى، وهذا أمر لو تحقق لساعد في إقامة العلاقات والروابط بين المسلمين، ولو تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارهم، وعندما يُسافر المسلم بمشقة السفر ليزور أخاً له في الله، فإنه يُدلل على قيام أركان الأخوة الإيمانية في قلبه.
نصرة المسلم والذب عنه:(/1)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرته) حديث حسن، وقال: (من ذبَّ عن عرضِ أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يُعتقه من النار) رواه أحمد وهو حديث صحيح. فانظر الآن كم من إخوانك المسلمين يتعرضون للغيبة ونهش اللحوم في المجالس أمامك وأنت تسمع! ثم قل لي بربك: ماذا فعلت أمام هذا الهجوم من هؤلاء آكلي لحوم البشر كما شبههم الله عز وجل؟! هل قمت بحق الدفاع عن أخيك المسلم -على الأقل- حتى يُكتب لك هذا الأجر؟! وزد على ذلك حتى لا تكون ساكتاً في هذا المجال، والساكت عن الحق شيطان أخرس. ثم إننا قد استسهلنا -أيها الاخوة- غيبة إخواننا المسلمين في المجالس حتى كانت هذه الانتقادات والغيبات ديدن الكثيرين في مجالسهم بحيث لا يستطيعون الانفكاك عنها، ولو كان من عقلاءِ عبادِ الله من يقوم في المجالس ويعظهم، ويقول: يا فلان! أمسك عليك لسانك لمَا حصل هذا الاستشراء الشيطاني لهذه الغيبات للمسلمين في المجالس، وإنك تجد أن المغتاب يأتي إلى المجلس فيشترك هو ومن اغتابه قبل قليل في غيبة شخصٍ ثالث ... وهكذا.
زيارة المسلمين:
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ مسلمٍ يعود مسلماً -عندما يمرض- إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه ويدعون له، في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وإذا زاره في الليل ابتعث الله سبعين ألف ملك يُصلون عليه تلك الليلة حتى يصبح) حديث صحيح، وفي رواية أخرى: (إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة) وخِرافة الجنة هي: الثمر الذي يُجتنى منها، فكأنه يمشي وتتساقط عليه ثمار الجنة، ويكون له مثل هذه الثمار في الجنة بحجم وبمدى ما مشى لزيارة أخيه المسلم سواء بعدت المسافة أم قصرت، قال: (فإذا جلس غمرته الرحمة، ثم ابتعث الله له هؤلاء السبعين ألفاً من الملائكة يدعون له) فانظر -رحمك الله- كم جمع هذا الحديث من الأجر والثواب المرغب للزيارة؟ ثم قل لي بربك: كم من المسلمين اليوم يهتمون بزيارة إخوانهم المرضى في المستشفيات وفي بيوتهم؟ وإننا لنسمع أن فلاناً مرض ثم قام من مرضه ولم يره أحد، أو عاده نفرٌ يسير من أقربائه، زوروا مرضاكم! وادعوا لهم عند حضوركم فرشهم، فإن الملائكة تؤمن والله يستجيب، وقد يُشفى من مرض خبيث ببركة دعائك أنت يا أيها الأخ المسلم. ولا تصطحب معك ورداً ولا تشابه الكفرة، بل سن في زيارة المرضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بحاجةٍ شديدة إلى دعائك وسؤالك واهتمامك وليس إلى باقات وردك.
اتباع الجنائز:
وقال عليه الصلاة والسلام: (من تبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يُصلى عليها، ويفرغ من دفنها -من البداية إلى النهاية- فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد ..) مثل جبل أحد من الأجر، هل رأيتم جبل أحد ؟! إنه جبل عظيم مثله أجرٌ لمن يتبع جنازة أخيه حتى يصلى عليه ثم يدفن، (.. ومن صلى عليها ثم رجع إلى بيته فإنه يرجع بقيراط من الأجر مثل جبل أحد أجراً) فهل نريد بعد ذلك من المرغبات أكثر لكي نتبع جنائز إخواننا المسلمين، ونشهد الصلاة عليهم ودفنهم، ونتعظ بحضور ذلك الدفن وبشهود المقابر.
صلة الوالدين بعد موتهما:
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده) حديث صحيح، وكثير من المسلمين إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم انقطعت الصلة بين الأولاد وبين أصحاب الأب، ويتعذرون بفارق السن ... ونحو ذلك، والبر بالأب يقتضي أن تزور إخوانه وزملاءه وتصلهم بشتَّى أنواع الصلات والتحيات، حتى تكون باراً بأبيك ويصل برك إلى أبيك في قبره. أنتم يا من تسألون: مات الأب ماذا نفعل له من القرب؟أخبرنا ماذا نفعل له من الطاعات؟ إحدى الأشياء التي تستطيعون فعلها أن تصلوا إخوان آبائكم وزملاءهم وأصدقاءهم بعد أن يُولي الأب.
ترك اللباس تواضعاً لله:(/2)
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء أن يلبسها). بعض الناس يتركون اللباس لعدم القدرة على شرائه، وبعض الناس يتركون اللباس بخلاً على أنفسهم، لكن إذا تركت اللباس والمقصود اللباس غالي الثمن، فإذا تركته تواضعاً لله لا لشيء آخر وأنت قادر عليه فإن الله يُعوضك يوم القيامة على رءوس الخلائق حلل الإيمان في الآخرة، تلبسها تواضعاً لله، ولا يعني هذا أن نلبس الثياب المتسخة التي تنفر الملائكة وعباد الله المسلمين منا. وأيضاً لا يعني هذا أن نترك التزين لمجالس العلم والوعظ والخطب في المساجد! كلا. بل هذه هي السنة، ولكن انظر اليوم إلى حجم المصروفات التي ينفقها الناس على ثيابهم، وكم تبلع الأسواق التجارية ومحلات الملابس من أموال المسلمين، والملابس التي تجدد كل موسم بدون حاجة بل لمجرد أن الموضة قد بطلت كما يزعمون! لتعلم بعد ذلك كم من الأموال تذهب هدراً والمسلمون في أقطار الأرض يحتاجون إليها.
الاستياك قبل قيام الليل:
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم يُصلي من الليل فليستك -ليستعمل السواك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته -بعد استعماله السواك في الليل- وضع ملكٌ من الملائكة فاه على فيه -فم الملك على فم العبد المصلي- ولا يخرج من فيه شيءٌ -من فم العبد آيةٌ- إلا دخل فم الملك) لأنه استاك، فيضع الملك فاه على فيِّ العبد، فلا تخرج آيةٌ من المسلم إلا دخلت في فم الملك. والحديث صحيح. وفي حديث آخر مرسل صحيح رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلَّى، أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه، فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه) فانظروا! إلى فائدة هذا السواك في قيام الليل كيف أجلَّ الله صاحبه بإرسال هذا الملك المخصص لهذا الغرض؟!
المكوث في المساجد والخروج إلى الصلاة:
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : (إذا تطهر الرجل ثم مرَّ إلى المسجد يرعى الصلاة ما أخرجه إلا الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -أي: ينتظر إقامة الصلاة- كالقانت -في الليل- يكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه). فهذا إخلاص النية في إتيان المساجد لشهود صلاة الجماعة، ونحن نهدي هذا الحديث إلى المتأخرين عن الصلوات الذين لا يحتسبون أجراً ولا ثواباً اللهم إلا العادة في الخروج، ونهديه كذلك إلى الذي إذا تأخرت إقامة الصلاة شيئاً فإنهم يتململون في مجالسهم، ويتلفتون يميناً وشمالاً، وينظرون في ساعاتهم كأن خطباً جللاً ومصيبةً حلَّت بهم، ينتظرون متى يخرجون؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51] مع أن جلوسهم في المسجد ينتظرون الصلاة له أجر كأنهم في الصلاة، بل كأنهم من القانتين، فهل ترى بعد ذلك سيستعجلون وليس وراءهم حاجة تلجئهم إلى الاستعجال.
التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات وقبل النوم:
وقال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يُحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فذلك خمسون ومائة باللسان) كيف صارت خمسين ومائة؟ ثلاثون بعد الصلاة في خمس صلوات في اليوم مائة وخمسون، عشر باللسان في ثلاثة بثلاثين بعد كل صلاة،في خمسة بمائة وخمسين في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذه إحدى كيفيات الذكر بعد الصلاة، فقد ورد التسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وورد: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، فهذه مائة. وورد كيفية ثالثة: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً، فهذه كيفية أخرى، فتنوعت الكيفيات، وإن كان الأكثر التسبيح ثلاثاً وثلاثين كما هو واضح من الروايات. ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الخصلة الثانية .. (ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين) فصار المجموع مائة: أربعة وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تسبيحة قبل النوم، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في الليلة ألفين وخمسمائة سيئة، يقول عليه الصلاة والسلام: (أيكم يعمل ألفين وخمسمائة سيئة في اليوم) أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] ألفين وخمسمائة حسنة بهذه الأذكار بعد كل صلاة وقبل النوم، حديث صحيح.(/3)
الصوم واغتنام الشتاء لذلك:
وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) غنيمة تٌجر إليك وتساق مهداة بغير تعب، لأن النهار قصير وعدد ساعات الصيام فيه قصيرة، ولأنه لا جوع فيه ولا عطش ولا شمس ولا حر، فقال: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) تٌهدى وتقدم بلا تعب كبير، ونحن الآن في فصل الشتاء ينبغي الاستكثار من الصوم. وأقول أيها الإخوة: أرجو أن تعتبروا أن هذا الكلام الذي تسمعونه وكأنكم تقرءونه من كتاب، فإن مسئوليتي والله عظيمة، وأنا لا أرى أنني أقوم بهذه الأمور ثم أنصحكم بها، بل إنني أتواصى وإياكم -إن شاء الله- بالحق والصبر، فاعتبروها كأنكم تقرءونها في كتاب.
كف الغضب وكظم الغيظ ونفع الناس بقضاء دين أو طرد جوع أو غيره:
وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي أن من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، سبحانه وتعالى جلَّ شأنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي هدى الله به الناس وأرسله رحمةً للعالمين، فبيَّن لنا أبواب الخير وأمرنا أن نلجها، وبيَّن لنا أبواب الشر وحذَّرنا من ولوجها. قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم) من الأعمال -أيها الإخوة- ما يقتصر نفعه على الشخص، ومنها ما يعم اثنين أو ثلاثة، ومن الأعمال ما يعم نفعها خلقاً كثيراً من الناس، فكلما كانت المنفعة لعباد الله أكثر كلما كان أجرك أكثر. ويقول: (.. وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) بعض الناس يذبحون للضيوف، لكنه قد لا يعزم إلا كبار القوم ويترك الضعفاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويترك الضعفاء والفقراء)، وأيضاً تجد الأغنياء عندما يذبحون قد لا يدور في بالهم النية الحسنة بإطعام الناس الطعام، وإنما العادات تقتضي ذلك، ولا يدور في باله الأجر المترتب على إطعام الطعام وهذه غفلة عظيمة، يقول: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) هذا الأجر وزد على ذلك ما تنشئه هذه الأعمال في نفس الأخ المسلم الآخر. ذكر لي أحدهم قال: رأيت رجلاً قد تغير عليه إطار سيارته في الطريق. وهو واقف يؤشر للسيارات، فنزلت إليه فأخذت هذا الإطار وليس عنده إطار احتياطي، ثم أخذنا الإطار بسيارتي، وذهبنا إلى الورشة البعيدة وأصلحناه ورجعنا إلى السيارة، وركّبت له الإطار وهو قائم لا يتحرك، ثيابه ناصعة البياض وصاحبنا قد اتسخت ثيابه، يقول: هذا الرجل كان مندهشاً طيلة الوقت، كيف؟! السبب في عدم المشاركة أنه مندهش، كيف أقف؟ ثم آخذه إلى المكان البعيد ثم أرجعه ثم اشتغل له بنفسي؟! فانتهزتها فرصةً لأدعو الرجل إلى الله وأذكره، وإذا به يقول: إن لي ولداً متديناً مثلك، لكني في الحقيقة أقوم عليه وأنتقده وأظن أنه يضيع نفسه ودراسته بهذا التدين، والآن من تصرفك بانت لي حقيقة الأمر. وهذا -أيها الإخوة- من فوائد مساعدة الناس، أن يقوم المستقيمون بتقديم الخدمات للناس، عسى الله أن يهدي الله بهم هذه الفرق والطوائف. وقال عليه الصلاة والسلام: (.. ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).
لا تحقرن من المعروف شيئاً:(/4)
وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلبٍ يلهث -يأكل الثرى من العطش- فقال في نفسه: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي -كبد رطبة- فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك بفيه ثم رقى، فسقى الكلب، فشكر الله فغفر له) فالله شكر له صنيعه فغفر له كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر) بل إنَّ بغياً من بغايا بني إسرائيل -زانية- (كان كلب يطوف بركيةٍ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت لوقها -خفها- فاستقت له به فغفر لها) بأي شيء؟ برحمة هذا الحيوان. قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) كم يأخذ من الوقت إذا أتى إنسان بشيءٍ فارغ فتملأ له ثم تملأ لنفسك؟ لا شيء! لكن لا تحقرن من المعروف شيئاً، فقد تكون هذه مرجحةً لكفة حسناتك يوم القيامة. وقال عليه الصلاة والسلام: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك) مسح رأس اليتيم عمل يلين القلب، فإذا رأيت -أيها المسلم- يتيماً فامسح على رأسه، ومن مات أبوه ولم يبلغ سن الحُلم فإنه يتيم، فامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فإن الله يلين قلبك، ويأجرك على هذا أجراً عظيماً. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كَظَم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) أي: غضب وكظم الغضب، وتوقف ولم ينتقم، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يٌخيره من الحور العين يُزوجه منها ما شاء. أبواب الخير كثيرة، ولكن أين الوالجون؟ أبواب الخير أجورها كثيرة ولكن من الذي يعمل؟ ومن رحمة الله أن عدَّد لنا أبواب الخيرات، وضاعف الحسنات، ولكن أيها الإخوة! نحن في كسل وخمول، انشغال بالمعاصي، وغفلة عن الخيرات. نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين. اللهم ليِّن قلوبنا وثبتها يا مقلب القلوب، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أهلك اليهود وأعداء الدين، اللهم واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(/5)
يا بني
محمد الدويش
المحتويات
مدخل بين يدي الرسالة
حديث حول العقوق
حين يخطيء الوالد
حديث من شيخ إلى شاب
1. مشكلة الشهوة
2. ما الأمر الذي يهمك؟
3. قصة مجتمعك
مدخل بين يدي الرسالة
معشر الإخوة الكرام: إن المصارحة مع أنفسنا مطلب ضروري، والتخلي عنها لايسهم إلا في دفن الحقائق، وخلق سحب وضبابية حول كثير من أخطائنا، وصنع الأسلاك الشائكة حول أرض المحاسبة، وخلق الخطوط الحمراء ستكون ضريبته استمرار الأخطاء وتضاعف التجاوزات.
إن مواجهة النفس، والتخلص من الحيل النفسية مطلب ملح هو الآخر ولن يجني غيرنا ثمرة المخادعة والتزويق.
معشر الإخوة الكرام: ثمة مشكلات في حياتنا الاجتماعية، وأخطاء، وتجاوزات: في علاقة الأب بأبنائه، والابن بوالديه، والزوج بزوجته، والزوجة بزوجها. والمدير بالموظف، ورب العمل بالعامل. وحين نكون جادين في التخلص من هذه المشكلات وتصحيح هذه الأخطاء فلا مناص من طرح هذه الموضوعات تحت ضوء الشمس فلم تعد أسراراً، بل صار يدركها حتى المغفل، ويبصرها الأعشى والأعمش.
ولاشك أن ذلك يعني أن تثار بمحضر الخصم، وبمسمع الطرف الآخر، فسوف يسمع الابن مشكلة أبيه، والزوجة مشكلة زوجها، وقد يكون هناك حساسية وحرج ولكن: لماذا تطغى هذه الحساسيات على تفكيرنا لتكون عائقاً عن أي خطوة في التصحيح والمصارحة، ولماذا نتوهم أن مشكلاتنا لايعلم عنها غيرنا؟
معشر الإخوة الكرام: إن الحقيقة مرة، والمصارحة مؤلمة. لكن ذلك أهون بحال من مرارة النتائج الفادحة لاستمراء الخطأ وإلف المخالفة.
لقد طرحنا قضية الآباء ومشكلاتهم مع أبنائهم في رسالة واضحة بعنوان (يا أبت). وآن الأوان لطرح الحوار مع الطرف الآخر فإلى رسالة يا بني:-
يا بني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:-
فأحمد الله إليك وهو للحمد أهل، وأثني عليه ولا أحد أحب إليه الثناء منه عز وجل. ثم إني مسطر لك كلمات خطها مداد النصيحة، ومعبر لك عن كوامن في الصدر فجرها دافع المحبة. فمعذرة يا بني إن كان في الألفاظ خشونة، أو كان في التعبير قسوة لكنها قسوة المحب. والدرن يا بني قد لا يزول إلا مع بعض القسوة.
يابني: تتسابق الكلمات، وتتدافع الموضوعات حين أريد أن أسطر لك. فأشعر أن حيز هذه الرسالة قد لا يتسع لما أريد قوله. فآثرت أن أشير إلى أهمه، تنبيهاً وتلميحاً، والحر تكفيه الإشارة. وما لم أسطره لك يابني فإنما حال دونه شعوري أنه مستقر لديك ولم يعد بحاجة إلى إشارة . أو شعوري بأن غيره احتل المساحة دونه.
يابني: تحوم هذه الرسالة حول البر وحقيقته، وترحل بك إلى واقع السلف لترى نماذج من ذلك. وتعرج على شؤم العقوق ووباله، منبهة على العقوق في الفكر والمنهج وهو نوع معاصر من العقوق. ثم تدلف بك إلى وصايا حول الفتن والشهوات، والاهتمامات والدوافع. مذكرة لك. بمواعظ عاجلة. حاكية لك قصة هذا المجتمع مما لم تره بعينك ورآه والدك. ورأيت يا بني تسهيلاً عليك. أن أجعلها في فصول متتابعة: فصل عن البر. وفصل عن العقوق. وفصل بعنوان حين يخطئ الوالد. وفصل بعنوان حديث من شيخ إلى شاب. وفصل بعنوان قصة مجتمعك. وفصل بعنوان مواعظ ووصايا.
فأرعني سمعك وحكم عقلك، وقبل ذلك موازين الشرع المطهر.
يا بني: ها أنت بلغت سن التكليف، فأصبحت رجلاً مسؤولاً عن أعمالك، ومحاسب مجزي عليها. يا بني : إن بلوغك يعني أنك أصبحت مخاطباً بسائر التكاليف الشرعية. فقد جاوزت مرحلة الطفولة إلى غير رجعة، ودخلت بوابة جديدة إلى الحياة. وآن لي أن أبوح لك بحديث طالما كان يعتلج في صدري، ويكنه فؤادي، كان يحبسه انتظار بلوغك ما بلغت الآن. ومع ما كان يعتلج في صدري، ويدور في خاطري فقد قلبت الطرف، وقرأت ما سطره بعض الأوائل والأواخر، من رسائل لأبنائهم، ووصايا لفلذات أكبادهم، فضمنت وصيتي بعض ما قالوه، وزينتها ببعض ما صاغوه. فهل أنت مصغ لي سمعك؟. وفاتح لي فؤادك؟ عل الله أن ينفعك ببعض ماتسمع.
يا بني: كم كان سروري وأمك حين بلغنا نبأ حملها بك، وكنا نتردد على الطبيب للفحص والمتابعة. وحين كانت تلك الساعة التي خرجت فيها إلى الدنيا. لم تكن تدري كم كان مبلغ سرورنا، وبهجتنا
لقد كانت آمالنا معقودة عليك، وكنا ننتظر تلك الساعة التي تبلغ فيها السعي، كانت أمك تردد في نفسها، وتناجيك وأنت صغير رضيع تؤمل الآمال العريضة، وتتمنى الأمنيات الغالية أن تبلغ ما تبلغ.
وكان والدك لا يقل عنها حالاً، إلا أن خواطره كانت حبيسة الفؤاد، تعتلج في صورة أمنيات.
يا بني: طالما سمعت أن الله قرن حق الوالدين بحقه [وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً]. إن هذا وحده يا بني كاف في تعظيم حق الوالدين وعلو شأنهما. كاف دون سرد الأمثلة والنماذج والشواهد.
يابني: لم يأمر الله بالذل إلا للوالدين والمؤمنين [واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا].(/1)
يابني: الجهاد ذروة سنام الإسلام وتحديث النفس به شرط للبراءة من النفاق. ومع ذلك يابني فإذن الوالدين شرط للمشاركة في الجهاد فقد استأذن رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "أحي والداك؟" قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد". متفق عليه من حديث عبدالله بن عمرو.
وروى هذا المعنى مسلم من حديث أبي هريرة. وأبويعلى والطبراني من حديث أنس. والوقت يابني يطول عن سرد النصوص في ذلك.
يابني : يبلغ حق الوالدين درجة لا تسقط معها الصلة حتى ولو كانا مشركين [وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما] وفي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صِلِي أمك".
يابني : أتدري من أحق الناس بحسن صحابتك؟ سأل رجل هذا السؤال النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائلاً :من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمك"، قال: ثم من؟ قال:"أمك"، قال ثم من؟ قال: "أبوك".
يابني : كم يحتل أصدقاؤك من مكانة في قلبك تستوجب قائمة طويلة من التضحية، والإيثار، والمشاورة، والمجاملة؟ ولكن ألا تعلم يابني أن أمك، وأباك أحقُّ الناس بحسن صحابتك.
أتريد يابني أن تعرف عظم وجد الأم على ابنها فاسمع معي هذه الأبيات:-
لأمك حق لو علمت كبير*** كثيرك ياهذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي *** لها من جؤاها أنة وزفير
وفي الوضع لوتدري عليها مشقة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مماتشتكيه بنفسها *** ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها *** حناناً وإشفاقا ًوأنت صغير
يابني: أتدري كم يبلغ فرط الأم وشوقها عليك حين تغادر المنزل حتى تعود؟ كم مرة أيقظتني من النوم لتقول: إن ابني لم يعد، كم مرة أزعجتني حين سافرت لتسأل متى يعود؟ وما شأنه؟ وأنت يابني سادر تعيش في عالم آخر. فتغيب عن المنزل دون أن تشعرها، وحين تسافر تنتظر اتصالك على أحر من الجمر لكنها لاتجد إلا اللامبالاة. أهذا حق أمك يابني؟.
يابني !: إنكم حين تواجهوا أنفسكم بالسؤال الصريح وتبحثوا عن موقعكم في خارطة البر أو العقوق، تدركون لماذا يكرر ويبدأ الموضوع ويعاد، لست بحاجة يابني لأفيض في الحديث عن حق الوالدين وعظم منزلتهما، لكني أسألك بصراحة أن تحدد موقعك أفي سياج البر، أم العقوق.
يابني : أتريد رضا الله عز وجل. فهو مرتبط برضا الوالد يخبرنا بذلك أعلم الخلق بالله سبحانه وتعالى فيقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عبدالله بن عمرو :"رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد".
أرأيت يابني أي بوار وهلاك يجنيه من يسخط والده، حيث يستجلب على نفسه سخط رب السماء والأرض؟. ومن ذا يابني يطيق هذا الوعيد الشديد؟
يابني : إن الجنة مطلب الجميع، ومسعى من سهروا وهجروا الرقاد ،ومطلب من بذلوا الأرواح والمهج رخيصة للّه. أتدري بعد ذلك يابني أن الوالد أوسط أبواب الجنة.
ويندب صلى الله عليه وسلم من أضاع هذه الفرصة فيقول: " رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من يارسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة " رواه مسلم.
يابني : إن الدعاء هو الملجأ للمسلم حين تدلهمُّ به الخطوب، وحن تقفل الأبواب أمامه. أتعلم أن بر الأم من أسباب إجابة الدعاء؟ لقد كان أول الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فدعا الله بصالح عمله: رجلا بارًّا بأمه.
وخير التابعين أويس القرني رضي الله عنه كان برًّا بأمه فكان مجاب الدعوة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أن يطلب منه الدعاء. وهذا فوق أنه شهادة بر وصلاح لأويس فهو رسالة إلى كل من كان له أم أن برها من أسباب استنزال النصر، واستحقاق إجابة الدعوة.
فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعو إليه فقير
يابني : أعرفت الآن أن البر ينتج لصاحبه رضا الله، ودخول الجنة، وإجابة الدعاء؟
يابني : توهم نفسك كثيراً أن حق والديك عليك أعظم، وأنك وفيٌّ لهما بارٌّ بهما. لكني أذكر أنك ذات يوم اعتذرت عن إجابة دعوة أمك محتجاً بالتعب والإرهاق، وحينها قدم زميلك محمد وهو شاب خير لا مطعن فيه، فنسيت ما بك من بأس وفقدت التعب والإعياء، أهكذا يابني مفهوم البرِّ لديك؟
يابني : إليك صورة من حقيقة البر؛ لتدرك أن إحضار الخبز، أو الإيصال لزيارة، أو الوفاء بمطلب ليس هو منتهى البر وأداء الحق.
عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه " رواه مسلم وأهل السنن.(/2)
ويدرك ابن عمر رضي الله عنهما أن البر يمتد حتى بعد موت الوالد فيلقى أعرابياً في الطريق فيركبه راحلته، ويعطيه عمامة له على رأسه . فقيل له إنهم أعراب يرضون باليسير. فيقول رضي اللّه عنهما إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه" رواه مسلم.
يابني : نقف وإياك سريعاً مع بعض صور البر لدى سلف الأمة علك تدرك أن الكثير مما يظنه البعض من شبابنا براً لايرقى لذلك:
محمد بن المنكدر الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام كان براً بأمه وكان يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه قومي ضعي قدمك على خدي. وقال سعيد بن عامر عنه: بات أخي يصلي وبت أغمز قدم أمي ، وما أحب أن ليلتي بليلته.
وكهمس الحنفي البصري العابد أبو الحسن من كبار الثقات. أراد قتل عقرب فدخلت في جحر فأدخل إصبعه خلفها فضربته، فقيل له. قال خفت أن تخرج فتجىء إلى أمي تلدغها.
وعبدالله بن عون الإمام القدوة عالم البصرة نادت أمه فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.
وابن سيرين شيخ الإسلام مولى أنس رضي اللّه عنه إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
أما عروة بن الزبير الإمام الفقيه فتزداد حساسيته فيرى أن من شد الطرف إلى والده فلم يبره.
ولقد كانت الرحلة في طلب العلم من أشد مايعنى به السلف، وكانوا يعدونها كالماء للسمك. والهواء للطائر. ومع ذلك تركها جمع منهم براً بأمهاتهم. وممن فعل ذلك يابني بُندار الإمام الحافظ راوية الإسلام، وأبو العباس أحمد بن علي الأبار الحافظ المتقن الإمام الرباني، والإمام العلامة محدث الشام الحافظ ابن عساكر، وغير هؤلاء كثير.
يابني : لقد أتبع الله العقوق والعصيان بالشرك به [قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً] وهاهو معلم البشرية ومرسي معالم العلاقات الإنسانية صلى اللّه عليه وسلم يربط العقوق بالشرك باللّه، ويدرجه ضمن قائمة أكبر الكبائر.
حديث حول العقوق
يابني : إن العقوق شؤمه عاجل، وعقوبته قريبة في الدنيا، روى الطبراني عن أبي بكرة رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اثنان يعجلهما اللّه في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين ". وروى الحاكم في المستدرك من حديث أنس رضي الله عنه: " بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي و العقوق". فهل يأمن العاقُّون يابني أن تحل بهم كارثة أو تصيبهم مصيبة؟
يابني : أتدري مانتائج العقوق: كبيرة من أكبر الكبائر تقرن بالشرك باللّه عز وجل. ومجلبة لسخط اللّه سبحانه. ومدعاة لتعجيل العقوبة في الدنيا، وأزيدك الأخرى حين يسيء الابن إلى والديه يدعوه ذلك للدعاء عليه. وهي دعوة مستجابة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي. حينئذٍ . يجتمع على هذا الابن عمل ضعيف زهيد يبعده من رحمة الله أصلاً، وعقوق تعجل له فيه عقوبة أو قارعة، ويأتي بعد ذلك الدعاء الذي لايرد، إنها مصائب يابني يجنيها العاق، واحدة منها كافية لوعظه وردعه إن كان له قلب.
يابني : إن العقوق أبواب كثيرة، ومجالات شتى، ولكن العقوق غاية العقوق يابني عقوق المنهج والسلوك والفكر؛ فحين يكون الأب صالحاً عابداً قانتاً والابن خلاف ذلك، حين يكون الأب يفزع للصلاة عند سماع النداء، ويتخلص من كل مشاغله حين يطرق مسامعه صوت حي على الفلاح. حين يكون كذلك. أفليس من العقوق أن يكون الابن سادراً غافلاً بعيداً عن إجابة النداء؟ وحين يعود الأب للصلاة والدعاء يعود الابن من سهرة مع رفقة ساقطة، وحين يكون الأب مبادراً إلى الصلاة حين يسمع النداء أما الابن فغاية تبكيره أن يدرك الركعة الأخيرة، ومنتهى مبادرته أن يأتي قبل سلام الإمام هذا إذا أدى الصلاة مع الجماعة، وحين يكون الأب ورعاً عن الشبهات، بعيد عن المريبات والابن ساعياً للحرام، حين يكون الأمر كذلك فهذا واللّه هو العقوق الأشد والأنكى.
حين يخطيء الوالد
يابني : الأب ناصح حنون، ومشفق ودود. وما خلت يوماً أن أباً يود الشر لابنه، أو يحسده على أن حقق خيراً دونه، لكن يا بني : قد يضل بعض الآباء الطريق، أو يخطئ السبيل. فيدرك الابن أن مايقوله أبوه ليس حقاً، وما يدعوه إليه لايسوغ بحكم الشرع ومنطق العقل. فكيف يتعامل الابن مع خطأ والده يابني؟
أولاً: حين يقع الأب في مخالفة شرع الله فليس له فيه قدوة، والطاعة إنما هي في المعروف وقد عاب اللّه الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، والأب له حق عظيم لكن حق الله أعظم. وواجب محتم لكن وجب اللّه اتم وأولى.(/3)
ثانياً: حين يشعر الابن يابني أنه يختلف مع أبيه في رأي، أو لا يوافقه في مسالة أيعني ذلك إسقاط حق حسن الصحبة والجرأة على العقوق؟ لقد أوصى الله ببر الأب ولو كان مشركاً، ولو دعا ابنه للشرك، فكيف إذا كان خطؤه عن اجتهاد، ومجانبته للصواب عن رغبة في الإصلاح؟
ثالثاً: حين يهمل أب ولده في شأن التربية. ويغفل عن أداء واجب النصيحة، بل حين يسعى لتسهيل المعصية له وشرائها بحر ماله، أفيعني ذلك يابني أن الابن معذور عند الله؟ أبداً يابني، إن ذلك قد يكون سبباً في انحرافه وصبوته، ومدعاة لأن يجازى الأب على ذلك يوم القيامة، لكنه يابني ليس عذراً أمام الله بحال. لقد قتل الشبان من بني قريظة كفاراً، وما كان لهم عذراً أن آباءهم كذلك، بل ولا أنهم دعوهم للكفر وصدوهم عن الإيمان.
رابعاً: وحين يلمس الابن الخطأ من أبيه، أفيعني ذلك أن يسلك مسلك التمشيخ والأستاذية لوالده؟ أيعجز الابن الشاب أن يسلك مسلكاً حكيماً في الاصلاح، وسليماً في التوجيه؟
يابني : كثير هم الشباب الذين يسيئون طريق الإصلاح، ويجهلون طريق الدعوة لآبائهم وأمهاتهم. فرفع الصوت، وخشونة الكلمة، وقسوة اللهجة منطق إن ساغ يابني مع أحد لم يسغ مع الوالدين بحال.
حديث من شيخ إلى شاب
1. مشكلة الشهوة:
يابني : أعرف أنك الآن بلغت سن التكليف وأعرف -وقد مررت بالمرحلة التي أنت فيها وقاسيت منها ما قاسيت- جيداً يابني مايعانيه الشاب في هذه السن وأن مشكلة الشهوة هاجس لايفارق خياله، فهل لي يا بني أن أحدثك عنها بصراحة ووضوح؟ نعم يابني؛ فهي واللّه خير من أن تكون ضحية خبرة أصحابك، وتوجيه خلانك.
يا بني: إن من حكمة الله سبحانه في عباده أن يبتليهم بالشهوات والمكاره؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:"حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات".
نعم يابني لقد زين للناس في هذه الدار حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وركب في الإنسان يابني غرائز تدعوه إلى مقارفة الشهوة و ارتكابها.
وأعرف يابني أن الأمر لم يقتصر على الدافع الفطري - وهو وحده كاف في الابتلاء- كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم :"ماتركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". بل زاد الأمر يابني فصارت الصورة المحرمة تلاحق الشاب والفتاة في الشارع والمنزل، في المجلة والمشهد، في المرأة المتبرجة في السوق والمنتزهات، وحين يسلم من ذلك -ولا إخاله - فإنه يابني لن يسلم من حديث زميله في المدرسة، وقد يريه الصورة، ويحدثه عن المغامرة، وعن التخطيط للمارسة.
يابني : يكون الشاب عفيفاً لكنه حين يخلو بنفسه يتيه في أودية التفكير، وشعاب الخواطر فتتقاذفه يمنة ويسرة، ويشعل النار على نفسه، وحينها يسأل عن العلاج.
يابني : إن غض البصر، والكف عن المحارم هو الخطوة الأولى والأساس. ألم تقرأ قوله تعالى [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم]. ألم تعجب مثلي يابني لمن يتجرؤون على المخالفة ومن ثم يبحثون عن العلاج.
يابني : واللّه ماصدقوا إذ قالوا هذا أمر ابتلينا به ولامخرج لنا منه، إذاً فلماذا تنقلهم أقدامهم إلى مواقع الفتنة؟ ولماذا تتحرك أيديهم لجيوبهم ليشتروا الصورة المحرمة ويبحثوا عنها؟
يابني : نعم إنه أمر يحتاج للمجاهدة لكنه ليس بالمستحيل، وشتان بين أن يكون الأمر صعباً أو مستحيلاً، إنهم وإن حببت إليهم الشهوات، فقد خلق اللّه لهم عقولاً يميزون فيها مايضرهم وما ينفعهم، ومنحهم سبحانه إرادة يختارون بها، ويسيطرون بها على نفوسهم ودوافعها.
يابني : أعرف أن من أشد ألقاب الذم والهجاء أن يقال للشاب إنك غير مكتمل الرجولة، وإنك ضعيف الشخصية، فما رأيك فيمن ينهار أمام شهوته، وينهزم أمام داعي هواه أليس مهزوز الإرادة؟ ضعيف الشخصية؟ فاقد الرجولة؟
يا بني: لن أستطيع في هذه العجالة أن أسهب في هذا الحديث لكنها خواطر عاجلة فإن أردت فارجع إلى مادون فيه من كتب، أو ألقي عنه من محاضرات.
2. ما الأمر الذي يهمك؟
يابني : تتفاوت اهتمامات الناس وهمومهم في هذا الزمن فمنهم من همه تحصيل شهوته فبها يفكر، وبها يعيش، ومن أجلها يسعى ويحفد، ومنهم من فتن بالرياضة فأسرت لبه، واسترقت فؤاده، ألم تعلم مثلي أن البعض من الشباب ذات ليلة شهد صلاة الفجر خلاف العادة. أتدري لماذا يابني ؟ لقد علمت بعدها أن مباراة كانت في الثلث الأخير من الليل حين ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فاستيقظوا لمتابعتها، وربما لم يناموا حتى يدركوها.(/4)
والشيء بالشيء يذكر يابني، لقد عهدنا هؤلاء لايشهدون صلاة الصبح مع جماعة المسلمين، ويرون أنهم لايطيقون ذلك، فلماذا يستيقظون ويطيقون الآن؟ أوَ ما علموا أن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر؟ أوَ مايخافون من الجبار حتى يستفتحون اليوم بمعصيته؟ أوَ مايعلمون أن أول عمل يحاسبون عليه يوم القيامة الصلاة؟ ولقد عهدتهم أيام الامتحان يستيقظون مبكرين يابني أفشأنها أعلى عندهم من دينهم؟
يابني : تتفاوت همم الناس علوًّا وسفلاً، تتفاوت في مضمونها واتجاهاتها، فمنهم من تقف همته على تحصيل شهادة يتوظف بها ويسترزق، ومنهم من يطمح أكثر للحصول على وظيفة أعلى، ومنهم من تكون همته تحصيل علم شرعي ينفع اللّه به الأمة، فأين أرى همتك تقف يابني؟
يابني: لقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن المرء على دين خليله، وأن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب، وقديماً قيل:-
يقاس المرء بالمرء***إذا ما المرء ماشاه
وذو العُرِّ إذا احتك *** ذا الصحة أعداه
وللشيء من الشيء *** مقاييس وأشباه
وللروح على الروح *** دليل حين يلقاه
ألا ترى يابني أن الكثير من الشباب مع إدراكه لهذا المعنى، ووضوحه لديه يفتقر إلى المعايير السليمة في اختيار الأصدقاء؟
3. قصة مجتمعك:
يابني : أستأذنك في أن أقص عليك قصة مجتمعك، لقد كان مجتمعاً يابني محافظاً، مجتمعاً متديناً، مجتمعاً عفيفاً، لقد كنا يابني قبل سنيات نرى على جنبات الحائط أثراً، أتدري مم ذاك يابني ؟ لقد كانت المرأة فيه يابني قلما تخرج وحن تخرج تراها ملتصقة بالحائط.
يابني : لقد كنا إذا أجدبت السماء فزع الناس، وتصدقوا وأنفقوا، واستسقوالله ففي أحيان كثيرة يا بني كان المطر ينزل علينا ونحن في المصلى، وإن تأخر فلن يجاوز اليوم الذي صلينا فيه.
يابني !: لقد كان الناس إذ ذاك يبغضون الكافر، وينفرون منه، بل وكل مظهر يذكرهم به من لباس ومطعم ومشرب فهو مظهر منبوذ مرفوض.
أما الصورة الداعرة، والمشهد الفاتن، والتبرج والسفور، فهذه قل من يسمع عنها فضلاً عن أن يراها، ولن ترى أحداً إذ ذاك يابني يفهم مصطلح ( المخدرات، الاغتصاب، الابتزاز، الاختطاف…) فضلاً عن أن تكون مرت بطيفه أو خياله، فضلاً عن أن يكون رآها.
يابني : دارت الأيام دورتها وتوالت السنون، وبين غفلة منا وذنوب وإهمال، وتآمر من العدو الظاهر والكامن، فتحولت الأمور وصار الناس غيرَ الناس، والحال غيرَ الحال، أحدثك يابني عن مجتمعك وأنت تراه بعينك وعيانك؟
ولئن كان حالنا أهون من حال غيرنا من المجتمعات يابني، فمؤامرات الأعداء لم تنقطع، وحقدهم لم يتوقف، ولن يرضوا يابني حتى يروا الفتاة تسير في شوارعنا كما تسير في باريس ولندن، وحتى يرو الخمرة تباع جهاراً كما تباع المرطبات [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] وأنت يابني حصيف عاقل تدرك تآمرهم، وترى مكرهم وكيدهم، وتعرفهم في لحن القول، فإياك إياك أن تخدع.
ثم إني سائلك يابني : هذا الواقع مسؤولية من؟ ومن تريد أن يقف في وجه تيار الفساد؟ ومن تريد أن يساهم في الإصلاح والتغيير؟، فالآمال يابني عليك وعلى أقرانك، فاللّه اللّه في أمتكم، واللّه اللّه في مجتمعاتكم، وقولوا يا بني لحال الغفلة واللهو وداعاً إلى غير رجعة.
يا بني : روي أن الحسن البصري رحمه الله تعالى أعطي شربة ماء بارد، فلما أخذ القدح غشي عليه وسقط من يده، فلما أفاق قيل له: مابالك يا أبا سعيد؟ قال: ذكر أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة ] أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه[.
يابني : كم مرة أغلقت على نفسك الباب ولم يعد يراك إلا الملك الجبار، علام الغيوب، والمطلع على مافي الصدور، أفتراك حين تغلق الباب، وترخي الحجاب، تهم بمعصية الملك التواب؟، أو لم تقرأ قوله تعالى ]الله يعلم ماتحمل كل أنثى وماتغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار[.
أتراك يابني حين تطفئ المصباح تذكر ظلمة القبور، وأنك إذ تنام قد لا توقظ إلا يوم النشور، أم أراك تعصي مولاك وقد سمعت قول الحبيب " ليأتين أقوام من أمتي معهم حسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيصيرها الله هباءً منثوراً "، لقد كانوا يابني يصلون كما يصلي الناس ، ويصومون كما يصوم الناس، ويقرأون كما يقرأ الناس، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
يا بني : أعرف أن كثيراً من الشبان يخشى أن يراه والده وهو على معصية، أو يسمعه وهو يهم بسوء، أتراه يابني نسي أن الله يراه ولا تخفى عليه خافية، ويسمعه وقد وسع سمعه الأصوات؟(/5)
يابني : لقد رفع الله مقام الذين يخشونه بالغيب فقال [إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير] وقال [وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد] فهل لك يابني أن تعقد الصفقة، وتتم البيعة، فالسوق رائجة، والمتسابقون قد شمروا؟
يابني : نحن في هذه الدار دار سفر وغربة، ووحدة ووحشة، والمسافر لابد له من زاد فهل سألت نفسك أين الزاد؟
يابني : أرأيت جدك محمد وقد أعياه الكبر، فرق عظمه، وخارت قواه، فلم تعد تحمله قدماه، لقد كان قبل ذلك شاباً مثلك غض الشباب، قوي البنية، وما لبث أن رد إلى أرذل العمر وبلغ من الكبر عتيًّا، وغيره يابني -ولو كان شاباً – في الطريق إلا إن مات دون ذلك، وهما يابني أمران أحلاهما مر، فهل ترى يا بني أن الشباب يفكرون بحق في هذا المصير؟ فيأخذون للأمر أهبته ويغتنمون سني الشباب، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم الشباب بذلك قائلاً: "اغتنم شبابك قبل هرمك ، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل مرضك".
يابني : حين ترى بعض الشباب تظن أنهم لا يدرون أنهم سيموتون، أو يرون أن الموت لن يأتيهم إلا حين يشيخون، أتذكر زميلك الذي توفي في إجازة الربيع، وابن عمك الذي توفي قبل أسابيع؟ فضع يابني هادم اللذات نصب عينيك، واعرف أنك يوشك أن يدعوك داعيه يوماً، فلا خيار لك إلا الإجابة، فماذا أعددت للرحيل، وأين زادك وقد قرب الفراق؟
يابني : حين مات ذر بن عمر وقف والده على قبره وهو يقول: يابني، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما قلت وما قيل لك، اللهم إنك أمرته بطاعتك وببري، فقد وهبت له ما قصر فيه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك، انطلقنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، فنستودعك أرحم الراحمين، أتراك يابني تقول هذا الكلام أم يقال لك؟
يابني: في يوم القيامة حين تدنو الشمس من الخلائق فتكون منهم قدر ميل فيعرقون حتى ينزل عرقهم سبعون ذراعاً، ويبلغ منهم على قدر أعمالهم، في ذاك الموطن يا بني سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لاظل إلا ظله، ومنهم: شاب نشأ في طاعة الله أتعجز يابني أن تكون واحداً من هؤلاء؟ والله ليس الأمر بالمستحيل، ولا هو بالبعيد، فكن عالي الهمة، واسلك الطريق تصل إلى مبتغاك.
موقع الدويش(/6)
يا تارك الصلاة انتبه!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
الصلاة.. وما أدراك ما الصلاة، فريضة محكمة، هي أحد أركان الإسلام الخمسة، افترضها الله تعالى على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في السماوات العلى، ووجوب أدائها ثابت بالكتاب والسنة ومعلوم للجميع، وقد تساهل في أدائها كثير من الناس لأعذار ما أنزل الله بها من سلطان، بل تركها بعضهم مطلقاً، نسأل الله العافية، وقد تنازع العلماء في حكم تاركها سلفاً وخلفاً إلا إن ما ذكره ابن القيم في كتابه القيم كتاب الصلاة وحكم تاركها، وحرره العلامة الشيخ بن عثيمين ورجحه بقوله: إذا رَدَدْنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا أنهما يدلان على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر المخرج من الملة، وساق الأدلة على ذلك. (1)
إن الصلاة ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، التي من حافظ عليها حفظه الله في دينه، وأناله مغفرته ورضوانه، لكونها عمود الإسلام، والصلة بين العبد وبين رب الأنام، ومن فرط فيها، قطع الصلة بينه وبين ربه، ولم يقبل الله منه بدونها صرفاً ولا عدلاً.
قال الله تعالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}(2) وقال تعالى عمّن فرط فيها:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}(3). وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد أن من ترك الصلاة فله في آخرته غيّ، وغيّ كما قال ابن مسعود وأبو أمامة - رضي الله عنهما -: واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم، منتن الريح، يسيل فيه صديد وقيح أهل النار، أعده الله لمن ترك الصلاة.
وقال تعالى :{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}(4) .
وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}(5) .
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت))(6). وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه-، قال: قال النبي - صلى الله عليه و سلم -: ((ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟)) قلت: بلى يا رسول الله. قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد))(7) .وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه و سلم - أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف))(8). وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))(9) . وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه و سلم - يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))(10).
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: ((من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله)) (11)
وأخيراً: اعلم يا من ترك الصلاة أن هذا الفعل يترتب عليه أحكام شرعية وهي كالتالي:
1 - حكمه: كافر مرتد يستتاب من ولي الأمر فان تاب وإلا قتله مرتداً.
2 - جنازته: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلّى عليه ولا يقبر في مقابر المسلمين. ولا يحل تقديمه للمصلين ليصلوا عليه.
3 - الدعاء له: لا يجوز الدعاء له بالرحمة والمغفرة بعد موته، لكن يجوز الدعاء له بالهداية فقط إن كان حياً.
4 - ميراثه وولايته: تركته لبيت المال، ولا يجوز أن يرث أحد من المسلمين، ولا تجوز ولايته على مسلم من أبناء وإخوان وغيرهم.
5 - زواجه: لا يحل تزويجه من مسلمة وإذا عقد له فإن العقد باطل ولا تحل له الزوجة، وإن كان تركه للصلاة بعد القران فإن نكاحه ينفسخ.
6 - حاله في الدنيا: قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(12).
7 - ذبيحته: إذا ذبح يحرم أكل ذبيحته، مع جواز أكل ذبيحة اليهودي والنصراني.
8 - دخوله الحرم: لا يجوز أن يمكّن من دخول مكة ولا حدود حرمها.
9 - حكم صحبته: لا تجوز والواجب هجره والبعد عنه خاصة إذا كان في ذلك توبته.
10 - مصيره في الآخرة: لا يدخل الجنة و مأواه النار خالدا مخلدا فيها ويحشر مع فرعون وهامان.....(/1)
11 - في الاحتضار: تضرب الملائكة وجهه ودبره، ويعذب العذاب الشديد ولهذا تسود وجوه بعضهم.
اللهم رد المسلمين أجمعين إلى دينك القويم، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - راجع رسالة (حكم تارك الصلاة والرد على المخالفين) للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى.
2 -(238) سورة البقرة.
3 -(59) سورة مريم.
4 -(38) (47) سورة المدثر.
5 -(4)(5) سورة الماعون.
6 - حديث متفق عليه.
7 - أخرجه أحمد في مسنده برقم (21008)، والترمذي في سننه كتاب الإيمان عن رسول الله باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم(2541).
8 - أخرجه أحمد في مسنده برقم(6288)، والدارمي كتاب الرقاق باب في المحافظة على الصلاة برقم (2605).
9 - أخرجه أحمد في مسنده برقم(21929) والترمذي في سننه كتاب الإيمان عن رسول الله باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2545) والنسائي في سننه كتاب الصلاة باب الحكم في تارك الصلاة برقم(459) وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (1069).
10 - رواه مسلم كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (116).
11 -رواه ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة.
12 - (124) سورة طه.(/2)
يا شباب
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
3/2/1422
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الذرية والنسل نعمة من نعم الله. 2- أهمية الشباب للأمة. 3- نصيحة النبي لأحد الشباب. 4- الرياضة تشغل الشباب عن المعالي. 5- قصص من شباب السلف. 6- صور من شباب الصحوة اليوم.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: زينة الحياة الدنيا. وعدة الزمان بعد الله شباب الإسلام. الناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة, أو يعهد عليهم صبوة، يستبقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا، ولهم الظل الظليل يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظل المولى عز وجل.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار ولا تفسد الأمة وتهلك في الهالكين إلا حين تفسد أجيالها، ولا ينال الأعداء من أمة إلا نالوا من شبابها وصغارها، وفي كتاب الله إخبار من أنبياء الله حين توجهوا إلى ربهم بصلاح ذرياتهم من قبل وجودهم ومن بعد مجيئهم، فمن دعاء زكريا عليه السلام رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران:38]. ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة، ويقول إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. وفي دعاء آخر له رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]. وكل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيها الأحبة:
من الشباب ينشأ العلماء العاملون، والجنود المجاهدون وفيهم الصناع والمحترفون، إذا صلحوا أسعدت بهم أمتهم، وقرت بهم أعين آبائهم وأمهاتهم، وامتد نفعهم وحسنت عاقبتهم جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
ولقد رسم النبي صلى الله عليهم وسلم فيما رسم منهجاً واضحاً لشباب الأمة المحمدية ممثلاً في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك...)) الحديث.
إن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة، ورسوخ الإيمان وصدق التعلق بالله وحده والاعتماد عليه، إن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، يأتي كل ذلك أيها الأخوة ليكون دافعاً للشباب، وهو في فورته وطموحه وتكامل قوته، ليكون قوي العزيمة عالي الهمة.
وإن شباب الإسلام اليوم بحاجة إلى المعرفة التامة بالعزائم من الأمور، والعالي من الهمم، إن قوي العزيمة من الشباب - أيها الشباب- من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبداً لشهواته، فتعس عبد الدنيا والدرهم.
أيها الشباب: إن الشهوات والعواطف، وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يسقط الهمم، ويفتر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن وذكاء العقل، وقوة البصيرة، ولكن قوي الإرادة فيهم وعالي الهمة فيهم، ونفاذ العزيمة فيهم هو الكامن المتفوق يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون.
بعد ذلك أقول يا شباب كم أحزنني وآلمني منظر متكرر لشباب المسلمين وهم يتجمهرون أمام الجامع بين أذان وصلاة المغرب خارجين من ملعب الكرة والناس يمرون عليهم خارجين من بيوتهم إلى بيوت الله، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل تجدهم في لهو وصفير وضياع وغفلة، عندها تذكرت حال شباب الأمة الصادقين وعلمت علم اليقين نجاح أعداء الملة في الكيد لشبابنا وإبعادهم عن معالي الأمور إلى سفاسفها والله المستعان.
الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصباح
غط الجميع بنومهم فوز الفريق هو الفلاح
كرة القدم
أمضى الجسور إلى العلا بزماننا كرة القدم
تحتل صدر حياتنا وحديثها في كل فم
وهي الطريق لمن يريد خميلة فوق القمم
أرأيت أشهر عندنا من لا عبي كرة القدم
أهم أشد توهجاً أم نار برق في علم
لهم الجباية والعطاء بلا حدود والكرم
لهم المزايا والهبات وما تجود به الهمم
كرة القدم
الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصباح
وإذا دعا داعي الجهاد وقال حي على الفلاح
غط الجميع بنومهم فوز الفريق هو الفلاح
فوز الفريق هو السبيل إلى الحضارة والصلاح
كرة القدم
صارت أجل أمورنا وحياتنا هذا الزمن
ما عاد يشغلنا سواها في الخفاء وفي العلن
أكلت عقول شبابنا ويهود تجتاح المدن(/1)
آه ثم آه، ماذا يراد بشباب الأمة: يا شباب أتدرون من أول من سل سيفه في سبيل الله. اسمع رعاك الله.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "عن عروة قال: أسلم الزبير ابن ثمان سنين، ونُفخت نفخة من الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخذ بأعلى مكة، فخرج الزبير وهو غلام ابن اثنتي عشرة سنة بيده السيف، فمن رآه عجب وقال: الغلام معه السيف، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لك يا زبير، فأخبره وقال: أتيت أضرب بسيفي من أخذك، فدعا له ولسيفه))"، يا شباب: على مثل سير هؤلاء فلتكن التربية، فلتكن القدوة، فلتكن الهمة، فليكن الشموخ والاستعلاء.
ذهب اللذين نحبهم فعليك يا دنيا السلام
لا تذكري العيش عندي بعدهم فالعيش بعدهم حرام
إني رضيع وصالهم والطفل يؤلمه الفطام
يا شباب: ما كان يشغل بال ابن عباس رضي الله عنهما وهو صبي (ابن عشر سنين) إلا معرفة كيفية قيام النبي صلى الله عليه وسلم, وأعد يوماً وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل فدعا له: ((اللهم فقهه في الدين)) وصار بهذا الدعاء- الذي ناله وهو صبي- حبر الأمة وترجمان القرآن.
ويا شباب الإسلام: يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد شهدت بدراً وما في وجهي شعرة واحدة أمسحها بيدي.
وقد كان سعد من السابقين إلى الإسلام، وقد كان قتل فرعون هذه الأمة أبو جهل لعنه الله على يد غلامين من الأنصار.
وتذكر يا شباب الإسلام ما فعله محمد بن القاسم الثقفي ابن السابعة عشرة من العمر الذي فتح بلاد الهند والسند:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في انشغال
فغدت بهم أهواؤهم وسمت به همم الملوك وسورة الأبطال
وهذا عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، ابن الخليفة رحم الله تلك العظام، كان نعم المعين لوالده على مرضاة الله, وعلى تحمل هموم الأمة وتبعات الخلافة.
ذكر الآجري رحمه الله: (في كتاب فضائل عمر بن عبد العزيز) أن عمر لما دفن سليمان بن عبد الملك خطب الناس ونزل ثم ذهب يتبوأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه والتزمه، وقبل بين عينيه، وقال: الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقيل.
جمع عمر بن عبد العزيز قراء أهل الشام وفيهم أبو زكريا الخزاعي فقال: إني جمعتكم لأمر قد أهمني، هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي (يعني بذلك عطايا لأهل بيته قد أعطيت لهم من أبناء عمه من الخلفاء قبله).
يقول رحمه الله: قد أهمتني هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قالوا: ما نرى وزرها إلا على من غصبها، قال: فقال لعبد الملك ابنه: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قدر على أن يردها فلم يردها والذي اغتصبها إلا سواء.
فقال: صدقت أي بني، ثم قال: الحمد الله الذي جعل لي وزيراً من أهلي، عبد الملك ابني.
هذا العابد الرباني مات وعمره تسعة عشر عاماً، مات شاباً في زهرة شبابه قال ابن رجب رحمه الله "لقد كان رحمه الله مع حداثة سنه مجتهداً في العبادة، ومع قدرته على الدنيا وتمكنه منها راغباً عنها مؤثراً للزهادة، فعسى الله أن يجعل في سماع أخباره لأحد من أبناء جنسه أسوة، لعل أحداً كريماً من أبناء الدنيا تأخذه بذلك حمية على نفسه ونخوة، وأيضاً ففي ذكر مثل أخبار هذا السيد الجليل مع سنه، توبيخ لمن جاوز سنه وهو بطّال، ولمن كان بعيداً عن أسباب الدنيا وهو إليها ميال".
بارك الله لي ولكم في كتابه العظيم وجعلنا الله وإياكم من أهل القرآن العاملين إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
يا شباب الإسلام: اعلموا أنكم في زمن فتنة وبلاء، واعلموا أن بعض الآباء قد شغلوا عنكم بل ربما أعانوكم على الوقوع في الفتنة والحرام، ولكن اعلم رعاك الله أن عليك مسؤولية عظيمة، فنحن نعيش في زمن سلبت فيه أغلى المقدسات وتسلط فيه الأعداء، فمتى يفيق النائمون؟! وهل بقي شيء من الذل لم نتجرعه على أيدي إخوان القردة والخنازير؟! وا لهفي على الأرض المباركة وعلى الأقصى السليب في الوقت الذي تدك الدبابات أرض الإسراء والمعراج صباح مساء، ويعاني إخواننا في الدين هناك أشد ألوان الحصار والبلاء، ويتسارع الأطفال العزل من السلاح لمقارعة اليهود بكل بسالة وتضحية وفداء.
أخرج من بيتي فأرى بين الأحياء فئاماً من شباب الأمة يسهرون على المنكرات والعبث واللهو فيالجراحات المسلمين، وعلى قدر حال شباب الأمة توزن الأحوال والله المستعان.
يا شباب الإسلام: أدهى من ذلك وأمر ما كنا لنصدق لو لا أنها حقائق، أن من أحفاد العظماء النجباء من وقع في حبائل وشباك المخدرات فلا تسل بعد ذلك عن ضياع الدين والعقل والمروءة والحياء.(/2)
يا شباب: مازلت متفائلاً وسأظل متفائلاً مهما عظم كيد الأعداء، فالجبار جل جلاله يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18]. وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ [غافر:25]. نعم من آلامنا تبزغ آمالنا، والرجال تصنعهم المحن، وابتسامة الفجر الوليد تبزغ من أشد ظلمة في الدياجي.
يا شباب: أعرف بعض إخوانكم من شباب هذا العصر ممن جرفه تيار الشهوات لكنه استفاق سريعاً يوم أن سمع صوت النذير ويوم أن رأى وسمع بواقع أمته الجريحة، فما أحوج الأمة اليوم إلى نهضة شبابها، ما أحوج الأمة إلى المجاهدين الصادقين والعلماء المخلصين والدعاة المتجردين.
نعم أيها الشباب: استيقظ هؤلاء الشباب واستيقنوا بما يكاد لهم وما يخطط لتغييبهم عن دينهم وواقع أمتهم الجريحة، انتبه أولئك الأبطال فغاروا لمحارم الله وغاروا لأعراض المسلمين، فعادوا إلى حيث الأصل، إلى الراحة والطمأنينة، إلى العزة والشموخ، وسبحان ربي، إن الإيمان يصنع الرجال ويسمو بهم صعداً، منهم من أوقف حياته في سبيل الدعوة إلى الله يجوب الأرض شرقاً وغرباً، ومنهم من فتح الله عليه علماً وفضلاً، فنفع الله به البلاد والعباد، ومنهم من نفر للجهاد في سبيل الله، فسطروا على أرض الشيشان وكشمير وغيرها صوراً عظيمة وجميلة للتضحية والفداء، وتلك الأشبال من أولئك الأسود، وليس ذلك بغريب على أمة الجهاد والإٍيمان.
أعرف من قتل منهم وهو يودع الدنيا بابتسامة عريضة جميلة ظلت على محياه آية وعبرة وكرامة، وأعرف من ودع الدنيا منهم في عز شبابه في التاسعة عشرة من عمره، والنور يشع من على وجهه وإصبع اليد المسبحة يشهد لله بالوحدانية، فيجد أخوه بجانبه ورقة من المصحف فيقرؤها فإذا فيها قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. إي والله إنها حقائق، فسبحان من عظم كرمه وجوده أن يحيط به الخلائق، وسبحان من يري عباده عجائب قدرته وغير ذلك كثير وكثير.
إنهم فتية الإسلام:
وقفوا على هام الزمان رجالا يتوثبون تطلعاً ونضالا
وحي السماء يجيش في أعماقهم ونداؤه من فوقهم يتعالى
باعوا النفوس لربهم واستمسكوا بكتابه واستقبلوا الأهوالا
في وقدة الصحراء في فلواتها حملوا تكاليف الجهاد ثقالا
تشوي على رمضائها أجسامهم لكنهم لا يعرفون محالا
يا شباب: تذكروا قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) وعن حفصة بنت سيرين قالت: يا معشر الشباب اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب.(/3)
يا عيني فلتذرفي الدموع
لي أصحاب مسافرين معي قد تجهزوا وما تجهزت معهم ، لقد حملوا طيبات كثيرة وما حملت .... لا ، بل لي حمل أثقل كاهلي ... حمل يضر ولا ينفع .. فليت شعري ما الذي جعلني أحمل ما يضر ولا ينفع ؟
ثم ليت شعري إنَّ صحبي حولي أراهم قد حملوا الطيبات فسعدوا وارتاحوا ... أما نفوسهم فراضية مطمئنة ، وأما نفسي فحزينة متألمة..
كم مرة ٍ راودتني نفسي أن أكون معهم ؟
لكن خطواتي ثقيلة لا تتقدم نحوهم !!
فقلت لها يا نفسي إن لم تتحركي من أجل ما ينفعك فلا أقل من أن تتخلصي مما تحملين .
يا نفس لكم أثقلك ما تحملين ... يا نفس لكم ضرك وما نفعك... فلماذا تواصلين الحمل ؟
فلم تجبني..
فناديت : يا عيني فلتذرفي الدموع .
قرب وقت السفر واشتد الجمع له ، فمن حولي أمثال دوي خلية النحل من العمل والسعي الدءوب من أجل السفر .
نعم لأنه ليس سفرا ً مهما ً وفقط ، بل أهم سفر سنسافره جميعا ً ... إنه السفر للآخرة ، وهل هناك سفر أهم منه ؟
لا وألف لا ... إنه أهم سفر منذ ولدتنا أمهاتنا ... سفر ٌ لا رجعة فيه .. فحق له أن يكون أهم سفر في حياتنا .
ومع هذا فلم يحركني كل هذا ، فناديت يا عيني فلتذرفي الدموع .
تقاربت الأيام ولكن اليوم ليس ككل يوم..
أحس ذلك ولكن لا أدري لماذا ؟
لكن هال عيني ما رأت من هذا ؟ من هؤلاء ؟
أحقا ً هي النهاية ؟ هل بدأ السفر ؟
ما بال أطرافي قد بردت ؟
لقد أيقنت أنها النهاية ... نعم بدأ السفر ، ولكن أين الزاد ؟ أحقا ً سأرحل بلا زاد ؟ .... أحقا ً سأرحل بلا زاد ؟
لكن أشغلني أمرٌ آخر .. لقد وجدتني أحمل حملاً سيئا ... إنه فرصة للتخلص منه ، ولكن مالي لا أستطيع ؟
هل أنادي يا عيني فلتذرفي الدموع ؟
لكن حتى هذه لا أستطيع .
اللسان لا يتحرك ، والجسد كله هامد ، فلا إله إلا الله .
" كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق "
" فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ ٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون "
أفي هذه اللحظة توبة ؟ كلا وربي .
ما هذا ؟ وإلى أين ؟ إنه عالم جديد كل من يدخله يوزن بما معه من زاد .
لقد هالني ذلك عن النوم على التراب ، ومفارقة الأحباب ، لكن كل هذا يهون أمام الميزان ...
أين الزاد أين ؟ أين ؟
ولكن يا ويحي مما أحمل .. أتراني سأضعه في الميزان أيضا ً ؟
ياعيني فلتذرفي الدموع .
حتى إذا شاء الله أن تحق الحاقة وتقرع القارعة فإذ بالأرض قد زلزلت زلزالها ، وأخرجت أثقالها ، فقمت مع من قاموا حفاة عراة غرلا .
فيا لهول ما أرى ... إن منهم من يغطي العرق نصفه ومنهم يلجمه العرق ، ومنهم من يحمل أوزارا ً مثل الجبال ولكن أين؟؟
إنه يحملها على ظهره يسعى بها إلى الحشر .
ومنهم من يطوق أرضا ً ... في رقبته ولكن أي أرض ؟ إن شبرا ً من أرض الدنيا يطوق اليوم في الرقبة إلى سبع أراضين .
وها أنا كم أحمل ... فيا عيني فلتذرفي الدموع .
حتى إذا شاء الله ـ بعد وقوف طويل ـ أن يفصل بين الخلائق فتطايرت الصحف فآخذ ٌ باليمين وآخذ بالشمال ، فإلى أين هؤلاء ؟ وإلى أين أولئك ؟
أهل اليمين في نعيم مقيم ... فأطلق لخيالك العنان ليسبح في هذا النعيم حتى يصل إلى غايته ، فهناك تعرف أنه أعلى من ذلك كيف لا ؟ وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
أما أهل الشمال فـ " في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم " ... ينادى على أحدهم " خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه " .
فحدِّث ولا حرج ... تقرح العيون ، وتفطر القلوب ، وتهتك الجلود ، ولكن ... " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " .
فعفوك يا رب الأرباب .
أخي وحبيبي ..... أرجوك لا تنادي : يا عيني فلتذرفي الدموع ؛ فأمامك الفرصة بعد أن عدت من رحلتك تلك ـ إن شاء الله ـ بالعِبرة .
وإلى لقاء مع أهل اليمين أسأل الله أن يجمعنا هناك .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/1)
يا فتاة
محمد الدويش
المحتويات
فهناك سؤال يفرض نفسه :
من أخاطب ؟
معذرة على المصارحة
ماذا يريدون منكِ ؟
ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
لماذا إهدار العاطفة ؟
ألهذا الحد ترخص المرأة ؟
قارني بين صورتين
من أولى بالقدوة
ألم تدخلي المصلى؟
قبل أن تذبل الزهرة
ما للفتاة والرياضة ؟
العذراء في خدرها
لا مجال للمخاطرة
صور من حياة المرأة في الغرب
1. أولاً: هكذا تهان المرأة
2. ثانيا: العلاقات غير الشرعية
3. ثالثا: العائلة
· القرار بيدكِ أنتِ
فهناك سؤال يفرض نفسه :
لماذا الحديث إلى الفتاة ولماذا نخصها بالخطاب ؟ أعرف أن الإجابة موجودة لديكِ سلفا ولكن ماذا عَلَىَّ لو قلت إني أتحدث لك :-
1- لأنك أمي وهل خرج أحد للدنيا دون أم؟ وهل تنفس الصعداء قبل أن يعيش في بطن أمه شهورا؟ وبين أحضانها سنيات من عمره وهى ترعاه وتعاهده؟ وحين يشب طوقه ويصلب عوده يعود به الحنين، فطرة فطر عليها، يعود به الحنين ليلتصق بشريكة الحياة فالمرأة والرجل لصيقان يبدأ حياته وتاريخه من خلالها، ويودع الدنيا كذلك.
2- لأن الكثير يتحدثون عنك يا فتاة، ويرفعون شعار نصرة قضيتك فالأديب قد سخر شعره ونثره، والكاتب قد وظف قلمه، والصحفي قد استنفر قوته فالجميع أجلبوا بخيلهم ورجلهم ما بين كاتب ومفكر وعامل ومنفذ. الجميع نزلوا بثقلهم ليتحدثوا عنك يا فتاة، عن قضية المرأة وحقوق المرأة. ويعلو ضجيج وصخب الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتا.
ألم تسمعي يا فتاة ذلك الصوت القائل يوما من الدهر :-
حينما كنا صغاراً في الكتاتيب ***علمونا أن وجه المرأة عورة
والقائل :-
مزقيه ذات البرقع لا تخافي مزقيه
وابن بلدك القائل :-
محجبة تريك سفور جهل *** ومسفرة تريك حجاب علم
إنها أصوات لا أشك أنك تسمعينها وتقرئينها هنا وهناك. ويعلو ضجيجها ويرتفع صخبها، وكلها تدعو إلى دعوة واحدة، وتتحدث عن قضية واحدة هي قضيتك. لقد زعموا أنك مظلومة لقد زعموا أنك مهانة وزعموا أنهم يتحدثون باسمك ونقلوا وكالة دون موافقة صاحب الشأن ودون موافقة الوكيل فصار الجميع يتحدث ويبدئ ويعيد في قضية المرأة.
يا فتاة : يعلو ضجيج وصخب هذه الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتًا.
ألا يحق بعد ذلك للناصحين أن يرفعوا هاماتهم، وينادون بصوت مسموع رافعين الراية ليقولوا هاهنا الطريق يا فتاة وإياك وبنيات الطرق وأزقة الغفلة؟
3- ونتحدث إليك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يوليك يا فتاة عناية واهتماما يليقان بمقامك ؛ ففي كل عيد يخطب فيه المسلمين، ينصرف إلى النساء، إلى العواتق وذوات الخدور ليحدثهن ويعظهن، وتستقل النسوة هذا الأمر فتطمع بالمزيد. وتتطلع إلى ما فوق ذلك ؛ فتأتى إحداهن إليه صلى الله عليه وسلم قائلة : ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا يوما من نفسك فيعدهن صلى الله عليه وسلم ويحدثهن حديثاً خاصًّا لا شأن للرجال به.
وحين نتصفح دواوين السنة ونقرأ ما سطر فيها، نرى الكثير من النصوص التي توصي بحقك ورعايتك والعناية بك، ولقد كان صلى الله عليه وسلم في مجمع عظيم في حجة الوداع يجعل قضية المرأة من أهم القضايا فيقول صلى الله عليه وسلم : " الله الله في النساء، اتقوا الله في النساء ". ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم التعامل مع المرأة معيارًا تقاس من خلاله خيرية الرجل فيقول : صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ".
بل إن الأمر يتجاوز مجرد هذا التوجيه لنرى هديه صلى الله عليه وسلم في المكانة التي يعليها المرأة. فيحبس صلى الله عليه وسلم الجيش لماذا ؟ لأن زوجه عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقدًا لها. فيأتي إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فينتهرها فيقول : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، وحين قام البعير وجدوا العقد تحته. فنزلت آية التيمم. فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
ويرتفع شأن المرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم. فتأتي أم هانئ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه سلم فتقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم زعم ابن أختك أنه قاتلُ رجلاً قد أجرتُه. فقال صلى الله عليه وسلم :"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
فللمرأة مكانة وقيمة يرفعها إليها النبي صلى الله عليه وسلم فتصبح كلمتها نافذة على المسلمين، وحين تجير رجلاً فتقبل إجارتها ولا يسوغ لأي امرئ أيًّا كان أن يغفل جوار هذه المرأة.(/1)
4- ونتحدث إليك لأنك أم المصلحين، والمجددين. أقرأت سير المجاهدين الصادقين. وهل خفيت عليك صفحات العلماء العاملين، تأملي في التاريخ وارفعي الرأس وانظري إلى سماء أمتك لتري هناك نجوما تلوح في الأفق ساهمت في صياغة تاريخ الأمة وصناعة مجدها، وخطت صفحاته البيضاء. فليس يغيب عن ناظريك أبداً اسم الشافعي وعمر بن عبد العزيز وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم ممن حاز قصب التجديد وأخذ منه بنصيب وافر. ولن تنسَيْ سير نور الدين الشهيد، أو صلاح الدين، أو الغزنوي أو غيرهم ممن حمل روحه على كفه وسار في ميدان الوغى وشعاره ولسان حاله يقول :
أذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن *** على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن أحن يومي سعيداً بصحبة *** يمسون في فج من الأرض خائف
يتغنى بها صادقا من قلبه، وقد صفا لإخوانه أهل الإسلام وغلا مِرجله على أهل الأوثان. وهاهى صفحات سيرة أبى حنيفة ومالك وأحمد والعز بن عبد السلام وغيرهم كثير ممن أراد الله بهم خيرا ففقههم في الدين فساروا ينشرون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم. وقبل الجميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا فتاة كم تهزك هذه الأسماء هزا، وكم تطرب أذنك ويتشنف سمعك حين تسمعين بها. لكن لا تنسي أن أولئك وغيرهم كان لكل منهم أم برة صادقة طالما دعت الله عز وجل أن يجعل ابنها قرة عين لها، وكان له شريكة حياة يسكن لها ويطمئن إليها وهي تقول له كل صباح والله لا يخزيك الله أبداً، وتحتمل اللأواء معه وتصبر وتصابر وكانت خير زاد له ومعين.
فإذا كنت أنت أم الدعاة وأم المصلحين، وأنت بعد ذلك الزوجة الوفية لهم فيحق لنا يا فتاة أن نخاطبك ونخصك بالحديث.
من أخاطب ؟
يافتاة :- من أخاطب في هذه الرسالة ؟ ولمن أتحدث ؟
إنى أخاطب الفتاة الحصان الرزان، الطاهرة العفيفة. فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت في بيت محافظ تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهي تسمع الدعاء لها بالستر والعافية. ولكنها مع فتن العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات اليمين والشمال، وتلتفت إلى الوراء، فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شابًّا لم تعرفه إلا من كلامه، وتسهر أحيانا على فلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها مظاهر السفور والعلاقة المحرمة.
فتعيش في دوامة من الصراع، فتسمع تارة هذا الصوت النشاز، الذي يدعوها إلى الارتكاس في الحمأة والتخلي عن كل معاني العفة. وتسمع أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزًّا عنيفاً ليقول لها رويدك فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك، وتتصارع هذا الأصوات أمام سمعها وتتموج هذه الأفكار في خاطرها.
إنها تؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، وتعرف الجنة والنار، وتؤمن بالحلال والحرام، ولكن الصراع مع الشهوة قد رجح لغير كفتها.
ومع ذلك كله فقد رزقت أباً غافلا قد شغل بتجارته وعلاقته مع أصدقائه وزملائه، وأمًّا بعيدة عنها كل البعد لا يعنيها شأنها ولاتشغلها قضيتها، ولم تعتد أن تتلقى منهم الابتسامة الصادقة والكلمة الوادة، ولم تر منهم القلب الحنون، ولم تر منهم من يفتح ذراعيه لها، وحينئذ وجدت بغيتها وضالتها في صاحبتها صاحبة السوء التي تلقاها في المدرسة، وربما كانت الضالة في شاب تائه غاو ضال يغويها بمعسول الكلام.
يا فتاة :- إن كنت كذلك فما أجدرك أن نخاطبك، وما أجدرك أن تقدِّري موقفي، فاصغَيْ لصوتي وحكَّمي عقلك، فإن سمعت خيرا فحيهلاً، وإن كان غير ذلك فأنت وما تريدين. أما إن كنتِ من أهل الصلاح والاستقامة فاسمعي ما أقول وكوني رسولة خير، وترجمان صدق لمن وراءك وأسهمي معنا في إبلاغ هذا الصوت الذي أصبح نشازا قد اختفي تحت ركام الأصوات الهائلة التي تدعو الفتاة إلى الغواية والضلال والانحراف، والتي صارت تتاجر بقضية المرأة وحيائها وعفتها، بل صارت تتاجر بحياة الأمة وعفتها وعفافها. لقد اختفت الأصوات الناصحة الصادقة، وبقيت حبيسة تحت هذا الركام من آلاف المجلات الوافدة والمسلسلات الساقطة، والأصوات التي تعلو هنا وهناك، والتي تدعو الفتاة والشباب جميعاً إلى هذا الطريق وتقول لهم بلسان الحال والمقال هيت لكم.
يا فتاة :- لست أتحدث من فراغ، ولا أبني قصورا في الرمال بل أتحدث عن واقع رأيته ولمسته، وحدثني عنه الثقات. فقد قرأت بعيني رسالة عتاب على جفاء صديق لم يستقبلها بالأحضان، واعتذر عن مبادلة القبلات فعاشت جحيماً لا يطاق لتكَدُّرِ خاطر من كان لا يزول عنها الهم إلا بسماع صوته.
نعم قرأت تلك الرسالة التي سطرَتْها أناملها لصديق السوء. والرسالة الأخرى التي كانت من شاب لم يدرك قيمة عمله ومهنته وما استؤمن عليه فسطر رسالة غرام مكتوبة بالآلة الكاتبة، وعلى ورق رسمي ليرسلها إلى صديقته. وسمعت الرواية بسند متصل رجاله ثقات عن مكالمة هاتفية تفيض عاطفة وقد علا نشيج الفتاة بالبكاء وهى تسمع التهديد بالقطيعة واختيار البديل فصاحبها يعرف عشرين فتاة غيرها سيختار أوفاهن له، وما أبعده عن الوفاء !!(/2)
إنها صور كثيرة يا فتاة، لا أظن أني - مهما بلغت من الإحاطة، وحفظت من النماذج - أحيط بما لم تحيطين به، أو أدرك مالا تدركين.
معذرة على المصارحة
يا فتاة :- إن مبدأ المبالغة، واتهام الناس أن عهودهم قد مرجت، ووصم الفتيات أن عفافهن قد اندرس. إن هذا المبدأ مرفوض جملة وتفصيلا، فلا يزال في الناس بقايا من خير. وإن الحديث عن أخطاء شخصية وفضائح لفلانة أو فلان هو خرق لسياج العفة في المجتمع وإشاعة للفاحشة.
ولكن في مقابل ذلك لا يسوغ أن نتغافل ونتعامى بحجة أن المجتمع بخير، وأننا أفضل من غيرنا إذ أن هذه اللغة قد ولى وقتها إلى غير عودة.
يا فتاة :- فلنكن صرحاء صراحة منضبطة بضوابط الشرع، وواضحين وضوحا محاطا بسياج الحياء والعفة، لتكون خطوة للتصحيح ونقله للإصلاح.
وهاهنا لن أتحدث عن الأسباب وتحليل الظاهرة إنما هي دعوة عاجلة للمراجعة، وإعادة الحساب. إن غاية ما أريد أن أقوله في هذا المجلس هي الدعوة هي دعوة أرفع بها صوتي لكل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعود إلى طريق الاستقامة والصلاح، وأن تسلك الطريق التي خلقها الله عز وجل من أجله واختارها سبحانه وتعالى لتكون سائرة عليه، ولتكون أمًّا للأجيال. هذا هو ما نريد أن نصل إليه من خلال هذا الحديث، ومن ثمَّ فلن نفيض في الحديث عن الأسباب ومظاهر الانحراف والخلل ؛ إنما هي إلمامة عُجلى نضم بعد ذلك صوتنا فيها إلى أصوات الناصحين والمنادين بضرورة العودة إلى الطريق وتصحيح المسار.
ماذا يريدون منكِ ؟
يا فتاة :- لقد رأيتيه في السوق، وعند بوابة المدرسة، وسمعتِ صوته عبر جهاز الهاتف وربما التقيتِ معه وسمعت الألفاظ المعسولة والكلمات التي تسيل رقة وعاطفة، مصحوبة بالأيمان المغلظة على صدق المحبة وعمق المودة، وقد تكون يده قد خطت رسالة لكِ تفيض بمعاني العشق والغرام. وربما دار في خاطرك أن هذا زوج المستقبل.
يا فتاة :- بعيدا عن العاطفة، وعن سرابها الخادع، كوني منطقية مع نفسك واطرحي هذا السؤال، ماذا يريد ؟ ما الذي يدفعه لهذه العلاقة ؟ إن الصراحة خير من دفع الثمن الباهظ في المستقبل ماذا يقول لزملائه حين يلتقي بهم ؟ وبأي لغة يتحدث عنك ؟
إننى أجزم يا فتاة أنك حين تُزيحين وهم العاطفة عن تفكيرك فستقولين وبملء، صوتك إن مراده هى الشهوة والشهوة الحرام ليس إلا.
يا فتاة :- ألا تخشين الخيانة ؟ أتُرين هذا أهلا للثقة ؟ شاب خاطر لأجل بناء علاقة محرمة، شاب لا يحميه دين أو خلق أو وفاء، شاب لا يدفعه إلا الشهوة أولا وآخراً أتأمنينه على نفسك بعد ذلك؟
لقد خان ربه، ودينه، وأمته ولن تكوني أنت أعز ما لديه، وما أسرع ما يحقق مقصوده لتبقي لا سمح الله صريعة الأسى والحزن والندم .
ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
يا فتاة :- هبي أنك قد بنيت علاقة مع فلان من الناس، وزادت المودة، وقويت العلاقة حتى صار خليلا وصَفِيًّا تبثينه الأشجان، وتأسين لفراقه، وتحزنين لوداعه ولكن ألم تحدثي نفسك يوما من الأيام بالمستقبل.
ألم تسمعي أن هناك من ندمت أشد الندم، وتمنت أنها لم تعرف فلاناً، ولم يمر طيفه بخيالها ؟. وإن لم تكن ندمت في الدنيا فقد تقول يوم القيامة ((ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً)).
لماذا إهدار العاطفة ؟
يا فتاة :- إن الله حكيم عليم ما خلق شيئا إلا لحكمة، ولا قضى قضاء إلا وفيه الخير. علم ابن آدم أو جهل.
لقد شاء الله بحكمته أن تكون المرأة ذات عاطفة جياشة تتجاوب مع ما يثيرها لتتفجر رصيدا هائلاً من المشاعر التي تصنع سلوكها أو توجهه. وحين تصاب الفتاة بالتعلق بفلان من الناس قرب أو بعد فأيُّ هيام سيبلغ بها. فتاة تعشق رجلا فتقبل شاشة التلفاز حين ترى صورته، أو أخرى تعشق حديثه وصوته فتنتظره على أحر من الجمر لتشنف سمعها بأحاديثه. وحين تغيب عن ناظرها صورته، أو تفقد أذنها صوته يرتفع مؤشر القلق لديها، ويتعالى انزعاجها فقد غدا هو البلسم الشافي.
يا فتاة :- بعيدا عن تحريم ذلك وعما فيه من مخالفة شرعية، ماذا بقي في قلب هذه الفتاة من حب لله ورسوله، وحب للصالحين بحب الله؟ ماذا بقي لتلاوة كلام الله والتلذذ به؟ أين تلك التي تنتظر موعد المكالمة على أحر من الجمر في وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الأخير عن الاطراح بين يدي الله والتلذذ بمناجاته؟
بل وأينها عن مصالح دنياها، فهي على أتم الاستعداد لأن تتخلف عن الدراسة من أجل اللقاء به، وأن تهمل شؤون منزلها من أجله.
بل وما بالها تعيش هذا الجحيم والأسى فيبقى قلبها نهباً للعواطف المتناقضة والمشاعر المتضاربة.
فما في الأرض أشقى من محب *** وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حال *** مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم *** ويبكي إن دنوا حذر الفراق
إن هذا الركام الهائل من العواطف المهدرة ليتدفق فيغرق كل مشاعر الخير والحب والوفاء للوالدين الذين لم يعد لهما في القلب مكانة.(/3)
ويقضى على كل مشاعر الحب والعاطفة لشريك العمر الزوج الذي تسكن إليه ويسكن إليها.
وبعد حين ترزق أبناء تتطلع لبرهم فلن تجد رصيدا من العواطف تصرفه لهم فينشأون نشأة شاذة ويتربون تربية نشازا.
يا فتاة :- العاقل حين يملك المال فإنه يكون رشيدا في التصرف فيه حتى لا يفقده حين يحتاجه. فما بالك تهدرين هذه العواطف والمشاعر فتصرفيها في غير مصرفها وهى لا تقارن بالمال، ولا تقاس بالدنيا؟
يا فتاة : لقد خصك الله سبحانه وتعالى بهذه العاطفة والحنان وهذه الرقة وهذا التجاوب مع هذه المشاعر لحكمة يريدها سبحانه وتعالى ؛ ليبقى هذا رصيدا يمد الحياة الزوجية بعد ذلك بماء الحياة والاستقرار والطمأنينة رصيداً يدر على الأبناء والأولاد الصالحين حتى ينشأوا نشأة صالحة، فما بالك تهدرين هذه العواطف لتجني أنت وحدك الشقاء في الدنيا؟ فتارة تشتاقين إلى اللقاء، وأخرى تبكين خوف الفراق والأسى، وأخيرا تضعين يدك على قلبك خوف النهاية والفضيحة، خوف هذه النهاية المؤلمة، التي أهدرت عواطفك وأهدرت أعز ما تملكين من أجل أن تصلي إليها .
ألهذا الحد ترخص المرأة ؟
يا فتاة :- مظهر لا أشك أنك ترفضينه غاية الرفض، وتمقتينه غاية المقت، إنه يمثل إهدارا لشخصيتك وإهانة لمقومات أنوثتك، إنه تحويل للمرأة التي كرمها الله سبحانه وتعالى وجعل لها حقا ومنزلة وأوصى ببرها وحسن صحابتها وربط ذلك برضاه سبحانه، وقرن عقوقها بالشرك به وعده من أكبر الكبائر.
أي إهدار رخيص لقيمة المرأة أن تُجعل وسيلة للدعاية والإعلان لترويج السلع والمنتجات. فهل تصل قيمة الفتاة عند هؤلاء أن توضع صورتها على علبة للصابون أو المناديل؟ وما معنى أن تزين أغلفة المجلات بصورة فتاة جميلة، أليس هذا وسيلة للإغراء والإثارة ولترويج المطبوعة ؟! ألا تشعرين يا فتاة أن في هذا إهانة وتحويلاً لك إلى مصدر للثراء ولجمع المال أيًّا كان مصدره.
لقد بدأت حتى أفجر الممثلات في الغرب يشعرن بسقوط المرأة أمام قدمي الرجل ونفسيته الجشعة فقد نشرت إحدى الصحف أن ممثلة فرنسية بينما كانت تمثل مشهدا عارياً أمام الكاميرا ثارت ثورة عارمة وصاحت في وجه الممثل والمخرج قائلة: أيها الكلاب، أنتم الرجال لا تريدون منا نحن النساء إلا أجسادنا؛ حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا ثم انفجرت باكية. لقد استيقظت فطرة هذه المرأة في لحظة واحدة على الرغم من الحياة الفاسدة التي تغرق فيها، استيقظت لتقدم الدليل القاطع على عمق المأساة التي تعيشها المرأة التي قالوا عنها إنها متقدمة.
قارني بين صورتين
الصورة الأولى :- شاب مستقيم محافظ على طاعة مولاه، قد سخَّر وقته وجهده لعبادة ربه، وأفنى شبابه لطاعته. والثاني شاب تائه زائغ تقيمه شهوته وتقعده. الأول تعرض له الفتنة، وتبدو أمام ناظريه مظاهر الإغراء والإثارة فيعرض عنها، ويغض بصره، بل وينأى عن مواقعها، إنه كالآخرين لديه شهوة ولديه العواطف لكنه يشعر أنها مأسورة بإطار الشرع ومحاطة بسياجه. تحادثه الفتاة وتنبري أمامه وتسعى لإيقاعه، لكن لسان حاله يقول ((معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)).
والثاني ينهار أمام شهوته ورغبته؛ فيقضي سحابة نهاره في التسكع في الأسواق وأمام التجمعات النسائية، في قراءة مجلة داعرة، أو البحث عن صورة فاتنة. ويمضي ليلة عند سماعه الهاتف أو مقابل فيلم ساقط ومشهد داعر.
يا فتاة : كوني واقعية، ومنطقية واحكمي بعيداً عن العاطفة، أيهما أكثر رجولة؟ ومن أحق بالثناء والإعجاب، الشاب الذي ينتصر على شهوته ويستعلي على رغبته استجابة لمرضاة الله؟ أم الشاب الذي ينهار أمام داعي الشهوة ويسعى لتحقيقها على أشلاء كل خلق وفضيلة؟
من أولى بالقدوة
يا فتاة : لكل أمة تاريخ تفخر به، ولكل امرئ مجد ينافح عنه ويتطلع إليه، وتتحكم ثقافة المرء وخلفيته الفكرية في اختيار المحتوى التاريخي الذي يفتخر به وينتمي إليه. فهناك من غاية التراث لديه موروثات قديمة، ومقتنيات الآباء والأجداد من الأدوات و الأواني و الأثاث. وهناك من يشعر أن المنهج، والفكر، والمبدأ أثمن من هذا كله، فيعتبر أن هذا هو تراثه الحقيقي.(/4)
يا فتاة : حين نطبق هذه القاعدة على الفتيات فسنجد الصورة نفسها، فمنهن من لا تذكر من التاريخ إلا روايات جدتها وحكاياتها قبل النوم، وهناك من ترى التراث في إناء وموروثات قديمة، ومنهن من تمتد في التاريخ امتداداً أفقيًّا مع الجيل الحاضر والأمم المعاصرة؛ فترى قدوتها في عارضة أزياء كافرة، أو ممثلة فاجرة، أو مغنية ساقطة. ومنهن من تمتد امتداداً رأسيًّا لترى قدوتها في أم عمارة نسيبة بنت كعب، أو ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، أو في اللواتي أثنى عليهن الله ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)) وقال تعالى :((قانتات تائبات عابدات سائحات)). ويتجاوز هذا المدى ليدرج ضمن هذه القائمة امرأة فرعون :((إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)).
يا فتاة : أدعوك مرة أخرى لتحكمي وبمنطق العقل والموضوعية ؛ من أولى بالقدوة ؟ ومن الأحق بالأسوة ؟.
يا فتاة : لو وضع لك الخيار أن تكوني كإحدى الطائفتين فأين أراك تختارين؟ حزب عائشة وزينب وأسماء وآسية. أم حزب عارضات الأزياء والممثلات؟
يا فتاة : حين يهديك عقلك الراشد إلى اختيار أحد الحزبين، وخير الطائفتين، فسوف تسعين حتماً للاقتداء بمن تختارين، والسير في ركابه، وإن لم تصلي النهاية التي وصلن إليها، إلا أنك في الطريق.
واليك النهاية التي تصل إليها هذه الساقطات:
إحدى الممثلات الساقطات. الممثلة الراحلة كما يقال مارلين منرو نالت المال الذي تستطيع أن تحصل به على كل شيء، والشهرة التي جعلت اسمها وصورتها تملأ صحف العالم، والجمال الذي يشد أنظار الرجال إليها ويجذبهم نحوها، لقد وجد المحقق الذي درس قضية انتحار هذه الممثلة الشهيرة رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في بنك منهاتن في نيويورك، فتح المحقق الرسالة وجدها مكتوبة بخط مارلين منرو نفسها وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل فتقول في رسالتها إليها : احذري المجد ، احذري كل من يخدعك بالأضواء ، إنني أتعس امرأة على هذه الأرض لم أستطع أن أكون أمًّا. إني امرأة افضل البيت ، أفضل الحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية .انتهى كلامها.
وصرح بعض النقاد بأن الجاني هو كل فرد في المجتمع الغربي. قال أحدهم في إيطاليا إنها لم تنتحر نحن الذين قتلناها نحن الذين نشاهد الأفلام ونقرأ المجلات، بل اعتبرها أديب آخر إنسانة لم تطق استمرار العيش في قاذورات تلك الحضارة، ولم تجد مفرا من موتها اليومي إلا بالموت النهائي.
نعم لقد وجدت هذه الممثلة في الانتحار خلاصا من شقائها وتحررا من واقعها ونجاة من مستغليها والمثرين على حساب أنوثتها. قارني بين هذه الصورة وبين صورة تلك المرأة التي تقول :
( رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ).
ألم تدخلي المصلى؟
يا فتاة : ألم تنقلك قدميك إلى المصلى ؟ تفضلي علينا بدقائق من وقتك وادلفي خطوات إلى مصلى الكلية، إلى حيث يجتمع ثلة من الصالحات القانتات، وألقي عليهن نظرة عاجلة فإحداهن تقرأ القرآن، والثانية تصلي الضحى، والثالثة في مجلس علم وذكر. في حين يتحلق غيرهن على موائد اللحوم البشرية. واحتفظي بهذه الصورة في الذاكرة.
وحين تعودين إلى المنزل وتستلقين على الفراش تفضلي على نفسك بدقائق فاسترجعي تلك الصورة، وقارني بينها وبين فتاة تقف عند بوابة المدرسة، أو أمام محل تجاري وهي تسارع خطاها، وأنظارها في كل اتجاه هل جاء صاحبها أم لا؟ ثم هل يراكم من أحد؟ أو بين تلك التي تتصفح مجلة ساقطة، أو تحملق أمام الشاشة أو تمسك بسماعة الهاتف.
بالله عليك أيهما أهنأ عيشاً، وأكثر استقراراً؟ أيهما أولى بصفات المدح والثناء، تلك التي تنتصر على نفسها ورغبتها، وتستعلي على شهواتها، وهي تعاني من الفراغ كما تعانين، وتشكو من تأجج الشهوة كما تشتكين. أم الأخرى التي تنهار أمام شهوتها؟
يا فتاة : تساؤل يطرح نفسه ويفرضه الواقع : لماذا هذه الفتاة تنجح ولا أنجح أنا ؟ لماذا تجتاز هذه العقبات وأنهزم أمامها ؟.
أليس هذا أكبر دليل ودافع لك أنك أنت قادرة على أن تسيري في ركاب التائبات القانتات العابدات الصالحات؟ أنك قادرة على أن تودعي حياة الغفلة والإعراض؟ وهاأنت ترين نموذج القدوة أمامك، بعيدا عن أن نفتش لك صفحات التاريخ، أو أن نطلب منك العودة بالذاكرة إلى الوراء. وها هي صورة شاخصة أمام عينيك ترينها كل صباح في المدرسة ترينها كل مساء في مناسبات عائلية أو مناسبة أفراح، ترين هذه الصورة وأجزم أنك وأنت تواجهينها بسخرية لاذعة والكلمة الجارحة أنك تقولين من الداخل كلاما آخر غير هذا كله.(/5)
فلماذا لا تكونين صريحة ؟ وتعلني هذا الكلام الذي بداخلك؟ لماذا لا تفكرين مرة أخرى بمنطق العقل كيف تستطيع هذه الفتاة السير في هذا الطريق ولا أستطيع أنا؟
إن كل ما تطرحين من عائق، أو تتوهمين من عقبة، أو تفتعلين من حاجز دون طريق الاستقامة والصلاح. إن هذا كله موجود لدى هذا الصنف من الفتيات، وربما كان أكثر.
قبل أن تذبل الزهرة
يافتاة : هاأنت تتطلعين في المرآة فترين صورة وجه وضيء يتدفق حيوية وشباباً، هاأنت تغدين وتروحين وأنت تتمتعين بوافر الصحة وقوة الشباب.
ولكن ألم تزوري جدتك يوماً، أو تري عجوزاً قد رق عظمها، وخارت قواها، لقد كانت يوماً من الدهر شابة مثلك، وزهرة كزهرتك، ولكن سرعان ما مضت السنون وانقضت الأيام فاندفنت زهرة الشباب تحت ركام الشيخوخة، ومضت أيام الصبوة لتبقى صورة منقوشة في الذاكرة؟ وهاأنت يا فتاة على الطريق، وما ترينه من صورة شاحبة وشيخوخة ستصيرين إليها بعد سنيات.
إذاً فكيف تهدرين وقت الشباب وزهرته، وتضيعين الحيوية فيما لا يعود عليك إلا بالندم وسوء العاقبة؟
يا فتاة لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم صلى الله عليه وسلم شاباً نشأ في طاعة الله عز وجل والخطاب للرجال تدخل فيه النساء، إذا فممَّن يظل الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في طاعة الله، أو فتاة نشأت في طاعة الله عز وجل، ومتى هذا الوعد ؟ ومتى هذا النعيم ؟ إنه في يوم تدنو الشمس فيه من الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، فيعرقون ويذهب عرقهم في الأرض سبعون ذراعا؛ فيرتفع عرقهم في الأرض، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما.. فهل فكرت أيتها الفتاة أن تكوني من اللواتي في عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؟
ما للفتاة والرياضة ؟
يا فتاة : هل صحيح ما سمعنا عنك، أنك قد لا تحضرين للدراسة حين يكون هناك مباراة هامة، وأحياناً تستأذنين من المحاضرة لتتصلي بالهاتف فتسألي عن أخبار المباراة ومن الفريق المنتصر؟ وأنك تعجبين بلاعب أو رياضي ماهر، فيزيد حد الإعجاب عن المعقول، ليُتَرْجَم إلى تصرفات شاذة، ومسالك غير منضبطة.
يا فتاة : اللهو المباح المنضبط من حق كل إنسان رجلاً كان أو امرأة لكن هل العناية بالرياضة تليق بأنوثة المرأة وطبيعتها ؟! أم أنها نشاز وشذوذ عما فطرها الله عليه.
فهل يليق بمربية الأجيال، وأم الدعاة، ومنجبة القادة أن تكون هذه نهاية اهتماماتها وغاية طموحاتها ؟.
يا فتاة : فاز الفريق وانتصر وحصل على كذا وكذا من النقاط وكذا وكذا من الأهداف فماذا حصل ؟ وأي ثمرة جنتها الأمة وحققتها وراء ذلك؟ وماذا ستحصل عليه الفتاة حين تشغل نفسها بذلك إلا إهدار الوقت، والتلاعب بالمشاعر والعواطف، ومخالفة طبيعة الأنوثة والأمومة؟
العذراء في خدرها
يا فتاة : يمتدح الرجال بالنخوة والشجاعة والكرم، وأما المرأة فتمدح بالحياء وحين يوصف الرجل بالحياء يشبه بالعذراء.. ولهذا كان صلى الله أشد حياءً من العذراء في خدرها، أتظنين يا فتاة أنك حين تطيلين اللسان وترفعين اللهجة، وحين تزيلين عنك غشاوات الحياء أتظنين أنك تبلغين مبلغاً عالياً سامياً أم أنك تضحين بشيء من أغلى ما تمدحين وتوصفين به؟
لا مجال للمخاطرة
قد يقود الفراغ - وربما الفضول - الفتاة لمكالمة هاتفية خاطفة تكون بداية مأساة لهذه الفتاة:-
1– فإما أن : يعرف ذلك أحد الوالدين.
2- أو أن يتم اللقاء والفضيحة وتدمير المستقبل.
في مجلة مرآة الأمة الصادرة بتاريخ 22/7/1987م نقرأ هذه المأساة " أنا فتاة أبلغ من العمر التاسعة عشرة، في السنة الأولى في الجامعة اعتدت أن أراه في ذهابي وعند عودتي من الجامعة، في كل مرة يبادلني التحية، وتصادف أن التقينا في مكان عام، وشعرت معه بمعنى الحياة، تعاهدنا على الزواج، ثم تقدم لخطبتي، وعشت أياماً سعيدة.
وفي ذات يوم حدث بيني وبينه لقاء فقدت فيه عذيرتي ووعدني أن يسرع بالزواج ، وبعد عدة شهور من لقائنا اختفي من حياتي وأرسل والدته لتنهي الخطوبة، ولتنهي معها حياتي كلها، فالحزن لا يفارق عيني أعيش في سجن مظلم مليء بالحسرة واللوعة والأسى، ولا تقولي لي إن الأيام كفيلة بأن تداويني بنعمة النسيان. فكيف أنسى ما أصابني من الذي أعطيته كل شيء، وجعلني لا أساوي شيئاً " إنها النهاية التي قد تصل إليها من تسلك هذا المسلك؟
صور من حياة المرأة في الغرب
يا فتاة : لقد قص الله عز وجل علينا قصص الأمم الكافرة والأمم الغابرة لنتعظ ولتكون عبرة لنا. والآن لنقف مع صور من حياة المرأة في عالم الغرب، الصورة المقابلة للمجتمع المحافظ، وهي النهاية لأي طريق يدعو إلى رمي عفة الفتاة وحيائها، وهي صور سيئة ساقطة يطول الحديث عنها، ولكننا هاهنا نتحدث بإيجاز عن جوانب في تلك الصورة لتعرف الفتاة ما هو الطريق الذي يراد بها أن تساق إليه:
1. أولاً: هكذا تهان المرأة :(/6)
في دراسة أمريكية أجريت في عام 1407هـ، أشارت إلى أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء، وبخاصة إذا كانوا متزوجين منهن.
وفي دراسةٍ فحص فيها 1360 سجلاًّ للنساء في المستشفيات، تقول إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعًا للجروح التي تصاب بها النساء، وأنها تفوق حتى ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات والسرقة والاغتصاب مجتمعة.
وفي فرنسا تتعرض حوالي مليون امرأة للضرب، وأمام هذه الظاهرة التي تقول الشرطة أنها تمثل حوالي 10% من العائلات الفرنسية، أعلنت الحكومة أنها ستبدأ حملة توعية لمنع أن تبدو أعمال العنف هذه كأنها ظاهرة طبيعية. وقالت أمينة سر الدولة لحقوق المرأة: إن الحيوانات تعامل أحيانًا أحسن منهن، فلو أن رجلاً ضرب كلبًا في الشارع فسيتقدم شخص ما بالشكوى إلى جمعية الرفق بالحيوان. ولكن إذا ضرب رجلٌ زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد. ونقلت صحيفة FRANSAR عن الشرطة أن 60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة الخدمة في باريس أثناء الليل هي نداءات استغاثة من نساء يسيء أزواجهن معاملتهن.
وقد وضع في تصرف الرجال سريعي الغضب خط هاتفي على مدى 24 ساعة، يتصل به الزوج ليفرغ غضبه إلى طرف آخر لعله يغنيه عن ضرب زوجته. ونشرت مجلة TIMES الأمريكية أن حوالي 4000 زوجة من حوالي 6 ملايين زوجة مضروبة، تنتهي حياتهن نتيجة ذلك الضرب. وأشار خبر نشره مكتب التحقيقات الفيدرالية جاء فيه أن 40% من حوادث قتل السيدات ارتكبها أزواجهن.
وجانب آخر من صورة المرأة في الغرب:
2. ثانيا: العلاقات غير الشرعية:
دلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة نفسها أكثر من 35 مليون متزوج يقيم علاقات غير شرعية خارج عش الزوجية، أي نسبة تصل إلى 70% من الرجال المتزوجين. وبعبارة أخرى فإن 70% من الزوجات الأمريكيات مأسورات بقيد الخيانة، خيانة أزواجهن لهن.
وقد دفعت المعاناة الزوجات اللواتي يخونهن أزواجهن إلى تشكيل تجمع نسائي جديد في أمريكيا، يضمهن أطلق عليه اسم WAHS. أما صورة أخرى فهي صور الاغتصاب الذي تتعرض له المرأة. وفي الولايات المتحدة تقول التقارير الخاصة بالاغتصاب إن حادثة الاغتصاب تسجل كل 6 دقائق، وإن جريمة الاغتصاب أكثر جريمة تسجيلا في محاضر الشرطة والمدن الأمريكية.
ويقول المحللون إن 90% من حوادث الاغتصاب لاتصل إلى سجلات البوليس وهذا يعني بحسبة بسيطة أن عشر حوادث للاغتصاب تتم كل 6 دقائق أو جريمتين كل دقيقة تقريبًا.
وفي LOS ANGELES التي أصبحت تشتهر بأنها عاصمة حوادث الاغتصاب في العالم.
واحدة من ثلاث فتيات فوق سن 14 عامًا معرضة للاغتصاب. وقد بلغ الحال من السوء جدًّا أن دفع بحاكم ولاية CALIFORNIA لأن يعلن في حديث تلفزيوني حربًا لمدة عشر سنوات بكلفة 5 مليارات دولار لمكافحة الجريمة. وتحدث الحاكم واسمه JER BRAUON عن الحال التي وصلت إليها الأوضاع في المدينة بقوله إن مستوى الخوف ودرجة العنف البشعة أنشأت جوًّا من شأنه تقويض حقنا الأساسي في أن نكون أحرارًا في مجتمعنا.
وأما في فرنسا، فقد أذاع الراديو الفرنسي في يوم الأحد 25/9/1977م إحصائية ذكر فيها أن في فرنسا 5 ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير أزواجهن. وأذاع التلفزيون الفرنسي في القناة الأولى في 23/9/1977م أن المحكمة الفرنسية ردت الدعوى التي قدمها الزوج بحق زوجته التي تخونه، وبعد تقديم الدليل قالت المحكمة، ليس من حق الزوج أن يتدخل في الشؤون الخاصة بزوجته
3. ثالثا: العائلة:
(أنقذوا العائلة من الموت، أنقذوا العائلة من الموت). هذا النداء الدراماتيكي أطلقه العالم الاجتماعي الفرنسي JERNARD OREL وهو النداء الثالث الذي يطلقه خلال 30 سنة الماضية. كان الأول : أنقذوا العائلة من الاستلاب، وكان الثاني : أنقذوا العائلة من التفتت. وهو يطلق النداء الثالث لأن المعطيات التي توفرت لديه حول وضع العائلة في الغرب تثبت جميعها أنه قد حان الوقت لكي تقرع أجراس الإنذار في كل بيت من نصف الكرةالشمالي.
وقد قام الباحث الغربي على امتداد سنتين ماضيتين بمسح ميداني للعائلة الغربية تنقل بين مختلف البلاد الأوروبية وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة وكندا ليعود بجعبة مليئة بالأصوات التي تحذر من اتجاه العائلة الغربية نحو الهلاك. هذه الأصوات مع تحليل واف لها جمعها OPEL في كتاب أطلق عليه عنوان : أنقذونا. والأصوات تلك هي عبارة عن الحوارات القصيرة التي أجراها المؤلف مع نساء وأطفال وآباء وأجداد حول طبيعة علاقة كل واحد منهم بأفراد العائلة الآخرين، والأصوات البعيدة كانت نادرة جدًّا بل هي استثنائية.
وها هي المرأة الغربية تنادي : أريد أن أعود إلى منزلي. وهذا عنوان كتاب ألفته إحدى المفكرات الفرنسيات.
في إحصائية في السويد تقول إن المرأة السويدية فجأة اكتشفت أنها اشترت وهما هائلا تقصد الحرية التي أعطيت لها بثمن مفزع وهو سعادتها الحقيقية.(/7)
والكاتبة الإنجليزية LADY COOK أحست بعواقب الاختلاط الوخيمة. وكتبت قبل عشر سنين في صحيفة ALAIEO تقول : إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طبعت المرأة بما يخالف فطرتها. وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى وهنا البلاء العظيم على المرأة. ثم تقول : أما آن لنا أن نبحث عما يخفف إذا لم نقل عما يزيل هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية. أما آن لنا أن نتخذ طريقًا تمنع قتل الآلاف من الأطفال الذين لا ذنب لهم بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب. يا أيها الوالدان لا يعنيكما دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا. علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد. لقد دلتنا الإحصائيات على أن البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال. ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت ، وكثير من السيدات معرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون أدوية الإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن. لقد أدت بنا الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان، وهذا غاية الهبوط بالمدنية.
هذا ما قالته تلك الكاتبة الغربية.
فها هي يا فتاة، ها هي المرأة الغربية تنادي بأعلى صوتها، أريد العودة إلى منزلي، فقد جربت ورأت نهاية الحياة التعيسة.
القرار بيدكِ أنتِ:
إن الاقتناع بخطأ طريق الغفلة، والممارسة الشاذة، والسلوك المنحرف . أمر يشترك فيه الكثير من الشباب والفتيات ممن هم كذلك. بل أكثرهم يقتنع بحاجته إلى الالتزام والاستقامة، ولكن هذا القرار الشجاع، الحاسم يقف المرء معه متردداً متهيباً.
لست أدري ما مصدر هذا التردد ؟ ما دام الاقتناع قد تكون لدى الفتاة بخطأ طريقها، وسلامة الطريق الآخر فما ذا تنتظر ؟ إنه التخوف أحيانا من المستقبل، الذي لا مبرر له.
القضية باختصار يا فتاة قرار جريء وشجاع تتخذينه وبعد ذلك يتغير مجرى حياتكِ تلقائيا، ويهون ما بعده، فهل تعجزين عن اتخاذ هذا القرار ؟ لا أخالك كذلك وأنت الفتاة الجريئة في حياتك كلها. واسألي من كنَّ شركاء لكِ في الماضي، فاتخذن القرار، وسلكن طريق الهداية.
موقع الدويش(/8)
يا قوم اتبعوا المرسلين
1626
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأمثال في القرآن للعظة والعبرة. 2- قصة القرية في المذكورة في سورة (يس). 3- تعلق قلوب الكفار ببعض شبه الشيطان. 4- ذكر بعض ما جرى بين أنبياء القرية والملأ المكذبين لهم. 5- قصة المؤمن الناصح لأهل القرية. 6- شفقة الداعية على قومه. 7- الصبر على طول طريق الدعوة وكثرة المعوقات فيه.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله إن الله جل جلاله ضرب الأمثال في القرآن وجعل في القرآن من كل شيء مثلاً، ضرب المثل لعبوديته الحقّة وعبودية الآلهة الباطلة وضرب مثلاً لرسله، وضرب مثلاً للحق والباطل، وضرب مثلاً لما جعل الله جل وعلا عليه الأمم السابقة، ضرب الأمثال لتكون عظة وعبرة، ولكن الأمثال إنما يعقلها من تفكر وعلم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت:43]. وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر:21]. فالله جل جلاله نوَّع الأمثال لنتفكر ولنتعظ ولنعتبر.ومن أعظم الأمثال التي ضربها الله جل وعلا في هذا القرآن ، جعلها مثلاً لنتدبرها ولنعي ما فيها، أمثال قصص الأنبياء والمرسلين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يفترى [يوسف:111].
وإن من تلكم القصص، وتلكم الأمثال قصة تلك القرية التي بعث الله جل وعلا إليها رسلاً، قال سبحانه: واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلونإذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلونقالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين [يس:13ـ17].
لقد جاء الله جل وعلا تلك القرية برسل هم أكرم الخلق عليه، برسل هم كريمون عليه، مقدمون عنده جل وعلا بما حباهم به وربك يخلق ما يشاء ويختار [القصص:68]. لقد أرسل الله رسوليه إلى تلك القرية لتعظم الحجة عليهم، وليكونوا على بينة من عظم هذا الأمر الذي جاءت به الرسل، أرسل الله إليهم اثنين فكذب هذين الاثنين أهلُ القرية أشد تكذيب، فعزز الله جل وعلا أولئك برسولٍ ثالث، وقال الرسل جميعًا: إنا إليكم مرسلون أكدوا تلك الرسالة وأنهم ليسوا بكاذبين وأنهم أهل صدق، وإنما وظيفتهم أن يبلغوا رسالات الله، وأنهم إن لم يؤخذ بما قالوا فإنما يخشون الله، الذين يخشون الله حق خشيته، أولئك هم الرسل الذين بعثهم الله جل وعلا، بعثهم الله لإنقاذ الناس، أرسل الله جل وعلا هؤلاء الثلاثة فقالوا لأصحاب القرية إنا إليكم مرسلون وماذا كان جواب أصحاب القرية؟ قالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء [يس:15]. لقد منعهم من التصديق أن أولئك الرسل كانوا بشرًا، أرادوا أن يكونوا ملائكة، ولو كانوا ملائكة فكيف سيفهمون عنهم، وكيف يعقلون كلامهم ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون [الأنعام:9].
إن أولئك رفضوا الحق بشبهة في ظاهرها قد يعتذر بعضهم إلى بعض بها، ولكنها في الحقيقة ليست بشيء، وهكذا دائمًا أصحاب الشبهات يوقع الشيطان في قلوبهم الشبه، فيقنعهم أنها شبهة حق وأنهم لو أتاهم الحق واضحًا لقبلوا ذلك، مع أن البينات كانت كافية وكانت باقية وكانت واضحة جلية فإن أولئك المرسلين جاءوا من عند الله بالآيات والبراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لدعواهم الرسالة، وكفى بذلك حجة لمن سلم قلبه لكنهم أرادوا أن يكون الرسل من الملائكة وتلك شبهة ألقاها الشيطان في قلوبهم، إن الناس يحتاجون إلى رسل من البشر يعلمونهم بلسانهم ويقتدي الناس بهم حتى يكون الدين متمثلا أمامهم في بشر يمشون به ويروحون به ويجيئون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء كذبوا بإنزال الله جل وعلا الكتب عليهم قالوا ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون حصروا أولئك في الكذب، وكأن الكذب لم يتعداهم، وكأن الكذب متمثل فيهم لا يعدوهم إن أنتم إلا تكذبون فكان جواب أهل الحق الثابت الذين يدلون بالحق ويعلمونه، بكلمة واضحة قال الرسل: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وكفى بشهادة الله شهادة، فهل يكون الرسول الذي أرسله الله وأيده بالمعجزات كاذبًا؟ إن الذي يدعي الرسالة لا يلبث أن يعاقب، إن من ادعى رسالات الله في التاريخ لابد أن تحيق به العقوبة سريعًا، وأما من يقول: إني مرسل من عند الله ومؤيد من عند الله بالحجج والآيات والبراهين ثم الله يؤيده على خصمه وينصره ويقوي حجته فإن ذلك دليل على صدق رسالته، وإن ذلك دليل على أن الله جل جلاله بعثه مرسلاً إلى الناس ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين إن الرجل تكون عنده الحجة فيلقي بها في الناس طيبًا لفظها, طيبًا معناها.(/1)