3 ما رواه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة عن عائشة رضي الله عنها: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم" وفي رواية قالت لعروة: "يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد فسبوهم". {ح رقم 1738}
4 عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره".
{أخرجه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة برقم 15}
هذا وما ورد عن التابعين وتابعي التابعين أكثر من أن يُحصى في هذا الشأن.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة أهل السنة والجماعة في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم : إن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، وقد ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المدَّ مِنْ أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا، ثم إذا كان قد صدر عن أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنة تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كَفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور، ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما مَنَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، إنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها.
{انتهى من مجموع الفتاوى ج3 ص155-156}
فأهل السنة والجماعة يقبلون ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مؤمنين به فيحبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ويقدمون من أنفق من قبل الفتح وقاتل في سبيل الله على من أنفق من بعد وقاتل، ويعلمون أنَّ (كلا وعد الله الحسنى)، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال لهم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" {كما جاء ذلك في صحيح مسلم}، ويؤمنون بأنه لن يدخل النار أحد ممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة {كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه}، ويشهدون بالجنة لمن شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم ممن عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يؤمن أهل السنة والجماعة أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق، ثم ذو النورين عثمان، ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين، كما أنه من عقيدة أهل السنة والجماعة الإمساك وعدم الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. كذلك من معتقدهم؛ حب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم، لا يفرطون في حبهم ولا يغلون، ولا يتبرأون من أحد منهم، ويبغضون من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا يذكرونهم إلا بخير، فحبهم دين وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
وفي ذلك يقول أبو زرعة الرازي رحمه الله :
(إذا رأيت الرجل يتنقص أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) اه. الكفاية في علم الرواية.
من يطعن في الصحابة
قال الإمام ابن كثير في "الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث":
وقول المعتزلة: (الصحابة عدول إلا من قاتل عليًّا) قول باطل مرذول مردود. وقد ثبت في صحيح البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابن ابنته الحسن بن علي وكان معه على المنبر "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".(/3)
ثم قال ابن كثير: وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم، ودعاويهم أن الصحابة كفروا إلا سبعة عشر صحابيًا، وسمَّوْهم، فهو من الهذيان بلا دليل إلا مجرد الرأي الفاسد عن ذهن بارد، وهوًى متبع، وهو أقل من أن يردَّ، والبرهان على خلافه أظهر وأشهر، مما عُلِمَ من امتثالهم أي الصحابة أوامره بعده عليه الصلاة والسلام، وفتحهم الأقاليم والآفاق، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس إلى طريق الجنة، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات في سائر الأحيان والأوقات، مع الشجاعة والبراعة، والكرم والإيثار، والأخلاق الجميلة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد مثلهم في ذلك، فرضي الله عنهم أجمعين، ولعن من يتهم الصادق ويصدق الكاذبين، آمين يا رب العالمين.
تنقص بعض المعاصرين للصحابة
وبعد: فإن كلام العلماء من أهل الحق في ذلك كثير وذكره يطول، وفي هذا القدر كفاية لمن أراد الله له الهداية وسدده ووفقه.
فهل يسوغ لأحد بعد أن عرف هذه النصوص من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، بل أما أجمعت عليه أمة الإسلام إلا من لا عبرة بخلافه نقول: هل يسوغ لأحد بعد ذلك أن يطعن أو يغمز خير الخلق بعد الأنبياء فيشارك بذلك الروافض الذين فاقوا اليهود والنصارى في هذا الشأن، متعلقًا ببعض الأحاديث التي ينبغي لمن أوردها وأراد أن يفهمها أن يضعها بجوار النصوص الكثيرة السالفة الذكر في فضائل الصحابة؟ وذلك حتى يفهمها فهمًا صحيحًا كالذي أراد أن يعيد النظر في تعريف الصحابي، وعدالة الصحابة، وجواز انتقاد الصحابة بناء على ما قرأه من حديث في مسند أحمد، وآخر في السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه" وفي الحديث الآخر: "إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أموت أبدًا". والحديثان يتفقان مع حديث حذيفة الذي يخبر فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه بأسماء المنافقين، فلما علم بذلك عمر استحلف حذيفة أن يخبره "هل أنا منهم؟" وأن الصحابة كانوا يخشون على أنفسهم النفاق، وكذلك الأحاديث التي فيها من يذادون عن الحوض فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : "يا رب أصحابي" فيقال له: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فيقول صلى الله عليه وسلم : "ألا فسحقًا ألا فسحقًا"، وكذلك لما أعلم الله نبيه بالمنافقين قال عمر وغيره من الصحابة: أفلا نقتلهم؟ فيقول صلى الله عليه وسلم : "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" فالمنافقون كانوا فيما يبدو للناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يصلون معه في مسجده، ولكنهم كانوا إذا أتت الشدائد يظهر أمرهم باختلاق الأعذار، فالمقصود إذن في هذه النصوص بمن لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أولئك المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ويتمنون لو وجدوا أي مطعن أو فرصة للقضاء على الإسلام وأهله.
فهل يليق بمسلم يؤمن بالله ورسوله وكتابه أن يشارك أهل الباطل من أعداء الإسلام وأعداء السنة بأن يطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الطعن فيهم إنما هو طعن في الكتاب والسنة لأن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين نقلوا لنا القرآن والسنة، والطعن في الناقل طعن في المنقول بل قال بعض العلماء إنه طعن في ذات الله عز وجل، الذي تكفل بحفظ كتابه، فاختار هؤلاء الأصحاب لحفظ الكتاب والدين ونقله لمن بعدهم من التابعين.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم وأن يجنبنا الأهواء والبدع، وأن يحمينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يباعد بيننا وبين عقائد أهل الباطل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/4)
منزلة الرباط في سبيل الله
شرع الله تعالى الرباط في سبيله وحراسة الثغور حتى لا يؤتى المسلمون وهم على غفلة من أمرهم وحنى يتم ردع كل من تسول له نفسه قتال المسلمين فيعلم أنهم متيقظون له وليسوا بغافلين عنه وأنهم يعلمون ما يدور حولهم, فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
فقال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد}.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:فرض الله الجهاد لسفك دماء المشركين وفرض الرباط لحقن دماء المسلمين, وحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين .
وللرباط في سبيل الله فضائل عظيمة لا توجد في غيره من القربات إذ إنه أحد شُعب الإيمان ومن موجبات الغفران ومن هذه الفضائل :-
أولا: رباط يوم خير من الدنيا وما عليها.
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها }.
ثانيا: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ورباط شهر خير من صيام الدهر.
روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن الفتان }
وروى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {رباط شهر خير من صيام دهر ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن الفزع الأكبر وغدي عليه وريح برزقه من الجنة ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله عز وجل}
ثالثا: ينقطع عمل الميت إذا مات إلا المرابط فإذا مات في رباطه يجري عليه أجر عمله الصالح من الرباط وغيره إلى يوم القيامة.
روى أبو داود والترمذي والحاكم عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر }.
وروى أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : مرابط في سبيل الله ومن عمل عملا أجري له مثل ما عمل ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت ورجل ترك ولدا صالحا يدعو فهو له}.
رابعا: إذا مات المرابط في سبيل الله في رباطه بعثه الله آمنا من الفزع الأكبر يوم القيامة .
روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{ من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر}.
خامسا: إذا مات المرابط في رباطه بعثه الله يوم القيامة شهيدا.
روى ابن ماجة وعبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{من مات مرابطا مات شهيدا ووقي فتان القبر وغدي عليه وريح برزقه من الجنة و جرى له عمله }.
سادسا: للمرابط في سبيل الله أجر من خلفه من ورائه.
روى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:{ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الرباط؟ فقال من رابط ليلة حارسا من وراء المسلمين فإن له أجر من خلفه ممن صام وصلى}.
وقال عثمان بن أبي سودة كنا مع أبي هريرة رضي الله عنه مرابطين في (يافا) – وهي مدينة معروفة في فلسطين المباركة – على ساحل البحر فقال أبو هريرة رباط هذه الليلة أحب إلي من قيام ليلة القدر في بيت المقدس .
سابعا: رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل.
روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة عن عثمان بن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل}.
وهذا يشمل كل المنازل حتى لو كانت مكة المكرمة أو المدينة المنورة أو بيت المقدس على فضلها جميعا.
ومن هنا أخوة الإسلام :
ترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة والمدينة المنورة وتوجهوا إلى أرض الرباط في الشام ومن ورائهم سار التابعون إلى أن ماتوا شهداء ومرابطين في بلاد الشام , فقد توجه الحارث بن هشام رضي الله عنه إلى الشام ورابط وجاهد في سبيل الله إلى أن لقي الله شهيدا في معركة اليرموك.
وقد نقل الإمام ابن تيمية رحمه الله إجماع العلماء على أن إقامة الرجل بأرض الرباط مرابطا أفضل من إقامته بمكة والمدينة وبيت المقدس .
وسئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أيهما أحب إليك الإقامة بمكة أم الرباط في الثغور ؟ فقال : الرباط أحب إلي.
وقال الإمام أحمد أيضا رحمه الله : ليس عندنا شيء من الأعمال الصالحة يعدل الجهاد والغزو والربا(/1)
منكرات العيد
الحمد لله الرحيم بعباده، العظيم بإيجاده، البديع في صنعه وإمداده، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير من وطأ الثرى، وسكن المدينة وعبر القرى، وجاهد في الله حق جهاده وسرى، وهو الذي أحب الآخرة فاشترى، وترك الدنيا فعمل للجنة وانبرى.. اللهم صل على صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والصراط الممدود، الشفيع المشفع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلقد خطر في ذهني أمر خطير غفل عنه كثير من المسلمين، ويعود السبب فيه إلى ابتعاد الكثير منا عن معرفة الكتاب والسنة اللذين بهما سعادة الدنيا ونعيم الآخرة...
وهذا الأمر هو ما يفعله بعض إخواننا من مخالفات كثيرة أيام العيد: عيد الأضحى والفطر.
أخي الكريم: أكرمك الله ووفقك... اعلم أن العيد جعل فرحة للطائعين الذين فازوا بقبول الطاعة، فكان في ذلك فرحاً لهم من طول العمل والقيام بأمر الله.. فالعيد لمن أطاع أمر الله، و الحسرة لمن عصاه!! العيد لمن أحسن في نهاره العمل وأحيا ليله بالطاعة! العيد لمن سهر على تلاوة القرآن.. لا على الأغاني والألحان..
أخي: أريد أن أقف أنا وأنت عند بعض الأقوال لسلفنا الكرام الذين بهم رفعت راية الإسلام وقويت شوكة الإيمان... يقول بعضهم: ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافل يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بمولاه.
وقال الحسن البصري رحمه الله: [كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد.
إخواني: ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكن العيد لمن اتقى وخاف يوم الوعيد. ليس العيد لمن تجمل باللباس والمركوب، إنما العيد لمن غفرت له الذنوب.
أخي: يا من يفرح بالعيد بتحسين لباسه، ويوقن بالموت وما استعد لبأسه، ويفرح بإخوانه وأقرانه وأجلاسه، وكأنه قد أمن سرعة اختلاسه..أين أنت من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار!
نحن لا نقول هذا الكلام تهويناً بيوم العيد، أو أن المسلم يبقى حزيناً.. لا! ولكننا نريد أن يجمع الناس بين الخوف والرجاء وبين الفرحة وخوف اللقاء – لقاء الله- حتى لا تطغى الفرحة فيستغل العيد في الأمور المحظورة الممنوعة شرعاً، ومن تلك الأمور التي هي من المنكرات والتي حذر منها ديننا الحنيف، والتي سأذكرها لك أخي حتى تبرأ ذمتنا بتبليغ ديننا، وحرمة كتمانه، وحتى لا يبقى للناس على الله حجة.. من هذه المنكرات:
1. اختلاط الرجال بالنساء في المنتزهات والحدائق وأماكن الزيارات، مع ما يحصل في ذلك من الفتن التي لا يسلم منها من فعل ذلك، كالمصافحة التي لا تجوز بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية، وغير ذلك.
2. استقبال العيد بالغناء والرقص والمنكرات، بدعوى إظهار الفرح والسرور.
3. من النساء من تخرج إلى المصلى؛ لكن لا للعبادة، بل لإظهار الزينة ولفت الأنظار إليها، وهذا لا يجوز؛ لأن الإسلام أمر المرأة بالستر وعدم إبداء الزينة الداخلية، وحتى الزينة الخارجية التي تغري الناس وتفتنهم لا يحل للمرأة إظهارها..
4. السهر ليلة العيد، مما يؤدي إلى تضييع صلاة الفجر والعيد معاً...
5. بعض المبتدعة يحيون ليلة العيد بالصلاة والقيام والقراءة ويعتقدون أن لذلك فضلاً على غيرها من الليالي.. وهذا لم يرد به دليل من الشرع.
6. تخصيص يوم العيد لزيارة المقابر والدعاء للأموات.
7. الإسراف والتبذير حتى لو كان في أمور مباحة.
8. يحرم صيام يوم العيد؛ لأنه يوم أكل وشرب وذكر لله، وكذا يحرم صيام أيام التشريق وهي يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، إلا للحاج الذي عليه كفارة في الحج...
9. من المنكرات: إشعال النار ليلة العيد؛ لأنه من شعار المجوس ومن فعلهم أيام أعيادهم وغيرها.
فهذه يا أخي-بارك الله فيك- بعض ما يفعل في يوم العيد من الأمور المشاهدة والمسموعة والتي لا يجيزها شرعنا.. ولو أردنا تفصيل الأدلة في ذلك لما اتسع له الوقت والمقام، نسأل الله أن يصلح منا ما فسد، وأن يعافينا من البلاء والفتن.[1
والله الموفق،،
---------------
[1- استفيدت بعض الفقرات من مقال ( العيد لمن) في موقع: كلمات.(/1)
منهج البحث العلمي في الإسلام
للشيخ إبراهيم السلقيني
المدرس في الجامعة
بزغ فجر الإسلام فوجد الناس قد انصرفوا عن العلم فانصرف العلم عنهم, وخاصة العرب منهم, فتخلف الناس نتيجة لذلك, وتأخروا في كل ميدان، لذلك كان ابرز ما جاء به الدين الإسلامي ودعا اليه تعلم العلم وتعليمه.. فقد رفع الإسلام من قدر العلم كثيرا، كان ذلك منه في عصور سادتها الجهالة وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تحث على العلم وتبين فضله, وترفع من شأن ذويه, وحسبك تقديرا للعلم أن أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}1 . ولقد ذكر اسم العلم معرفة ونكرة في عشرات الآيات من القرآن الكريم تناهز المائة وهو يطبق على علوم الدين والدنيا, لا تقف عند حد, ولا تنتهي عند نوع خاص من المعرفة، فمن العلم المطلق قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}2 أي لاتتبع ما ليس لك به علم يثبت عندك بالرؤية البصرية, وبالروايات السمعية أو البراهين القطعية, فإن الله تعالى يسألك عما أعطاك من آلات هذا العلم ولقد جعل الله تبارك وتعالى العلم مقياس التفاضل بين الناس وبه ترتفع أقدارهم فقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}3 ذلك لأن الشخصية الإنسانية لا يقومها ولا يرقيها شيء غير العلم, لذلك حكم الله سبحانه أن أهله يمتازون عمن سواهم, ثم ترى القرآن الكريم في آية أخرى يصرح بأن العلماء لهم درجات عند ربهم وميزات يخصهم بها, قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}4 كما أنه سبحانه أاعتد بشهادة أهل العلم في وحدانية فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}5 ومن ناحية أخرى نزل القرآن الكريم يسجل على الذين لا يعلمون حكما لا يرضاه ذو إدراك لنفسه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}6 كذلك يقول تعالى راداعلى المستبدين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}7 وذلك حتى يخففوا من كبريائهم ويعدوا أنفسهم لتلقي نقد الناقدين, ويطلب القرآن من المؤمن أن يكون دائما في استزادة من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}8 ويبين القرآن الكريم أن الإنسان مهما ضرب في ساحات العلم فإنه لا يزال في البداية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}9 ولم يكن العبد الصالح الذي ذكر في سورة الكهف متبوعا وسيدنا موسى تابعا إلا أنه حظي بهبة العلم من الله الواسع العليم قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}10 . وقد بين الله سبحانه سبب اختيار طالوت ملكا على بني إسرائيل رادا على من اعترض: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}11 . فأولاد يهوذا أغنياء و طالوت من الفقراء فأرادوا أن ينازعوه الملك فرد عليهم الله سبحانه إن الملك ينال وترقى سدته بالعلم رمز القوة المعنوية، والجسم رمز القوة المادية. ولقد بين صلى الله عليه وسلم أن التنافس لا يكون إلا بالعلم ففيه ليتنافس المتنافسون، والتسابق لا يكون إلا على تحصيل المعرفة فعليه ليتسابق المتسابقون، لأن الخير كل الخير في العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"12وأن العلم المقرون بالعمل والعبادة يرفع الله صاحبه منزلة لا تعلوها منزلة هي منزلة الرسالة والنبوة من ناحية الفضل لا من ناحية الوحي والتشريع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل منكم"13. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الأنبياء عليهم السلام تركتهم أسمى من المال وورثهم أفضل الوارثين, العلم تركتهم, والعلماء ورثتهم ومن ورث العلم الصحيح الذي يرشد إلى الخير ويهدي من ناله سواء السبيل فقد فاز وكان من المفلحين عن أبي الدرداء أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما, إنما ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر"14 كما يعتبر الإسلام التعليم إجباريا، قال عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"15 فطلب العلم فريضة لا تقتصر على مراحل(/1)
الطفولة والمراهقة بل من المهد إلى اللحد والعلوم في نظر الإسلام نوعان: أ- علوم هي فرض عين: كتعلم أمور العقيدة والعبادة على القدر الذي تصح فيه وتعلم حسن المعاملة, وحدود المنكرات, وتعلم العلوم المسلكية لكل فرد كتعلم شؤون التجارة وأحكامها للتاجر, والزراعة للزراع..16 الخ. ب- علوم فرض كفاية: بقية العلوم الأخرى, كالطب والهندسة و الكيمياء والكهرباء والذرة والعلوم الصناعية والحربية وهذا يدل على ضرورة التخصص فإذا لم يتخصص أحد من المسلمين أثموا جميعا, مما يقود إلى توفير المختصين في كل المجالات الحيوية. وإذا كان طلب العلم فريضة فتارك العلم تارك لفريضة فرضها الله ومن البديهي أن تارك الفريضة له عقوبته عند الله سبحانه, أما العقوبة الدنيوية لتارك التعليم فقد ذكرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما سمع بقبيلتين متجاورتين إحداهما عالمة والأخرى جاهلة لا تقوم الأولى بواجبها من تعليم العلم, ولا تقوم الثانية بواجبها من تعلم العلم إذ صعد المنبر وخطب الناس وقال: "ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم, ولا يفقهونهم, وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون, والله ليعلمن قوم جيرانهم, وليتعلمن قوم من جيرانهم أو لأعاجلنهم العقوبة"17 فقوله صلى الله عليه وسلم أو لأعجلنهم العقوبة يشير إلى العقوبة الدنيوية, أما ما هي هذه العقوبة؟ما نوعها؟وما مقدارها؟فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبينها فهي خاضعة إذاً لمبدأ التعزير يقدرها الحاكم يما يصلح أحوال الناس. وإننا لنلحظ أن الإسلام أول نظام في العالم يفرض العلم فرضا ويعاقب من لا يتعلم, إن هذا النظام لم يصل إليه أبناء القرن العشرين مع ما يدعون من مدينة ومن شعارات براقة زائفة. كما أن التعليم في الإسلام مجاني فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم المعلمين إلى القبائل يبذلون العلم مجانا وكذلك سار على هذا الهدي علماء الإسلام الأجلاء وأئمة المسلمين فهذا الإمام مالك رضي الله عنه يجلس في المسجد ليعلم الناس دون أن يتقاضى على ذلك أي أجر وهذا سعيد بن المسيب وأبو حنيفة و الأوزاعي وغيرهم... وغيرهم لم يعهد عن أحد منهم أنه أخذ أجرا, وإن افتى العلماء بجواز أخذ الأجرة مقابل التفرغ للقيام بأعباء التعليم. ولم يكتف الإسلام بكل ذلك بل بنى أصوله على العلم الصحيح والتفكير السليم فالعقيدة تقوم النظر لا على التقليد أو الهوى فالطريق الموصل إلى الإيمان بالله عز وجل هو التأمل في ملكوت السموات والأرض والاعتبار بما في كتاب الكون من آيات ناطقة بقدرته تعالى وعظمته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}18 كما يأمر الإسلام بالحذر من الظنون والأوهام ويعلل ذلك بأنهما من الأسباب التي أدت إلى تضليل الناس وإفساد نفوسهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}19 ويقول سبحانه: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}20. والقرآن يأمر بالاعتماد على العلم اليقيني لا على الأهواء والأوهام وينعى على أقوام غامروا بعقولهم في متاهات من الظنون و الأهواء التي من شأنها أن تغطي الحقائق بدلا من أن تكشف عنها: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}21 وقال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}22 . والإسلام دين الحجة و البرهان فهو يأمر بألا يقبل الإنسان شيئا على أنه حق إلا اذا أقام عليه البرهان: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}23 ولا يجوز الإيمان بشيء إلا ببرهان فإذا سئل المؤمنون عن معتقداتهم لم يتلعثموا في الجواب كما هو شأن المقلدين الذين لا ينظرون فيما يلقى اليهم نظر تمحيص: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون}24 ويقول تعالى مطالبا المشركين بالبرهان مطالبة تعجيز {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}25 كما أن الإسلام عدو التقليد الأعمى فهو يشدد النكير على أناس كانوا يتمسكون بالرأي لا لأنهم عقلوه ولكن لأن آباءهم فعلوه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ(/2)
كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}26 والقرآن ينفر الشعوب من التقليد الأعمى للقادة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}27 والقرآن لا يكتفي بالنهي عن التقليد للآباء والانقياد الأعمى للقادة والزعماء بل دعى للأخذ بالأحسن {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ}28 وهكذا أضفى الإسلام الصفة الدينية على البحث عن الحقيقة العلمية سواء أكانت من نوع الخبر أو من نوع الإنشاء وبديهي أن القيام بهذه المهمة يتوقف على وضع منهج للبحث ومعلوم أنه بقدر ما يكون المنهج صافيا سليما تكون الغاية صحيحة سليمة. لذلك لا غرابة إذا رأينا أن الإسلام يرفع من شأن العقل ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة الصغرى منها والكبرى وجعل الذين يحكمون29. عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة و اكتناه أسرارها وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب وإذا استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم وحده في معرض الثناء على العقل أو في سياق الحث على إعماله والنهي عن إهماله وجدنا أنه قد ذكر في القرآن الكريم وحده ما يقرب من سبعين مرة, فالشرع لم يتبين إلا بالعقل والعقل لن يهتدي إلا بالشرع والحقائق العلمية إما أن تكون فكرية محضة وإما أن تكون مستندة إلى الحواس. أولا: الفكرية المحضة كثير من الحقائق لا يتوقف إثباتها على الحواس بل يكفي في إثباتها الفكر وحده دون حاجة إلى تأييدها بمشاهدة أو تجربة, ومن هذه الحقائق ما يسمى (بالبدهيات) وهي القضايا التي إذا عرضت على العقل السليم كان مجرد عرضها كافيا في إثباتها والتسليم بمقتضياتها فهي في غنى عن أن يبرهن عليها مثل الواحد نصف الاثنين, و الضد ان لا يجتمعان والأثر لا بد له من مؤثر وما شابه ذلك. وهذه الحقائق البديهية هي الأساس في إثبات القضايا العقلية المحضة ولولا هذه الحقائق البديهية الفطرية المودعة في كل نفس لما استطاع الإنسان الوصول إلى حقيقة عقلية, إذ لا بد للإنسان في طريق وصوله إلى حقيقة عقلية من أن يستند إلى هذه البديهيات وأن يجعلها العماد الذي يرتكز عليه في حياته العقلية. ثانيا- الفكرية المستندة إلى الحواس أو التجربة: هناك نوع من القضايا العلمية اليقينية ما يكون الفكر فيها وسيلة فقط وهو مفتقر في إثباتها إلى أن يستند إلى الحس أو التجربة, مثل المعادن تتمدد بالحرارة, والماء مركب من الأوكسجين والهيدروجين, والحديد جسم صلب والحرير ناعم, وما شابه ذلك وهذه الحقائق وإن كانت لها مكانة معتبرة في الاستدلال لكنها لا تبلغ من حيث التقويم منزلة القسم الأول في الاستدلال ذلك لأن الإدراك الحسي قد يعتريه الخطأ كمن هو مصاب بمرض عمى الألوان فقد يحكم على اللون الأحمر بأنه أصفر أو بالعكس ومن أسباب الخطأ الضلال ويكون بسبب التفسير الخاطئ الناجم عن الحالة النفسية للشخص فالخائف ينظر إلى ظل شجرة فيحسبها شخصا يتربص به, أو يرى ثوبا معلقا فيتوهمه شبحا ينقض عليه, والتجربة إنما تبرهن عن نفسها في الماضي والحاضر فقط أما في المستقبل فلا تستطيع أن تثبت نفسها فيه, لأن التجربة مبنية على أن شيئا ما قد تكرر على شكل معين, ومن تكراره فقط نشأت علميته, والتكرار إنما كان في الماضي ويمكن التأكد منه في الحال أما في المستقبل حال كونه مستقبلا فلا يمكن التكرار فيه لأنه لم يأت, وإذا جاء وأمكن التكرار فيه أصبح ماضيا, ومن الممكن أن تنحل القضايا التجريبية في يوم من الأيام بتجارب أخرى جديدة, ولكن ليس في الإمكان أن ينحل دليل عقلي منطقي. قال ستيوارت ميل الفيلسوف الإنكليزي وهو من أكبر علماء المذهب التجريبي: إنه وإن كانت بعض التجارب غير منحلة وغير منتقضة فليست كل تجربة ممكنة الإنحلال والانتقاض. على أن ذلك لا يكون طاعنا في الدليل المستند إلى الحسن والتجربة بل ليتبين عند التقويم ما للقضايا الأخرى, ثم إننا من جهة أخرى نجد أن العقل وحده هو الذي يفسر التجربة والمحسوس ويستخرج منهما المعنى الذهني, وهما ليسا بشيء بدون العقل فالإحساس بدونه أمي والتجربة بدونه خرساء. واستخراج المعنى وتحقيقه إنما يكون بفضل العقل وحده, فالحقائق الحسية متوفقة توقفا تاما على الحقائق العقلية ومن الخطأ الفادح أن نجعل القيمة الكبرى في الاستدلال للحقائق الحسية والتجريبية وأن نهمل القضايا الذهنية العقلية بعد كل ذلك نستطيع أن نتبين الأسس التي يقوم عليها المنهج الصحيح. لقد رسم القرآن الكريم منهجا لاكتساب الحقائق العلمية وهذا المنهج لا يمكن الاستغناء عنه لكل باحث عن الحقيقة العلمية ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يلي: أولا- أن أية قضية من القضايا لا يمكن إثباتها بمجرد دعواها بل(/3)
لا بد أن تكون مستندة إلى دليل يدعمها وبمقدار صحة الدليل و قطعيته تكتسب القضية الصحة و الثبوت وهذا ما صرح به القرآن الكريم في مواضع مختلفة منها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}30 ولكل قضية من القضايا ولكل نوع من الدعاوى نوع من الأدلة العلمية يناسبها, فالدعاوى المتعلقة بطبائع الأشياء المادية يستدل عليها بالبراهين التجريبية المحسوسة والدعاوى المتعلقة بالمجردات لا يقبل معها إلا براهينها المسلمة والدعاوى المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات لا يقبل فيها إلا الشهادات المثبتة لها وهكذا لا تصبح القضية حقيقة علمية إلا بوجود الدليل المناسب لها. ثانيا- أن الواجب على الباحث أن يفرق أثناء عملية الاستدلال بين الدليل اليقيني وبين الدليل الظني ومادون الظني, وبين النظرية في العلوم والحقيقة العلمية فالدليل اليقيني وحده الذي يصح الاعتماد عليه في الأصول من العقائد31 والأحكام وهذا ما جاء به القرآن الكريم في كثير من الآيات منها: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}32 . أما العقائد عامة والأحكام العملية فيكفي الاستدلال لها بالأدلة الظنية كأخبار الآحاد والقياس. ثالثا- لابد للباحث من طرح التقليد الأعمى وهو أكبر خطر على الوصول إلى الحقائق واكتشافها بل هو المعول الهدام لصرح العلم الصحيح ولقد كان بين الإسلام وبين التقاليد العمياء صراع عنيف دام فترة من الزمن حتى استطاع أن يقتلع جذوره من نفوس الجاهلين ويفتح عقولهم لتستضيء بنور الحق ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}33 رابعا- عدم التناقض بين الحقائق إذ لو جاز التناقض بين الحقائق لانهار صرح العلم, وهذا ما جاء موضحا في الآية الكريمة {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}34 إذ التناقض أشد من التفاوت فإذا انتفى التفاوت كان التناقض منفيا من باب أولى. خامسا- الاعتماد على الحواس فلقد عرفنا أن من القضايا ما يمكن إثباته بطريق الذهن وحده, وأن قسما آخر منها يفتقر في إثباته إلى الاعتماد على الحواس ومن هذا القسم العلوم المادية ولولا اعتمادها على الحواس ومن وراء الحواس العقل لما اتسعت هذه العلوم, ولما تمكن الإنسان من كشف شيء جديد والقرآن يطلب من أولي النهى أن يعملوا حواسهم وعقولهم في مظاهر الحياة وألا يهملوها وسيسألون يوم القيامة عن هذا الإهمال, قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}35.ومما تقدم تعلم أنه لابد للباحث من أن يأخذ بهذه القواعد التي رسمها القرآن الكريم, وجعلها منهاجا للوصول إلى الحقائق بل لابد من إلتزامها حتى يكون في حرز عن الخطأ و مجافاة الصواب, وسواء أكانت هذه الحقائق دينية أم دنيوية, ومن هنا حكم علماء الإسلام على أن الإيمان المعتبر هو الإيمان القائم على الدليل والبرهان وأن إيمان المقلد غير صحيح إذا كان عنده قدرة على التفكير والاستدلال والنظر فيقبل إيمانه عن طريق التقليد لعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. طريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية وهكذا فإن الإيمان إذا لم يكن قائما على البرهان العقلي لا يكون صحيحا36 مادام صاحبه قادرا على التفكير والنظر. ومتى استقر الإيمان بالله, والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الاستدلال كان المؤمن ملزما بأخذ الحلول التي جاءت في الإسلام للمشاكل, والأحكام للحوادث, إذ أن هذه فروع عن الأصل وهو الإيمان والفرع يبنى على الأصل, والجزئيات تبع الكليات, ومعلوم أن مصدر الأحكام الإسلامية القرآن الكريم, والحديث الشريف, ولا بد من الرجوع لهذين المصدرين لأخذ الأحكام منهما من منهج واضح يسهل على الباحث طريق الوصول إلى حكم الله في المسائل التي يتعرض لها ويتجافى به عن الخطأ ويتباعد به عن الخبط والضلال ولذلك وضع علماء المسلمين منهجا دقيقا لاستنباط واضح المعالم بين الخطأ فما على المسلم إلا أن يدرس هذا المنهج دراسة واعية, ثم يطبق خطواته فإذا به يصل إلى مقصودة دون خطأ أو التواء أوغموض. خطوتا المنهج: وهذا المنهج بعد تطبيق الركائز الخمس التي أشار إليها القرآن الكريم ونوهت عنها يتألف من خطوتين, فلا بد للباحث أن يمر في مرحلتين هما: مرحلة إثبات النص أولا, ثم مرحلة فهم النص ثانيا. المرحلة الاولى: مرحلة إثبات النص:-النصوص التي يعتمد عليها الإسلام هي كما مر(/4)
كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم فأما كتاب الله فإن نصوصه ثابتة وقد نقله إلينا بالتواتر علماء المسلمين وتناقلته الأجيال على كيفية لا يمكن أن يتطرق إليها أدنى شك إذ حفظه الله من الأيدي العابثة خلال القرون فلا حاجة إلى المرحلة الأولى مرحلة إثبات النص, وأما السنة فثبوتها يتوقف على أمرين هما: صحة المتن, وصحة السند. والمتن هو نص الحديث فإذا أردنا أن نحكم على متن الحديث أنه صحيح فلا بد أن يكون خاليا من الأمور التالية: ركاكة اللفظ والمعنى, مخالفته للمنطق السليم, مخالفته لما ثبت في التاريخ الصحيح, والحكم في ذلك لأهل الإختصاص. أما صحة السند: السند كما نعلم هو رفع الحديث إلى رجاله الذين يرويه بعضهم عن الآخر إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولكي نحكم على حديث أنه صحيح لابد أن ننظر في كل فرد من أفراده فإذا كان كل راو فيه عدلا ضابطا لما حفظ ثم كان سند الحديث متصلا لا انقطاع فيه سالما من الشذوذ والعلة القادحة حكمنا على هذا السند بالصحة والقبول، وإن خلا من شيء من ذلك حكمنا عليه بالضعف. ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يتعرف بوساطته إلى الحديث الصحيح من غير الصحيح ويسمى هذا العلم بمصطلح الحديث. وتفرع عنه فن آخر هو علم الجرح والتعديل وتفرع من علم الجرح والتعديل علم تراجم الرجال, حيث تلتقي هذه العلوم على وضع ميزان بغاية الدقة, وهكذا احتوت المكتبة الإسلامية التي في كل بلد منها أثر وفي كل مكتبة من مكتبات العالم منها خبر احتوت على مؤلفات كبرى تستعرض معجم الرجال الذين وردت اسماؤهم في أي سند من الأسانيد وتستطيع أن تقف على ترجمة من تشاء منهم جرحا أو تعديلا وأن تعرف الزمن الذي عاش فيه لتعلم من ذلك معاصريه. هذا عرض سريع فيما يتعلق بتحقيق النقل والخبر ولكن على من يرغب الاستزادة أن يعكف على الفنون التي نوهت عنها ليجد الجهد الغريب وليجد الكثير من علماء الحديث من يقطع مئات الأميال في زمن لا توجد فيه الطائرة ولا السيارة متعرضا للمشاق و المهالك لا لشيء إلا ليلقى عالما يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليعلمه ويحفظه فحسب ولكن يريد أن يتلقاه منه أيضا ويستأذنه بروايته عنه لكي تزداد طرق هذا الحديث عنده أنه يسهل علينا جدا أن نقرأ إسنادا من هذه الأسانيد في كتاب من كتب الصحاح دون أن نتكلف أي جهد أو مشقة, ولكن المهم أن نتبين صورة ذلك الجهد العجيب الذي بذل وتلك التضحيات التي قدمت في سبيل هذين السطرين فقط من الإسناد الذي لا نلتفت له اليوم بل قد يضيق البعض منا من قراءته. أما المرحلة الثانية: في المنهج فهي النص وهي تأتي بعد مرحلة إثبات النص فبعد أن يتأكد الباحث من ثبوت النص وصحته يعود إلى النص فيبذل أقصى ما عنده من جهد لفهمه واستنباط الحكم منه, وفهم النص يتوقف على أمور منها: أ- معرفة اللغة العربية مفردتها وتراكيبها ومعرفة النحو والبيان فمن لا يكون ضليعا باللغة العربية في ميادينها المختلفة ليس أهلا لأن يستنبط الأحكام ومن لا يتطابق فهمه مع أصول اللغة العربية فإنما يكون فهمه وسوسة من وساوس الشيطان. ب- معرفة أسباب النزول وأسباب الورود فإن معرفة سبب النزول وسبب الورود تلقي ضوءا على النص, وتكشف للباحث السبيل إلى المعنى الحقيقي. ج- معرفة ما تقدم من النصوص وما تأخر فإن من المعلوم أن التشريع الإسلامي جاء متدرجا كما في تحريم الخمر مثلا فقد يأتي نص من النصوص فينسخ حكم نص سابق, ولذلك يتعين على فاهم النص معرفة السابق من اللاحق من النصوص. د- معرفة طرائق الاستنباط ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يعين على طرائق فهم النص ويعرف هذا العلم (بعلم أصول الفقه) وهو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية وهكذا وضع علماء المسلمين قواعد محصوها تمحيصا وبنوها على أصول أجمعوا عليها إجماعا ومناهج إلتزموها في اجتهادهم و معايير دقيقة عميقة كانت متحكمة في أذهانهم وأبحاثهم حتى إذا ما رجعنا إلى فقه كل واحد منهم تيقنا أنهم لم يكتبوا إرضاء لنزعة شخصية, أو إنبعاثاً عن هوى متبع، أو تحقيقاً لمطلب دنيوي، أو مجاراة لتسلط عابث, ويتخذ من فقههم ومنهجهم فيه نموذجا يهتدي به. ولقد كان علم أصول الفقه كسابقة علم مصطلح الحديث من العلوم المستحدثة فلقد كان العلماء في الصدر الأول في غينة عنه لأنهم كانوا على تمام العلم باللغة العربية يعرفون معاني ألفاظها وما تقضي به أساليبها وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقربهم منه ومعرفتهم بالأسباب التي من أجلها كانت الشرائع أكسبتهم معرفة بسر التشريع ذلك إضافة إلى ما امتازوا به من صفاء الخاطر وقوة الذكاء وحدة الذهن فلم يكونوا بحاجة إلى شيء وراء ذلك في استنباط الأحكام من مصادرها, فلما جاءت بعدهم أمم اختلطت بغيرها وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج العلماء إلى وضع قواعد هذا العلم لاستفادة الأحكام من(/5)
الأدلة وليتقيد الفقيه بها في استنباطه حتى لا يخرج عن الجادة دعما للحق وحدا للأهواء. وهكذا لم يعرف التاريخ حتى الآن أمة من الأمم جعلت لبحثها العلمي منهجا واضحا صحيحا لا يأتيه الضلال من بين يديه ولا من خلفه غير الامة المسلمة. ومن هذه الخلاصة السريعة جدا عن المنهج العلمي للبحث عند المسلمين أخذتها من واقع أبحاثهم تبين لنا مدى ما يعتمد عليه العلماء في أبحاثهم من المنهجية والموضوعية المجردة فالعلماء المسلمون يبحثون أول ما يبحثون عن ثبوت النص كما رأينا فإن ثبت عندهم صحة النص بتلك الطريقة الدقيقة الواضحة فلا بد بعد ذلك من فهمه فهما دقيقا ضمن شروط قاسية ودقيقة. وليس لكل من هب ودب, ولا لأنصاف المتعلمين وأرباعهم و أصفارهم وأدعيائهم, ولا لمن لم تتوفر العدالة فيهم من ملاحدة هدامين, أو فسقة متحللين, ولا من استعمرت الثقافات الأجنبية عقولهم, ولا من يتقربون للزعماء والرؤساء بالتحليل, أو يتملقون العامة بالتحريم أن يتصدر للفتيا والاستنباط وإذا كان الطب والهندسة مباحا للجميع مثلا ولكن لا يجوز لدجال أن يتعرض لعلاج المرضى ولا لمن لم يدرس الهندسة أن بيني سدا أو يصمم حصنا فإن الفهم والاستنباط مباح بهذا المعنى. وهكذا أعطى المنهج المسلمين حقائق علمية ثابتة لا نظريات متبدلة لذا وجدنا أن سلوك هذا المنهج السليم يضمن للمسلمين الوصول إلى الحقائق العلمية والشرعية و بالتالي يضمن لهم وحدة فكرية ويقضي على أسبابه عدم سلوك هذا المنهج العلمي الصحيح.(/6)
منهج السلف في تفويض الصفات
إعداد/ د. محمد عبد العليم الدسوقي
إجماع السلف على إثبات الصفات وقصر التفويض فيها على الكيف
أجمع سلف هذه الأمة، على وجوب العلم بالصفات الخبرية من نحو اليدين والعينين والوجه، والاختيارية من نحو الاستواء والنزول والمجيء يوم القيامة- كما أخبر سبحانه عن نفسه وأخبر عنه نبيه عليه الصلاة والسلام- كما أجمعوا على التسليم بجميع هذه الصفات وإثباتها وحملها جميعاً على ظاهرها.. وقد نقل الإجماع على هذا وعلى قصر التفويض في تيك الصفات على الكيف علماء مثل: ـ
أولا: الإمام الأوزاعي وذلك فيما رواه عنه الحاكم والذهبي والبيهقي بسند جيد، قال: "كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته(1) وللأوزاعي من رواية الخلال في كتاب السنة قوله: سئل مكحول والزهري- هما أعلم التابعين في زمانهم-عن تفسير أحاديث الصفات فقالا: أَمِرُّوها على ما جاءت، وله من طريق بقية بن الوليد كانا يقولان: أمروا الأحاديث كما جاءت(2)، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكِر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف يخالف هذا.. والوليد بن مسلم، حيث روى عنه الإمام الذهبي قوله: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاءت بلا تفسير(3) وقولهم: أمروها بلا تفسير يقصدون به بلا تكييف كما يتضح في رواية أخرى ذكرها الذهبي أيضاً- قوله: سألت الأوزاعي والليث بن سعد ومالكاً والثوري عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك فقالوا: أمضها بلا كيف، وفي رواية أمِرّوها كما جاءت بلا كيف، وقولهم رحمة الله عليهم: (أمروها كما جاءت) رد على المعطلة، وقولهم: (بلا كيف) رد على الممثلة(4).. وكما هو معلوم فإن جميعهم من أئمة الدنيا وكبار تابعي التابعين(5). فمالك هو إمام أهل المدينة والحجاز، والثوري إمام أهل الكوفة والعراق، والأوزاعي إمام أهل دمشق والشام، والليث إمام أهل مصر والمغرب.
ثانيًا: كما حكى الإجماع محمد بن الحسن فقيه العراق وصاحب أبي حنيفة وذلك فيما رواه عنه أبو القاسم هبة الله اللالكائي وابن قدامة والذهبي وموفق الدين المقدسي وغيرهم، قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير(6) ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم ينفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم- يعني في نفي الصفات وإخراجها عن ظاهر معناها- فقد فارق الجماعة؛ لأنه وصفه بصفة (لا شيء)(7).
ففي عبارات الإمضاء والإمرار بلا تفسير التي جئ بها في جانب الكيف وأريد بها التفويض، إشارة واضحة إلى أن الجانب الآخر المتعلق بمعاني الصفات هو ما يجب الوقوف عليه ومعرفة معناه والمراد منه.. وفي هذه العبارات أيضاً وفيما أفادته وأومأت إليه إشارة إلى إبقاء دلالة الصفات على ما جاءت به من معانٍ، ولا شك أنها جاءت لإثبات المعاني اللائقة به سبحانه، كما أن تلك العبارات تعني أنهم إنما أرادوا من قولهم: (أمروها) الرد على المعطلة، وبقولهم: (بلا كيف) الرد على الممثلة، كما أنها تومئ إلى أن منهج السلف ومعتقدهم فيما يتعلق بالصفات هو الإثبات لا النفي، إذ لو كانوا لا يعتقدون ثبوت الصفات ما احتاجوا إلى نفي الكيفية؛ لأن غير الثابت لا وجود له في نفسه فنفي كيفيته من العبث.
ثالثا: ومما يفيد إجماعهم على ما ذكرنا من إثبات الصفات والوقوف على معناها، لكن مع عدم البحث عن الكيفية، ما جاء عن شريك القاضي فيما حكاه عنه عباد بن العوام قائلاً: قدم علينا شريك بن عبد الله مذ نحو من خمسين سنة، فقلنا له: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا)، و(إن أهل الجنة يرون ربهم)، فحدثني شريك بنحو من عشرة أحاديث في هذا، ثم قال: أما نحن فأخذنا ديننا عن أبناء التابعين عن الصحابة، فهم عمن أخذوا؟!(8).. وما جاء عن سفيان بن عيينة حين قيل له: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية؟ قال: حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه(9).. وما جاء عن شيخ خراسان قتيبة بن سعيد قال: قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا سبحانه بأنه في السماء السابعة على عرشه، كما قال جل جلاله: الرحمن على العرش استوى [طه:5](10).. وما جاء عن إمام المحدثين علي بن المديني وقد سئل: عن قول أهل السنة والجماعة فقال: يؤمنون بالرؤية وبالكلام، وأن الله عز وجل فوق عرشه استوى(11).(/1)
رابعًا: ما جاء عن إسحاق بن راهويه شيخ البخاري فيما رواه عنه البيهقي والحافظ الذهبي، قال: دخلت على عبد الله بن طاهر أمير خراسان، فقال لي: ما هذه الأحاديث؟ تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ قلت: نعم، رواها الثقات الذين يروون الأحكام، فقال: ينزل ويدع عرشه؟ فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟(12)، قال: نعم، قلت: فلم نتكلم في هذا؟(13)، يريد إثبات ذلك والتسليم بما سلم به أهل الحديث وعدم إدخال العقل فيما لا يمكن إدراكه وكنهه، وفي رواية أخرى له ذكراها يقول إسحاق: قال لي ابن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الذي تروونه: (ينزل ربنا كل ليلة)، كيف ينزل؟ قلت: أعز الله الأمير، لا يقال: كيف، إنما ينزل بلا كيف. وفي زيادة للحاكم ذكراها، ورواها ـ أيضاً ـ الحاكم بسنده عن أحمد بن سعيد الرباطي، قال: حضرت مجلس ابن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق، فسُئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال إسحاق: نعم، فقال له بعض قواد الأمير عبد الله: كيف ينزل؟ فقال: أثبتْه فوق حتى أصف لك النزول! فقال له الرجل: أثبته فوق! فقال إسحاق: قال الله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر:22] فقال ابن طاهر: هذا يا أبا يعقوب يوم القيامة، فقال إسحاق: ومن يجئ يوم القيامة من يمنعه اليوم؟(14).
وللبيهقي في (الأسماء والصفات) يقول إسحاق: فقلت: أيها الأمير، إن الله تعالى بعث لنا نبياً نقل إلينا عنه أخباراً بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها نحلل الفروج وبها نحرم، وبها نبيح الأموال وبها نحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك، قال فأمسك عبد الله)(15). كما روى عنه الحاكم قوله في أحاديث النزول والرؤية: رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام- وذكر أشياء- فإن يكونوا في هذه عدولاً وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع(16)، وهذا الذي قاله إسحاق هو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة في جميع نصوص الصفات، وفيه ما يدل على أن مذهبهم إمرارها كما جاءت، والإيمان بها بلا كيف، يقول فيما رواه عنه الخلال: إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة(17).
خامسًا: ما جاء عن الإمام الحافظ أبي زرعة الرازي وأبي حاتم، فيما رواه عنهما عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة رحمهما الله تعالى عن مذهب أهل السنة والجماعة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار فكان من مذاهبهم.. أن الله تبارك وتعالى على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى:11](18).. وما جاء عن أبي بكر بن أبي عاصم الشيباني قال: جميع ما في كتابنا - كتاب السنة الكبير- من الأخبار التي ذكرنا أنها توجب العلم، فنحن نؤمن بها لصحتها وعدالة ناقليها، ويجب التسليم لها على ظاهرها، وترك تكلف الكلام في كيفيتها، فذكر من ذلك النزول إلى السماء الدنيا والاستواء على العرش(19).. وما جاء عن شيخ أبي الحسن الأشعري وشيخ البصرة وحافظها زكريا الساجي، قال: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء، ... وساق سائر الاعتقاد(20).. وما جاء عن ابن جرير الطبري، قال: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر، والحق أن تفسيره مشحون - على حد قول الحافظ الذهبي - بأقوال السلف على الإثبات، فنقل في قوله تعالى: ثم استوى إلى السماء [البقرة:29، فصلت:11] عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، ونقل في تفسير ثم استوى على العرش [الأعراف:45، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4] في المواضع كلها، أي: علا وارتفع. وقد روى قول مجاهد ثم قال: ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا(21).(/2)
سادسًا: كما يفيده ما جاء عن إمام المذهب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، حيث قال في رسالته إلى أهل الثغر: وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم من غير اعتراض فيه ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب وترك التكييف له لازم(22). وبعد أن ذكر في (مقالات الإسلاميين) فرق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم، قال تحت عنوان (جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة): جملة قولهم، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله تعالى وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردّون من ذلك شيئاً.. وأن الله على عرشه كما قال: الرحمن على العرش استوى [طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، وكما قال: بل يداه مبسوطتان [المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال: تجري بأعيننا [القمر:14]، وأن له وجهاً كما قال: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن:55]، وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج.. ويصدقون - يعني أهل السنة- بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: (هل من مستغفر) كما جاء الحديث.. ويقرون أن الله يجئ يوم القيامة كما قال: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق:16] إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله(23).
وقد دل هذا على بطلان كل تأويل يُخرج أيًّا من الصفات الثابتة بطريق صحيح عن ظاهر معناها، على نحو ما زعم البعض- تحت دعوى تنزيهه تعالى عن المشابهة- في تأويل اليد والأصبع بالقدرة والملك، والعجب بالرضا، والضحك بالرحمة، والمناجاة بالإقبال، والدنو بالقرب، وعلوه بعلو الشأن والشرف والمنزلة، والاستواء بالاستيلاء، والوجه بالذات، والإعراض بالسخط، والغضب بإرادة إيصال العذاب، وهكذا، لتنافي كل ذلك مع الإثبات.. كما دل ضمناً على بطلان التوسع في صفات السلوب، لكون ذلك خوض في الكيف الذي تضافرت كلمة السلف على تفويض علمه إلى الله.
والله من وراء القصد.
(1) ينظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 515، والعلو ص102، والحموية ص23، واجتماع الجيوش ص84، ومعارج القبول1/134، وفتح الباري13/ 345 باب: (وكان عرشه على الماء).
(2) علاقة الإثبات ص 71عن كتاب السنة للخلال، وينظر الحجة 1/ 175، 192، 438، والحموية ص24 .
(3) العلو ص 104، وينظر ذم التأويل لابن قدامة ص9، والأسماء والصفات للبيهقي ص 569 والسنة للخلال1/ 259مجلد1، وعقيدة السلف للصابوني 1/120 المنيرية، واجتماع الجيوش ص 77، وفتح الباري باب(وكان عرشه على الماء) ، ومعارج القبول1/151 .
(4) العلو ص 105، والصفات للدارقطني ص75، والسنة للالكائي3/ 431، وشرح السنة للبغوي1/171، وخلق أفعال العباد للبخاري ص126، والحموية ص24، وجامع بيان العلم لابن عبد البر2/ 96، والمعارج 1/273، والحجة 1/ 439، وهامشه1/ 176، وأقاويل الثقات للمقدسي ص62 .
(5) يعني ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
(6) سيأتي بيان أن التفسير المنفي هنا هو ما تعلق بالكيف، أو هو ما قصد إليه الجهمية وأرادوا به تحريف الكلم عن مواضعه.
(7) العلو للذهبي ص113، وينظر ذم التأويل ص6، وشرح أصول السنة لللالكائي3/ 432مجلد2، ومجموعة الفتاوى 4/4، 5، وفتح الباري13/ 345، وأقاويل الثقات للمقدسي ص60، ومعارج القبول1/137 .
(8) العلو ص 108، وينظر الصفات للدارقطني ص73ومعارج القبول1/272 . (9) العلو ص 115، والصفات للدارقطني ص70 .
(01) العلو ص 128، واجتماع الجيوش ص90والمعارج1/140 . (11) العلو ص 129، ومعارج القبول1/141 .
(21) في إشارة إلى تحقيق أن نزوله تعالى ليس كنزول المخلوق الذي يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر، وهذا الذي أشار إليه إسحاق هو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها أنه تعالى لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء.
(31) ينظر الأسماء والصفات ص 123، والعلو ص 132، والمعارج1/141، 241 .
(41) الأسماء والصفات ص567، 568، والعلو ص132، وينظر عقيدة السلف للصابوني 1/113 المجموعة المنيرية والحجة 2/ 124، 125، 172، ومعارج القبول1/241 .
(51) الأسماء للبيهقي ص 568 . (61) المعارج1/ 277 . (71) العلو ص 132، وينظر معارج القبول1/141 .
(81) العلو ص 138، وشرح أصول السنة لللالكائي 1/ 176، 177مجلد1، واجتماع الجيوش ص91، ومعارج القبول1/143، 219، وينظر تفسير القاسمي عن عقائد السلف ص572، ومجموع الفتاوى 2/222 .
(91) ينظر العلو ص 146، والمعارج1/144 .
(02) العلو ص 150، وينظرالإبانة الكبرى لابن بطة واجتماع الجيوش ص97، والمعارج 1/146 .(/3)
(12) العلو ص 150، وينظر اللالكائي 3/ 397مجلد2، واجتماع الجيوش ص75، والمعارج1/146 .
(22) رسالة الأشعري إلى أهل الثغر ص133. (32) العلو ص 159، وينظر مقالات الإسلاميين ص 290: 297، والحموية ص53، 54 .(/4)
منهج السلف في تفويض الصفات
د. محمد عبد العليم الدسوقي
الحلقة الثالثة
من كلام فقهاء المذاهب
وإجماعاتهم على وجوب الوقوف على معانى الصفات وعدم البحث عما وراءها من
الكيفية
ومن أقوال أهل العلم وأئمة السلف المؤيدة لما سبق ذكره ما أورده الذهبي
عن سفيان الثوري قال: "كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخ مالك - فسأله رجل
فقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.. طه/ 5) كيف استوى؟ فقال:
(الاس
تواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)(1)،
وفي لفظ آخر صح عن ابن عيينة وبنحوه عن اللالكائي قال: سئل ربيعة كيف استوى؟
فقال: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول
البلاغ وعلينا التصديق)(2)، وهو ثابت عن أم سلمة زوج النبي عليه السلام لكن
بلفظ: (الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به واجب والجحود به
كفر)(3)، وعن الإمام مالك إمام دار الهجرة(4). ومن أقواله: "الرحمن على العرش
استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع"، وفي رواية ذكرها أبو سعيد
الدارمي بسنده عن جعفر بن عبد الله- وكان من أهل الحديث ثقة- أنه(5) حين سئل عن
ذلك أخذته الرحضاء- أي العرق- وأطرق وجعلنا ننظر ما يأمر به في السائل فزاد:
(والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) ثم أمر به فأخرج، قال أبو سعيد:
"وصدق مالك، لا يعقل منه كيف ولا يجهل منه الاستواء، والقرآن ينطق ببعض ذلك في
غير آية"(6).
وهو قول أهل السنة قاطبة "أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها،
وأن استواءه كما أخبر في كتابه وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا
نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أن لو
كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره
والسكوت عليه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في
استوائه ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً"(7). ومن
أقوال الإمام القرطبي صاحب التفسير الكبير: "وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم
لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى
كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه
حقيقة، وخص عرشه بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا
تُعلم حقيقته، قال مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم- يعني غير مجهول المعنى في
لغة العرب- والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة)"(8).
ولأبي حنيفة عمن يقول: (لا
أعرف ربي في السماء أو في الأرض)، قال: "قد كفر، لأن الله تعالى يقول:
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى..طه/ 5)، وعرشه فوق سماواته"، وعمن
يقول: (هو على العرش ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض)، قال: "إذا
أنكر أنه في السماء فقد كفر"(9)، كما سئل عن حديث النزول فقال: "ينزل بلا
كيف"(01). ومما جاء عن عالم الديار المصرية في وقته الإمام أبي جعفر الطحاوي
الحنفي في العقيدة التي ألفها، قوله: "القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية
قولاً وأنزله على نبيه وحياً وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً وأيقنوا أنه كلام
الله بالحقيقة ليس بمخلوق.. والرؤية لأهل الجنة حق بغير إحاطة ولا كيفية، وكل
ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد.. إلى أن
قال: والعرش والكرسي حق كما بيّن في كتابه، وهو مستغن عن العرش وما دونه محيط
بكل شيء وفوقه"(11).
ولمحمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى فيما رواه عنه
الحافظ المقدسي وشيخ الإسلام أبو الحسن علي بن محمد الهكاري بسنده، قال: "القول
في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم فأخذت عنهم مثل سفيان بن
عيينة ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،
وذكر شيئاً ثم قال: وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء وينزل
إلى سماء الدنيا كيف يشاء وذكر سائر الاعتقاد"(21)، ولشيخه عالم الكوفة وكيع بن
الجراح قوله في أحاديث الصفات مثل(حمل السماوات على أصبع)، (قلب ابن آدم بين
أصبعين من أصابع الرحمن): "نسلم بهذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف كذا،
ولا لم كذا"(31).
ومما قاله أبو الحسن الكرخي الشافعي في قصيدته التي زادت عن
مائتي بيت:
عقيدة أصحاب الحديث فقد سمت
بأرباب دين الله أسنى المراتب
عقائدهم
أن الإله بذاته
على عرشه مع علمه بالغوائب
وأن استواء الرب يعقل
كونه
ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب(41)
ومن كلام الإمام البارع الحافظ عماد
الدين إسماعيل بن كثير الشافعي صاحب التفسير المعروف باسمه، في هذا الصدد:
"وأما قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..) الأعراف/ 54 يونس/ 3
الرعد/ 2 الفرقان/ 59 السجدة/ 4 الحديد/ 4)، فللناس فيها مقالات كثيرة جداً ليس(/1)
هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي
والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة
المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا
تعطيل"(51).
ولأحمد بن حنبل قوله قبيل موته: "أخبار الصفات تمر كما جاءت بلا
تشبيه ولا تعطيل"، وروى عنه ولده عبد الله بن أحمد في كتاب السنة قال: "سألت
أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال لي أبي: (بل تكلم
بصوت، وهذه الأحاديث تروى كما جاءت)"(61)، كما روى عنه حنبل قوله: "أدركنا
الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً- أحاديث الرؤية- وكانوا يحدثون بها على
الجملة، يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين"(71)، وعن أحمد في
رواية لبعضهم: "لا يقال في صفات الرب عز وجل (كيف؟) و(لم؟)"، وعنه قوله: "نحن
نؤمن بأن الله عز وجل على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف
ويحدها حاد، لما روي عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال: قال الله تعالى في
التوراة: (أنا من فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر عبادي ولا
يخفى عليّ شيء..)، وكونه عز وجل على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي
أرسل بلا كيف.. ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما
ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل.
ومما جاء عن أبي محمد البربهاري
شيخ حنابلة عصره ببغداد قوله: "لا يُتكلم في الله إلا بما وصف به نفسه، ولا
نقول في صفاته: (لم؟) ولا (كيف؟)، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى، وعلمه بكل
مكان"(81). والحمد لله رب العالمين.
(1) وهي لفظ لمالك في رواية أخرجها
الذهبي وابن مندة عن عالم المشرق يحيى بن يحيى النيسابوري وينظر في شأنها
المختصر ص 180
(2) العلو ص 98ومختصره ص132والسنة للالكائي3/ 398مجلد2والأسماء
والصفات ص516وفتح الباري13/ 345 باب (وكان عرشه على الماء)، واجتماع الجيوش
ص44ومعارج القبول1/132وقال ابن تيمية في الحموية ص24رواه الخلال بإسناد كلهم
أئمة ثقات.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه واللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن
البصري عن أمه عنها.
(4) يقول ابن قدامة: "من المحتمل أن يكون ربيعة ومالك
بلغهما قول أم سلمة فاقتديا بها وقالا مثل قولها لصحته وحسنه وكونه قول إحدى
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن المحتمل أن يكون الله تعالى وفقهما للصواب وألهمهما من
القول السديد مثل ما ألهمها".. ذم التأويل لابن قدامة ص12 .
(5) أي مالك بن أنس
بن مالك الأصبحي الحميري،إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة ولد سنة 93
بالمدينة وتوفي بها سنة 179 . التذكرة1/ 207 والتقريب1/ 223 .
(6) الرد على
الجهمية للدارمي ص 280من عقائد السلف، وينظر شرح أصول السنة3/ 398مجلد2وذم
التأويل ص5 .
(7) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية ص33 وينظر مختصر العلو
ص141، 142والأسماء والصفات للبيهقي ص512، 516وفتح الباري13/ 345باب (وكان عرشه
على الماء)، وعقائد السلف ص587عن تفسير القاسمى المسمى بـ (محاسن التأويل)
ومعارج القبول1/135 .
(8) العلوص194ومختصره ص286وينظر القرطبي3/ 2737 واجتماع
الجيوش ص103، 110والمعارج1/ 152 .
(9) العلو ص 101ومختصره ص136، 137وينظر
الفاروق للهروي وشرح الطحاوية ص 267والمعارج1/134 .
(01) الأسماء والصفات
للبيهقي ص 572 .
(11) العلو ص 158ومختصره ص235وينظر اجتماع الجيوش ص98و
المعارج1/147 .
(21) العلو ص120ومختصره ص176وينظر وصية الإمام الشافعي
ص54والمعارج 1/138والأسماء والصفات ص517وعون المعبود 13/41، 47وساقه ابن أبي
يعلى في طبقات الحنابلة بإسناده المتصل إلى الشافعي 1/283 .
(31) العلو ص
117ومختصره ص169والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل ص64والصفات للدارقطني ص71
.
(41) العلو ص 191، 172مختصر ص281، 255والمعارج1/152 والشهارب جمع شهرب وهو
العجوز الكبير.
(51) تفسير ابن كثير2/ 220 .
(61) السنة ص 70، 71وينظر فتح
الباري13/ 346باب(وكان عرشه على الماء).
(71) المعارج 1/276 .
(81) العلو ص
164ومختصره ص244والشذرات لابن العماد 2/319المعارج1/147 .(/2)
منهج السلف في تفويض الصفات
إعداد د. محمد عبد العليم الدسوقي
الحلقة الخامسة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه... وبعد:
نتابع في هذه الحلقة الكلام على منهج السلف في إثبات صفات اللَّه تعالى ومراد عبارة أهل العلم من وجوب إثبات الصفات دون تعطيل أو تكييف، فنقول مستعينين بالله:
ومما جاء عن ابن مندة محدث الشرق في هذا قوله: "هو تعالى موصوف غير مجهول، وموجود غير مُدْرَكٍ ومرئِيٌّ غير مُحَاطٍ به لقربه كأنك تراه، وقريبٌ غير ملازقٍ وبعيدٌ غيرُ منقطعٍ، يسمع ويرى وهو العليّ الأعلى وعلى العرش استوى.. فالقلوب تعرفُه والعقول لا تُكَيِّفُهُ، وهو بكل شيء محيط"(1).. وأنى لعقولنا أن تكيفه وإنا- على حد ما ذكره القاضي أبو يعلى في هذا الصدد- لعاجزون كالُّون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة إذا توفاها بارئها، وكيف يرسلها، وكيف تستقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره قائماً ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم وحجه آدم بالقدر السابق، وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟ وكذلك نعجز عن وصف هيئتنا في الجنة، ووصف الحور العين؟.. فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني؟.. وإذا ظهر عجزنا على نحو واضح وفاضح عن معاينة بعض خلقه، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف لنا كنهه سبحانه أو ينعت لنا كيف سمع كلامه؟ ومن ذا الذي عاينه أصلاً أو قبلاً فنعته لنا؟(2).
وعلى نحو ما دل العقل على عدم إدراك كنه صفاته تعالى، فإنه قد دل كذلك على ضرورة الوقوف على معانيها، ذلك أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تضمنت شيئين مهمين هما العلم النافع والعمل الصالح كما قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [التوبة:33، والصف: 9]، فالهدى: هو العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح الذي اشتمل على الإخلاص لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم النافع يتضمن كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها ومعادها، وأول ما يدخل في ذلك: العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله، فإن العلم بذلك أنفع العلوم وبه قوام الدين قولاً وعملاً واعتقاداً، ومن أجل ذلك كان من المستحيل أن يهمله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يبينه للناس بياناً ظاهراً ينفي الشك ويدفع الشبهة، خاصة وأن الإيمان بالله وأسمائه وصفاته هو أساس الدين وخلاصة دعوة المسلمين، وهو أوجب وأفضل ما اكتسبته القلوب وأدركته العقول، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بربه وهو أنصحهم للخلق وأبلغهم في البيان، فلا يمكن مع هذا المقتضي التام للبيان أن يترك باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ملتبساً مشتبهاً(3).
وفيما مضى، الرد الكافي على من أخطأوا في تنزيه الله وأحسنوا الظن بعقولهم وأساءوه بالكتاب والسنة فضلوا بذلك طريقهم، فمنهم من نزهه عن فوقيته على عرشه وبينونته من خلقه فاعتقد أنه عين الوجود وأنه في كل مكان ولم يصنه عن أخس الأماكن وأقبحها وهم الحلولية من أتباع جهم وأشياعهم، ومنهم من نزهه عن العلو والفوقية وجعل الوجود بأسره - على اختلاف أنواعه وتقابل أضداده مما لا يسوغ التلفظ بحكايته - هو المعبود، وهم طائفة ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وأضرابهم من طائفة الاتحادية، ومنهم من أثبت إثباتاً هو عين النفي فوصفوا الباري بصفة العدم بقولهم بوجوده لا داخل العالم ولا خارجاً عنه ولا مبايناً له ولا محايثاً ولا منفصلاً عنه ولا متصلاً به ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا فوقه ولا تحته، فنزهوه بسلوبهم عن علوه وفوقيته على عرشه وجعلوا وجوده بذلك وجودا ذهنياً لا حقيقة له أو هو عين موجوداته، وهو مذهب الطوسي وغلاة الجهمية وطائفة الدهرية والسلبية ومن هم في زماننا على شاكلتهم.(/1)
وهذا كله مخالف- كما تقرر- لما جاء به الوحي ولما أجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، وأنه مع علوه بائن من خلقه، يعلم ما هم عليه لا يخفى عليه منهم خافية، واستواؤه على عرشه كما أخبر وعلى الوجه الذي عناه وأراده وكما يليق بجلاله، ففوقيته جل وعلا إنما هي فوقية ذات وفوقية قهر، واستواؤه على عرشه إنما هو استواء علو وارتفاع يليقان بجلاله، ونزوله سبحانه إلى خلقه محمول على حقيقته اللائقة به، وأنه يأتي لعباده يوم القيامة لفصل القضاء ويراه أهل الجنة كما يرون الشمس لا يضارون في رؤيته، لا نتكلف لذلك تأويلاً ولا تكييفاً، بل نقول كما قال سلفنا: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء به رسول الله على مراد رسول الله، لا نطلب إماماً غير الكتاب والسنة ولا نتخطاهما إلى غيرهما ولا نتجاوز ما جاء فيهما، ننطق بما نطقا به ونسكت عما سكتا عنه ونسير سيرهما حيث سارا ونقف معهما حيث وقفا.
منشأ الخطأ عند علماء الكلام ولدى من تأثر بقول المفوضة من متأخري الأشاعرة:
غلب على ظن البعض من متأخري علماء الكلام ومن لا يزال متأثراً عن جهالة بمعتفدهم أو متشبثاً به في إصرار وعناد، أن التفويض في معنى الصفات هو طريق السلف، ويذكر أن الشهرستاني كان من أوائل من ذكر أن مذهب السلف هو التفويض وقد تبعه في ذلك إمام الحرمين في الرسالة النظامية والرازي في أساس التقديس(4) والسيوطي في الإتقان وغيره(5)، ثم شاع هذا بين الباحثين قديماً وحديثاً وراج حتى اتخذت هذه العبارات شبهة تقرر من خلالها أن مذهب السلف هو التفويض وليس الإثبات، قال الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل): "ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف، فقالوا: لا بد من إجرائها على ظاهرها فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما اعتقده السلف"(6)، فقد أفاد في هذا النص أن إجراء آيات الصفات على ظاهرها هو زيادة على مذهب السلف وأن هذا لم يكن طريقهم ولا مرادهم في فهم صفات الله تعالى لكون القول بإجراء الصفات على ظاهرها مؤد لا محالة- على ما ظنه- إلى التشبيه الصرف.
وفضلاً عن عدم صحة ما ذكره في هذا الصدد فقد ناقض نفسه حين قال قبل ذلك بصفحة واحدة: "اعلم أن جماعة كبيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة، و.. لا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً، وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك"، ثم ذكر أن ممن يقول بهذا مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم، ولا يعني ذلك- على حد فهمه- إلا اعتقاد السلف أن ثمة فارقاً بين صفات الذات والصفات الخبرية، لوجوب تأويل الأخيرة حتى لا يتوهم منها التشبيه.
وقد أيد الإمام الرازي ت606 الشهرستاني ت548وذلك فيما جعله الأول في كتابه (أساس التقديس) قانوناً كلياً للمذهب، ويقضي هذا القانون الكلي وتلك القاعدة العامة التي أرساها الفخر الرازي في كتابه المذكور بـ "أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل"، وقد أداه تسليمه لما قرره لأن يفصح ويكشف اللثام عن أن الدلائل العقلية قاضية و"قاطعة بأن هذه الدلائل النقلية- يقصد تلك المفصحة عن الصفات الخبرية وصفات الأفعال والمتعارضة على حد زعمه مع الدلائل العقلية- إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظاهرها"، ثم يردف قائلاً: "ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع(7) بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات". أ.هـ من كلام الرازي".
ويحق لنا هنا- ونحن نشير إلى أن التفويض لم يكن بحال من الأحوال مذهباً للسلف وإلى أن التشابه إنما كان مقصوراً لديهم على كيفيات الصفات دون معانيها- أن نتساءل أليس ما ذكره الشهرستاني من القول بالتفويض ومن أن المراد منها غير الظاهر وتبعه فيه الرازي، هو من قبيل ذكرالشيء وضده؟ وأليس ذلك وما ذكراه من نسبة كلٍّ للسلف هو التناقض بعينه؟، وألا يكفي ويشهد لما نسبه مؤخراً للسلف وعلى رأسهم مالك وأحمد والثوري وداود وغيرهم من إثبات لصفات الذات وصفات الفعل ومن إجراء للصفات جميعاً على ظاهرها دون ما تمثيل ولا تشبيه، أن يكون هو الحق الذي لا ينبغي الحياد عنه؟ وأليس ما ذكره في شأن صفات الفعل والصفات الاختيارية وإيهام أنهما شيئان مختلفان عن صفات الذات مدعاة للتفرقة بين صفات مثبتة وأخرى مثبتة كذلك؟.(/2)
وبمثل هذه التناقضات نطق الرازي حين ذكر في كتابه (أساس التأسيس) قبل تراجعه إلى مذهب السلف(8): "أن هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها"(9)، فقد أوجب هنا تفويض معنى هذه المتشابهات- على حد زعمه- إلى الله ثم دعا إلى حملها على غير ظواهرها، فكيف يسوغ فيما كان كذلك أن يقع فيه التفويض؟ وكيف يتسنى القول بالتفويض ومجرد حملها على غير ظواهرها المفضي ضمناً إلى التأويل هو نقض للتفويض من الأساس؟، ثم إن كان (لا يجوز لنا- على حد قوله- الخوض في تفسيرها) فما فائدة القول إذن بحملها على غير ظاهرها أو القول علىسبيل التبرع بتأويلها؟.
وعلى نحو ما اغتر الرازي بكلام الشهرستاني، فقد اغتر زين الدين المقدسي بكلام الجويني الذي ذكر في الرسالة النظامية - قبل أن يتراجع- ما نصه: "وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة"، إلى أن قال: "فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً ومحتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة"(10).. ذلك أنه وبعد أن نقل في كتابه (أقاويل الثقات) قول السيوطي في الإتقان ص305: "وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث، على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى"، وكلام ابن الصلاح الذي قال فيه: "وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها".. لم يكتف بما نقله عنهما من القول بالتفويض في معنى الصفات حتى علق على ما ذكره لهما بأن هذا "القول، هو الحق وأسلم الطرق، فإنك تجد كل فريق من المتأولين يُخطّئ الآخر ويرد كلامه، ومن طالع كلام طوائف المتكلمين والمتصوفين عَلِم ذلك علم اليقين"، بل راح ينشد وينسج على هذا المنوال قائلاً:
"الناسُ شتى وآراءٌ مُفَرَّقَةُ
كلٌ يَرىَ الحقَّ فيما قال واعْتَقَدَا"(11)
وكلام المقدسي بهذا يحمل كثيراً من الخطأ كما يحمل كثيراً من الصواب، ذلك أنه وإن كان في ظاهره يعد رداً على عادة المعتزلة والنفاة من رفض سبيل التأويل الناشئ عن نفي الصفات ومن عدم حملها على ظواهرها، كما يعد إثباتاً لما نفوه في حق الله تعالى من صفات القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، إلا أنه يحمل في طياته الرضا بما ارتضوه هم وأولئك المتكلمون من متأخري الأشاعرة من تأويل سائر ما أثبته سبحانه لنفسه، لكون ذلك ببساطة شديدة هو منهج المتكلمين الذي ارتضاه لنفسه كما ارتضاه لنفسه كل من نقل عنهم وسلم لهم به ولم يتعقبهم، كما يحمل في طياته أن ما لم يمكن تأويله يجب تفويض المعنى فيه إلى الله، يقول ابن الصلاح فيما نقله عنه المقدسي في الأقاويل: "وهذا القول.. هو قول بالتفويض وعد الصفات من المتشابه"، ويقول ناقله: "اعلم- أيدني الله وإياك بروح منه- أن من المتشابه صفات الله تعالى، فإنه يتعذر الوقوف على تحقيق معانيها والإحاطة بها، بل على تحقيق الروح والعقل القائمين بالإنسان، وأهل الإسلام قد اتفقوا على إثبات ما أثبته الله لنفسه من أوصافه التي نطق بها القرآن من نحو سميع وبصير وعليم وقدير"، يعني ما أطلقوا عليه وأسموه بصفات المعاني، يقول: "ونافي ذلك كافر لأنه مكذب لصريح القرآن"(12).
وقد شاع هذا الفهم المغلوط عن السلف بتناقضاته كما سنبين ذلك تفصيلاً، في عبارات المتكلمين- ممن حسبوا أنفسهم من الخلف أنهم أشاعرة - نظماً ونثراً ومتناً وشرحاً، ففي شرحه على ما جاء في جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني:
وكل نص أوهم التشبيها
أوِّله أو فوِّض ورُم تنزيهاً
يقول البيجوري في كتابه (تحفة المريد على جوهرة التوحيد): "قوله: (فوضه) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم، إليه تعالى على طريقة السلف.. وقوله: (ورم تنزيهاً) أي واقصد تنزيهاً له تعالى عما لا يليق به مع تفويض علم المعنى المراد"(13).
فهو يرى أن ثمة نصوصاً في الصفات موهمة وأن هذه النصوص الموهمة - يقصد بها تيك الصفات الخبرية وصفات الأفعال - تستوجب صرفها عن ظاهرها بتأويل إجمالي يعقبه تفويض، كما يرى أن هذا الخليط العجيب هو ما ارتآه السلف معتقدين إياه.(/3)
على أن البيجوري لم يكتف بالجمع بين هذه المتناقضات في تأويل الصفة وصرفها عن ظاهر معناها، والقول مع هذا بتفويض علمها إلى الله والزعم بأن هذا المزيج هو معتقد السلف في الصفات، حتى راح يدعي عليهم أنهم فيما يوهم الجهة في نحو قوله تعالى: يخافون ربهم من فوقهم.. [النحل: 50] "يقولون: فوقية لا نعلمها"، وأنهم في قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى.. [طه:5]، "يقولون استواء لا نعلمه"، يقول هذا على الرغم من شهرة ما ورد عن مالك وغيره من أن (الاستواء معلوم)، بل وعلى الرغم من سوقه عبارة مالك تلك في سياق كلامه.. كما يدعى البيجوري أن السلف في حديث: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) "يقولون: مجيء ونزول لا نعلمهما"، وفي قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك.. الرحمن/ 27) وقوله: (يد الله فوق أيديهم.. الفتح/ 10)، وحديث: (إن قلوب بني آدم كلها كقلب واحد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، "يقولون: لله وجه ويد وأصبع لا نعلمها"، وهكذا(14)، وليس ذلك بغريب على من ترك الأمر فيما ظنه موهماً للتشبيه بالخيار بين التأويل والتفويض، ولا في حق من عد ذلك تنزيهاً لله عن المشابهة وأنشأ في ذلك النظم.
هذا والقول بالتفويض مما يكثر الكوثري أيضاً عزوه لأئمة السلف، فقد ذكر في تعليقه على كتاب (السيف الصقيل) ص13 أن "الذي عليه السلف إجراء ما ورد من الكتاب والسنة المشهورة في صفات الله سبحانه على اللسان، مع التنزيه بدون خوض في المعنى ومن غير تعيين المراد"، وأعاد الكوثري هذا المعنى في مواضع أخرى من الكتاب المذكور منه ص131، 145، وجرى على منواله الشيخ سلامة القضاعي العزامي حيث ذكر نحوه في غير ما موطن إبان تعليقه على كتاب البيهقي في (الأسماء والصفات)، بله أنه كان في ذلك أكثر جرأة حين صرح في ص94 منه بأن "أكثر السلف على الكف عن بيان المعنى المراد اللائق بالحق تعالى"، وكرر مثل هذا في صفحات 5، 81 حيث نسب إلى أكثر السلف تنزيههم عن بيان المعنى اللائق بالله تعالى(15).
فالعجب ممن ينسب إلى السلف الصالح القول بالتفويض في آيات وأحاديث الصفات ويرميهم بعدم البحث عن المراد منها على نحو ما ارتأينا، مع وضوح ما نقلناه عن سلف هذه الأمة بل ومع إجماعهم على القول بنقيضه ووضوح ما جاء عن الإمام مالك وشيوخه وعن أم سلمة أم المؤمنين في تصريحهم بأن الاستواء معلوم..
وباعتقادي أن أولئك الذين اتهموا السلف بما هم منه برءاء إنما أوتوا - كما ذكر ذلك غير واحد من محققي أهل العلم - من حيث ظنوا أن طريق السلف يكمن في مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك، فجعلوهم بهذا بمنزلة الأميين، وحاشاهم أن يكونوا كذلك.
والحمد لله رب العالمين.
(1) التوحيد لابن مندة3/ 34 وينظر كتابه الإيمان1/ 220، 2/ 758 وما بعدهما والعلو ص171 ومختصره ص 254والحجة للأصفهاني1/ 91والإبانة الصغرى لابن بطة ص206 وما بعدها والمعارج للشيخ حكمي1/148 .
(2) ينظر العلو ص 183ومختصره ص 270، 271 . (3) ينظر فتح رب البرية بتلخيص الحموية ص 50، 51 .
(4) وقد كان ذلك منهما قبل تراجعهما إلى مذهب السلف، فلا عجب إذن حين نلحظ تناقض كلامهما هنا مع آخر ما استقرا عليه.
(5) ومما قاله الأخير ونقله عنه ثلة من أهل العلم، منهم زين الدين المقدسي: "وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث، على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها" .. الإتقان ص 305 طبع ونشر مكتبة مصر، وأقاويل الثقات ص65 .. والغريب في الأمر أن السيوطي يسوق ويدلل على قوله الذي أسلفنا، بقول الإمام مالك: (والاستواء غير مجهول)، ولا ندري كيف يتأتى له أن يسوق ذلك الأثر على ما أوجبه من تفويض علم مثل ذلك إلى الله؟؟!!
(6) الملل والنحل للشهرستاني1/93 .
(7) هكذا وصلت قيمة نصوص الوحي إلى حد جعل الاشتغال بتأويلها-الذي هو تحريف لها- يعد تبرعاً وإحساناً.
(8) وفي شأن تراجعه المأمول بعد شناعة ما صدر عنه يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء21/501: "وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم، وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر"، أما عن إمام الحرمين فسيأتي الحديث عن تراجعه هو الآخر وعن بعض ما صدر منه من عبارات في هذا الشأن.
(9) أساس التقديس للرازي ص223 . (01) العقيدة النظامية لإمام الحرمين ص165، 166 . (11) أقاويل الثقات ص67 .
(21) أقاويل الثقات للمقدسي ص67 . (31) شرح البيجوري على الجوهرة ص100 .
(41) شرح البيجوري ص101، 102 .
(51) وقد أشار إلى ذلك ونوه عليه الألباني في مختصره على كتاب العلو للذهبي ص36، 37 .(/4)
منهج السلف في تفويض الصفات
إعداد/ د. محمد عبد العليم
> الحلقة العاشرة
الأسباب المفضية لدى أهل العلم إلى عدم فهم كلام السلف على حقيقته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، ففي هذه الحلقة نواصل ما بدأناه في المقالات السابقة فنقول مستعينين بالله:
الظاهر أن الذي حمل من يجهلون طريقة السلف ويغيب عنهم مذهبهم في الصفات(1)، على القول بالتفويض والادعاء بأنه مذهب أهل السنة والجماعة، مرجعه إلى أمرين:
الأمر الأول: ما ورد من نهي السلف عن تفسير الصفات والخوض في معانيها والزعم من ثمّ أنها من المتشابه:
فقد وردت في أقوال السلف عبارات لم يدرك جل الأئمة الذين ينسبون إلى السلف معتقد التفويض حقيقتها ولا المراد منها، كإمرار التابعين وتابعيهم بإحسان رحمة الله عليهم لمعاني الصفات وكامتناعهم ونهيهم عن تفسيرها، في نحو ما أوردناه من قول الوليد بن مسلم: "سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاءت بلا تفسير"(2).. وما أوردناه عن محمد بن الحسن من قوله: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم ينفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة، لأنه وصفه بصفة لا شيء".. وما جاء في قوله في أحاديث (إن الله يهبط إلى السماء الدنيا)، ونحو هذا من الأحاديث هي: "أحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها"(3).
وكذا ما جاء عن شيخ المحدثين يحيى بن معين قال: "شهدت زكريا بن عدي سأل وكيعاً فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث مثل حديث (الكرسي موضع القدمين) ونحو ذلك..؟، فقال: "كان إسماعيل بن أبي خالد والثوري ومِسعَر بن كدام- يروون هذه الأحاديث، لا يفسرون منها شيئاً"(4).. وما جاء عن سفيان بن عيينة- فيما نقله عنه الإمام أحمد- قال: "كل وصف وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته لا تفسير له غيرها، ولا نتكلف غير ذلك فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه"(5).. وما جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام - فيما رواه عنه البيهقي وغيره بإسناد صحيح- في أحاديث الرؤية والكرسي وموضع القدمين وضحك ربنا وحديث (أين كان ربنا قبل أن يخلق السماء) و(أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك عز وجل قدمه فيها فتقول قط قط) وأشباه هذه الأحاديث، فقال: "هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيه، ولكن إذا قيل لنا كيف وضع قدمه فيها وكيف يضحك، قلنا لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره"(6)، إلى غير ذلك من نصوص فَهِمَ متأخرو الأشاعرة من مؤداها إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وقد أتى السيوطي وهو يحتج ببعض هذه الأقوال بما يفيد أن السلف كانوا يقولون بتفويض الصفات(7)، وهذا توهم منه لا يبعد أن يكون قد تأثر فيه بما تراجع متأخرو الأشاعرة عنه ولم يبلغه ذلك، كما لا يبعد أن يكون غيره كذلك قد تأثر به فيه.. والجواب عن هذا أن المعنى الذي نفوه، وأبوا حمل التفسير عليه، هو المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم ممن ابتدعوا تفسيرات للصفات على خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات(8).. أو أن يكون المراد من ذلك ترك التفسير الذي يخرج عن ظاهر اللفظ أو الذي يؤدي إلى معرفة الكيفية أو الكنه، ذلك - وببساطة شديدة - أن التفسير إنما يكون لما انبهم من الكلام، وصفاته تعالى ليست مبهمة وإنما هي ظاهرة معلومة المعنى، والمجهول هو الكيف ومن ثم كان هو الذي يحتاج إلى تفسير، ولما كان هذا الكيف مجهولاً للخلق ولا مطمع في إدراكه قال السلف: أمروها بلا كيف.(/1)
وليس أدل على صحة ذلك الجواب، من أن السلف مع نفيهم الكيفية، أنكروا على المعطلة نهجهم الذي يقضي بنفي الصفات وعدم إثباتها، ومن أقوال أئمة السلف في ذلك ما نقل عن الإمام أحمد من قوله: "ليس كمثله شيء في ذاته.. وصفاته غير محدودة، ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث بل نقول كما قال ونصفه بما وصف به نفسه.. نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت.. سميع بصير لم يزل متكلماً عالماً غفوراً.. فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى: (ثم استوى على العرش.. الأعراف/ 54 يونس/ 3الرعد/ 2 الفرقان/ 59 السجدة/ 4 الحديد/ 4) كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة إليه، ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، لا نتعدى القرآن والحديث، تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة"(9).
ومن أدلته كذلك أن السلف أنكروا تفسير أولئك المعطلة وأثبتوا مع إنكارهم لتفسيراتهم تلك، تفسيرات أخري هي الموافقة لما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ليتضمن كلامهم الرد على كلتا الطائفتين المبتدعتين طائفة المعطلة وطائفة المشبهة، يقول حنبل بن إسحاق: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) فقال لي: "اسكت عن هذا، مالك ولهذا! أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد كما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب، قال الله عز وجل: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ.. النحل/74)، ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره وصف واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب"(10).. ويقول محدث الكوفة في وقته الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد ابن أبي شيبة العبسي ت297 في كتابه عن العرش وذلك فيما نقله عنه الحافظ الذهبي: "ذكروا أن الجهمية يقولون: ليس بين الله وبين خلقه حجاب، وأنكروا العرش وأن يكون الله فوق، وقالوا: إنه في كل مكان، ففسرت العلماء (وَهُوَ مَعَكُمْ.. الحديد/ 4) يعني علمه، ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه، فهو فوق العرش متخلصاً من خلقه بائناً منهم"(11).
والحمد لله رب العالمين.
(1) احترامنا الشديد لهم واعترافنا بفضلهم وإقرارنا بموالاتهم وبأنهم أرادوا الحق فأخطأوه، وما قصدوا مخالفته ولا تعمدوا الخروج فيه على إجماع المسلمين ولا سلف الأمة، ومن ثم فلا عذر لمقلديهم ولا للاحتجاج - فيما خالفوا فيه السلف - بأقوالهم كما يفعل البعض، لاسيما وأنهم ما دعوا الناس إليه ولا جعلوه مذهباً يضاهئون به قول أهل الحق أو يحرضون الدهماء على الانتصار له أو يدعون من خلاله إلى خرم ما اتفق أهل السنة عليه، وما عمدنا إلى إظهار ما كتبوه إلا لبيان الحق ومعرفة وجه الصواب فيه والتحذير مما وقعوا فيه بعد إقامة الحجة وتسجيل تراجع جلهم إلى الحق، وحاشانا أن يكون المأرب من وراء ذلك القدح في معتقداهم ولا التشهير بهم ولا اتهامهم في دينهم أيضاً كما يفعل البعض، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
(2) العلو ص 104ومختصره ص142 .
(3) ينظر اللالكائي 3/ 433وذم التأويل ص6والعلو ص113 واجتماع الجيوش ص87 .
(4) الصفات للدارقطني ص69وذم التأويل ص9والعلو ص 109والتوحيد لابن مندة3/ 116 .
(5) عقائد السلف ص571 وينظر العلو ص 183، 192والصفات للدارقطني ص70 والتوحيد لابن مندة 3/ 307، 308 .
(6) العلو ص 127ومختصره ص186 والصفات للدارقطني ص68، 69والتوحيد لابن مندة3/ 116والأسماء للبيهقي ص491والحموية ص30 والمعارج1/14، 273والحجة1/ 439 .
(7) ينظر الإتقان ص305 . (8) الحموية ص115 . (9) ينظر اجتماع الجيوش ص83 والمعارج1/297 .
(01) اللالكائي3/ 453 مجلد2 وينظر علاقة الإثبات ص72 والصواعق 2/ 252 . (11) العلو ص 148ومختصره ص220 .(/2)
منهج السلف في تفويض الصفات
إعداد/ محمد عبد العليم الدسوقي
موافقة اعتقاد السلف لمعتقد الأنبياء
في قصرهم التفويض على الكيف
من الأمور الثابتة والمقطوع بها والتي ينبغي معرفتها عن السلف الصالح والعلم بها، تضافرهم على إثبات الصفات وإدراكهم لمعانيها، وتعني عبارة إثبات السلف لصفات الله: التعرف على كل ما جاء منها في القرآن الكريم وصحيح السنة، والوقوف من ثَمَّ على معناها والعمل بمقتضاها وفهمها على ما تقتضيه قواعد اللغة وأصول الدين ومبادئ الشريعة، وذلك بالإيمان بها ونسبتها جميعًا إلى الله على النحو اللائق به من غير تكييف ولا تشبيه، وبإثباتها كلها إثباتًا بلا نفي ولا تعطيل، إعمالاً لقوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 11]، إذ يفاد من قوله: ليس كمثله شيء نفي تشبيهها بصفات الخلق باعتبار أن الكلام عن الصفات متفرع عن الكلام في الذات، ومن قوله: وهو السميع البصير النهي عن نفي أي منها أو تعطيله لدلالة صحيح المنقول وصريح المعقول على أن إثباتها على النحو اللائق به، كدلالتهما على سمعه تعالى وبصره تمامًا دون ما تَفْرِقَة، لا من قِبل العقل ولا من جهة السمع.
ففي النسق الكريم رد صريح على أصحاب التجهيل من فرق المعطلة والنفاة والمفوضة الذين أخذوا هذه الآية الكريمة وجعلوها مستندًا لهم في رد الأحاديث الصحيحة، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم وما وضعته خواطرهم وأفكارهم- ردوه بـ ليس كمثله شيء، تلبيسًا منهم وتدليسًا على من هو أعمى قلبًا منهم وتحريفًا لمعنى الآي عن مواضعه، ففهموا من أخبار الصفات ما لم يُرِدْه الله ولا رسوله، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام، أن إثباتها يقتضي التمثيل بها للمخلوقين! ثم استدلوا على إبطال ذلك بـ ليس كمثله شيء، ويصنفون الكتب ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده، ويقرءون كثيرًا من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى من غير تدبر لمراده الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه معناه الذي أراده الله، وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقهم فقال تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [البقرة: 75]، إلى أن قال: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون [البقرة: 78]، والأماني: التلاوة المجردة.
وهؤلاء الذين يتحدث عنهم هنا شارح الطحاوية الإمام ابن أبي العز من أصحاب التجهيل واللاأدرية، الذين يقولون: لا ندري معاني الصفات وينسبون طريقتهم إلى السلف، ويقول المتأولون عنها إنها هي الأسلم، ويجعلونها من المتشابه، ويحتجون لذلك خطأ بقوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله ويقولون: بأن هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف... يشخص ابن القيم ماهيتهم ويكشف لنا عن حقيقة أمرهم ويلخص من خلال كلامه عنهم عور فكرهم وخطأ تصورهم فيشير إلى أن أصحاب هذا الفكر هم الذين قالوا: إن نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يُدْرَى ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرؤها ألفاظًا لا معاني لها ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهي عندنا بمنزلة «كهيعص» و«حم عسق» و«المص»، فلو ورد علينا منها ما ورد، لم نعتقد فيه تمثيلاً ولا تشبيهًا ولم نعرف معناها وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله تعالى، وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله: لما خلقت بيدي [ص: 75]، وقوله: والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [الزمر: 67]، وقوله: الرحمن على العرش استوى [طه: 5]، وأمثال ذلك من نصوص الصفات، وبنوا هذا المذهب على أصلين:
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه، والثاني: أن للمتشابه تأويلاً لا يعلمه إلا الله. فنتج عن هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرءون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به، ولازم قولهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا: تُجْرَى على ظواهرها وتأويلها بما يخالف هذه الظواهر باطل، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله، فكيف يثبتون لها تأويلاً ويقولون تُجْرَى على ظواهرها؟ ويقولون الظاهر منها مراد، والرب منفرد بعلم تأويلها؟ وهل من التناقض أقبح من هذا؟(/1)
وهؤلاء غلطوا في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فأخطأوا في المقدمات الثلاث واضطرهم إلى هذا: التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين وسدوا على أنفسهم الباب، وقالوا لا نرضى بالخطأ ولا وصول لنا إلى الصواب، فتركوا التدبر المأمور به والتعقل لمعاني النصوص، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها، وأولئك فضلاً عن كونهم قد جعلوها عرضة للتأويل والتحريف فإن قولهم يستلزم أن يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا أصحابهم ولا التابعون لهم بإحسان بل يقرءون كلامًا لا يعقلون معناه.
[مختصر الصواعق المرسلة ص62، 63، 123]
والحق أن الأمر على خلاف ذلك، فقد انبنى منهج السلف في الصفات على الإثبات الذي لا يتأتى إلا بفهم معانيها الواردة في آيات القرآن وأحاديث السنة، «ولو كان معناها غير مفهوم لهم لما صح من سلف هذه الأمة الإثبات إذ كيف يثبتون شيئًا لا يعقلون معناه؟ غاية الأمر أنهم لم يكونوا يبحثون فيما وراء هذه الظواهر عن كنه هذه الصفات أو كيفية قيامها بذاته تعالى». [ابن تيمية السلفي: د. هراس ص49]، لكون ذلك مما استأثر الله بعلمه ولكون الكلام عن الصفات- كما سيأتي- فرع عن الكلام في الذات.
ومن المحال أن يكون صلوات الله وسلامه عليه قد علم أصحابه آداب الغائط وآداب الطعام والشراب، دون أن يعلمهم ما يقولون بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف وعبادته وحده أقرب الوسائل والوصول إليه أتم المطالب، كما أنه من المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3]، ثم يترك هذا الباب الذي يعد لب التوحيد ومحط نظر شريعة الإسلام وأساس العقيدة، لشموله على نوعي التوحيد الآخرين: الألوهية والربوبية، لكوننا بأسمائه الحسنى نتذلل له ونعبده على ما جاء في قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، وبصفاته العلى ندرك حكمته وقدرته.
فلا يميز ما يجوز نسبته إليه وما لا يجوز مع حضه على التبليغ عنه بقوله: «ليبلغ الشاهد الغائب»، حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وصفاته وما كان بحضرته، بل ومع قوله: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك». [أحمد 4/126، وابن ماجه 43، والحاكم 1/96]
وقوله: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم». [مسلم 1844، وأحمد 2/161، 191، والنسائي 7/153، وابن ماجه 3956]، وقول أبي ذر: «لقد توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا».
[مجمع الزوائد 8/263، 264]
وقول عمر: «قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقامًا فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظ ونسيه من نسيه». [ذكره البخاري 3192]
فدل على أنهم اتفقوا على معرفة ما جاء عن الله من صفات، تمامًا كما اتفقوا على الإيمان بأنها واجبة له تعالى على الوجه الذي أراده منها، ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى: ليس كمثله شيء، فمن أوجب خلاف ذلك فقد خالف سبيله صلوات الله وسلامه عليه وسبيل أصحابه. [فتح الباري 13/333](/2)
ومن الأدلة على بطلان القول بتعميم التفويض- ليشتمل ما تحمله الصفات من معانٍ، وعلى أن ذلك مناقض لما كان عليه النبي وصحابته- أن من تأمل خُطَبه عليه السلام وخطبهم وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان بالكلية، فقد كانوا يذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم. [زاد المعاد لابن القيم 1/116]، ومن تفسيراته صلوات الله وسلامه عليه لبعض أسمائه تعالى على النحو السابق ذكره ما جاء في قوله: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء». فقد فسر في قوله: «الأول والآخر»، وقوله: «الظاهر والباطن» كل اسم له سبحانه بمعناه اللائق به، ونفى عنه ما يضاده وينافيه بما يفيد تفرد الرب بالكمال المطلق والإحاطة الزمانية والمكانية المطلقة، فـ «الأول» يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبَّب منه تعالى، و«الآخر» يدل على أنه هو الغاية والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها ورغبتها ورهبتها وجميع مطالبها، و«الظاهر» يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات، ويدل أيضًا على علوه سبحانه، و«الباطن» يدل على اطلاعه على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوِّه، ولا يتنافى «الظاهر» و«الباطن»؛ لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت». [الحق الواضح في شرح كافية ابن القيم للسعدي ص15]، وللبيهقي عن مقاتل بن حيان قال: «بلغنا والله أعلم في قوله تعالى: هو الأول والآخر والظاهر والباطن [الحديد: 3]، هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء، وإنما قربه بعلمه وهو فوق عرشه». [العلو للعلي الغفار للذهبي ص102]
هكذا كان معتقد سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه على ما فهمه عنه الصحابة وتابعوهم بإحسان، وهو من قبل هذا معتقد جميع الأنبياء والمرسلين الذين في شأنهم يقول ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
هذا ومن توحيدهم إثبات أو
صاف الكمال لربنا الرحمن
أي من توحيد الأنبياء والمرسلين وأتباعهم أن يعترفوا ويثبتوا لله كل صفة للرحمن وردت في الكتب الإلهية وثبتت في النصوص النبوية، يتعرفون معناها ويعقلونه بقلوبهم، ويتعبدون لله تعالى بعلمها واعتقادها ويعملون بما يقتضيه ذلك الوصف من الأحوال القلبية والمعارف الربانية، فأوصاف العظمة والكبرياء والمجد والجلال تملأ قلوبهم هيبة وتعظيمًا له وتقديسًا، وأوصاف الرحمة والبر والجود والكرم تملأ القلوب رغبة وطمعًا فيه وفي فضله وإحسانه وجوده وامتنانه، وأوصاف العلم والإحاطة توجب للعبد مراقبة ربه في جميع حركاته وسكناته، ومجموع الصفات المتنوعة الدالة على الجلال والجمال والإكرام تملأ القلوب محبة لله وشوقًا إليه وتوجب له التأله والتعبد إلى ربه بأقواله وأفعاله بظاهره وباطنه، بقيامه بحقه وقيامه بحقوق خلقه، وبهذه المعاني الجليلة وتحقيقها يرجى للعبد أن يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة». [متفق عليه]. فإحصاؤها فهمها وعقلها والاعتراف بها والتعبد لله بها. [الحق الواضح ص12، 13].
ومما يدل على إثبات الأنبياء لما أثبته سبحانه لنفسه من صفات، ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل في حق موسى عليه السلام، قال: «كلم الله موسى من وراء حجاب، فقال: رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني [الأعراف: 143]، فأخبر الله عز وجل أن موسى يراه في الآخرة، وقال: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين: 15]، ولا يكون حجاب إلا لرؤية». [المعارج 1/272]
وفي معنى ذلك يقول الإمام أبو الحسن الأشعري إمام المذهب في تعليقه على آية الأعراف: «ولا يجوز أن يكون موسى صلوات الله عليه وسلامه وقد ألبسه الله جلباب النبيين وعصمه بما عصم به المرسلين، قد سأل ربه ما يستحيل عليه، فإذا لم يجز ذلك على موسى صلى الله عليه وسلم علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلاً وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى، ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا تعالى كما زعمت المعتزلة ولم يعلم ذلك موسى عليه السلام وعلموه هم لكانوا على قولهم أعلم بالله من موسى، وهذا مما لا يدعيه مسلم. [الإبانة ص41:43](/3)
كما يدل على إثبات الأنبياء لصفات الخالق جل وعلا ما جاء عن كعب الأحبار قال: قال الله عز وجل في التوراة: «أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي ولا يخفى علي شيء في السماء ولا في الأرض»، وفي الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: «إن كنتم غفرتم للناس فإن أباكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم، انظروا إلى الطير فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن، وأبوكم الذي في السماء هو يرزقهن». كذا أروده الإمام ابن قتيبة في مختلف الحديث. [العلو ص145]، وسيأتي دعاء داود عليه السلام قوله: «إليك رفعت رأسي يا عامر السماء، نظر العبيد إلى أربابها يا ساكن السماء».
ويؤكد ما ذكرنا ويدل عليه أيضًا ما قصه الله تعالى عن فرعون عليه اللعنة في تكذيبه موسى عليه السلام في أن الله عز وجل العلي الأعلى خالق كل شيء وإلهه، وذلك قوله تعالى في سورة القصص: وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين [القصص: 38]، وقوله في سورة المؤمن: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب [غافر: 36، 37]، ففرعون لعنه الله تعالى كذب موسى في أن رب السماوات والأرض ورب المشرق والمغرب وما بينهما هو الله الذي في السماء فوق جميع خلقه مباين لهم لا تخفى عليه منهم خافية، وقد أدى ما فهمه فرعون عن موسى من إثباته أن له إلهًا فوق السماء، لأن يروم بصرحه الذي أمر ببنائه أن يطلع إليه واتهم موسى بالكذب فيما يقول ويدعي من أن له ربًا في السماء أرسله إليه، ولو أن موسى قال إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو في حشه ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح، لكن مخالفنا ليس يعلم أن الله فوقه بوجود ذاته ومن ثم فهو أعجز فهمًا من فرعون، وعليه فكل جهمي ناف لعلو الله عز وجل هو فرعوني وعن فرعون أخذ دينه، وكل سني يصف الله تعالى بما وصف به نفسه أنه استوى على العرش بائن من خلقه فهو موسوي محمدي متبع لرسل الله وكتبه.
[اجتماع الجيوش لابن القيم ص68، 75، 107]
«وبالجملة فجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام وجميع كتبه المنزلة وجميع أهل السماوات ومؤمني أهل الأرض من الجن والإنس أتباع رسل الله، وجميع الفطر السليمة والقلوب المستقيمة التي لم تجتلها الشياطين عن دينها، جميعها شاهدة حالاً ومقالاً أن خالقها وفاطرها ومعبودها الذي تألهه وتفزع إليه وتدعوه رغبًا ورهبًا، هو فوق كل شيء عال على جميع خلقه، استوى على عرشه بائنًا من مخلوقاته، وهو يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى حركاتهم وسكناتهم وجميع تقلباتهم وأحوالهم لا يخفى عليه منهم خافية، ولهذا ترى جميع المؤمنين عالمهم وعاميهم وحرهم ومملوكهم وذكرهم وأنثاهم وصغيرهم وكبيرهم كل منهم إذا دعا الله تبارك وتعالى في جلب خير أو كشف مكروه إنما يرفع يديه ويشخص ببصره إلى السماء إلى جهة العلو، إلى من يعلم سره ونجواه متوجهًا إليه بقلبه وقالبه، يعلم أن معبوده فوقه وأنه إنما يدعى من أعلى لا من أسفل كما يقول الجهمية قبحهم الله تعالى وتنزه عما يقولون علوًا كبيرًا». [معارج القبول 1/124]
وعلى العموم فإن الإثبات ورد على ألسنة جميع الأنبياء كما ورد في كافة كتبهم المنزلة وعلى ألسنة جميع أتباعهم، يقول سيد الوعاظ عبد القادر الجيلي شيخ بغداد في كتاب الغنية: «أما معرفة الصانع بالآيات والدلائل على وجه الاختصار، فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد» إلى أن قال: «وهو مستوٍ على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: الرحمن على العرش استوى [طه: 5]، وينبغي إطلاق ذلك من غير تأويل، وكونه تعالى على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف.
[العلو ص193](/4)
فعلى درب الأنبياء ودرب خاتمهم عليه وعليهم أفضل الصلوات وأزكى التسليمات سار أتباعهم، وسار الصحابة وتابعوهم من أهل القرون الفاضلة ومن تلاهم، وكان إجماع هؤلاء وأولئك على إثبات كل ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسله الكرام عليهم الصلاة من الله والسلام، من سمع ويدين وبصر واستواء وقدرة ونزول ووجه وكلام وفوقية وإرادة ورضا وغضب وعلم وحياة لا فرق بين أي منها ولا نفي، كما أجمعوا على أن معاني هذه الصفات بما فيها الصفات الخبرية من نحو اليدين والعينين والوجه والصفات الاختيارية المسماة بصفات الأفعال من نحو الاستواء والنزول إلى السماء الدنيا إلى غير ذلك من الصفات المتعلقة بمشيئته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، يجب العلم بها والتسليم لها على ظاهرها، وأن الذي يوكَلُ الأمر فيه إلى الله بتفويض علمه إليه هو كيفية هذه الصفات والوقوف على حقيقة كنهها لكون هذا الجانب دون ظاهر معاني الصفات هو من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلا هو سبحانه.
والحمد لله رب العالمين(/5)
منهج السلف في تفويض
إعداد/ د. محمد عبد العليم الدسوقي
الصفات الحلقة الرابعة
مراد عبارة أهل العلم من وجوب إثبات الصفات دون تعطيل أو
تكييف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله
الله، وبعد:
إن صفوة القول أن عبارات السلف الذين هم أدرى منا بألفاظ اللغة -
وبخاصة ما تعلق منها بأمور الاعتقاد من نحو معرفة ما يجب وما يجوز وما يستحيل
نسبته إلى الله من صفات- وأقدر بالتالي على فهم مراد الله ومراد رسوله منها،
كلها متضافرة على إثبات كل ما أثبته الله لنفسه وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات.
* من
غير تعطيل للنصوص بنفي ما اقتضته من صفات كماله سبحانه ونعوت جلاله، فإن نفي
ذلك سواء كان بتعطيل أو تأويل من لازمه نفي الذات ووصفه بالعدم المحض، لأن ما
لا يوصف بصفة هو العدم، ولهذا قالوا عن الجهمية إنهم يقولون: بأن ليس في السماء
إله يعبد وما ذلك إلا لجحودهم لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، وذلك فضلاً
عما يتضمنه من تكذيب بالكتاب والسنة هو افتراء على الله، قال حماد بن زيد
وبنحوه عن جرير بن عبد الحميد والحافظ أبي معمر القطيعي أحد شيوخ البخاري
ومسلم: "إنما يدورون على أن يقولوا ليس في السماء إله" [يعني «الجهمية»](1)،
وقال عاصم بن علي شيخ البخاري رحمهما الله: "ناظرت جهماً فتبين من كلامه أنه لا
يؤمن أن في السماء رباً"(2)، وذكر أيوب السختياني المعتزلة وقال: "إنما مدار
القوم على أن يقولوا ليس في السماء شيء"(3)، وقال عباد بن العوام محدث واسط
ت185: "كلمت بشراً المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس
في السماء شيء، أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا"(4).
وفي مَثَلٍ ضربه حافظ
المغرب الإمام ابن عبد البر يقول رحمه الله: "مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا
نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كرب (وهي أصول السعف الغلاظ العراض)،
قالوا: لا، قيل: لها رطب وقنو(عذق)، قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة"، يقول
الذهبي معلقاً: "قلت: كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله تعالى، وهو لا في
زمان ولا في مكان، ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر و لا يتكلم، ولا يرضى ولا يغضب،
ولا يريد.. ولا.. ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات! بل نقول: سبحان الله
العلي العظيم السميع البصير المريد الذي كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم
خليلاً، ويُرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، المنزه عن
سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين، ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير.. (الشورى/ 11)"(5). وقال حنبل بن إسحاق- وبنحوه عن أبي داود
والأثرم والفضل بن زياد- سمعت أبا عبد الله- يعني أحمد بن حنبل- يقول: القوم
يرجعون إلى التعطيل في أقوالهم، ينكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننتهم على
هذا حتى سمعت مقالاتهم، قال: وسمعته يقول: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فهو
جهمي، فقد كفر ورد على الله وعلى الرسول قوله، أليس الله يقول: وجوه
يومئذ ناضرة ü إلى ربها ناظرة [القيامة/22، 23]، ويقول:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون..
المطففين/15).. فنحن نؤمن بهذه الأحاديث- أي المؤيدة والمبينة لما جاءت به
الآيات- ونقر بها ونمرها كما جاءت"(6)، وتجدر الإشارة إلى أن الجهمية لم تنكر
صدور هذه الآيات عن الله سبحانه كما لم تنكر صدور أحاديث الصفات عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما أنكرت ما تضمنته هذه وتلك من إثبات صفات الله تعالى، فرد عليهم علماء
السنة ما بين مكفر ومضلل ومبدع ومفسق.
ü ولا تكييف لكنهِ شيء منها كأن يقول
استوى على هيئة كذا، أو ينزل إلى السماء بصفة كذا، أو تكلم بالقرآن على كيفية
كذا، ونحو ذلك من الغلو في الدين والافتراء على الله واعتقاد ما لم يأذن به
الله ولا يليق بجلاله ولا نطق به كتاب ولا سنة، فالخوض في مثل هذا هو الذي أدى
إلى شيوع روح التفويض في معاني صفات الله على الرغم من أن الكلام فيه غير
مطلوب، ولو كان ذلك مطلوباً من العباد لكلفنا به المولى سبحانه، والعقل فضلاً
عن الشرع يقضي بعدم الخوض في الكيف، فإنه إنما يقال (كيف) لمن لم يكن مرة ثم
كان، أما ما لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا
هو.. وقد سأل رجل في مسجد الكوفة علياً رضي الله عنه: هل تصف لنا ربنا فنزداد
له حباً؟ فغضب - عليه رضوان الله - ونادى: الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه،
إلى أن قال: "فكيف يوصف من عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته وطول ولههم
إليه وتعظيم جلال عزته وقربهم من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما
علمهم وهم من ملكوت القدس بحيث هم.. فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من
صفته وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته، فأتم به واستضيء بنور هدايته، فإنما
هي نعمة وحكمة أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه
مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه سلم ولا عن أئمة(/1)
الهدى أثره، فكِلْ علمه إلى الله تعالى، فإنه منتهى حق الله عليك"(7).
وفي هذا
المعنى يقول الفضيل بن عياض فيما حكاه عنه الأثرم في كتاب السنة وابن القيم في
اجتماع الجيوش ص106: "ليس لنا أن نتوهم في الله - يعني في استوائه تعالى على
عرشه- كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال: (قل هو الله أحد. الله الصمد.
لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد.. /سورة الإخلاص)، فلا صفة أبلغ مما وصف
الله به نفسه، وكذا النزول والضحك والمباهاة والاطلاع كما شاء أن ينزل وكما شاء
أن يباهي وكما شاء أن يطلع وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف"..
ويقول سهل التستري: "لا كيف لاستوائه عليه، لأنه لا يجوز لمؤمن أن يقول: كيف
الاستواء لمن خلق الاستواء، وإنما عليه الرضى والتسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه
تعالى على العرش)"(8). ويقول الشافعي رحمه الله: "لا يقال للأصل: (لم؟) ولا
(كيف؟)، إنما يقال ذلك للفرع، فإن أمكن قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة"9..
"وإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد
وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا
قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه ولا نقول: إن معنى
اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات
للفعل، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل،
ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله
تعالى: ليس كمثله شيء [الشورى: 11]، وقوله: ولم يكن له كفوا
أحد.. [الإخلاص: 4]"، كذا ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب(10).
ومن المواقف الدالة
بوضوح على مدى استنكار أئمة السلف للسؤال عن الكيف ما حكاه الذهبي في العلو
وابن عدي في الكامل عن بكير بن جعفر فيما رواه عنه إبراهيم بن موسى قال: «كنت
عند بكير بن جعفر فجاء رجل فقال: الله على عرشه! كيف؟ فقال بكير: جروا برجله،
فجروه»(11).
وابتناء على ما سبق ذكره مما يقره العقل السليم والمنطق السديد
على نحو ما أقره الشرع الحنيف وأجمع عليه علماء الأمة المشهود لهم بالفضل، "لو
قال لنا متنطع بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد ونحو ذلك لنعقلها،
قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا..
فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات"12، ويعني
هذا أن السؤال "إنما يكون عن كلمة غريبة في اللغة، وإلا فالنزول والكلام والسمع
والبصر والعلم والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله
شيء، فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر"13، كما يعني أن الوجه
في إثبات صفاته كونها معلومة ولا تحتاج إلى بيان أو تفسير، والوجه في نفي
التشبيه والتكييف عنها عجز العقول عن تحقيق كنه صفته وكيفية قيامها بذاته.. ومن
المعلوم بداهة أن العقل البشري أسير مألوفاته ومشاهداته، والاستواء وكذا بقية
الصفات المتعلقة بذات الله تعالى أمور غيبية، فلا يجوز فيها توهم المشابهة كما
لا يجوز نفي ما ثبت منها عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك التوهم، وإنما هو الإيمان
والتسليم.
ومما يدل على وجوب الإثبات عن طريق معرفة الله بصفاته وعدم التفويض
إلا في الكيف - من غير ما ذكرنا من تضافر أقوال الأئمة وإجماعهم وأن هذا هو
منهج السلف الصالح - ما صح عن علي بن الحسن بن شقيق، قال فيما رواه عنه الدارمي
والحاكم والبيهقي: "سألت عبد الله بن المبارك: كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز
وجل؟ قال: (في السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: (إنه هاهنا
في الأرض)، فقيل هذا لأحمد بن حنبل، فقال: (هكذا هو عندنا)"(14). وما صح عن حرب
بن إسماعيل الكرماني، قال: "قلت لإسحاق بن راهويه: قوله تعالى ما يكون من نجوى
ثلاثة إلا هو رابعهم.. المجادلة/ 7)، كيف نقول فيه؟ قال: (حيث ما كنت فهو
أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه)، ثم ذكر عن ابن المبارك قوله: (هو
على العرش بائن من خلقه)، ثم قال: أعلى شيء في ذلك وأبينه قوله تعالى:
(الرحمن على العرش استوى.. طه/5)"(51).
ولا أدل على عجز العقول
عن تحقيق صفته من عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه حتى لا تكاد تراه ولا ترى له
بصرا ولا سمعا، وكذا عجز أصحابها عن إدراك كنه الروح التي هي أدنى إليهم من
كل دان وعدم إدراكهم لكنهها وكيفيتها، فكيف بمن فاقت عظمته الوصف والتقدير،
وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره؟(16)، وفي تعليق
على قول سيد الحفاظ يحيى بن معين: (إذا قال لك الجهمي: وكيف ينزل؟ فقل له: كيف
يصعد؟)، يقول الإمام الذهبي: "الكيف في الحالين منفي عن الله تعالى، لا مجال
للعقل فيه"(17)، وهذا ما يقتضيه المنطق والقياس، وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل(/2)
يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته
عقولهم فلم يشكوا أن في الجنة أنهارا من خمر وأنهارا من عسل وأنهارا من لبن،
ولم يعرفوا كنه ذلك ولا مادته وكيفيته، إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا من الخمر
إلا ما اعتصر من الأعناب، ومن العسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها، ومن اللبن
إلا ما خرج من الضروع، ومن الحرير إلا ما خرج من دودة القز، وقد فهموا معاني
ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا، ولم يمنعهم عدم النظير في
الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك، فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء
نظيرها ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء
التمثيل والتشبيه عنها.
وإن شئت مزيدا من معرفة ذلك فافترض أن قوى جميع
المخلوقات اجتمعت لواحد منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإنك إذا نسبت
قوتهم إلى قوة الرب تعالى فلن تجد نسبة إليها البتة، كما لا تجد نسبة بين قوة
البعوضة وقوة الأسد، وإذا قدرت علوم الخلائق اجتمعت لواحد ثم قدرت جميعهم بهذه
المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر، وكذا في حكمته
وكماله، وقد نبهنا سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (ولو أنما في الأرض
من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر
ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم.. لقمان/27)،
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن السماوات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة في أرض فلاة،
والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وهو
سبحانه فوق عرشه يعلم ويرى ما عباده عليه)، فإذا لم يكن لأحد سبيل إلى معرفة
كنه عرشه وهو بعض خلقه، فكيف بكنه صفاته جل وعلا وكيفيتها.. على أنه تعالى لم
يكلف عباده بذلك ولا أراده منهم ولا جعل لهم إليه سبيلا(18). وللحديث بقية إن
شاء الله تعالى..
(1) مختصر العلو ص146، 151، 188والسنة لعبد الله بن
الإمام أحمد ص15واجتماع الجيوش ص87 والمعارج135/1، 136، 140.
(2) العلو ص
122ومختصره ص 179ومعارج القبول 139/1 .
(3) ذكره الشيخ حكمي في
المعارج132/1والذهبي في العلو ص 98ومختصره ص 132].
(4) العلو ص112ومختصر العلو
ص154، 57والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص19، 25، 32، 38 وبنحوه عن ابن مهدي
ص31واجتماع الجيوش ص84 والمعارج136/1، 216 .
(5) العلو ص 182ومختصره ص269 .
(6) المعارج275/1وينظر 274، 276 .
(7) إيثار الحق
على الخلق للصنعاني ص271، 272 . (8) العلو ص 148ومختصره ص 220
.
(9) العلو ص 121ومختصره ص176والآداب لابن أبي حاتم ص233
(10) ينظر ذم التأويل
لابن قدامة ص6 والعلو ص185ومختصره ص 272والمجموع43/16، 44.
(11) ينظر العلو ص
113ومختصره ص 159وكامل ابن عدي 37/2 وفيه بلفظ (خذوا).
(21) تفسير أضواء البيان
للشنقيطي220/2 . (13) ينظر العلو ص و156مختصره ص231 .
(14)
العلو ص110ومختصره ص151وينظر الرد على المريسي للدارمي ص 24، 103والرد على
الجهمية له ص50 والسنة لعبد الله بن أحمد ص13، 7، 41، 81والحموية ص30 واجتماع
الجيوش ص44المعارج 136/1 .
(15) العلو ص131ومختصره ص191والسنة للخلال وذم
الكلام للهروي1/120/6 والمعارج 141/1 .
(16) كذا أفاده ابن الماجشون وابن القيم
عندما سئلا عما جحدته الجهمية .. ينظر العلو ص105 والصواعق ص63والإبانة لابن
بطة ص218 واجتماع الجيوش ص97والمعارج 135/1 .
(17) العلو ص 129ومختصره
ص188والمعارج140/1 . (81) ينظر الصواعق المرسل ص63: 65(/3)
مهلاً يا أهل المظاهر
د. علي بن عمر بادحدح
هذا الموضوع عرض في أثناء مناقشات ومحاورات مع بعض الأخوة حول كثرة العناية بالمظاهر ، واهتمام الناس بها ، وتفكيرهم فيها ، وجعلها في كثير من الأحوال محور حياتهم ، وعمدة مقاييسهم وموازينهم ، ومرجع أحكامهم على الأمور والأشخاص .
وكما نسمع في مجريات أحاديثنا أن هذه الدنيا - كما يقولون – مظاهر ، فإذا أراد الناس أن يقيسوا أو أن يحكموا أو أن يزنوا شخص ، نظروا إلى هيئته ، نظروا إلى مركبه ، نظروا إلى مسكنه ، نظروا إلى ما يبدعه من الألفاظ ، أو ما يسطرّه من الكلمات ، ولم ينظروا إلى ما وراء ذلك ، مما هو الأصل فيما ينبغي أن ينظر إليه في موازين الأشخاص والأحوال مما سيأتي ذكره .
والحقيقة أن هذا الموضوع والظاهرة واسعة ، ولا يمكن أن نجعل الحديث فيها شاملاً ، فنحن على سبيل المثال نعرف أن المظاهر في حياة المرأة أكثر وأعظم ، وربما يكون في طبيعة المرأة ما يجعلها تجنح إلى مثل هذا ، كما هو ظاهر من دلالة قول الحق جلا وعلا : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ، فطبيعتها أنها تميل إلى الحلية والزينة ، وربما يكون باب التفاخر والتظاهر عندها أعظم.
وليس حديثنا في هذا الجانب ؛ فإن لهذا الجانب - كما قلنا - بعض الأسباب إضافة إلى أنه باب واسع ، ومشكلاته كثيرة ، وليس أيضاً حديثنا حول المظاهر العامة في المجتمع ، وإنما أقصر الحديث على العناية بالمظاهر في صفوف الشباب على وجه الخصوص ، وربما أيضاً في صفوف الشباب الذين لهم توجه للخير ، والتزام بالإسلام ؛ فإننا إذا دققنا النظر في هذه الظاهرة وتسربها إلى هذه الفئة وتفشيها نوعاً ما في هذه النوعية ، أدركنا أن المسألة هنا أعظم أهمية ، وأكثر خطراً ، لأن الشباب هم عماد الأمة ، والشباب المقبلون على الخير ، الراغبون فيه هم أكثر من يعول عليه ، وينظر إليه ، ويؤمل فيه ، وينتظر منه العمل لمستقبل أمته ولدينه ؛ فإن شغل بهذه السفاسف ، وإن أغري بهذه المظاهر ؛ فإن هذا مكمن الخطر .
وهذا هو الذي سيكون حديثنا عنه في هذا الموضوع - بمشيئة الله تعالى - وأبدأ مستعينا بالله - عز وجل - سائلاً التوفيق منه - جلا وعلا- بأول فقرات هذا الموضوع ، منبهاً إلى أهميته وإلى أن الكلام الذي سيرد ربما لا يعجب بعض أولئك ، وربما يثير حفيظة أو غضب بعض من تلامسه هذه الظاهرة ، ولكن الحق أحق أن يتبع ، ونريد أن نبين ما هو من شرع الله - عز وجل - وما هو مقبول سائر ، وما هو يخرج إلى دائرة المحرم ، وما هو أيضاً وإن كان في دائرة غير المحرم لكنه لا يليق بمن يطلبون معالي الأمور ، ومن ينتدبون للمهمات الصعبة.
فنبدأ أولاً بمظاهر المظاهر ، أي ما هي المظاهر التي تدلنا على عناية المرء بالمظاهر ؟ وأين تتجلى صورة هذا الموضوع على وجه الخصوص ؟
الملامح العامة لأهل المظاهر
أذكر بعض الملامح التي أحسب أننا عند ذكرها لا نختلف عليها ، ولا نحتاج فيها إلى تفصيل وشرح ، لأنها من الأمور الواضحة الظاهرة.
أولاً : المبالغة في التأنق والتزين في اللباس
ونحن نعلم - أيها الأحبة - أن الإسلام طلب التزين والتنظيف والتطيب ، لكننا هنا نقصد المبالغة التي صورتها ، فتجد بعض أولئك الشباب يريد أن يكون ثوبه أنصع بياضاً من بياض الثلج ، وألمع من بريق الفضة ، وأعطر من المرأة أو الفتاة في خدرها ، ويريد أن تكون غترته أو عمامته من الكي والجمال والهيئة في الغاية ، ويرغب أن يكون حذاؤه ناعماً صقيلاً ، وفي كل صورة من الصور تجد عنده هذه المبالغة والالتفات.
وبذلك ترى أثر ذلك في تحركاته وتصرفاته ، فهو لا يستطيع أن يلتفت كما نلتفت ؛لأنه يخشى أن تنكسر - كما يقولون - كسرة غترته أو نحو ذلك ، يخشى أن يكون في ثوبه بعض ما لا يحبه لنفسه ، فإذا جلس في مكان نظر ثم نظف ثم تأفف ونحو ذلك ؛ لأنه يريد أن يكون على هذه الصورة الوضيئة المبالغ فيها.
وكما نرى أن من يكون هذا حاله لا شك أن هذا الوضع منه غير مقبول ، وغير مستساغ عند أهل الرجولة والشهامة ، ولذلك ربما يصفوه بأنه متأنق كالمرأة ، أو متزين كالفتاة ونحو ذلك ، أو كما يسميه الناس في لهجاتهم العامية ، أو في أمثلتهم الدارجة يسمون أمثال هؤلاء فيطلقون عليه وصف " بنت الشيخ " أو يقولون : هؤلاء مثل البنات ونحو ذلك ، ونحن نعني مثل هذه الألفاظ ؛ لأنها هي التي توضح المقصود بما نصفه بمثل هذه الظاهرة.
ثانياً : العناية بالأسماء والماركات
فهو إذا لبس لا يلبس إلا من النوع الفلاني من الأقمشة ، وإذا خاط ثوبه لا يخيطه إلا عند فلان من الخياطين المشهورين ، الذي له علامة أو الذي له رمز معين ، وإذا لبس حذاءً لا يلبس إلا من طراز معين، فحذاؤه من إيطاليا ، وقماشه من أمريكا ، وغترته من سويسرا ونحو ذلك .(/1)
وهو مهتم على إبرازه وإظهاره لأنه محور ما يحرص عليه ، ويحرص على اقتنائه ، وهذا أيضاً أمر ظاهر بين يجسد لنا هذه الظاهرة ، ويعطينا وضوحا فيما نقصده من هذه الأوصاف.
ثالثاً : المبالغة في الكماليات:
فإنك تجد الرجل العملي يكفيه الثوب والثوبان ، ويستغني عن كثير من أمور أمثال هؤلاء الذين يبالغون في الكماليات ، فلا بد أن يكون له عدة أحذية ، وكل حذاء له لون ، ولكل حذاء مناسبة ، وكذلك في الأثواب وخاصةً إذا كانت الأثواب من نوع غير الثياب هذه التي نلبسها ، مثل البنطلون أو القمصان أو غيرها .
فتجد عنده اهتمام بالكمال والشكليات والزيادة على الحاجات ، وربما يكفيه بذلك أقل القليل ، ولكنه يحتاج إلى الأكثر والأظهر وهذا أيضاً أمر واضح.
رابعاً : الاشتغال بالمظاهر ومتابعتها
ليس مجرد حرص على الاقتناء وإنما عقله منشغل بها فتراه يعرف أحدث الموديلات ويقرأ عن ما سيصدر لاحقاً من الموضات ونحو ذلك وترى همه أن فلان لبس كذا وكذا ، وأنه رأى فلان عنده سيارة كذا وكذا ، وأن فلان استعمل ساعة كذا وكذا تماماً كما نسمع عن أوضاع ومجالس النساء فلانة لبست، فلانة عندها فلانة فعلت فلانة تركت ، وتجد هذا - وللأسف أيضاً - موجود في هذه النوعية التي أشرت إليها من شباب في سن ريعان الشباب ، وربما كما قلت ممن له بعض اهتمام بأمور الخير أو إقبال عليه أو التزام به ، لكن هذا الباب إذا فتح عليهم فتح عليهم أبوابا من الخطر والضرر.
مخاطر المظاهر:
ما أتحدث عنه في النقطة الثانية وهي مخاطر المظاهر المخاطر المترتبة على هذا التأنق وتلك العناية بالأسماء ، وتلك المبالغة في الكماليات وذلك الانشغال بتوافه الأمور وسفاسفها.
أولاً : التعرض للكبر
فلا شك أن الذي يلبس ذلك اللباس ويتأنق ذلك التأنق أنه في الغالب يخالط نفسه عجباً يدل به على غيره ويرى أنه أرفع من غيره ؛ لأن عنده تلك الماركة ؛ ولأن عنده ذلك النوع ؛ ولأن عنده هذا اللباس الغالي ونحو ذلك .
وإذا دخل الكبر لا شك أنه من أعظم المخاطر التي توعد الله عز وجل الداخل فيها والمتلبس بها والمتصف بها أعظم العذاب وأشده ، ولا شك أنه ينظر إلى الناس بنظرة احتقار وازدراء فيدخل في معنى الكبر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : ( الكبر بطل الحق وغمط الناس ).
ثانياً : الوقوع في الكذب
وهذا دأب من يغتر ويعتني بالمظاهر لأن المظاهر غالبا ما تدعو إلى المفاخرة والمكابرة ، فإذا لم يكن عنده على الحقيقة ما يفخر به فربما جره ذلك إلى الكذب مجاراة للآخرين ؛ لأن بيئته التي تحيط به و الجو الذي ينصبغ به هو الجو الذي يعنى بمثل هذه الأمور .. فمثلاً قد يقول قائل : ذهبت أو سافرت إلى أمريكا ورأيت كذا وكذا ، فيقول هو : أما أنا فلم تعجبني أمريكا لكن عندما ذهبت إلى سويسرا وجدتها أفضل ! وهو لم يذهب إلى هنا ولا إلى هناك ولكن يريد أن يكون مثل الناس وأن يتباهى بمثل هذه الأمور .
وإذا قيل إن فلان اشترى كذا أو عند فلان كذا يقول : نعم أخذت هذا ولكنه لم يعجبني ، فغيرته وبدلته .. فهذا الباب وهذه الأجواء تجر صاحبها ولو بالتدرج ولو بالقليل أحياناً إلى الكذب والكذب صغيره وكبيره خطر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أسماء بنت يزيد فقالت له يا رسول الله: إحدانا تقول للشيء لا أشتهيه وهي تشتهيه قال عليه الصلاة والسلام:( إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة ) .
وأصحاب المظاهر دائماً عندهم مجاملات ومبالغات ونوع من المنافسات تجر أصحابها - وإن كانوا من أهل الخير - أحياناً إلى الكذب .. قد يبدأون أيضاً بالتورية التي هي نوع من المعاريض التي ليس فيها كذب صريح ، ثم يلجأون بعد ذلك إلى الكذب الصريح في صغير من الأمور ، ثم يقودهم بعد ذلك إلى ما هو أكبر من ذلك ؛ لأنه يريد أن يتطاول ويريد أن ينافس وأن يفاخر فيدفعه ذلك إلى مثل هذا.
ثالثاً : القرب من المخالفات الشرعية
فإن مثل هذا الجو الذي فيه هذا التنافس المحموم الذي لا يقيم في الأساس وزناً عظيماً للدين والتدين ، ولا للإقبال على الله عز وجل والإقبال على الآخرة يهون في نفس الإنسان بعض المخالفات الشرعية لأجل هذه المظاهر ؛ فإن كان من المظاهر وتمامها وجمال الأناقة ولزومها أن يرخي ثوبه ؛ فإنه يرخيه في أول الأمر إلى حدود الكعبين ، ثم يزيد بعد ذلك قليلاً ويقول لا بأس هذا لم يتجاوز الكعبين ويزيد بعد ذلك ويزيد وربما يتجاوز بعض الناس هذا إلى أن يلبسوا ما فيه شبهة أو حرمة كأن يلبس الأثواب الرقيقة الناعمة لا يسأل عنها وإذا هي إما من الحرير أو مخلوطة من الحرير .(/2)
وقد يتأنق بعضهم كما نرى في أحوال الناس فيتختم أولئك بالذهب ، وبما حرم الله عز وجل من الملابس ، وهذه أمور كثيرة يلج منها أرباب هذه المظاهر إلى الوقوع في المخالفات الشرعية الصريحة الواضحة سواءً في هيئاتهم ولباسهم أو في مجاملاتهم .. يذهب إلى أهل المظاهر فيقدمون له الطعام في أواني الذهب والفضة فيرى أن من التخلف أو من عدم التمدن أن يقول إن هذه حرام !
وقلّ أن تجد من الخائضين في بحر المظاهر من يقف وقفة واضحة صارمة عندما يكون هناك داع أو ظرف يقتضي فعل المحرم أو ممارسته قليلون أولئك ؛ لأن هذا التيار يغمر ويبهر ويؤثر على القلب ويضعف العزيمة في الحق ، فتجد صاحبه يراعي المظاهر أكثر مما يرعى الأوامر والنواهي الشرعية ويكون عنده خوف غضب الناس وذمهم له أعظم عنده في واقع الأمر من نظره إلى غضب الله عز وجل أو وقوعه في دائرة الذم الشرعي وهذا لا شك أنه من أعظم مخاطر هذه المظاهر.
رابعاً : التكلف المرهق
فإن هذه المظاهر ما تزال تستنزف من المرء ماله وجهده ووقته في مظاهر لا تنتهي والمثل الذي نعرفه يقولون فيه : " مد رجلك على قدر لحافك " .
لكن من دخل في المظاهر يمد رجله على قدر كلامه ، وعلى قدر غطرسته ، وعلى قدر مظاهره فإذا كان - وهذا الغالب- يخالط أهل المظاهر الذين عندهم الإمكانيات ؛ فإنهم إذا دعوه دعوة إلى الغداء أو إلى العشاء إنما يدعونه إلى فنادق فخمة أو إلى بيوت هي من القصور الفارهة ، فإذا أراد أن يدعوهم دعاهم بمثل دعوتهم فيجلب على نفسه الويل والثبور وعظائم الأمور وهذا كثيراً ما يقع فيه الناس .
وبعض أولئك الذين يخوضون في هذا البحر المتلاطم فإذا به يكلفهم ويرهقهم مالياً وحتى معنوياًً لماذا ؟ لأنه يسعى إلى أن يكون دائماً في كل محفل ومناسبة وكل محفل ومناسبة يحتاج منه إلى تأنق وتألق وتجمل ويحتاج منه إلى أمور هي أيضاً من الأمور المرهقة مالياً ومعنوياً و أولئك القوم من أهل المظاهر ومن أهل الجاه ومن أهل المال ربما يطلبونه لأمر من الأمور ، و إذا أراد أن يكون من أهل المظاهر لابد أن يلبي دعوتهم ، ولا بد أن يسارع إليهم ، وأن يقدم لهم ما يطلبونه من طلب حتى يكون من المقربين .. وهذا ديدن من يكون كذلك .
وهذا لا شك أنه أيضاً يجعله دائماً مرهقاً متعباً ، لاهث الأنفاس ، مستنزف الأموال .. ومع ذلك يكون في نفسه دناءة وذلة من أثر هذا الأمر الذي يفخر به على غيره ، لكنه أيضاً يسعى به ويسعى بنفسه إلى أن ينال الحظوة عند من هو أعظم منه أو أكثر أبهة أو فخامة كما يقال .
خامساً : تعطيل وتأجيل الأعمال
أصحاب المظاهر كثيراً ما يكونون بعيدين عن الجد مثلاً إذا كان عنده موعد أو عمل ولكن ليس عنده غترة مكوية لا يستطيع أن يخرج من بيته يبقى في بيته لا يستطيع أن يتحرك لماذا؟ لأنه كيف يظهر للناس وعنده هذه المشكلة العظمى والعائق الكبير ؟ وإذا وجد في ثوبه قطرة من حبر أو شيء لا يستطيع أن يخرج لا يستطيع أن يؤدي عمل إذا جاء في أمر واحتاج منه إلى عمل حتى يأخذ أو يرفع أو يخفض أو يحمل ؛ فإنه لا يستطيع دائماً متأنق كيف يمكن أن يحمل شيئا أو أن يحمل كيساً أو أن يرفع صندوقاً أو نحو ذلك .
فتجده دائماً أسيراً لهذه المظاهر ليس عنده جدية في العمل كما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وإما أن يبقى أسيراً لهذه المظاهر الفارغة ، فهذا ضرب من ضروب التأنث من جهة وضرب من ضروب الكسل وعدم العمل ، ونوع من التراخي والركون إلى الأرض وعدم الجدية المطلوبة في حياة الإنسان المسلم.
سادساً : الطمع وعدم القناعة
هذه المظاهر كالأضواء الخاطفة تخطف الأبصار كلما رأى شيء تعلق قلبه به ، وكلما اقتنى شيئا تأملت نفسه في غيره وما يزال دائماً ينظر إلى الأعلى ، وكما نقول نحن دائماً في الأمثلة يقولون : " الذي يطالع فوق رقبته تنكسر " .
وهؤلاء كذلك دائماً ينظر إلى الأعلى ينظر إلى هذا وينظر إلى ذاك ويريد أن يكون عنده مثل هذا ومثل ذاك يريد أن يقتني مثل هذه الأمور يريد أن يكون على مثل تلك الأحوال وما يزال دائماً في سباق محموم مع هذه المظاهر التي لا تنتهي ولن تنتهي ويضحك أعداءنا علينا كل يوم يخرجون لنا نفس البضاعة لكن باسم جديد أو بشكل جديد يستنزفون بها أموالنا ويسخفون عقولنا ، وما يزال بعض أولئك القوم في طمع، وفي هلع دائم لا يمكن في غالب الأحوال أن يصلوا إلى قناعة ؛ لأن الجو يضغط عليه لو أراد أن يصل إلى هذا الحد ويقول : أكتفي سيجد في الأضواء المحيطة به من يقول له مالك هذه السيارة لها ستة أشهر لم تغيرها أو سنة وهو في جو بعض الناس يغير سيارته كل شهرين أو ثلاثة أو قل أقل من ذلك أو أكثر ! إن الجو المحيط به يجعله يندفع شاء أم أبى .
سابعاً : الأنانية وتقديم المصلحة الشخصية(/3)
فإن من يعتني بهذه المظاهر لا يهتم إلا بنفسه في الغالب لا ينشغل بأحوال الآخرين ولا ينشغل بأحوال الأمة كيف ينشغل بأحوال الأمة وهو يترقب الموديلات وعناوين المجلات وأسماء العطور وأنواع الأحذية ، وما فعل فلان والمناسبة الفلانية والدعوة الفلانية ! هو مشغول بهذا فهو لا يفكر إلا في ذاته ولا ينحصر إلا في شخصيته ، ولا يطلب إلا المزيد من هذه المظاهر التي يحرص عليها ، ويتعب لأجل تحصيلها .. فلذلك أمثال هؤلاء في غالب الأحوال تطرأ عليهم المظاهر حتى تنسيهم حتى أقرب المقربين إليهم ، ربما يكونون ذوي قرابتهم في حاجة إلى بعض المال وهو يصرفه على بعض البذخ أو على هذا التأنق ، أو على هذه المظاهر الفارغة .. ربما تكون أمته ربما يكون بنو جلدته ، ربما يكون المسلمون في شرق أو غرب يسامون سوء العذاب يحتاجون منه إلى تأثر قلبي على الأقل ، يحزن لحزنهم ، ويفرح لفرحهم ، فهو لا يحزن إذا حزن إلا على فوات المصلحة ، أو أنه لم يدع في تلك المناسبة ، أو أنه لم يحظ بجلسة مع فلان ، أو يكون معه في حديث خاص أو لقاء منفرد أو نحو ذلك مما ينظر إليه هؤلاء ؛ فإنه حينئذ لا تكون عندهم إلا هذه الأمور وإذا جاء من يطلبه مصلحة أو من يحتاجه في أمر نظر هل هذا الشخص إذا قضى له المصلحة ستكون له عنده حظوة أو منه فائدة أو يرجى أن يذكره في مجلس من المجالس أو في مظهر من المظاهر إن كان كذلك فهو إليها مسارع وإليها مبادر وإلا في الغالب إن قال أو وافق ؛ فإنما يوافق على مضض أو للمجاملة ثم يهمل وينسى ولا يهتم ، ثم إذا طلب منه أحد من علية القوم أو من أولئك الوجهاء أصحاب المظاهر ؛ فإنه لا يبيت ليلته حتى يفعل الأمر المطلوب أو المصلحة المرجوة ، ثم يتصل ويقول : فعلت كذا وكذا لعله إن شاء الله ينال رضاكم واستحسانك ويضخم ويبجل ويعظم ، وكما يقولون يضرب الفرش أما في أصحاب الخير أو في قضاء مصلحة محتاج فكثير ما ينشغل أولئك عن هذه الأمور ، ويضربون عنها صفحاً ولا ينشغلون بغير ما يعود عليهم بنفع مباشر .
ثامناً : التعلق بالدنيا وأهلها
وهو قريب من الذي سبق تعلق بالدنيا ، فلا ترد الآخرة على قلبه ولا على خاطره ، شيئاً فشيئاً تعمي الدنيا قلبه وتخطف بصره وتشغل فكره فإذا فكر في أمراً فإنما يفكر فيه بمقياس الربح والخسارة الدنيوية ، ولا يخطر بباله الربح والخسارة في الآخرة يبقى دائماً ينظر إلى كل شيء من خلال الدنيا وإذا أحب فإنه لا يحب إلا لأهل الدنيا ترى بعض أولئك إذا جاء الرجل من أهل المظاهر هش له وبش ، وقام ورحب وبجل كما ذكرت وإذا قدم الرجل عليه ربما يكون عند الله من أقرب المقربين ومن عباد الله الصالحين لكنه لا يلتفت إليه ، وإذا صافحه صافحه بأطراف أصابعه ، وإذا نظر إليه نظر إليه نظراً عابراً عارضاً لا يكترث له ولا يحتفل به ، ولا يرى أنه رآه وهذا كما أشرت هو صورة من صورة الكبر في غمط الناس واحتقارهم ؛ وبالتالي تجد بعض أولئك القوم يترفع عن غير أهل المظاهر إذا جلس إلى جنب إنسان يقبض عنه ثوبه ، كأنما يخشى من وباء خطير أن يعديه ، وتجد بعض أولئك القوم يترفع كما في قصة جبلة بن الأيهم لما كان يجر إزاره وهو يطوف فوطئه أحد الأعراب عن غير قصد ، فرأى أن ذلك نال من كبريائه وعظمته فالتفت ولطم الأعرابي فشكا الأعرابي إلى عمر رضي الله عنه ، فعلم جبلة أن عمر سينتصف للمظلوم من الظالم ويقتص له فرأى جبلة أن كبرياءه وعظمته أعلى من أن يقتص لأعرابي منه ، فمضى وتنصر وهرب إلى بلاد الشام فانظر إلى ما قد تقود إليه مثل هذه المظاهر الفارغة والعجب بالنفس والتيه الذي هو من شر صفات الإنسان عموماً ، ويكون أقبح وأرذل من المسلم وكذلك من الشاب المسلم الذي فيه خير وله عناية بالخير.
تاسعاً : اختلال الموازين
من كان كذلك كما أشرت لا يقيس الناس إلا بتلك المظاهر فقيمتك عنده بقدر ما عندك من مال أو جاه أو مظهر يجمعها ويعطيك الدرجة من مائة ! أما صلاتك أما زهدك أما عبادتك أما دعائك أما من هذه الأمور فليست عنده لها قيمة ولا وزن وهذا قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ورأى وبين لأصحابه تأثرهم بالمظهر في صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : ما رأيك في هذا ؟ فقال رجل من أشراف الناس : هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا ؟ فقال يا رسول الله :هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله ! فقال عليه الصلاة والسلام : ( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ) .(/4)
هذا الفقير خير من ملء الأرض من مثل ذاك إذا كان من الصالحين من العابدين من المتقربين إلى الله سبحانه وتعالى ؛ فإن المقياس والميزان إنما هو الميزان عند الله سبحانه وتعالى كما سيأتي في تفصيل القول لاحقاً ، فينبغي لنا أن ننظر إلى مثل هذا قد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن علامات آخر الزمان فذكر منها هذه السمة سمة اختلال الميزان وأن يكون قدر الإنسان وشرفه وعظمته عند الناس على غير ميزان الشرف هذا الحديث الطويل عند البخاري من حديث حذيفة الذي جاء فيه ؛ حتى يقال أن في بني فلان رجلاً أميناً ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان .. هذا الذي يقال ما أعقله ما أجلده ما أظرفه ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، ومع ذلك انتكست موازيين الناس واغتروا بالمظاهر وفتنوا بها حتى قالوا فيه ما أعقله ! ما أظرفه ! ما أجلده ! على صيغ المبالغة وهو كالطبل الأجوف في الحقيقة الإيمانية وفي الميزان الرباني كالهباءة التي لا قيمة لها .. ومع ذلك نرى بعض الناس من أهل الخير إذا دخلوا في متاهة هذه المظاهر وقعوا في مثل هذا الأمر الخطير وهو من مخاطر المظاهر .
عاشراً : موات القلب وانطماس البصيرة وضعف في الإيمان
لأن هذه فتن والفتن تعرض على القلوب كالحصير عوداً عودا فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ؛ فإن تاب واستغفر صقل منها وإلا أصبح قلبه - والعياذ بالله - أسود مرباداً كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه .. وهذا هو أعظم هذه المخاطر كما ذكر ابن القيم أخطر شيء هو موت القلب فلا يعلم أنه على خطأ ولا يشعر أنه وقع في معصية ولا يستعظم أنه خالف أمر الله أو خالف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا لا شك أنه من أخطر المخاطر .
تذكير وتنبيه لأهل المظاهر
ثم ننتقل إلى الشق الثالث وهو : بداية التنبيه والتذكير ووضع الأمور في نصابها ووضع النقاط على الحروف - كما يقال - حتى نرجع إلى صوابنا ، ونذكر إخواننا ، ونعرف ما ينبغي أن نكون عليه ونحن أهل إسلام وأهل إيمان وأهل التزام وأهل دعوة فيما ندعي ، وأهل نصرة للإسلام والمسلمين فيما نقول بألسنتنا ينبغي أن ننتبه .. فأذكر في ذلك :
أولاً : مصائر المظاهر
هذه المظاهر إلى أين ستصل ؟ فكر أخي يا صاحب المظهر يا صاحب تلك الملابس الأنيقة وتلك الأشياء الثمينة فكر لا أقول في كل شيء ولكن في أمرين وموقفين اثنين فحسب هذه المظاهر إما إلى القبر وإما إلى الحشر فانظر في القبر إي ثوب ستلبس وأي ماركة من الماركات ستصحب وأي حذاء ستنتعل وأي شيء ستغطي به رأسك وأي عطر ستطيب به نفسك هل فكرت أن هذه المظاهر لا أقول ستلغى بل لن يكون لأي مظهر من المظاهر وجود سيلف كل إنسان في خرقة كفن يدرج فيه لا أكمام له لا زينة فيه لا مجال لتأنق ولا لتألق ولا لشيء فإذا كان هذا هو مصير هذه المظاهر فلماذا نعظمها ونقدسها وننشغل بها ونلتفت إليها ونسعى ونجد ونكد لأجل أن نحظى بها ثم انظر إلى موقف الحشر هذا حديث عائشة رضي الله عنها: يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرلا ، قالت عائشة: يارسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ! قال: ياعائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك .. فأي شيء ستقف فيه بين يدي الله عز وجل .. تلمح الرسوم ، وتغيب المراتب ، ولا يكون للمرء شيء في ذلك الموقف إلا الموازين التي أهملها أولئك الذين شغلوا بالمظاهر ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينهم ترجمان ، فينظر أيمن منه فما يرى إلا ما قدم ، وينظر أسفل منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر خلفه فما يرى إلا ما قدم .. فينظر أمامه فيرى النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) ، أين أنت أخي المسلم ؟ أين أنت يا صاحب المظاهر ؟ أين غاب عقلك ؟ أين ذهب إيمانك ؟ أين تبددت حقائق القرآن والسنة ؟ أين ذهبت كل هذه الأركان من أركان الإيمان التي نعتقدها ونجزم بها ونعرفها ونقرأها آيات تتلى ، ونعرفها أحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مع ذلك ننشغل بمثل هذه الأمور والتوافه التي في الأصل أن يحتقرها الإنسان المسلم ولا يأخذ منها إلا بما هو في حد الاعتدال المشروع الذي سأذكره .
تنبيهات وتحذيرات :
ننبه بها أنفسنا ونخص بالتنبيه أولئك من أصحاب المظاهر :
أولاً : الحرمان الأكبر(/5)
إن كنت تبغي بهذه المظاهر شيئاً من الوجاهة وبعض من الثناء وحظاً من الرفعة ؛ فإنك ربما حصلت على هذا ولكنك حرمت الحرمان الأكبر الذي ذكر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لاينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء ) حسبك هذا الحرمان أن تحرم من نظر الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم العصيب ، وأن تحرم هذا الخير العظيم ؛ فإنه قد ورد الحديث أيضاً عند الشيخين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً ) ، وفي حديث حارثة بن وهب عند أبي داود في السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يدخل الجنة جواض ولا جعظري ) ، والجواض غليظ القلب الذي يكون فيه قسوة ، وهذه القسوة بعض آثار تلك المظاهر عند أصحابها وأربابها ..
واستمع إلى الرواية التي يرويها أبي هريرة ويعطينا فيها درساً في ما ينبغي أن نحرص عليه إذا وجدت عندنا بعض أسباب العظمة وأحاطت بنا بعض مظاهر الفخامة والأبهة هذا أبو هريرة يروي الحديث في رواية محمد بن زياد قال : سمعت أبو هريرة يقول - وقد رأى رجلاً يجر إزاره وجعل يضرب الأرض برجله - وأبو هريرة أمير البحرين أي في موضع الفخامة والمظاهر والأبهة - فقال أبو هريرة للرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً ) ، قال محمد بن زياد : وكان أبو هريرة يستخلف على المدينة فيأتي بحزمة الحطب على ظهره ، فيشق السوق وهو يقول جاء الأمير جاء الأمير حتى ينظروا إلى أميرهم وهو يحمل الحطب فوق ظهره لا يتعالى عليهم ، ولا ينشغل بالمظهر عن حقيقة ما هو منتدب له ، وعن حقيقة مهمته .
من هذا الذي من أهل المظاهر سينكب اليوم ليحمل حطب على ظهره فيتسخ بذلك ثوبه، ويحتقر عند الناس مظهره إلى آخر ذلك .
ثانياً : الخزي الأعظم
وهو أمر من الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها ويحذر منها كل من اغتر بالمظاهر تلك التي يريد أن يسمو بها ويرتفع ويتضخم وينتفخ - كما قلنا - كالبالون أو كالطبل الأجوف ؛ لينظر ما سيكون عليه من الخزي من كان كذلك وليس له عند الله حظ ولا نصيب ، ولا في الإيمان والطاعة قدر يشفع له عند الله عز وجل .. هذا الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يقال له بُوْلس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال ) أخرجه الترمذي وحسنه.
واستمع أيضاً إلى حديث سلمة بن الأكوع عند الترمذي بسند حسن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم ) .
والنبي عليه الصلاة والسلام وهو ينبهنا على هذا يذكرنا بالميزان الحق الذي سنذكره بشيء من التوضيح كما مر بنا في اختلال الموازين .. هذا حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عند الترمذي أيضاً بسند حسن قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة فقال : ( يا أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها - هذه المفاخر التي كانت عندهم - الناس رجلان بر تقي كريم على الله عز وجل ، وفاجر شقي هين على الله عز وجل الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب ) .
كما نقول نحن لكل من يتكبر أو يتباهى كلنا أولاد تسعة كل الناس خلقتهم واحدة كلهم من طينة واحدة كلهم مهما علا وتكبر لا يستطيع أحدهم أن يعدو قدره ولا أن يتجاوز مقداره في ميزان الله عز وجل وتجري عليه أقدار الله عز وجل ، وفي حديث أبي هريرة وهو شاهد للحديث الذي قبله قال عليه الصلاة والسلام ( لا ينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم ) ،كانوا يفتخرون بالآباء من أهل الكفر واليوم ربما يفتخر بعض الناس بمن ليس له كما قلنا مثقال حبة خردل من إيمان يتباهون بأنه يعرف فلان وفلان ويتباهى بأنه قابل فلان أو فلان دعاه أو أن فلان أجاب دعوته في منزله وهذا ليس من أهل الإيمان.
ثالثاً : المحتقرون العظماء(/6)
الذين هم عند الله - عز وجل - عظماء لكنهم عند أهل المظاهر حقراء ينظرون إليهم شزرا ، ولا يرون أن لهم موقع من الإعراب كما يقال أولئك الذين في مقياس أهل المظاهر لا قيمة لهم عند الله عز وجل في مراتب العظمة والشرف والمجد يدلنا على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه ) ،وفي حديث حارثة بن وهب عند الشيخين ما هو أظهر في هذا المعنى : ( ألا أخبركم بأهل الجنة قالوا : بلى قال : كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ) ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) رب أشعث أغبر ذي طمرين ملابس رثة ليس فيها أثر النعمة مدفوع بالأبواب أي يطرد من الأبواب لا يستقبل ولا يكرم ، لو أقسم على الله أن يفعل شيئاً أو أن يجيب دعاء لأبره الله عز وجل لعظيم منزلته وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك في حق البراء بن مالك فلما كان يوماً في معركة جاء الصحابة وقالوا له: يا براء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال فيك كذا وكذا فادعو الله ، فقال : اللهم امنحنا أكتافهم وارزقني الشهادة فما انقضى اليوم إلا بنصر للمؤمنين وشهادة للبراء رضي الله عنه وأرضاه .. فأولئك هم المحتقرون العظماء يحتقرهم الناس بمقاييس المظاهر الفارغة .
وقد كان أبي هريرة كما مر بنا يحمل فوق ظهره وحسبنا في ذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرد بعض ذلك أيضاً حديث أبي أمامة يدلنا أيضاً على هذا ، وهو حديث قال فيه عليه الصلاة والسلام ( إن أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذي ذو حظ من الصلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع … ) رواه الترمذي وحسنه وله شاهد أيضاً قال : ( إن أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذي - يعني متخفف - ذو حظ من الصلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافاً فصبر على ذلك ثم نقر بيده فقال عجلت منيته قل تراثه قلت بواكيه ) حتى عندما مات لم يكن عنده مال ولا ثروة عظيمة ولم يكن له بكائون يبكون،بعضهم بالأجور، ويبكون بالنفاق والمداهنة لأجل المظاهر الفارغة لم يكن له ذلك لكنه كان عند الله عز وجل من الأتقياء الأخفياء الذين يرفع قدرهم عند الله عز وجل .. فافرح بنفسك يا صاحب المظاهر ولكن الفرح الحقيقي لأولئك وبهذا الإسناد أيضاً روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت لا يا رب ولكن اشبع يوماً وأجوع يوماً فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ) وهكذا ينبغي أن ننظر إلى هذا الأمر .
رابعاً : العظماء التافهون
الذين هم على عكس ذلك ذكرنا بعض صورهم عندما ذكرنا : ما أعقله ! ما أجلده ! ما ظرفه ! وليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .. وهذا من علامات آخر الزمان كما ورد أيضاً في حديث حذيفة عند الترمذي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس لكع ابن لكع ) .. تافه غر غبي أحمق مغرور ، مفتخر على الناس بخرق يلبسها ومال يبذله أو يفتخر به على الناس فيكون هو أسعد الناس حظاً وأعلاهم منزلة ، وهو في الحقيقة تافه لا قيمة له في ميزان الله سبحانه وتعالى .
خامساً : العقاب الشديد
ليس مجرد خزي ولا مجرد حرمان بل عقاب يوشك أن يقع على أولئك إذا خالفوا أمر الله عز وجل ، كما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ) وفي رواية البخاري من حديث عبدالله بن عمر : ( بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ) ، وهكذا نذكر أنفسنا ونقول في آخر هذا التذكير ينبغي أن يكون لنا تصرف صائب وهو الميزان الصحيح الذي ينبغي أن نكون عليه وينبغي أن نأخذ به ونستمع فيه إلى توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علمنا وبين لنا فقال في معنى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( إذا نظرتم فلا تنظروا إلى ما فوقكم ولكن انظروا إلى من دونكم فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عليكم ) .
ماذا يريد أهل المظاهر ؟
الشرف والعظمة وعلو المنزلة:(/7)
أشرف الشرفاء وأعظم العظماء وسيد السادات محمد صلّى الله عليه وسلم كان يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويكون في معونة أهله ، وكان يربط الحجر على بطنه من شدة الجوع ، وهو خير خلق الله أجمعين .. وهذا هو الشرف فإذا رأى أولئك أنهم يريدون تلك المراتب بمثل هذه المسالك ؛ فإنما هم على أحد حالين : إما أن يكونوا خالفوا هدي رسول الله علية الصلاة والسلام ، أو اعتقدوا لأنفسهم هديً وطريقاً أفضل من هديه وطريقه عليه الصلاة والسلام ، وكلاهما أمران أحلاهما مر - كما يقال - ألم يسمعوا حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم - وهو مروي من طريقين - يعضد أحدهما الأخر بما يحسن به الحديث إن شاء الله روي من حديث أنس وروي كذلك من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين -في رواية أنس : قالت عائشة :لم يا رسول الله - قال إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا ، يا عائشة لا تزدري المسكين ولو بشق تمرة ، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة ) رواه الترمذي .
هذا حديث رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وذكرى يقول فيه كما في سنن ابن ماجه من حديث أبي أمامة الحارثي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البذاذة من الإيمان ) البذاذة يعني التقشف وعدم العناية بالتأنق والمظهر .. كن صاحب ثوب نظيف ونعل نظيف لكن بالقدر المطلوب.
واستمع إلى صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيف كان الصحابة وهم في الضراء وهم في السراء عندما كانوا لا يجدون ما يأكلون ، وعندما صاروا أمراء هذا عتبة بن غزوان كما في الصحيح مسلم يروي لنا وهو أمير مكة يروي خالدبن عمير العدوي يقول : " خطبنا عتبة ابن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرام ، وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء - يعني قليل - يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعرا والله لتملأن جهنم " أفعجبتم وقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة ولا يأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول لله صلّى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها ، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار ، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا " انظروا إلى القول عرفوا الحقيقة الجوهرية وما غيرتهم المظاهر ولا غيرت حقيقة جواهرهم وقلوبهم : " وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملك فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا " ، هكذا قالها صحابي من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبين منزلة الدنيا ويذكر بالآخرة نعيمها وجحيمها ، ثم يبين تبدل الأحوال وأن المرء ينبغي أن يكون على خير ما يكون.
ثم انظر إلى العظماء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين قادوا الجيوش ، وفتحوا البلاد ، وملكوا الأمصار .. ومع ذلك ما نقص من قدرهم عدم رعايتهم لتلك المظاهر .
استمع إلى بعض هذه النماذج - ولو فتحنا باب النماذج لنقضى ليلنا ونهارنا ولم نستطع أن نلم إلا بأقل القليل منها :
هذا أبو هريرة يروي عن نفسه يقول : إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة - أي من ذكر الحديث - وإني كنت ألزم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لشبع بطني حتى لا أكل الخمير ، ولا ألبس الحرير ، ولا يخدمني فلان وفلان وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع وإن كنت لا أستقرئ الرجل الآية وهي معي - يأتي إلى بعض الصحابة يقول له أقرئني آية كذا وهو عنده ويحفظها - كي ينقلب بي فيطعمني - ما يريد التعليم وإنما يريد الطعام - وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب ، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها . والحديث في رواية البخاري .
وفي وصف حال أشرف الناس صحب رسول الله مصعب بن عمير ، الفتى الذي كان أعطر شباب مكة وأحسنهم لمة الذي كان في أرق صور النعمة والترف خرج من كل ذلك لله ولرسوله حتى لما أقبل مرة وهو في ثيابه الغلاظ بعد أن انحسرت عنه النعمة ، ومنعت عنه أمه أسباب الوجاهة والثراء بكى رسول الله وتأثر لحاله ثم قال : ( ولقد رأيته وما في مكة أعطر منه ولا أحسن لمة منه ما أخرجه من ذلك إلا حب الله وحب رسوله ) .(/8)
قتل يوم أحد قالوا : " فلم نجد ما نكفنه به إلا بردة إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجله خرج رأسه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ، وأن نجعل على رجليه شيئاً من الإدخر ". وفي البخاري أن عبد الرحمن بن عوف كان صائماً ، فأوتي له بطعام فيه صنفين من الطعام فبكى ، قالوا : وما يبكيك يا عبد الرحمن ؟! قال: " ذكرت مصعب بن عمير مات يوم مات - وذكر قصته - وأنا أفطر اليوم وعندي صنفين من الطعام أخشى أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا ".
وأبو هريرة يخبرنا عن أصحاب الصفة فيقول : " رأيت سبعين من أصحاب الصفة ، ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء ، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيديه كراهة أن ترى عورته " رواه البخاري .
ونختم هذه النماذج بالرجل العظيم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه روى الإمام مالك في الموطأ عن أنس قال : " رأيت عمر - وهو يومئذ أمير المؤمنين - وقد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبد بعضها على بعض أي في ثوبه ثلاث رقع " وأذكر هذه النماذج ؛ لأننا نقول إن القوم كانوا على زهد وكانوا لا يكترثون للمظاهر في الحدود المشروعة .
وهذا هو الذي سأختم به الحديث كما أشرت تحت عنوان :
توضيح وتصحيح :
حتى لا يعترض معترض فنحن وقد نقدنا هذه المظاهر بما قد يكون فيه بعض الشدة والهجوم فإني في آخر الأمر أبين ما هو معلوم من شرع الله عز وجل ولكن الذي ورد به الشرع حد ليس فيه مثل هذه المبالغات وليس فيه مثل هذا الاهتمام والانشغال الذي ذكرنا الانتقاد الذي فيه والتنبيه الذي عليه نعلم أن المسلم ينبغي أن يكون ذا مظهر وهيئة حسنة وثياب نظيفة ، وقد ورد في الحديث المشهور لما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر ) ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) فهذا أمر مشروع مطلوب.
ونعلم أيضاً حديث أبي هريرة عند أبي داود عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه آتاه رجل ، وكان جميلاً ، فقال : يا رسول الله إني رجل حبب إلي الجمال ، وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد ، إما بشراك أو نعل أو شسع نعل أفمن الكبر ذلك ؟ قال: ( لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس ) .
والمقصود بهذا هو التوسط والاعتدال وعدم المبالغة وكثرة الانشغال وأن لا نقع في مثل المخاطر التي ذكرناها بأن تقيدنا هذه المظاهر ، وأن تكون هي شغلنا الشاغل ، وأن تأسرنا وتقعدنا عن الأعمال ، وإنما هي بحسب الحاجة وبمقدار معتدل معقول .
نعلم أيضاً أن الإسلام حبب التطيب والتجمل في الجملة وورد في سنن الترمذي من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: ( الحناء والتعطر والسواك والنكاح من سنن المرسلين ) وهذا أيضاً معلوم وقد ورد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجل شعثاً فقال ( أما يجد هذا ما يسكن به شعره ) ، ورأى رجل ثيابه وسخة فقال : ( أما يجد هذا ما يغسل به ثوبه ) ليست دعوتنا وليس حديثنا دعوة إلى القذارة ، أو إلى ترك العناية بالنظافة .. كلا ! ولكننا نعني تلك الظاهرة التي وصفناها وتلك المظاهر التي تدل على أن للمظاهر منزلة وعناية أكثر من الحد المشروع .
وكثيراً ما يكون مدخل العناية بالمظاهر أحياناً مدخلاً حسناً خاصة عند الشباب الطيبين الذين فيهم خير فهم يحرصون على ذلك ليكونوا بين الناس مقبولين ، وهذا أمر حسن وقد يحرصون أحياناً وهذا من المداخل على مزيد من التأنق أو التجمل إذا كانوا في بيئة أو سيقدمون على بيئة أو يعاشرون بعض الناس الذين هم من أهل الثراء ، أو من أهل كذا فحتى يكون مثلهم ومن مثل جنسهم فيستطيع أن يؤثر فيهم ويدعوهم لا بأس في ذلك إن كانت في الحد المشروع ولم يدخل في تلك المخاطر .
لكن ينبغي أيضاً أن يتنبه لأننا قلنا إن هذا قد يعرضه للكبر قد يوقعه في الكذب قد يقربه من المخالفة قد يدخله في بعض التعلق بالدنيا قد يجعل ميزانه مختلاً قد يورده تلك الموارد التي أشرنا إليها في المخاطر .. نعلم ونوضح ونصحح لمن قد يكون فهم خطأً أن هذه الأمور كلها من هدي رسول الله صلى اله عليه وسلم ومن سنته لكن الأمور بالاعتدال فقد كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الترجل (ترجيل الشعر) ، وفي شأن الإدهان أن يفعل ذلك غباً - أي يوماً بعد يوم - وليس المسلم ولا الشاب المسلم على وجه الخصوص متفرغ لأن يبحث عن أنواع معينة من الشامبو ! أو يفرغ نفسه لكي يختار أنواع معينة من الفرش أو الأمشاط التي يمشط بها شعره وكذا !(/9)
أعني هذه المظاهر أن تكون متخففا من هذه القيود - يا أخي - ولذلك أحذّر وأنبه وما أوردت مثل هذا الموضوع إلا لوجود بعض هذه العلل تسربت إلى شباب أخيار ، وإذا بهم ينقادون مع المظاهر شيئاً فشيئاً حتى يبتعدوا عن سمت البساطة ، والبعد عن التكلف ، والزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة ومحبة أهل الخير والصلاح ومعاشرة الذين يذكرونك بالآخرة كثيراً ما تجرف المظاهر أربابها إلى ما أشرنا إليه ، والأمر - كما قلت - في هذا يطول والحقيقة أن مثل هذه المظاهر والعناية بها يوجد كثيراً من الخلل الذي ينبغي أن يتنزه وينتبه ويحذر منه الشباب عموماً ، والشباب الصالحون خصوصاً ، وللمنفلوطي مقالة في النظرات أختم بفقرة منها ، جعل عنوان مقالته [ خداع العناوين ] وتحدث عن ظاهرة الخداع والنفاق بهذه المظاهر ، تكلم فيها عن المجد وتكلم فيها عن التمدن ، وتكلم فيها عن التقوى ، وذكر الصور التي يحكم بها الناس على بعض الناس أنهم أتقياء ، أو أنهم أصحاب مجد ، أو أنهم أصحاب كذا لأمور من الظواهر والمظاهر والحقيقة على غير ذلك ، وأذكر شطراً من هذا ، ثم أذكر كلمته التي ختم بها تنبيهه لهذا الأمر فهو يقول مثلاً على سبيل التمدن حتى يكون الإنسان متمدنا : " ليس بينه وبين هذا التمدن أو لقب الشاب العصري كما يقولون إلا أن يصقل جبهته ويصفف طرته - يعني مقدمة شعره - ويفتح فمه للابتسام المتصنع ، ويقوس يده للسلام المتعمل ، ويكثر في حديثه من ذكر المدنية الغربية وشؤونها ، وسرد أسماء نسائها ورجالها وطرفها ونوادرها ، ويستحسن ما تستحسنه .. ثم يزعم أنه أرقى الناس أدباً ، وأحسنهم خلقاً ، وأدقهم نظراً … إلخ " .
ونحن نرى من صور ذلك التحذلق بالكلمات الأجنبية ، وذكر الأسماء أو الأماكن - وكما قلنا - الماركات والشركات ونحو ذلك يقول المنفلوطي في آخر كلامه : " لو كان بي أن أكتب لمحو الفساد من المجتمع الإنساني والقضاء على شروره وآثامه لما حركت يداً ، ولا جردت قلماً ؛ لأن هذا مسألة صعبة لأني أعلم أن طلب المحال عثرة من عثرات النفوس وضلالة من ضلالات العقول ، ولكنني أطلب مطلباً واحداً لا أرى في عقول الناس وأفهامهم ما يحول بينهم وبين تصوره ، وإدراكه هو أن يهذبوا قليلاً من هذه المصطلحات التي أنسوا بها ، والعناوين التي جمدوا عليها ، فلا يسمون المنافق تقياً ولا المتمجد ماجداً ، ولا البخيل غنياً ، ولا الفقير مجرماً ، ولا المتوحش متمديناً حتى لا ينزع محسن عن إحسانه ، ولا يستمر مسيء في إساءته " .
وهذه الجملة الأخيرة مهمة أصبح المقياس اليوم في المظاهر في المجتمع يفرض على المحسن أحياناً أن يترك إحسانه .. لماذا ؟ لأنه في مقياس الناس مسيء أو يدفع المسيء أن يستمر في إساءته ويدعوه إلى الإساءة ؛ لأن هذه الإساءة في نظر الناس جيدة إذا كان عند الناس أن يترك تحية الإسلام " السلام عليكم " ليستبدل بها غيرها من المسميات ؛ سواء كانت باللغة العربية ، أو باللغة الإنجليزية ، أو الفرنسية !
ويدل هذا على التقدم وعلى التمدن فسيكون إذا أخذ بالأول مسيئاً ، وإذا أخذ بالثاني محسناً أصبحت المظاهر إذا شاعت في المجتمع تقلب الخير شراً والشر خيراً ، فيقول : أريد من العقول فقط أن لا تغير الحقائق أن تبقي الحقائق على هيئتها ؛ حتى يحي من حيا على بينة ويهلك من هلك عن بينة .. فهذه دعوة كما أشرت في عنوان هذا الدرس قلت : مهلاً يا أهل المظاهر ! تمهلوا وتذكروا واعتبروا وتنبهوا واحذروا ، واستمعوا إلى تلك المخاطر وإلى تلك المبالغات، وإلى تلك السخافات التي تنشغلون بها والتي كثيراً ما تقودكم إلى الوقوع في كثير من هذه المخاطر .
وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يهتمون بالمخبر أكثر من المظهر ، وأن يجعلنا نعنى بالحقائق دون الألفاظ وبالمسميات دون الأسماء ، وأن يشغلنا بطاعته ، وأن يشغلنا بحب التقرب إليه ، وأن يشغلنا بالخوف منه والرجاء فيه وأن لا يشغلنا بالمظاهر الفارغة ولا المراتب الدنيوية والسعي إلى الرفعة فيها .. إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه .(/10)
موازين إلهية
(1) ميزان القوة
أولا : أفكار للموضوع
الله عز وجل هو مصدر كل قوة، وقوته فوق كل قوة . قال تعالى: (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا) [سورة البقرة:165] . وقال سبحانه: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) [الكهف:39] . وقال: (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) [فصلت: 15] . وقال: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات: 58].
هلاك القوى الطاغية شديدة القوة عبر العصور الغابرة بعذاب الله تعالى الأشد قوة، فلم تغنهم شدة قوتهم ولا كثرة أموالهم وأولادهم، ولم يكن لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله، فالله عز وجل لا يعجزه شيء. قال الله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) [غافر: 82]. وقال سبحانه: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا) [فاطر: 44]. ويبين الله عز وجل سبب هلاكهم فيقول: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق) [غافر: 21]. ويخبرنا الحق تبارك وتعالى عن قارون الطاغية المفسد فيقول: (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون) [القصص: 78].
ثم يحذر الله عز وجل المشركين ويطمئن المؤمنين فيقول: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر بهم) [محمد: 13]. وكأن الآية تنزل الآن لتحذر اليهود المستكبرين الذين أخرجوا الفلسطينيين من بلادهم، ولتطمئن المجاهدين في فلسطين المحتلة أن الغلبة لهم، فإن الذي أهلك السابقين على كثرتهم وشدتهم قادر على إنزال أشد العذاب باليهود وأشياعهم. وكأن قول الله عز وجل في عاد قوم هود (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ؟) ويأتي الرد من الله عز وجل مباشرة فيقول: (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) [فصلت: 15] كأن هذه الآية تتنزل الآن لتصف حال الاستكبار الصهيوني الذي يقول جهارا نهارا لكل العالم الإسلامي (من أشد منا قوة ؟) ، ويكأنها تتنزل الآن لتصف الاستكبار الأمريكي الذي ينادي في كل محفل (من أشد منا قوة ؟) فكل إدارة أمريكية جديدة تأتي لتنافس سابقتها في دعم الصلف الصهيوني غير عابئة بأي قوة على الأرض.
أطفال الحجارة في فلسطين المباركة فهموا ميزان القوة الرباني، وعلموا أن القوة الحقيقية مصدرها من القوي المتعال الله رب السموات والأرض ورب كل شيء، أدركوا أن الله هو أشد قوة، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، أدركوا أن العودة إلى الله والتمسك بحبله المتين هو سبب لاستمداد القوة من رب القوة، قال تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) [فصلت: 15] لذلك واجهوا العنف الصهيوني بحجارتهم المزودة بالطاقة الإيمانية التي تستمد قوتها من الله القوي الجبار، وطوروا أسلحتهم لأن الله أمرهم بإعداد القوة بقدر ما يستطيعون، فابتكروا القنابل الذكية التي تتفجر متى شاءت وأينما أرادت، إنهم الاستشهاديون. إن أبطال المقاومة والانتفاضة في فلسطين المحتلة يرددون الآن قول الصحابي الجليل الشهيد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، إذ قال لجنده يوم مؤتة (حيث واجه ثلاثة آلاف مسلم مائتي ألف من الروم –أقوى قوة مادية في ذلك الوقت-) قال ابن رواحة: "والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. انطلقوا ... والله لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرس واحد، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا، وإما الشهادة فلنلحق بالإخوان نرافقهم بالجنان".(/1)
نهدي كل قادة العالم الإسلامي وقادة الجيوش والضباط هذه النصائح، أقدموا ولا تخافوا إلا الله تعالى، فإذا قيل لكم إن أعداءنا أكثر عددا فقولوا: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). وإن قيل لكم إنهم أكثر أموالا فقولوا: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون). وإن حذروكم مكرهم وكيدهم فقولوا: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). فإن قيل لكم إنهم أمنع حصونا فقولوا: (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث بم يحتسبوا). أقدموا وأعيدوا للأمة هيبتها وعزتها وكرامتها ولا تتولوا فيستبدل الله بكم قوما آخرين، أقدموا واعلموا أن الله مع المتقين، ولكن (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم الغالبون)، واعلموا أن المؤمن يسير بمعونة الله، وينظر بنور الله، ويقاتل بسيف الله، ويرمي بقوة الله (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان).
ثانيا: توصيات
الإشارة إلى سياسة الاغتيالات التي تنتهجها سلطات الاحتلال في محاولة يائسة للقضاء على المقاومة الإسلامية والوطنية. (اغتيال فتحي الشقاقي زعيم حركة الإسلامي/ محاولة اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس/ وأخيرا اغتيال أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).
والتأكيد على أن المقاومة والجهاد ستستمر حتى يستعيد المسلمون حقوقهم كاملة في أرض الإسراء والمعراج.
وأن المؤمن يعلم يقينا أن الموت والحياة بيد الله وحده، (سيكون هناك تفصيل حول هذا الموضوع في خطبة قادمة بإذن الله تعالى).
موازين إلهية
(2) ميزان النصر
أولا : أفكار للموضوع
مصدر النصر من الله تعالى وحده:
قال الله تعالى:
(وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) [سورة البقرة: 107] و [العنكبوت: 22] و [الشورى: 31].
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [سورة البقرة: 120].
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) [آل عمران: 149-151].
(وما النصر إلا من عند الله) [آل عمران: 126] و [الأنفال: 10].
(واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) [الحج: 78].
(أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) [الملك: 20].
شروط النصر:
الإيمان :
قال الله تعالى:
(وكان حقا علينا نصر المؤمنين) [الروم: 47].
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) [غافر: 51].
(ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين) [الأنفال: 19].
(فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) [الصف: 14].
العبودية الحقة لله عز وجل :
قال الله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون) [الصافات: 171-173].
نصرة الله عز وجل :
قال الله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) [محمد: 7].
(ولَينصرن اللهُ من ينصره) [الحج: 40].
(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [الحديد:25].
الصبر والدعاء وطلب النصر والثبات من الله تعالى:
قال سبحانه وتعالى:
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله) [سورة البقرة: 250].
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا إلا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [سورة البقرة: 286].
(وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) [آل عمران: 146-148].
- نفي النصر عن الكافرين والظالمين والمنافقين:
قال الله تعالى:
(ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) [آل عمران: 110-111].
(ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) [الفتح: 22].(/2)
(ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) [الحشر: 11-12].
(وما للظالمين من أنصار) [سورة البقرة: 270] و [آل عمران: 192] و [المائدة: 72].
(والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) [الشورى: 8].
- متى النصر ؟
النصر بعد الظلم:
قال الله تعالى:
(والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا غضبوا هم يغفرون . والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون . والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون . وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين . ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) [الشورى: 37-41].
وقال: (ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) [سورة الأنعام: 34].
النصر بعد اليأس واليسر مع العسر:
قال الله تعال:
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [سورة البقرة: 214].
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال: 26].
(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا) [سورة يوسف: 110].
(فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا).
ثانيا : توصيات
- التذكير بانتصار المسلمين على التتار في معركة عين جالوت التي توافق ذكراها في السادس من هذا الشهر، حيث كانت المعركة في 6/9/1260م.(/3)
مواقف مؤثرة من حياة الصالحات
عبدالسلام العييري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فَلَقَ النواة والحَبْ ، وخلق الفاكهة والأب ، وأبغَضَ وكرِه وأحب ، وأَمْرضَ وداوى وطَبْ ، أنشأ الإنسان والحيوان بقدرته فَدَبْ ، فالعجب كل العجب لمربوب يجحد الرب ، أشهد أن لا إله إلا الله ويفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، سبحانه وسِعت آثار رحمته أهل الأراضي وسكان السماوات .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أشرفُ الخلائقِ خُلْقاً وخَلْقاً ، ورضي الله عن أصحابه حازوا كل الفضائل سبقى ، فما حَمَلَتْ من ناقةٍ فوق ظهرها أبر و أوفى ذمةً من محمدٍ ــ عليه السلام ــ . أما بعد :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أحمدُ الله تعالى على أَنْ وفَّقَنِي لِجَمْعِ سِِيرِ الصالحات ، فلقد ظَنَنْتُ أَنَّ الصالحات في زَمَانِنَا أَقَلُ مِنَ الأَزْمَاِن الغابرة السابقة ، لكن لما رأيتُ وبحثتُ وجمعتُ بعض الأخبار وجدتُ العجب . فإليكم هذه الأخبار :
القصة الأولى :
عَمَّةُ أحد طلاب العلم دائماً تصلي ولا تُرى إلا على مُصلاها ، ولما ماتت رأتها قريبةٌ لها على صورةٍ حسنة ، فسألتها عن حالها ، فقالت : أنا في الفردوس الأعلى ، قالت قريبتها بماذا ؟ قالت : عليك بكثرة السجود .
القصة الثانية :
أخبرني أحد طلاب العلم أنه اتصلت به امرأة وهي تبكي وظنَّ أنها قد أذنبت بل قالت له : يا شيخ إني قد عصيت الله عز وجل ، معصيةً عظيمة ، فلما استفسر منها وسألها ، فإذا هي قد تركت صلاة الوتر البارحة ، فقالت : هل من كفارة أُكَفِّرُ بها عن ذنوبي .
القصة الثالثة :
تقول إحدى مديرات دُور تحفيظ القرآن : لمّا افتتحنا الدار كان عندنا دَرَجٌ في الشارع ولم نجعل ممراً للعربات ، لا لكبيرات السِّن ولا للمعوقات ، قالت : وفي اليوم الأول للتسجيل فوجئنا بامرأة تجاوزت الستين من عمرها وهي تحبوا على الدَرَج ، تريد الدخول للدار فالتحقت بهم لكن صَعُبَ عليها الاستمرار بعد مُدة ، ولم تستطع أن تواصل الحفظ ، لِكِبَرِ سنها وقعدت في بيتها .
القصة الرابعة :
وهذه أخرى من الصالحات ، حَفِظت القرآن وهي فوق الستين ، وأخبارها عجيبة ، لكن مُلخص الخبر وهذا الموقف أو المواقف لها ، أنها تجاوزت الستين ولمّا ختمت القرآن في رمضان الماضي ، استأجرت امرأة لا تعرفها ولا تعرفها النساء اللاتي حولها ، حتى تُسَّمِع لها القرآن كاملاً ، ولا يعلم بخبرها إلا قلة من النساء ، وأَخَذَت العهد على بعض النساء ألاّ يُخبرن أحداً .
القصة الخامسة :
فتاةٌ أخرى لها همةٌ عالية عظيمة ، شابةٌ مُعاقة ، أُصيبت في حادث بشللٍ رباعي جعلها طريحة الفراش أكثر من خمس عشرةَ سنة ، امتلأ جسمها قروحاً وتآكل اللحم بسبب ملازمتها للفراش ، ولا تُخرج الأذى من جسدها إلا بمساعدة أمها ، لكن عقلها متدفق وقلبها حي مؤمن ، فَفَكرت أن تخدم الإسلام ببعض الأمور ، فوجدت بعض الأساليب والطرق التي تنفع بها دين الله عز وجل ، أو تنفع بها نفسها وتنشر دين الله عز وجل ، فجَعلت ما يلي :
1/ فتحت بيتها لمن شاء ، من النساء أن يزورها ، أو حتى من الناس من محارمها أن يزوروها ليعتبروا بحالها ، فتأتيها النساء ودارِسات التحفيظ ، ثم تُلقي عليهن محاضرةً بصوتها المؤثر .
2/ جعلت بيتها مستودعاً للمعونات العينية والمادية للأسر المحتاجة ، وتقول زوجة أخيها : إنَّ ساحة البيت الكبيرة لا أستطيع أن أسير فيها من كثرة المعونات للأسر الضعيفة .
3/ تُجهز المسابقات على الكتب والأشرطة وتوزعها على الأسر المحتاجة مع المواد الغذائية ، ويقول أحد محارمها : إني لا أستطيع أن أُحَضِّر المسابقات إلا من طريقها .
4/ لا تدع مُنكراً من المنكرات ، من منكرات النساء إلا وتتصل على صاحبة المُنكر وتُنكر عليها .
5/ تُشارك في تزويج الشباب والشابات عن طريق الهاتف .
6/ تُساهم في إصلاح ذاتِ البين وفي حلول المشاكل الزوجية . إنها والله امرأةٌ عجيبة .
القصة السادسة :
وهذه أُخرى لا يُطيعها زوجها أن تذهب للمحاضرات ، فبدأت تتصل على النساء اللاتي تعرفهن من الجيران ومن الأقارب ومن الزميلات ، فتحُثُهُن على حضور المحاضرات وهي قليلة الحضور للمحاضرات بسبب زوجها .
القصة السابعة :
امرأة في مدينة الرياض ، لها في كل باب من أبواب الخير سهم ، فهي تساعد الراغبين في الزواج ، وتعطي أُسرة السجين ، وتقوم على الأرامل والمساكين ، ومن أعمالها أنها تسببت في بناء سبع مساجد في المملكة ، وكَفَلَتْ (500 ) أسرة من الأسر المحتاجة ، وقد كَفِلَتْ (30) يتيماً أيضاً ، وأَسَلم بسببها في دولة تشاد بأفريقيا قريباً من مائتي ألف رجل وامرأة ، لله دَرُّها .
القصة الثامنة :
وهذه امرأة أخرى ، فتحت دارها للعلم والدعوة والتحفيظ ، فلمّا كَثُرتَ النساء والأطفال عندها ، فتحت على حسابها وعلى حسب ما تجمعه من النساء فتحت دارً في مكان آخر .
القصة التاسعة :(/1)
أُقيمت مرة محاضرة في مدينة الرياض ، ووصل حضور النساء إلى : عشرة آلاف امرأة وقبل المغرب بساعة وصل العدد كما يقول أحد أهل العلم عن إحدى قريباته ، وصل العدد ما قبل المغرب بساعة إلى : سبعة آلاف امرأة .
القصة العاشرة :
بعض المريضات في المستشفى يقلن : من أحسن الهدايا لنا أثناء الزيارة وأيام العيدين ، أن يأتي أحد الزوار لنا ، بمصحف أو شريط للقرآن أو أن يأتي بالكتب النافعة .
القصة الحادية عشر :
وهذه أم عبد الرحمن ، تأتي مع زوجها من أقصى جنوب الرياض إلى أقصى شرقه ، يتركها زوجها في المستشفى للعلاج ويذهب هو لدوامه ، وتمر عليها فترات تحتاج إلى المستشفى كل يوم تقريباً ، فاستغلَّت هذه المرأة الداعية المريضة جلوسها الطويل في المستشفى وانتظارها لدورها في العلاج ، استغلَّت الوقت بالدعوة إلى الله عز وجل ، والتذكير به سبحانه وتعالى ، وزيارة المريضات ، وتقوم بتعليمهن الصفة الصحيحة للطهارة والصلاة وأحكام طهارة المريض ، ولا تترك فرصةً لدعوة ممرضة أو طبيبة إلا وتقوم بالدعوة، وهكذا تتنقل بين الأقسام وقد نفع الله عز وجل بها نفعاً عظيماً .
فاللهم اشفها وعافها ، فما أعظم الأجر ، تحمل في جسدها المرض ، وفي قلبها النور والإيمان والدعوة إلى الله عز وجل ، وتقوم بتنفيس الكُربات عن المحزونين والمرضى ، والله عز وجل الموعد .
القصة الثانية عشر :
امرأة أخرى مات زوجها وهي في الثلاثين من عمرها ، وعندها خمسة من الأبناء والبنات ، أظلمت الدنيا في عينها وبكت حتى خافت على بصرها ، وطوّقها الهم وعلاها الغم ، فأبناءها صغار وليس عندها أحد ، كانت لا تصرف مما ورثته من زوجها إلا القليل ، حتى لا تحتاج إلى أحد ، وذات مرة كانت في غرفتها في شدةِ يأس وانتظار لفرج الله عز وجل ، ففتحت إذاعة القرآن الكريم وسمعت شيخاً يقول : قال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ " من لزِم الاستغفار جعل الله له من كل همِِّ فرجاً ، ومن كل ضيقٍ مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب " . تقول هذه المرأة : فبدأتُ أُكثر من الاستغفار وآمر به أبنائي ، وما مرَّ بهم ستة أشهر حتى جاء تخطيط لمشروع على أملاكٍ لهم قديمة ، فعُوِّضت هذه المرأة
عن أملاكهم بملايين ، ووفَّق الله أحد أبناءها فصار الأول على أبناء منطقته ، وحفظ القرآن الكريم كاملاً ، وصار الولد محل عناية الناس واهتمامهم ورعايتهم لما حفظ القرآن ، وتقول هذه الأم : وملأ الله عز وجل بيتنا خيراً ، وصرنا في عيشةٍ هنيئة ، وأصلح الله كل ذريتها ، وأذهبَ الله عنها الهم والغم ، وصدق الله عز وجل إذ يقول : {ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إنَّ الله بَالِغُ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً}.
القصة الثالثة عشر :
وهذا رجلٌ صالح عابد أُصيبت زوجته بمرض السرطان ولها منه ثلاثة من الأبناء ، فضاقت عليهم الأرض بما رَحُبَتْ ، وأظلمت عليهما الأرض ، فأرشدهما أحد العلماء إلى : قيام الليل ، والدعاء في الأسحار مع كثرة الاستغفار ، والقراءة في ماء زمزم ، واستخدام العسل ، فاستمرا على هذه الحالة وقتاً طويلاً ، وفتح الله عز وجل على هذا الرجل و زوجته بالدعاء والتضرع والابتهال إليه جل وعلا ، وكانا يجلسان من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ، ومِنْ صلاة المغرب إلى صلاة العشاء ــ على الذكر والدعاء والاستغفار ، فكشف الله عز وجل ما بها وعافاها ، وأبدلها جِلداً حسناً وشعراً جميلاً ، قال الله سبحانه وتعالى : {أمَّن يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه ويكشِفُ السوءَ ويجعلُكُم خُلفاءَ الأرض أإله مع الله قليلاً ما تَذَّكَرون} .
القصة الرابعة عشر :
وهذه امرأة صالحة ومتصدقة كريمة ، شَهِدَ لها بهذا الأمر المُقرَّبُون ، خمسون عاماً مرَّت عليها وهي بَكْمَاء لا تتكلم ، اعتاد زوجها هذا الوضع ، مؤمناً بقضاء الله وقدره ، وفي ليلة من الليالي استيقظت المرأة وبدأت تُصلي بصوتٍ مسموع ، فقام زوجها مُستغرباً فَرِحاً ، ثم سمعها تنطق بالشهادتين نُطقاً صحيحاً ، ثم تضرعت إلى الله عز وجل بالدعاء ، وكان زوجها ينتظرها تنتهي من صلاتها فَرِحاً بها لكنها تُوفيت بعد قيامها الليل ، هنيئاً لها ، فمن مات على شيء بُعِثَ عليه .
القصة الخامسة عشر :
ذكر أحد الدعاة عن امرأة في روسيا ، امرأةٌ غريبة في الدعوة إلى الله عز وجل ، والصبر على التعليم ، قد صنعت هذه المرأة ما لم يصنعه الرجال ، ظلَّت هذه المرأة خمس عشرة سنة تدعوا إلى الله عز وجل سِراً ، أيام الحكم الشيوعي ، وتنتقل من بيت إلى بيت وتُعلِّم النساء القرآن وتُخرِّج الداعيات ، ولم تغفل أيضاً عن أسرتها ولا عن أولادها ، فأولادها من كبار الدعاة في روسيا ، وأزواج بناتها الأربع كلهم من الدعاة أيضاً ، وأحد أزواج بناتها هو مُفتي البلدة التي تُقيم فيها هذه المرأة .
القصة السادسة عشر :(/2)
طالبة أمريكية متمسكة بالحجاب مُعتزةً بدينها ، أسلم بسببها (3) من الأساتذة في الجامعة ، وأربعة من الطلبة ، لمّا أسلم أحد الأساتذة بدأ يذكر قصته ويقول : قبل أربع سنوات ثارت عندنا زَوبَعَة كبيرة في الجامعة حيث التحقت بالجامعة طالبة مسلمة أمريكية ، وكانت متحجبة وكان أحد الأساتذة من معلميها متعصباً لدينه ، يُبغض الإسلام ، كان يكره كل من لا يُهاجم الإسلام ، فكيف بمن يعتنق الإسلام ؟ ، وكان يبحث عن أي فرصة لإستثارة هذه الطالبة الضعيفة ، لكنها قوية بإيمانها ، فكان ينال من الإسلام أمام الطلاب والطالبات ، وكانت تُقابل شدته بالهدوء والصبر والاحتساب ، فازداد غيضه وحَنَقُه ، فبحث عن طريقة أخرى مَاكِرة ، فبدأ يترصد لها في الدرجات في مادته ويُلقي عليها المهام الصعبة في البحوث ، ويُشدد عليها بالنتائج ، ولمّا لم تستطع التحمل وانتظرت كثيراً وتحملت تحمُّلاً عظيماً ، قَدَّمت شكوى لمدير الجامعة للنظر في وضعها ، فأجابت الجامعة طلبها وقررت أن يُعقد لقاء بين الطرفين ، مع حضور جمع من الأساتذة لسماع وجهة نظر الطالبة مع معلمها ، بحضور بعض الأساتذة والدكاترة والطلاب ، يقول هذا الكاتب الذي أسلم وهو أحد الأساتذة ، حضر أكثر أعضاء هيئة التدريس ، يقول هذا الدكتور : وكنا مُتحمسين لحضور هذه الجولة والمناظرة والحوار ، التي تُعتبر الأولى من نوعها في الجامعة ، فبدأت الطالبة تذكر أن الأستاذ يُبغض الإسلام ولأجل هذا فهو يظلمها ولا يعطيها حقوقها ثم ذكرت بعض الأمثلة ، فكان بعض الطلبة قد حضروا وشَهِدوا لها بالصدق ولِمُعلمها بالكذب ، وهم غير مسلمين ، فلم يجد الأستاذ الحاقد على الإسلام جواباً ، فبدأ يَسُبُّ الإسلام ويتهجم عليه فقامت هذه الطالبة تُدافع عن دينها وتُظهر محاسن الإسلام ، يقول هذا الدكتور : وكان لها أسلوبٌ عجيب لجذبنا ، حتى أننا كنا نُقاطعها ونسألها عن أمور تفصيلية في الإسلام فتُجيب بسرعة بلا تردد ، فلمّا رأى الأستاذ الحاقد ذلك منهم خرج من القاعة واستمرت هذه الطالبة مع بعض الأساتذه والطلاب ، وأعطتهم ورقتين كتبت عليهما عنوانًا / ماذا يعني لي الإسلام ؟
فذكرت هذه الطالبة الدوافع التي دعتها للإسلام ، ثم بيَّنت أهمية الحجاب وعَظَمَةْ الحياء والحِشْمَة للمرأة ، وأنه سبب الزَوبَعَه من هذا الأستاذ ، ولم تكتفي بهذا ، بل قالت : أنا مُستعدة أن أُطالب بحقي كله حتى لو تأخرتُ عن الدراسة ، يقول هذا الكاتب : لقد أُعجبنا بموقفها وثباتها ولم نتوقع أنَّ الطالبة بهذا الثبات والتحمل ، وتأثرنا بصمودها أمام الطلاب والمعلمين ، فصارت المُحجبة هي قضية الجامعة أيامها يقول فبدأ الحوار يدور في عقلي وفي قلبي ، حتى دخلتُ في الإسلام بعد عِدةِ أشهر ، ثم تبعني دكتورٌ ثانٍ ، وثالثٍ في نفس العام ، ثم أصبحنا جميعاً دُعاةً إلى الإسلام .
إنَّها امراةٌ قليلة المثيل في هذا الزمان . . .
القصة السابعة عشر :
حدثني أحد إخوانها بخبرها لقد ماتت رحمةُ الله عليها ، قبل مُدة ليست بالطويلة ، فهي مَدْرَسَةٌ في الأخلاق العالية ، يُحبها الصغير والكبير ، كما قال عنها أهلها وزوجها ، في المناسبات يجتمع عليها الصغار والكبار ، تتَّصل على القريب والبعيد وتسأل عن الأحوال ولا تترك الهدايا للأقارب ، هي امرأةٌ زاهدة ، ثيابها قليلة وَرَثَّة ، أُصيبت هذه المرأة بمرض السرطان ، نسأل الله عز وجل أن يجعلها في الفردوس الأعلى ، مِن صبرها وثباتها بقيت سنةً ونصف لم تُخبر أحداً إلا زوجها ، وأخذت عليه العهد والميثاق والأيمان المُغلظة ألاَّ يُخبر أحداً ، ومِن صبرها وثباتها ــ رحمةُ الله عليها ــ أنها لا تُظهر لأحدٍ شيئاً من التعب والمرض ، فلم يعلم بها حتى أولادها وابنتها الكبيرة التي تخرج معها إذا خَرَجَتْ ، إذا جاءها أحدُ محارمها أو أحدُ إخوانها أو ضيوفها مِن النساء ، فإنها تستعد وتلبس الملابس وتُظهر بأنها طبيعية ...(/3)
وكان أحدُ إخوانها أَحَسَّ بأنها مريضة وفيها شيء ، فقد انتفخ بطنُها وظَهَرت عليها علامات المرض ولمّا أَلَحُّوا عليها إلحاحاً عظيما ، أخبرتهم بشرط أن لا تذهب إلى المستشفى ، تُريد الاكتفاء بالقرآن والعسل وماء زمزم ، ولمّا أَلَحُّوا عليها وأخبروها بأن هذا الأمر والعلاج والدواء لا يُنافي التوكل ، وافَقَتْ وشَرَطَتْ أن تذهب إلى مكة المكرمة للعمرة قبل أن تذهب للمستشفى ، ثم ذَهبت في الصيف الماضي مع أهلها وبَقيتْ قُرابة الأسبوعين ، ولمّا رجعتْ من العمرة وذهبت إلى الطبيب ، شَرَطَتْ ألاَّ يدخل عليها أحدٌ سِوى الطبيب وزوجها ، وكانت مُتحجبة ومُغطيةً لوجهها ولابِسةً القُفَازَينْ ، ولم تكشف إلا موضع الألم المحدد في جزءٍ من البطن حتى لا يُرى شيئاً آخر منها ، فرأى هذا الطبيب وتَعَجب واستغرب من وضعها ومن صبرها ، فرأى أن الماء السام بسبب الورم في بطنها وصل إلى ثلاثةَ عشر لِتراً ، وكان من بُغضها للمستشفى تقول لأحد إخوانها وفَّقَهُ الله ، وهو الذي اهتم بها ويُراعيها في آخر وقتها تقول له : إنِّي أُبغضُ الشارع الذي فيه المستشفى ...
لأنها لا تُريد الذهاب إلى الرجال ولا الخروج من البيت ، تَحَسَنَتْ أحوالها في رمضان الماضي ، ثم عرض عليها أخوها الحج فلم تُوافق وحصل لها شيءٌ من التردد ، لأنها إذا قامت يحصل لها تعبٌ أو إعياء أو دوار ، ولا تستطيع أن تنهض واقِفَة واستبعدت الحج ، ولمّا أَصَرَّ عليها وافقت ، حجَّ بها أخوها فيقول : قد حججتُ كثيراً مع الشباب وجرَّبتُ عدة رحلات وسفرات مع الشباب لكن يقول : والله ما رأيت أسهل من هذه الحجة مع هذه المرأة المريضة ، والنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول : " إنَّما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم " ، يقول هذا الأخ : وقد يَسّرَ الله عز وجل لنا أشخاصاً لخدمتنا بدون سبب ، سواءً في الرَّمِي أو في الممرات أو في النزول من درج الجمرات ، ويقول أخوها : كان بعض عُمَّال النظافة حول الجمرات قد وضعوا حِبالاً لتنظيف ما حول الجمرات ، يقول لمّا قَدِمْنَا لرمي الجمرة لم نستطع أن نَقْرُب فنادانا أحد العَسَاكِرْ فقال : أُدْخُلُوا من تحت هذا الحبل ، بدون أي سبب ، وحصل لهم هذا الأمر في الدور الثاني في اليوم الثاني ...
ولمّا أرادوا النزول ناداهم أحد العَسَاكِر ، بدون أي سبب ، ولا يظهر على المرأة أي علامة من علامات التعب أو المرض ، يقول أخوها وكل المناسك قد يُسِّرَتْ لنا ، وكانت هذه المرأة تهتم بالدعوة ، فَقَلَّمَا تذهبُ إلى مجلسٍ إلاَّ وتُذكرُ بالله عز وجل ، أو تدعوا إلى الله تعالى ، أو تُعَلِّم أو تُخْرِجُ كتاباً من شنطتها وتقرأ أو تأمر إحدى النساء بالقراءة وهي التي تشرح ، قد كَفِلَتْ يتيماً على حسابها ، ولا تذهب إلى قصور الأفراح ، وهي قليلة الاختلاط بالنساء ، إنْ اجتمعت مع النساء لا تحضر إلاَّ للعلم أو الدعوة إلى الله عز وجل ، وليس عندها ذهبٌ فقد باعته كله قبل مرضها ، كانت تُرَكِزُ على البرامج الدعوية ، وما زال الكلام لأخيها ، وهي تُرَكِز على الخادمات بالأخَّصْ ، وتُعلِمُهُن وتُعطيهن بعض السور للحفظ ، كانت مُنذُ فترةٍ طويلة تتواصل مع أخيها على قيام الليل ، فالذي يقوم الأول هو الذي يتصل على الآخر قبل الفجر بنصف ساعة ، ثم بدأت أُمُّهُمْ حفظها الله وصبَّرها وثبَّتها معهم ، مع هذه المرأة المريضة وأخيها البَّارْ ...
ثم بدأت هذه المرأة تتواصى مع نساء الجيران ، وفي شِدَةِ مرضها في سَكَراتِ الموت ، لمّا كانت في المستشفى قبل وفاتها وفي أثناءِ المرض ما تَذَمَرتْ ولا تَأَفَفَتْ ولا جَزِعتْ ، بل كانت صابرةً مُحْتَسِبَةْ ، يقول أخوها : أشدُّ ما سَمِعْتُ منها من الكلمات قالت : يا ربِّ فرِّج عنِّي ، وكانت في أثناء السَكَراتْ يقرأ عليها أحدُ الدُعاة ، فماتت وهو يقرأ عليها رَحِمها الله ، أمَّا بالنسبةِ للتغسيل : لمّا أُحضرتْ لمغسلة الأموات يقول أخوها : قد أَصَرَّ الصغار و الكبار حتى الأطفال من العائلة يُلاحظون التغسيل ، فحضروا جميعاً في مغسلة الأموات وصَلّوا عليها ، أمَّا أخوها الذي كان يُلازمها فقال : لقد رأيتُها لمّا أُخرِجَتْ من الثلاجة قد تغير الشُحُوب الذي كان فيها والتعب انقلبَ إلى نورٍ و بَياضْ ...(/4)
وكانت هذه المرأة الصابرة المُحتسبة ــ رَحِمَهَا الله ــ رَأَتْ رُؤيا قبل وفاتها بشهرٍ ونصف ، كأنها جاءت لِدارٍ تُريدُ أن تدخُلها ، فَسَمِعَتْ رجال يقولون عند الدار ليسَ هذا بيتُك اذهبي إلى بيتٍ آخر ، ثم رَأَتْ قصراً أعلى من الأول وله دَرَجٌ رفيع أو سلالم رفيعة ، فلمّا أرادت أن تصعد ناداها رجُلان من أعلى القصر ، وهذا كله في الرؤيا ، وهي التي قَصَّتْ الرؤيا على من حولها ، وكان في أعلى القصر رجُلان عرضا عليها المُساعدة لِتصعد الدرج ، فَتَحَمَّلَتْ وتَصَبَّرتْ ثم صعدتْ بِنَفْسِها بعدَ تعبْ ، تقول : لمّا صَعَدتُ إلى القصر أَحْسَسَتُ براحةٍ وسعادة وسُرور حتى وهي في المنام ، ثم قالت لِمَنْ حولها : لا تُفَسِّروا هذه الرؤيا ، فأنا إن شاء الله عز وجل أَسْتَبْشِرُ بِخير . فَرَحْمَةُ الله عليها ، وجَمَعَها وأهلها في الفردوسِ الأعلى .
القصة الثامنة عشر :
كَتَبَتْ إحدى مُديرات مدارس التحفيظ تقول : تَقَدَمَتْ امرأةٌ للتسجيل في مدرسةٍ من مدارس التحفيظ ، فلم تُقبل هذه المرأة لإكتفاء العدد ، ولأنها تَقَدَمَتْ هذه المرأة مُتأخرة إلى مكتب المديرة ، تقول تَقَدَمَتْ هذه المرأة وهي تبكي بِحُرقة وتقول : أرجوكم لا تَرُدوني ، فإنِّي والله مُسْرِفة على نَفْسِي في المعاصي ، وكُلَما عَزَمْتُ على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل أَضعَفُ وأعود إلى ما كُنْتُ عليه ، تقول هذه المديرة : فلمّا سَمِعْتُ ما قالت ولَمَسْتُ صِدْقَ حدِيثِهَا ورأيتُ بُكاءها قَبِلْتُها ، ودخَلَتْ في ذلك العام في دورةِ الحِفْظ والتجويد ، أو في دورة الحفظ في سنة ، والتجويد في السنة التي بعدها ، تقول وبفضل الله عز وجل ، قد خَتَمَتْ كتابَ الله تبارك وتعالى ، وهي من المعلمات القديرات الداعيات إلى الله عز وجل ، بل مِن خِيرةِ الأخوات الصالحات ، ولا أُزكيها على الله عز وجل .
القصة التاسعة عشر :
امرأةٌ أخرى قاربتْ السبعين من عمرها ، تحفظ القرآن في نفسِ هذه المدرسة ، تحضرُ لِحِفْظِ القرآن في الصباح والمساء ، تقول هذه الكاتبه : هذه امرأةٌ عجيبة ، وصَلَتْ إلى السبعين ، امرأةٌ نَذَرت نفسها لله عز وجل وللأعمال الخيرية التي تُقرِّبها إلى الله جل وعلا ، فهي لا تَفْتُرُ ولا تَكْسَلْ ولا تستكين ، طوال العام تعمل في الصيف و الشتاء ، ولا تُرى إلاَّ في طاعةِ الله ، تعيش هذه المرأة في منزِلٍ كبير لوحدها مع عاملةٍ لها ، ورَّبَتْ هذه العاملة على العمل الخيري و الإحتساب ، ولها عدة أعمال منها : أنها تُشارك في كثير من البرامج بل تقول هذه الكاتبه : في كل برنامج أو مشروع أو جمع تبرعات ، ما يُقام شيء إلاَّ ويكون لها سهمٌ كبير ، وقد رزقها الله عز وجل ، أبناءَ بارِّين بها ، ويُعينُونها بالمال وبما تريد ، تقول فوالله إنَّ هذه المرأة مصدرٌ مهم بعد الله عز وجل ، بإمدادنا بالهمةِ العالية والعزيمةِ الصادقة ، وهي نموذجٌ حي يَنْدُرُ وجوده في هذا الزمان .
القصة العشرون :
جاء رجلٌ كان مُسرفاً على نفسه بالمعاصي ، وكان يشرب الخمر ، ويسهر مع رُفقاء السوء على الخمرِ و الغناء ، وكان يترك الصلاة أو يُصلي أحياناً حياءً أو خَجَلاً أو مُجاملةً ، وذات مرة زار هذا العاصي إحدى قريباته ، فَحَمِلَ طفلاً من أولادها ، فَبَالَ هذا الطفل على هذا الرجل العاصي المُسرف على نفسه ، يقول هذا الرجل بعد ما تاب ، فَقُلتُ لأمه خُذي هذا الطفل فقد بَالَ على ملابسي ، فقالت : الحمد لله أنه لم يَبُل على ملابس فُلان ، وكان قد حضر معه أحد أقاربها من محارمها فاستغرب هذا الرجل العاصي ، وكُلُنا ذلك الرجل ، وقال ما السبب ؟ قالت : أنت لا تصلي ، مثل هذا الرجل ، والبَول على الثياب لا يضرك ، بهذه الكلمات القليلة ، أنتَ لاتُصلي ــ لست مثل هذا الرجل ــ البول على الثياب لا يضرك يقول هذا العاصي : فَرَجَعْتُ إلى المنزل وتُبْتُ إلى الله عز وجل ، واغْتَسَلْتُ وتركتُ الخمر وهجرتُ رُفقاء السوء ، ولَزِمتُ الصلاة ، وفَرِحَتْ بي زوجتي المُتدينة التي تحُثُني دائماً على تركِ الخمر ، يقول الكاتب : لمَّا أَخَذَ منه بعض هذه القصة ، يقول الكاتب : لقد رأيتُ الرجل قبل موته يترك أي عمل إذا سَمِعَ المُؤذن ، وإذا كان في السيارة يقف عند أَقْرَبِ مسجد إذا سَمِعَ الأذان ، فرحمةُ الله عليه وعفا عنَّا وعنه .
القصة الحادية والعشرون :(/5)
امرأةٌ أُخرى مُتحجبة بعد الخمسين ، لقد تَقَدمت بها السِّن وهي لا تهتم باللباس الشرعي وليس عندها من ينصحها ، يقول أحد أقاربها : أنشَأت جماعة أنصار السُّنة المُحمدية في قريتنا مكاناً لتحفيظ القرآن الكريم ، وخَصَّصُوا مكاناً للنساء ، فبدأتْ هذه المرأة تحضر وتأثرت بالدروس والحجاب والصلاة ، وتركت مُصافحة الرجال ، وحَفِظَتْ بعض قِصار السور ، وتَحَجَبَتْ حِجاباً كاملاً ، وغَطَتْ وجهها ، ولمّا زاد عمرها وتَقَدمتْ بها السِّن ، قيل لها : إنَّ وضع الحجاب في حقك جائز لا بأس فيه ، ثم يذكُرون قول الله تبارك وتعالى {والقَواعِدُ مِنَ النِسَاءِ اللاتِي لا يَرجُونَ نِكَاحاً فَلَيسَ عَلَيهِنَّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيرَ مُتَبَرِجَاتٍ بِزِينَة } ، ثم يسكتون ، وتقول لهم أكملوا هذه الآية {وأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمْ} ، كانت تقول :أُريد العفاف ولطالما كَشَفْتُ وجهي وأنا صغيرة وأنا جاهلة ، فكيف أكشفه وأنا كبيرة مُتعلمة حافظة ، وبالتزامها بالحجاب تأثَرَتْ بها أصغرُ بناتها في البيت فَتَحَجَبَتْ كَأُمِّها .
القصة الثانية والعشرون :
امرأةٌ أمريكية يضربها زوجها ، أمريكية نصرانية تزوجها رجل سَيءُ الخُلُقْ ، يدَّعِي أنه مُسلم ، وطوال الثمان سنوات كما تقول لم يحدِّثها عن دينه ، وبعد مُدّة تقول : رأيتُ رؤيا في المنام سَمِعْتُ فيها الأذان ، وبعد مُدَّة وهي تُشاهد التلفاز رَأَتْ المسلمين في شهر رمضان في إحدى الدول وسَمِعَتْ الأذان مَرَّةً أخرى ، رَأَتْ المسلمين فقط في شهر رمضان ،قد يكونون ذاهبين إلى المسجد أو يُفْطِرونْ في الحرم ، وسَمِعَتْ الأذان مَرَّةً أخرى فارتاحتْ كثيراً ، وبدأتْ تقرأ وتبحث عن الإسلام ، فَأَسْلَمَتْ ، ومن أسباب إسلامها ، سَأَلَتْ عن أمرِ زوجها فقيل لها : أنه مسلم كَمِثْلِ هؤلاء الذين يصومون رمضان ، وكان عندها اضطراب بين زوجها وبين المسلمين في عقلها ، لكن تقول : عندما أسْلمتُ تَحَجَبْتْ ، فتلقاها زوجها سيءُ الخُلُقْ بالضرب والسَّبْ ، ومَزّقَ حجابها لأنه رجلٌ دبلوماسي كما يقول ، وهي تُحْرِجُهُ كثيراً بين المسؤولين بهذا الحجاب ، وازدادت مُعاملته سوءاً يوماً بعد يوم ، وكان يضربها بِشراسة وحقد حتى بَقِيتْ في المستشفى عدة أشهر تتعالج بسبب ضربه لها ، وعَمِلَتْ ثلاث عمليات في العَمُودِ الفَقَرِّي ، واستعملت كرسي العجلات سنة ونصف ، وصَلَ بهم الأمر إلى الطلاق ، وقد رَفَعَتْ هذه المرأة على زوجها دعوى عند القاضي ، لكن كانت تقول : هل أُسْقِطْ الدعوى عن هذا الرجل وأُفوض أمري إلى الله عز وجل أو أُطالبه به ، مع أنِّي سأضطرُ وأقِفْ أمام القاضي ، وهي لا تُريد ذلك ، لأنها احتمال أن تخضع إلى فَحْصٍ طبي لأجل أن تُكمل الدعوى ، فتضطر معها إلى عرضِ جسدها على الأطباء ، فهذا الذي دعاها لإسقاط الدعوى ، واستمرت هذه المرأة على دينها مُتَمَسِكَةٌ بحجابها ، ولم يُغير دينها هذا الرجل سيءُ الخُلُقْ .
القصة الثالثة والعشرون :
وأخرى كانت تنصح زوجها حتى يترك هذه العادة السيئة (( التدخين )) ، ولا يقبل ولا يهتم ولا كأنها تُكلمه ، ففي ذات مرة تقول : دخل علينا ابننا البالغ من العمر ثلاث سنوات وفي فمه سيجارة ، وبدون شعور من والده قام وصَفَعَ ابنه ، وهي أول مرة يضرب فيها زوجي أحد أبناءه ، لأنه رحيمٌ بهم يحبهم ويعطف عليهم ، فقالت الزوجة : بهذه الكلمات القليلة اليسيرة ، استغلتْ هذه الفرصة ودعت زوجها إلى الله عز وجل ، فقالت له : إنه يعتبرك القدوة لذلك يعمل مثل هذا العمل ، فخرجتْ هذه الكلمات من قلبٍ صادقٍ ناصح فَوقَعَتْ في قلبه ، فأقلع من ذلك اليوم عن التدخين .
القصة الرابعة والعشرون :(/6)
كلمة مؤثرة ، كانت هناك امرأة متهاونة في الصلاة ، زوجها كثير السفر ، ولِذَا فإنها اعتادت على الخروج دائماً من المنزل بلا استئذان ، حتى مع وجود زوجها تخرج بدون استئذان ، وكان إذا قَدِمَ من السفر يغضب إذا رأى خروجها وينصحها بعدم الخروج ، ويحُثَّها كثيراً على تربية الأولاد ، تقول هذه المرأة : لم أهتم كثيراً بما كان يقول ، وكُنْتُ أخرجُ بدون استئذان ، وكُنْتُ أَلْبَس الملابس الفاخرة ، وأتعطر بأحسنِ العطور ، وسَمِعتُ ذات مرة أنه سيُقام في منزل أحد الأقارب مُحاضرةً لإحدى الداعيات ، فذهبتُ إلى حضورها حُبَّاً للإستطلاع ، فَتَحَدَثَتْ هذه المرأة الداعية الحكيمة عن بعض مُخالفات النساء ، حتى أَبْكَتِ الحاضرات ، قالت هذه المرأة المُتهاونة : فتأثرتُ بها وسَأَلْتُها عن حُكْمِ الخروج من البيت من غير إذنِ الزوج ، فَبيَّنتْ لي أنَّ هذا حرام إلا بإذنِ الزوج ، وأَرشَدَتها أن لا تتبرج ، وأن تُحافظ على نفسها ، قالت : لمّا قَدِمَ زوجي من السفر اعتذرتُ منه وطلبتُ منه السماح والعفو ، واستأذنته للخروج مرَّةً من المرات فقال : مُُنذُ متى وأنتِ تستأذنين مني ، فقالت : له هذا الخبر وهذه القصة ، فَحَمِدَ الله عز وجل على نعمة الهداية
لا تُنْكِروا أَثَرَ الكلامِ فإنَّهُ أَثَرٌ عَجِيبٌ في النُفُوسِ مُجَرَّبُ
القصة الخامسة والعشرون :
امرأةٌ حفظها حجابها ، سافر زوجها وتركها مع أولادها وأوصى أخاه الكبير بأن يأتي إلى زوجته ، وأن يقوم بأعمال البيت ، ويُتابع الأولاد ، تقول هذه المرأة : كان يأتي هذا الأخ الكبير كل يوم تقريباً ، وكان لطيفاً في أولِّ أيامه ، لكن لمّا أكْثَرَ التردد علينا وليس عندي محرم ولم أتحجب بدأت تظهر منه تصرفاتٍ غريبة حتى قَدِمَ زوجي ، وكنتُ أريد أن أُفاتح زوجي في الموضوع ، لكن خِفْتُ من المشاكل ، ثم سافر زوجي مَرَّةً أُخرى ورجع أخوه إلى حالته الأولى ، من الحركات الغريبة ، والكلام العاطفي ، وبدأ يُعاكس زوجةَ أخيه ، وبدأ يحضر في كل وقت ، لِسببٍ أو بدون سبب ، تقول هذه المرأة : لقد تَعِبْتُ من تصرُفاته ، فَكَّرتُ في الكتابة إلى زوجي لكن تَراجَعْتْ حتى لا أُضايقه لأنه في بلدٍ آخر ، يبحث عن المَعِيشَة ، وحتى لا تحصل المشاكل ، وقُلتُ لابد من نَصِيحَةِ هذا الخَائِنْ الغادر ، ونَصَحَتْ هذا الرجل الذي هو ليس برجل ، لكن لم ينفع فيه النُصح ، وتقول : كنتُ أدعوا الله عز وجل كثيراً أن يحفظني منه ، تقول فَطَرَأتْ عليَّ فكرة ، ففكرتُ في لبسِ الحجاب ، وتغطية وجهي ، وكتبتُ لزوجي بأنَّي سأتركُ مُصافحةَ الرجال الأجانب ، فشجعني زوجي ، وأرسَلَ لي كُتُباً وأشرطة ، وتقول هذه المرأة بعدما لبِسَتِ الحجاب : وعندما جاء شقيقُ زوجي كعادته ذلك الخائن ورآنِّي وَقَفَ بعيداً ، وقال : ماذا حصل ؟ قُلْتُ لن أُصافح الرجال ، إلاَّ محارمي ، فوقف قليلاً ثم نَكَّسَّ رأسه فَقُلْتُ له : إذا أردتَ شيئاً فَكَلِّمني من وراء حجاب فانصرفْ ، فَكَفَّ الله عز وجل شرَّهُ عنها .
القصة السادسة والعشرون :
أمّا ما جاء عن أُمِّ صالح ، امرأةٌ بلغت الثمانين من عمرها تتفرغُ لحفظ الأحاديث ، إنَّها نموذجٌ فريد من أعاجيب النساء ، أَجرتْ مجلة الدعوة حوارًا معها فقالتْ هذه المرأة إنّها بَدَأتْ بحفظ القرآن في السبعين من عمرها ، امرأةٌ صابرة ، عاليةُ الهمّة ، قالت هذه الحافظة الصابرة : كانت أُمنيتي أن أحفظ القرآن الكريم من صِغَري ، وكان أبي يدعوا لي دائماً بأن أحفظ القرآن كإخوتي الكبار ، فحَفِظتُ (3) أجزاء ، ثم تزوجتُ وأنا في الثالثة عشر من عمري ، وانشغلتُ بالزوج والأولاد ، ثم توفي زوجي ولي سبعةٌ من الأولاد كانوا صِغَاراً ، تقول : فانشغلتُ بهم ، بتربيتهم وتعليمهم والقيام بشؤونهم ، وحين رَبّتهم وتَقَدمتْ بهم الأعمار ، وتزوج أكثرُهُمْ ، تَفَرَغَتْ هذه المرأة لِنَفْسِها ، وأول ما سَعَتْ إليه أنَّها بدأتْ بحفظ القرآن ، وكانت تُعينها ابنتها في الثانوية ، وكانت المُعلمات يُشجعنَ البنت على حِفْظِ القرآن ، فَبَدَأتْ مع أُمِّها كُلَّ يوم تحفظ عشرة آيات ..(/7)
أمَّا طريقة الحفظ : كانت ابنتها تقرأ لها كل يوم بعد العصر عشر آيات ، ثم تُرددها الأُم ثلاث مرات ، ثم تشرح لها البنت بعض المعاني ، ثم تردد هذه الأم الآيات العشر ثلاث مرات أخرى ، ثلاث ثم تشرح ثم ثلاث ، وفي صباح اليوم الثاني تُعيدها البنت لأُمها قبل أن تذهب إلى المدرسة ، وكانت هذه المرأة الكبيرة في السِّن تستمع لقراءة الحُصَري كثيراً وتُكرر الآيات أَغْلَبَ الوقتْ حتى تحفظ ، فإن حَفِظَتْ أَكْمَلَتْ ، وإن لم تحفظ فإنها تُعاقب نفسها وتُعيد حفظ الأمس ، تُعيده في اليوم مع ابنتها ، وبعد أربع سنوات ونصف حَفِظَتْ هذه الأم اثنا عشر جزءاً ، ثم تزوجتْ البنت ، ولمّا عَلِمَ الزوج بشأن زوجته مع أمها وطريقة الحفظ ، استأجرَ بيتاً بالقُربِ من منزل الأم ، وكان يُشَجِّعُ البنت وأمها ، وكان يَحضُرُ معهن أحياناً ويُفَسِّرُ لَهُنَّ الآيات ، ويستمع لحفظهن ، واستمرتْ هذه البنت مع أمها ثلاثة أعوام أيضاً ثم انشغلت بأولادها هذه البنت ، ثم بَحَثَتْ البنت عن مُدَّرِسَةْ تُكْمِلُ المشوار مع أمها ، فأتت لها بِمُدَرِّسَة ، فَأَتَمَّتْ حفظ القرآن الكريم ، هذه المرأة الكبيرة أَتَمَّتْ حفظ القرآن وما زالت ابنتها إلى إجراء الحوار مع أُمها تواصل الحفظ حتى تلحق بالأم الكبيرة في السِّنْ ، وقد حَفِظتْ القرآن بعد أكثر من عشر سنوات ، أمَّا النِّساء حولها فَتَأَثرنَ بها ، فبناتها وزوجات أبناءها تَحَمَّسْنَ كثيراً وكُنَّ دائماً يضربنَ المثل بهذه الأم العجيبة ، وبَدَأْنَ بحلقة أسبوعية في منزل الأم للحفظ ، فصارت هي العالِمة بينهُنْ ، أو الحافظة بينهُنْ ...
وقد أَثَّرتْ هذه المرأة بحفيداتها ، فكانت تُشجعُهُنَّ بالإلتحاق بحلقات التحفيظ ، وتُقدم لهُنَّ الهدايا المُتنوعة ، أمَّا جاراتها فأول الأمر كُنَّ يُحْبِطْنَ عزيمتها ويُرددنَ إصرارها على الحفظ لِضَعْفِ حِفْظِها ، ولمَّا رأَينَ استمرارها وصبرها ، بَدَأنَ يُشَجِعْنها ، تقول هذه الأم المُربية العجيبة التي حَفِظَتْ القرآن بعد الثمانين : حينما عَلِمَتْ هؤلاء النِسْوة أَنِّي حَفِظْتُ القرآن رَأَيْتُ دُمُوعَ الفَرَحِ منهُنْ ، وهذه المرأة تَسْتَمِعْ كثيراً إلى إذاعة القرآن الكريم ، وتَقْرَأُ في صلاتها السور الطويلة ، بَدَأَتْ بالحفظ وعُمْرَهَا تجاوز السبعين ، ثمَّ لم تكتفي هذه المرأة بحفظ القرآن فقط ـــ بل انْتَقَلَتْ إلى حفظِ الأحاديث النبوية ، فهي تحفظ إلى إجراءِ الحوار (90) تسعين حديثاً ، وتحفظ مع إحدى بناتها ، وتعتمد على الأشرطة ، وتُسَمِّعْ لها ابنتها كل أسبوع ثلاثة أحاديث ، اسْتَمَرَّتْ هذه المرأة أكثر من عشر سنوات في الحفظ ، تقول : أَحْسَسْتُ بِإِرْتِياحٍ عجيب بعد حفظِ القرآن ، وغَابَتْ عَنِّي الهموم والأفكار ، ومَلأْتُ وقْتَ فراغي بطاعة ربي ، اقْتَرَحَتْ عليها بعض النسوة أَنْ تَدخُلَ في دُورِ تحفيظ القرآن ، فَأجَابتْ هذه المرأة وَرَدَّتْ فقالت : إِنِّي امرأةٌ تَعَودتُ على الجُلُوس في البيت ولا أَتَحَمْلُ الخروج ، وتدعُوا كثيراً لإبنتها وتَشْكُرها بأنَّها بَذَلَتْ معها الكثير الكثير ، تقول : وهذا من أَعْظَمِ البِرِّ و الإحْسَانْ ، خَاصَّةً أَنَّ البنت كانت في مرحلة المُراهقة ، التي يشكوا منها الكثير ، فكانت البنت تضغط على نَفْسِهَا وعلى دراستها لِتُفَرِّغَ نَفْسَهَا لِتَعْلِيمِ أُمِّها بِصَبْرٍ و حِكْمَة ، وثُمَّ خَتَمَتْ هذه المرأة الصالحة وقالتْ : لا يأْسَ مع العَزِيمَةِ الصَادِقَة ، ولا يَأْسَ مع قُوةِ الإرادة والعَزمِ والدعاء ، ثُمَّ البداية في حفظِ القرآن ، ثُمَّ قالتْ : والله ما رُزِقَتْ الأُمُّ بِنِعْمَةٍ أَحَبِّ إليها من ولدٍ صالحٍ يُعِنُها على التَقَرُّبَ إلى الله عز وجل .
صَدَقَ الشاعِرُ حينَ قال :
بَصُرْتُ بِالرَّاحَةِ الكُبْرى فَلَمْ أُرَها *** تُنَالُ إلاَّ على جِسْرٍ مِنَ التَعَبِ
القصة السابعة والعشرون :
مُعلِمةٌ ماتت ، تُوفيت إحدى المُعَلِّمَاتْ الدَّاعِياتْ مَعَ زَوجِهَا في حَادِثْ ، وكَتَبَتْ عَنْها بعض الطَالِبَاتْ ، بعض المَقَالاتْ في إِحْدَى الصُحُفْ ، فَمِنْ ذَلِكَ قالتْ إِحْدَاهُنْ : رَحِمَكِ الله أُسْتَاذَتِي ، جَعَلْتِ جُلَّ اهتِمَامَكِ الدعوة ، وجَعَلتِ نَصْبَ عينيكِ إيقاظُ القُلُوبِ الغافِلَة ، فَأَنْتِ المَنَارُ الذي أَضَاءَ لنا الطريق ، لَنْ يَنْسَاكِ مُصَلَّى المدرسة ، لكن سَيَفْقِدُ صَوتَكِ العَذْبْ ، وكَلامَكِ الرَّصِينْ ، والقِصَصَ الهادِفَة التي تَأْتِينَ بها ، والمَواعِظَ الحَسَنَة ، ولَنْ أَنْسى جُمُوعَ الكَلِمات التي تَصْدُرُ منها ، ولن أنسى المُعلمات ولا الطالبات اللاتي يُسْرِعْنَ لِحُضُورِ درسَكِ في وقْتِ الإِسْتِراحة ، فَسَتَبْقَى كَلِمَاتُكِ ونَصَائِحُكِ مَحْفُوظَةً في جُعْبَتِي لن أَنْساها ما حييتْ .
لا تُنكِروا أَثَرَ الكَلامِ فَإِنَّه ُ أَثَرٌ عَجِيبٌ في النُفُوسِ مُجَرَّبُ(/8)
ومَهْما كَتَبْتُ أو دَوّنْتُ فَلَنْ أَصِلَ إلى نِصْفِ ما بذلتيه لنا .
وقالت طالبةٌ أخرى عن هذه المعلمة : ما زَالَتْ كَلِمَاتُها في قلبي إلى الآن ، لمّا قالت لي ناصحةً لي : إنَّ للإيمانِ طَعْمَاً حُلْواً لَنْ يَتَذَوقْهُ إلاَّ مَنْ أَطَاعَ الله عز وجل . مازالتِ القِصَصْ التي قُلْتِيها في قلبي ووجداني ، لقد رأيتُها في المنام قبل وفاتها ، سَمِعْتُ صوتاً حول هذه المُعَلّمَة يقول : هذه المرأة على طريقِ العُلَمَاءْ ، تقول هذه الطالبة : فلمّا أَخْبَرتُها تَبَسْمَّتْ . ـــ رَحِمها الله ـــ على ما بذلته من أعمال الخير .
القصة الثامنة والعشرون :
تقول الفنانة التائبة سُهير رمزي : لأول مرة أذوقُ طعم النوم ، قريرةَ العين ، مُطْمَئِنَةَ البَالْ ، مُرتَاحةَ الضمير ، وأمّا سبب هدايتها فعجيب : ــ كانت قبل أن تتحجب ، ولمّا كانت تُزاولُ الفَنْ ، حَضَرتْ على مركزٍ لِتَعْلِيمِ القرآن ، ولإجتماع الدُعاة والداعيات في مصر ، وكان هذا المركز بِمَالِ إحدى التائبات من الفنانات ، وهي ابنة الشيخ الحُصَرِي ــ رحمه الله ــ تقول : إنَّ هذه الفنانة التائبة أو المُمَثلة التائبة ، لمّا تابت أقامت هذا المركز وجعلت شيئاً من الوقف لأبيها المُتَوفَّى القاريء الحُصَرِي ــ رحمه الله ــ وثَبَّتَ ابنته على الحق والخير ، تقول : كانت هذه الشَابَّة البَارَّة بأَبيها ــ رحمه الله ــ تُحْضِر بعض الدُعاة ، فَحَضر أحدُ الدُعاة ، لبعضِ النِّسْوة وكانت هذه ( سُهير رمزي ) حاضِرة بين النساء ، وهي غير مُتَحجِّبة ، تقول : أَوّل ما بدأ المُلقي يتكلم ، تَكَلَّمَ وقال : إنَّ تسعةً وتسعين من أشراطِ الساعة الصُغْرى قد ظَهَرتْ ، وإنَّ هذه الزلازل التي نَراها في العالم إنَّها تُؤْذِنُ بِقُربِ القيامة الكُبرى .
ثُمَّ تلا قول الله تعالى : {إذا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَالَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهْ} [ سورة الزلزلة ] .
تقول : فلم أتمالك نفسي وبكيتُ كثيراً كثيراً ، وعَرفْتُ أنِّي ضائعةٌ تائهة ، ثُمَّ أسندتُ رأسي على كَتِفِ أمي وقلت : إنِّي أُعْلِنُ الرجوع إلى الله عز وجل ، ثُمَّ لمّا تَابَتْ تقول : لأول مرة أذوقُ طعم النوم ، قريرةَ العين ، مُطْمَئِنَةَ البَالْ ، مُرتَاحةَ الضمير .
القصة التاسعة والعشرون :
منى عبد الغني ، فنانةٌ سابقة ، أَعْلَنَتْ توبتها إلى الله عز وجل ، لَبِسَتْ الحجاب ، وطالَبَتْ وسائل الإعلام ألاَّ تُخْرِجُ شيئاً من أغانيها ولا صورها ، تقول أمّا بداية هدايتي فقالت : كنتُ أُفَكِّرُ دائماً لو جاء الموت إليَّ وأنا على هذه الحال ، وأنا غير مُستعدة للقاء ربي ، فماذا أفعل ؟ وكُنتُ أصحوا فَزِعَةً من النوم أحياناً ، لأُحاسبَ نفسي بشدة ، أُريدُ جواباً لهذا السؤال ؟ أُريدُ تطبيقاً لهذا السؤال ؟ قالت : كانت أخواتي يرتدين الحجاب ، وعائلتي مُتَدَينَةْ ، وأخي ممدوح ــ رحمه الله ــ يُلِحُّ عليَّ دائماً بأن ألبس الحجاب ، لا تُنكرُ أثر الكلام تقول : قبل وفاته بأربعين يوماً كان يُحضِرُ لها الأشرطة الدينية ، والمواعظ عن الموت وعن الآخرة ، وبعد الحج رجع إلى مقرِّ عمله في باريس ، ومات وهو ساجد ، نسألُ الله من فضله ، فلمّا مات تقول : أفَقْتُّ من هذا السُباتِ العظيم ، وأَفَقْتُ على هذا النور الذي بَزَغَ لي وسَطَ الظلام ، وقبل أن يُوارى جُثْمَانُ أخي قررتُ ارتداء الحجاب واعتزال الفن ، بعد ذلك تَحَسَّنَتْ أَحْوالَهَا مع الله عز وجل ، وأَقْبَلَتْ عليه بالعبادات ، وتَرَكَتْ العمل في معهد المُوسِيقى ، وتَفَرَّغَتْ لابنتها ، لِتَربيتها تربيةً صالِحة ، وتقول : لَنْ أَعُودَ لِلْفَنِّ مهما كانت المُغْريات ، وأقول أخيراً : والكلام لها : ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذ هديتنا .
وأمّا أخوها ممدوح ــ رحمةُ الله عليه ــ فَيَحْسُنُ أَنْ يُقالُ عنه ما قال الشاعر :
يا رُبَّ حيٍ رُخَامُ القبرِ مَسْكَنَهُ *** ورُبَّ مَيْتٍ على أَقْدامِهِ انْتَصَبَا
القصة الثلاثون :
امرأةٌ أخرى تتمنى أنَّها إذا دَخَلَتِ الجَنَّة ، أَنْ تَجْلِسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، وتُصَلِّي وتَعْبُدُ الله عز وجل ، لِحُبِّها للصلاة وتَعَلُقِها بها .
أَشْرِقِي يا مَعْدَنَ الطُهْرِ الثَمِينْ دُرَّةً بالحَقِّ غَرَّاءَ الجَبِينْ
شُعْلَةً تُوقِظُ في أَرْواحِنَا خَامِدَ العَزْمِ وأَنْوارَ اليَقِينْ
يا ابْنةَ الإِسْلامِ يا نَسْلَ الهُلى سََطَّروا الأَمْجَاد بِالفَتْحِ المُبِينْ
فَتَّحُوا الأَقَفَالَ في وجْهِ الضُحى أَسْعَدُوا الإِنْسَانَ في دُنْيا و دِينْ(/9)
فَجَّروا تِلْكَ الينَابِيع التي تَسْتَقِي مِنْهَا قُلُوبُ المُؤمِنِين
أَبْشِرِي يا أُخْتُ بالفَجْرِ الذي سَوفَ يأْتِي في عُيونِ القاَدِمين
مُحْصَناَتٍ في خدُوُرٍ زُودَتْ بِالتُقَى و الخلُقِ البَرِّ الثَمِينْ
امْلَئِي الأَرْضَ سَلامَاً وآ سَلام وازْرَعِي الدُنْيا ورُودَ اليَاسَمِينْ
أَنْتِي يا أُخْتَاه إِشْراقَ المُنَى فَاصْعَدِي العَلياءَ بِالدِينِ الحَصِينْ
كُلُّ مَا نَرجُوهُ يا ذَاتَ الضِياء أَنْ تَكُونِي شَرَفَاً في العَالَمِين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . . .
................................................................
............................
الصوت الإسلامي(/10)
مواقيت الحج
الحمد لله الذي افترض حج بيته الحرام على عباده؛ فشدوا إليه رحالاً، ودعاهم لقربه فما استبعدوا في حبه بعيداً، ولا استهولوا أهوالاً، وفارقوا في حبه ورضاه أهلاً ومالاً، ورفرفت قلوبهم تنشر أشواقاً وتطوي رمالاً:
روح دعاها للوصال حبيبها فسعت إليه تطيعه وتجيبه
يا مدعي صدق المحبة هكذا فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه
وصلى الله وسلم وبارك على خاتم أنبيائه، وعاقِب رسله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين(1). أما بعد:
المواقيت:
المواقيت جميع ميقات وهو في اللغة: الحد. وفي الاصطلاح: هو موضع العبادة وزمنها. قال تعالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}(103) سورة النساء.
واعلم أيها الحاج الكريم أن المواقيت بالنسبة للحج والعمرة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المواقيت المكانية: وهي خمسة بتوقيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع اختلاف في ذات عرق هل هي بتوقيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو هي بتوقيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. فإن كان الأول فالمواقيت التي وقتها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تكون خمسة، وإن كان الثاني فهي أربعة، وإليك بيانها جميعاً:
الأول: ذو الحليفة: وهو ميقات أهل المدينة، ومن أتى على طريقهم، ويسمى الآن أبيار علي وتبعد المسافة بين ذي الحليفة ومكة 420 كليو متراً، فهو أبعد المواقيت عن مكة.
الثاني: الحجفة: هي ميقات أهل الشام وهي قرية خراب تلى رابغ مما يلي مكة، والناس اليوم يحرمون من رابغ، وتبعد عن مكة 186 كليو متراً، ويحرم منها أهل شمال المملكة العربية السعودية ممن يأتي عن طريق الساحل، وساحل المملكة الشمالي إلى العقبة، ويحرم منها بلدان إفريقيا الشمالية والغربية، وأهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ردها الله إلى أيدي المسلمين إنه سميع قريب.
الثالث: قرن المنازل: هو ميقات أهل نجد ومن أتى على طريقهم من الجهة الشرقية، كأهل الخليج العربي وغيرهم ممن يمرون على هذا الميقات، ويسمى اليوم (السيل الكبير) ويبعد عن مكة 78 كيلو متراً، ومثله وادي محرم الواقع في الهدى في الجهة الغربية من الطائف، فهو ميقات نصاً، لا محاذاة، وقد صدرت الفتوى باعتباره ميقاتاً نصاً لا محاذاة من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله، وسبب كونه ميقاتاً نصاً هو أن وادي محرم يعتبر هو ابتداء السيل الكبير، ويشمل وادي محرم الذي في طريق الهدى بالطائف، أيضاً والله أعلم.
الرابع: يلملم:وهو ميقات أهل اليمن، وهو واد عظيم ينحدر من جبال السراة إلى تهامة ثم يصب في البحر الأحمر، ويبعد عن مكة مسافة 120 كيلو متراً.
الخامس: ذات عرق: هي ميقات أهل العراق وتقع عن مكة شرقاً بمسافة قدرها 100 كيلو متراً، وهي الآن مهجورة لعدم وجود الطرق عليها، وقد اختلف في ذات عرف هل هي ميقات بنص النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو هي ميقات على سبيل المحاذاة حيث ورد ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- موقوفاً عليه وتكون بهذا الاعتبار محاذية لقرن المنازل ( السيل الكبير).
والأظهر والأقرب أن ذات عرق ميقات نصاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لثبوت ذلك مرفوعاً، وقد صدر في الوقت الحاضر قرار من هيئة كبار العلماء بتعيين ذات عرق وتحديد موقعها، وجميع هذه المواقيت وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)(2).
وقد جمع بعض الفضلاء هذه المواقيت في شعر:
عرق العراق يلملم اليمن وذو الحيفة يحرم المدني
والشام حجة إن مررت بها وأهل نجد قرن فاستبن
ومن كان أقرب إلى مكة من هذه المواقيت فإن ميقاته مكانه الذي هو فيه فيحرم منه، وأهل مكة يحرمون من مكة للحج والعمرة، فإنهم يحرمون من أدنى الحل، كما هو رأي جمهور أهل العلم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تحرم لعمرتها من التنعيم.
ومن كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت، فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، ومن كان في طائرة أو سفينة فإنه يحرم كذلك إذا حاذى الميقات، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات فإذا حاذاه أحرم بما يريد من نسك، ولا يجوز تأخير الإحرام إلى أن يتجاوز الميقات(3).
القسم الثاني من المواقيت: المواقيت الزمانية
وتبتدئ المواقيت الزمانية بدخول شهر شوال، وتنتهي إما بعشر ذي الحجة، أو بيوم العيد أو بآخر يوم من أيام ذي الحجة وهو القول الراجح لقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}(197) سورة البقرة. وأشهر جمع، والأصح في الجمع أن يراد به حقيقته.(/1)
ومعنى هذا الزمن: أن الحج يقع في خلال هذه الأشهر الثلاثة وليس يفعل في أي منها، فإن الحج له أيام معلومة، إلا أن مثل الطواف السعي إذا قلنا بأن شهر ذي الحجة كله وقت للحج فإنه يجوز للإنسان أن يؤخر طواف الإفاضة وسعي الحج إلى آخر يوم من شهر ذي الحجة، ولا يجوز أن يؤخرها عن ذلك اللهم إلا لعذر، كما لو نفست المرأة قبل طواف الإفاضة، وبقي عليها النفاس حتى خرج ذي الحجة، فهي إذن معذورة في تأخير طواف الإفاضة.
هذه هي المواقيت الزمانية للحج، أما العمرة فليس لها ميقات زمني؛ فإنها تفعل في أي يوم من أيام السنة، لكنها في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها أيضاً في أشهر الحج لها مزية وفضل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشهر لها.
مسألة: حكم الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج:
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج، فمنهم من قال: إن الإحرام بالحج قبل أشهره ينعقد ويبقى محرماً بالحج، إلا أنه يكره له أن يحرم بالحج قبل أشهره، ومنهم من قال: إنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره فإنه لا ينعقد ويكون عمرة أي يتحول إلى عمرة؛ لأنه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دخلت في الحج)(4).
مسألة: حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام:
من تجاوز الميقات بدون إحرام فلا يخلو من حالين: أحدهما: أن يكون مريداً للحج أو العمرة، فحينئذٍ يلزمه أن يرجع إليه ليحرم منه بما أراد من النسك، فإن لم يفعل فقد ترك واجباً من واجبات النسك، وعليه عند أهل العلم فدية دم يذبحه في مكة، ويوزعه على الفقراء هناك.
الثاني: إذا تجاوزه وهو لا يريد الحج والعمرة، فإنه لا شيء عليه، سواء طالت مدة غيابه عن مكة أم قصرت. وذلك لأننا لو ألزمناه بالإحرام من الميقات لمروره هذا، لكان الحج يجب عليه أكثر من مرة أو العمرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، وما زاد فهو تطوع. وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم فيمن تجاوز الميقات لا يريد الحج والعمرة.
الإحرام:
حقيقته الدخول في الحرمة، والمراد هنا نية الدخول في النسك من حج أو عمرة، أو الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها. وإذا تم الإحرام لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به، فإن أفسده وجب قضاؤه، وإن فاته الوقوف بعرفة أتمه عمرة، وإن أحصر أي منع عن إكماله، ذبح هدياً وقضاه. ولا خلاف في أنه إذا نوى حجاً أو عمرة، وقرن النية بقول أو فعل من خصائص الإحرام، يصير محرماً بأن لبى ناوياً به الحج، أو العمرة، أو بهما معاً. ولا يصح الإحرام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات))(5) ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة.
ومحل النية القلب، والإحرام: النية بالقلب. والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما نواه؛ لما روى أنس-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:( لبيك بحجة وعمرة)(6) ولأنه إذا نطق به كان أبعد عن السهو. والأفضل أن يعين المحرم ما أحرم به من حج أو عمرة، أو هما معاً فالتعيين أفضل من الإطلاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين، فقال فيما روته عائشة رضي الله عنها:(من شاء أن يهل بحج وعمرة فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل).(7) وأما مكان الإحرام فهو المسمى بالميقات، وزمان الإحرام هو وقت الحج والعمرة، وقد ذكرنا ذلك قبل قليل.
وأما ما يفعله مريد الإحرام فإنه:
أولاً: يغتسل تنظفاً، أو يتوضأ، والغسل أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه، ولأنه أتم للنظافة ويستحب التنظف بإزالة الشعث وقطع الرائحة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظافر، وحلق العانة، وترجيل الشعر؛ لأن الإحرام أمر يسن له الاغتسال والطيب.
ثانياً: يتجرد من المخيط، ويلبس ثوبين نظيفين: إزاراً ورداءً جديدين ثم مغسولين ونعلين لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من العقبين)(8).
ثالثاً: يتطيب في بدنه قبل الإحرام عند الجمهور، لا في الثوب لأنه مباين له.(/2)
رابعاً: يرى جمهور أهل العلم باستحباب صلاة ركعتين بعد الإحرام .. وبعض أهل العلم لا يرى مشروعيتها لعدم وجود دليل واضح عليها قال الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله الشيخ: (أما ركعة الإحرام وهما الركعتان اللتان يصليهما من أراد الإحرام فإنهما غير مشروعتين لأنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أن للإحرام صلاة تخصه وإذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام مشروعيتهما فإنه لا يمكن القول بمشروعيتهما إذ أن الشرائع إنما تتلقى من الشارع فقط ولكنه إذا وصل إلى الميقات وكان قريباً من وقت إحدى الصلوات المفروضة فإنه ينبغي أن يجعل عقد إحرامه بعد تلك الصلاة المفروضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة كذلك لو أراد الإنسان أن يصلي سنة الوضوء بعد اغتسال الإحرام وكان من عادته أن يصلي سنة الوضوء فإنه يجعل الإحرام بعد هذه السنة..).
خامساً: التلبية إذا استوى على راحلته وأخذ في المشي لما روى البخاري عن أنس: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ركب راحلته، واستوت به أهلَّ)(9) ويستحب إكثار التلبية، ورفع الصوت بها أثناء إحرامه إلا النساء وصيغة التلبية:(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)(10) ويقطع التلبية عند الجمهور عند ابتداء الرمي لجمرة العقبة يوم العيد بأول حصاة يرميها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يزل ملبياً حتى رماها،(11) ولأنه يتحلل بالرمي أما المعتمر فيقطع التلبية عند الشروع بالطواف(12).
محظورات الإحرام:
وأما محظورات الإحرام فهي الأشياء المحرمة في الإحرام بسبب الإحرام وتتلخص فيما يأتي:
1. إزالة الشعر من الرأس بحلق أو غيره، وألحق جمهور العلماء به شعر بقية الجسم.
2. إزالة الظفر من اليدين أو الرجلين وقد ألحقه جمهور العلماء بالشعر بجامع الترفه.
3. استعمال الطيب بعد الإحرام في البدن أو الثوب أو المأكول أو المشروب.
4. لبس القفازين.
5. المباشرة لشهوة. وفدية هذه المحظورات الخمسة على التخيير كما ذكره الله تعالى في القرآن في حلق الرأس، وقس عليه الباقي، فيخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، ويوزع الطعام والشاة على المساكين، إما في مكة أو في مكان فعل المحظور.
6. الجماع في الفرج: وإذا وقع الجماع في الحج قبل التحلل الأول ترتب عليه أربعة أمور:
أولاً: فساد النسك الذي وقع فيه الجماع.
ثانياً: وجوب المضي فيه.
ثالثاً: وجوب قضاءه في العام القادم.
رابعاً: فديه وهي بدنة ينحرها ويفرقها على المساكين في مكة أو في مكان الجماع.
7. عقد النكاح: وليس فيه فدية، ولكن النكاح يفسد، سواء كان المحرم الزوج أو الزوجة أو الولي أو وكيله فيه.
8. قتل الصيد البري المتوحش وعليه جزاؤه، وهو ذبح مثله، يفرقه على فقراء الحرام، أو يقومه بطعام يفرقه على فقراء الحرم، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً. وهذه المحظورات الثمانية حرام على كل محرم ذكراً كان أم أنثى. ويختص الذكر بالمحظورين التاليين:
أولاً: تغطية الرأس بملاصق، فأما غير الملاصق كالخيمة وسقف السيارة والشمسية فلا بأس به.
ثانياً: لبس المخيط، وهو كل ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه، أو عضو من أعضائه كالقميص والسراويل والخفين. فأما الإزار أو الرداء المرقع فلا بأس به، وكذلك لا بأس بلبس الخاتم والساعة ونظارة العين، وسماعة الأذن، ووعاء النفقة ونحوها.
وفديه هذه المحظورات الخاصة على التخيير كفدية الخمسة السابقة.
أخيراً: حكم فاعل محظورات الإحرام: لفاعل المحظورات السابقة ثلاث حالات:
الأولى: أن يفعل المحظور بلا حاجة ولا عذر، فهذا آثم وعليه فديته.
الثاني: أن يفعله لحاجة، فليس بآثم وعليه فديته، قال تعالى:{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}(196) سورة البقرة.فلو احتاج لتغطية رأسه من أجل برد أو حر يخاف منه جاز له تغطيته وعليه الفدية على التخيير كما سبق.
الثالث: أن يفعله وهو معذور بجهل أو نسيان أو إكراه أو نوم، فلا إثم عليه ولا فدية لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}(286) سورة البقرة.ولكن متى زال العذر فعلم بالمحظور أو ذكره أو زال إكراهه، أو استيقظ من نومه وجب عليه التخلي عنه – أي المحظور- فوراً.13
وبهذا نكون قد ذكرنا المواقيت و الإحرام وما يتعلق به والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
1- من مقدمة الرياض النضرة لسيد حسن عفاني.
2 -رواه البخاري كتاب الحج باب مهل أهل الشام برقم (1454).
3- المنهاج للمعتمر والحاج للشريم ص(53-55).
4 -أخرجه مسلم كتاب الحج باب جواز العمرة في أشهر الحج برقم (1241).
5- البخاري ومسلم.(/3)
6- رواه مسلم، كتاب الحج باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة برقم (1232)، قيل: وقع الاشتباه لأنس، لا لمن دونه في القران بين الحج والعمرة.
7- متفق عليه.
8- رواه أحمد في مسنده وقال شعيب الأرنؤوط:صحيح دون قوله"من العقبين"فشاذ. والمشهور"من الكعبين رجاله ثقات رجال الشيخين(2/34).
9- أخرجه البخاري كتاب الحج باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح برقم(1471).
10 -البخاري ومسلم .
11- البخاري ومسلم .
12- الفقه الإسلامي وأدلته الجزء الثالث.
13- من كتاب صفة الحج للشيخ ابن عثيمين ص(65-69).(/4)
موانع استجابة الدعاء ... ...
هيثم جواد الحداد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- قد لا نرى إجابة لكثير من دعائنا وقد وعدنا إجابته. 2- النصر تتعدد صوره. 3- صور إجابة الدعاء كما بينها . 4- من موانع إجابة الدعاء وقوع كثير من المسلمين في الظلم وفشوه بينهم. 5- الله يمهل ولا يهمل. 6- فضل العشر من ذي الحجة والمبادرة فيها إلى الطاعات. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
وبعد، فقد تحدثنا في خطبة سابقة عن أثر الدعاء في رفع الظلم، وفي هذه الخطبة نتحدث عن أمر هام آخر لا بد أنه تلجلج في صدور كثير من المسلمين، لا سيما الذين أقاموا أصلابهم وقت الأزمة يدعون بالهلاك والدمار على هؤلاء الظالمين الذين طغوا وتجبروا، وقتلوا النساء، وشردوا الأطفال، وذبحوا الشيوخ، وقهروا الرجال، يتسائل أولئك الإخوة لسان حالهم يقول: لقد دعونا كثيراً، وطلبنا النصر من الله فلم نر النصر يتنزل على إخواننا، ولا تحقق لنا، ولم نر الدمار حاق بأولئك الذين طالما دعونا عليهم بالهلاك، ولم نشاهد الهزيمة نزلت على أولئك الأعداء.
يتساءل هؤلاء، فمن معلن لهذا التساؤل صريحاً، ومن كاتم له بين جوانب صدره، وثنايا فكره.
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد لنا من بيان أمرين اثنين، يتضح بهما ما إذا كان هذا السؤال في محله، وأنه يحمل إشكالاً حقيقياً يحتاج إلى جواب.
الأمر الأول: نحن لا نوافق على أن النصر لم يتنزل، وأن الهزيمة لم تحق بالإعداء، إنه من الخطأ بل من أكبر الخطأ أن نحصر النصر على العدو، في نصر ذو طبيعة واحدة هي الطبيعة العسكرية، في زمان محدد ومكان محدد، إن اختزال طبيعة الانتصار في تلك المعاني الضيقة، ضيق في الأفق، وسطحية في التفكير، فكم من هزيمة عسكرية في معركة من المعارك كانت سبباً في حياة الشعوب، وانتصار الأمم، إن اليقظة العارمة التي تجتاح أفراد الأمة، وقطاعاتها المتنوعة، التي تولد في أتون الضربات الموجعة التي تلقتها الأمة، مكسب يمهد الطريق لكسب الجولة النهائية، وإن خسرت جولة أو جولات، وإنما الحرب كَرٌ وفر، ولعل الله ييسر لنا الحديث بالتفصيل عن حقيقة النصر، في خطبة قادمة.
وعليه فقد يكون ما يجري إنما هو مراحل في طريق النصر النهائي، الذي لا ندري متى يأتي، وليس بالضرورة أن نراه نحن، هؤلاء الصحابة الذين هم خير هذه الأمة، وأفضل المجاهدين، استشهد كثير منهم في بدايات الإسلام.
هذا ياسر والد عمار استشهد صبراً في أشد الأوقات وأصعبها،، وشاهده الصحابة وهو يقتل قبل قبل أن يرى وميض فجر الإسلام يلوح، ثم يقتل أولئك الذين شاهدوا هذا الموقف، فهل قال الذين رأوا هذا القتل والتشريد ولم يعلموا ما الله مخبئه عنهم من نصر بعد حين، هل قالوا: حرمنا النصر، منع عنا العز، لِم هذا القتل والتشريد، لم هذا الاستذلال والاستضعاف، أين نصر الله؟؟
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
عباد الله، ولا بد لنا من أن نبين بعض الحقائق حول استجابة الدعاء، قبل بيان أسباب عدم استجاب الدعاء، أو أسباب تأخيرها.
فأول هذه الحقائق حول الدعاء، أن الله عز وجل تكفل باستجابة من دعاه، هذا على وجه العموم، قال الله جل وعلا: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
ثانياً: إن استجابة الدعاء لا تعني فقط استجابة الله جل وعلا لما طلبه الإنسان مباشرة، بل قد تكون الاستجابة بطريق أخرى، أخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي قال: ((ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها)) قال الرواي: إذا نكثر، قال الرسول: ((الله أكثر))[1].
قال ابن حجر: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه.
تفتح أبواب السماء ودونها إذا قرع الأبواب منهن قارع
إذا أوفدت لم يردد الله وفدها على أهلها، والله راء وسامع
وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن مالله صانع
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْالنبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لي فَيَسْتَحْسِرُ ـ أي فينقطع عن الدعاء ويتركه ـ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ)).(/1)
قال شراح الحديث: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْأَم فَيَتْرُك الدُّعَاء فَيَكُون كَالْمَانِّ بِدُعَائِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَتَى مِنْ الدُّعَاء مَا يَسْتَحِقّ بِهِ الْإِجَابَة فَيَصِير كَالْمُبْخِلِ لِلرَّبِّ الْكَرِيم الَّذِي لَا تُعْجِزهُ الْإِجَابَة وَلَا يُنْقِصهُ الْعَطَاء.
قالوا: وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَدَب مِنْ آدَاب الدُّعَاء, وَهُوَ أَنَّهُ يُلَازِم الطَّلَب وَلَا يَيْأَس مِنْ الْإِجَابَة لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْقِيَاد وَالِاسْتِسْلَام وَإِظْهَار الِافْتِقَار, حَتَّى قَالَ بَعْض السَّلَف: لَأَنَا أَشَدّ خَشْيَة أَنْ أُحْرَم الدُّعَاء مِنْ أَنْ أُحْرَم الْإِجَابَة[2].
حدث بعض الإخوة: فقال لا أعلم لي دعوة كنت جاداً فيها، ملحاً فيها، إلا واستجيبت لي، ثم قال وليس ذلك من زيادة قرب من الله، ولا من كثرة عبادة ولا زهد، بل ولا أظن ذلك علامة صلاح في نفسي، فأني أعلم أني لست من الصالحين، ليس ذلك من باب التواضع، ثم يتابع فيقول: ولكني ألهمت أن الدعاء سبب لحصول أي شيء أريده منذ صغر سني، فأصبح لدي يقين دائم، ليس في وقت الدعاء، بل في كل وقت، أن الدعاء يحقق لي ما أريد، فكنت كلما أردت شيئاً دعوت الله، حتى أني أدعو الله في أمر أريده سنة أو سنتين، ويتحقق لي ما أريد، يقول: ولست أتحدث بذلك افتخاراً، ولا ليظن بي أحد شيئاً، ولكني أريد تذكير الجميع بأن من اعتقد في الدعاء هذا الاعتقاد، ولازم الدعاء، وجعله له سجية لحصول مطلوبه، فإن الله ولا شك يستجيب له، وإن طال الزمن.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منا كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
قال بعض العلماء: يُخْشَى عَلَى مَنْ خَالَفَ وَقَالَ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، أَنْ يُحْرَم الْإِجَابَة وَمَا قَامَ مَقَامهَا مِنْ الِادِّخَار وَالتَّكْفِير[3].
قال ابن الجوزي[4]: "اِعْلَمْ أَنَّ دُعَاء الْمُؤْمِن لَا يُرَدّ، غَيْر أَنَّهُ قَدْ يَكُون الْأَوْلَى لَهُ تَأْخِير الْإِجَابَة أَوْ يُعَوَّض بِمَا هُوَ أَوْلَى لَهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتْرُك الطَّلَب مِنْ رَبّه فَإِنَّهُ مُتَعَبِّد بِالدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مُتَعَبِّد بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيض".
قال الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
ثالثاً:إن المسلم عليه أن يدعو الله جل وعلا، بصرف النظر عن علمه باستجابة الله له هذا الدعاء مباشرة أو لا، فإن معاني العبادة التي تضمنها الدعاء، قد لا تحصل بغيره، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإمام أحمد: ((من لم يسأل الله يغضب عليه))، وفي الحديث الآخر عند الإمام أحمد كذلك يقول الرسول : ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)).
عباد الله، وبعد هذا البيان نقول، مع عدم مقدرتنا على الجزم بأن الله لم يستجب دعاءنا، فإن ذلك لا يعفينا من عدم التفكير في موانع استجابة الدعاء، لعلنا قد وقعنا في بعضها، فكان ذلك سبباًَ في تأخير إجابة الدعاء وعدم استجابته.
أيها الإخوة، إن موانع استجابة الدعاء كثيرة، ولا يتسع وقت هذه الخطبة إلا لذكر بعضها، وسنقتصر على بعضها التي يغفل عنها كثير من الناس، لاسيما تلك التي تتعلق بتأخير الإجابة على الظالمين.
فأول هذه الموانع: وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين.
عباد الله، لا تظنوا أن الظلم هو ما يمارسه الملوك والأمراء، أو ما تمارسه الأنظمة والحكومات ضد الشعوب، والأفراد، بل إن الأفراد يظلمون، ويتنوع ظلمهم، والله لا يحب الظالمين سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، سواء كان من المسلمين، أو من الكافرين، وكل وضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم، فتخيلوا كم من الظلم نمارسه نحن، ونحن غافلون لاهون.
قال المقريزي: جاءني أحد الصالحين، سنة ثلاث عشرة وثماني مائة، والناس إذ ذاك من الظلم في أخذ الأموال منهم ومعاقبتهم إذا لم يؤدوا أجرة مساكنهم التي يسكنوها حتى ولو كانت ملكاً لهم، بحال شديدة، وأخذنا نتذاكر ذلك فقال لي: مالسبب في تأخر إجابة دعاء الناس في هذا الزمان، وهم قد ظلموا غاية الظلم، بحيث أن امرأة شريفة عوقبت لعجزها عن القيام بما ألزمت به من أجرة سكنها الذي هو ملكها، فتأخرت إجابة الدعاء مع قول الرسول : ((اتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وها نحن نراهم منذ سنين يدعون على من ظلمهم، ولا يستجاب لهم.(/2)
قال المقريزي: فأفضينا في ذلك حتى قال: سبب ذلك أن كل أحد صار موصوفا بأنه ظالم، لكثرة ما فشا من ظلم الراعي والرعي، وإنه لم يبق مظلوم في الحقيقة، لأنا نجد عند التأمل كل أحد من الناس في زماننا وإن قل، يظلم في المعني الذي هو فيه من قدر على ظلمه، ولا نجد أحداً يترك الظلم إلا لعجزه عنه، فإذا قدر عليه ظلم، فبان أنهم لا يتركون ظلم من دونهم، إلا عجزاً لا عفة.
قال المقريزي: ولعمري لقد صدق رحمه الله، وقد قال المتنبي قديماً:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلمُ
هل سمعتم يا عباد الله، هل سمعتم، اسمعوا وتفكروا، وليفتش كل منا عن نفسه، وعن الظلم الذي يمارسه في حياته، ولولا ضيق الوقت لذكرنا بعض صور الظلم التي نمارسها في حياتنا، ولعل الله ييسر ذلك في خطبة قادمة، لكن لعل في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال بعض الصالحين: إن ظللت تدعو على رجل ظلمك، فإن الله تعالى يقول: إن آخر يدعو عليك، إن شئت استجبنا لك، واستجبنا عليك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة، ووسعكما عفو الله[5].
قيل لإبراهيم بن نصر الكرماني: إن القرمطي دخل مكة، وقتل فيها، وفعل وصنع، وقد كثر الدعاء عليه، فلم يستجب للداعين؟ فقال لأن فيهم عشر خصال، فكيف يستجاب لهم، قلت وما هن؟
اسمعوا أيها المؤمنون، اسمعوا أيها الداعون، اسمعوا أيها اليائسون:
قال إبراهيم: أوله: أقروا بالله وتركوا أمره، والثاني: قالوا نحب الرسول ولم يتبعوا سنته، والثالث: قرؤوا القرآن ولم يعملوا به، والرابع: زعموا حب الجنة، وتركوا طريقها، والخامس: قالوا نكره النار وزاحموا طريقها، والسادس قالوا: إن إبليس عدونا، فوافقوه، والسابع: دفنوا موتاهم فلم يعتبروا، والثامن اشتغلوا بعيوب إخوانهم، ونسوا عيوبهم، والتاسع جمعوا المال ونسوا يوم الحساب، والعاشر: نفضوا القبور، وبنوا القصور.
ثانياً: من أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين، ما قاله الله جل وعلا: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42، 43].
قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب : كان أهل الجاهلية يدعون على الظالم، وتعجل عقوبته، حتى إنهم كانوا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، أي أن الظالم تأتيه عقوبته في شهر رجب، كناية عن قرب نزول العقوبة به، قالوا له: ونحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر : هذا حاجز بينهم وبين الظلم، إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة، ولا لفساقها، فإنه تعالى يقول: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]
وقد يكون من سبب تأخير استجابة الدعاء عليهم أن الله عز وجل أراد لهم أشد العذاب، ولما يبلغوا درجته الآن، فيمهلهم الله حتى يبلغوا تلك الدرجة من البغي والطغيان، حتى يستحقوا ذلك الدرك من النار الذي أعده الله لهم.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]
ثالثاً: من أسباب تأخير استجابة الدعاء على الظالمين، أننا نحن الذين نظن أن الاستجابة قد تأخرت لأن الأيام في منظور البشر طويلة، بينما هي في عين الله قصيرة، وقد قال الله جل وعلا: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج:47]---- ولكن يتساءل الناس متى ثم تأتي الإجابة --- وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ [الحج:47، 48].
قال بعض أهل التفسير كان بين دعاء موسى على فرعون، وبين إهلاك فرعون بالغرق أربعون سنة[6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا...
[1] صحيح الأدب المفرد، وهناك روايات أخرى في صحيح الجامع.
[2] فتح الباري.
[3] فتح الباري.
[4] نقله عنه ابن حجر في فتح الباري.
[5] حلية الأولياء.
[6] الطبري عن ابن جريج، والبغوي، وابن الجوزي في زاد المسير. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام، أحمده وأشكره على توفيقه وهدايته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الأمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
وبعد، عباد الله، بين أيدينا أيام فاضلة، يغفل عنها كثير من الناس، وعما فيها من فضل، ومن غفل عن بعض ما فيها من فضل فإنه غافل عن العمل الجاد فيها، وهي من أعظم المواسم التي منحها الله لعباده لتقربوا بها إلى جنابه، وينطرحوا عند بابه، ويالخسارة من يدعوه ملك الملوك إلى كسب ما عنده من أنواع النعم، والملذات التي لا تفنى ولا تبيد ثم هو يفرط فيها ويعرض عنها، ولو دعاه ملك من ملوك الأرض لخدمته مقابل دراهم معدودة، لا تلبث أن تنقضي فإذا هو يسارع إليها مسارعة من يهرب من الموت.
هذه الأيام يا عباد الله هي أيام عشر ذي الحجة، التي تدخل علينا بعد أربعة أيام أو خمسة، في صحيح البخاري عن ابن عباس قال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَ فِي هَذِهِ الأيام، قَال: الصحابة (وَلَا الْجِهَادُ)؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ.
قال ابن رجب رحمه الله: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده[1].
عباد الله، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن أيامها أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، وأن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من لياليها.
وقد أخرج البزار عن جابر بن عبد الله عن رسول الله أنه قال: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر))[2] يعني عشر ذي الحجة وهو حديث صححه الألباني.
ولأجل ما في هذه الأيام من فضل فقد كان السلف الصالح يستثمرون الأوقات فيها بخير عمل، فقد كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر)[3] كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن رجب رحمه الله: "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج".
فمن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة:
1- الصيام وهو لا شك من أفضل الأعمال.
وقد ورد أن النبي كان يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان النبي يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول إثنين من الشهر والخميس " [أخرجه النسائي (4/205) وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/462)].
2- التكبير: في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد، فإن هذا غير مشروع.
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نُقِصوا في تركهم التكبير.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: الْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد".
ويسن الجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى.
ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة.
وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى.
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين.(/4)
عباد الله، ويتأكد الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً، لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله تعالى. فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة، والتوبة النصوح، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وكثرة الاستغفار من الذنوب والمعاصي.
[1] لطائف المعارف.
[2] (البزار) عن جابر. تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1133) في صحيح الجامع.
[3] حلية الأولياء. ... ...
المصدر:موقع المنبر(/5)
موانع الهداية
عبدالرحمن بن يحيى
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، وكان لهما ضدان: الضلال والغضب، أمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين، وطريق الضالين، وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم كل يوم سبع عشرة مرة فرضا عليه، لكن قد تتخلف الإجابة نظرا لضعف الدعاء في نفسه، فإنه ورد عنه وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وقد عرفوه وشاهدوه، وعرفوا صحة نبوته [البقرة:146]، فذكر سبحانه أنهم يعرفون صفات الرسول فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أو أهل الحق الذين اتبعوه - فيه خروج عن داره ووطنه إلى دار الغربة، فيضن بوطنه على متابعة الحق أو الدخول في الإسلام بعد تيقنه، ومن قرأ سيرة سلمان يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.
8- ومن موانع الهداية: من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه، فلما سبقهم الأنصار إليه وأسلموا حملتهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم.
10- ومن موانع الهداية: مانع الألفة والعادة والمنشأ: وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل، وليس مبر أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ. ودين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، والانتتقال عنه كالانتقال من طبيعة إلى طبيعة ثانية، فصلوات الله وسلامه على أنببائه ورسله خصوصا على خاتمهم وأفضلهم محمد إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" [الزخرف:23]، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول تقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جزى به أحدا من العالمين.
أما أسباب الهداية فهي كثيرة جداُ، منها: الدعاء والقرآن والرسل وبصائر العقول، فكما أن للشفاء من المرض أسباباً، فكذلك للهداية أسباب، فالمريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب ويبذل السبب من أجل طلب الشفاء والعافية، وكذا الأمر بالنسبة للهداية وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا هذه الأسباب التي تعمى على القلوب وإن كانت لا تعمى الأبصار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=1 ...(/1)
موقف الأمة من مدعي النبوة
إعداد/ أسامة سليمان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن اللَّه تعالى ختم النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وتلك إحدى العقائد الأساسية في الإسلام التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وهي من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، إلا أن هذه العقيدة تعرضت في القديم والحديث لكيد ماكر من أعداء الأمة الإسلامية بشتى أساليب المكر والخداع، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يُبْعَثَ دجالون كذابون قريبًا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله». رواه البخاري ومسلم، وفي رواية للترمذي وابن ماجه: «إنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي».
وقد باءت محاولات مدعي النبوة بالفشل في القديم وأغلق الباب في وجوههم، وأصبحت قصصهم وأخبارهم تنقل في كتب النوادر- وأخبار الحمقى والمغفلين، بيد أنه في العصر الحاضر وجد ادِّعَاءُ النبوةِ قبولاً عند بعض المسلمين لجهلهم وبعدهم عن شرع ربهم، ونجح الاستعمار وأعداء الدين في استدارج بعض أصحاب الدعوات الباطلة والفرق المنحرفة الكافرة، ومن هذه الفرق الضالة القاديانية والبابية والبهائية وبعض غلاة الصوفية، ومن ثم جاء هذا البحث يبين:
1- أدلة عقيدة ختم النبوة من القرآن والسنة.
2- أقوال سلف الأمة في عقيدة ختم النبوة.
3- موقف الأمة من مدعي النبوة.
4- شبهات ترد على بعض العقول.
5- البهائية الضالة وختم النبوة.
أولا: أدلة عقيدة ختم النبوة من القرآن والسنة
1 ـ قوله سبحانه وتعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب: 40]، يقول شيخ المفسرين الطبري رحمه اللَّه: «ما كان محمد أيها الناس أبًا لزيد بن حارثة، ولا لأحد من رجالكم، وإنه كان رسول اللَّه وخاتم النبيين الذي ختم النبوة فطبع عليها فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة...». ويقول ابن الجوزي رحمه اللَّه: «من قرأ خاتِم بكسر التاء فمعناه: وخَتَمَ النبيين، ومن فتحها فالمعنى: آخر النبيين، وهذا فهم كل المفسرين من سلف الأمة من صدر الإسلام إلى اليوم».
2- قوله جل شأنه: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [الأعراف: 158]، فعموم رسالته صلى الله عليه وسلم من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي فضل بها على غيره من الأنبياء والرسل، يقول الحافظ ابن كثير رحمه اللَّه: «يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل للناس جميعًا الأحمر منهم والأسود والعربي والعجمي: إني رسول اللَّه إليكم جميعًا، وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين ومبعوث إلى الناس كافة». أهـ. ويفهم من عموم رسالته صلى الله عليه وسلم أنها خاتمة الرسالات وآخرها، فلا تحتاج البشرية بعده إلى دين جديد.
3- قوله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3].
وهذا من أكبر نعم اللَّه على عباده، حيث أكمل لهم سبحانه الدين فليسوا بحاجة إلى دين جديد، ولا إلى نبي بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم جعله سبحانه خاتم النبيين وبعثه إلى الثقلين الإنس والجن.
4- قوله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنام ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». [رواه البخاري]
وفي رواية مسلم وأحمد: «وختم به النبيون»، وهذا الحديث قال عنه الإمام السيوطي إنه بلغ حد التواتر، وهو يؤكد عقيدة ختم النبوة ويقررها في نفس المؤمن.
5- قوله صلى الله عليه وسلم : «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات». رواه أحمد وابن ماجه، في روايات أخرى قيل: يا رسول اللَّه، وما المبشرات، قال: «الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له».
6- قوله صلى الله عليه وسلم : «أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب». [رواه البخاري ومسلم]
والعاقب الذي لا نبي بعده.
ثانيًا: أقوال السلف في عقيدة ختم النبوة
1- قال عمر رضي اللَّه عنه: «إن ناسًا كانوا يؤاخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم». [البخاري]
2- قول أنس رضي الله عنه: «كان إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ الأرض ولو بقي لكان نبيًا، ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء». [رواه أحمد في مسنده](/1)
3- زعم مسيلمة الكذاب الشركة في النبوة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فتوجهت إليه سيوف الصحابة رضي الله عنهم: «قتلوا عشرة آلاف من أتباعه واستباحوا دماءهم وأموالهم، وقد جاء في كتابه الذي بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك فإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر ولكنْ قريشٌ قوم لا يعدلون».
[البداية والنهاية لابن كثير 5/51]
4- إجماع الصحابة على أن الوحي قد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم :
5- تهكم الصحابة رضي الله عنهم بالمتنبئين والدجالين الكذابين؛ فعندما طلب خالد بن الوليد رضي الله عنه من أصحاب طليحة الذين أسلموا وحسن إسلامهم أن يُسمعوه مما قال شيئًا قالوا: إنه كان يقول: الحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام».
[البداية والنهاية لابن كثير جـ6 ص318]
ثالثًا: موقف الأمة من مدعي النبوة
بعد أن عرضنا لبعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لعقيدة ختم النبوة، وذكرنا بعض أقوال سلف الأمة حول تلك العقيدة، نعرض لأقوال بعض علماء الأمة لبيان مدى رسوخ تلك العقيدة عند المسلمين عبر العصور إلى اليوم.
1- قال البغدادي رحمه اللَّه: «كل من أقر بنبوة محمد أقر بأنه خاتم الأنبياء والرسل وأقر بتأييد شريعته وامتناع نسخها». [أصول الدين ص162]
2- قال القاضي عياض رحمه اللَّه: «أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده وأخبر اللَّه تعالى أنه خاتم النبيين وأنه أرسل للناس كافة وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص» [الشفا 2/271]
3- قال أبو يوسف - يعقوب بن إبراهيم -: «إذا خرج متنبئ وادعى النبوة فمن طلب منه الحجة يكفر لأنه أنكر النصوص وكذلك لو شك فيه».
4- قال الباقلاني رحمه اللَّه: «ويجب أن يعلم أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الخلق وأن شرعه لا يُنْسَخُ بل هو ناسخ لجميع من خالفه».
رابعًا: شبهات ترد على بعض العقول
ولسائل أن يسأل هل هناك فرق بين النبي والمحدَّث ؟ حيث إن بعض الأحاديث أخبرت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان محدَّثًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون فإن يك في أمتي منهم أحد فإنه عمر»، رضي اللَّه عنه. [رواه البخاري]
والمُحَدِّثُ هو الرجل الصادق الظن الذي يلقى في روعه الشيء فيجري الصواب على لسانه، بيد أن هناك فروقًا بين المحدَّث والنبي، منها:
أن النبي يوحى إليه بوحي يعلم أنه وحي من اللَّه عز وجل، ولا يحتاج للتأكد من صحة ما أوحي إليه بعرضه على وحي سابق، وكذلك النبي معصوم فيما يخبر به عن اللَّه عز وجل.
أما المحدث فرأيه يكون ظنًا لا علمًا، فقد كان عمر رضي الله عنه يقول: «لا يقولن أحد قضيت بما أراني اللَّه، فإن اللَّه عز وجل لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنًا ولا يكون علمًا».
فالمحدث يعرض كلامه على الكتاب والسنة فهما الميزان لصحة ما قال، لذا فإن عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مات أنكر موته، فلما سمع الصديق رضي الله عنه يقرأ: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [آل عمران: 44]، عاد إلى صوابه ورجع عن قوله إلى ما سمع من كتاب اللَّه.
وفي صلح الحديبية قال رضي الله عنه: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به.
وقد يرد على البعض شبهة نزول عيسى عليه السلام وهو نبي، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : «لا نبي بعدي». والجواب: أن عيسى عليه السلام عند نزوله إنما ينزل متبعًا لشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويصلي صلاة المسلمين مأمومًا خلف إمامهم ليبين ذلك المعنى من أول وهلة.
خامسًا: البهائية الضالة وعقيدة ختم النبوة
ومن الفرق الضالة التي شذت عن الصراط المستقيم وتخبطت في ظلمات الجهل والكفر، البهائية حيث ذهب مؤسسها إلى أنه نبي يوحى إليه بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستندًا إلى تفسير للقرآن تفسيرًا باطنًا، وزعم أيضًا أن اللَّه أوحى إليه كتاب الأقدس، وهو عبارة عن أفكار صوفية يهيم بها صاحبها في أودية الخيال، فمن خرافاته في أول الاقدس: «قد ماجت بحور الحكمة والبيان بما هاجت نسمة الرحمن اغتنموا يا أولي الألباب». [الأقدس ص169]
ومن ذلك الهراء قوله: «وقد أخذهم سكر الهوى على شأن لا يرون مولى الورى». [الأقدس ص153](/2)
هذه بعض نصوص الأقدس الذي يزعم صاحبه أنه وحي السماء، ومع وضوح جنونه وشذوذه إلا أنه له أتباعًا يصل عددهم في العالم إلى ستة ملايين، أليس ذلك دليلا على أن الشيطان يعمل في حزبه كيفما شاء وحسبما أراد: إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الو(/3)
?مولد محمد نور يتجدد
?بقلم - الشيخ ضياء الدين أبو احمد
أيها الأخ الحبيب ونحن على أبواب ذكرى المولد النبوي الشريف تعال لنتذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد روت أمه آمنة أنها رأت عند ولادته نورا أضاء قصور الشام ومما رواه أيضا علماء السير من أن أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى قد سقطت وان نار المجوس التي مر عليها ألف عام لم تنطفئ قد انطفأت يوم ولادته صلى الله عليه وسلم .
إخبار وإنذار
وكل ذلك أيها الأخ الحبيب إنذار من الله تعالى لكل ظالم جبار عرف في ذلك الزمان من أن نبي آخر الزمان سيولد وسيظهر الحق على يديه وبدينه وانه رحمة للضعفاء ولليتامى وللمساكين وللتائهين وللحيارى ولعباد العباد كان مولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنذارا لهم علهم يرجعون ويتذكرون وينصرون هذا الرسول الذي هو خاتم النبيين والمرسلين كما قرأوا في كتبهم وكما تناقلت الأخبار فيما بينهم .
وهو كذلك أيها الأخ الحبيب إخبار للمؤمنين الذين كانوا ينتظرون بعثته لحظة بلحظة ليتغير حال العالم الذي ساده الظلم والجرأة على حرمات الله بل وعبادة غير الله ففي ذلك الزمان من الناس من اتخذ من البشر إلها يعبده من دون الله تعالى ومنهم من عبد الشمس ومنهم من عبد الأحجار التي يصنعها بيديه ومنهم من عبد النار ومنهم من كان على الحنيفة السمحاء على ملة ابراهيم عليه السلام ينتظرون نبي آخر الزمان , فكان الإخبار من الله تعالى والإنذار يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سقطت الشرف وانطفأت النار وظهر النور ليضئ قصور الشام وذلك ليثبت المؤمنون على إيمانهم بعدما كفر البعض لما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب وكانوا قبل المولد ( وهم كثر ) يعدون ويهددون ويزمجرون ويدعون إلى عدم الإيمان به لأنه سيسيطر على العالم بالسيف والقتل والدم والتخريب ولكن كانت المفاجأة انه كان رحمة للمخلوقات جميعا فبعد العلم من انه عربي كفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد وتبدلت الدعوة من الإتباع إلى قتل هذا الرسول كما أكد على ذلك بحيرة الراهب .
ذكرى تتجدد
نعم أيها الأخ الحبيب إن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو ذكرى هي من أعظم الذكريات التي تقف عندها البشرية مطاطئة الرأس تواضعا لميلاد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذه الذكرى التي نتعطر بها فى هذه الايام ان نذكر لك أيها الأخ الحبيب أن ذكرى المولد كانت وستبقى إخبارا وإنذارا، فهي اليوم إنذار من الله تعالى لكل من تسول له نفسه بان يعتدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو انه يحكم بغير شرع الله فذكرى المولد تحذره وتنبهه بشرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنبه إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل لقاء الله تعالى.
كما أن ذكرى المولد اليوم إخبار للمؤمنين الذين باتوا يرون الظلم في العالم ويرون ما كان فى أيام الجاهلية الأولى من كفر بالله تعالى إلى معاصي والى إتباع هوى والى ظلم الناس الى عقوق الوالدين الى ترك للصلاة الى حجاب متبرج خطير الى سفور الى بعد عن منهج الله تعالى الى غير ذلك أمور كثيرة لن تطول بإذن الله تعالى ما دمنا نتذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم وما دامت هناك ثلة وطائفة متشبثة بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرى ميلاده إخبار لكل مؤمن أن الأمور ستتغير ولن تبقى على حالها كما وعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إحياء لذكرى المولد
تعال أيها الأخ الحبيب لنقرب وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإتباع والإقتداء والتمسك بشرع الله تعالى الذي جاء به لنتذكر فى يوم مولده سننه وأقواله وتوجيهاته ونعرضها على أنفسنا ولنسأل أنفسنا بعد ذلك :
هل نحن ممن يقومون الليل كما كان؟
وهل نحن ممن يذكرون الله تعالى قياما وقعودا وعلى جنوبهم كما كان؟
وهل نحن ممن يقرأ القرآن كل يوم كما كان؟
وهل نحن ممن يسارعون الى الخير كما كان؟
وهل نحن ممن يصلون الرحم كما كان؟
وهل نحن من يحب الخير للناس وللمسلمين كما كان؟
وهل وهل اسئلة كثيرة , اعرض أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعمالك فهذا والله هو إحياء ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } .(/1)
ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله صلى الله عليه وسلم ..
أما بعد..
لقد كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بشرى عظيمة للبشرية التي ظلت فترة طويلة ترزح في غياهيب الشرك ودياجير الجهل ، وأوحال الجاهلية ، إذ أخرج تعالى به صلى الله عليه وسلم البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الفرقة والشتات إلى الألفة والاجتماع ، ونحن في درسنا هذا إن شاء الله نعيش مع قصة ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما زامنها من أحداث .
عام الفيل:
كان أبرهة الأشرم رمزاً من رموز الكفر والمحادة لله عز وجل وطاغية من طغاة البشر ، بنى كنيسته المسماة بـ ( القليس ) بصنعاء فلم ير مثلها في زمانها ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، و تحدثت العرب بكتاب أبرهة هذا إلى النجاشي، فغضب رجل من النسأة ، من بني كنانة ، فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها قال ابن هشام: يعني أحدث فيها.
ثم خرج ولحق بأرضه ، فلما أخبر بذلك إبرهة قال : من صنع هذا؟ فقيل له : صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك أنك ستصرف إليها حج العرب ، غضب فجاء،فقعد فيها، يريد أنها ليست لذلك أهل. فاستشاط عند ذلك غضب أبرهة وحلف: ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وأمر بالحبشة ، فتهيأت وتجهزت، ثم سار وأخرج معه الفيلة، التي لم تعهدها العرب في الحروب من قبل ، وتسامع بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأو أن جهاده حقاً عليهم، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، ودعا قومه ، ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام ولكنه هزم، وأخذ أسيراً إلى أبرهة ، وواصل أبرهة سيره ،حتى إذا كان بأرض خثعم ، عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي ، في قبيلتي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة وأُخذ له نفيل أسيراً ، فلما نزل إبرهة المغمس ، بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ،وهو يومئذ كبير قريش وسيدها،وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لأهدم هذا البيت ، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به، فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها؟ فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه فقال له: ما أمره به أبرهة ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، وهذا بيت الله وحرمه فإن يمنعه منه ، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك .
فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقاً وأراد منه أن يكلم إبرهة فيه، فاعتذر ذو نفر وقال : وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً أو عشياً؟ ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك إلا أنيساً سائس الفيل صديق لي : فقال : حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال : إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن عليه وانفعه عنده بما استطعت ، فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة بذلك، قال : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، فلما رآه إبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال له الترجمان ذلك . فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك قال إبرهة لترجمانه قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتين بعير أصبناها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه ؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً يمنعه. قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك . فلما انصرف عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :(/1)
لاهم1إن العبد يمنع *** رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم غدواً محالك
إن كنت تاركهم وقبـ *** ـلتنا فأمر ما بدالك
قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ،وهيأ فيله وعبي جيشة ، فلما وجهوا إلى الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بإذنه فقال : أبرك محمود –اسم الفيل- أو ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه . فبرك الفيل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين، ليقم فأبى ، فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ،ووجهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحداً إلا هلك فلما رآهم نفيل قال:
أين المفر والإله الطالب *** والأشرم المغلوب ليس الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك. قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم ,كان مما يعدد سبحانه على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال الله تبارك وتعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول } سورة الفيل وقال تعالى { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } سورة قريش.
هذه من أكبر الحوادث التي سبقت ميلاده صلى الله عليه وسلم ، إن لم تكن أكبرها وقد ذكرناها هنا لنبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد في ذلك العام الذي يسمى عام الفيل .ولينستفيد قبل كل شيء فائدة مهمة وهي أن من حكمة تعالى في كل أزمة ، وفي كل فترة تشتد وطأتها على حملة الرسالة ودعاة الحق وتتلبد سماؤها بغيوم الظلم فأنه سبحانه يخلق من المحنة منحة ، وأنه في الوقت الذي ينظر إليه إلى دينه ودعوته أنها قد محيت أو كادت ، يهيئ لها عوامل التجديد ، ويبعثها صلبة قوية من جديد، ففي العام الذي أراد فيه ركن الكفر وقوة الشر والشرك العظمى - في ذلك الزمان - أن يهدم بيت الله في أرضه ومهوى أفئة المؤمنين من خلقه ، ورمز العبادة والتوحيد في الأرض ، هيئ سبحانه في ذلك العام ميلاد خير البشر ومثبت قواعد التوحيد إلى يوم القيامة ، وأخرج إلى الكون من محا معالم الشرك والوثينية ، فنستفيد من هذه الحادثة وهذا التنسيق الإلهي دعوة لنا لأن نعيد النظر في تعاملات مع الأحداث ، ودعوة لكل من قد تسرب اليأس والقنوط إلى نفوسهم أن ينظروا في فعل الله وإرادته مع خلقه ، فإن له سبحانه من كل فعل حكمة وإرادة لا يجليها لوقتها إلا هو .
يوم الميلاد وحفر بئر زمزم :(/2)
قال ابن إسحاق : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل. من بيت هو أشرف البيوت في قريش وأنفسها ، وقد رأينا منزلة ومكانة جد النبي صلى عليه وسلم عبد المطلب فهو سيد قريش وشريفها ، سادن البيت وحارس الحرم والمدافع عنه والمحافظ على مصالحه ، ولأجل ذلك هيّأ الله له القيام بحفر بئر زمزم بعد أن دفنتها جرهم . وكان أول ما بدئ به عبد المطلب من حفرها ، أنه قال: إني لنائم في الحجر، إذ أتأتي آت فقال: احفر طيبة. قال قلت : وما طيبة ؟ قال : ثم ذهب عني . فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال: احفر برة . قال : فقلت : وما برة؟ قال : ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه ، فجاءني فقال: احفر المضنونة . قال : فقلت : وما المضنونة ؟ قال : ثم ذهب عني .فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر زمزم قال : قلت وما زمزم ؟ قال : لا تنزف أبداً ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم ، عند قرية النمل. فلما بُيّن له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صُدِقَ غدا ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره ، إلى الحفر ، ووجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة . فجاء بالمعول، وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جده، وقالوا : والله لا نتركك تحفر بين وثنيننا هذين اللذين ننحر عندهما ، فقال عبد المطلب لابنه الحارث : ذد عني حتى أحفر ،فو الله لأمضي لما أمرت به . فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، ولم يحفر إلا يسيراً ، حتى بدا له طي البئر، فكبر وعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته ، وما تمادى به الحفر حتى وجد فيها غزالين من ذهب ، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة ،ووجد فيها أسيافاً قلعية وأدراعاً ،فنازعته قريش ذلك، ولجأوا إلى القداح ، لفصل النزاع ، وهو ما اقترحه عبد المطلب ، وكانت القسمة أن للكعبة قدحين وله قدحان ولقريش مثلها ، ثم ضربت القداح ، فخرج اللذان للكعبة على الغزالين ، وخرج اللذان لعبد المطلب على الأسياف والأدراع ، وتخلف قدحا قريش ، عند ذلك تجلت شخصية عبد المطلب وشرفه ونبل سريرته فلم تكن نفسه تتعلق بالحطام الزائل ولذلك ضرب الأسياف باباً للكعبة ،وضرب في الباب الغزالين من الذهب ، فكان أول ذهب حلي به الكعبة فيما يزعمون ، ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج.
ذكر نذر عبد المطلب ذبح ولده:
قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب بن هاشم –فيما يزعمون والله أعلم- قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم : لئن ولد له عشرة نفر ، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة . فلما توافى بنوه عشرة ،وعرف أنهم سيمنعونه ، جمعهم ، ثم أخبرهم بنذره ،ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك فأطاعوه ، وقالوا : كيف نصنع؟ قال : ليأخذ كل رجل منكم قدحاً يكتب فيه اسمه ثم ائتوني به . ففعلوا ثم أتوه ، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة ، وكان هبل على بئر في جوف الكعبة فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره الذي نذر. وكان عبد الله فيما يزعمون أحب ولد عبد المطلب إليه ، وكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى . وعبد الله هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أخذ صاحب القداح ليضرب بها ، قام عبد المطلب عند هبل يدعوا الله ، ثم ضرب صاحب القداح ، فخرج القداح على عبد الله ، فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ، فقامت قريش من أنديتها فقالوا: ما ذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه، فقالت له قريش وبنوه : والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه . لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا ؟!(/3)
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم –وكان عبد الله ابن أخت القوم - والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه : لا تفعل وانطلق به إلى الحجاز، فإن به عرافة لها تابع ، فسلها ، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته ، فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها في خيبر فركبوا حتى جاءوها فسألوها فقالت لهم : فارجعوا إلى بلادكم ، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشراً من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح ، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ،ونجى صاحبكم ، فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا على ذلك ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل فخرج القدح على عبد الله وما زالوا يزيدون عشراً حتى وصلوا إلى مائة من الإبل فخرج القدح على الإبل فقالت قريش ومن حضر : قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب ، فزعموا أن عبد المطلب قال : لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات فخرج القدح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.
قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد عبد الله فخرج به حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً فكان رسول الله أوسط قومه نسباً ، وأعظمهم شرفاً من قبل أبيه وأمه صلى الله عليه وسلم ويزعمون فيما يتحدث الناس والله أعلم أن آمة ابنة وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث : أنها أتيت، حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض، فقولي : أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، ثم سميه : محمداً. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام . ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هلك وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به.
قال ابن إسحاق : يحدد الميلاد: قال : حدثنا أبو محمد بن عبد الملك بن هشام قال : حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن اسحاق: قال : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الاثنين ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل.
وولد بالشعب ، وقيل بالدار التي عند الصفا. قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال : حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت قال : والله إني لغلام يفعة ، وابن سبع سنين أو ثمان ، أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يامعشر يهود ! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له : ويلك مالك ؟! قال :طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت. روى ذلك البيهقي. ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده ، فجاء مستبشراً ودخل به الكعبة ، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد – وهذا الاسم لم يكن معروفاً في العرب وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون. ومولده رحمة للبشرية فقد جعله الله رحمة للعالمين، وبه هدى الناس من الظلال والشرك إلى التوحيد والهداية.
الحمد لله رب العالمين،،،،،،،،،،،،
* المرجع سيرة ابن هشام ، والرحيق المختوم.
--------------
1 - العرب تحذف الألف واللام من (اللهم) وتكتفي بما بقي. فلا هم أصلها : اللهم . انظر الروض الأنف (1/70).(/4)
مَا ملأَ آدمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطنِه
الحمد لله ذو الجلال والإكرام، الحمد لله ذو الفضل والإنعام، أحمده سبحانه حمد الشاكرين، وأشكره شكر الحامدين، الحمد لله الذي أطعم من الجوع، وسقى من الظمأ، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلاً، فلله الحمد من قبل ومن بعد، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي ، وله الحمد بعد الرضى، الحمد لله على نعمه، والشكر له على مننه، الحمد لله فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير البشر-صلى الله وسلم عليه-ما سمعت أذن بخبر، وما اتصلت عين بنظر، وعلى آله وأصحابه الميامين الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض الأكبر . . . أما بعد :
نص الحديث:
وعن أبي كَريمَةَ المِقْدامِ بن معْدِ يكَرِب-رضي اللَّه عنه-قال: سمِعتُ رسول اللَّه-صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- يقَولُ: (مَا ملأَ آدمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطنِه، بِحسْبِ ابن آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبُهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ، فَثلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) .رواه الترمذي وقال: حديث حسن . " أُكُلاتٌ " أَيْ : لُقمٌ(1).
المعنى العام للحديث:
هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، فقد روي أن ابن ما سويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في "كتاب" أبي خيثمة، قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات، سلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التخم، كما قال بعضهم: أصل كل داء البردة(2).
وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب: الحمية رأس الدواء، والبطنة رأس الداء(3).
وقال أيضاً: الذي قتل البرية، وأهلك السباع في البرية، إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام.
وقد ذكر لهذا الحديث سببٌ، فقد روى أبو القاسم البغوي في "معجمه" من حديث عبد الرحمن بن المرقع، قال: فتح رسول الله-صلى الله عليه وسلم-خيبر وهي مخضرة من الفواكه، فواقع الناس الفاكهة، فمغثتهم الحمى، فشكوا إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "إنما الحمى رائدُ الموت وسجن الله في الأرض، وهي قطعة من النار، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان، فصبوها عليكم بين الصلاتين" يعني المغرب والعشاء، قال: ففعلوا ذلك، فذهبت عنهم، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لم يخلق الله وعاءً إذا مُلِئَ شرَّاً من بطن، فإن كان لابدّ، فاجعلوا ثُلُثاً للطَّعام، وثُلثاً للشَّراب، وثُلثاً للرِّيح"(4).
شرح الحديث:
إن الدين الإسلامي الحنيف جاء ليحافظ على الضرورات الخمس، وإن النفس واحدة من هذه الضرورات، بل هي أهمها، فقد جاء الإسلام ليبين للإنسان أسباب هلاك النفس، لكي يكون على علم بما يصح به جسده فيحفظ نفسه، وبما يمرض جسده فيهلك نفسه، وإن هذا الحديث الطبي النبوي جاء ليعالج جسم الإنسان، فيركز على أخطر شيء فيه، ألا وهو البطن، فيأتي الطب الحديث ليتكلم بهذا، فيعترف الأطباء بأن أصل الداء هو ملئ البطن. فيقول الحارث بن كلدة طبيب العرب: الحِمية رأس الدواء، والبِطنةُ رأسُ الداء.
وقال غيره لو قيل لأهل القبور: ما كان سببُ آجالكم؟ قالوا: التُّخَمُ.
فهذا الكلام يدل على أن الطب توصل إلى أن صحة البدن في تقليل الغذاء، وترك التملي من الطعام.
النبي-صلى الله عليه وسلم-يندب إلى التقليل من الأكل:
ندب النبي-صلى الله عليه وسلم-إلى التقليل من الأكل في حديث المقدام، السابق حيث قال: "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه"(5). وفي " الصحيحين" عنه-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (المؤمن يأكل في مِعىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)(6). والمراد أن المؤمن يأكل بأدب الشرع، فيأكل في معى واحد، والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم، فيأكل في سبعة أمعاء.
وندب-صلى الله عليه وسلم-مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار الباقي منه، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (طعامُ الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة)(7).
فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه، وشرب في ثلث، وترك للنفس ثلثاً، كما ذكره النبي-صلى الله عليه وسلم-في المقدام، فإن كثرة الشرب تجلب النوم، وتفسد الطعام(8).
وعن أبي برزة عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:" إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى"(9).
وكان السلف الصالح يندبون إلى التقليل من الأكل فقد جاء أن الحسن البصري قال:"يا ابن آدم كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلث، ودع ثلث بطنك يتنفس لتتفكر.(/1)
وقال المروذي: جعل أبو عبد الله: يعني أحمد يعظم أمر الجوع والفقر، فقلت له: يؤجر الرجل في ترك الشهوات، فقال: وكيف لا يؤجر، وابن عمر يقول: ما شبعت منذ أربعة أشهر؟ قلت لأبي عبد الله: يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع؟ قال: ما أرى(10).
قال محمد ابن واسع : "من قل طعامه، فهم، وأفهم، وصفا، ورق، وإن كثرة الطعام ليقل صاحبه عن كثير مما يريد"(11).
وعن ابن الأعرابي قال: "كانت العرب تقول: ما بات رجل بطيناً فتم عزمه"
وعن أبي سليمان الداراني قال: "إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فلا تأكل حتى تقضيها، فإن الأكل يغير العقل".
وقال أحد العلماء: "كانت بلية أبيكم آدم-عليه السلام-أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة. قال: وكان يقال: من ملك بطنه، ملك الأعمال الصالحة كلها، وكان يقال: لا تسكن الحكمة معدة ملأ".
وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان يقال: قلة الطعم عون على التسرع إلى الخيرات.
وعن إبراهيم بن أدهم قال: من ضبط بطنه، ضبط دينه، ومن ملك جوعه، ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع، قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك"(12).
مرض الجسد من ملئ البطن والعكس:
إن النبي-صلى الله عليه وسلم-لم يكن ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، وإن عهد النبي-صلى الله عليه وسلم- لم تكن فيه أجهزة يستكشف بها الداء، ويوضع له الدواء،ومع ذلك يصف لنا رسول الله الداء والدواء,إن هو إلى وحي يوحى، فصحة الجسد تكمن في التقليل من الأكل كما جاء في الحديث السابق، وكما روي عن الأطباء والعلماء فيقول الحارث بن كلدة طبيب العرب: "الحِمية رأس الدواء، والبِطنةُ رأسُ الداء".
وقد روى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه، فروى بإسناده عن ابن سيرين، قال: قال رجل لابن عمر: ألا أجيئك بجوارش؟ قال: وأيُّ شيء هو؟ قال: شيءٌ يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعتُ منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثرَ مما يشبعون"(13).
وروي عن عمرو بن الأسود العنسي أنَّه كان يدعُ كثيراً من الشبع مخافة الأشر(14).
وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إليَّ سفيان الثوري: إن أردت أن يصحَّ جسمك، ويقلَّ نومك، فأقلَّ من الأكل(15).
وعن الشافعي، قال: ما شبعتُ منذ ستَّ عشرة سنة إلاشبعة اطرحتها؛ لأن الشبع يُثقِلُ البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة(16).
وعن أبي عبيدة الخواص، قال: حتفك في شبعك، وحظك في جوعك، إذا أنت شبعت ثقلت، فنمت، استمكن منك العدو، فجثم عليك، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد.
وعن بعض العلماء قال: إذا كنت بطيناً ، فاعدد نفسك زمناً حتى تخمص(17).
قال لقمان لابنه: "يا بني، لا تأكل شيئاً على شبع، فإنك إن تتركه للكلب، خير لك من أن تأكله"(18)
مرض القلب من ملئ البطن والعكس:
قال ابن القيم-رحمه الله- وهو يتحدث عن مفسدات القلب فيقول من مفسدات القلب: الطعام، ثم يستدرج في ذلك فيقسمه إلى قسمين: الأول ما يفسده لعينه وذاته, والثاني: ما يفسده بقدره: وتعدي حده، كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة البطنة ومحاولتها، حتى يظفر بها. فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها، والتأذي بثقلها، وقوى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم. فالصوم يضيق محاربه ويسد عليه طرقه، والشبع يطرقها ويوسعها. ومن أكل كثيراً شرب كثيراً. فنام كثيراً. فخسر كثيراً. وفي الحديث"ما ملأ آدمي وعاءاً شراً من بطنه"(19).
وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى الغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك(20).
فعن عمرو بن قيس أنه قال:"إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب"(21).
وعن قثم العابد قال: كان يقال: ما قلَّ طعامُ امرىءٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه، ونديت عيناه"
وقال أبو سليمان الداراني: " إن النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورقّ، وإذا شبعت ورويت، عمي القلبُ"(22).
قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: "ثنتان تقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل"(23)
وقال الحسن بن يحي الخشني: "من أراد أن تغزر دموعه، ويرق قلبه، فليأكل، وليشرب في نصف بطنه، قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت بهذا أبا سليمان، فقال: إنما جاء الحديث:" ثلث طعام, وثلث شراب"، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم، فربحوا سدساً"(24).
سئل الإمام أحمد عن قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:" ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس" فقال: ثلث للطعام: هو القوت، وثلث للشراب، هو القوى، وثلث للنفس: هو الروح.(/2)
يحكى أن إبليس-لعنه الله- عرض ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام-، فقال له يحيى: هل نلت مني شيئاً قط؟ قال: لا. إلا أنه قُدِّم إليك الطعام ليلة فشَهَّيته إليك حتى شبعت منه. فنمت عن وردك. فقال يحيى : الله عليَّ أن لا أشبع من طعام أبداً. فقال إبليس: وأنا، لله عليّ أن لا أنصح آدمياً أبداً(25).
فوائد الحديث:
1- السلامة من الأمراض والأسقام؛ لأن أصل كل داء التخم.
2- قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم.
3- قلة الغذاء توجب إنكسار النفس، وضعف الهوى والغضب.
4- كثرة الغذاء توجب قساوة القلب، وضعف الفهم، وقوة النفس والهوى والغضب.
5- قلة الطعام عون للعبد على التسرع إلى الخيرات.
6- قلة الأكل يندي العينان.
7- قلة الطعام ينور القلب.
8- إذا أردت أن يصح جسمك، ويقل نومك، فأقل من الأكل.
وأخيراً:
إن ما قُدم من أحاديث, وأقوال في التقليل من الطعام، وما ينتج عن امتلاء البطن من أمراض للجسد، والقلب، وما يحرمه الإنسان من الخيرات، فإن ذلك لا يمنع الإنسان من أن يشبع أحياناً، كما في حديث جَابِر-رَضِي اللَّه عَنْه-قَالَ:(...فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ : " كُلِي هَذَا، وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ)(26).
فهذا الحديث دليل على أن القوم أكلوا حتى شبعوا، والشبع هنا جائز، لا يقول أحد بكراهته، إلا إذا أدى إلى تخمة تمرض الإنسان، أو تهلكه.
فإذا وصل الطعام إلى درجة فوق الشبع، فإنه يكون مكروهاً؛ لأنه في هذه الحال سيثقله عن أداء العبادة، وعن القيام بحقوق أهله وأولاده، وشؤون بيته وعمله؛ لأنه لا يستطيع الحركة إلا بصعوبة، بسبب الأكل الكثير، وربما كان هناك شيء من التعب جراء الأكل الزائد، وقد جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِي اللَّه عَنْه-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ". فالكفار يأكلون لا يشبعون ولا يذكرون الله-عز وجل-، ولو أن الإنسان دقق في أكل بعض الكفار لوجد فعلاً أنهم يأكلون أكلاً أكثر مما يأكل كثير من المسلمين، وتتعجب أين يذهب هذا الطعام، ليس في طعامهم بركة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(محمد: من الآية12).
أخي الكريم:
إن ديننا يذم الشره، والإكثار من الأكل, ويحثنا على الاكتفاء من الطعام بالقليل، فإن ذلك أفضل للمؤمن، وأليق به؛ لأن القناعة باليسير وبما حضر من أمور الدنيا، هي حال المؤمن، الموقن بأنه في سفر ما يلبث أن يستريح من عنائه، أما شدة الحرص على ملاذ الدنيا من طعام وغيره ، فهي حال الكافر، ولا يليق بالمؤمن أن يتشبه بالكافر، بل يحرم عليه ذلك"(27) .
________________________________________
1 - وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(5675).
2 - البردة: هي التخمة.
3 - زاد المعاد(4/104).
4 - رواه الطبراني في " الكبير" والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/160-161)،
5 - رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(5675).
6 - البخاري(5393). ومسلم(2060).
7 - البخاري(5392)، ومسلم(2058) والترمذي(1820). وليس عندهم" طعام الواحد يكفي الاثنين".
8 - جامع العلوم والحكم (2/475).
9 - مسند أحمد(4/420).وغيره وقال الأرناؤوط : رجاله رجال الصحيح.
10 - المصدر السابق(2/469).
11 - الحلية"(2/315).
12 - جامع العلوم والحكم (2/471).
13 - راجع: كتاب الزهد للإمام أحمد ص(189).
14 - رواه أبو نعيم في " الحلية"(5/156).
15 - المصدر السابق(7/7).
16 - رواه البيهقي في آداب الشافعي" ص(106). ، وأبو نعيم في " الحلية"(9/127).
17 - جامع العلوم والحكم (2/471).
18 - الآداب الشرعية (3 / 336) .
19 - راجع: مدارج السالكين(1/493).
20 - جامع العلوم والحكم (2/469).
21 - " الحلية" (2/351).
22 - جامع العلوم والحكم (2/474).
23 - الآداب الشرعية(3 / 336) .
24 - الحلية" (8/318).
25 - راجع: مدارج السالكين(1/493)
26 - " متفق عليه.
27 - إهداء الديباجة(3 / 416) .(/3)
مُصافحةُ المرأةِ الأجنبيَّةِ
الحمد لله حمداً يرضاه، ونشكره شكرا ً يُقابل نعماه، وإن كانتْ غيرَ مُحصاة، امتثالاً لأمره، لا قياماً بحق شكره، لا نُحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة السلام الأتمَّان الأكملان على عبده ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى، خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وخليل رب العالمين، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار.
وبعد:
أيها الأحبة: إن مما فشا وانتشر في هذا الزمن؛ منكرٌ من المنكرات التي حذَّر منها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ التَّحذيرِ،وقد سمعنا مَنْ يُفتي ولا حول ولا قوة إلا بالله بجواز ذلك الأمرِ، ألا وهو مصافحة المرأة الأجنبية، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكمَ الإسلام في هذا الأمر؟
اتفق علماءُ الأمة من السلف والخلف من أهل التفسير والحديث والفقه وغيرهم على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية، ولم يُعرفْ لهم مخالفٌ على مرِّ العصور والأزمان، إلا ما أُحدث في هذا العصر من قولٍ شاذٍّ،يرى صاحبُهُ أنَّ مُصافحة المرأةِ الأجنبيَّةِ من قبيل المباح.
والأدلةُ على تحريمِ مُصافحةِ المرأةِ الأجنبيَّةِ كثيرةٌ منها:
أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:(كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى:(يا أيها الَّذِينَ امنوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ…) إلخ الآية. قالت: من أقر بهذا الشرط من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة 1فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتكن. لا والله ما مسَّتْ يدُ رسولِ اللهِ يدَ امرأةٍ قطُّ، غير أنه يُبايعهن بالكلامِ) 2
وفي روايةٍ للبُخاريِّ عن عائشة، قالت: (فمن أقرَّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:قد بايعتك، كلاماً. لا والله ما مسَّتْ يدُهُ يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايعة،ما بايعهن إلا بقولِهِ: قد بايعتك على ذلك).3
وفي روايةٍ أخرى لحديث عائشة، عند ابن ماجه:" ولا مسَّتْ كفُّ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-كفَّ امرأةٍ قطُّ، وكانَ يقولُ لهنَّ إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن؛ كلاماً ).4
قال الحافظ ابن حجر:" قوله: "قد بايعتك كلاماً"؛ أن يقول ذلك كلاماً فقط، لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة ".5
وقال الإمام النووي " قولها:( والله ما مست يد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام)،فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كفٍّ،وفيه أنَّ بيعة الرجال بأخذِ الكَفِّ مع الكلام، وفيه أنَّ كلام الأجنبية يُباح سماعُهُ، وأنَّ صوتَها ليس بعورةٍ، وأنه لا يلمسُ بشرةَ الأجنبيَّةِ من غيرِ ضرورةٍ، كتطبيب، وفصدٍ ".6
ثانياً: عن أُميمة بنت رقيقة رضي الله عنها، قالت: " أتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في نسوةٍ نُبايعه، فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( فيما استطعتن وأطقتن )، قالت: فقلنا: الله ورسوله أرحمُ بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله،فقال: ( إني لا أُصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة )" رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد وابن حبان والدار قطني7
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.8
وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد صحيح.9
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: إسناده صحيح.10
وهذا الحديثُ يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة، وهو نص صريح في ذلك، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة، فمن باب أولى أنه لم يصافح النساء في غير البيعة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مع عصمته ترك مصافحة النساء، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا.
ثالثاً: عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد،خير له من أن يمسَّ امرأة لا تحلُّ له) رواه الطبراني والبيهقي.
قال المنذري:" رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح ".11
وقال الشيخ الألباني:" رواه الروياني في مسنده، وهذا سند جيد،رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين،غير شداد بن سعيد فمن رجال مسلم وحده، وفيه كلام يسير لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن … والمِخْيَط: بكسر الميم وفتح الياء،ما يُخاطُ به كالإبرةِ. وفي الحديث وعيدٌ شديدٌ لمن مسَّ امرأةً لا تحلُّ له،ففيهِ دليلٌ على تحريمِ مُصافحةِ النِّساءِ؛ لأنَّ ذلك مما يشمله المس دُونَ شَكٍّ ".12
وبهذا يتبين تحريم مصافحة الأجنبية ... أن الترخص في ذلك حرام من صريح المخالفة الشرعية، والحمد لله رب العالمين14).(/1)
________________________________________
1 فسر ابن عباس -رضي الله عنهما- المحنة بقوله: وكانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها, ولا رغبت من أرض إلى أرض, ولا التماس دنيا, ولا عشقاً للرجل منا, بل حباً لله ولرسوله تفسير القرطبي (18/62).
2 صحيح البخاري مع فتح الباري 11/345-346، صحيح مسلم شرح النووي (13/10).
3 المصدر السابق 10/261.
4 صحيح سنن ابن ماجة رقم 2324.
5 فتح الباري 10/261.
6 شرح النووي على مسلم 13/10.
7 سنن الترمذي 4/151-152، سنن النسائي 7/149، سنن ابن ماجة 2/959، الموطأ ص 538، مسند أحمد 6/357، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 10/417.
8 سنن الترمذي 4/152.
9 تفسير ابن كثير 4/352.
10 سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 529 المجلد الثاني.
11 صحيح الجامع الصغير 2/1205 حديث رقم 7177.
12 الترغيب والترهيب 3/39.(/2)
نبذة مختصرة وزبدة معتصرة من سيرة نبي البرية
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْن، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِين، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِين ، أَمَّا بَعْد ..
فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مُخْتَصَرَة وَزُبْدَةٌ مُعْتَصَرَةٌ مِنْ سِيْرَةِ سَيِّدِ الْخَلْقِ صلى الله عليه وسلم، انْتَقَيْتُهَا مِنْ كُتُبِ السِّيَر، وَحَرَصتُ عَلَى ذِكْرِ الْمَغَازِي وَالبُعُوث، وَاجْتَهَدْتُ في ذِكْرِ تَارِيْخِ كُلِّ حَدَث، مَعَ اخْتِصَارِ العِبَارَة، لِتَكُونَ زُبْدَةً يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُبْتَدِي، وَتَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِي، وَزَاداً لِلْمُقْتَدِي .
وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ بِهَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا ذُخْراً لِكَاتِبِهَا وَكُلِّ مُطَّلِعٍ عَلَيْهَا، إِنَّهُ خَيْرُ مَسْؤُول .
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد .
هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، مُحَمَّدُ وَأَحْمَدُ، وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِه، وَالْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِهِ الكُفْر، وَالعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيّ، ابْنُ الذَّبِيْحِ الثَّانِي عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (وَهُوَ شَيْبَةُ الْحَمْد) ابْنِ هَاشِمٍ ، القُرَشِيُّ صلى الله عليه وسلم .
ذَكَرَ كَثِيْرٌ مِنْ الْمُؤرِخِينَ أَنَّهُ وُلِدَ عَامَ الفِيْل وَمَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ وِلاَدَتِه، وَاسْتُرضِعَ لَهُ في بَنِي سَعْد، فَأَرضَعَتْهُ حَلِيْمَةُ السَّعدِيَّة، وَأَقَامَ عِنْدَهَا أَرْبَعَ سِنِين، وَشُقَّ عَنْ فُؤادِهِ هُنَاك، فَأَرْجَعَتْهُ إِلَى أُمِّهِ بِمَكَّة، فَخَرَجَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى أَخْوَالِهِ بِالْمَدِيْنَة فَتُوفِيَتْ وَهِي رَاجِعَةٌ بِالأَبْوَاء، وَلَهُ سِتُّ سِنِين، فَحَضَنَتْهُ مَوْلاَتُهُ الَّتِي وَرِثَهَا عَنْ أَبِيْه، وَهِيَ أُمُّ أَيْمَن، وَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَنَتَيْنِ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِب، فَكَفَلَهُ وَأَحَاطَهُ أَتَمَّ إِحَاطَة، وَخَرَجَ بِهِ إِلَى الشَّامِ في تِجَارَةٍ وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَي عَشْرَةَ سَنَة، فَرَأَى آيَاتٍ عَجِيْبَةٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ مِثْلَ: تَظْلِيْلِ الغَمَامَةِ لَه، وَمَيْلِ الشَّجَرَةِ بِظِلِّهَا إِلَيْه، وَوَصِيَّةِ بَحِيْرَا الرَّاهِبِ عَمَّهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ خَوفاً عَلَيْهِ مِنْ يَهُود، ثُمَّ خَرَجَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الشَّامِ في تِجَارَةٍ لِخَدِيْجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَعَ غُلاَمِهَا مَيْسَرَة، فَرَأَى مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَهَرَه، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ سَيِّدَتَهُ خَدِيْجَة، فَرَغِبَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَة .
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ بَيْنَ قَومِهِ بِالأَمِيْنِ وَالصَّادِق وَقَدْ حَمَاهُ اللهُ وَطَهَّرَهُ مِنْ أَرْجَاسِ الْجَاهِلِيَّة .
ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَء، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِيْنَ سَنَة، وَجَاءَهُ الوَحْيُ وَهُوَ هُنَاك.
قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْم، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْح، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَء، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاء، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَة، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: [ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُه، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ! فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْع، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَر:(/1)
لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ –وَاللهِ- مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ ابْنَ نَوْفَلِ، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِي، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمّ ! اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ:
يَا ابْنَ أَخِي ! مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ:
هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُك !
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَوَمُخْرِجِيَّ هُم ؟ قَالَ: نَعَم. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِي، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْي، قَالَ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض، فَرُعِبْتُ مِنْه، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ:
زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ] إِلَى قَوْلِهِ [ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ] فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَع.
وَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّه مِنْ هَجْرِ الأَوْثَان، وَالدَّعوَةِ إِلَى إِفْرَادِ العِبَادَةِ لِلْمَلِكِ الدَّيَّان، فَأَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَآزَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا النَّاسَ مَعَه، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدٌ رضي الله عنه ، وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِيْن.
وَاشْتَدَّ الأَذَى عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ آمَنَ مَعَه حَتَّى كَانُوا يَضَعُونَ الصَّخْرَةَ العَظِيْمَةَ عَلَى صَدْرِ أَحَدِهِمْ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُم، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا عَلِمَ بِعَبْدٍ مُؤمِنٍ يُعَذَّبُ اشْتَرَاهُ مِنْ مَولاَهُ وَأَعْتَقَه.
ثُمَّ أَذِنَ اللهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى بِلاَدِ الْحَبَشَة، فَهَاجَرَ بِدِيْنِهِ ثَمَانُونَ رَجُلاً وَامْرَأَةً مِنْهُم.
وَفَشَا الإِسْلاَمُ حَتَّى أَسْلَمَ بَعْضُ الصَنَادِيْدِ كَحَمْزَةَ وَعُمَر، فَازْدَادَ أَذَى الْمُشْرِكِيْنَ لَهُم، وَتَعَاهَدُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مُقَاطَعَةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَمَنْ نَاصَرَهُم، وَحَصَرُوهُمْ في الشِّعْب ثَلاَثَ سِنِين، حَتَّى سَعَى بَعْضُ العُقَلاَءِ لِنَقْضِ هَذَا العَهْد ، فَتَمَّ لَهُمْ ذَلِك.
ثُمَّ تُوفِيَ أَبُو طَالبٍ، وَبَعْدَهُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُوفِيَتْ خَدِيْجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَاشْتَدَّ الْحُزْنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَخَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَّهُ يَجِدُ نَصِيْراً، فَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ الأَذَى، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ في جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِي .
ثُمَّ أُسْرِيَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى عَلَى الْبُرَاق، وَأَمَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَم، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَة، وَارْتَفَعَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى حَتَّى سَمِعَ صَرِيْرَ الأَقْلاَم، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْس، وَلَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ قَومَهُ بِمَا رَأَى فَكَذَّبُوه وَصَدَّقَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَسُمِّيَ بِالصِّدِّيق.(/2)
وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى القَبَائِلِ في الْمَواسِم، وَأَبُو لَهَبٍ – لَعَنَهُ الله – يَقُولُ لِلْنَّاسِ: لاَ تَسْمَعُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ كَذَّاب، إِنَّهُ سَاحِر، إِنَّهُ كَاهِن ! فَتَتَحَامَاهُ القَبَائِل إِلَى أَنْ لَقِيَ وَفْداً مِنْ الْخَزْرَجِ جَاؤُوا مِنْ الْمَدِيْنَةِ لِلْحَجّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلاَمَ فَأَسْلَمُوا، وَعَادُوا إِلَى الْمَدِيْنَةِ يَدْعُونَ إِلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى فَشَا الإِسْلاَمُ هُنَاك، ثُمَّ جَاؤُوهُ في العَامِ الَّذِي بَعْدَه، وَقَدْ زَادَ عَدَدُهُم فَبَايَعُوهُ بَيْعَةَ العَقَبَة، فَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ ابْنَ عُمَيْرٍ وَعَمْرَو بْنَ كُلْثُومٍ يُعَلِّمَانِهِمْ الإِسْلاَم.
ثُمَّ جَاؤُوا في العَامِ الَّذِي بَعْدَهُ وَقَدْ زَادَ عَدَدُهُم، وَزَعِيْمُهُمْ البَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ رضي الله عنه وَكَانُوا ثَلاَثَةً وَسَبْعِيْنَ رَجُلاً وَامْرَأَة، وَبَايَعُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَة، فَاخْتَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ اثْنَي عَشَرَ نَقِيْباً.
ثُمَّ أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِيْنَة، فَخَرَجُوا حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ ِلاَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعَليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَهَمَّ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْتُلُوه، وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ بَابِه، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ لَمْ يَرَهُ مِنْهُمْ أَحَد، وَتَرَكَ عَلِيّاً رضي الله عنه لِيُؤَدِي الأَمَانَاتِ الَّتِي عِنْدَه، ثُمَّ يَلْحَقُ بِه.
وَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى دَارِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ جَهَّزَ رَاحِلَتِينِ لِلْسَّفَر، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُرَيْقِط، عَلَى أَنْ يُوافِيْهِمَا في غَارِ ثَورٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الغَار، وَأَعْمَى اللهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمَا، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَحْمِلُ إِلَيْهِمَا الطَّعَام، وَأَخُوهَا عَبْدُ اللهِ يَتَسَّمَّعُ لَهُمَا الأَخْبَارَ وَيْنْقُلُهَا إِلَيْهِمَا، وَجَدَّ الْمُشْرِكُونَ في طَلَبِهِمَا فَلَمْ يَقَعُوا لَهُمَا عَلَى أَثَر، حَتَّى أَنَّهُمْ اجْتَازُوا بِالغَارِ فَلَمْ يَرَوا شَيْئِاً.
قَالَ اللهُ تَعَالَى:
[ إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِيْنَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] .
حَتَّى إِذَا خَفَّ الطَّلَبُ خَرَجَا، وَوَافَهُمَا عَبْداللهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ بِالرَّاحِلَتَينِ فَرَكِبَاهَا، وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ خَادِمَهُ ابْنَ فُهَيْرَةَ، وَابْنُ أُرَيْقِطٍ أَمَامَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيْق، فَلَحِقَهُمَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُم، سَيِّدُ مُدْلِج عَلَى فَرَسِه، يُرِيْدُ جَائِزَةَ الظَفَرِ بِهِمَا، وَهِيَ مَائِةٌ مِنْ الإِبْل، فَرَآهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ رَهِقَنَا، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَاخَتْ قَدَمَا فَرَسِهِ في الأَرْض، فَقَالَ: رُمِيْت ! إِنَّمَا أَصَابَنِي بِدُعَائِكُمَا، فَادْعُوا اللهَ لِي أَنْ يُخْرِجَ فَرَسِي، وَلَكُمَا عَلَيَّ أَنْ أَرُدَّ النَّاسَ عَنْكُمَا، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَخَرَجَتْ رِجْلاَ فَرَسِه، وَأَسْلَمَ عَامَ الفَتْحِ رضي الله عنه .
وَمَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْمَتِي أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّة فَقَالَ عِنْدَهَا، وَحَلَبَ شَاةً عَجْفَاءَ عِنْدَهَا، فَكَانَتْ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم .
وَفي يَومِ الإِثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ نُبُوَّتِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِيْنَةَ ضُحَى، فَخَرَجَ الأَنْصَارُ إِلَيْهِ بِسِلاَحِهِم، وَحَيَّوهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّة، وَنَزَلَ بِقُبَاء، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهَا.
وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:(/3)
((أَيُّهَا النَّاسُ ! أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَم)).
ثُمَّ ارْتَحَلَ فَأَدْرَكَتْهُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ في وَادِي رَانُونَا، فَنَزَلَ وَصَلَّهَا هُنَاك، ثُمَّ ارْتَحَلَ مُتَّجِهاً إِلَى الْمَدِيْنَة، وَكُلَّمَا مَرَّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ رَغِبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُم، وَهُوَ يَقُولُ:
((دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَة)) حَتَّى جَاءَتْ نَاقَتُهُ إِلَى مَوضِعِ مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم فَبَرَكَتْ، ثُمَّ قَامَتْ وَسَارَتْ قَلِيْلاً ثُمَّ التَفَتَتْ إِلَى مَوْضِعِهَا الأَوَّلِ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ وَبَرَكَت، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه وَأَخَذَ رَحْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَدْخَلَهُ بَيْتَه، وَاشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوْضِعَ مَسْجِدِه، وَبَنَاه، وَبَنَى لأَهْلِهِ حُجَراً في جَانِبِهِ الشَّرْقِيّ.
وَآخَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار رضي الله عنه ، وَعَاهَدَ يَهُود؛ وَهُمْ بَنُو النَّضِيْرُ وَبَنُو قَيْنُقَاع وَبَنُو قُرَيْظَة، وَكَتَبَ بِذَلِكَ كِتَاباً.
وَلَمَّا اسْتَقَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِيْنَة، وَتَعَاهَدَ الأَنْصَارُ عَلَى نُصْرَتِهِ مِنْ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ رَمَتْهُمُ العَرَبُ عَنْ قَوسٍ وَاحِدَة، فَأَذِنَ اللهُ لَهُمْ بِالْجِهَاد، وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
[ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيْرٌ ] .
ثُمَّ أَنْزَلَ:
[ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ] .
فَكَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((غَزْوَة الأَبْوَاء)) في صَفَر مِنْ العَامِ الثَّانِي، وَلَمْ يَلْقَ حَرباً.
ثُمَّ بَعَثَ عَمَّهُ حَمْزَةَ رضي الله عنه في ثَلاَثِيْنَ رَاكِباً لِلِقَاءِ أَبي جَهْلٍ وَهُوَ عَلَى سِيْفِ البَحْر، فَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَجدِيُّ ابْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ، لأَنَّهُ كَانَ مُوَادِعاً لِلْفَرِيْقَين.
ثُمَّ بَعَثَ صلى الله عليه وسلم عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ رضي الله عنه في سِتِّينَ رَاكِباً إِلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ لِلِقَاءِ جَمْعٍ عَظِيْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ إِلاَّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه رَمَى بِسَهْم، فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ في سَبِيْلِ الله.
ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((غَزْوَةَ بُوَاط)) في رَبِيْعٍ الآخِر، وَرَجَعَ لَمْ يَلْقَ كَيْداً.
ثُمَّ غَزَا صلى الله عليه وسلم ((غَزْوَةَ العُشَيْرَة)) بِيَنْبُع في جُمَادى الأُوْلَى، وَرَجَعَ لَمْ يَلْقَ كَيْداً.
وَبَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِيْنَةِ فَخَرَجَ صلى الله عليه وسلم في طَلَبِهِ حَتَّى بَلَغَ نَاحِيَةَ بَدْرٍ، فَفَاتَهُ كُرْزٌ، وَسُمِّيَت تِلْكَ الغَزْوَةُ بـ ((بَدْرٍ الأُوْلَى)).
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ رضي الله عنه في نَفَرٍ إِلَى نَخْلَةَ لِيَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشاً، فَهَاجَمُوا قَافِلَةً لَهُم، وَقَتََلُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَأَسَرُوا عُثْمَانَ وَالْحَكَمَ، وَفَرَّ رَابِعُهُم، وَقَدِمُوا بِالغَنِيْمَةِ إِلَى الْمَدِيْنَة، فَلاَمَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، لأَنَّهُ مَا أَرْسَلَهُمْ لِقِتَال، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَتَلَ وَأَسَرَ وَغَنِمَ وَخَمَّس.
وَفي شَعْبَانَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِتَحْوِيْلِ القِبْلَةِ إِلَى مَكَّة، وَفَرِضَ الصِّيَامَ وَزَكَاةَ الفِطْر.(/4)
وَفي رَمَضَانَ بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عِيْراً لِقُرَيْشٍ مُقْبِلَةً مِنْ الشَّامِ صُحْبَةَ أَبِي سُفْيَان، فَنَدَبَ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَخَرَجَ في ثَلاَثِ مِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الغِفَارِيِّ مُسْتَصْرِخاً لِقُرَيْش، فَخَرَجُوا بِخُيَلاَئِهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَمَعَهُمْ بَعْضُ القَبَائِل، في قَرِيْبٍ مِنْ أَلْفٍ مُقَاتِل كَمَا قَالَ تَعَالَى [ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ ] فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ في مُلاَقَاةِ الْمُشْرِكِينَ فَأَشَارُوا بِذَلِك، فَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَعَزَمَ عَلَى لِقَاءِ العَدُو، وَنَزَلَ مَاءَ بَدْر، فَعَلِمَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ فَعَدَلَ بِالْعِيْرِ إِلَى طَرِيْقِ السَّاحِلِ وَنَجَا بِهَا، وَأَصَرَّ أَبُو جَهْلٍ عَلَى القِتَال، وَالتَقَى الْجَيْشَانِ في السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ رَمَضَان، وَأَنْزَلَ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِين، فَقَتَلُوامِنْ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ وَغَنِمُوا، وَعَادُوا إِلَى الْمَدِيْنَة.
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى غَزْوِ بَنِي سُلَيْمٍ بَعْدَ بَدْرٍ بَسَبْعَةِ أَيَّام، وَرَجَعَ لَمْ يَلْقَ كَيْداً.
وَفي ذِي الْحِجَّةِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلِقَاءِ أَبِي سُفْيَانَ فَهَرَب، وَسُمِّيَتْ ((غَزْوَةَ السَّوِيق)) لأَنَّ الْمُشْرِكِينَ تَخَفَفُوا مِنْ أَزْوَادِهِمْ مِنْ السَّوِيق.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزَوَاتٍ بَعْدَها؛ وَمِنْهَا: ((ذُو أَمَرّ)) وَ((بَحْرَان)) وَرَجَعَ لَمْ يَلْقَ كَيْداً.
ثُمَّ نَقَضَتْ يَهُودُ –كَعَادَتِهَا- العَهْد، حَيْثُ دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مِسْلِمَةٌ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاع، وَجَلَسَتْ عِنْدَ صَائِغٍ يَصْنَعُ لَهَا حُلِيّاً، فَأَخَذَ اليَهُودُ يُحَاوِلُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَت، فَجَاءَ أَحَدُهُمْ مِنْ خَلْفِهَا –وَهِيَ لاَ تَشْعُرُ- فَعَقَدَ طَرَفَ ثَوبِهَا إِلَى ظَهْرِهَا، فَلَمَّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ عَورَتُهَا، فَتَضَاحَكُوا، فَصَاحَت، فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ الصَّائِغ، فَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ يَهُودُ فَقَتَلُوه، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهَمَّ بِقَتْلِهِمْ وَكَانُوا سَبْع مِئَةِ رَجُل، لَوْلاَ تَدَخُلُ رَأْسِ النِّفَاقِ؛ عَبْدِاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنُ سَلُول، وَطَلَبُهُ العَفْوَ عَنْهُم، فَأَجْلاَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَذْرعَاتِ الشَّام.
وَفي شَوالَ مِنْ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَقَعَتْ غَزْوَةُ أُحُد، وَهِيَ غَزْوَةٌ ابْتَلَى اللهُ فِيْهَا الْمُؤْمِنِين، وَذَلِكَ أَنَّ قًرَيْشاً أَرَادَتْ الانْتِقَامَ مِمَّا وَقَعَ لَهَا في بَدْر، فَجَمَعَ أَبُو سُفْيَانَ ثَلاَثَةَ آلاَفِ مُقَاتِلٍ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمَدِيْنَةِ وَنَزَلَ أُحُداً، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ في الْخُرُوجِ إِلَيْهِم، فَأَشَارَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَأَصَرُّوا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أَلْفٍ مِنْ أَهْلِ(/5)
الْمَدِيْنَة، وَمَعَهُمْ رَأْسُ النِّفَاقِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنُ سَلُول في ثَلاَثِ مِئَةٍ مِنْ أَصْحَابِه، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ انْخَزَلَ رَأْسُ النِّفَاقِ في أَصْحَابِه، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَبْعِ مِئَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ أُحُداً وَالتَقَى الْجَيْشَان، وَكَانَتْ الدَّولَةُ في أَوَّلِ النَّهَارِ لِلْمُسْلِمِين، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُون، وَظَنَّ الرُّمَاةُ أَنَّهُمْ لَنْ يَرْجِعُوا فَنَزَلُوا لِلْغَنِيْمَة، فَاغْتَنَمَ خَالِدٌ نُزُولَهُمْ وَكَرَّ رَاجِعاً عَلَى الْمُسْلِمِين، فَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قُتِلْ، وَجُرِحَ مَنْ جُرِح، وَجُرِحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ اليُمْنَى السُّفْلَى بِحَجَر، وَهُشِّمَتْ البَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ الْمُقَدَّس، وَرَشَقَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّه، وَسَقَطَ في حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الَّتِي حَفَرَهَا أَبُو عَامِرٍ الفَاسِق، وَنَشَبَتْ حَلَقَتَانِ مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ في وَجْهِهِ الشَّرِيْفِ صلى الله عليه وسلم ، فَانْتَزَعَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه بِأَسْنَانِهِ حَتَّى كُسِرَتْ ثَنِيَّتَاه، وَأَدْرَكَهُ الْمُشْرِكُونَ فَحَالَ دُنَهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقُتِلُوا، فَجَاءَ
طَلْحَةُ رضي الله عنه حَتَّى أَجْلاَهُم، وَتَرَّسَ أَبُو دُجَانَةَ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِهِ وَالنَّبْلُ يَقَعُ فِيْه، وَهُوَ لاَ يَتَحَرَّكُ رضي الله عنه ، فَصَرَخَ الشَّيْطَانُ اللَّعِينُ: قُتِلَ مُحَمَّد ! فَوَقَعَ ذَلِكَ في الْمُسْلِمِينَ مَوقِعاً مُؤْلِماً، فَفَرَّ كَثِيْرٌ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِه، فَتَحَامَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفْسِهِ وَقَامَ حَتَّى رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا رَأَوهُ صَاحُوا، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ إِلَى الشِّعْب ، فَجَاءَ أُبَيُّ ابْنُ خَلَفٍ عَلَى جَوَادِهِ يُرِيْدُ قَتْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَرْبَةٍ في تُرْقُوَتِهِ مَاتَ عَلَى إِثْرِهَا بِسَرِف.
وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَومَئِذٍ سَبْعُون، وَمِنْ الْمُشْرِكِيْنَ اثْنَانِ وَعِشْرُون.
وَمَا أَشْرَقَتْ شَمْسُ اليَومِ التَّالِي حَتَّى نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ لِلْخُرُوجِ في أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ إِرْهَاباً لَهُم، وَهِيَ ((غَزْوَةُ حَمْرَاء الأَسَد)) وَقَتَلَ فِيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيْرَة.
ثُمَّ كَانَ ((بَعْثُ الرَّجِيْع)) في صَفَر، سَّنَةِ أَرْبَع، وَفِيْهِ غَدَرَ بَنُو لِحْيَانَ بِالصَّحَابَة، وَفِيْهِ كَانَ ((بَعْثُ بِئْرِ مَعُونَة))، وَفِيْهِ غَدَرَتْ عُصَيَّةُ وَرِعْلٌ وَذَكْوَانُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ بِخِيَارِ قُرَّاءٍ أَرْسَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي عَامِرٍ لِيُعَلِّمُوهُمْ الإِسْلاَم، وَكَانُوا سَبْعِيْنَ صَحَابِيّاً، فَقَتَلُوهُمْغَدْراً، فَقَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْراً يَدْعُو عَلَيْهِم.
ثُمَّ أَرَادَتْ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ –كَعَادَتِهِمْ- الغَدْرَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ هَمُّوا بِرَمِيِّ رَحَىً مِنْ صَخْرٍ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَ حَائِطٍ لَهُم، فَجَاءَهُ الوَحْيُ يُخْبِرُهُ بِغَدْرِهِم، فَقَامَ وَدَخَلَ حَائِطاً قَرِيْباً مِنْ الْمَدِيْنَة، وَأَخْبَرَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بِكَيْدِهِم، وَنَدَبَ الْمُسْلِمِينَ لِقِتَالِهِم، وَذَلِكَ في رَبِيْعٍ الأَوَّل، فَحَاصَرَهُمْ سِتَّ لَيَال، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْمَدِيْنَةِ إِلَى خَيْبَرَ وَالشَّام، وَأَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْهُ ظُهُورُ إِبِلِهِمْ مِنْ مَتَاعٍ غَيْرَ السِّلاَح.
وَفي جَمَادَى الأُوْلَى كَانَتْ ((غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ الأُوْلَى)) بِنَجْد، خَرَجَ فِيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلِقَاءِ غَطَفَان، وَلَمْ يَقَعْ قِتَال، وَوَقَعَتْ ((ذَاتُ الرِّقَاعِ الأُخْرَى)) بَعْدَ خَيْبَر.
وَفي شَعْبَانَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَدْر، لِمَوعِدَةٍ وَعَدَهَا أَبُو سُفْيَانَ الْمُسْلِمِين:
أَنَّ مَوعِدَكُمْ مِنْ قَابِل في بَدْر، وَوَصَلَ بَدراً وَمَكَثَ فِيْهَا ثَمَانِي لَيَال، وَلَمْ يَلْقَ كَيْداً، وَسُمِّيَتْ ((بَدْراً الصُّغْرَى)) و((بَدْراً الثَّالِثَة)) و((بَدْراً الْمَوعِد)).(/6)
وَفي رَبِيْعٍ الأَوَّل، سَنَةَ خَمْسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى دَومَةِ الْجَنْدَلِ فَلَمْ يَلْقَ كَيْداً، وَعَادَ إِلَى الْمَدِيْنَة.
وَفي شَوَّالَ وَقَعَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَق، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّ جَمعاً مِنْ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ خَرَجُوا إِلَى مَكَّة، وَحَرَّضُوا قُرَيْشاً عَلَى الْحَربِ وَوَعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ النَّصْر، ثُمَّ حَرَّضُوا غَطَفَان، وَوَاعَدُوا القَبَائِلَ حَتَّى بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَشَرَةَ آلَفِ مُقَاتِل، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَه في شَأْنِهِم، فَأَشَارَ سَلْمَانُ رضي الله عنه بِحَفْرِ الْخَنْدَق ، فَحَفَرُوه ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ وَنَزَلُوا حَولَ الْمَدِيْنَة، وَنَقَضَتْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ العَهْد -كَعَادَتِهِمْ- فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى :
[ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ] وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى [ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيْداً ] وَظَلَّ الْحِصَارُ شَهْراً لاَ يَصِلُ فَرِيقٌ إَلَى فَرِيْقٍ بِسَبَبِ الْخَنْدَق، وَلَمْ يَجْتَزْ الْخَنْدَقَ إِلاَّ الفَارِسُ عَمْرُو بْنُ ودّ، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه .
ثُمَّ إِنَّ نَعِيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيَّ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَذِّلَ عَنْه، فَأَوغَرَ صُدُورَ قُرَيْشٍ عَلَى يَهُود، وَيَهُودَ عَلَى قُرَيْش، فَأَصَابَ الفَرِيْقَيْنِ الْخَوَر، وَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ رِيْحاً آذَتْهُم، فَارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ وَخَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبَنِي قُرَيْظَة، فَحَاصَرَهُمْ في حُصُونِهِمْ خَمساً وَعِشْرِينَ لَيْلَة، وَخَيَّرَهُمْ في ثَلاَثِ خِصَال، فَأَبَوا عَلَيْه، وَجَعَلُوا يَسُبُّونَه، ثُمَّ أَمْكَنَ اللهُ رَسُولَهُ مِنْهُم، فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه ، فَحَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُم، وَتُسْبَى ذَرَارِيْهِم، وَكَانُوا قَرِيْباً مِنْ سَبْعِ مِئَة.
ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ في جُمَادَى الأُولَى وَهَرَبُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبَالِ غُرَان.
ثُمَّ كَانَتْ ((غَزْوَةُ ذِي قَرَد)) وَسَبَبُهَا إِغَارَةُ عُيَيْنَةَ ابْنِ حِصْنٍ في أُنَاسٍ مِنْ غَطَفَانَ عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَاسْتَنْقَذَ عَامَّتَهَا مِنْه، وَعَاد.
وَفي شَعْبَانَ غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَة، أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ عَلَى مَاءٍ يُسَمَّى الْمُرَيْسِيْعَ عَلَى السَّاحِلِ غَرْبَ قُدَيْد.
وَفي ذِي القَعْدَةِ كَانَتْ ((غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَة)) حَيْثُ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أَكْثَر مِنْ أَلْفٍ وَثَلاَثِ مِئَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُرِيْدُ العُمْرَة، فَصَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ البَيْت، ثُمَّ تَصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَعُودُوا مِنْ عَامِهِم، وَيَعْتَمِرُوا مِنْ قَابِل، وَأَنْ لاَ يَدْخُلُوا مَكَّةَ إِلاَّ في جُلُبَّانِ السِّلاَح، وَأَنْ لاَيُقِيْمُوا فِيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَث، وَأَنْ يَأْمَنُوا مَا بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِين، وَأَنْ مَنْ شَاءَ دَخَلَ في عَقْدِ قُرَيْش، وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ في عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ –وَإِنْ كَانَ مُسْلِماً- فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّهُ إِلَيْهِم، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِيْنَةِ يُرِيْدُ مَكَّةَ لاَ يُرْجِعُونَه، إِلاَّ النِّسَاءَ فَلاَ يُرْجَعْنَ إِلَى الكُفَّار.
ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ رضي الله عنه فَتَعَاهَدَ مَعَ أَصْحَابِهِ رضي الله عنه عَلَى الْمَوت، وَهِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَان، فَبَايَعَهُ جَمِيْعُ الصَّحَابَةِ تَحْتَ الشَّجَرَة، وَبَايَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعُثْمَانَ رضي الله عنه ، وَسَلَّمَ اللهُ عُثْمَانَ مِنْهُم.(/7)
وَفي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَر، وَأَخَذَ يَفْتَحُهَا حِصناً حِصناً، وَخَمَّسَهَا، وَجَعَلَ نِصْفَهَا لِلْمُسْلِمِين، وَنِصْفَهَا لِمَصَالِحِهِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِين، وَصَالَحَ يَهُودَ عَلَى العَمَلِ في الْمَزَارِع، وَأَنْ يُخْرِجَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا مَتَى شَاؤُوا، وَأَهْدَتْهُ يَهُودِيَّةٌ شَاةً مَصْلِيَّة، وَضَعَتْ فِيْهَا سَمّاً وَأَكْثَرَتْ مِنْهُ في كَتِفِهَا، فَأَكَلَ مِنْهَا بِشْرُ بِنُ البَرَاءِ رضي الله عنه فَمَات، وَنَهَشَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَتِفِهَا، فَتَكَلَّمَتْ الكَتِفُ مُخْبِرَةً أَنَّهَا مَسْمُومَة، فَأَثَّرَ السَّمُّ في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حِيْنِ وَفَاتِه.
ثُمَّ فُتِحَتْ ((فَدَك)) بِدُونِ حَرْب، وَبَعْدَهَا فُتِحَ ((وَادِي القُرَى)).
وَفي ذِي القَعْدَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِراً عُمْرَةَ القَضَاء، وَعَادَ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أيَّام.
وَفي جُمَادَى الآخِرَة، سَنَةَ ثَمَانٍ كَانَ ((بَعْثُ مُؤْتَة))، في ثَلاَثَةِ آلاَفِ مُقَاتِل، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ هِرَقْلُ في مَائَتِي أَلف، وَالتَقَى الْجَمْعَان، فَقُتِلَ زَيْدٌ ثُمَّ جَعْفَرٌ ثُمَّ ابْنُ رَوَاحَةَ رضي الله عنه ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ خَالِدٌ رضي الله عنه ، وَانْحَازَ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ كَرَّ بِهِمْ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِيْنَة، وَسَلِمَ الْجَيْش.
ثُمَّ إِنَّ خُزَاعَةَ الَّتِي دَخَلَتْ في عَقْدٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَرَتْ بِهَا بَنُو بَكْرٍ الَّتِي دَخَلَتْ في عَقْدٍ مَعَ قُرَيْش، عَلَى مَاءٍ يُسَمَّى الْوَتِير، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ عَلَى غَدْرِهِم، فَانْتَقَضَ العَهْدُ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِقِتَالِ قُرَيْشٍ في عَشَرَةِ آلاَفِ مُقَاتِل، وَلمْ تَعْلَمْ بِخُرُوجِهِ قُرَيْشٌ حَتَّى وَصَلَ مَرَّ الظَّهْرَان (الْجَمُوم) فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَعْلَنَ إِسْلاَمَه، وَانْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِالأَمَانِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُو آمِن، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُو آمِن، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِن.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فَاتِحاً، وَكَانَ أَوَّلَ أَمْرٍ صَنَعَهُ تَكْسِيْرُهُ الأَصْنَام.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَماً، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ كَانَ بِيَدِه وَيَقُول:
(( [ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ] [ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ] )).
وَلَمْ يَدْخُلْ الْكَعبَةَ حَتَّى مُحِيَتْ الصُّوَرُ الَّتِي فِيْهَا.
وَأَرْسَلَ صلى الله عليه وسلم قَادَةَ جُيُوشِهِ وَسَرَايَاهُ لِهَدْمِ وَحَرْقِ الأَصْنَام في نَوَاحِي البِلاَد، فَهَدَمُوا ذَا الْخَلَصَة، وَسُوَاع، وَالعُزَّى، وَمَنَاة، وَأَرْسَلَ في القَبَائِلِ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَعِنْدَهُ صَنَمٌ فَلْيَكْسِرْه، فَجَعَلَ النَّاسُ يَكْسِرُونَهَا.
وَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم السَّرَايَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَم، وَعَفَا عَنْ قُرَيْش.
وَلَمَّا بَلَغَ هَوَازِنَ وَثَقِيْفاً أَمْرُ الفَتْحِ، اجْتَمَعُوا مَعَ قَبَائِلِ الطَائِفِ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ في شَوَّال، وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلفاً، وَالتَقَى الْجَيْشَانِ في وَادِي حُنَيْنٍ بِتُهَامَة، فقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: لَنْ نُغْلَبَ اليَومَ مِنْ قِلَّة ! فَكَمَنَتْ لَهُمْ هَوَازِنُ وَمَنْ مَعَهُم –وَكَانُوا رُمَاةً- وَأَمْطَرُوا الْمُسْلِمِينَ بِسَيْلٍ مِنْ النَّبْلِ حَتَّى اخْتَلَطَ الْجَيْشُ بِبَعْضِه، وَفَرَّ مَنْ فَرَّ مِنْهُم، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى العَدُو، وَأَمَرَ عَمَّهُ العَبَّاسَ أَنْ يُنَادِي في النَّاسِ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الشَّجَرَة، حَتَّى عَادُوا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَاجْتَلَدُوا مَعَ هَوَازِن، فَأَلْقَى اللهُ في قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ، فَانْهَزَمُوا، وَأَسَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَفَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى أَوْطَاس، وَإِلَى الطَّائِف، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا عَامِرٍ الأَشْعَرِيَّ فَهَزَمَهُم.(/8)
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِف، وَحَاصَرَهُم، وَعَادَ إِلَى الْجِعْرَانَة، فَلَحِقَتْهُ هَوَازِنُ وَأَعْلَنَتْ إِسْلاَمَهَا، فَأَعَادَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السَّبْيَ، وَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَة، وَأَمَّرَ عَلَى الْحَجِّ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ رضي الله عنه .
ثُمَّ أَنْزَلَ تَعَالَى قَولَه [ قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِيْنُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ]
فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ لِلْخُرُوجِ إِلَى تَبُوك لِقِتَالِ الرُّوم، في رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْع، وَهِيَ الغَزْوَةُ الَّتِي صَرَّحَ لِلْنَّاسِ بِعَزْمِهِ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا؛ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ العَدُوِّ وَكَثْرَتِه، وَلِبُعْدِ الشُّقَّة، وَقَدْ طَابَتِ الثِّمَارُ في زَمَنِ جَدْب.
وَفي هَذِهِ الغَزْوَةِ أَنْفَقَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَلْفَ دِيْنَارٍ، وَحَمَلَ عَلَى أَلْفِ بَعِيْرٍ، وَمَائَةِ فَرَسٍ في سَبِيْلِ الله، وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ مُقَاتِل.
وَلَمَّا وَصَلَ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوك لَمْ يَلْقَ كَيْداً، وَصَالَحَ صَاحِبَ أَيْلَة، وَأُكَيْدرَ دَوْمَة وَرَدَّهُ إِلَى دَوْمَة.
وَرَجَعَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِيْنَةِ في رَمَضَان، وَأَمَرَ بِهَدْمِ مَسْجِدِ الضِّرَار.
ثُمَّ قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيْف، فَأَنْزَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِد، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيْدُونَ الإِسْلاَمَ بِشَرطِ أَنْ لاَ يَهْدِمَ الَّلاَت، فَلَمْ يُجْبْهُمْ إِلَى طَلَبِهِم، فَأَسْلَمُوا، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَالْمُغِيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لِهَدْمِ الَّلات، فَهَدَمُوهَا.
وَلَمَّا جَاءَ الْمَوسِمُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَمِيْراً عَلَى الْحَجّ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه بِسُورَةِ بَرَاءَة، وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِك، وَأَنْ لاَ يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَان.
وَتَوَاتَرَتْ وُفُودُ قَبَائِلِ العَرَبِ في سَنَةِ عَشْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُذْعِنِيْنَ بِالإِسْلاَم، دَاخِلِينَ في دِيْنِ اللهِ أَفْوَاجاً.
وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذاً وَأَبَا مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى الْيَمَن، وَبَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى مُلُوكِ الأَقْطَارِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلاَم، وَانْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ وَعَلَتْ كَلِمَةُ الْحَقِّ، وَأَعَزَّ اللهُ حِزْبَهُ وَأَذَلَّ الأَحْزَابَ وَحْدَه.
وَلَمَّا كَانَ يَومُ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ مِنْ العَامِ العَاشِرِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أَهْلُ الْمَدِيْنَةِ وَمَنْ حَولَهَا مِنْ القَبَائِلِ قَاصِداً بَيْتَ اللهِ الْحَرَام، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة، وَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى، وَلَمَّا كَانَ يَومُ التَّروِيَةِ خَرَجَ إِلَى مِنَى، وَخَرَجَ مِنْهَا يَومَ التَّاسِعِ إِلَى عَرَفَة ، وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً عَظِيْمَة، ثُمَّ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَة، وَفي صَبَاحِ العَاشِرِ سَارَ إِلَى جَمْرَةِ العَقَبَةِ فَرَمَاهَا، وَنَحَرَ ثَلاَثاً وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ الشَّرِيْفَة ، وَأَتَمَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْمَائة، ثُمَّ حَلَق، ثُمَّ أَفَاضَ بِالبَيْت، وَسَعَى سَعْيَ الْحَجّ، وَخَطَبَ ثَانِي أَيَّامِ النَّحْرِ خُطْبَةً عَظِيْمَة.
ثُمَّ عَادَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِيْنَة، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى صَفَر، وَبَدَأَ بِهِ وَجَعُهُ صلى الله عليه وسلم،فَاسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ في أَنْ يُمَرَّضَ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَالصِّدِّيقُ رضي الله عنه يُصَلِّي بِالنَّاس، وَجَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ رضي الله عنه لِغَزْوِ الشَّام.
وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضُحَى يَومِ الإِثْنَينِ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّل، وَاخْتُلِفَ في أَيِّ يَومٍ كَان، وَكَانَ عُمرُهُ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثاً وَسِتِّينَ سَنَةً عَلَى الأَشْهَر، وَجُهِّزَ صلى الله عليه وسلم ، فَغَسَلُوهُ في قَمِيصِه، تَوَلَّى ذَلِكَ عَمُّهُ العَبَّاسُ وَابْنُهُ قُثَمُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ، وَمَولاَهُ شُقْرَانُ رضي الله عنه .
وَكَفَّنُوهُ في ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ قُطْنٍ سَحُولِيَّةٍ بِيْض لَيْسَ فِيْهَا قَمِيْص.(/9)
وَصَلَّى عَلَيْهِ الرِّجَالُ ثُمَّ الصِّغَارُ ثُمَّ النِّسَاء، وَدُفِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ الثُّلاَثَاءِ سَحَراً في بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في الْمَوضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيْه، لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ مَاتُوا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّين.(/10)
نحن والمزاح
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن الإنسان مدني بطبعة، ومع اتساع المدن وكثرة الفراغ لدى بعض الناس، وانتشار أماكن التجمعات العامة كالمنتزهات والاستراحات، وكثرة الرحلات البرية، والاتصالات الهاتفية، واللقاءات المدرسية، والتجمعات الشبابية، توسع كثير من الناس في المزاح مع بعضهم البعض، دون ضابط لهذا الأمر الذي قد يؤدي إلى المهالك، ويورث العداوة والبغضاء.
والمراد بالمزاح: الملاطفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر، وإدخال السرور. وقد كان هذا من هدي النبي أن رجلا أتى النبي : { إنا حاملوك على ولد الناقة } قال وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي أن النبي وولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم : { ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له } [رواه أبو داود].
وقال أنهم كانوا يسيرون مع النبي : { لا يحل لمسلم أن يروع مسلما } [رواه أبو داود].
4- الإستهزاء والغمز و اللمز:
الناس مراتب في مداركهم وعقولهم وتتفاوت شخصياتهم، وبعض ضعاف النفوس - أهل الاستهزاء والغمز واللمز - قد يجدون شخصا يكون لهم سلما للإضحاك والتندر - والعياذ بالله - وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى: [الحجرات:11]، قال ابن كثير في تفسيره: "المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والإستهزاء بهم، وهذا حرام، ويعد من صفات المنافقين".
والبعض يستهزي بالخلقة أو بالمشية أو المركب ويخشى على المستهزىء أن يجازيه الله عز وجل بسبب استهزائه قال من السخرية والإيذاء؛ لأن ذلك طريق العداوة والبغضاء قال يفعله".
6- معرفة مقدار الناس:
فإن البعض يمزح مع الكل بدون اعتبار، فللعالم حق، وللكبير تقديره، وللشيخ توقيره، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابل فلا يمازح السفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرف.
وفي هذا الموضوع قال عمر بن عبد العزيز: "اتقو المزاح، فإنه يذهب المروءة".
وقال سعد بن أبي وقاص: "اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرىء عليك السفهاء".
7- أن لا يكون المزاح بمقدار الملح للطعام:
قال -: "من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به".
فإياك إياك، المزاح فإنه *** يجرىء عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهاءه *** ويورثه من بعد عزته ذلا
8- ألا يكون فيه غيبة:
وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض إنه يحكى ويقال بطريقة المزاح، وإلا فهو داخل في حديث النبي : { لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا } قال في فتح الباري: "المراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة". وعلى المسلم والمسلمة أن ينزع إلى اختيار الرفقة الصالحة الجادة في حياتها ممن يعينون على قطع ساعات الدنيا والسير فيها إلى الله عز وجل بجد وثبات، ممن يتأسون بالأخيار والصالحين، قال بلال بن سعد: "أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا".
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: "هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟
قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال".
فعليك بأمثال هؤلاء، فرسان النهار، رهبان الليل.
جعلنا الله وإياكم ووالدينا من الآمنين يوم الفزع الأكبر، ممن ينادون في ذلك اليوم العظيم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=47 ...(/1)
نحو جو أسري هادئ
يحيى بن إبراهيم اليحيى
لاحظ أن الإنسان كلما كان أفقه واسعاً ونظرته بعيدة، وتفكيره ناضجاً، لم ينظر إلى المرأة من جهة واحدة أو كما يقال من بعد واحد. وإنما ينظر إليها نظرة تكاملية من جميع الزوايا.
وفي ذلك سبب للتآلف والتقارب والود والرحمة والصفح والعفو. روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ أَوْ قَالَ غَيْرَهُ "
فهنا يرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك النظرة البعيدة المدى النظرة العادلة التي لا تتنكر للحسنات، ولا تطوي ملفات الإيجابيات، نظرة القسط والتوسط والتعقل، نظرة واعية متكاملة واسعة تدرك جميع الجوانب، فمتى نظر الرجل إلى زوجته من هذا البعد تقلصت عنده السلبيات، وتوسعت عنده نقاط القوة وغلبت على نقاط الضعف والنقص، وانغمرت السيئات في بحار الحسنات، فتمتع بحياة أسرية هادئة.
وبعكسه صاحب النظرة الآحادية الحادة التي لا تنظر إلا الجوانب السلبية، ونقاط الضعف، وأوجه التقصير، فيتحول إلى العدسة المكبرة التي تعظم الخطأ وتقلل من الصواب، فيعيش حياة القلق والنكد.
والمرأة العاقلة الواعية الراغبة في حياة أسرية هادئة تحاول وتجاهد نفسها على أن تتمثل بهذه الصفات التي أشار إليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ قَالَ الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ وَلا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَلا فِي مَالِهِ "
وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ "
ففي هذين الحديثين يبرز لنا كمال المرأة وتوازن شخصيتها:
1 ـ فهي تسره إذا نظر وهذا بمعنى العناية في الجمال وحسن المظهر، وهذه أشياء مستلزمة لكل إنسان وهي فطرة فطر عليها الرجل والمرأة على حد سواء.
2 ـ وتطيعه إذا أمر: فهي موافقة للرجل وتوافقها معه في جميع أحواله، فملائمة المرأة للرجل وانسجامها معه ومعرفتها بطبع زوجها وتكيفها له من أقوى أسباب السعادة الزوجية وهو من أبرز جوانب المرأة.
3 ـ بعدها عن مواطن الريب ومواضع التهم، وفي هذا أمان لقلب زوجها وبعدا للشك فيها، وحماية لها من القلوب المريضة وهذا أصل أركان المرأة المثالية. فلا تخلو برجل غير محرم لها، ولا تخضع له بالقول، ولا تتكلم معه في غير ضرورة، ولا تطيل معه الحديث.
4 ـ ليست مسرفة في طعامها وشرابها ولباسها، وليست متكلفة لزوجها ما لا يطيق، وليست تقليدية تابعة في مؤخرة الركب همها ماذا لبست فلانة واشترت علانة. بل تعتبر نفسها راعية ومحافظة على مال زوجها.
5 ـ تضفي حنانها على أولادها فتكسب البيت كلها حنانا، فليست شتامة لأولادها ولا غليظة همها الدعاء عليهم، ولا مضيعة لتربيتهم، ولا تترك أولادها للخدم أو الشارع مقابل أن ترتاح من شغبهم وأذاهم، فهي راعية في البيت وحق على الراعي العناية برعيته: " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها " وقد جعل الإسلام لها مقابل أتعابها ورعايتها ثلاثة حقوق على الأبناء، بينما فاز الأب بنصيب واحد.
ومن صفات المرأة الفاعلة الواعية الراغبة في جو أسري هادئ:
6 ـ ليست أنانة ومتمارضة فلا تكثر الشكوى ولا تتمارض من كل عارض أو وعكة خفيفة، فالزوج لا يرغب أن يعيش في مستشفى، ولا يتطلع عند رجوعه من البيت إلى امرأة تزيد من همه وغمه، وإنما يتطلع إلى زوجة يسكن إليها ويفضي عندها همه وأتعابه.
7 ـ ليست منانة تذكر كل حسناته وما فعلته وتجير بعض مصالحها وأعمالها الشخصية بأنها من أجل زوجها. فإن صنعت طعاما تريده قالت: من أجلك فعلته، وإن لبست ثوبا ترغبه، قالت: لأجلك لبست ….
8 ـ بعيدة عن الروتين والجمود على حال واحدة.
إن تغيير الروتين في المنزل من أسباب تنقية الأجواء وتحسينها سواء كان ذلك في أثاث المنزل، أو في اللباس، أوالعادات في الأكل والشرب، فمرة موقع الدولاب هنا ومرة هناك، ومرة غرفة النوم في زاوية ومرة في أخرى وهكذا، فهي امرأة متجددة دائما.(/1)
9 ـ ليس للفراغ إليها سبيل، فلا تعيش في كوكبة من الخدم، بل تقوم بأعمال بيتها بنفسها، وأين الفراغ لمثل هذه وكيف سبيله إليها؟ إذ أن الفراغ والكسل من أكبر أسباب الركود في العلاقات الزوجية، ومن دواعي الشيطان في التذكير بالحقوق المضاعة وتضخيمها، ومن المعلوم أن من طبيعة الإنسان العمل " وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، فإما إلى تقدم وإلا إلى تأخر، وإما إلى الأمام وإما إلى الخلف، وإما إلى العلو وإما إلى النزول " فمن لم يشغل نفسه بالخير شغلته نفسه بالشر، فإذا قضت المرأة وقتها في تدبير بيتها، وتربية أولادها، دون مساعد أو بديل عنها، صفا جو الأسر، وارتفعت عنه المشاكل والخلافات، فليس هناك وقت للمحادثة مع الصديقة، وليس هناك فرصة للمجالسة مع زميلة، وليس هناك ساعات للتفكير والتخيلات ووساوس الشيطان.
10 ـ تتمثل عمليا قول ابن عمر: " البر شيء هين وجه طليق وكلام لين " فهي بشوشة طليقة الوجه حلوة الخطاب والحديث، لا يعرف التعبيس له طريقا إليها، ولا الخشونة سبيل عليها.
11 ـ إن المرأة الواعية هي التي تجدد من حياة زوجها وتبعث الهمة والثقة والطمأنينة في قلبه، وتحثه على الإقدام على الخير وترغبه فيه وتقف بجانبه، كما قالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا لا يخزيك الله أبدا "
12 ـ كلما حقق زوجها هدفا تفتح له أفاقا أخرى وهدفا آخر ليرتقي في تحقيقه، وتقف بجانبه حتى يتحقق هدفه، وتبث فيه روح الحماسة والأمل، كما وقفت خديجة رضي الله عنها، ووقفت زوجات المهاجرين إلى أرض الحبشة مع أزواجهن مؤيدات ومشجعات وباعثات للأمل.
ومن البلاء تباين الأهداف والهمم فيما بين الرجل والمرأة فبينما أحدهما همته رفيعة عالية إذا بالآخر همته دنيئة ساقطة، همة في الثريا وهمة في الثرى.
13 ـ تتفهم الرجل وتحاول التكيف معه، وتحسن الاستماع إليه، فهي تدرك بأنه لا يمكن التوافق والتماثل في جميع الصفات بين أي رجل وامرأة، فلابد من التنازل وتخطي العقبات وتجاوز الهنات وعدم المحاسبة على الصغير والقطمير.
فهي مرنة مع زوجها داخل في حسابها جميع الطوارئ مستعدة للتكيف معها، فإن نقل إلى مكان انتقلت معه، وإن لم يستطع البقاء في منزل ارتحلت معه، غير متشبثة ببلد، ولا متمسكة بمكان.
14 ـ كتومة لا تفشي له سراً، حديثها مع زوجها لا يتعدى حيطان حجرتها، تستصغر أولئك النسوة اللاتي حديث زوجها عند كل الناس في العطاء والمنع، والفرح والحزن، وهذا من أقبح الصفات.
أسلوب حل الخلافات الزوجية:
ومع تلك الصفات الجميلة في الرجل والمرأة، تبقى الطبيعة البشرية، في الغضب وتكدر الخواطر، والأخطاء غير المقصودة، ووساوس الشيطان، وشياطين الإنس والجن المتربصين بكل بيت سعيد هادئ، وفوق ذلك الحياة الدنيا الدنية التي من طبيعتها التعب والنكد، قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
فينبغي على الزوجين أن يأخذا هذه المسائل بالحسبان، وأن يتعاملا معها بتعقل ووعي وهدوء وحسن ظن وأن ينظر نظرة واقعية إلى الخلافات الزوجية إذ أنها من الممكن أن تكون عاملا من عوامل الحوار والتفاهم إذا أحسن التعامل معها.
والأسلوب الذي يتبعه الزوجان في مواجهة الخلاف إما أن يقضي عليه أو يضخمه ويوسع نطاقه، وقبل الدخول في حل الخلافات يحسن التنبه إلى هذه الضوابط:
أولاً: لاشك أن للكلمات الحادة، والعبارات العنيفة، والكلمات غير الموزونة والمحسوبة، لها صدى يتردد باستمرار حتى بعد انتهاء الخلاف، علاوة على الصدمات والجروح العاطفية التي تتراكم في النفوس، لهذا ينبغي البعد عن الكلام الفاحش، والحط من النسب أو الجاه أو المكانة، أو سب الأسرة والأهل والأقارب.
ثانياً: لزوم الصمت والسكوت على الخلاف حل سلبي مؤقت للخلاف، إذا سرعان ما يثور البركان عند دواعيه. وعند أدنى اصطدام.
فكبت المشكلة في الصدور بداية العقد النفسية وضيق الصدر المتأزم بالمشكلة ، فإما أن تتناسى وتترك ويعفى عنها ويرضى الطرفان بذلك، وإما تطرح للحل.
ولابد أن تكون التسوية شاملة لجميع ما يتخالج في النفس، وأن تكون عن رضا وطيب خاطر.
ثالثاً: البعد عن أساليب التي قد تكسب الجولة فيها وينتصر أحد الطرفين على الآخر، لكنها تعمق الخلاف وتجذره: مثل أساليب التهكم والسخرية، أو التعالي والغرور.(/2)
روى أبو داود والترمذي وأحمد عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ لا يَقُولُ شَيْئًا إِلا صَدَرُوا عَنْهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ … اعْهَدْ إِلَيَّ قَالَ لا تَسُبَّنَّ أَحَدًا قَالَ فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلا عَبْدًا وَلا بَعِيرًا وَلا شَاةً قَالَ وَلا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ "
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاقًا "
وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
وروى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا وَلا فَحَّاشًا وَلا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ.
روى الترمذي عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَال سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ يَقُولُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَلا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ وَلا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ اسْمُهُ عَبْدُ بْنُ عَبْدٍ وَيُقَالُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ.
وقول أنس خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي يوما لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء تركته لما تركته "
رابعاً: معرفة أثر الخلاف وشدة وطئته على الطرفين: فلا شك أن اختلاف المرأة مع زوجها الذي تحبه وتقدره وتدلي عليه، يسبب لها كثيرا من الإرباك والقلق والانزعاج، وبخاصة إذا كانت ذات طبيعة حساسة.
خامساً: البعد عن التعالي بالنسب أو المال أو الجمال أو الثقافة، فإن هذا من أكبر أسباب فصم العلاقات بين الزوجين. قال صلى الله عليه وسلم " الكبر بطر الحق وغمط الناس " أي رد الحق واحتقار الناس.
وروى مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"
سادساً: عدم اتخاذ القرار إلا بعد دراسته، فلا يصلح أن يقول الزوج في أمر من الأمور لا. أو نعم. وهو لم يدرس الموضوع ولم يعلم خلفياته، ولم يقدر المصالح والمفاسد فيه، وهذا المتعجل سبيله دائما التردد وتغيير القرار بعد الإلحاح، فتصبح كل الطلبات لا تأتي إلى بعد مشادة، وتعالي الأصوات في النقاش.
أو أنه يعرف خطأ قراره، وسوء تصرفه، وضعف تقديره للأمور فيلجأ إلى اللجاجة والمخاصمة.
الخطوات العملية في حل الخلافات الزوجية :
فإذا ما وقع خلاف ـ وهذا أمر حتمي إلا ما شاء الله ـ فينبغي اتباع الخطوات التالية:
1 ـ تفهم الأمر هل هو خلاف أم أنه سوء فهم فقط، فالتعبير عن حقيقة مقصد كل واحد منهما وعما يضايقه بشكل واضح ومباشر يساعد على إزالة سوء الفهم، فربما أنه لمن يكن هناك خلاف حقيقي وإنما سوء في الفهم، كأن يخاطب أحدهما الآخر بكنية أو يناديه باسم يقصد بذلك احترامه وتقديره، فيفهم المقابل أن هذا من باب الازدراء والاحتقار.
2 ـ تحديد موضع النزاع والتركيز عليه، وعدم الخروج عنه بذكر أخطاء أو تجاوزات سابقة، أو فتح ملفات قديمة، ففي هذا توسيع لنطاق الخلاف.(/3)
3 ـ أن يتحدث كل واحد منهما عن المشكلة حسب فهمه لها، ولا يجعل فهمه صوابا غير قابل للخطأ أو أنه حقيقة مسلمة لا تقبل الحوار ولا النقاش. فإن هذا قتل للحل في مهده، حيث أنه قد يكون فهمه هذا مبنيا على أوهام وسوء ظن، ومن أساسيات الحوار أن تجعل فهمك صوابا قابل للخطأ، وفهم غيرك خطأ قابل للصواب.
4ـ يحسن تقديم بين يدي الحوار ذكر نقاط الاتفاق فطرح الحسنات والإيجابيات والفضائل عند النقاش مما يرقق القلب ويبعد الشيطان ويقرب وجهات النظر وييسر التنازل عن كثير مما في النفوس. قال تعالى: { ولا تنسوا الفضل بينكم } فإذا قال أحدهما للآخر أنا لا أنسى فضلك في كذا وكذا، ولم يغب عن بالي تلك الإيجابيات عندك، ولن أتنكر لنقاط الاتفاق فيما بيننا. فإن هذا حري بالتنازل عن كثير مما يدور في نفس المحاور.
5 ـ لا تجعل الحقوق ماثلة دائما أمام العين، وأخطر من ذلك تضخيم تلك الحقوق، أو جعل حقوقا ليست واجبة في قنوات الواجب فتتأصل في النفس ويتم المطالب بها.
6ـ إدراك كل الجانبين حق الآخر ووظيفته وحدود مسؤولياته.
7 ـ الاعتراف بالخطأ عند استبانته وعدم اللجاجة فيه، وأن يكون عند الجانبين من الشجاعة والثقة بالنفس ما يحمله على ذلك. وينبغي للطرف الآخر شكره على ذلك وأن يثني عليه لاعترافه بالخطأ (فالاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل ) والاعتراف بالخطأ طريق الصواب.
فلا يستعمل هذا الاعتراف أداة ضغط بل يعتبره من الجوانب المشرقة المضيئة في العلاقات الزوجية يوضع في سجل الحسنات والفضائل التي يجب ذكرها والتنويه بها.
بعض الناس يجعل الاعتراف بالخطأ في سجل السيئات فكلما حدثت مشادة، أو سوء فهم، قال الزوج أو الزوجة للآخر: تذكر المشادة الفلانية لما اعترفت أنك مخطئ فيها وتبين صواب قولي وسلامة تصرفي! وهذا مما يحمل الآخر على عدم الاعتراف مرة ثانية واللجوء إلى اللجاجة والمراء والمخاصمة ومحاولة الانتصار بحق أو باطل.
8 ـ الصبر على الطبائع المتأصلة في المرأة مثل الغيرة. كما قال صلى الله عليه وسلم " غارت أمكم " وليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في تقدير الظروف والأحوال ومعرفة طبائع النفوس وما لا يمكن التغلب عليه.
روى البخاري عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ * وفي رواية للنسائي قال: " كلوا غارت أمكم"
روى النسائي وأبو داود والترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَفَّارَتِهِ فَقَالَ إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ *
9 ـ الرضا بما قسم الله تعالى فإن رأت خيراً حمدت، وإن رأت غير ذلك صبرت . وأن يعلم الزوج والزوجة أنهما ليسا هما الوحيدين في مثل هذه المشاكل واختلاف وجهات النظر.
10 ـ لا يبادر في حل الخلاف وقت الغضب وإنما يتريث فيه حتى تهدأ النفوس وتبرد الأعصاب. فإن الحل في مثل هذه الحال كثيرا ما يكون متشنجا بعيدا عن الصواب.
ويحسن أن يسجل العلاج الذي يراه وهو غضبان، فإذا هدأت الأعصاب يسجل الحل الذي يراه لتلك المشكلة، ثم يقارن بين الأمرين فسيجد بينهما بونا شاسعا، وأن تقديره أثناء الغضب بعيد كل البعد عن معالجة القضية بل يزيدها تعقيدا.
11 ـ ضرورة التنازل عن بعض الحقوق فإنه من الصعب جدا حل الخلاف إذا تشبث كل الطرفين بحقوقه.
12 ـ دائما نتحدث عن بعض المهارات ومنها مهارة كسب الآخرين، والزوجان أحوج الناس إلى هذه المهارات.
13 ـ ضرورة التكيف مع جميع الظروف والأحوال، وأن يكون هادئا، غير متهور ولا متعجل، ولا متأفف ولا متضجر. فالهدوء وعدم التعجل والتهور من أفضل مناخات الرؤية الصحيحة والنظرة الصائبة للمشكلة.
14 ـ يجب أن يعلم ويستيقن الزوجان بأن المال ليس سبب للسعادة، وليس النجاح في الدور والقصور والسير أمام الخدم والحشم، إنما النجاح في الحياة الهادئة السليمة من القلق البعيدة من الطمع ، الحياة المبنية على أساس طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد(/4)
15ـ غض الطرف عن الهفوة والزلة والخطأ غير المقصود.
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
16 ـ تقدير حجم الخطأ وعدم تضخيمه، ويعالج بقدره ولا يزاد عليه ويتمادى فيه فلا يتعدى الحدود المعقولة في معالجة الخطأ. انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد من بعض زوجاته خطأ ومخالفة فيعالجها في لحظات ولا يبقى لها أثرا بعد ذلك، لا كمن يطيل أمد الغضب والهجر أياما في أمر لا يستحق كل هذا.
روى مسلم في صحيحه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي قَالَ فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا بَلَى قَالَ قَالَتْ لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً قَالَتْ قُلْتُ لا شَيْءَ قَالَ لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي قُلْتُ نَعَمْ فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُولِي السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ .
موقع صيد الفوائد(/5)
نحو منهج عملى في طلب العلوم الشرعية
قد آذن الركب بالرحيل ومازلت أراك حائرًا ، تتعثر خطاك ، تقول : كيف السبيل ؟ كيف أطلب العلم ؟ من أين أبدأ ؟
وإنْ كان مضى طرفٌ من ذلك عارضًا فيما مرَّ فذا أوان بيانه ، فامضِ بإذن الله موفقًا ، والله أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل ، وأنْ يكتب لنا الصواب ، ويجنبنا الزلل إنَّه ولي ذلك والقادر عليه .
أيها المتفقه ..
لابد لك من منهجين يمضيان معًا ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، منهج في تلقي العلوم الشرعية ، ومنهج في التربية ، فأنت تعلم أنَّ أصول المنهج ثلاثة : التوحيد والاتباع والتزكية .
قال الله تعالى : " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " [ البقرة/129 ]
وقوله تعالى : " لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين " [آل عمران/164]
وقال جل وعلا : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " [ الجمعة/2 ]
فرسالة الأنبياء وورثتهم من بعدهم تتناول تلك الجوانب الثلاثة ، فلابد من علم وعمل ودعوة ، لابد من تزكية للنفوس وشحذ للعقول ، والمنهج الذي لا يراعي هذه الجوانب الثلاثة منهج يجانب الصواب.
المنهج في طلب العلوم الشرعية
أيها المتفقه ..
كثير من طلبة العلم يخبط خبط عشواء بسبب افتقاده للمنهجية في التعلم ، فهو لا يعرف ماذا يدرس ؟ بماذا يبدأ ؟ ما هي الكتب التي عليه أن يقتنيها ؟
والأمر سهل ميسور ـ بإذن الله تعالى ـ فإنَّ سلفنا الصالح قد قيدوا في ترتيب العلوم مصنفات لبيان هذه المسالة .
ولابد أن تعرف قواعد السير حتى لا يتعثر جوادك :
أولا : العلم كثير ، والعمر قصير ، فلا تشتغل بمفضول عن فاضل ، ولا تتعدَّ .
ثانيًا : خذ من كل علم بطرفه بادئ الأمر ثمَّ ترقَّ في الدرجات .
ثالثًا : علومنا كلٌ واحد فلا تركن لجانب دون الآخر .
رابعًا : علومنا منها علوم وسائل ، ومنها علوم ثمرات ، فابدأ بالبذر ، واصبر في زمان السقي ، وارتقب حصول الثمرة لتحصدها .
خامسًا : لابد من المنهجية والمرحلية ، فلكل علم ثلاث مراتب : اقتصار ، واقتصاد ، واستقصاء .
فهن ثلاث : للمبتدئ ، والمتوسط ، والمنتهي .
ولا يجوز بحال أنْ تأخذ ما جُعل لمن هو أرقى منك درجة ، وإلا بنيت من غير أسس صحيحة ، وتلك آفة التَّسرع والعجلة ، فلا تعجلْ .
سادسًا : قدِّم فروض الأعيان على فروض الكفايات على المندوبات ، وإياك ومكروه ناهيك عن حرام [1].
سابعًا : لابد من متابعٍ دليل يأخذ بيدك ، يبصِّرك بمفاتيح العلوم ، ومداخل الكتب ، لتنأى عن شبهة " تصحيف " أو " تحريف " ، ولابد أنْ يكون دليلك سلفي المنهج لتتربى بعيدًا عن التأويلات الباطلة والآراء الشاذة المنكرة .
ثامنًا : لكل علم وفن مصطلحاته ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، فاحرص على اقتناء معاجم المصطلحات ، واجعل لكل علم دفترًا عندك ، ودوِّن فيه كل مصطلح جديد .
تاسعًا : لا يمر بك يوم دون تحصيل ، فوقتك رأس مالك ، والعلماء أبخل النَّاس بزمانهم
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
عاشرًا : الكتاب خير جليس ، وأفضل أنيس ، فلا تقرا قراءة الغافل ، بل حادثه وحاوره ، لا تكن كالإسفنجة تتشرب كل شيء ، بل كن كالقارورة المصمتة ، تبصر من وراء حجاب .
الجدول العلمي في كل فن
تبيهات :
1) ما يذكر من الكتب ليس ملزمًا فقد يكون هناك كتابًا آخر على نفس المستوى والشاكلة ، فاستنصح من خبير بالفن ليدلك .
2) عليك باقتناء الطبعات المحققة لاسيما لأئمة المحققين كالشيخ / أحمد شاكر ، والشيخ / الألباني ، والشيخ/ محمود شاكر ـ رحمهما الله ـ والأستاذ / عبد السلام هارون ، ومحمد أبو الفضل إبراهيم وغيرهم فاستبصر .
أولاً : القرآن الكريم .
• حفظه .
قال أهل العلم : أول العلم حفظ القرآن . فلابد أن يبدأ طالب العلم بحفظ القرآن الكريم كاملاً ، نعم حفظ القرآن فرض كفاية على الجملة ، لكنَّا نقول بتعينه على طلبة العلم الملتزمين في عصرنا ، فإذا تقاعس هؤلاء فمن يسد الثغرة ويكفَّ عن الأمة ؟
1) ومن أقرب الوسائل لذلك إدمان التلاوة ، واستغلال الأوقات المباركة كالسحر والبكور ، والتزام طبعة واحدة من المصحف لترتسم في مخيلتك صورة تتابع الآيات في الصفحة ، ودوام المراجعة في أداء نوافل الصلاة والقيام والسير في الطرقات ، وغض البصر فإنَّه من أكثر المعينات لحفظ العلوم كافة .(/1)
2) تأدب بآداب حفظ القرآن ، واقتنِ في ذلك ، " التبيان في آداب حملة القرآن " للإمام النووي ـ رحمه الله ـ
3) استثمر سني الحفظ الذهبية ( حتى الثالثة والعشرين من عمرك ) ، ومن فاتته فلا ييأس ، فالموفق من وفقه الله تعالى ، واستعن بالله ولا تعجز
تنبيه
من الكتب النافعة في مسألة حفظ القرآن .
القواعد الذهبية في حفظ القرآن الكريم للشيخ /عبد الرحمن عبد الخالق .
عون الرحمن في حفظ القرآن للشيخ / أبو ذر القلموني .
• أحكام التلاوة والتجويد .
لابد من المشافهة في تعلم هذا العلم .
اتقن قراءة من القراءات كحفص عن عاصم ،
ابدأ : بمتن تحفة الأطفال فاحفظها
ومن شروحه :
فتح الأقفال شرح متن تحفة الأطفال للناظم سليمان الجمزوري [2].
بغية الكمال شرح تحفة الأطفال الشيخ / أسامة عبد الوهاب .
ثنِّ : بحفظ متن الجزرية .
ومن شروحه
" فتح المريد في علم التجويد " عبد الحميد يوسف منصور .
وانتهِ : بهداية القاري إلى تجويد كلام الباري للشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي
• علوم القرآن
ابدأ بـ : لمحات في علوم القرآن . محمد الصباغ .
مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح أو مناع القطان .
ثنَّ بـ : التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن طاهر الجزائري .
ثمَّ : الإتقان في علوم القرآن السيوطي .
وانته بـ : البرهان في علو القرآن الزركشي .
• أصول التفسير
ابدأ بـ : رسالة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية .
ثنِ بـ : بحوث في أصول التفسير محمد الصباغ .
وأخيرًا : قواعد التفسير جمعًا ودراسة خالد بن عثمان السبت فإنَّه جيد في هذا الباب .
• كتب التفسير
من الكتب التي أرخت تأريخًا طيبًا لحركة التفسير " كتاب التفسير والمفسرون " للشيخ / محمد حسين الذهبي ، وهو كتاب جيد على الحقيقة .
أما كتب التفسير ذاتها
فابدأ بـ : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان عبد الرحمن السعدي ثمَّ : تيسير العلي القدير مختصر تفسير ابن كثير نسيب الرفاعي
أو عمدة التفسير (لكنه لم يكتمل ) أحمد شاكر
ثنِ بـ : محاسن التأويل القاسمي
انتهِ : جامع البيان لابن جرير الطبري
ثانيًا : علوم السنة
1) لا تشتغل بالحديث قبل حفظ القرآن وأخذ نصيبك منه .
2) لا تعمد إلى الاشتغال بفروع تخصصية قد سدَّها غيرك ، فتشتغل بمفضول عن فاضل .
3) الحديث بحر لا ساحل له فالنَّهل من السنة تفنى الأعمار دون الإتيان على آخره .
4) لابد أن تكون لك حصيلة ضخمة من الأحاديث النبوية تتكاثر مع الوقت ، فالسنة لواؤك ، وبها يقوم منهجك .
دواوين السنة
ابدأ بـ : الأربعين النووية فاحفظها
واستأنس بشرحها المبارك " جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي وقد زاد عليها .
ثمَّ : عليك بـ " رياض الصالحين " فإنَّه كتاب مبارك ، كتاب منهج ، سلفي محض .
واستأنس بشرحه " نزهة المتقين شرح رياض الصالحين " في مجلدين لمجموعة من العلماء ، ولشيخنا ابن عثيمين شرح حديث عليه فاقتنه .
ثمَّ : " الترغيب والترهيب " للمنذري ، وقد خرج تحقيق الشيخ الألباني لجزء منه .
ثمَّ : عليك بالكتب الستة :
قال بعض شيوخنا : لا يجاوز طال العلم الخامسة والعشرين إلا وقد أتى على الكتب الستة قراءة وفهمًا ، فعليك بـ :
صحيح البخاري مع شرحه الماتع " فتح الباري " .
صحيح مسلم مع شرح الإمام النووي له .
جامع الترمذي وشرحه " تحفة الأحوذي " للمباركفوري .
سنن أبي داود وشرحه " عون المعبود " لشمس الدين آبادي .
سنن النسائي وشرح السيوطي عليه .
وسنن ابن ماجه وشرح السيوطب عليه أيضًا .
واستأنس في السنن الأربعة بجهود العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ في تصحيحها وتضعيفها .
ثمَّ تنتهي بمرحلة " المعاجم والمسانيد والمصنفات " كمعاجم الطبراني الثلاثة ، ومسند الإمام أحمد ، ومسند البزار ، ومسند أبي يعلى ، ومصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة .
ولا يفوتك " الجامع الصغير وزياداته " للسيوطي ، مع تحقيق الشيخ الألباني في " صحيح الجامع الصغير " و " ضعيف الجامع " فإنَّه كتاب لا يخلو منه بيت داعية ولا طالب علم فضلاً عن عالم ، ويمتاز بسهولة وقصر أحاديثه فيمكنك حفظ طائفة هائلة من " صحيح الجامع " تكوِّن حصيلة جيدة لك .
والكتاب مرتب على حروف الهجاء ، وقد رتبه الأخ / عوني نعيم الشريف على الموضوعات ، وخرج في أربعة مجلدات باسم " ترتيب احاديث الجامع الصغير وزياداته " .
• مصطلح الحديث
ابدأ بـ : تيسير مصطلح الحديث محمود الطحان .
واحفظ : البيقونية ، واقتنِ شرح الشيخ ابن عثيمين عليها .
ثمَّ : نخبة الفكر وشرحها نزهة النظر لابن حجر العسقلاني .
ثمَّ : الباعث الحثيث لابن كثير ، أو قواعد التحديث للقاسمي .
ثمَّ : متن التقريب للإمام النووي ، وشرحه الجامع " تدريب الراوي " للسيوطي .
وأخيرًا : ألفية العراقي . وشرحه " فتح المغيث " للسخاوي .
وإن شئت ألفية السيوطي فلا بأس .
وفي علوم الحديث بشكل عام اقتنِ " مباحث في علوم الحديث " للشيخ/ مناع القطان .
تنبيه(/2)
لا بأس أن تتدرب على تخريج الأحاديث بالطريقة المثلى ، بتتبع الطرق والحكم على الأسانيد ، فقط على سبيل الدربة ، ففيها فوائد عظيمة تمكنك من الاحتكاك بكتب السنة ومعرفة مناهجها .
ولا شك أنَّك ستحتاج في بحثك عن معرفة أصول هذا الفن ، فاقتنِ :
أصول التخريج محمود الطحان .
التأصيل بكر أبو زيد ( خرج منه مجلد واحد فقط ) .
ثالثًا : علم التوحيد أو العقيدة .
ابدأ بـ : وأرشح لك ـ أيها المتفقه ـ بعض الكتب التي تدلك على العقيدة الصحيحة السلفية " عقيدة أهل السنة والجماعة."
ابدأ بـ : 200 سؤال وجواب في العقيدة .
ثمَّ : رسالة " العقيدة الصحيحة " للشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ
ثم َّ : شرح العقيدة الواسطية لخليل هراس .
وللشيخ ابن عثيمين مجموعة في (33 شريطًا ) في شرح الوسطية فاقتنه مع الكتاب .
ثمَّ : احفظ " كتاب التوحيد " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، وشروحه كـ " فتح المجيد " ، " وتيسير العزيز الحميد "
ثمَّ : معارج القبول للحافظ أحمد حكمي .
ثمَّ : شرح العقيدة الطحاوية. لأبى العز الحنفي.
إلى أن تنتهي بكتب سلفنا الرائعة مثل :
السنة . لابن أبي عاصم .
الإبانة . لابن بطة .
شرح أصول أهل السنة والجماعة للالكائي.
وفي بعض المباحث المهمة :
في الولاء والبراء : اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية .
في الاسماء والصفات القواعد المثلى في الاسماء الحسنى للشيخ ابن عثيمين .
العذر بالجهل للشيخ / أحمد فريد .
القضاء والقدر شفاء العليل لابن قيم الجوزية .
مسألة العلو اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية ، وكتاب " العلو للعلى الغفار " للحافظ الذهبي ، مع مختصره للشيخ الألباني .
وبالجملة ليكن لك من كتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمتنا منهلاً عذبًا ليصفو اعتقادك وفق عقيدة السلف الصالح .
رابعًا : الفقه .
تقدم معك رأينا في مسألة تعلم الفقه ، ولذلك فالاختيار أن يبدأ بمتن من المتون الفقهية على مذهب من المذاهب الأربعة المعتبرة
فابدأ بـ :
ففي الفقه الحنفي : " مختصر القدوري " المسمى بـ " الكتاب " مع شرحه " اللباب في شرح الكتاب " للشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني .
ثمَّ " بداية المبتدي " وشرحه " الهداية شرح بداية المبتدي " للمرغيناني ، وشرحها " العناية " للبابرتي .
ثمَّ " بدائع الصنائع " للكاساني .
وينتهي بموسوعة الفقه الحنفي " المبسوط " للسرخسي ، و" حاشية ابن عابدين " المسماه بـ " حاشية رد المحتار على الدر المختار "
وفي الفقه الشافعي : " متن أبي شجاع " أو يحفظ " متن المهذب " للشيرازي .
ثم عليه ب " الروضة " ، و " منهاج الطالبين" للإمام النووى –رحمه الله- .
فأما " الروضة" ، فهو مختصرُ من كتاب " فتح العزيز شرح الوجيز" للرافعىِّ .
وأمَّا " المنهاج " ، فإنه من الكتب المعتمدة عند المتأخرين من فقهاء الشافعية وهو مختصر لكتاب " المحرر " للرافعى كذلك .
ثم عليه ب " المجموع شرح المهذب " للإمام النووى أيضاً وهو أصلُ عظيمُ فى المذهب كله.
قال النووى –رحمه الله- : .............
وفي الفقه المالكي : " رسالة ابن أبي زيد القيرواني " المسماه بـ ( باكورة السعد ) أو ( مختصر خليل ) .
ثم عليه ب :
" مواهب الجليل شرح مختصر الخليل " للحطَّاب، وهو من أشهر شروح "مختصر الخليل" .
ثم عليه ب :
" الشرح الكبير على مختصر الخليل " لأحمد بن محمد بن محمد بن احمد العدوى المالكى الشهير بالدردير ( ت 1201 ه ) ، وهو من الشروح المعتمدة فى المذهب.
ثم " حاشية الدسوقى على الشرح الكبير" لابن عرفة الدسوقى ( ت 1230 ه ) .
ومن الكتب الحديثة :
" مواهب الجليل من أدلة الخليل " للشيخ أحمد بن أحمد المختار الشنقيطى –وهو ابن عام صاحب " أضواء البيان" ، وطبعته إدارة إحياء التراث الإسلامى بقطر .
وفي الفقه الحنبلي : متن " عمدة الأحكام " لابن قدامة المقدسي ، وشرحه " العدة "
ثمَّ " المقنع " لابن قدامة وشرحه " الروض المربع " .
ثمَّ " الكافي " لابن قدامة أيضًا .
وينتهي بـ " المغني " لابن قدامة ، الذي يعد مرجعًا مهم في الفقه المقارن ، وأنت ترى أنَّه في آخر الطريق ، وللأسف الشديد يبدأ به الكثيرون .
لا بأس في مرحلة متقدمة من الاستئناس بـ
" فقه السنة " للشيخ / سيد سابق ، مع تعليقات الشيخ / الألباني في " تمام المنة "
" سبل السلام " للصنعاني .
وعلى طالب الفقه المتقدم متابعة المجلات الفقهية المتخصصة ، وإصدارات المجامع الفقهية العالمية ، كالمجمع الفقهي بمكة ، وفتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية ، وفتاوى دار الإفتاء المصرية ، والقراءة في الأبحاث العصرية للاطلاع على رأي فقهاء العصر فيما يجد .
خامسًا : أصول الفقه .
1) لا يتعلم الأصول إلا بعد الانتهاء من المرحلة الأولى في الفقه ليتصور طالب العلم الفروع الفقهية في البداية ، ثمَّ يتعلم كيفية تأصيل الأصول ، وتخريج الفروع من الأصول .(/3)
2) قد يحتاج طالب العلم إلى دراسة منطقية أو كلامية ليحسن التعامل مع كتب الأصول التي استقت من المنطق والكلام ، فلا ينبغي أن يتعدى طالب العلم ذلك بمعنى ألا يستفيض في دراسة هذه العلوم التي كرهها سلفنا وحذروا منها كما تدري ، وبحمد الله ثمَّ جهود مباركة في تخليص علم أصول الفقه من الكلاميات ، والتركيز على جانب الثمثيل من النصوص الشرعية .
كيف تطلب علم الأصول ؟
ابدأ بـ : " أصول الفقه " لعبد الوهاب خلاف أو لأبي زهرة ، أو لأحمد إبراهيم ، ثمَّ للخضري .
ثمَّ : " أصول الفقه " لأبي النور زهير .
ثمَّ : " معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة " لمحمد حسين الجيزاني .
والحنفي المذهب :
عليه بحاشية " التلويح على التوضيح " للتفتازاني .
" والتقرير والتحبير " للكمال بن الهمام .
ومن عداه عليه بـ : " نهاية السول " للإسنوي الشافعي ، " وجمع الجوامع " لتاج الدين السبكي .
وتنتهي عند أفضل ما ألِّف في الأصول ومقاصد الشريعة " كتاب الموافقات " للإمام الشاطبي .
وفي قضية مقاصد الشريعة لا بأس بكتاب " مقاصد الشريعة " للطاهر بن عاشور أو لعلال الفاسي.
ومن هذا الباب كتاب " مقاصد المكلفين " للدكتور/ عمر الأشقر .
وهو بحثُ مفيدُ ماتعُ عليك به، ولو أن تسطره بيدك لكان أولى.
سادسًا : علوم اللغة .
1) علوم اللغة متشعبة ، والمجتهد في اللغة مجتهد في الشرع كما قال الشاطبي .
2) إنَّما سقمت الأفهام يوم صرنا أعاجم فلا تقل : علوم لغة ، وعلوم شرع ، فعلوم اللغة جزء خطير من علوم الشريعة ، فعليها مدار ضبط الأفهام فتنبه .
في علم النحو :
ابدأ بـ : " الأجرومية " فاحفظها ، واستأنس بشرح " التحفة السنية " عليها للشيخ / محمد محيي الدين عبد الحميد .
ثمَّ : " قطر الندى " لابن هشام .
ثمَّ : " شذور الذهب " له أيضًا .
وفي المرحلة الثانية
ابدأ بـ : حفظ الألفية وتدرج مع شروحها .
شرح ابن عقيل ، ثمَ شرح الأشموني ، ثمَّ حاشية الصبان
وفي المرحلة الثالثة
عليك بـ " مغني اللبيب " لابن هشام ، و " المفصل " لابن يعيش ، وأخيرًا " الكتاب " لسيبويه .
في علم الصرف
ابدأ بـ " شذا العرف في علم الصرف "
ثمَّ " لامية الأفعال " ، وكثير ممَّا مرَّ ذكره من الكتب النحوية تحوي مباحث علم الصرف المختلفة .
في علم البلاغة
ابدأ بـ " البلاغة الواضحة " لعلي الجارم
ثمَّ " مقدمة تفسير ابن النقيب " تحقيق د/ زكريا سعيد علي .
ثمَّ " أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " كلاهما لعبد القاهر الجرجاني بتحقيق الشيخ /محمود محمد شاكر .
في غريب الكتاب والسنة .
المفردات في غريب القرآن الراغب الأصفهاني .
النهاية في غريب الأثر لابن الأثير
في المعاجم
اقتنِ " مختار الصحاح " لا يفارقك جيبك .
ثمَّ ابدأ في التعامل مع المعاجم المختلفة بأنواعها :
كالوسيط والوجيز ، ولسان العرب لابن منظور ، والبحر المحيط للفيروز آبادي .
في الأدب
ابدأ بـ " حفظ المعلقات السبع " لتكوِّن حصيلة لغوية جيدة .
اقرأ في " خزانة الأدب " للبغدادي ، " صبح الأعشى " للقلقشندي ، ودواوين أبي الطيب المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي العتاهية وغيرهم من الشعراء ، تجنب الرديء المخالف ، والتمس من أشعار الحكمة ما ينفعك .
أيها المتفقه ..
قد آذن الركب بالرحيل ، وقد بلغت جهدي في نصحك ، فهلا شمرت عن ساعد الجد ،عساك أبصرت السبيل ، وقد بقى اليسير من العمل ، كي نبلغ فيك الأمل ، فبالله لا تركن فأمتك مقهورة ، والأيدي مقطوعة ، والآمال عليك معقودة.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما يعلمنا ، وأن يزيدنا علمًا .
------------------
[1] ممَّا يحرم تعلمه السحر والموسيقى ، وكذلك الفلسفة في قطر لم تفشُ فيه ، فإنْ فشت تعلمها المضطر لاستدفاع ضررها عن الناس ، وبيان خطرها ، ورد قالة السوء ، ومنها تعلم القوانين الوضعية للحكم بغير ما أنزل الله ، والقاعدة شهيرة : الوسائل تأخذ حكم المقاصد ، فكل ما أدى إلى حرام فهو حرام ، كمن يتعلم صناعة الخمور أو السجائر ، أو المعاملات الربوية الخبيثة في البنوك وشركات التأمين ، فكل ذلك حرام تعلمه فضلاً عن العمل به .
[2] طُبع بمكتبة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر الشريف .
وكتبه
محمد بن حسين يعقوب(/4)
نحو منهج عملى للمبتدئين في التربية
قد آذن الركب بالرحيل ومازلت أراك حائرًا ، تتعثر خطاك ، تقول : كيف السبيل ؟ كيف أطلب العلم ؟ من أين أبدأ ؟
وإنْ كان مضى طرفٌ من ذلك عارضًا فيما مرَّ فذا أوان بيانه ، فامضِ بإذن الله موفقًا ، والله أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل ، وأنْ يكتب لنا الصواب ، ويجنبنا الزلل إنَّه ولي ذلك والقادر عليه .
أيها المتفقه ..
لابد لك من منهجين يمضيان معًا ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، منهج في تلقي العلوم الشرعية ، ومنهج في التربية ، فأنت تعلم أنَّ أصول المنهج ثلاثة : التوحيد والاتباع والتزكية .
قال الله تعالى : " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " [ البقرة/129 ]
وقوله تعالى : " لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين " [آل عمران/164]
وقال جل وعلا : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ " [ الجمعة/2 ]
فرسالة الأنبياء وورثتهم من بعدهم تتناول تلك الجوانب الثلاثة ، فلابد من علم وعمل ودعوة ، لابد من تزكية للنفوس وشحذ للعقول ، والمنهج الذي لا يراعي هذه الجوانب الثلاثة منهج يجانب الصواب .
منهج للمبتدئين في التربية
أولاً : قواعد هامة عامة في أصول المنهج :
1) لقبول العبادة شرطان : الإخلاص ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم
قيل : ( قولوا لمن لم يك مخلصاً : " لا تتعنّ " ) .
فلذلك حرر الإخلاص واجتهد في ذلك واحرص على أن يكون عملك لله وحده لا رياء الناس ، ولا شهوة ، ولا هوى وحظ نفس ، ولا لطلب الدنيا والعلو فيها ، والأمر يحتاج إلى جهاد وصبر ومثابرة .
2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " [1]
فلا تتعبد إلا بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفهم السلف لأصول العبادات ، ولا تبتدع في دينك ، فالبدعة شر من المعصية .
3) التدرج أصل في هذا المنهج فأوغل في الدين برفق ، وراع فقه النفس ، ولا تحملها فوق طاقتها فتستحسر وتترك ، ولكن لا يكون التدرج تكأة للتفريط ، ولا مدعاة للكسل ، ولا سبيلاً لسقوط الهمة وعدم طلب الأعلى والأكمل والأفضل ، قال ابن الجوزي :
( للنفس حظ وعليها حق ، فلا تميلوا كل الميل ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ) .
4) والصبر أصل آخر فلا تظن أنك ستجد قرة العين في الصلاة من أول مرة أو تستشعر حلاوة ولذة القيام في البداية أو تجد الخشوع والدموع عند تلاوة القرآن منذ الآية الأولى ، كلا ولا ، فالأمر يحتاج إلى صبر وصدق ومعاناة .
قال بعض السلف : ( عالجت قيام الليل سنة ثم تمتعت به عشرين سنة ) فاصبر سنة وسنوات لتنال الرتب العالية .
5- المجاهدة والمعاناة أصل مع الصبر والاصطبار .
قال بعض العلماء : ( من أراد أن تواتيه نفسه على الخير عفواً فسينتظر طويلاً بل لابد من حمل النفس على الخير قهراً ) وهذا هو الحق المطلوب أن يحمل الإنسان نفسه على الخير حملاً .
قال بعض السلف : ( عودوا أنفسكم على الخير فإن النفوس إذا اعتادت الخير ألفته ) جاهد نفسك لعمل الخير ، جاهد نفسك لتحقيق الإخلاص ، جاهد نفسك لتحسين العمل ، جاهد نفسك للارتفاع بمستوى إيمانك ، جاهد نفسك لتكون من المتقين .
6- تدرب ذهنياً على العبادات قبل أدائها
بمعنى أنك ينبغي أن تقرأ عن الصلاة ، وفضل قيام الليل ، وجزاء الصائمين القائمين ، وعاقبة المتصدقين قبل أداء هذه العبادات ، وكذلك قراءة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والصالحين لتكوين صورة لهذه العبادات ذهنياً، واستشعارها قلبياً ، ثمَّ الدخول في هذه العبادات بهذا التصور ، فيكون الأمر أسلم وأدعى لتحصيلها على أحسن صورها وأكمل أحوالها .
7- لا تستخف بقدراتك وكن مستعداً للمجازفة .
إنَّ عدم المجازفة نتيجة الخوف من الفشل عائق للنجاح ، إنَّ العبد الرباني الذي يعتمد على الله ويتوكل عليه ثم يحزم أمره وينطلق في عمله .
قال الله تعالى : "وإذا عزمت فتوكل على الله " [ آل عمران/159 ]
وقال جل وعلا : " فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم " [ محمد/21]
أنت قوي فتوكل على الله ، وأنت تستطيع الكثير ، ولست أقل ممَّن وصلوا إلى المراتب العليا في العلم والعمل ، بقي لك الصدق والتوكل ، ثمَّ إذا أخفقت أو فشلت فأعمل فكرك كيف تجنب نفسك الإخفاق مرة أخرى .
8- اطلب النتيجة لا الكمال .(/1)
إنَّ المسلم الحكيم هو الذي يطلب النتيجة الصحيحة عبر مقدماتها الصحيحة دون أن يبالغ في مطلبه ، فينزع إلى اشتراط الكمال في مواهبه ، فإذا وجد قصوراً في نفسه ـ وهو لا شك واجد ـ سارع إلى إصلاحه ، واجتهد في تصحيحه ، وليس شرطاً أن يصير صحيحاً مائة في المائة ، لابد من قصور ( فاستمتع بها على عوج ) .
إنَّ الانشغال بتحسين نتائج العمل خير ألف مرة من اشتراط الكمال في الأعمال لأن ذلك مثبط عن الأعمال ودافع إلى الانقطاع والاستحسار .
8) تكامل الشخصية الإيمانية بتكامل أعمال الإيمان .
قالوا : ( لو أنَّ للنفوس بصمات لكانت أشد اختلافاً من بصمات الأصابع ) ومن ثمَّ فليس كل علاج موصوفاً يناسب جميع النفوس ؛ وقد علم فاطر النفوس سبحانه أنَّ خلقه هكذا ، فجعل مراضيه سبحانه متعددة ، تناسب إمكانات النفوس وطاقاتها وقدراتها ، فشرع سبحانه الصيام والصلاة ، والذكر والصدقة ، والقرآن وخدمة المسلمين ، وطلب العلم وتعليم الناس ، والحج والعمرة ، كل من هذه العبادات وعشرات غيرها منها فرائض ، ومنها نوافل ، وجعل سبحانه الفرائض بقدر ما لا يشق على النفوس ، ثمَّ فتح الباب في النوافل يستزيد منها من يشاء ، ولا حرج على فضل الله ، فقم بالفرائض فأدِّها كما ينبغي ، ثمَّ اعمد إلى النَّوافل فاستزد ممَّا تجد في نفسك رغبة وهمة إليه .
قال الله في الحديث القدسي : " وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه "[2] ، فزد في النوافل قدر ما تستطيع ، ولكن لكل نفس باباً يفتح لها من الخير ، تلج فيه إلى منتهاه .
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : أنا لا أصوم ـ يعني النوافل ـ لأن الصوم يضعفني عن الصلاة ، وأنا أفضِّل الصلاة على الصيام .
هذا المنهج يناسب ـ إن شاء الله تعالى ـ جميع النفوس ، حاولت أن أستوعب فيه جميع جوانب العبادة ، ولكن إذا وجدت من نفسك همة ونشاطاً في جوانب العبادة فاسلكه ، ولا تتوان وزد فيه ، ولا تتأخر لعل الله يجعل فيه زكاة نفسك ، والتزم جميع الجوانب بقدر الإمكان ، فإنها مكملات لشخصيتك الإيمانية .
10- المتابعة أم المداومة والاستمرار أبو الاستقرار .
لابد لشيخ متابع ، أو أخ كبير معاون ، أو على الأقل زميل مشارك ، لا تكن وحدك ( فإنَّما يأكل الذئب القاصية )[3] فليكن لك شيخ يتابعك إيمانياً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع أصحابه يومياً فيقول : ( من أصبح منكم اليوم صائماً ، من أطعم اليوم مسكيناً ، من عاد اليوم مريضاً ) [4]
وقد أمره ربه بذلك في أصل أصول التربية فقال :
" واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم " [ الكهف/28] فابحث لك عن شيخ وبالإخلاص ترزق ، وابحث عن أخ كبير تستشيره ، فهو ذو خبرة سابقة تنفعك ، وائتلف مجموعة من الإخوة الأقران يكونون عوناً لك على طاعة الله ورسوله ، فتكونون " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " [الفتح/29 ]
11- لا تمنن تستكثر
اعلم ـ أخي ـ رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل ، والسر والجهر، أنَّ التحدث بالعمل لا تخلو من آفات ، فإمَّا أن يكون إظهار العمل للرياء والفخر والسمعة فيحبط عملك أو تحسد .
فالإيمان يتعرض للحسد فتحصل الانتكاسة ، فاكتم عملك ، وأسرَّ بقرباتك ، ولا تحدث بطاعاتك تسلم .
ونصيحة أخرى : أنَّك لا تدري أي أعمالك حاز القبول ، ونلت به الرضا ، فمهما كثر عملك فلتكن على وجل خوفَ الرد وعدم القبول ، أو حَذر الحسد ، وإفساد الأحوال ، ولا تفتر فتهلك ، نعوذ بالله من تكدير الصافي ، ونسأل الله السلامة والمسامحة .
المنهج
أولاً : القرآن الكريم
قال بعض السلف : كل ما شغلك عن القرآن فهو شؤم عليك .
اعلم أنَّ القرآن العظيم كلام الله تعالى من أكبر عوامل التثبيت على الإيمان .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن ، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " [5].
وتلاوة القرآن من أفضل القربات
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه "[6] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه ( إن الله أنزل هذا القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً ) ولذلك اجتهد في تلاوة القرآن ليلك ونهارك .
وهاك منهجك في تلاوته :
1- التلاوة أهم من الحفظ ، والجمع بينهما هو المتحتم لمن يريد التربية .
2- ختم المصحف كل جمعة هو هدي السلف رضوان الله عليهم أجمعين ، وذلك بأن تتعود أن تقرأ جزءًا من القرآن كل صلاة فريضة ، إما قبلها ، وإما بعدها ، أو يتم قسمته ما بين الصلاتين ، تبدأ من عصر الجمعة ، وتنتهي عصر الخميس من كل أسبوع ، ولليلة الجمعة وظائفها .(/2)
إن لم تستطع فعلى الأقل جزأين كل يوم في الصباح جزء وفي المساء مثله ، أدنى الأحوال أن تقرأ جزءاً كل يوم فلك كل شهر ختمة وهذا فعل ضعيف الهمة فلا تدم عليه وإنما زد وردك بالتدرج لتختم كل أسبوع .
3- عند التلاوة اجتهد في التدبر وذلك يحصل بالآتي :-
أ- حضور القلب عند التلاوة وتفريغه من الشواغل بقدر الإمكان .
ب- استشعار أن القرآن كلام الله العظيم فاخشع .
ج- اجمع أهلك على التلاوة معك حتى ولو في بعض ما تتلو وتدارس معهم القرآن .
د - الأمر يحتاج إلى صبر فليس من أول مرة يحصل لك الخشوع فلا تعجل واصبر ولا تجزع
ه - مصحف يشتمل على معاني الكلمات على الأقل فتنظر فيما تريد فهمه .
و - لابد من حفظ القرآن فهو من فروض الكفايات ولذلك طرق منها :
* تعلم القرآن على يد شيخ متقن ولو بالأجر فالقرآن أغلى .
* استشر أهل الخبرة في كيفية حفظ القرآن وطالع بعض الكتب المهمة في ذلك .
* لابد من التسميع اليومي لزوجتك أو أحد أولادك ولا تتكبر عن ذلك ومن التسميع الأسبوعي أو نصف أسبوعي للشيخ .
ثانياً : الصلاة
1- الفرائض :
أ - أصلح صلاة الفريضة أولاً بالحرص على صلاة الجماعة في المسجد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى لله أربعين يوماً في جماعة لا تفوته تكبيرة الإحرام كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق "[7] .
حاول تحقيق هذا الحديث وكلما فاتتك تكبيرة الإحرام فابدأ الأربعين مرة أخرى من الأول .
ب- احرص على الوضوء والوصول إلى المسجد مبكراً فإنه مهم لصلاح القلب .
ج- احرص على الصف الأول خلف الإمام فإنه أدعى للخشوع وحضور القلب .
د- اطرد الشواغل وفرغ قلبك واستشعر حلاوة الإيمان واجعل الصلاة قرة عين لك .
ه- أذكار الصلاة مهمة تدبرها وابحث عن معانيها وافهم ما تقول واستحضر معنى ما تدعو به
و- تدبر ما تتلو من القرآن في الصلاة فإنه أدعى لحضور القلب واجعل قراءتك من المحفوظ الجديد ولا تصل بالعادة بسور محددة تكررها في كل صلاة .
2- النوافل :
- قال الله في الحديث القدسي " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ،ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " [8]
1- استحضر هذا الحديث عن صلاة النوافل لتطلب بها حب الله حتى يعطيك ما تسأل ويعيذك مما تكره .
2- النوافل حريم الفرض فمن فرط في السنن أوشك أن يفرط في الفريضة ومن حافظ على السنن كانت الفرائض في حماية فأحط فريضتك بسنن تحميها .
3- النوافل تتمم الفرائض الناقصة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى عليَّ صلاة لم يتمها زيد عليها من سبحاته حتى تتم "[9] فأتمم النواقص بنوافل كثيرة يتم الله لك .
4- السنن الراتبة لا تفرط في شيء منها أبداً
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بُني له بيت في الجنة ، أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل صلاة الفجر " [10]
5- صلاة التطوع كثيرة فأكثر ما استطعت فقد قال الله تعالى " واسجد واقترب "
( العلق 19) فكلما سجدت أكثر كان قربك من الله أكثر وصرت عن الدنايا أعلى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة " [11]
وهاك بعض المستحبات :
ثمان ركعات ضحى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلَّى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ، ومن صلى أربعاً كتب من العابدين ، ومن صلى ستاً كفي ذلك اليوم ، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين ، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة " [12]
أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار " [13]
أربع ركعات قبل العصر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " [14].
ركعتين قبل المغرب وركعتين قبل العشاء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" بين كل أذانين صلاة قالها ثلاثا قال في الثالثة : لمن شاء " [15]
3- القيام :
وما أدراك ما القيام ، إن لقيام الليل أسرار . إنه إعداد للرجال .. إنه يثبت القلوب على الحق ويزيدها قوة إلى قوتها ، إنه سر فلاح العبد ، يبعد عن الخطايا والذنوب ويزيد الإيمان ، يلحق العبد بالصالحين ، ويبلغه مرتبة القانتين المحسنين يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة لغرفا ، يرى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها .
فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟
قال : هي لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى لله بالليل والنَّاس نيام " [16]
وقال صلى الله عليه وسلم :(/3)
" عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم " [17]
وهاك طريقة التدرج في القيام :
*- ركعتين على الأقل في جوف الليل وليس الطول شرطاً لهما ولابد من القراءة من المحفوظ من القرآن .
*- في اليوم الثاني مباشرة لا تتكاسل ولا تفرط اجعلها أربعاً واجتهد في التدبر لتشعر بحلاوة الإيمان .
*- وبعد أسبوع اجعلها ستاً ثم ثمانية غير الوتر .
*- ابدأ بعد ذلك بتطويل الركعات حتى ولو بالقراءة من المصحف .
*- استشعر حال قيام الليل الأنس بالله والخلوة معه سبحانه .
*- لعدم الملال المسبب للترك لا تجعل صلاتك على وتيرة واحدة كل ليلة :
فليلة أوتر بخمس ، وليلة أخرى أوتر بثلاث ، وليلة أوتر بسبع ، وليلة طول القيام مع عدد ركعات أقل ، وليلة لطول السجود ، وليلة لتكثير الركعات وتخفيف الصلاة ….وهكذا
*- إذا فاتك القيام بالليل اقضه بالنهار .
4- الصيام :
أ - صيام الاثنين والخميس والثلاثة أيام البيض من كل شهر مدرجة لخير الصيام .
ب- إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك ففي الصيام احفظ لسانك وليكثر ذكرك لله وليظهر على سمتك الخشوع والوقار والإخبات وإياك والمعاصي فيفسد الصيام .
ج - احرص على السحور متأخراً وعجل الإفطار .
د- احرص على أن يصوم معك أهل البيت وشجعهم على ذلك واجتمعوا على الإفطار والسحور .
ه- احرص على إفطار الصائم : ادع غيرك إلى الصيام وفطر الصائمين .
و- استشعر المعاني الإيمانية أثناء الصيام من إقامة حاكمية الله على النفس الأمارة بالسوء فتعود أمة مأمورة غير آمرة ومطيعة غير مطاعة ، وأيضا استشعار ذل الفقر والحاجة والضعف والفاقة ، وأيضاً استشعار نعمة الله في المطعم والمشرب .
5- الاعتكاف :
مع ضجيج الحياة وكثرة صخبها مع المادية القاتلة التي تطحن الناس بين رحاتها مع ضرورة الاختلاط بالناس يتكدر القلب ويتعكر صفو النفس فنحتاج إلى هدوء وراحة فلابد لها من عزلة وخلوة ولذلك يلزمك أخي طالب التربية إلى اعتكاف يومي فأخذ لنفسك الأنسب لحالك ولا تفرط : إما بين المغرب والعشاء يومياً وإما بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس كل يوم
وفي هذا الاعتكاف اليومي لابد لك من أمور :
1- استصحب النية أولاً وارج ثواب الله .
2- ذكر الله هو الأصل في هذه الجلسة واستشعر أن جليسك الله ، قال تعالى في الحديث القدسي : " أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه " [18] فاجلس بالرغبة والرهبة .
3- من آداب هذه الجلسة : ألا تلتفت ، ولا تنشغل بغير ذكر الله ، وليتعود النَّاس منك ذلك ، ألا تكلم أحداً ، ولا تسلم على أحدٍ ، ولا تشارك في شيء ، بل هذه خلوتك .
وقد يكون هذا الاعتكاف في مسجد لا يعرفك فيه أحد ، أو إذا تعذر الأمر فاجعل لك خلوة في بيتك ساعات كل يوم ، حيث لا يراك أحد ، ولا يشغلك شيء .
4- المحاسبة اليومية من أهم أعمال هذه الخلوة ، فالزم نفسك المحاسبة ، والتزم بالكلمات الخمس :
*- المشارطة : أن تشترط على نفسك صبيحة كل يوم أن تسلمها رأس المال وهو العمر (24 ساعة ) ، والأدوات : وهي القلب والجوارح ، وتشترط عليها أن تضمن لك بذلك الجنة بالأعمال الصالحة آخر النهار .
*- المراقبة : أن تراقب نفسك طيلة اليوم ، فإنَّ همَّت بمعصية ذكَّرْتَها بالمشارطة ، وإن توانت عن طاعة زجرتها بالمشارطة .
*- المحاسبة : أن تستعرض شريط يومك نهاية كل يوم ، وبالورقة والقلم يتم حساب الخسائر والأرباح ، ومعرفة مصير المشاركة مع النفس .
*- المعاتبة : أن يحصل عتاب على التقصير .
*- المعاقبة : أن يتم العقاب على الذنوب والغفلة ، فتعاقب نفسك بحرمانها من بعض شهواتها ، وإلزامها بزيادة قرباتها ، بذلك تنجو من شرها ، وتقودها سالمة إلى ربها ، والله المستعان .
اعتياد هذا الاعتكاف بهذا البرنامج يومياً يؤدي إلى تلافي الأخطاء ، وإصلاح الأحوال فاصبر ، والزم تلتزم .
6- الذكر .
قال الله تعالى : " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " [ آل عمران/191 ]
وقال جل وعلا : " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " [ الرعد/28 ]
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " دلني على عمل أتشبث به قال : لا يزال لسانك رطباً بذكر الله " [19].
وفي الكلمات الخمس التي أمر الله بها يحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ أن يعمل بها ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن : " وآمركم أن تذكروا الله ، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا ، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله " [20].
الذكر نجاه ، ذكر الله بركة ، ذكر الله هداية ، ذكر الله نعمة ونعيم ، وقرة عين ، وأنس روح ، وسعادة نفس ، وقوة قلب ، نعم ذكر الله روح وريحان ، وجنة نعيم .
• عوِّد لسانك : رب اغفر لي فإنَّ لله ساعات لا يرد فيها سائلاً .(/4)
• الأذكار الموظفة في اليوم والليلة افرضها على نفسك فرضاً ، وعاقب نفسك على التفريط في شيء منها ، وهي أذكار دخول البيت والخروج منه ، وكذا المسجد وكذا الخلاء ، وأذكار الطعام والشراب واللباس ، والوضوء والصلاة والنوم والجماع ، وأذكار الصباح والمساء .
• احمل في جيبك المصحف ، وكتاب حصن المسلم ، ولا تفرط فيهما أبداً .
• احفظ الأذكار ، وراجعها دائماً على الكتاب ، واسأل عن معناها ، وافهم ما تقول .
• كثرة الصلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم بلا عدد محصور تزيل الهمّ .
• كثرة الاستغفار تزيد القوة .
• الباقيات الصالحات : " سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله " خير ثواباً وخير أملاً .
• التهليل قول : " لا إله إلا الله " حصن حصين من الشيطان ، والحوقلة قول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " كنز من كنوز العرش .
• سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ثقيلتان في الميزان .
عموماً قال الله تعالى : " فاذكروني أذكركم " [ البقرة/152 ] فاذكر الله يذكرك ، ولا تنْسه فينساك.
عبودية المال
المال فتنة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال " [21]
ونحن في زمن الماديات ، وصراع الناس على الكماليات ، وهموم الناس الدنيئة التي خرَّبت قلوبهم وعلاقتهم بربهم في زمن التعاسة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدرهم والدينار "[22] .
في هذا الزمن الحرج يحتاج الإنسان إلى التخلص من ربقة المادية الطاغية ؛ وذلك ببذل المال ، قال تعالى : " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " [ الحشر/9 ]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصدقة برهان "[23] أي دليل على حب صاحبها لله .
فهيا ـ أخي طالب التربية ـ لتربي نفسك على الزهد في الدنيا :
*- ألا يكون للدنيا أي قيمة في قلبك ، فهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، فلا تفرح بإقبالها ، ولا تحزن على إدبارها ، ولتستوِ عندك الحالتان ؛ لأنك عبد للمعطي المانع قال تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " [ الحديد/23]
قيل للإمام أحمد بن حنبل : الرجل يملك ألف دينار ويكون زهداً !!
قال : نعم . قيل : كيف ؟! قال : إذا لم يفرح إذا زادت ، ولم يحزن إذا نقصت .
أيها المتفقه ..
قد آذن الركب بالرحيل ، وقد بلغت جهدي في نصحك ، فهلا شمرت عن ساعد الجد ،عساك أبصرت السبيل ، وقد بقى اليسير من العمل ، كي نبلغ فيك الأمل ، فبالله لا تركن فأمتك مقهورة ، والأيدي مقطوعة ، والآمال عليك معقودة.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما يعلمنا ، وأن يزيدنا علمًا .
--------------
[1] أخرجه مسلم (1718) ك الأقضية ، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .
[2] أخرجه البخاري (6502) ك الرقاق ، باب التواضع.
[3] أخرجه أبو داود (547) ك الصلاة ، باب التشديد في ترك الجماعة ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5701) .
[4] أخرجه مسلم (1028) ك الزكاة ، باب من جمع الصدقة وأعمال البر .
[5] متفق عليه . أخرجه البخاري ( 7086) ك الفتن ، باب إذا بقي في حثالة من الناس ، ومسلم (143) ك الإيمان ، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، وعرض الفتن على القلوب.
[6] أخرجه مسلم (804) ك صلاة المسافرين وقصرها ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة .
[7] أخرجه الترمذي (241) ك الصلاة ، باب ما جاء في فضل التكبيرة الأولى ، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6365)
[8] تقدم تخريجه قريبًا .
[9] أخرجه الطبراني في الكبير (18/22) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6348)
[10] أخرجه الترمذي (414) ك الصلاة ، باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة ، وقال : حديث غريب ، وابن ماجه (1140) ك إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السنة ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6362)
[11] أخرجه مسلم (753) ك الصلاة ، باب فضل السجود والحث عليه
[12] أخرجه الطبراني في الصغير (1/182) وقال الهيثمي في المجمع (2/237) : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين وابن حبان ، وضعفه ابن المديني وغيره وبقية رجاله ثقات .
[13] أخرجه الترمذي (428) ك الصلاة ، وقال : حسن صحيح غريب ، وابن ماجه (1160) ك إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء فيمن صلى فبل الظهر أربعا وبعده أربعا . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6364)
[14] أخرجه الترمذي (430) ك الصلاة ، باب ما جاء في الأربع قبل العصر ، وقال : غريب حسن ، وأبو داود (1271) ك الصلاة ، باب الصلاة قبل العصر . وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3493)
[15] أخرجه مسلم (838) ك صلاة المسافرين وقصرها ، باب بين كل أذانين صلاة .(/5)
[16] أخرجه الترمذي (2526) ك صفة الجنة عن رسول الله ، باب ما جاء في صفة غرف الجنة ، وقال : حديث غريب ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2123)
[17] أخرجه الترمذي (3549) ك الدعوات عن رسول الله ، باب في دعاء النبي ، وقال : حديث غريب ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4097) .
[18] أخرجه ابن ماجه (3792) ك الأدب ، باب فضل الذكر ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1906) .
[19] أخرجه الترمذي (3375) ك الدعوات عن رسول الله ، باب ما جاء في فضل الذكر ، وقال : حسن غريب ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7700) .
[20] أخرجه الترمذي (2863) ك الأمثال عن رسول الله ، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة ، وقال : حسن صحيح ،
[21] أخرجه الترمذي (2336) ك الزهد عن رسول الله ، باب ما جاء أنَّ فتنة هذه الأمة في المال ، وقال : حسن صحيح غريب ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2148) .
[22] جزء من حديث ، أخرجه البخاري (2887) ك الجهاد والسير ، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله .
[23] أخرجه مسلم (223) ك الطهارة ، باب فضل الوضوء .
وكتبه
محمد بن حسين يعقوب(/6)
نداء التوحيد والذكر من الحجيج
إعداد/ د. جمال المراكبي ـ الرئيس العام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا يزال حديثنا موصولاً مع ذكر الله عز وجل.
وحيث إننا في أيام مباركات، وومناسك فيها نفحاتٌ وبركاتٌ وكراماتٌ، فكان الواجب أن نربط حديث الذكر بهذه الأيام والمناسك والبركات.
الذكر في الصلاة والحج
لا شك عند كل ذي علم وبصيرة أن العبادات ما شُرِعتْ إلا لإقامة ذكر الله عز وجل.
قال الله تعالى لنبيه وكليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه: 14].
والمعنى: أقم الصلاة لتذكرني بها، وقيل: وأقم الصلاة عند ذكرك لي.
[تفسير البغوي وابن كثير عن مجاهد ومقاتل]
والصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو ذكر الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن».
[مسلم كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة] (ح836)
وقال صلى الله عليه وسلم عن المساجد التي هي مواضع الصلاة: «إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن».
[مسلم كتاب الطهارة ح429]
وفي الصحيحين: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: وأقم الصلاة لذكري.
وهذا وجه آخر لتفسير الآية ذكره ابن كثير وغيره.
والصلاة من أولها إلى آخرها ذكر ودعاءٌ وثناءٌ ومناجاة بين العبد وربه، فمفتاحها التكبير، وتحليلها التسليم، وبين ذلك دعاء الاستفتاح وقراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن وأذكار الركوع والسجود والاعتدال والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتعوذ دبر الصلاة والدعاء، وبعدها أذكار الختام، والدعاء إليها ذكر وإجابة المؤذن الداعي إليها ذكر، وفيها من معاني الاستجابة لله والتلبية لدعائه ما لا يفطن إليه إلا كل ذاكر حاضر القلب ليس بغافل ولا ساهٍ لذا يقول المصلي في استفتاحها: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي واعترفتُ بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك». وإذا ركع المصلي (معظمًا ربه مسبحًا منزهًا إياه) يقول: «اللهم لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي».
وإذا رفع قال: «اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد».
وإذا سجد قال: «اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين». ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت».
[رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين، ح رقم 1290]
فما أعظم هذا الذكر، وما أجمل هذه المناجاة من قلب يعي ما يقول، ويعرف عظمة من يناجي، فيخشع ظاهرًا وباطنًا ويخضع راضيًا مطمئنًا، ويمتزج هذا الخشوع بدمه وعظمه وعصبه ومخه، ويظهر على سمعه وبصره، فيكون الله سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، يوالي الله ويوالي في الله، ويعادي من عاداه، يحب الله ويجد قرة عينه في الصلاة، ويحب لله وفي الله، فهذا هو ولي الله الذي يدفع الله عنه ويغضب لغضبه ويؤذن من عاداه بالمحاربة، ويستجيب دعاءه وإذا أقسم على ربه وخالقه ومولاه أبر الله قسمه، وإن لم يكن من وجهاء الناس: «رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره».
وكذلك الحاج يأتي ربه ذاكرًا ملبيًا مستجيبًا، قد تجرد من دنياه، وترك بلده وأرضه وأهله وثياب زينته، وأقبل على الله أشعث أغبر مُحْرِمًا، يلبي ويكبر، ويدعو ويستغفر، ويقف عند المشاعر وقد تملكته مشاعر الحب والرغبة والرهبة والخوف والرجاء، ولا يفتر قلبه ولا لسانه عن ذكر ربه وخالقه ومولاه.
وقد أمر الله عز وجل الحاج بذكره، وكرر الأمر في مواضع من كتابه العزيز، حتى لا تكاد تجد آية في كتاب الله عز وجل تخاطب الحاج إلا وتجد فيها الأمر بذكر الله عز وجل.(/1)
قال تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202) واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة: 198- 203].
وقال تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:27-29].
وقال تعالى: ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35) والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون [الحج:34-36].
ويبدأ الحاج ذكر الله عند إحرامه فيسمي نسكه حجًا كان أو عمرة، مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا بين الحج والعمرة، ويُهل ويلبي بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك». ويرفع صوته بالتلبية حتى يأتي البيت فيطوف بالكعبة سبعًا ويصلي ركعتي الطواف ثم يسعى بين الصفا والمروة وهو في ذلك كله لا يفتر لسانه عن ذكر الله عز وجل بما يفتح الله عليه من الذكر والدعاء والابتهال والمناجاة.
ثم يخرج إلى منى يوم التروية محرمًا يوم الثامن من ذي الحجة فيصلي بها يقصر الصلاة الرباعية، ثم يتوجه إلى عرفات صبح يوم التاسع فيقف بها ذاكرًا داعيًا متخشعًا ويصلي بها الظهر والعصر قصرًا وجمعًا ذاكرًا ربه على الهداية إلى الدين الحق، وإلى النسك الذي يقرب من الله عز وجل، ثم يفيض الحجيج من عرفات إلى المزدلفة فيبيتون بها، ويصلون بها المغرب مع العشاء جمعًا وقصرًا للرباعية، ثم يكثرون من الذكر والاستغفار والدعاء عند المشعر الحرام، ثم يتوجه الحجيج إلى منى يرمون الجمار ويذبحون- ينحرون- الهدي ذاكرين اسم الله عليه شاكرين الله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، يُكبرون في أيام منى بعد الصلوات، وعند رمي الجمرات في الأيام المعدودات، فإذا طافوا للإفاضة فقد تم الحج ولم يبق إلا وداع البيت بطواف الوداع، فإذا قضى الحاج المناسك كلها لم يغفل عن ذكر ربه، بل يذكره بطاعته وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويغار لحرمات الله أن تنتهك أكثر من غيرته على حرمة آبائه فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا، وهكذا فالحاج لا ينفك عن ذكر ربه عز وجل أبدًا، ويظل على سبيل الذاكرين وطريقتهم بعد قضاء المناسك، بل يبقى لسانه رطبًا من ذكر الله عز وجل، فيذكر الله عز وجل في سفره في العودة والإياب كما ذكره في الذهاب.
«اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وسوء المنقلب وكآبة المنظر في المال والأهل، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوعنا بُعْده، اللهم ارزقنا في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى».
«آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون».
وعلى قدر ذكر الله عز وجل في العبادة يكون الأجر والفضل؛ ففي المسند أن رجلاً سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أي المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثرهم لله ذكرًا.
قال: فأي الصائمين أكثر أجرًا؟
قال: أكثرهم لله ذكرًا.
ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرًا.
فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أجل». [المسند ح15061]
والحديث في إسناده ضعف، لكن له شاهد مرسل صحيح رواه ابن المبارك في الزهد، وله شاهد مرسل عند ابن أبي الدنيا وهو بشواهده صالح للاحتجاج، ومعناه الذي دل عليه حق لا ريب فيه، فأفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله عز وجل كما ذكر ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب من الكلم الطيب.
[فقه الأدعية والأذكار ج1 ص35- 37]
ذكر الله في عشر ذي الحجة:(/2)
وهي الأيام المعلومات التي أمر الله عز وجل فيها بالذكر فقال: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فقيل: إن المراد ذكر الله عند ذبحها وهو حاصل يوم النحر فإنه أفضل أيام العشر.
والأصح أنه إنما أريد ذكره شكرًا على نعمة تسخير بهيمة الأنعام لعباده، فإن لله تعالى على عباده في بهيمة الأنعام نعمًا كثيرة، قد عدَّد بعضها في مواضع من القرآن كما في أول سورة النحل: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7) والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون [النحل: 5- 8].
وقال تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [النحل: 66].
وقال تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون (21) وعليها وعلى الفلك تحملون [المؤمنون:21،22].
وللحجيج في ذلك خصوصية عن غيرهم فإنها تحملهم إلى الحرم لقضاء نسكهم، ويأكلون من لحومها ويتصدقون.
وفي الحديث الصحيح: «أفضل الحج العج والثج». والعج هو رفع الصوت بالتلبية والذكر، والثج هو إراقة دم الهدي فيكون كثرة ذكر الله عز وجل في أيام العشر شكرًا على هذه النعمة المختصة ببهيمة الأنعام.
أما الأيام المعدودات فهي أيام التشريق، أيام منى: واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، ويستقر فيها الحجيج في منى ويبيتون بها يرمون الجمار ويذكرون الله عقب كل صلاة بالتكبير، وأفضلها يوم القر وهو أولها وهو اليوم الحادي عشر، ثم يوم النفر الأول وهو أوسطها يتعجل فيه بعض الحجيج، ثم يوم النفر الثاني وهو آخرها، وفي الحديث الصحيح: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر».
وذكر الله تعالى المأمورُ به في أيام التشريق أنواع متعددة منها: ذكر الله تعالى عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في أدبارها وهو مشروع إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء، وقد روي عن عمر وعلي وابن عباس وفيه حديث مرفوع في إسناده ضعف.
ومنها: ذكره بالتسمية والتكبير عند ذبج النسك، فإن وقت ذبح الهدايا والأضاحي يمتد إلى آخر أيام التشريق عند جماعة من العلماء، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد وفيه حديث مرفوع: «كل أيام منى ذبح». وفي إسناده مقال، وأكثر الصحابة على أن الذبح يختص بيومين من أيام التشريق مع يوم النحر وهو المشهور عن أحمد وهو قول مالك وأبي حنيفة والأكثرين.
ومنها: ذكر الله على الأكل والشرب فإن المشروع في الأكل والشرب أن يسمي الله في أوله ويحمده في آخره، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها».
وقد روي أن من سمى على أول طعامه وحمد الله على آخره فقد أدى ثمنه ولم يسأل بعد عن شكره.
ومنها: ذكره بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق وهذا يختص به أهل الموسم.
ومها: ذكر الله عز وجل المطلق فإنه يستحب الإكثار منه في أيام التشريق، وقد كان عمر يكبر بمنى في قبته فيسمعه الناس فيكبرون فترتج منى تكبيرًا، وقد قال الله عز وجل: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا.
وقد استحب كثير من السلف كثرة الدعاء في أيام التشريق، قال عكرمة: كان يستحب أن يقال في أيام التشريق: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وعن عطاء قال: ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجهًا إلى أهله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
[خرجهما عبد بن حميد في تفسيره]
وهذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منه، وروي أنه كان أكثر دعائه. [لطائف المعارف]
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/3)
نصرة فلسطين واجب المسلمين
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
نصرة فلسطين واجب المسلمين، وحديثنا ما زال موصولاً في أجواء نصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ..
لا شك أن من نصرة خاتم الأنبياء نصرة مسراه عليه الصلاة والسلام، ونصرة الأرض المباركة التي بارك الله فيها .. وهنا وقفات تتعلق بما يجد أو جد من الأحداث هنا نرسلها رسائل نخاطب بها أنفسنا ونبعثها إلى إخواننا في أرض فلسطين؛ لأن نصرتنا لهم وصلتنا بهم ليست لمجرد أرض أحتلت وليست لمجرد شعب هُجّر، إن الأمر بيننا وبينهم بيننا وبين تلك الأرض أعظم من كل هذه الصور على ما فيها من اشتجاشت النفوس والعواطف وضعف الهمم والعزائم .
ننصر فلسطين وأهلها ؛ لأننا ندرك المعاني الكثيرة المتصلة بيننا وبين أرض الإسراء :
أولاً : ننصر قبلتنا الأولى
فمنذ أن فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فكانت قبلته، طيلة نحو ثلاثة أعوام حتى هاجر، ثم ستة عشر أو سبعة عشر شهرا عند قدومه إلى المدينة، ثم تنزل قول الله سبحانه وتعالى : {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد} فتوجه النبي وتوجهت من وراءه أمة الإسلام إلى البيت الحرم .
فهذه القبلة الأولى لها عندنا مكانة عظيمة، مكانة إيمانية إسلامية، وهي ذات دلالات كثيرة، تدلنا على أن الديانات والرسالات واحدة من عند الله عز وجل، وتبين لنا المفارقة و التميز الذي خص الله به أمة الإسلام، فإن اليهود في المدينة كما روى البخاري وغيره، كانوا يحبون أو أحبوا أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه بقبلته إلى بيت المقدس، ففي رواية البراء الطويلة جاء قوله: وكانت اليهود قد أعجبهم أن كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب - أي وأهل الكتاب مثلهم - فلما ولى وجه صلى الله عليه وسلم قبل البيت أنكروا وأرجفوا وخالفوا وتنزلت فيهم آيات كثيرة {ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها} .
قالوا : لئن كان على وجهة صحيحة فقد تحول عنها إلى باطلة، ولئن كان تحول إلى صحيحة فقد كان على باطلة، فتنزلت آيات القرآن تطمئن أمة الإسلام أنكم على نهج قويم صواب في أول الأمر لأنه أمر الله، وصواب فيما تلاه لأنه كذلك أمر الله، لئلا يرجف علينا بنو صهيون كما يرجفون اليوم عبر القنوات والإذاعات ووسائل الإعلام، حتى شككوا كثيرا من المسلمين في ثوابت دينهم وحقائق تاريخهم وصلتهم بأرضهم وديارهم ومقدساتهم.
وننصر كذلك فلسطين لأنها :
ثانياً : مسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}
وكان من الممكن أن يكون عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات من البيت الحرام، لكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون إسراء أولا إلى بيت المقدس والمسجد الأقصى ثم عروج من تلك البقعة بعد أن صلّى - صلى الله عليه وسلم - بإخوانه من الرسل والأنبياء، دلالة على أن هذا الدين العظيم هو الدين الخاتم، وأن هذه الرسالة هي الرسالة الجامعة لكل خير مضى في الرسالات السابقة، وأن هذا النبي المعظم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وسيدهم وأفضلهم ومقدمهم وإمامهم كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قصة الإسراء والمعراج .
أرض سرى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدنسها الصهاينة المحتلون، أفلا تكون من نصرة نبينا نصرة أهلها ونصرتها حتى تتطهر من الأدناس والأرجاس، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيق لمن أراد أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويبدي غيرته على شخصه وقدره ومقامه أن ينصر مسرى رسوله صلى الله عليه وسلم .
وكذلكم ننصر تلك البقاع لأنها :
ثالثاً : بشرى نبينا صلى الله عليه وسلم
فقد ثبت الحديث عند الإمام البخاري من رواية عوف بن مالك في قصة غزوة تبوك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في قبة من أدمن أي من جلد ثم خاطب من عنده وقال : ( اعدد ستا بين يدي الساعة قال: أولها: موتي – أي موته صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس ... )
فكان فتحه بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه البشارة حقيق وجدير بكل قلب مؤمن أن يتعلق بها ويأسى لفواتها في زماننا، ويحزن لضياعها من بين أيدينا وتشتعل نيران الحمية والعزيمة والقوة والإصرار في قلبه لا تفتر ولا تخمد ولا تنطفئ ؛ حتى يكون كل منا له سبب ونسب في نصرة تلك البقاع وأهلها حتى يأذن الله عز وجل بنصر من عنده {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} .
وننصر أرض الإسراء كذلك لأنها :
رابعاً : وجهة رحالنا
ضمَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم المساجد الثلاثة في حديثه المشهور الصحيح : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا )(/1)
هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يمكن أن يكون هذا التشريع لافتا للنظر، اليوم تشد الرحال من بقاع الأرض إلى مكة المكرمة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل لحظة يعزم عازم يستطيع غير أن لا أحد في جملة المسلمين ومعظمهم يستطيع أن يشد الرحال إلى المسجد الأقصى، أفلا يدخل ذلك حزنا في قلوبنا، أفلا يجعل ذلك في نفوسنا جذوة لا ينبغي أن تنطفئ حتى نحقق ذلك، بل انظروا إلى هذا الجمع ليس في هذا الحديث وليس في أحاديث بعينها فحسب بل في روح وصور متعددة كانت في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه، فقد روى أبو داود وغيره عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ! فقال عليه الصلاة والسلام: ( ائتوه فصلوا فيه ) ، وكان ذلك الوقت حرب فقال فليه الصلاة والسلام: ( فإن لم تأتوه فتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) .
إن حيل بينكم وبينه فلا بد أن تصلوا إليه بجسر، أن تخدموه أن تنصروه بكل وسيلة مؤقتة أو جزئية حتى يكتمل لكم النصر وتعلوا لكم الراية ويمهد لكم الطريق ويؤمن لكم المسير، فتهفوا حينئذ بقلوبكم وأجسادكم إلى المسجد الأقصى كما تفعلون في مسجد البيت الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية هذا الحديث عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن ماجة قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ؟ فقال: ( أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه) .
هل رأيتم كيف كان ذلك في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو حدث طويل وفيه:
(من أتى بيت المقدس لا ينهزه –أي لا يحركه ويبعثه- إلا الصلاة فيه؛ خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه)
والحديث إسناده حسن وصححه بعضهم.
وننظر كذلك إلى الحديث المتفق عليه من رواية أبي ذر رضي الله عنه يبين لنا الصلة الوثيقة، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول، فقال: البيت الحرام، قال: قلت ثم أي، قال: المسجد الأقصى، قال: قلت فكم بينهما، قال: أربعون سنة .
وفي قوله تعالى : {سبحان الذي أسرى بعده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}
نكتة بلاغية عظيمة؛ لم سمي الأقصى بالأقصى، لأنه كان أقصى شيء في هذه المساجد، وعندما تنزلت آيات الإسراء كان النبي في مكة صلى الله عليه وسلم، لم يكن هاجر إلى المدينة لم يكن بني مسجده فكأنه قبل مكة وسيكون مسجد آخر من بعد هو مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أقصى من مكة ثم يأتي من بعده الأقصى وهو بيت المقدس، فهذا رباط وثيق، وهذا جمع كامل، وهذه حلقة وثيقة الروابط، تدعونا حقيقة إلى أن نكون في نصرة خاتم الأنبياء، ضمن نصرة مسرى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
ولو مضيت كثيرا لرأيت في ذلك ما تعلمون، ونحن ندرك ذلك أيضا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل الصلوات ومضاعفة أجرها في المساجد الثلاثة، وهذه الأرض أيضا هي أرض البركة {الذي باركنا حوله}
وهي المذكورة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وهي التي ذكرت كذلك في قصة موسى عليه السلام، وهي المذكورة كذلك كما أجمع أهل التفسير في قصة أهل اليمن عندما قال الله عز وجل: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة}
قالوا: هي قرى بيت المقدس وأهل الشام .
ثم أخيراً أيها الأخوة الأحبة:
أرض الرباط ، وأرض الجهاد ، وأرض المحشر والمنشر ، وأرض الفصل في المعارك الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان .. نحفظ الحديث الثابت في البخاري ومسلم وكثير من كتب السنن : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
في رواية عند الإمام أحمد في مسنده والراوي معاوية قال رجل فسألت معاذ بن جبل فقال : ( هم أهل الشام ) .
وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد أيضا، قال: ( إن عقر دار المؤمنين الشام )
وفي رواية ثالثة: ( سئل عن أولئك القوم أين هم فقال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )
حق علينا إذاً أن ننصر مسرى رسولنا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، حق علينا أن نكون مع أهل الرباط في أرض الإسراء، وذلك واجب وهو جزء مما كنا ولا زلنا نتحدث عنه في نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم، والغيرة على مقامه وقدره ومكانه، والحمية ضد كل من يسيء إليه أو يستهزئ به والعياذ بالله، فكيف بمن يغتصب أرضا بشر بفتحها، وكيف يغتصب أرضا صلى فيها إماما بالأنبياء، وكيف وكيف وكيف مما ذكرناه.(/2)
ومن هنا أتوجه من بعد إلى الحديث عن هذه النصرة مبتدئا بهذه البلاد وبقادتها، هذه بلاد الحرمين الشريفين وقائدها متشرف باسمه ولقبه خادم الحرمين الشريفين، وأول ما أبدأ به إرجاء الشكر على المواقف الجيدة القوية إزاء فلسطين في الآونة الأخيرة بعد فوز حركة " حماس " وعدم الموافقة لقوى الاستكبار العالمي في المقاطعة أو التضييق أو إيقاف الدعم بل كان الإعلام قويا واضحا جريئا، إخواننا أرضنا بلادنا إسلامنا، ستظل جسورنا ممدودة وعوننا متصل وقريبا بعد أيام سيكون أهل فلسطين وأهل سلطتها ضيوفا لكي يكون هناك وصل وتواصل، وحق على هذه البلاد وقد تسنمت شرف رعاية الحرمين الشريفين ألا تنقطع عن المسجد الثالث، وأن تكون مستحضرة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( فإن لم تؤتوه فتصلوا فيه فابعثوا بزيت يوقد أو يسرج قناديله)
(فابعثوا) فابعثوا جميعا، والأمم والدول والحكومات أولها، وهذه البلاد بفضل الله عز وجل قادة ومجتمعا من مواطنين وغير مواطنين كانوا - دائماً وأبداً - سباقين إلى بذل كل عون مادي ومعنوي وعاطفي وإعلامي وسياسي على نحو ينبغي أن يكون مشكورا مذكورا، وينبغي كذلك من بعد أن يكون متصلا ومتضاعفا ومتناميا، وبذلك نشكر هذا الموقف ونصر على حقيقته وأنه موقف ثابت لا يتغير، كيف نقطع صلتنا بمسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، كيف نوقف دعمنا عن الموطن الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعرف أن هذه الأرض بشرى نبوية وفتوحات عمرية، وتطهيرات أو طهارة صلاحية .. أرض بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم وفتحها الفاروق عمر رضي الله عنه واستردها وطهرها من رجس من دنسها صلاح الدين رحمه الله .. تاريخنا متصل بها، قبور مئات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأضعافهم من التابعين هناك في أفياء بيت المقدس وفي أكنافه، أفلا نحنُّ إليها، أفلا نجد أن الذين رووا تلك الأرض بدمائهم يوم فتحوها ويوم حاصروها، حق علينا ألا نضيع ما فتحوه وألا نفرط فيما بذلوه من دماء وأرواح، ذلك ما ينبغي أن نقوله وأن نكرره، وأن نقول لهذه البلاد ولقادتها امضوا على ذلك واثبتوا عليه وأوصوا به غيركم، وكونوا قادة في الحق ولا تتراجعوا وكونوا حينئذ أصحاب الرؤوس المرفوعة والأيادي المتوضئة والمواقف النقية المتطهرة عسى الله عز وجل أن يمن بذلك عليكم فتكون لكم أياد بيضاء تمتد إلى المسجد الأقصى بعد أن امتدت إلى المسجدين العظيمين والحرمين الشريفين.
وتوجه إلى أمة الإسلام جميعها وخاصة الحكومات والدول، جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، أعداءنا الذين يسيرون دفة الأمور من الناحية السياسية بقوتهم وسلطانهم في العالم، هددوا وأرعدوا وأزبدوا بقطع مساعداتهم وبمواقفهم السياسية المعادية والمعاندة .. فماذا أنتم فاعلون ؟ هل ستحنون رؤوسكم ذلا ؟ هل ستتراجعون خوفا ؟ هل ستمضون وراء الركب لتكونوا قطيعاً ؟ أم ستكونوا أمة النخوة والعزة، وقبل ذلك أمة الإيمان والإسلام، ينبغي أن تكون مواقفكم في هذه الظروف قوية عظيمة واضحة جلية حتى تكسبوا أولا أجر الله عز وجل ومثوبته وعونه، وتكسبوا ثانيا مواقف شعوبكم وأممكم، التي تسجد لله عز وجل في كل يوم خمس مرات، وتعلم أن إسلامها ودينها يدعوها إلى نصرة أرض الإسراء .
وأتوجه إلي إلى نفسي إليكم إلى كل مسلم في شرق الأرض وغربها، فأقول: تابعوا وتعلقوا، تابعوا الأخبار وتعلقوا بالأحوال، واجعلوا جزءا من فكركم وهمكم وما يشغل بالكم؛ ما يجري هناك على أرض الإسراء، لا ينبغي أن نغفل، لا ينبغي أن ننام، كيف يكون ذلك وقد مضى أكثر من ستين عاماً على الجرائم المتوالية، والاغتصاب والسرقات والانتهاكات والقتل والتدمير وغير ذلك، ثم نحتاج من بعد أن نغفل أو أن ننسى .
وأقول ثانيا: ادعوا وتضرعوا، اليوم نحن في حال أفضل، وأمة الإسلام رغم كل الظروف العصيبة نرى صورا من الإشراق تبشر بأمل وتدفع إلى كثير من العمل، وتنبئ بإذن الله عز وجل عن أمور تنفرج شيئا فشيئا،
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها == فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وأخيرا أقول: أعينوا وتبرعوا ساعدوا أوقدوا تلك القناديل بالزيوت كما قال صلى الله عليه وسلم كما أوصى، كأنما ذلك الحديث يخاطبنا اليوم حيل بينكم وبينه فانتبهوا لذلك، لا تنقطعوا عنه وهذه أمور مهمة.
ووقفة أخيرة مهمة عظيمة إلى أهل فلسطين أنفسهم وإلى قيادتهم الجديدة على وجه الخصوص، حركة المقاومة الإسلامية " حماس " ، قبل أن أشرع في هذا الحديث أسوق المبشرات، إن الخير بحمد الله عز وجل يتعاظم والشر بحمد الله عز وجل يفتضح ويتقزم، وانظروا إلى هذه المقارنات السريعة:(/3)
في أرض فلسطين التي تمارس فيها معظم الدول الكبرى ممارسة اليد القذرة التي تقر الظلم وتمنع العدل، التي تنصر الباذي وتمنع المظلوم، التي تفعل وتفعل كما تعلمون، نراها اليوم وقد خسئت وقد نكست على رؤوسها وهي ترى أهل فلسطين أهل أرض الإسراء يقدمون خيار الإسلام وخيار المقاومة ويقولون بأنفسهم وباختيارهم وإرادتهم ينبغي لنا أن نعود إلى جذورنا ينبغي أن نصحح مسارنا ينبغي أن نتشبث بمنهجنا ينبغي أن نعلوا بإسلامنا ونعتز بإيماننا، هذه الرسالة القوية لم تكن هناك فحسب بل تكررت الآن فيما مضى في كثير من البلاد الإسلامية، وشعار كثير وجماهير من هذه الشعوب المسلمة، شعارها الإسلام خيارنا والإسلام هو الحل، انظروا ذلك في كل البلاد ..
انظروا في بلاد عربية وأخرى إسلامية، وانظروا في مقابل ذلك، جاء الاحتلال إلى العراق ليحرر فإذا به يحتل، وجاء ليقدم حضارة فإذا هو يبرز الحقارة والنذالة، وجاء ليقول للناس إنه يحمي قيم حقوق الإنسان فإذا به يهينها يذلها كأبشع ما تكون الصورة، افتضحت تلك القوى، لم تعد تسترها حتى ورقة التوت في مبادئها وقيمها بعد السجون المذلة المهينة بعد الفضائح القبيحة المشينة، بعد النكسات السياسية المتوالية والعسكرية المتعاقبة، كلها جراح إثر جراح، وإصابات إثر إصابات، يوشك من بعد أن يخر لها الثور الهائج بإذن الله عز وجل، وإن غدا لناظره قريب، والله عز وجل قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلما الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ، {ولتعملن نبأه بعد حين} ، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} .
أقول هذه المقارنات لأنتقل إلى نقطتنا الأخيرة، حركة وليس هناك سكون ولا نوم ولا خمول، ومقاومة فليس هناك استسلام ولا استخذال ولا تراجع، وإسلامية فليست هناك مذاهب أرضية ولا ملل ونحل شرقية أو غربية، تلك هي الكلمات وعندما نجمعها في الحماس كأنما نقول: إننا ينبغي أن نتحمس للحركة وللمقاومة وللإسلام، ونخوض في تلك الميادين بقوة وفتوة، ولعلنا ونحن نقول ذلك، ونبارك لمن تقدموا في هذا نتوجه بالتذكرة والموعظة المهمة التي لا بد أن يسمعها منا إخواننا في أرض فلسطين جميعا وأن يسمعها قادتهم اليوم على وجه الخصوص ممن نسأل الله عز وجل لنا ولهم أن يوفقنا لطاعته ومرضاته ولنصرة دينه ورفع رايته إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه .. أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
إلى إخواننا في أرض فلسطين وقادتهم الجدد نقول: لأولئك القادة أهلا ومرحبا بكم قريبا في بلاد الحرمين، رحب بكم قادتنا ونحن نرحب بكم لتكونوا تكملة للرابطة المنشودة على مستوى الأمة الإسلامية رابطة تربط بين المساجد الثلاثة كلها، وتسعى لخدمتها ولكل ما يعلي راية الإسلام فيها، ونقول لهم من بعد، أخلصوا ولا تغتروا، فما أوتي أحد إلا من قبل غروره وكبرياءه وظنه أنه بلغ ما بلغ بقوته وحوله وطوله، ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، أما رأيتم كيف كان حاله يوم فتح مكة، يوم دخلها منتصرا على ألد أعداءه من قومه قريش، هل دخل وهو بزهو وفخر وكبرياء؟ أم دخل وهو بتواضع وإقرار بعظمة منة الله عز وجل عليه؟ دخل صلى الله عليه وسلم مطأطئا رأسه وورد في بعض الروايات : (حتى كانت لحيته أن تلامس ظهر دابته)
ما أعظم هذه العظمة النبوية في هذا التواضع لرب الأرباب سبحانه وتعالى الذي يذهب عن النفس غرورا قد يتلف منهجها وقد يضل مسيرها ومسلكها {بل الله أعبد مخلصا له ديني} .
ونقول لهم ثانيا: ابذلوا ولا تفتروا، اليوم يوم العمل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} ، {قل كل يعمل على شاكلته}
ينبغي اليوم أن تضاعفوا عملكم وجهدكم، لئن كنتم في السابق تعملون لخدمة دينكم وأمتكم من خلال خدمتكم لشعبكم ولقضيتكم فاليوم وقد تصدرتم أصبحت المسئولية أكبر والعمل أعظم {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً } .
أمانة أمة وليست أمانة شعب فحسب، أمانة قضية هي قضية كل المسلمين وليست قضية أهل فلسطين وحدهم أو فصيل أو جماعة أو حركة واحدة منهم، فانتبهوا لذلك، ونقول: اجمعوا ولا تفرقوا قد بلغتم مبلغا حسنا، وشكر الناس ذلك لكم وشكروا قبل ذلك ربهم على ما هيأ لكم فكونوا بعد نصركم أقرب إلى بقية إخوانكم وكونوا بعد فوزكم أكثر تواضعا إلى سائر أبناء شعبكم، وحركاته وتجمعاته، ألفوا القلوب واحرصوا على وحدة الصفوف واحذروا الفرقة والشقاق والنزاع
{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} .(/4)
احذروا واحرصوا على حقن الدماء فيما بينكم وتلك وصية رفعتموها وشعار جعلتموه منهجا لكم فاليوم يلزمكم تطبيقه والعمل به ويلزمكم أن تسعوا إلى نشره وإلى إشاعته في مجتمعكم وفي دياركم، ونقول لكم اثبتوا ولا تراجعوا، ما تقدمت إلا بثباتكم، وما نجحتم إلا بإصراركم، وما وصلتم إلا بعزتكم واعتزازكم، فلا تعودوا من بعد تبيعون الذي هو خير بالذي هو أدنى ولا تعودوا تقبلون الفانية وتقدمونها على الباقية، ذلكم ما ينبغي أن تحرصوا عليه، والسياسة ألاعيب وفيها مزالق ولكم في شرع الله عز وجل نور وضياء، ومعالم وضوابط، فما كان من شرع الله سائغا وجائزا، فلا عليكم أن تأخذوا به، واستشيروا علماءكم وعلماء الأمة فليست القضية قضيتكم ولا المسألة مسألتكم.
ومن هنا ينبغي أن تتضافر الجهود كلها معكم، معنوياً وعلمياً ومادياً وسياسياً ليكون ذلك كما ينبغي أن يكون.
ونقول كذلك اتصلوا ولا تقطعوا، صلوا أنتم الدول الإسلامية والبلاد الإسلامية وغير الإسلامية، بما توجهون به تلك الجهود والمساعي لما ينفع هذه القضية الإسلامية العظيمة، ولعلنا نستبشر خيرا بكل ما رأيناه من بوادر تلك الانتصارات والتقدم، لا نسرف في ذلك التفاؤل لكن لا ينبغي أن نشيع اليأس، بل كما قلت في جانب الأعداء، نرى بحمد الله عز وجل عثرات إثرها عثرات، وسقطات إثرها سقطات، لعلها كذلك تهيئ لنا أن نتقدم لنسد الثغرة، ونسد الخلة وتتحد الأمة خلف دينها وخلف رسولها صلى الله عليه وسلم، وتكون النصرة التي جاءت بها الأحداث الماضية نصرة عامة شاملة لدين الله عز وجل، ولكل ما يتصل برسوله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعته ويذل فيها أهل معصيته.(/5)
?نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بقلم: الشيخ رائد صلاح
1- كثيرة هي المبادرات التي قامت على صعيدنا الاسلامي والعربي والفلسطيني نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسأل الله تعالى ان يبارك فيها وان يوفق القائمين عليها وان يثيبهم بالخير والاجر في الدنيا والآخرة ، ومن ضمن هذه المبادرات هو ما قامت به طائفة طيبة من اهلنا من قرية ( كفر -كما ) ، حيث بادروا بخفة القطا الى ترجمة فيلم الرسالة المعروف ترجمة صوتية بواسطة نخبة منهم من اللغة العربية الى اللغة الشركسية ،وقد قام كل اصحاب هذه الاصوات بهذا العمل تطوعا ورفضوا ان يتقاضوا عليه اي اجر مالي ، والى جانبهم فقد قام اهل الدراسات الشرعية واهل الفقه بمراقبة هذه الترجمة والاطمئنان الى سلامة كل حرف وكل كلمة وجملة حتى يبقى المعنى كما هو عليه في اللغة العربية ، وبعد ان اتموا هذا العمل الشاق ، وبعد ان اصبح بين ايديهم فيلم الرسالة المعروف لمخرجه المرحوم مصطفى العقاد ، بعد كل ذلك قاموا بطباعة هذا الفيلم كما هو عليه الآن باللغة الشركسية وهم الآن على وشك توزيعه الى كل بيت من اهلنا في كفر كما ثم هم الآن على وشك ارساله الى اهلنا الشركس في الجمهوريات الاسلامية التي كانت من ضمن الاتحاد السو?ييتي ، ولعلهم سيرسلون بعض هذه النسخ من هذا الفيلم الى الاهل الشركس في قارة اوروبا وامريكا الشمالية والجنوبية !! وقد قامت مؤسسة ( مسلمات من اجل الاقصى ) بتغطية نفقات هذه المبادرة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- وعلى ضوء هذه المبادرة فانني اتمنى على نفسي وعلى الجميع ان نبادر وان نحصل على اذن من ورثة المرحوم مصطفى العقاد لترجمة هذا الفيلم الى اكبر عدد ممكن من لغات الارض ترجمة صوتية ، وعلى سبيل المثال ترجمته ترجمة صوتية الى اللغة الايطالية والفرنسية والاسبانية والدانمركية ، ثم ان نبادر الى طباعة هذا الفيلم بعد الترجمة الصوتية وتوزيعه بالطرق المناسبة الى اكبر عدد من اهل الارض بما يناسب لغة كل واحد منهم ، نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
3- انا لست خبيرا في عالم الافلام والسينما ولكن ما اعلمه ان هذا الفيلم ( الرسالة ) الذي يتحدث عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ولا يزال يحدث تغييرا ايجابيا عند كل من يشاهده ، سواء كان من المسلمين ام من غيرهم ، وسواء كان من العرب او العجم ، وما اعلمه انه بعد عرضه باللغة الانجليزية فقد اندفع العدد الكبير من جماهير العالم الغربي يعكفون على دراسة الاسلام ، وقد اندفع بعضهم واعتنق الاسلام ، وما اعلمه انها قد بيعت اعداد كبيرة منه في امريكا خاصة بعد احداث تفجير عمارة التوأم في نيويورك ، ولذلك وبشكل خاص فأنا على قناعة ان من افضل الردود المفحمة والواعية على الحكومة الدانمركية وعلى تلك الصحيفة الدانمركية هو ترجمة فيلم الرسالة ترجمة صوتية الى اللغة الدانمركية ثم توزيعه على اكبر عدد ممكن من اهل الدانمرك .
4- انا اقترح ذلك نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقلقني ما نحتاج اليه من نفقات مالية ، لأن الخير فينا كان ولا يزال وسيبقى حتى قيام الساعة ، فقد كنا يوم السبت الموافق 18-3-2006 ليلا في لقاء مع بعض اهل الخير من اهلنا في الناصرة وكان اللقاء في مركز بلال بن رباح ، وكنا نحدثهم عن مشروع ( صندوق الألف الخيري ) ، وخلال حديثي تطرقت الى مبادرة الاهل في كفر كما والى سعيهم الجاد لترجمة فيلم الرسالة ترجمة صوتية الى اللغة الشركسية ، فوقف احد الاهل الحضور وقال : انني اتبرع بنصف دونم ارض نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(/1)
5- وشاء الله تعالى وكنا يوم الجمعة 17-3-20006وكنا في زيارة تضامنية للحاج عبد العزيز من اهلنا في اللد بعد ان قامت المؤسسة الاسرائيلية بهدم اربعة بيوت لاربعة من ابنائه خلال ثوان معدودات ، وخلال اللقاء اجتهدنا ان نرفع من معنوياته ومن معنويات ابنائه ، فتبين لنا انهم هم الذين حاولوا ان يرفعوا من معنوياتنا ، وتبين لنا انهم يتحلون بمعنويات عالية جدا ، وخلال اللقاء اجتهدنا على استحياء ان نتقدم بمبلغ عشرين الف شيكل للمساهمة المتواضعة باعادة بناء بيوتهم ولكن يا للمفاجأة فقد تكلم ابناء الحاج عبد العزيز وقالوا لنا : نحن نشكركم على هذا التبرع ، ونحن لا نتكبر على هذا التبرع ونرى فيه عطاء مباركا ولكن اسمحوا لنا ان نتقدم بهذا المبلغ باسم والدنا صدقة صافية من اجل المساهمة في اعمار المسجد الاقصى ومن اجل الحفاظ على القدس الشريف !! ولتعلموا ان والدنا لا يصلي صلاة الجمعة الا في المسجد الاقصى مهما كانت الظروف !! ثم اطمئنوا الى اننا سنعيد بناء بيوتنا عما قريب من اموالنا الخاصة فقط وهذا من فضل الله علينا !! نعم هذا ما سمعناه من اربعة اخوة مكلومين مهمومين وقد تحدثوا خيرا وتكلموا بهذا الكلام الذي دونته على لسانهم وبيوتهم المهدومة كانت امام أعينهم وأعيننا !! أليس هذا المشهد يؤكد لكل عاقل اننا امة الخير واننا امة العطاء واننا أمة النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
6- وشاء الله تعالى وكنا يوم الجمعة الموافق 24- 2- 2006في زيارة للشيخ سعيد العقبي في حورة- احدى القرى المصابرة التي تجمع عددا طيبا من اهلنا الكرام في النقب ، وخلال الزيارة وقف الشيخ سعيد العقبي يرحب بجميع الضيوف في بيته العامر ، ثم تحدث لنا عن ابعاد المأساة التي يعيشها اهلنا في النقب عامة ، ثم تحدث لنا عن تاريخ المعاناة المرة التي عاشتها عشيرة العقبي ، ولقد نجح بكل جدارة ان يفرض علينا جوا من الحزن كأن المأساة قد حلت الآن وقد تغلغلت في صدورنا ، ولكن يا للمفاجأة ، فبعد ان أطنب في شرحه عن هذه المأساة واذ به يتقدم من عند نفسه بمبلغ مالي بقيمة ألف دولار ، ثم اعلن على مسمع الجميع انه منذ الآن عضو في صندوق الألف الخيري ومرة بعد مرة اقول في طرب طاعة ويقين انه لمشهد يقول لكل عاقل ان للحق اهله الذين لن يتركوه وحيدا وسيبذلون من اجله الغالي والرخيص نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم التجارة التي لن تبور .
7- وشاء الله تعالى وكنا يوم الخميس الموافق 9-3-2006 في لقاء مع اهلنا في كفر مندا ليلا وكان اللقاء في قاعة ثقافية تابعة لمسجد التقوى ، وقد تحدثت في اللقاء حول صندوق الألف الخيري ، وقد قامت طليعة مباركة من الحضور واعلنوا انتسابهم كأعضاء الى هذا الصندوق !! ثم ماذا ؟! بعد ذلك انتقلنا الى بيت احد الاهل الكرام وكان ذلك بعد الساعة العاشرة ليلا ، ولكن بعد ان دخلنا الى البيت فقد وجدت الطفل مصطفى ما يزال منتبها لم ينم وكأنه في انتظارنا !! وفي البداية لم اعرف السبب وكنت اتساءل في نفسي لماذا لم ينم ذاك الطفل مصطفى حتى تلك اللحظات ، علما ان اطفال كفر مندا كانوا نياما في تلك اللحظة ؟! ولكن عجبي لم يطل وتساؤلي لم يتواصل ، فقد تقدم مني الطفل مصطفى بمبلغ مالي بقيمة مائتي دولار وقال لي : هذا للمسجد الاقصى !! حفظك الله أيها الطفل مصطفى يا من سبق عملك عمرك ، ويا من سبق فهمك ابناء جيلك ، ويا من سبق عطاؤك جيبك ، نعم أيها الطفل مصطفى يا طفل الاقصى نعم هذا للمسجد الاقصى وانا وانت وابوك للمسجد الاقصى ، وكلنا للمسجد الاقصى وكلنا لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
8- وشاء الله تعالى وزارت بيتي قبل ايام مسلمة صابرة من مدينة حيفا وللاسف لم تجدني !! اتدرون لماذا زارت بيتي ؟ قد يظن ظان انها جاءت تطلب مساعدة مالية او جاءت تعرض مشكلة اجتماعية ، او جاءت تبحث عن فتوى وحكم شرعي ، وللحقيقة اقول انها ما جاءت لأي هدف من تلك الاهداف المتوقعة ، ولكن واحبسوا انفاسكم لقد جاءت تتقدم ببيت لها من طابقين بهدف ان توقفه في سبيل الله تعالى !! نعم لقد جاءت هذه المسلمة الصابرة من حيفا تسعى لهذا الهدف !! نعم من حيفا حيث يعاني اهلنا ما يعانون من ازمة سكنية ومن تضييق عليهم غايته تطهير وجودهم على قاعدة التطهير العرقي !! نعم من حيفا اقبلت هذه المسلمة الصابرة ترسم هذا المشهد الكريم وتسطر هذه الاشراقة رغم تمادي الظلمة !! ألا من نائم يستيقظ على اشراقة هذا المشهد !! الا من غافل ينتبه ويردد سطور هذه الكرامة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم !! ولكن هذا ليس كل عطاء حيفا ، فها هم نخبة من الاهل هناك يتقدمون بمبلغ مالي الى مؤسسة الاقصى لكفالة حافلة من ضمن مسيرة البيارق .(/2)
9- ما اغزر الخير في صلاة الفجر والبعض نيام ، وما اغزر هذا الخير اذا ادينا صلاة الفجر في المسجد متجاوزين حاجز الظلمة ولذة النوم وقيود النفس ، ولهذا الخير الغزير حلاوة معسولة يذوقها كل من داوم على صلاة الفجر !! وانا شخصيا اجتهد ان اصلي الفجر متنقلا في اكثر من مسجد في مدينتنا ام الفحم ، وكم ملأ صدري الفرح وغمر قلبي السرور عندما تقدم مني قبل ايام احد الاهل بعد صلاة الفجر مباشرة ، حيث كنا لا نزال في المسجد وسألني : كيف لي ان انضم الى صندوق الألف الخيري ؟! فتلقيت هذا السؤال بردا وسلاما واجتهدت بفرح كبير ان ابين له الجواب ، وعلى ضوء ذلك قال لي : اذن في صلاة فجر غد سآتيك بالمبلغ ، وهذا ما كان بحمد الله تعالى ، حيث وضع مبلغ ألف دولار في ظرف ورقي وكتب على الغلاف اسمه ورقم هاتفه حتى نبقى على تواصل معه ويبقى على تواصل معنا بهدف ان يدفع مثل هذا المبلغ كل عام الى صندوق الألف الخيري !! وبدافع البر الصافي بالوالدين فقد تقدم بهذا المبلغ باسم والده المرحوم الذي نسأل الله تعالى له واسع العفو والمغفرة !! حقا انه لمشهد كريم !! وحقا انه لمشهد خير من خير صلاة الفجر الغزير !! وحقا انه لموقف اصيل ناطق يقول لنا ان كان البعض يستيقظون مندفعين خلف صيد الدنيا ، فلا زال فينا اهل كرام يستيقظون مندفعين خلف صيد الآخرة طاعة لله ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
10- فيا اهلنا ، يا كل من سيقرأ او ستقرأ مقالتي هذه ، كونوا من ابطال هذه المشاهد النابضة بالخير والعطاء !!
يا اهلنا لا تكتفوا بابداء الاعجاب بابطال هذه المشاهد فقط ، ولا تكتفوا بمحاولة البحث والتعرف على اسمائهم واسمائهن فقط !! فان الواجب ينادينا جميعا ، فلا تترددوا ولا تتلعثموا ولا تبخلوا وكونوا من اصحاب الهمم العالية طاعة لله تعالى ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(/3)
نعم المال الصالح للرجل الصالح
183
الزهد والورع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- نظرة الإسلام إلى المال. 2- فوائد جمع المال للمؤمن. 3- الإسلام يحرض على الكسب ويحذر من الكسل. 4- الكسل في طلب الرزق يجعل الإنسان في حاجة الناس ومسألتهم. 5- ذم طبقة الأثرياء والذين شغلتهم الدنيا عن الآخرة. 6- ذم طبقة البطالين الذين زعموا أن الآخرة شغلتهم عن الدنيا وكسبها. 7- فائدة المال للعبد الصالح. 8- ترغيب الإسلام في جمع المال الحلال وتكسبه وترغيبه في العمل.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة، أُعوزتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم، فإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
أيها الناس، إن المتتبع لشريعة الإسلام في القرآن والسنة يرى اعتبار المال الصالح قوام الحياة، والحث على تحصيله وحسن تدبيره وتثميره، بل لقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على الديانة بالتوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والعقل والعرض.
ومن المسلمات المعلومة بالضرورة، أن المال زينة الحياة الدنيا، وأنه مطلوب محبوب، وأن الإسلام لا يمنع طلبه عن طريق طيبه وحله، بل إنه يحرض على كسبه، وحسن التصرف، لتقضى به الحقوق، وتؤدى الواجبات، وتصان الحرمات.
إن المال في الحقيقة، لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة، لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه في حد ذاته وسيلة لا غاية، والوسيلة عادة تحمد أو تعاب بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة وآثار سيئة، فالمال كالسلاح، إن كان في يد مجرم قتل به الأبرياء، وإن كان في يد مجاهد مناضل دافع به عن دينه ونفسه وأهله ووطنه، وقد قال تعالى عن المال، وما يسوقه من خير أو شر: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل :5-11].
وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].
وما أسعد المسلم، حين تعتدل أمامه مسالك الحياة، فيعمل ويتصبب عرقه، فيزكيه ذلك العرق ويطهره من فضلات الكسل وجمود النفس، ويكسب الكسب الحلال الطيب، وتستقيم يده، وهي تنفق من هذا الكسب الكريم، ويدخر لنفسه، ما يحتاج إليه في غده. قال رسول الله لسعد بن أبي وقاص: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) متفق عليه[1]، وقال : ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أحمد ومسلم بنحوه[2].
أيها الناس، نعق كذا ناعق فزعموا بحماقة وصفاقة أن الإسلام لا يريد من أهله إلا أن يكونوا فقراء صاغرين، ويقولون ضالين: إن الله إذا أعطى الدنيا لأحد حرمه من الآخرة، ويستشهدون بقول القائل:
إن الفقيه هو الفقير وإنما راء الفقير تجمعت أطرافها
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن تلك فرية عظيمة، تنسب إلى الإسلام وهو منها براء، بل إن الإسلام هو الذي يحرض على الكسب والنشاط قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
فالمؤمن ليس درويشا في معتكفه، أو راهبا في ديره. لا عمل له ولا كسب، الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحا عاملا، مؤديا دوره في الحياة، آخذا منها معطيا لها هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَءمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ [الملك:15]. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها [هود:61]. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا [القصص :77].
وقد رأى الفاروق قوما قابعين في ركن المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم عمر بِدِرَّتِهِ ونهرهم وقال: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10].
وإن الفاروق ، يشكو من متوكلين لا يعملون، ففي حياتنا المعاصرة نشكو من الأمرين معا، من متوكلين لا يعملون، ومن عاملين لا يتوكلون.(/1)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون فيأتون إلى مكة فيسألون الناس، فأنزل الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. قال محمد بن عبيد: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس بالمسجد الحرام، فيقول: ما يجلسكم؟ قلنا: فما نصنع؟ قال: اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين.
وسأل رجل ابن حنبل فقال: أيخرج أحدنا إلى مكة متوكلا لا يحمل معه شيئا؟ قال: لا يعجبني، فمن أين يأكل؟ قال: يتوكل فيعطيه الناس، قال: فإذا لم يعطوه أليس يتشرف حتى يعطوه؟ لا يعجبني هذا، لم يبلغني أن أحدا من أصحاب النبي والتابعين فعل هذا، ولكن يعمل ويطلب ويتحرى.
قال رسول الله : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)) رواه أحمد والترمذي وهو صحيح[3].
وهذا الحديث أخطأ القَعَدَة في فهمه، فإن الطيور لم يأتها رزقها رغدا إلى أوكارها، وهي قابعة في أعشاشها، وإنما غدت في الصباح سعيا في طلبه، فراحت في المساء وقد شبعت من رزق الله تعالى وفضله.
أيها المسلمون، إن من المتحتم عقلا أنه لا يدعو المسلمين إلى المسكنة والافتقار والاتكال في القوت على الغير، أو يصف الإسلام بالحض على ذلك إلا أحد اثنين؛ إما جاهل بالدين الحنيف يحسبه رهبانية مبتدعة، أو تبتلا مسرفا، وإما مخادع ماكر له في تلك الدعوة مآرب خبيثة، فهو مطعون النصيحة، خبيث الغاية، كيف لا، ورسول الله يقول: ((تعوذوا بالله من الفقر والقلة، والذلة)) رواه أحمد[4]، ويقول : ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) رواه أحمد وغيره[5].
إن الشيطان بحيله ومكره يخوف المؤمنين من كسب المال، فينفر طالب الآخرة منه، ويبادر التائب يخرج ما في يده، فإذا أخرجوا ما بأيديهم بذلوا أول السلع في التحصيل، دينهم وعرضهم. ويصيرون متمندلين به، ويقفون في مقام اليد السفلى التي هي الدون، والعاقل من الناس من يسعى لكسب ماله وحفظ ما معه، لينجو من مداراة غني ظالم، أو مداهنة بطر جاهل. وقد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بدا من الاضطراب في طلبته، فيبذل عرضه أو دينه.
إن الإسلام، يريد من أهله أن يكونوا أغنياء أقوياء، لا مهازيل ضعفاء، أغنياء بمالهم ليكون سياجا للدين، ومددا لتسليحه وحمايته، فقد قال تعالى في قيمة المال، لإحراز النصر ورفع الشأن: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6].
فإن الأمم تنتصر بعد توفيق الله، بالمال والبنين، ويوم يكون مالها أداة ترف، ومصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون به الأغنياء أحلاس لهو ولعب؛ فالويل والخسران لأمة، أورثها مالها هذه الحال. أعاذنا الله وإياكم من حال أهل النار.
أيها المسلمون، بالمال الحلال، استطاع المهاجرون إلى المدينة أن يزاحموا اقتصاد أهل الكتاب، وأن يجعلوا المال مالا إسلاميا، وهذا بحد ذاته له خطورته الظاهرة في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد في الأمم يوم تعبث به أيادي من لا ملة لهم ولا شرف؛ فإنهم يسخرونه ولا شك في ضرب الملة السمحة؛ ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم ويطلبون من فضل الله، في فجاجه العميقة، هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10].
إن المتبطلين العاطلين، المكتسبين البطالة بالزمالة، يعتمدون على من سواهم، ويستغلون عرق غيرهم، فهم كدود العلق الذي يمتص الدماء، يحملقون إلى مواضع المحسنين، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، مشغولين بالفراغ، أغنياء بالفقر، ولقد قال المصطفى : ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) رواه البخاري ومسلم[6].
قال ابن قتيبة رحمه الله: اليد العليا هي المعطية، فالعجب عندي، من قوم يقولون هي الآخذة، ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوما استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم.
عباد الله، لما فقد المال الصالح من يد الرجل الصالح، بليت المجتمعات ـ إلا من رحم الله ـ بطائفتين منحرفتين:(/2)
الأولى منهما: هي: طائفة الأثرياء المترفين، الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين، واستخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام، يأكلون كما تأكل الأنعام ويشربون شرب الهيم، دون أن يؤدوا واجبا لدينهم أو مجتمعهم، يتعاملون في الشرف على أصول من المعدة، لا من الروح، وإذا عظموا الدينار والدرهم فإنما عظموا النفاق والطمع والكذب، إذ إن حرصهم فوق بصيرتهم، ولهم في النفوس رائحة الخبز، دينهم في مقاييس البشر: خمس وخمس تساوي عشرة، وسجاياهم المتكررة، منع وهات؛ بل هات وهات، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى، إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد!
والطائفة الثانية: طائفة المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة والتشرد، دون مال يملكونه، أو عمل يؤدونه، ومع ذلك يطلقون لأنفسهم العنان في مباءات من الانحلال والمعاصي، فيجمعون بين السوءتين؛ ضلال وإفلاس قبيحين.
إن الذين يكسلون ولا يربحون ثم يتسولون أو يحتالون باسم التكسب أو العيش، ليسوا على سواء الطريق، والذين يحبون المال حبا جما، حتى يعميهم عن دينهم وأخلاقهم وخلواتهم القلبية وخلواتهم الروحية، ليسوا على سواء الطريق أيضا، إذ (كلا طرفي قصد الأمور ذميم)، وخير الأمور الوسط، والوسط ما قاله رسول الهدى : ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)) رواه أحمد[7].
فرحم الله عبدا كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، وذكر ربه ولم ينس نصيبه من الدنيا. ويا خيبة من طغى ماله عليه، وأضاع دينه وكرامته! وكان من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11].
عباد الله، إن المال غادٍ ورائح، ومقبلٌ ومدبرٌ، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، كما قال رسول الله : ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)) رواه البخاري ومسلم[8].
ولا يليق بالرجل القادر، أن يرضى لنفسه، أن يكون حِمْلاً على كاهل المجتمع، ثقيلا مرذولا، وأن يقعد فارغا من غير شغل، أو أن يشتغل بما لا يعنيه، إن هذا لمن سفه الرأي، وسذاجة العقل، والجهل بآداب الإسلام، قال عمر : (إني أرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه فقيل لي: لا عمل له، سقط من عيني).
إن العمل، مهما كان حقيرا فهو خير من البطالة، وخير من سؤال أحد من ذوي المال؛ إن أعطاه فقد حمل ثقل المنة مع ذُلّ السؤال، وإن منعه فقد باء بذل الخيبة مع ذل السؤال. والعز بلا سؤال، ألذ من كل لذة بسؤال، والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل، وإن نفس الحر لتحتمل الظما، حتى لقد قال الفاروق: (مكسبة في دناءة خير من سؤال الناس).
ولقد قال لقمان لابنه: (يا بني، استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وهاء في مروءته وأعظم من هذا، استخفاف الناس به).
ولا خير في نيل من ماله عزيز النوال بذل السؤال.
وصلوات الله على المبعوث رحمة للعالمين، حيث يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال)) أخرجه النسائي وأبو داود[9]، ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)) أخرجه النسائي وأبو داود[10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح البخاري ح (1295)، صحيح مسلم ح (1628).
[2] حسن، مسند أحمد (2/160)، وصحيح مسلم ح (996).
[3] مسند أحمد (1/30)، سنن الترمذي ح (2344)، وقال : حديث حسن صحيح.
[4] صحيح، مسند أحمد (2/540) وتمامه : ((... وأن تظلم أو تُظلم)).
[5] صحيح، مسند أحمد (5/36)، وأخرجه النسائي ح (1347) والحاكم (1/35) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني . تمام المنّة ص233.
[6] صحيح البخاري ح (1429)، صحيح مسلم ح (1033).
[7] صحيح، مسند أحمد (4/197).
[8] صحيح البخاري ح (5356)، صحيح مسلم ح (1034).
[9] صحيح، سنن النسائي ح (5453)، سنن أبي داود ح (1555).
[10] حسن، سنن أبي داود ح (1547)، سنن النسائي ح (5468).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام رغب في العمل والكسب الحلال، والاتجار في جمع المال؛ فقد سئل رسول الله : أي الكسب أفضل قال: ((عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)) رواه الطبراني وهو صحيح[1]، وقال : ((ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري[2]. وثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: ((كان زكريا عليه السلام نجارا))[3].
وروى الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن النبي أنه قال: ((التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين والصديقين والشهداء)) [4].(/3)
ومر رجل على النبي فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء...)) [5].
ولقد كان أبو بكر أتجر قريش، وكان الفاروق يقول: (يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم ماله فيبتغي فيه من فضل الله عز وجل، فإن فيه العبادة والتصديق، وايم الله، لأن أموت في شعبتي رحلي، وأنا ابتغي بمالي في الأرض من فضل الله، أحب إلي من أن أموت على فراشي).
وما قتل الخليفة الراشد عثمان حتى بلغت غلة نخله مائة ألف. وقال عبد الرحمن بن عوف: (يا حبذا المال، أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي).
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ: أن البطالة من أخطر المشكلات الاجتماعية وأسوئها عاقبة، وأشدها تأثيرا على طمأنينة الحياة وهناءة العيش، وهي رُقْيَةُ التسول والسرقة والغش والخداع.
والإسلام نظر إلى المكلف نظراعتبار، حيث دعاه إلى نزول ميادين العمل على أنواعها، إما مأجورا، أو حرا مستقلا، أو مشاركا في المال إن استطاع. فإذا صاحب ذلك كلَّه، صِدقٌ وأمانة، وإخلاص وتوكل، كان له النجاح والربح والبركة والنماء بإذن الله.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وسيد البشرية...
[1] المعجم الكبير للطبراني (4411).
[2] صحيح البخاري ح (2072).
[3] صحيح مسلم ح (2380).
[4] سنن الترمذي ح (1209)، سنن ابن ماجه ح (2139). قال البوصيري في الزوائد : في إسناده كلثوم بن جوشن القشيري، ضعيف.
وقال ابن حجر في كلثوم هذا: ضعيف. تقريب التهذيب (5691). وانظر غاية المرام للألباني (166).
[5] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/129). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/325) : رواه الطبراني في الثلاثة، ورجال الكبير رجال الصحيح.(/4)
... ... ...
نعم المال الصالح للرجل الصالح ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- نظرة الإسلام إلى المال. 2- فوائد جمع المال للمؤمن. 3- الإسلام يحرض على الكسب ويحذر من الكسل. 4- الكسل في طلب الرزق يجعل الإنسان في حاجة الناس ومسألتهم. 5- ذم طبقة الأثرياء والذين شغلتهم الدنيا عن الآخرة. 6- ذم طبقة البطالين الذين زعموا أن الآخرة شغلتهم عن الدنيا وكسبها. 7- فائدة المال للعبد الصالح. 8- ترغيب الإسلام في جمع المال الحلال وتكسبه وترغيبه في العمل. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة، أُعوزتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم، فإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
أيها الناس، إن المتتبع لشريعة الإسلام في القرآن والسنة يرى اعتبار المال الصالح قوام الحياة، والحث على تحصيله وحسن تدبيره وتثميره، بل لقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على الديانة بالتوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والعقل والعرض.
ومن المسلمات المعلومة بالضرورة، أن المال زينة الحياة الدنيا، وأنه مطلوب محبوب، وأن الإسلام لا يمنع طلبه عن طريق طيبه وحله، بل إنه يحرض على كسبه، وحسن التصرف، لتقضى به الحقوق، وتؤدى الواجبات، وتصان الحرمات.
إن المال في الحقيقة، لا يطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة، لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه في حد ذاته وسيلة لا غاية، والوسيلة عادة تحمد أو تعاب بمقدار ما يترتب عليها من نتائج حسنة وآثار سيئة، فالمال كالسلاح، إن كان في يد مجرم قتل به الأبرياء، وإن كان في يد مجاهد مناضل دافع به عن دينه ونفسه وأهله ووطنه، وقد قال تعالى عن المال، وما يسوقه من خير أو شر: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل :5-11].
وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].
وما أسعد المسلم، حين تعتدل أمامه مسالك الحياة، فيعمل ويتصبب عرقه، فيزكيه ذلك العرق ويطهره من فضلات الكسل وجمود النفس، ويكسب الكسب الحلال الطيب، وتستقيم يده، وهي تنفق من هذا الكسب الكريم، ويدخر لنفسه، ما يحتاج إليه في غده. قال رسول الله لسعد بن أبي وقاص: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) متفق عليه[1]، وقال : ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أحمد ومسلم بنحوه[2].
أيها الناس، نعق كذا ناعق فزعموا بحماقة وصفاقة أن الإسلام لا يريد من أهله إلا أن يكونوا فقراء صاغرين، ويقولون ضالين: إن الله إذا أعطى الدنيا لأحد حرمه من الآخرة، ويستشهدون بقول القائل:
إن الفقيه هو الفقير وإنما راء الفقير تجمعت أطرافها
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن تلك فرية عظيمة، تنسب إلى الإسلام وهو منها براء، بل إن الإسلام هو الذي يحرض على الكسب والنشاط قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
فالمؤمن ليس درويشا في معتكفه، أو راهبا في ديره. لا عمل له ولا كسب، الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحا عاملا، مؤديا دوره في الحياة، آخذا منها معطيا لها هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَءمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ [الملك:15]. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها [هود:61]. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا [القصص :77].
وقد رأى الفاروق قوما قابعين في ركن المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم عمر بِدِرَّتِهِ ونهرهم وقال: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10].
وإن الفاروق ، يشكو من متوكلين لا يعملون، ففي حياتنا المعاصرة نشكو من الأمرين معا، من متوكلين لا يعملون، ومن عاملين لا يتوكلون.(/1)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون فيأتون إلى مكة فيسألون الناس، فأنزل الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. قال محمد بن عبيد: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس بالمسجد الحرام، فيقول: ما يجلسكم؟ قلنا: فما نصنع؟ قال: اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين.
وسأل رجل ابن حنبل فقال: أيخرج أحدنا إلى مكة متوكلا لا يحمل معه شيئا؟ قال: لا يعجبني، فمن أين يأكل؟ قال: يتوكل فيعطيه الناس، قال: فإذا لم يعطوه أليس يتشرف حتى يعطوه؟ لا يعجبني هذا، لم يبلغني أن أحدا من أصحاب النبي والتابعين فعل هذا، ولكن يعمل ويطلب ويتحرى.
قال رسول الله : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)) رواه أحمد والترمذي وهو صحيح[3].
وهذا الحديث أخطأ القَعَدَة في فهمه، فإن الطيور لم يأتها رزقها رغدا إلى أوكارها، وهي قابعة في أعشاشها، وإنما غدت في الصباح سعيا في طلبه، فراحت في المساء وقد شبعت من رزق الله تعالى وفضله.
أيها المسلمون، إن من المتحتم عقلا أنه لا يدعو المسلمين إلى المسكنة والافتقار والاتكال في القوت على الغير، أو يصف الإسلام بالحض على ذلك إلا أحد اثنين؛ إما جاهل بالدين الحنيف يحسبه رهبانية مبتدعة، أو تبتلا مسرفا، وإما مخادع ماكر له في تلك الدعوة مآرب خبيثة، فهو مطعون النصيحة، خبيث الغاية، كيف لا، ورسول الله يقول: ((تعوذوا بالله من الفقر والقلة، والذلة)) رواه أحمد[4]، ويقول : ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) رواه أحمد وغيره[5].
إن الشيطان بحيله ومكره يخوف المؤمنين من كسب المال، فينفر طالب الآخرة منه، ويبادر التائب يخرج ما في يده، فإذا أخرجوا ما بأيديهم بذلوا أول السلع في التحصيل، دينهم وعرضهم. ويصيرون متمندلين به، ويقفون في مقام اليد السفلى التي هي الدون، والعاقل من الناس من يسعى لكسب ماله وحفظ ما معه، لينجو من مداراة غني ظالم، أو مداهنة بطر جاهل. وقد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بدا من الاضطراب في طلبته، فيبذل عرضه أو دينه.
إن الإسلام، يريد من أهله أن يكونوا أغنياء أقوياء، لا مهازيل ضعفاء، أغنياء بمالهم ليكون سياجا للدين، ومددا لتسليحه وحمايته، فقد قال تعالى في قيمة المال، لإحراز النصر ورفع الشأن: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6].
فإن الأمم تنتصر بعد توفيق الله، بالمال والبنين، ويوم يكون مالها أداة ترف، ومصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون به الأغنياء أحلاس لهو ولعب؛ فالويل والخسران لأمة، أورثها مالها هذه الحال. أعاذنا الله وإياكم من حال أهل النار.
أيها المسلمون، بالمال الحلال، استطاع المهاجرون إلى المدينة أن يزاحموا اقتصاد أهل الكتاب، وأن يجعلوا المال مالا إسلاميا، وهذا بحد ذاته له خطورته الظاهرة في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد في الأمم يوم تعبث به أيادي من لا ملة لهم ولا شرف؛ فإنهم يسخرونه ولا شك في ضرب الملة السمحة؛ ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم ويطلبون من فضل الله، في فجاجه العميقة، هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثرى وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10].
إن المتبطلين العاطلين، المكتسبين البطالة بالزمالة، يعتمدون على من سواهم، ويستغلون عرق غيرهم، فهم كدود العلق الذي يمتص الدماء، يحملقون إلى مواضع المحسنين، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، مشغولين بالفراغ، أغنياء بالفقر، ولقد قال المصطفى : ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) رواه البخاري ومسلم[6].
قال ابن قتيبة رحمه الله: اليد العليا هي المعطية، فالعجب عندي، من قوم يقولون هي الآخذة، ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوما استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم.
عباد الله، لما فقد المال الصالح من يد الرجل الصالح، بليت المجتمعات ـ إلا من رحم الله ـ بطائفتين منحرفتين:(/2)
الأولى منهما: هي: طائفة الأثرياء المترفين، الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين، واستخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام، يأكلون كما تأكل الأنعام ويشربون شرب الهيم، دون أن يؤدوا واجبا لدينهم أو مجتمعهم، يتعاملون في الشرف على أصول من المعدة، لا من الروح، وإذا عظموا الدينار والدرهم فإنما عظموا النفاق والطمع والكذب، إذ إن حرصهم فوق بصيرتهم، ولهم في النفوس رائحة الخبز، دينهم في مقاييس البشر: خمس وخمس تساوي عشرة، وسجاياهم المتكررة، منع وهات؛ بل هات وهات، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى، إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجد!
والطائفة الثانية: طائفة المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة والتشرد، دون مال يملكونه، أو عمل يؤدونه، ومع ذلك يطلقون لأنفسهم العنان في مباءات من الانحلال والمعاصي، فيجمعون بين السوءتين؛ ضلال وإفلاس قبيحين.
إن الذين يكسلون ولا يربحون ثم يتسولون أو يحتالون باسم التكسب أو العيش، ليسوا على سواء الطريق، والذين يحبون المال حبا جما، حتى يعميهم عن دينهم وأخلاقهم وخلواتهم القلبية وخلواتهم الروحية، ليسوا على سواء الطريق أيضا، إذ (كلا طرفي قصد الأمور ذميم)، وخير الأمور الوسط، والوسط ما قاله رسول الهدى : ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)) رواه أحمد[7].
فرحم الله عبدا كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، وذكر ربه ولم ينس نصيبه من الدنيا. ويا خيبة من طغى ماله عليه، وأضاع دينه وكرامته! وكان من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11].
عباد الله، إن المال غادٍ ورائح، ومقبلٌ ومدبرٌ، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، كما قال رسول الله : ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)) رواه البخاري ومسلم[8].
ولا يليق بالرجل القادر، أن يرضى لنفسه، أن يكون حِمْلاً على كاهل المجتمع، ثقيلا مرذولا، وأن يقعد فارغا من غير شغل، أو أن يشتغل بما لا يعنيه، إن هذا لمن سفه الرأي، وسذاجة العقل، والجهل بآداب الإسلام، قال عمر : (إني أرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه فقيل لي: لا عمل له، سقط من عيني).
إن العمل، مهما كان حقيرا فهو خير من البطالة، وخير من سؤال أحد من ذوي المال؛ إن أعطاه فقد حمل ثقل المنة مع ذُلّ السؤال، وإن منعه فقد باء بذل الخيبة مع ذل السؤال. والعز بلا سؤال، ألذ من كل لذة بسؤال، والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل، وإن نفس الحر لتحتمل الظما، حتى لقد قال الفاروق: (مكسبة في دناءة خير من سؤال الناس).
ولقد قال لقمان لابنه: (يا بني، استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وهاء في مروءته وأعظم من هذا، استخفاف الناس به).
ولا خير في نيل من ماله عزيز النوال بذل السؤال.
وصلوات الله على المبعوث رحمة للعالمين، حيث يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال)) أخرجه النسائي وأبو داود[9]، ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)) أخرجه النسائي وأبو داود[10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] صحيح البخاري ح (1295)، صحيح مسلم ح (1628).
[2] حسن، مسند أحمد (2/160)، وصحيح مسلم ح (996).
[3] مسند أحمد (1/30)، سنن الترمذي ح (2344)، وقال : حديث حسن صحيح.
[4] صحيح، مسند أحمد (2/540) وتمامه : ((... وأن تظلم أو تُظلم)).
[5] صحيح، مسند أحمد (5/36)، وأخرجه النسائي ح (1347) والحاكم (1/35) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني . تمام المنّة ص233.
[6] صحيح البخاري ح (1429)، صحيح مسلم ح (1033).
[7] صحيح، مسند أحمد (4/197).
[8] صحيح البخاري ح (5356)، صحيح مسلم ح (1034).
[9] صحيح، سنن النسائي ح (5453)، سنن أبي داود ح (1555).
[10] حسن، سنن أبي داود ح (1547)، سنن النسائي ح (5468). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام رغب في العمل والكسب الحلال، والاتجار في جمع المال؛ فقد سئل رسول الله : أي الكسب أفضل قال: ((عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)) رواه الطبراني وهو صحيح[1]، وقال : ((ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري[2]. وثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: ((كان زكريا عليه السلام نجارا))[3].
وروى الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن النبي أنه قال: ((التاجر الصدوق الأمين، مع النبيين والصديقين والشهداء)) [4].(/3)
ومر رجل على النبي فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء...)) [5].
ولقد كان أبو بكر أتجر قريش، وكان الفاروق يقول: (يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم ماله فيبتغي فيه من فضل الله عز وجل، فإن فيه العبادة والتصديق، وايم الله، لأن أموت في شعبتي رحلي، وأنا ابتغي بمالي في الأرض من فضل الله، أحب إلي من أن أموت على فراشي).
وما قتل الخليفة الراشد عثمان حتى بلغت غلة نخله مائة ألف. وقال عبد الرحمن بن عوف: (يا حبذا المال، أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي).
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ: أن البطالة من أخطر المشكلات الاجتماعية وأسوئها عاقبة، وأشدها تأثيرا على طمأنينة الحياة وهناءة العيش، وهي رُقْيَةُ التسول والسرقة والغش والخداع.
والإسلام نظر إلى المكلف نظراعتبار، حيث دعاه إلى نزول ميادين العمل على أنواعها، إما مأجورا، أو حرا مستقلا، أو مشاركا في المال إن استطاع. فإذا صاحب ذلك كلَّه، صِدقٌ وأمانة، وإخلاص وتوكل، كان له النجاح والربح والبركة والنماء بإذن الله.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وسيد البشرية...
[1] المعجم الكبير للطبراني (4411).
[2] صحيح البخاري ح (2072).
[3] صحيح مسلم ح (2380).
[4] سنن الترمذي ح (1209)، سنن ابن ماجه ح (2139). قال البوصيري في الزوائد : في إسناده كلثوم بن جوشن القشيري، ضعيف.
وقال ابن حجر في كلثوم هذا: ضعيف. تقريب التهذيب (5691). وانظر غاية المرام للألباني (166).
[5] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/129). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/325) : رواه الطبراني في الثلاثة، ورجال الكبير رجال الصحيح. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
نعمة الأمن
بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بكلية الشريعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..أما بعد:
فقد روى الترمذي وقال حسن غريب: من طريق سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".
إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمنا على نفسه مطمئنا على عرضه، لا يخاف ظلم ظالم ولا جور جائر، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من اجتمع له الأمن في وطنه والصحة في بدنه مع وجود قوت يومه فقد جمعت له الدنيا ولم يفته منها شيء حيث يقول فيما جاء من الأثر: "من أصبح منكم في آمنا في سربه، معفى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا" أي اجتمعت لديه أسباب النعيم العاجل، ولم يفته من مسرات الحياة شيء. والأمن في البلاد مع الصحة في الأبدان نعمة يجب أن تشكر فإن من فاتته هذه النعمة لم يسعد من الحياة من شيء ولذلك جاء في الحكم: "نعمتان مجحودتان الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان".
وقد امتن الله تبارك وتعالى على أهل مكة في مواضع كثيرة في كتابه بنعمة الأمن ليلفت الناس إلى شكرها وينبههم إلى خطرها، وجعل ذلك آية من آياته وبرهانا من براهين عظمته وقدرته وألوهيته وربوبيته حيث يقول: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وكما قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون}. وكما قال عز وجل: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}. وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أسباب الأمن، وأن أساسها الإيمان بالله وعدم الظلم ولذلك قال في قصة إبراهيم عليه السلام حينما هدده قومه بأن أصنامهم ستسلبه الأمن: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم بيَّن أصول الأمن وأعظم أسبابه فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فإن العبد إذا آمن بالله عز وجل والتجأ إليه وامتنع عن المظالم كان حريا بوقاية الله من شرور أعدائه على حد قول الشاعر:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
...
من الدروع وعن عال من الأطم
وكما قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
...
نم فالمخاوف كلهن آمان
و قد وعد الله تبارك وتعالى أهل الأديان والعمل الصالح أن يمكن لهم في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا وفي ذلك يقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. كما وعد الله تبارك وتعالى كل من عمل صالحا من ذكر أو أنثى بالحياة الطيبة والتي يكون الأمن من أبرز مظاهرها حيث يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقد نبه إبراهيم عليه السلام إلى خطر نعمة الأمن في البلاد فدعا الله تبارك وتعالى أن يجعل دار ولده إسماعيل آمنة حيث يقول عز وجل في دعوته: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} وكما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}.(/1)
وقد استجاب الله تبارك وتعالى دعاء إبراهيم عليه السلام فجعل دار إسماعيل عليه السلام حرما آمنا وجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا وفي ذلك يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}، ووصفت مكة بأنها البلد الأمين حيث يقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}، ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تطبيق شريعة الإسلام، والعمل بأحكامه وتحليل حلاله وتحريم حرامه مما يورث البلاد أمنا، ويهبها استقرارا، فقد صح الخبر أن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانت أخت عدي قد أوصته أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: "أرى أن تلحق بمحمد فإن يكن نبيا فالسابق إليه فضل وإن يكن ملكا فأنت أنت". فلما قدم عدي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي ما يمنعك من الدخول في الإسلام؟" ثم قال له: "والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من صنعاء إلى الحيرة فلا تخاف من نفسها إلا الذئب"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد بين الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الأسباب السالبة للأمن الجالبة للخوف، فجعل منها محاربة دين الله وفي ذلك يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
كما تهدد تبارك وتعالى من كفر بنعمة الله أن يبدله من بعد أمنه خوفا وأن يلبسه لباس الجوع وفي ذلك يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
ولقد أشار نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم إلى عظيم نعمة الأمن وطلب من قومه أن يشكروا الله عز وجل عليها، وأنذرهم بأنها ستسلب منهم إن لم يعترفوا لله عز وجل بها وفي ذلك يقول الله عز وجل حاكيا مقالة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم لقومه: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. ولقد ضرب الله تبارك وتعالى مثلا كذلك بلاد سبأ إذ كانوا يعيشون آمنين في بلاد لهم فيها آية جنتان عن يمين وشمال، فلما أعرضوا عن دين الله مزقهم كل ممزق وجعلهم أحاديث وفي ذلك يقول عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ. وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
عبد القادر شيبة الحمد(/2)
نعمة الأمن
فضيلة الشيخ خالد الراشد ...
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذين خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار معاشر الأحبة حاضرين ومستمعين ومشاهدين حب الأمان مطلب فطري لكل الناس وهذا الأمن والأمان من الخير الذي فطر الله الإنسان على حبه لقوله تبارك وتعالى عن الإنسان وإنه لحب الخير لشديد .
وفي ظل الأمن والأمان تحلو العبادة ويصير النوم ثباتاً والطعام هنيئاً والشراب مريئاً وهو مطلب الشعوب كافة والأمن هبة من الله لعباده ونعمة يغبط عليها كل من وهبها ولا عجب في ذلك فقد قال الله (( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )) و قال صلى الله عليه وسلم :
(( من أصبح آمناً في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيذت له الدنيا بما فيها )) اسمع واسمعي أعيد قال صلى الله عليه وسلم (( من أصبح آمناً في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيذت له الدنيا بما فيها )) قلت اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا ومن أجل استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة والحدود القاطعة حفظاً للأمن والأمان فحفظاً للأمن والأمان غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من شفع في حد من حدود الله وأكد على ذلك بقوله وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وما ذلك إلا من أجل سد باب الذريعة المفضية إلى التهاون بالحدود والتعذيرات أو التقليل من شأنها ولا عجب ولا غر في ذلك فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها قال سبحانه (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) وقال صلى الله عليه وسلم (( لحد يقام في الأرض أحب إليكم من أن تمطروا أربعين يوماً )) لأن في إقامة الحدود ردع لأولئك الذين في قلوبهم مرض وقديماً قيل القتل أنفى للقتل حديثي معكم هذه الليلة عن الأمن عن نعمة الأمن في الأوطان خاصة وسيتكون اللقاء من النقاط والعناصر التالية :
مقدمة عن الأمن ستشمل التعريف والفضل وأخبار وعناية الإسلام بالأمن ثم مقومات الأمن في الأوطان وسيتكون من نقاط سبع أولها تحكيم شرع الله، إصلاح العقيدة ، شكر النعم ، الاستقرار السياسي ، استقرار الاقتصاد ، جهاز الأمن القوي ، ثم التزام الإعلام بالمنهج الإسلامي ثم الختام وآخر الكلام...
إن نعمة الأمن والاستقرار لمن أعظم النعم التي يظفر بها الإنسان فيكون آمناً على دينه أولاً ثم على نفسه وعلى ماله وولده وعرضه بل وعلى كل ما يحيط به ولا يكون ذلك إلا بالإيمان والابتعاد عن العصيان لأن الأمن مشتق من الإيمان والأمانة وهما مترابطتان قال الله جل في علاه الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون والمقصود بالظلم كما بينه الله في آيات أخرى في وصية لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مواضع عدة والأمن لغة عباد الله طمأنينة النفس وزوال الخوف وإلى هذا أشار الله بقوله في سورة التوبة:
(( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون )) قال الراغب الأصفهاني أي أبلغه المكان الذي فيه أمنه وطمأنينة نفسه وزوال خوفه والأمن اصطلاحا هو الحالة التي تتوافر حين لا يقع في البلاد إخلال بالقانون سواء كان هذا الإخلال جريمة يعاقب عليها القانون أو نشاطاً خطيراً يدعو إلى اتخاذ تدابير الوقاية والأمن لمنع مثل هذا النشاط والأمن كذلك هو السلامة والاطمئنان للنفس وانتفاء الخوف على حياة الإنسان أو على ما تقوم به حياة الإنسان من مصالح وأهداف وأسباب ووسائل مما يشمل أمن الفرد وأمن المجتمع والأمن بارك الله في الجميع هو الأساس في ازدهار الحضارة وتقدم الأمم ورقي المجتمعات وإذا ضاع الأمن اختلت الحياة وتوقف موكب التقدم وأصبح هم كل فرد هو الحفاظ على أمنه وأمن من معه دون النظر إلى أي شيء مهما كان ولقد اهتم الإسلام بالأمن(/1)
غاية الاهتمام واعتبره هدفاً لذاته فلقد دعا القرآن الكريم بشكل صريح وفي آيات كثيرة إلى المحافظة على الأمن بكافة جوانبه الأمن للدين الأمن للنفس الأمن للمال الأمن للعرض والنسل وهذه هي الضروريات الخمس التي جاء الشرع لحفظها وجاءت لحفظها جميع الشرائع والأديان تأمل في قول أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإذا قال إبراهيم ربي اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ولقد استجاب الله إلى دعاء إبراهيم فانتشر الأمن والطمأنينة في البلد الحرام واستمر هذا الأمن حتى في الجاهلية لدرجة أن الرجل منهم كان يلقى قاتل أبيه في مكة في طرقات مكة فلا يتعرض له بسوء بينما فقد هذا الأمن وشاع الخوف والاضطراب خارج مكة المكرمة وغيرها من أنحاء جزيرة العرب وإلى هذا أشار الله إلى أهل مكة ممتناً عليهم بتلك النعمة (( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفا بالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون )) والإسلام يعتبر الأمن من أعظم نعم الله على الإنسان لهذا اهتم بالمحافظة عليه غاية الاهتمام فنهى عن كل ما يخل بالأمن مهما كان أمرا صغيرا فقد نهى صلى الله عليه وسلم المسلم أن يروع أخاه المسلم فقال بأبي هو أمي لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً وقال لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ومن مظاهر اهتمام الإسلام بالأمن مراعاته لأحوال الناس في حالة فقدان الأمن أو في حالة اختلاله وخوف الإنسان والناس مما قد يحدث لهم ومن ذلك إسقاط أو تخفيف بعض التكاليف الشرعية عنه فرغم أن الصلاة هي عمود الإسلام ولا يعذر المسلم بتركها أو بتأخيرها عن وقتها من دون عذر إلا أنه عندما يختل الأمن ويشعر الإنسان بالخوف من عدو أو وحش يطارده أو حريق أو نحو ذلك فإنه تشرع له صلاة الخوف فيصلي على حسب حاله حتى أنه يجوز له الصلاة إلى غير القبلة وترك الركوع والسجود والاستعاضة عنهما بالإيماء إذا اضطر إلى ذلك وارجع إلى كتب الفقه لمزيد من الأخبار عن ذلك والإسلام في سموه وعظمته يأمر بحفظ الأمن حتى لغير المسلمين كأهل الذمة والمستأمنين ما داموا ملتزمين بالعهد مؤدين ما اشترطه الإسلام عليهم وقد بلغ ذلك مبلغاً عظيماً في الإسلام يدل على ذلك ما جاء في الخبر أن زيد بن سعنه وكان من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطالبه بدين له لم يحل أجله ما حل أجل الدين وجاء اليهودي يطالب النبي صلى الله عليه وسلم بأداء الدين ومع ذلك تعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم بقسوة وجلا فه فجذب النبي من ثوبه وأغلظ له في القول فنهره عمر نهر عمر اليهودي رضي الله عنه وأرضاه وهدده بالقتل ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتبسم ويقول لعمر:
أنا وهو كنا أحوج لغير هذا يا عمر كنا أحوج أن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي مع أن الدين لم يحل أجله بعد بأبي أنت وأمي سئلت عائشة عن خلقه فقالت كان خلقه القرآن وإن شئتم فاقرؤوا قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لقد بقي من أجله ثلاث لقد بقي من أجل الدين ثلاث وأمر عمر أن يقضيه حقه ويزيده عشرين صاعاً من تمر مقابل التهديد الذي هدده فكان ذلك سبباً في إسلامه أرأيت كيف نستطيع أن نؤثر على الآخرين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وأساس حفظ الأمن لغير المسلمين ما جاء في قوله تبارك وتعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين وفي هذه الآية الكريمة من البر بالمخالف في الدين والإحسان في الدين إليه ما لم تصل إليه القوانين في الحضارة المعاصرة التي تدعي وتتغنى بحفظ حقوق الإنسان قلت أي إنسان يعنون ويقصدون بل إن الإسلام لشدة اهتمامه بتوفير الأمن والطمأنينة للناس لا يمانع من عقد اتفاقيات أو معاهدات دولية إلى أجل مسمى حتى مع غير المسلمين طالما أن الهدف من هذه العهود والمواثيق والاتفاقيات هو إقامة الحق والعدالة ورفع الظلم عن المظلومين وحفظ حقوق الإنسان التي يدعون أنهم يحفظونها ودليل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضر حلف الفضول الذي تعاقدت قريش عليه في الجاهلية وأثنى عليه لأنه يهدف إلى نصرة المظلومين وردع الظلمة فقال صلى الله عليه وسلم :(/2)
لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت لأن فيه نصرة للمظلومين وفيه ردع للظلمة والطغاة والمتكبرين ، حتى ننعم بالأمن والآمان في الأوطان لابد من مقومات وضوابط أولها تحكيم شرع الله بين الناس لأنه الضامن الوحيد للعدل والمساواة بين الناس فلا ضامن للعدل بين الناس إلا منهج لا إله إلا الله لذلك كان اتباع الأنبياء هم الضعفاء لأن منهج لا إله إلا الله يضمن لهم العدل والمساواة مع الآخرين ومن سور عدل الإسلام التي لا يمكن أن تتكرر في أي شريعة أخرى لكم هذا الخبر اختصم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه مع يهودي في درع له لعلي هذا الدرع فذهب إلى القاضي شريح ولما لم تكن عند علي رضي الله عنه بينه إلا شهادة ابنه الحسن ومولاه قنبر وهي شهادة لا تقبل شرعاً فقد حكم القاضي بالدرع لليهودي رغم أنه يعلم أن الدرع لعلي رضي الله عنه وأرضاه فمن مثل علي لا يكذب ولا يدعي ما ليس له به حق ورغم أن اليهود أشد الناس عداوة للمسلمين ولكن القاضي طبق مبدأ العدل في القضاء حتى مع الأعداء فذهل اليهودي من ذلك الحكم وقال بل الدرع لأمير المؤمنين فاعترف وقال بل الدرع لأمير المؤمنين وقال هذا والله هو الدين الحق وكان ذلك سبباً في إسلامه فأكرمه علي رضي الله عنه ووهبه الدرع ووهبه فرساً معها قلت هذا هو ديننا وهذه هي أخلاقنا .
من مقومات الأمن أيضاً إصلاح العقيدة بإخلاص العبادة لله تبارك وتعالى قال الله جل في علاه وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من خوفهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً لا بد من إخلاص العبودية لله ولا بد من تصحيح العقيدة حتى ننعم بالأمن والأمان والمعنى واضح ولا يحتاج إلى مزيد بيان
من مقومات الأمن أيضاً في الأوطان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو سبب خيرية هذه الأمة به تنتشر الفضيلة وبه تنقمع الرذيلة وهو وظيفة كل فرد في المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل فرد في المجتمع وبتركه تحل العقوبات ويختل الأمن ليس المطلب أنكم صالحين لكن لابد أن نكون مصلحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم على زينب بنت جحش رضي الله عنها وهو يقول ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث ولا خير في مجتمع لا يحارب الرذيلة ويدعو إلى الفضيلة قال صلى الله عليه وسلم :
لا تأمرن بالمعروف ولا تنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يسلط عليكم عذاباً فتدعونه فلا يستجيب لكم اسمع مزيد من خطورة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقول عائشة دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ يوماً وقد حز به أمر عرفته في وجهه تقول :
دخل ولم يكلمنا ثم توضئ ثم خرج إلى منبره بين الناس تقول فالتصقت بباب البيت استمع إلى كلامه حمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إن ربكم تبارك وتعالى يأمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وإلا وضعوا تحت إلا خطوط إن الله تبارك وتعالى يأمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وإلا تدعوني فلا أستجيب لكم تسألوني فلا أعطيكم تستنصروني فلا أنصركم فإذا سألت الأمة ربها فلم يعطيها وإذا استنصرته فلم ينصرها وإذا دعته فلم يجبها فأي باب يطرقون إذا تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان مثل هذا الأمر الخطير.
من مقومات الأمن في الأوطان أيضا شكر النعم بالقلب والجوارح والأركان وذلك بالإقرار للمنعم وذلك بحبه والثناء عليه وذلك باستعمال تلك النعم في طاعة الله أما ترون أحبتي أن الله لا يحارب إلا بنعمه النعم لا تدوم إلا بحقها وإذ تأذن ربكم وإن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد انظر ماذا يصنع كفران النعم بالأمم والشعوب قال الله وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله يعني لم تقدر تلك النعم حق قدرها ولم تقم بشكرها وأداء الفضل الذي لله فيه عليها فحول ذلك الأمن إلى خوف وجوع وألبسهم الله لباس الجوع واللبن بما كانوا يصنعون .(/3)
من مقومات الأمن في الأوطان أيضاً الاستقرار السياسي للبلاد فهو من أهم عناصر استتباب الأمن وانظر لتعرف هذا الأمر الخطير انظر إلى تلك الدول وإلى تلك الديار التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي فتكثر فيها الانقلابات فهناك لا يأمن الناس على حياتهم ولا على أموالهم ولا على أعراضهم فكيف يهنئون بطعام وشراب في ظل فقد الأمن والأمان ولقد اهتم الإسلام بتأمين استقرار البلاد فأمر بطاعة ولاة الأمر في غير معصية لله وجعل طاعتهم متممة لطاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا وحذر الإسلام من الخروج على الحكام فقال صلى الله عليه وسلم من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه بل وشدد في الالتزام بطاعة ولي الأمر مهما كان أصله ونسبه لحديث أبي ذر قال :
إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف لأهمية الأمر وخطورته لم يجعل الإسلام ارتكاب الحاكم لبعض المعاصي والمخالفات مبرراً للخروج عليه ما لم يصل ذلك إلى إعلان الكفر الباح الذي يكون عليه دليل قاطع من الله لحديث عبادة قال دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا فقال فيما أخذ علينا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله وقال إلا أن تروا عندكم من الله فيه برهان اتقوا عباد الله ولكني أوصي ولاة أمور المسلمين بتقوى الله والرفق بالرعية وأقول لهم إن الشعوب عندهم أمانة ومسؤولية والأمانة خزي وعار وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها قال أبو ذر يا رسول الله استعملني قال يا أبا ذر أنت ضعيف وهذه أمانة وهي خزي وعار وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها قال صلى الله عليه وسلم اللهم من تولى أمراً من أمور أمتي فرفق بها فرفق به ومن شق عليها فاشقق عليه فليتق الله الجميع راع ورعية .
من مقومات الأمن أيضاً الاستقرار الاقتصادي للبلاد نعم فتأمين الحياة الطيبة للجميع بتوفير حاجاتهم وسد مطالبهم يوفر الأمن للبلاد والعباد فشرع الإسلام الزكاة وحث على الصدقات وأمر بالعدل بتوزيع الأعطيات بسد حاجات الناس وتلبية رغباتهم قال الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي لعلكم تذكرون ،
ومن مقومات الأمن في الأوطان وجود جهاز أمن قوي أجل فما فائدة الأنظمة وما فائدة القوانين إن لم يوجد سلطة تنفيذية قوية تقوم بتنفيذ الأوامر وبتطبيق الأنظمة والقوانين وتحاسب من يخالفها ولا بد أن يكون هذا الجهاز الأمني قوي بكل ما تعنيه القوة قوي بأفراده قوي بسلاحه قوي بخبرته والأهم من هذا أمانة ونزاهة فلقد حث القرآن الكريم أن يكون الموظف والعامل متصفاً بالقوة قال تعالى قالت إحداهما يا أبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ولا بد من توافر هذه الصفات في رجال الأمن لأنه مؤتمن على نفوس الناس وعلى أعراضهم وعلى أموالهم وحتى يكون جهاز الأمن قوياً نزيهاً لا بد له من ضوابط وأمور أولها تقوى الله تبارك وتعالى وهي جماع الخير كله ورجل الأمن التقي هو الذي يراقب الله في كل أحواله فيقوم بعمله خير قيام سمعت وسمعتي عن رويع الغنم في الصحراء يؤدي وظيفته على أتم وجه دون حسيب ورقيب من البشر إلا لأنه يستشعر أن الذي يراقبه هو الله مر ابن عمر على رويع غنم يرتاد بأغنامه أحسن المراعي وأحسن الأماكن فأراد أن يمتحنه في تلك الخلوة فقال له امتحانا:(/4)
بعنا من هذه الشياه فقال رويع الغنم إني مؤتمن ولا أستطيع أن أتصرف في أي شيء من هذا فقال له ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قل للراعي أكلها الذئب ابتعد عن الأغنام عادت الذئاب على يوسف كما جاء على لسان إخوة يوسف إن ذهبنا نرتع ونلعب وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ثم شهدوا على كذبهم بقولهم ولست بمؤمن لنا ولو كان صادقين لكن عجباً للذئب يأكل يوسف ولا يقطع ثيابه قلت قال ابن عمر لرويع الغنم بعنا من هذه الشياه قال أنا مؤتمن ولا أستطيع أن أتصرف في شيء من هذا قال قل للراعي أكلها الذئب فقال رويع الغنم بكل بساطة وماذا أقول للمالك إن كنت سأقول للمالك إن كنت سأقول للسيد أكلها الذئب فماذا سأقول لله مالك الجوارح والأركان يوم القيامة اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون يوم إذ يوفهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله 00 فبكى ابن عمر وأرسل إليه من يعتقه قال كلمة اعتقتك في الدنيا أسأل الله أن تعتقك يوم هي كلمة بسيطة لكن معناها عظيم فلا بد من كل عامل ورجل الأمن خاصة أن يتصف بهذه الصفة تقوى الله تبارك وتعالى وأن يراقب الله فيما استأمنه ويقوم على حفظ الأمن والأمان ثانيها من الأمور التي لابد أن يتصف بها رجل الأمن العلم والتدريب فا بالعلم يرتقي رجل الأمن وبالتدريب يتطور مستواه ولله الحمد دولتنا وبلاد المسلمين تنفق من أجل هذا الشيء الكثير.
من مقومات الأمن في الأوطان ومن أهمها اليوم التزام الإعلام بالمنهج الإسلامي فالإعلام سلاح ذو حدين وولله كم أفسد الإعلام بسلاحه الآخر في بيوت المسلمين وأحدث فيها خللاً لا يعلمه إلا الله كم أفسدت الشاشات والقنوات التي لم تراقب الله فيما تعرضه على مسامع ومشاهد المسلمين في دراسة أجريت على خمسمائة فيلم تعرض في كثير من القنوات الفضائية تبين بارك الله فيكم أن سبعين بالمئة مما يعرض في تلك الشاشات والقنوات ودعوة إلى الجريمة وإلى الرذيلة والبعد عن العافية ،انظر إلى مدى تأثير الشاشات والقنوات على أبنائنا وبناتنا لا بد أن نستشعر الخطر طالب المرحلة الثانوية إن كان من المنتظمين هو أو هي من المنتظمين في حضورهم ومواظبتهم على الحضور دون غياب الطالب يقضي في الفصول الدراسية في سنوات الدراسة عشرة آلاف ساعة في الفصول الدراسية في المقابل هذا الطالب يمضون ويقضون أمام الشاشات على مدى هذه الفترة نفسها أكثر من خمسة عشر ألف ساعة أمام الشاشات والقنوات فقل لي بالله العظيم كيف يظهر أثر التعليم والشاشات والقنوات تبث سمومها بالليل والنهار وما خبر أكاديمي ستار عنا ببعيد فأجهزة الإعلام ومن أبرزها التلفاز والسينما والراديو والصحف والمجلات والكتب قد أصبحت من أشد الأجهزة تأثيراً على الناس بمختلف مستوياتهم فهذه الوسائل الإعلامية إما تهدم وهذا هو الغالب اليوم وإما تبني وقليل ما هم أكثر القنوات تهدم ولا تبني في بيوت المسلمين العجيب يا أخوان أن المفسدة واقعة في بيوت المسلمين من أثر الشاشات والقنوات ولا عندنا الشجاعة والقدرة أننا نغير المنكرات وولله لولا أن أطيل عليكم لأسمعتكم من مآسي المسلمين التي أحدثتها الشاشات والقنوات الشيء الكثير وحسبنا ما يقوله أئمة المساجد والخطباء تحذيراً وإنذاراً للناس من أثر تلك الشاشات والقنوات ألا فليتقي الله أصحاب القنوات وأصحاب الجرائد والمجلات فليست القضية كسب مادي بل القضية إما جنة وإما نار ومن دعا إلى حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة فماذا صنعت الشاشات والقنوات بأبناء المسلمين بل وحتى برجالهم نساءهم وأطفالهم ألا فليتقي الله كذلك أولئك الذين يسطرون في الجرائد والمجلات وليعلموا أن كل كلمة ستكتب عليهم قال صلى الله عليه وسلم :(/5)
إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل بها رضوانه إلى يوم يلقاه بالكلمة الواحدة ينال رضوان الله تبارك وتعالى إلى أن يلقى الله جل بعلاه وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل عليه بها من سخطه إلى يوم أن يلقاه بالكلمة يستطيع الرجل أن يرقى في الجنان وبالكلمة يهوي في الدركات والنيران نسأل الله العفو والعافية حتى يعلم كل منا مدى خطورة الكلمة قال الله (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )) هذه مقومات الأمن لجميع الأوطان على قدر حرصهم يكون لهم الأمن من الله والأمان وعلى قدر تفريطهم يحل عليهم العذاب والهوان أعيد هذه المقومات عداً تحكيم شرع الله إصلاح العقيدة شكر النعم الاستقرار السياسي استقرار الاقتصاد جهاز أمن قوي ثم التزام الإعلام بكل أنواعه بالمنهج الإسلامي فليتقي الله الجميع آخر الكلام إن الذنوب والمعاصي هي أعظم سبب لزوال الأمن واختلال الأمان في الأوطان وما يحصل اليوم من فتن وبلايا وجرائم مخلة بالأمن هي بسبب كسب الأيدي وجزاء الأعمال التي تصدر من العباد قال الله ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا يا الله قال :
ليذيقهم بعض الذي عملوا فكيف لو عاملنا الله بعدله تأمل وتأملي في قوله تبارك وتعالى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين يا الله قال سبحانه بشيء من الخوف فكيف لو ابتلانا بالخوف كله فكيف لو ابتلانا الله بالخوف كله قال سبحانه وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا وقال سبحانه وإذا أردنا أن نهلك قرية أمر متر فيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا والله لا يحابي أحد ولا يجامل ولكنه أرحم الراحمين وهو الذي قال :
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا أجل عباد الله إنها الذنوب والمعاصي عن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن اسمعوا بارك الله فيكم وانظروا إلى واقعنا في هذا الزمن قال بأبي هو أمي لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها تصبح جهارا على شاشاتهم وقنواتهم ووسائل إعلامهم إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها يجاهروا بها نسأل الله العفو والعافية إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقص المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم اسمع مزيد ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم أليست هذه خيرات المسلمين تذهب إليهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم فليتق الله الجميع وليعلم القاصي والداني أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة قال الله فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون بالتوبة والاستغفار تحل البركة على البلاد والعباد ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض من أجمل القصص ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم لنا حين قال :(/6)
قحطت بني إسرائيل أصابهم قحط شديد فخرج موسى عليه الصلاة والسلام بسبعين ألف من قومه فيهم الشيوخ الركع والأطفال الرضع والبهائم الرتع دعا الله وتضرع فما زادت السماء إلا تقشعاً وصفاءً ما زادت السماء إلا تقشعاً وصفاءً دعا وتضرع فما زادت السماء إلا تقشعاً وصفاءً فأوحى الله إلى موسى أن بينكم عبد يحاربني بالمعاصي منذ أربعين سنة لا أسقيكم حتى يخرج من بينكم انظر وانظري إلى شؤم المعصية بمعصية واحد نسأل الله العفو والعافية منعوا قطر السماء حتى تعلم أن الذنوب تتعدى بآثارها على الآخرين لذلك كل عاص هو سبب من أسباب ضعف هذه الأمة كل عاصي مخالف هو مفسد في الأرض على قدر إفساده فلا تصلح السموات ولا تصلح الأرض إلا بطاعة الله وفي معصية الله فساد للسموات والأرض ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس قال فدعا موسى وتضرع فلم تزد السماء إلا تقشعاً وصفاءً فأوحى الله إلى موسى إن من بينكم عبد يحاربني بالمعاصي منذ أربعين سنة لا أسقيكم حتى يخرج من بينكم فقال موسى كيف أعرفه قال يا موسى نادي وعلينا البلاغ فنادى موسى في قومه إن من بيننا عبد يعصي الله ويحارب الله بالمعاصي منذ أربعين سنة ولن نسقى ولن يسقينا الله حتى يخرج هذا العاصي من بيننا فوصل البلاغ وسمع قوم موسى ما قال لهم موسى :
هذا الذي يعصي الله عرف نفسه فكل نفس بما كسبت رهينة وكل عاص أدرى بنفسه هذا عرف نفسه تلفت يمنة ويسرى يريد أن يخرج أحد غيره ما خرج إن خرج فضيحة أمام الملأ أجمعهم فماذا صنع غطى رأسه بثوبه ودعا ربه وتضرع قال يا رب سترتني أربعين سنة فلا تفضحني اليوم بين العباد أنا أستغفرك وأتوب إليك أعلنها في لحظات توبة ورجعة وإنابة وعودة إلى الله وهذا هو المطلوب من كل واحد منا أننا نرجع إلى الله تبارك وتعالى إن لم نرجع في مثل هذه الظروف الراهنة متى نرجع ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم أما يتضرعون إن لم نرجع في مثل هذه الظروف الراهنة والأخطار تحيط ببلاد المسلمين من كل حدب وصوب فمتى نرجع فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون غطى رأسه بثوبه ناجى ربه الذي يسمع النداء قال يا ربي سترتني أربعين سنة فلا تفضحني اليوم بين العباد أنا أستغفرك وأتوب إليك والتوبة سر بين العبد وبين ربه إذا صدق صدق الله معه لذلك قال الله في سياق آياته :
الثلاثة الذين خلفوا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين يعني اصدقوا في توبتكم مع الله توبة أكثر الناس توبة كاذبة نسأل الله العفو والعافية يدعون أنهم يتوبون لكنهم لا يقلعوا عن الذنوب والمعاصي أي توبة هذه أعلنها توبة أستغفرك ربي وأتوب إليك لا تفضحني اليوم بين العباد فما هي إلا لحظات حتى تلبدت الغيوم في السماء وأمطرت عليهم مطراً غزيراً فاضت منه الأرض وامتلأت منه الطرقات وسالت منه الأودية قال موسى متعجباً يا ربي ما خرج منا أحد ما خرج من بيننا أحد فقال الله تبارك وتعالى وحياً إلى عبده موسى به منعتكم القطر وبه سقيتكم يوم أن كان عاصياً منعتم القطرة بسببه فلما تاب وأناب سقيتكم بسببه وتنزلت عليكم بركات السماء رأيت كيف تصنع التوبة بتوبة واحد تنزلت الخيرات والبركات فكيف لو تاب الناس كلهم كيف لو رجع العباد من أولهم إلى آخرهم إلى رب الأرض والسماء قال موسى ربي فمن هو هذا العبد الذي منعتنا بسببه وسقيتنا بسببه فقال الله يا موسى سترته عاصياً فكيف أفضحه بعد أن تاب سترته عاصياً فكيف أفضحه بعد أن تاب أما يكفينا أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين من واجب الناس أن يتوبوا ولكن ترك الذنوب أوجب والدهر في صرفه عجيب ولكن غفلة الناس عنه أعجب وكلما ترتجي قريب والموت من دون ذلك أقرب فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة لا بد أن نعلم أن مسؤولية الأمن مسؤولية الجميع ليست مسؤولية رجال الأمن فقط بل هي مسؤولية الجميع أننا نحفظ أمن وأمان هذه البلاد وبلاد المسلمين عامة .(/7)
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا ولاة أمورنا اجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك يا حي يا قيوم اللهم قيظ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه وتذكرهم به إذا نسوه اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره يا رب العالمين اللهم أصلح الراعي والرعية واجمع كلمة الجميع على الحق يا رب العالمين اللهم ولي علينا خيارنا واكفنا شرارنا يا مالك الملك يا حي يا قيوم اللهم ادفع عنا الغلا والربا والزنا والفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين اللهم لا تأخذنا بالتقصير وأعفوا عنا الكثير وتقبل منا اليسير إنك يا مولانا نعم المولى ونعم النصير اللهم اجعلنا ممن إذا أنعمت عليه شكر وإذا ابتليته صبر وإذا أذنب استغفر يا رب العالمين اجمع كلمة المسلمين على الحق يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام استغفر الله العظيم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
موقع قناة المجد
...(/8)
نعمَ الله
عائض بن عبد الله القرني
..................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرا بصيرا،وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا على الله بإذنه وسراجا منيرا، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيقولُ اللهُ سبحانه في محكم كتابه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
هذا المثلُ ضربَهُ اللهُ سبحانَه وتعالى مثلا لكلِ من جحدَ نعمةَ اللهِ ورد معروفَ الله عز وجل، فإن كثيرا من الناسِ ينعمُ اللهُ عليهم بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنة فيكفرونَها، ويردُونها، ويجحدونَها فيسلِبُها سبحانه وتعالى منهم، ثم ينكِلُ بهم عز وجل جزاءَ ما جحدوا من المعروفِ وانكروا من الجميل.
نعم، كثيرُ من الناسِ يمنحُهم اللهُ الشبابَ فيفسدونَ ويستغلونَه فيما يبعدُهم من الله عز وجل فيسلبَ اللهُ الشبابَ منهم.
وكثيرُ منهم يرزُقهم اللهُ الصحةَ في الأجسام فلا يرون اللهَ عز وجل ثمرةَ هذه الصحةَ والعافيةَ فيأخذُهم اللهُ عز وجل بهذا.
وكثيرُ يمنحُهم اللهُ الأموالَ فلا يؤدونَ حق اللهَ في الأموال بل يجعلونَها سلما إلى المعاصي، وسببا إلى المناكرِ والفواحش فيأخذُهم اللهُ عز وجل ويحاسبُهم بأموالِهم.
فاللهُ عز وجل يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنا، هذا الرجل أسمُه بلعام من بني إسرائيل، منحهُ اللهُ عز وجل نعمةَ العلم والفهم والفقه، ولكنَه ما أستغلَها في ما يقربُه من اللهِ عز وجل، بل نسيَ حق اللهِ وموعودَ اللهِ وأمر اللهِ عز وجل ثم عصاه سبحانَه وتعالى.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، لم يقل من المغوِين أو من المغوَين، وإنما من الغاوين لأنَه أصبح قائدا في الضلالة، وأصبحَ أستاذا في الجهالة، لأن الناسَ اقتدوا به في أن يضلوا.
هذا الرجلُ كما قال أهلُ التفسير كان مع موسى عليه السلام، علمَهُ اللهُ التوراة، فلما تعلَمها ذهبَ إلى قومِ كفارٍ ليفاوضَهم على الصلحِ لموسى عليه السلام، فلما رأى دنياهَم وكنوزَهم وذهبَهم وفضتَهم استهواهُ هذا فكفرَ باللهِ العظيم، وقدمَ الدنيا على الآخرة، وقدمَ موعودِ أهلِ الدنيا على موعودِ ربِ الدنيا والآخرة فسلبَ اللهُ نعمةَ الفقِه والفَهمِ منه وترَكَه بليدا كالحمارِ، مؤخرا كالخنزيرِ، نجسا كالكلبِ نعوذ باللهِ من ذلك.
حتى قال سبحانَه وتعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، أي لو شئنا أن يرتفَعَ بلا إله إلا الله، وبمعنى لا إله إلا الله لرفعناه بها، وهذا جزاءُ العبدُ الذي يرتفعُ بالطاعة، وجزاءَ العبدُ الذي يحبُ أن يتقربَ إلى اللهِ عز وجل بطاعتِه أن يرفعَه الله، أما العبدُ الذي يتأخرُ إلى المعصيةِ، ويتأخرُ في كلِ ما يقربُه من الله، فلا يزالُ يتأخرُ حتى يأخرُه الله في من عنده.
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، أي حبَ الدنيا على الآخرة وأتبعَ هواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
يقولُ عز وجل مثلُ هذا الرجلِ كمثلِ الكلب، والكلبُ من طبيعتِه أنه يلهث، يمدُ لسانَه ويلهثُ نفسَه سواءً في الظلِ أو في الشمس، فهذا مثلُ رجلٍ يلهثُ في الجهلِ وفي المعصيةِ سواءً تعلمَ أو لم يتعلم، لأن قلبَه خبيث ولأن فيهِ مكرُ ولأنَه صادُ عن اللهِ عز وجل، وإلا فلو كان فيه خيرُ يومَ أن قربَه اللهُ عز وجل إليه عرفَ النعمةَ وعرف الجميل وعرف عطاء اللهِ عز وجل فأنقادَ إلى الله.
وضربَ اللهُ في القرآنِ مثلا للأممِ والشعوبِ يوم تنحرفُ:
يوم تنحرفُ عن منهجِ الله عز وجل، يومَ تتركُ طرقَ المساجد وتميلُ إلى الخمارات، يومَ تتركُ سماعَ كتابِ الله عز وجل وتميلُ إلى استماعِ الغنى.
يومَ تتجهُ من منهجِ محمدٍ (صلى اللهُ عليه وسلم) والسنةُ المطهرة وتميلُ إلى كتبِ الشياطين من الإنس والجن.
يومَ تعكفُ وتسهرُ على الأفلامِ وعلى الأغاني الماجنة.(/1)
يومَ تُرخصُ قيمَها ودينَها ومبادَئها وأخلاقَها وسنةَ نبيَها (صلى اللهُ عليه وسلم) ماذا يصنعُ اللهُ عز وجل بها؟
يدمرُ شبابَها، ويبعدُ سبحانَه وتعالى علمَائَها، ويبتلى نسائَها فتبقى أمةً مظلومةً مهضومةً متأخرة، يبتليَها عز وجل بالخوفِ والجوع، يقولُ عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
قال أهلُ العلم: لا تزالُ كلُ قريةٍ في أمنِ الله ما أقامت فروضَ اللهِ وما نهت عن المعاصي التي تغضبِ اللهَ عز وجل، فإذا انحرفت أخذها اللهُ كما يأخذُ الظالمَ ثم لا يفلتُها أبدا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً. عذابا شديدا في الآخرة، فما كفاها عذابَ الدنيا بل أعد اللهُ سبحانَه وتعالى لها الخزيَ والعارَ والدمار والنار لأنها انحرفت عن منهجِ الله.
فتشوا واسألوا كل مدينةٍ وكل قرية أخذها اللهُ في هذا العصرِ أو قبل هذا العصر، وأسالوا جيرانَها، أسالوا في من حولنا وفي ما دونَنا ما لهم ابتلوا بالحروب، ما لهم ابتلوا بالمناكرِ، بالزنى، بالربى بالفواحشِ بالبعد عن الله، إنما ابتلوا بذلك لأنهم عصوا اللهَ وخرجوا عن طاعةِ اللهِ سبحانَه وتعالى.
ويومَ أن تعودَ الأمةُ أو يعودَ الشخصُ ولو ببصيصٍ من نورٍ ينصرُه سبحانَه وتعالى ويؤيدُه ويسددُه ويهديه، وقد جربنَا وجربَ غيرُنا وسمعنا وسمعَ غيرُنا أن أناسا كثيرينَ وقفوا في وجهِ الطغيانِ في وجهِ اليهود فما استطاعوا أن يقفوا أمامَه لأنهم أهلُ معاصي، لأنَهم خرجوا عن لا إله إلا الله.
حتى أتى في هذا العصرِ حفنةُ قليلةُ من الناسِ في أفغانستان تسجدُ لله، وتعترف بالله، وتتحاكمُ إلى الله فوقفت في وجهِ أكبرِ قوةٍ من قوى الأرض، رجوعاً إلى اللهِ عز وجل، فلما رجعوا إلى اللهِ عز وجل أراهم سبحانَه وتعلى نصرَه، ورفعَ لهم سبحانَه كلمة لا إله إلا الله وثبتَ أقدامَهم، فكيف لو رجعت الأمةُ إلى اللهِ عز وجل.
واللهِ لو رجعنا إلى اللهِ لما كان في الدنيا يهودُ يسيطرونَ على بلادِ الله وعلى عبادِ الله وعلى منهجِ الله ويمتهنونَ شرائعَ الله.
واللهِ لو رجعنا إلى اللهِ عز وجل لما كان هناكَ جوعُ وخوفُ ودمارُ ونارُ وعارُ وشنار.
لكننا لما تخاذلنا على أن نجتمعَ في بيوتِ الله، وأن نتناصحَ بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر أصبنا بهذا.
قال عز من قائل: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ، حتى قال عز من قائل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
قريةُ كانت منفلتةُ في اليمن، كانت غائصةً في الحدائقِ والبساتين، من بين يديها ومن خلفِها أنواعُ الثمرات، لهم سدُ عظيمُ يختزنُ آلاف البراميلِ من المياه، فلما أرادوا أن يجربوا نعَم اللهِ عز وجل أغدقَ اللهُ عليهمُ النعم، سماؤُهم ملىءَ بالغيوم، لا شمسَ لديهم تغرقُهم، وثمارَهم يانعةً يقطفونها حتى قال الأئمةُ من أمثالِ ابن كثير: تمرُ المرأة بزمبيلها فيمتلىءُ مما يتساقطُ من الأشجار، يشربونَ ماءً باردا، يتظللونَ في ظلٍ وارف، ينعمونَ في معيشةٍ هادئةٍ ساكنةٍ، أرسلَ اللهُ إليهم الرسلَ ليقولوا لا إله إلا الله، وليئدوا شكرَ نعمةِ الله، وليسجوا لله، وليتناهوا عن ما يغضبُ اللهَ عز وجل، فماذا فعلوا!
كفروا وجحدوا وانكروا وتمردوا على الله، شأن الشاب الذي لا يعرفَ بيوتَ الله، ولا يعرفَ المسجد، جسمُه كجسمِ البغل يتنهدُ على الأرضِ من كثرةِ النعمِ، ومن كثرةِ الملبوساتِ والمشروبات والمطعومات، فإذا سمعَ الآذانَ كأن في أذنيهِ وقرا، لا يعرفُ طريقَ المسجد، إنما يعرفُ طريق المعصيةِ وطريقَ الانحراف، فهذا مثلُه مثلُ هذه القرية.(/2)
أتت رسولُهم إليهم وفاوضتُهم على لا إله إلا الله، فاوضتُهم إلى الرجوعِ إلى الله عز وجل، وأخذتُهم بالتي هي أحسنُ ليعودوا إلى الحي القيوم فكفروا وقالوا ربنا باعد بيننا وبين أسفارِنا، ومعنى ذلك أنهم رفضوا حتى الزكاة والصدقة من هذه الأموال وقالوا اجعل بيننا وبين هذه القرى مسافات حتى لا يأتينا فقيرُ ولا مسكينُ ولا طالبُ حاجة، فماذا فعل اللهُ بهم؟
هل حاربَهم بطائراتٍ أو بجيوشٍ جرارة، أو بدباباتٍ مصفحةٍ! لا والله بل أوتيَ بفأرٍ صغيرٍ فنحت في هذا السد سدُ مأرب العظيم، فسقط السد وذهبت دنياهم وأخرتُهم، اجتاحَهم السدُ فدمر قراهم بعضَهم على بعضها، وبيوتَهم بعضَها على بعض، واجتاحَ أشجارَهم وأعنابَهم ونخيلَهم ومزارعَهم فبقوا حدثا بعد عيَن لكلِ معتبر: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً.
فأوقع اللهُ بهم ما أهم بهِ أهلُ ليستحقونَه فذهبوا حتى قالت العربُ: تفرقوا أيدِ سبأ.
خرجوا من بلادِهم على وجوهِهم يتباكون، الحبيبُ فقد حبيبَه، والوالدُ فقدَ ولدَه، والأخُ فقد أخاه، والزوجةُ فقدت زوجَها لأنهم عصوا اللهَ عز وجل.
ولذلك قالوا لرجلٍ من البرامكةِ الوزراء لما سجنوا في عهدِ هارونَ الرشيد لما سُجنتم وذهبت دنياكُم؟
لما أخذت قصورُكم؟
لما جُلدَت ظهورُكم؟
فدمعت عينا خالد البرمكي وقال: بغينا وطغينا ونسينا الله وسرت دعوةُ مظلومٍ في جنحِ الليلِ فسمَعها اللهُ والناسُ عنها هجود.
ولذلك يقولُ عليه الصلاةُ والسلام: دعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ على الغمامِ ويقولُ وعزتي وجلالي لأنصرنَكِ ولو بعد حين.
ومروا برجلٍ مقعدٍ كما في السير قد نهشتُه الأمراضُ وأصابتُه الأوصاب، وهو في حالةٍ مزريةٍ لا يستطيعُ حِراكا ولا قياما، لا يستطيعُ أن يمدَ يدَه، فقالوا مالك؟
قال كنتُ في صحةٍ وعافيةٍ وقوةٍ لا يعلمُها إلا الله، كنتُ إذا سمعتُ نداء اللهِ أتباطأ فيقال لي اتق اللهَ عز وجل، وتعالَ إلى بيوتِ الله، وأقم فرائضَ الله، فكنتُ أقولُ لهؤلاء وماذا يصيبُني إذا لم أفعل؟ فابتلاني اللهُ بهذا المرض.
فيا أخوتي في الله!
شكرُ الجسمِ أن تؤدي حقَه مع اللهِ عز وجل، فتستخدمُه فيما يقربُه من اللهِ عز وجل، وشكرُ اللسانِ الثناء، وشكرُ اليدِ الوفاء، وشكرُ العينِ الإغضاء، وشكرُ الوجهِ الحياءُ منه سبحانَه وتعالى.
كان عليه الصلاةُ والسلام يعظُ أصحابَه وينصحُهم ويردُهم إلى الحي القيوم وهم من أحياء الناسِ مع الله، ومن أقربِهم إلى الله، يقولُ لهم استحيوا من اللهِ حق الحياء، فيقولون له عليه الصلاة والسلام وهو يظنون أن الاستحياء دخولَ الإسلام، وهذا من الحياء، ولكنَ مرتبة الحياء الكبرى أن تجعلَ بينَك وبين المعاصي حجابا، قالوا يا رسولَ الله واللهِ إنا لنستحيِ من اللهِ حقَ الحياء، فقال عليه الصلاة والسلام ليس ذلك بحقِ الحياء، حق الحياء أن تحفظ الرأسَ وما وعى، والبطن وما حوى، ومن تذكرَ البلى ترك زينةَ الحياةِ الدنيا.
قال أهلُ العلم:
أن الحياء بالعينِ أن لا تنظر بها إلى ما يغضبُ اللهَ عز وجل.
وحياء الأذن أن لا تسمع بها ما يغضبُه تبارك وتعالى.
وحياءُ اليدِ أن تكونَ محبوسةً تحت طاعةِ اللهِ عز وجل.
وحياءُ الرجل أن لا تمشي بها إلا في مرضاتِه عز وجل.
ولذلك كان من معالمِ المحاسبةِ عند أهلِ السنةِ والجماعةِ أن اللهَ عز وجل يجمعُ الأولينَ والآخرين يوم القيامةِ فيحاسبُهم كما خلقَهم وكما بدأهم أولَ مرة، يحاسبُهم على الأعضاء، ولن تجد عضواً أشدَ خطورةً ولا ضراوةً على المسلمِ، أو على الإنسانِ من لسانِه.
ويحقُ لأبي بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه وأرضاه، ومن مثلُ أبي بكر في إيمانِه وزهدِه وعبادتِه، أبو بكر الذي أنفق مالَه كلَه في سبيل الله، وأتعبَ جسمَه لرفعِ لا إله إلا الله، وبقي ساهرا حريصا على الأمةِ يقودُهم إلى اللهِ عز وجل، وهو مع هذا يقفُ في مزرعةِ رجلُ من الأنصارِ ويمد لسانَه يبكي ويقول هذا أوردَني الموارد أي المهالك.
فإذا كان هذا خائفُ فما بالنا نحنُ لا نخاف؟
وما بالُنا لا نعودُ ونحاسبُ أنفسَنا؟
قلي باللهِ عليك كم مرةً نذكرُ اللهَ عز وجل في اليوم؟
وفي المقابل كم نتكلم بكلامٍ ليس بذكر، وإذا عادلنا كلامَنا مع الناس وهرائنا وتسويفَنا، كم نعادلُه فهل هو بمعشارِ العشيرِ مع سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله، واللهُ أكبر.
ومقصودُ هذا الكلام حفظُ اليدِ التي أنعم اللهُ بها علينا، فإن الله عز وجل إذا أنعمَ على العبدِ انتظر سبحانَه وتعالى حتى يرى ماذا يفعلُ العبد، فإن حفظَ النعمةَ بالطاعةِ زادهُ سبحانَه وتعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وإن ضيعها أخذَه أخذَ عزيزٍ مقتدر.(/3)
فيا من أنعم اللهُ عليه بنعمةِ الشباب، إن كنت تريدُ حفظَ الشبابِ فما حفظُه إلا بحفظِ الله، ويا من أنعم اللهُ عليه بالمال، حفظُ المالِ حفظُ الله، ويا من أنعم اللهُ عليه بجاهٍ أو بمنصبٍ أو بولدٍ، إن تريدُ المحافظةُ على ذلك فأحفظَ اللهَ عز وجل، وإلا فأنتظرِ الزوالَ والنكبةَ إن عاجلا أو آجلا.
قال أبو سليمانُ الداراني رحمَه الله: واللهِ إني لأعصِ اللهَ عز وجل في الليل فأجدُ جزاءَ ذلك في النهار، فقالوا لبعضِ أهلِ العلمِ، نحن ما نجدُ الجزاءَ في النهار، جربنا أنا نعصي اللهَ عز وجل في الليلِ كثيراً فلا نجدهُ في النهار، قال إنكم أكثرتُم من الذنوبِ فما تعلمونَ من أين تأُتونَ، أي لا تعلمونَ من كثرة الجزاوات من أين تأُتون.
ولا يظنُ ظانُ أن الجزاء أن تنزلَ عليه صاعقةً أو قذيفةً من السماء، أو يعذبُ بمرضٍ، كلا فإن أشدَ العقاب أن يقّسي اللهُ قلبَ هذا المجرم، وأن يطبعَ اللهُ على فؤاده، وأن يبتليهِ سبحانَه وتعالى بالصدِ عن سبيلِه، أو يزيدَه سبحانَه وتعالى، لأنَه هو الذي زاد ضلالاً وحياداً عن الله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
قال بعضُ الصالحين وقد ذهب إلى صلاةِ الجمعةِ فانقطعت حذاءُه، قالوا مالك؟ قال تذكرتُ أني ما اغتسلتُ للجمعةِ فانقطعت حذائي، قال ابن تيمية تعليقا عليه: قللوا الذنوبَ فعرفوا من أين يأتونَ.
هم قللوا الذنوبَ والخطايا فعرفوا من أين يأتونَ من الذنوب، فلما أكثرنا الذنوبَ والخطايا ما ندري من أين نصاب، بالهموم، بالغموم، بالأحزان، بفسادِ الأبناء.
وليست النعمةُ في مفهومِها عند عقلاءِ المسلمينَ أن تُكثرَ الأرزاقُ، نعم هذه نعمة، لكن النعمةُ أن نستقيمَ مع الله، وأن نتجَه إلى الله، وأن نحسن معاملتَنا نع الله.
وإلا لو كانت النعمة بهذا المفهوم لكان الكفارُ أكثر منا قصورا ودورا وذهبا وفضة وجاها ومناصبا وأموالا وأولادا، لكن لا والله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ.
ما آتاكَ من نعمةٍ فواجبُك أن تشكُرها بثلاثِ مقاصد:
وجبها الأول:
أن ترددَ على لسانِك الحمد لله، فإنها تملئُ الميزان، وإن سبحانَ اللهِ والحمد لله تملئُ ما بين السماءِ والأرض، ويعجبُ ربُك إلى العبدِ إذا قال الحمد لله، وأولُ ما يدخلَ الجنةَ الحامدون الذين يحمدونَ اللهَ في السراءِ والضراء.
ضاعَ فرسُ لجعفر الصادق فقال: واللهِ لأن ضفرتُ بفرسي لأحمدنَه سبحانَه وتعالى بمحامدٍ ما حمدَه بها إلا أوليائُه وأحبائُه.
فلما وجد الفرسَ قال الحمدُ لله.
قال أبنائُه أين المحامد؟
قال وهل أبقت الحمدُ لله بمحامدَ بعدَها.
ولذلك قال عز من قائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
فواجبُك أن ترددَ الحمدَ دائما على لسانِك ليبقي عليك اللهُ النعمةَ؛
البس ثوبَك إن كنت مسلما وقل الحمدُ لله.
وكل طعامَك وقل الحمدُ لله.
وأشرب شرابَك وقلِ الحمدُ لله.
وقم من نومِك وقلِ الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا وإليه النشور.
وكلَ ما لمعَ لك لامعُ من النعمة، وكلَ ما لمحَ لك لامحُ من الجميل فقلِ الحمدُ لله يبقي اللهُ عليكَ النعمة.
ووجبُها الثاني:
أن تعتقدَ بقلبِك وأن تتصورَ أن ما آتاكَ من النعيم إنما هو من الله لا من الناس، وما صُرف عنك من العذابِ ومن المصائبِ إنما صُرفَ عنك من اللهِ عز وجل.
يقول ابن مسعودٍ رضي اللهُ عنه في كلامٍ ما معنَاه: إن من الإزراءِ والنكران أن ينعمَ اللهُ عليك بنعيمٍ فتقولَ هذا بسببِ فلان، أو يصرف اللهُ عنك سوءً فتقولَ هذا بسببِ فلان، واللهِ ما أتى من نعيمٍ ولا صُرف من عذابٍ إلا بتقديرِ اللهِ ورحمتِه سبحانَه وتعالى.
أوحى اللهُ سبحانَه وتعالى إلى داودَ عليه السلام، فقال داودُ إلى ربِه في أثناءِ الكلامِ: يا ربي أنعمت علي بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ فبأي لسانٍ أشكُرك؟
قال اللهُ عز وجل: يا داود أتدري أن هذه النعمُ مني؟
قال نعم يا ربي.
قال إن علمتَ بذلك فقد شكرتني.
قال يا رب إني أريدُ أن أشكركَ بالعمل.
قال يا داود تقرب إليَ بما استطعت من عمل.
في كتبِ التفسيرِ أنه عليه السلام جمع آل داود، أتدرون كم كان عددُهم؟
قيل أن عددُهم ما يقاربُ ثلاثينَ ألفا، وهم الملوكُ في بني إسرائيل، فيهم الملكُ كابرا عن كابر ومنهم سليمان ابن داود، فجمعَهم أعماما وأخوالا وأبناءً وأقاربَ حتى ملئوا الُشرفاتَ في بيت المقدس، فقال داودُ وهو يبكي:
يا آل داود إن اللهَ أنعم علينا نعما ظاهرةً وباطنة، فعليكم بطاعةِ الله، فواللهِ إن لم تطيعوه ليسلبنَه اللهُ منكم.
قالوا ماذا نفعل؟(/4)
قال قسموا ساعةَ الليلِ والنهار فليكن منكم في كلِ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ مصلين وصائمينَ وذاكرين ومستغفرين.
فقسمَ عليهم الساعاتَ في الليلِ والنهار فكان منهم قومُ يسبحون، وقومُ يستغفرون، وقوم يصلون، وقوم يصومون، فقال الله سبحانَه وتعالى في كتابِه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ). وقليلُ من الناسِ الشكور.
إذا فواجبُ النعمةِ الثاني أن تعتقدَ أنها من عندِ الله، وأن ما ساقَ اللهُ لك من نعمةٍ إنما هو بقضاءِ اللهِ وقدرِه، ما ساقهُ أحدُ من الناس فوالله لو اجتمعَ الناسُ على أن ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروكَ لن يضروكَ إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك، رفعتِ الأقلامُ وجفت الصحف، فالقضاءُ من عنده والقدرُ من عنده سبحانَه وتعالى.
والواجبُ الثالثُ:
أن تظهرَ آثارُ النعمةِ عليك بالعملِ وبالتجملِ، فإذا أنعم اللهُ عليك بنعمةٍ فإنَه يحبُ سبحانَه وتعالى أن يرى أثرَها عليك، أنعمَ عليكَ بمالٍ فألبس من الجمالِ ما يرى الناسُ أن اللهَ سبحانَه وتعالى أنعم عليك بنعيم، لا تزري بربِك سبحانَه وتعالى، لا تشكوه ملبسِك أو بمسكنِك أو بمركبِك، فكأنكَ تقول ما أعطاني اللهُ شيء: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، بلسانِك وبفعلِك.
ولذلك صح عنه (صلى اللهُ عليه وسلم أنه يقول: أن اللهَ إذا أنعم على عبدٍ أحب أن يرى أثر نعمتَه عليه.
والواجب الرابع:
أن تستغل هذه النعمةُ في مرضاتِه سبحانَه وتعالى.
أسأل اللهَ لنا ولكم التوفيقَ والهداية، والرشدَ والسداد، وأن يستغلَنا بنعمتِه في طاعتِه، وأن يجعلنا ممن إذا أُنعمَ عليه شكر، وإذا ابتليَ صبر، وإذا أذنب استغفر.
وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
واحات الهداية ...(/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة التي ألقاها فضيلة الشيخ حامد البيتاوي خطيب المسجد الأقصى المبارك ورئيس رابطة علماء فلسطين في مسجد أمهات المؤمنين بنابلس
10/ رمضان المبارك 9/1423هـ 15/تشرين ثاني 11/2002م.
شعبنا الفلسطيني المرابط المجاهد ، ينعى فقيد الأمة
فضيلة الداعية الكبير / الأستاذ مصطفى مشهور
المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون / آل عمران 102 ) .
أما بعد :
قال الله عز وجل : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . / الأحزاب 23 )
يا أبناء شعبنا المرابط المجاهد ، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها :
ها هي مصر ، أرض الكنانة ، بل ها هي أمتنا المسلمة ، قد فقدت علما من أعلام المسلمين في هذا العصر ، فقدت قائدا من قادة الفكر والدعوة والسياسة .. إنه الفقيد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ، فضيلة الأستاذ المرحوم مصطفى مشهور ..
رجل حمل هموم المسلمين ، وراية الدعوة الإسلامية ، منذ أكثر من ستين عاما ، تربّت على يديه ومن خلال كتاباته في فقه الدعوة أجيال من الدعاة ، - وهو خير من كتب في هذا الموضوع ؛ الذي تلقّاه يافعا ومارسه شابا وعاشه واقعا مع الإمام المؤسس فترة من الزمان تقرب من عشر سنوات قبل أن يلقى الله شهيدا ، فأفاد من ذلك كثيرا - .
عاش المسيرة الإسلامية فيما تعرضت له من ابتلاء وتمحيص ، صبر وثبت ، وواصل السير على طريق الدعوة دون انحراف أو تبديل ، إلى ان لقي الله عز وجل في هذه الأيام المباركة مرشدا لهذه الدعوة ، وذلك فضل الله ، يؤتيه من يشاء ، فجزاه الله عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء
نسأل المولى سبحانه أن يعوض مصر أرض الكنانة ، وبلاد العرب والمسلمين ، علماء عاملين وقادة مخلصين ، من أمثال الفقيد ، الذي نسأل الله عزّ في علاه ، أن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته ، وأن يسكنه فسيح جناته ، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته ، في الفردوس الأعلى ، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وإنا لله وإنا إليه راجعون …
أيها المسلمون ، يا خير أمة أخرجت للناس :
العداء والمؤامرات والضربات القاسية التي وجّهت لإسلامنا ، من الداخل والخارج ، منذ بعثة النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وإلى الآن ، لو وجّهت لغير الإسلام والمسلمين ، لاندثر وانمحت معالمه .. لكن الإسلام والمسلمين صمدا أمام كل الأعداء ، وبقيا ، لسببين اثنين :
السبب الأول : صحّة مبادئ الإسلام ، وطبيعة هذا الدين .
السبب الثاني : أنّ الله عز وجلّ – بفضله وكرمه – وهب هذا الدين ، وهيّأ لهذه الأمة ، على مرّ الأجيال ، رجال فكر ، ودعوة ، وإصلاح ، من الخلفاء ، والعلماء ، والدعاة ، وقادة الفكر ، والقادة السياسيين والعسكريين ، يمسّكون هذه الأمة بدينها ، من أمثال الخلفاء الراشدين ، والأئمة الأربعة ، والغزالي ، والجيلاني ، وابن تيمية ، ونور الدين زنكي ، وصلاح الدين الأيوبي ، والسلطان عبد الحميد ، ومحمد عبد الوهاب ، والسّنوسي ، والمودودي ، والنّدوي ، وغيرهم ، وليس آخرا الإمام الشهيد حسن البنّا ، الذي أسّس جماعة الإخوان المسلمين ، بعد أن تفرّقت كلمة المسلمين ، بعد إلغاء الخلافة الإسلامية ، ثم من خلفه من بعده ، من المفكرين من أمثال الشهيد الحي سيّد قطب وغيره من ا لقادة المرشدين .. الهضيبي ، والتلمساني ، وأبي النصر ، وفقيدنا المشهور ، رحمهم الله جميعا .
أيها الإخوة :
لقد حدّد الإمام البنّا رحمه الله ، مهمّة جماعة الإخوان المسلمين ، أن تقف في وجه الموجة الطاغية من مدنيّة المادة ، وحضارة المتع والشهوات ، التي جرفت الشعوب الإسلامية ، فأبعدتها عن زعامة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهداية القرآن ، حتى تنحسر عن أرضنا ، وسنلاحقها في أرضها ، وسنغزوها في عقر دارها ، حتّى توقن الدنيا كلها بتعاليم الإسلام … المهمّة إيجاد الفرد المسلم ، والبيت المسلم ، والشعب المسلم ، والحكومة المسلمة ، والدولة التي تقود الدول الإسلامية ، وتضم شتات المسلمين ، وتستعيد مجدهم .
معشر المسلمين :
يحق لهذه الدعوة ، أن تفخر ، بأنها وبعد مرور ما يزيد عن سبعين عاما ، في الدعوة والتربية والجهاد ، قد بعثت الأمل في قلوب المسلمين ، إمكانية استئناف حياة إسلامية ، وأن تسعد بالإسلام شريعة ومنهج حياة .(/1)
وأنها ربّت الملايين من أبناء المسلمين ، - خاصّة النخبة من حملة أعلى الشهادات والدرجات العلمية من الشباب والفتيات - ، تربية إيمانية ، وفكرية ، وسياسية ، ونقلت المسلمين من مرحلة الدفاع عن الإسلام ، والانبهار والذوبان بما لدى الغرب الرأسمالي والعلماني ، والشرق الشيوعي إلى مرحلة الهجوم على أفكاره وعقائده وأحزابه .
لقد أحيت جماعة الإخوان فكرة الجهاد في قلوب وعقول المسلمين ، في مشارق الأرض ومغاربها ،وقدّمت قوافل الشهداء ، وأروع النماذج في البطولة والفداء عبر تاريخها القديم في القناة وفلسطين ، والحديث ؛ حركة المقاومة الإسلامية ، وكتائبها ( كتائب القسّام ) في فلسطين ، التي أقضّت مضاجع اليهود وكسرت – بصبرها وثباتها وبطولاتها ، واستشهادييها ، ومبعديها ، ومعتقليها ، وخيرة أبنائها وقادتها – أسطورة الجيش الذي لا يقهر قد نبتت من رحم هذه الدعوة المباركة .
أيها الإخوة المسلمون في كل مكان :
ونحن نودع فقيد الأمة ومرشد الدعوة .. رسالتان اثنتان من أرض الإسراء والمعراج :
الرسالة الأولى : إلى حكومة مصر ، وإلى كل حكوماتنا العربية والإسلامية
إلى متى مطاردة هذه الجماعة ، والتضييق عليها ، والتخفيض من سقف حريتها ، وهي تقوم بواجب دعوة الناس جميعا إلى الله ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، بعيدا عن وسائل العنف ، ورغم ما تمتلكه من قيادات حكيمة ، وصفّ منضبط ؟؟؟
أما آن الأوان لأن تعطى فرصة العمل المفتوح ، والمشاركة البرلمانية النزيهة ، بعيدا عن المطاردة والملاحقة والسّجون ؟؟
الرسالة الثانية : إلى شباب الدعوة
أن استمروا في حمل رسالة الإسلام ؛ فدعوتكم أسمى الدعوات .. وطريقكم أصح الطرق ،وأهدافكم أنبل الأهداف ..
إن ميّزة دعوتكم أنها أوجدت الصيغة التي يمكن أن يلتقي عليها المسلمون جميعا ..
وهي الجماعة التي قدّمت من الشهداء قادتها من أمثال مؤسّسها ، وصمدت أمام المحن ، واستعصت على جميع محاولات الترويض ، والاحتواء ، - ولله الفضل والمنة - .
ولا يوجد تجمّع على الأرض الإسلامية يمتلك – بفضل الله – صفّا أنظف من صفّكم ، ولا أفرادا قادرين على التضحية كأمثالكم ، ولا طاقات متحركة متجدّدة كطاقاتكم ، وكل ذلك في ظلّ رعاية الله لدعوتكم ، ولكن أملا بلا عمل ضياع ، أهدافكم كبيرة تحتاج إلى فهم عميق وتكوين دقيق وعمل متواصل .. أهداف لا تحقق إلا بمجموع جهود المسلمين .
وتحمّلوا مشاق الطريق ، فالمستقبل للإسلام ، ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. / الحج 40 )
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء. / إبراهيم 24-27 ) .
عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها …./ أخرجه مسلم برقم 5144 ) .
وفي الختام : إن أبناء الحركة الإسلامية في فلسطين ، يجددون العهد والبيعة للدعوة وللمرشد الجديد ، وإننا معكم على العهد ماضون .
أو كما قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ..(/2)
نفخة البعث
محمد حسان
ملخص الخطبة
1- نفخة البعث 2- الأدلة على البعث من القرآن والسنة 3- من مات على شيء بُعث عليه
الخطبة الأولى
أحبتى في الله:
هذا هو لقاءنا التاسع مع رحلة في رحاب الدار الآخرة وها نحن الآن على موعد مع حديث مروع مهيب يحدث حين وقوع الساعة.
قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ 0وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70].
فبعد أن تكلمنا آنفا عن الصور، ونفخة الفزع، والصعق بقي لنا أن نتكلم عن نفخة البعث؟ وكما تعودنا أيها الأحبة الكرام حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً سوف ينتظم حديثى في هذا الموضوع الهام في العناصر التالية:
أولاً: نفخة البعث
ثانياً: الأدلة على البعث من القرآن والسنة
ثالثاً: من مات على شىء بعث عليه: لقد انتهينا في اللقاء الماضي عند هذا المشهد الرهيب في وسط هذا الكون المذهل المهيب حينما ينطق صوت جليل قريب يسأل صاحب الصوت ويجيب فلا يومها من سائل غيره ولا مجيب.
ويقول بعد فناء كل الخلق قاطبة أين الملوك؟! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم ينادى جل جلاله بصوته سبحانه ويقول: لمن الملك اليوم؟! فلا يجيب على الله أحد لأنه لا أحد، يجيب على ذاته جل في علاه ويقول :لله الواحد القهار.
مات كل مخلوق ولم يبق إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان آخراً كما كان أولاً: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
هو الأول فلا شىء قبله وهو الآخر فلا شىء بعده وهو الظاهر فلا شىء فوقه وهو الباطن فلا شيء دونه وهو السميع العليم.
أولاً: نفخة البعث:
والله لا يعلمها إلا من وسع علمُه كلَ شيء؟! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: ((بين النفختين أربعون)) قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال أبو هريرة: أبيتُ قالوا: يا أبا هريرة أربعون شهراً؟ قال: أبيت قالوا: يا أبا هريرة أربعون سنة؟ قال: أبيت([1]). ومعنى قوله أبيت أي: أبيت أن أسأل رسول عن ذلك فعلمها عند الله.
بعد أربعين إذا أراد الله أن يحى ويبعث خلقه أنزل من السماء ماءً فتنبت به الأجسام في القبور تحت باطن الأرض كما ينبت البقل.
ففي صحيح مسلم أنه قال: ((كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب([2]) منه خلق ابن آدم ومنه يركب))([3]) فإذا ما أراد الله أن يبعث الخلائق أتى بهذه العظمة الدقيقة وأتى بجسد صاحبها. ماتفرق منه في البحار.. وما تفرق منه في التراب.. وما ذهب منه إلى بطون الحيوانات والسباع.. يأتي به الله جل وعلا ويركب الله جل وعلا جسد صاحبها والله يعلم عظمة كل إنسان خلقه من لدن آدم إلى يوم القيامة فتكتمل الأجساد في القبور وحينئذ يأمر إسرافيل بعد مايحييه أن يلتقم الصور([4]) وينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح.. أرواح المؤمنين لها نور وأرواح المشركين لها ظلمة!! فتسرى الأرواح إلى الأجساد التي اكتملت كما يسرى السم في اللديغ([5]) وحينئذ يأمر الله جل وعلا الأرض أن تتزلزل وأن تتشقق ليخرج منها الناس من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة.
قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70].
وقال تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:51-54].
وقال تعالى : وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرض عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:41-45].(/1)
واستمع معي إلى قول الله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:1-8].
تعال معي أخي في الله لنتجول سريعاً مع معانى هذه الآيات: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرض أَثْقَالَهَا : أي إذا حدث زلزال الأرض العظيم الذي ليس له مثيل على الإطلاق، فلفظت الأرض ما حوته من جثث الخليقة وقالت بلسان الحال: لقد أثقلتمونى كثيراً بذنوبكم ومعاصيكم فتحملت منكم الكثير، من سفك دماء، وسلب ونهب، وطغيان، وعربدة، وسرقة، وما إلى ذلك من تلكم المعاصي؟
وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا : ما الذي حول أمنها إلى اضطراب؟! ما الذي حول سكونها إلى زلزلة؟! ما الذي حدث؟! فترد الأرض عليهم وتقول: إنها أوامر الله... سبحان الله الأرض تتكلم! إنها إرادة الله!!
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا : في هذا الوقت سوف تعرف الأحداث، سوف تعرف الأخبار وذلك بأمر من الله رب السموات والأرض.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ : بالله عليك عش بقلبك، وكيانك معي هذا المشهد الذي يخلع القلب ويزلزل الكيان. الأرض تتشقق وتتفتح القبور متناثرة هنا وهناك في شمال وجنوب وغرب وشرق، تتشقق تلكم القبور ويخرج من كل قبر عشرة أو مائه أو ألف يخرج من هنا وهنالك يخرج هذا وذاك، شَخُصَ البصر إلى اتجاه واحد لا يلتفت يميناً ولا يساراً إلى هذا الداعى - الملك الكريم - الذي جاء بأمر رب العالمين ليقود الناس جميعاً إلى أرض جديدة عفراء لم يطأها أحد من قبل بقدميه ألا وهى أرض المحشر.
قال جل وعلا: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:108-111].
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ لا يلتفت أحد ولا يتخلف أحد، أيتها العظام البالية أيتها العظام النخرة، يا أكفاناً خاوية ويا قلوباً خاوية ويا عيوناً سائلة ويا أبداناً فاسدة.
أيها الناس جميعاً في القبور حان وقت القيام لفصل القضاء بين يدى الملك الغفور.
ترى كيف يخرج الناس من قبورهم؟! يخرج الناس من القبور حفاة، عراة، غُرْلا، لا نعال في أقدامهم، لا ثياب تغطى أبدانهم. لا شىء يسترهم.
غرلا: جمع أغرل والأغرل هو الصبى الصغير المولود قبل ختانه.
قال تعالى: كَمَا بَدَأنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].
يقول النبي : ((يحشر الناس حفاةً عراةً غرلاً)).
فتعجبت عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! فقال المصطفى : ((يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك))([6]).
قال جل وعلا: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37].
تصور هذا المشهد يا عبد الله لتقف على هول وفظاعة هذا اليوم.
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
على العصاة ورب العرش غضبانا
فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
إقرار من عرف الأشياء عرفانا
وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً
والنار تلهب من غيظ ومن حنق
اقرأ كتابك ياعبد على مهل
فلما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي
المشركون غداً في النار يلتهبوا
يا عبد الله دثر نفسك في هذا اليوم برداء طيب كريم ألا وهو رداء العمل الصالح.. دثر جسدك في هذا اليوم برداء العمل الصالح.. رداء الطيبات الصالحات الباقيات عند رب الأرض والسموات.
ذلك أن العمل الصالح هو القائد الوحيد إلى جنان العزيز الحميد.
ثانياً: الأدلة على البعث من القرآن والسنة:
ها هو أحد الجاحدين يأتي إلى النبي بعظم فيفته بين يديه ويذره في الهواء ويقول للنبي في سخرية واستهزاء: يا محمد أتزعم أن ربك يبعث هذا بعد ما صار رميماً؟!! فقال له النبي : ((نعم يميتك ثم يحيك ثم يدخلك النار)).(/2)
فنزل قول الله جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:77-83].
يقول المصطفى كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده بسند حسن من حديث بسر بن جحاش القرشي أن الحبيب النبي بصق يوماً على كفه ووضع المصطفى أصبعه عليها ثم قال: قال الله تعالى: ((يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الروح التراقي قلت: أتصدق، وَأّنَّى أوان الصدقة))([7]).
قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40].
بلى وعزته وجلاله إنه لقادر على أن يبعث الموتى.
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: قال الله تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد))([8]).
قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَن يُبعَثُوا قُل بَلَى وَرَبَّى لَتُبعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَئونَّ بِمَا عَمِلتُم [التغابن:7].
أي سيبعثهم الله وسوف يقرأون في الصحائف التى لا تغادر صغيرة ولا كبيرة ولا تظلم مثقال ذرة من أعمالهم التى اقترفوها.
فرد الكفار المعاندون المكابرون وقالوا كما جاء في كتاب الله: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا [الإسراء:49-52].
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((كان رجل يسرف على نفسه فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: يا بنى إذا أنا مت فحرقوني فإذا صرت فحماً فاسحقوني فإذا كان يوم ريح عاصف فذروني - وفي لفظ فذروا نصفي في البر ونصفي في البحر - فلإن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحداً من العالمين)). وأخذ هذا الرجل العهود والمواثيق على أولاده أن يحرقوه وأن يسحقوه وأن ينثروه في الريح في البر والبحر فلما مات الرجل فعلوا به ذلك. يقول المصطفى : ((فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الله البحر فجمع ما فيه وقال: الملك جل جلاله لهذا الرجل كن، فإذا هو رجل قائم بين يديه سبحانه ثم قال: عبدي ما حملك على ذلك؟ قال: خشيتك يا رب وأنت تعلم. فغفر الله له))([9]).
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: قال الله: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))([10]).
ولقد ضرب الله لنا أمثلة عملية في كتابه الكريم نزفها إلى كل من يجهل حقيقة البعث وينكر هذه الحقيقة التي لا ريب فيها.(/3)
قال سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:259-260].
يقول أهل التفسير: مر العُزير على قرية بيت المقدس وقد دمر القرية بختنصر وأصبحت لا مظهر فيها لأسباب الحياة فوقف العزير أمام هذه القرية متأملاً متدبراً ثم قال: كيف يحي الله هذه القرية بعد موتها؟!!
كيف يبعث الله جل وعلا هؤلاء الأموات؟!! وكيف يعيد الحياة إلى هذه القرية الخاوية؟!! فأماته الله مائة سنة ثم بعثه، وخاطبه بواسطة الملك قال: ياعزير كم لبثت ؟!! فوجد العزير الشمس تميل إلى الغروب فظن أنها شمس اليوم الذي نام فيه فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم قال: ياعزير لقد لبثت مائة سنة. قال: كيف ذلك؟!!
انظر إلى وجهي المقارنة الثابت، والمتحرك، انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي لم يتغير لونه أو طعمه أو رائحته.
فكر في هذا جيداً لتعلم أن الملك على كل شىء قدير.. انظر إلى حمارك فإذا به قد بلي وتحول إلى عظام رميم فأمر الله جلا وعلا أن يحيي هذا الحمار أمام عينه وبين يديه ليجعله برهاناً دامغاً للناس جميعاً على أن الله على كل شئ قدير، أمر الله تعالى الأرض أن تجمع العظام، فجاءت العظام من هنا ومن هناك بعدما صارت رميم فالتئمت واكتملت وصار كل عظم إلى جوار العظم الذي يليه فتركبت العظام وأصبح الحمار هيكلاً عظمياً فقط بين يدي العزير وعلى الفور أمر الله جل وعلا أن تكسى العظام باللحم وبالتوالي أمر أن يكسى اللحم بالشعر، وفي التو أمر الله الملك أن ينفخ الروح فنهق الحمار بإذن الله سبحانه الذي أحيى العظام وهي رميم!! هذه هي طلاقة القدرة التى انفرد بها الواحد الفرد الصمد!! فنظر العزير إلى هذه وقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
وإبراهيم الخليل عليه السلام قال: رب أرني كيف تحي الموتى بعد هلاكها؟!! قال: أولم تؤمن يا إبراهيم؟! قال: بلى يا رب ولكن ليطمئن قلبى قال: يا إبراهيم خذ أربعة من الطير اذبحهن وعلمهن واخلط العظم مع اللحم مع الريش؟ وخذ كوماً من لحم وعظم وريش مخلوط وممزوج وضع كل جزء من الخليط هذا على رأس جبل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وجعل إبراهيم رؤوس الطيور في يديه ثم وقف إبراهيم عليه السلام ونادى على هذه الطيور فجاءت تسعى إلى إبراهيم ولم يأتِ طيراناً لينظر إبراهيم بعينه وليطمئن أنه هو بعينه الذي ذبحه وعلمه بيده حتى جاء كل طير إلى إبراهيم.
يقول الحافظ: فكان إبراهيم إذا قدم رأساً لطائر ليست رأسه أبى فإذا قدم الرأس لجسدها التأم الرأس في الجسد بإذن الله.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، قدرة الله لا تحدها حدود.. قدرة الله ليس لها نهاية.. قدرة الله العقل قاصر عن إدراك حدودها.
ولقد ذكر الله مثالاً ثالثاً سنختم به هذا العنصر الهام. وذكر الله أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم موتى ثلاث مائةٍ سنين وازدادو تسعة: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا ءَاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:9-12].
الله أكبر... أماتهم الله هذه السنوات ثم بعثهم ليجعلهم آية للناس إنه جل وعلا على كل شىء قدير.
أيها الأخيار: إن من كَلَّف عقله ليصل إلى حدود قدرة الله كالذي كلف نملة أن تنقل جبلاً من موضعه إلى موضع آخر.
ياشافي الأمراض من أرداك؟!
عجزت فنون الطب من عافاك؟!
من يا صحيح بالمنايا دهاك؟!
بلا اصطدام من يقود خطاك؟!
فهوى بها من ذا الذي أهواك؟!
ولا مرعى من ذا الذي يرعاك؟!
لدى الولادة ما الذي أبكاك؟!
من ياثعبان بالسموم حشاك؟!
أو تحيى وهذا السم يملأ فاك؟!
شهداً وقل للشهد من حلاك؟!
فرثٍ ودم من ذا الذي صفاك؟!(/4)
قل للطبـ يب تخطفته يد الردى
قل للمريض نجا وعوفي بعدما
قل للصحيح مات لا من علة
بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام
بل سائل البصير كان يحذر حفرة
وسل الجنين يعيش معزولا بلا راع
وإذا الوليد بكى وأجهش بالبكاء
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه
وسله كيف تعيش ياثعبان
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
بل سائل اللبن المصفى كان بين
أإله مع الله !! أإله مع الله !! أإله مع الله!!
لا إله إلا الله، ولا رب غيره، ولا معبود بحق سواه
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخارى رقم (4814) فى التفسير سورة الزمر باب قوله : ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الارض إلا من شاء الله ، ومسلم رقم (2955) فى الفتن باب مابين النفختين ، والموطأ ( 1/ 239) فى الجنائز ، وأبو داود رقم (4743) فى السنة ، باب فى ذكر البعث والصور ، والنسائى (4/111) فى الجنائز .
([2]) عجب الذنب : عظمة دقيقة صغيرة لاتزيد عن حبة العدس توجد فى آخر السلسلة الفقرية فى كل إنسان .هذه العظمة لاتبلى أبداً ، يبلى الجسد كله وتبقى هذه العظمة الدقيقة .
([3]) رواه مسلم رقم (2955) فى الفتن ، باب مابين النفختين وهو نفس الحديث السابق إلاأن هذه الزيادة ليست فى البخارى .
([4]) الصور : البوق وهو القرن.
([5]) اللديغ : أى الذى لدغه ثعبان أو عقرب .
([6]) رواه البخارى رقم (6527) فى الرقاق ، باب الحشر ، ومسلم رقم (2859) فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/114) فى الجنائز ، باب البعث .
([7]) أخرجه أحمد فى المسند (17769) ، وعند ابن ماجة رقم (2707) .
([8]) رواه البخارى رقم (4974) فى تفسير سورة قل هو الله أحد والنسائى (4/112) فى الجنائز ، باب أرواح المؤمنين .
([9]) رواه البخارى رقم (7508) فى التوحيد ، باب قوله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله ، ومسلم رقم (2756) فى التوبه ، باب فى سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ، والموطأ (1/ 240) فى الجنائز ، باب جامع الجنائز ، والنسائى ( 4/113) وفى الجنائز باب أرواح المؤمنين .
([10]) رواه الترمذى رقم (3534) فى الدعوات ، باب رقم (106) ، وحسنه شيخنا الألبانى فى الصحيحة برقم (127) وهو فى صحيح الجامع رقم (4338) .
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، فاللهم أجزه عنا خير ما جزيت به نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
أحبتي في الله:
ثالثاً: من مات على شىء بعث عليه:
أخي في الله مرة ثانية أعرني قلبك وسمعك فإن الموضوع من الأهمية والخطورة القصوى بمكان.
فلقد ورد في حديث في صحيح مسلم أن النبي قال: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه))([1]).
يا عبد الله ستبعث على أي هيئة مت عليها فإن كنت من السعداء مت على طاعة ستبعث يوم القيامة عليها، وإن كنت من الأشقياء مت على معصية ستبعث عليها يوم القيامة.
الله أكبر...
هناك من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن أعضائه، وعن يمينه، ومن بين يديه قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ التحريم: 8 ].
ورد في الأثر الذي أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وروى الحاكم الأثر في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وتعقب الحاكمَ الذَّهبيُ وقال: بل هو صحيح على شرط البخاري: أن عبد الله بن مسعود قال: "منهم من يكون نوره كالجبل ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية".
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ الحديد: 13].(/5)
ينادى أهلُ الظلمات أهلَ الأنوار: ياأهل الأنوار انتظرونا، لا تتركونا في هذا الظلام الحالك الدامس!! ألم نكن معكم؟ ألم نصلِّ معكم صلاة الجماعة؟ ألم نشهد معكم الغزوات؟ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].
ومنهم من يبعث فينطلق إلى أرض المحشر صرخ بأعلى صوته لبيك اللهم لبيك. من هذا؟
هذا من مات بلباس الإحرام في الحج والعمرة يبعث به ملبياً يوم القيامة ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: بينما رجل واقف مع النبي بعرفة، إذ وقع من راحلته، قال أيوب: فأوقصته فذكر ذلك للنبي فقال: ((اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً))([2]).
((ومنهم من يخرج منه دم اللون لون الدم، والريح ريح المسك)). من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: ((هم الشهداء في سبيل الله)).
يقول : ((والذى نفسى بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والعرف عرف المسك))([3]).
أحبتي في الله:
نحب أن ننوه إلى أنه قد يظهر أمام الناس شخص قتل في غزوة أو معركة ويقال: أنه شهيد وهو ليس كذلك!.. لماذا؟!
لأنه لا يعلم السر وأخفى إلا الله، فلا تحكم لأحد بالشهادة الجازمة في الدنيا، لذا لا يقال: الشهيد فلان، ولكن قل نرجو الله أن يتقبله عنده في الشهداء ومن يعلم النيات غير الله!!
ومنهم من يبعث وبطنه منتفخة لا يقوى على القيام بل ولا يستطيع الجلوس يتخبط عن يمينه وعن شماله يتكفأ على وجهه، من هؤلاء؟!
هؤلاء هم أكلة الربا: قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
انظروا معي إلى المشهد الآخر...
رجل يسير في أرض المحشر ومن حوله مجموعة من الأطفال الصغار هذا يتعلق بيده وهذا يتعلق بقدمه!! وهذا يجره جراً وهذا يدفعه دفعاً!! مشهد رهيب.. مَنْ هذا؟! مَنْ هؤلاء؟!...
هذا هو آكل أموال اليتامى بالباطل وهؤلاء هم اليتامى!! إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ النساء :10 ].
ومنهم من يبعث من النساء وعليها جلباب من لعنة الله ودرع من النار وقد وضعت يدها على رأسها وهي تسير على أرض المحشر وتقول: ياويلاه... ياويلاه. ... أتدرون من هذه؟!
قال رسول الله إنها النائحة.. النائحة هي التى تسير خلف الجنازة تبكى وتصرخ وتلطم وجهها وتشق جيبها وتضع التراب على رأسها وتقول.. ياويلاه!!... يا ويلاه!!
ومنهم من يبعث وفي يده كأس الخمر..
ومنهم من يبعث وهو يحمل على كتفه ماسرقه في الدنيا. قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
قال الحافظ بن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شىء بعث عليه.
فإن أردت أخي الحبيب أن تبعث على طاعة فأطع الله جل وعلا في دنياك، وإن زلت قدمك في معصية فاحدث بعد المعصية توبة، فإذا ما جاءك ملك الموت وأنت على طاعة. قبضك وأنت على ذات الطاعة. وحشرت يوم القيامة في زمرة الطائعين تحت لواء سيد النبيين وقائد المرسلين محمد بن عبد الله .
وأختم حديثي معكم عن هذا العنصر بهذين المشهدين اللذين يخلعان القلوب.
شاب أمريكي من أصل أسباني، دخل على إخواننا المسلمين في إحد المساجد في نيويورك في مدينة "بروكلين" بعد صلاة الفجر وقال: لهم أريد أن أدخل في الإسلام، قالوا: من أنت؟ قال: دلوني ولا تسألوني فاغتسل ونطق بالشهادة، وعلموه الصلاة فصلى بخشوع نادر احتقر رواد المسجد جميعاً أنفسهم أمام خشوع وسجود وبكاء هذا الشاب وتعجبوا لحاله.
وفى اليوم الثالث خلى به أخ مصري ذكي واستدرجه وقال: ياأخي بالله عليك ما حكايتك؟ قال: والله لقد نشأت نصرانياً وقد تعلق قلبي بالمسيح عليه السلام ولكنني نظرت في أحوال الناس فرأيت الناس قد انصرفوا عن أخلاق المسيح تماماً فبحثت عن الإسلام وقرأت عنه فشرح الله صدري للإسلام، ولكنني في الليلة التي دخلت عليكم فيها نمت بعد تفكير عميق وتأملت في البحث عن الحق فجاءنى المسيح عليه السلام في الرؤيا وأنا نائم وأشار لي بسبابته هكذا، وقال لي: كن محمدياً.(/6)
يقول: فخرجت أبحث عن مسجد فأرشدني الله إلى هذا المسجد فدخلت عليكم وبعد هذا الحديث القصير أَذَّنَ المؤذن لصلاة العشاء ودخل هذا الشاب الصلاة مع المصلين، وسجد في الركعة الأولى، وقام الإمام بعدها ولم يقم أخونا المبارك بل ظل ساجداً لله فحركه من بجواره فسقط فوجدوا روحه قد فاضت إلى الله جل وعلا. الله أكبر
واستحلفك بالله يا أخي في الله أن تتأمل طويلا في هذه الخاتمة.
وهذه أخت من مدينة السويس عادت مع زوجها بعد رحلة الحج في الباخرة سالم اكسبريس، وصرخ الجميع بأن الباخرة تغرق، وصرخ زوجها: هيا أخرجى فقالت: والله لن أخرج حتى ألبس حجابي كله فقال: هذا وقت حجاب! أخرجي! فإننا سنهلك!! قالت: والله لن أخرج إلا وقد ارتديت حجابي بكامله فإن مت ألقى الله على طاعة. فلبست ثيابها وخرجت مع زوجها. فلما تحقق الجميع من الغرق تعلقت به وقالت: استحلفك بالله هل أنت راضٍ عني؟ فبكى. قالت: هل أنت راضٍ عني؟ فبكى. قالت: أريد أن أسمعها قال: والله إني راضٍ عنك. فبكت المرأة التقية الشابة في ريعان شبابها وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وظلت تردد الشهادة حتى غرقت فبكى الزوج وهو ويقول: أرجو من الله أن يجمعنا بها في الآخرة في جنات النعيم.
وها هو رجل عاش أربعين سنة يؤذن للصلاة لا يبتغي إلا وجه الله، وقبل الموت مرض مرضاً شديداً فأقعده في الفراش، وأفقده النطق فعجز عن الذهاب إلى المسجد، فلما اشتد عليه المرض بكى وقال في نفسه: يارب أأذن لك أربعين سنة وأنت تعلم أني ما ابتغيت الأجر إلا منك، وأحرم من الآذان في آخر لحظات حياتى. يقسم أبناؤه أنه لما حان وقت الآذان وقف على فراشه واتجه للقبلة ورفع الآذان في غرفته وما إن وصل إلى آخر كلمات الآذان: لا إله إلا الله، خر ساقطاً على الفراش فأسرع إليه بنوه فوجدوا روحه قد فاضت إلى مولاها.
إنما الأعمال بالخواتيم.
وهذا شيخنا المبارك عبد الحميد كشك رحمه الله يقبض في يومٍ أحبه من كل قلبه في يوم الجمعة يغتسل، ويلبس ثوبه الأبيض، ويضع الطيب على بدنه وثوبه ويصلى ركعتى الوضوء، وفي الركعة الثانية وهو راكع يخر ساقطاً فيسرع إليه أهله وأولاده، فوجدوا أن روحه قد فاضت إلى الله جل في علاه. لقد أجرى الكريم عادته بكرمه؛ أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شىء بعث عليه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه مسلم رقم (2878) فى الجنة ، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت .
([2]) رواه البخارى رقم (1265) فى الجنائز ، باب الكفن فى ثوبين ، ومسلم رقم (1206) فى الحج باب ماذا يفعل المحرم إذا مات ، وأبو داود رقم (3238،3239) فى الجنائز ، والنسائى (5/195) فىالحج ، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات .
([3]) رواه البخارى رقم (2803) فى الجهاد ، باب من يجرح فى سبيل الله ، ومسلم رقم (1876) فى الإمارة ، باب فضل الجهاد والخروج فى سبيل الله .
المصدر:http://www.alminbar.net(/7)
نوافذ الدعوة تاسعاً الحكمة
** المبحث الأول : مفهوم الحكمة :-
* تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي :
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة ، فقيل:
الحكمة : النبوة ، وقيل : القرآن والفقه به : ناسخة ومنسوخة ، ومحكمة ومتشابهه ، ومقدمة
ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله . وقيل الإصابة في القول والفعل ..
وقيل : معرفة الحق والعمل به ، وقيل العلم النافع والعمل الصالح ، وقيل : الخشية لله ، وقيل : السنة وقيل : والورع في دين الله ، وقيل العلم والعمل به ، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما ، وقيل : وضع كل شيء في موضعه . وقيل : سرعة الجواب مع الإصابة .
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف ، لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء
الذي هو بمعنى الفصل بين الحق الباطل .
- والحكمة في كتاب الله نوعان :
مفردة : كقوله تعالى [ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ]
وهذه الحكمة فسرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة وهذا النوع كثير في كتاب الله تعالى .
- أما الحكمة المقرونة بالكتاب :
فهي السنة من : أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، وتقريراته ، وسيرته ، كقوله
تعالى : [ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم ءاياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم
إنك أنت العزيز الحكيم ] .
وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب والسنة : الإمام الشافعي والإمام ابن القيم ، وغيرهما من الأئمة .
** المبحث الثاني : أهمية الحكمة :-
1- قد أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة فقال :
[ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ]
2- إنه من يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره،
وخاصة في دعوته إلى الله عز وجل ، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجا بفضل الله
تعالى ، ثم بفضل هذا النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم الذي ملأ الله قلبه بالإيمان والحكمة.
3- من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين ، والرفق ، والعفو ، والحلم .. فحسب ، وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة ، فإن الحكمة قد تكون :
* باستخدام الرفق واللين ، والحلم والعفو ، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاد بالأدلة ،
وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
* وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتلة على التريب في الحق والترهيب من الباطل ، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به ، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق .
* وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ، ولطف ، ولين كلام ، ودعوة إلى الحق ، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية ، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة ، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل لا بد أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق ، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد .
* وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة : بالكلام القوي ، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة ، وبالجهاد في سبيل الله تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين مع مراعاة الضوابط والشروط التي دل عليها الكتاب والسنة ، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى ، ولم يرجع للحق بل رده ووقف في طريقه .
4- الحكمة تجعل الداعي يقدر الأمور قدرها فلا يزهد في الدنيا والناس بحاجة إلى النشاط والجدل والعمل ، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم ، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء وهم في مسيس الحجة إلى تعلم الوضوء والصلاة .
5- الحكمة تجعل الداعية إلى الله يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم ، والوسائل التي يؤتون من قبلها ، والقدر الذي يبين لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها والطريقة التي يخاطبهم بها ، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها ، ويدعوا إلى الله بالعلم لا بالجهل ، ويبدأ بالمهم فالذي يليه ، ويعلم العامة مايحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم ، ويخاطبهم على قدر عقولهم ، فالحكمة تجعل الدعية ينظر ببصيرة المؤمن ، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب مايقتضيه الحال ، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب ، وتنشرح له صدورهم ، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم واطمئنانهم ، وهذا كله من الدعوة إلى الله بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح .
** المبحث الثالث : أنواع الحكمة :-
الحكمة نوعان :
- النوع الأول : حكمة علمية نظرية ، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء ، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها ، خلقاً وأمراً ، وقدراً وشرعاً .(/1)
- النوع الثاني : حكمة علمية ، وهي وضع الشيء في موضعه .
فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والإداك والحكمة الالعملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب ، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين ، لأن كمال الإنسان في أمرين : أن يعرف الحق لذاته ، وأن يعمل به ، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح .
وقد أعطى الله عز وجل أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين ، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : [ رب هب لي حكماً ] وهو الحكمة النظرية ،
[ وألحقني بالصالحين ] وهو الحكمة العملية .
** المبحث الرابع : درجات الحكمة :-
الحكمة العلمية لها ثلاث درجات :
- الدرجة الأولى :
(( أن تعطي كل شيء حقه ، ولا تعديه ، ولا تعجله عن وقته ، ولا تؤخره عنه )).
لقد كانت الحكمة مراعية لهذه الجهات الثلاث بأن أعطت كل مرتبة حقها الذي أحقه الله
لها بشرعه وقدره ، ولا تعدى بها حدها فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة ، ولا تطلب تعجيلها عن
وقتها فتخالف الحكمة ، ولا تؤخرها عنه فتفوتها ، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها
شرعاً وقدراً .
- الدرجة الثانية : معرفة عدل الله في وعيده ، وإحسانه في وعده ، وعدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق ، فإنه لا ظلم فيه ولا جور ، قال تعالى :
( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً )
والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر ، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم االمخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أعلى درجات العلماء ، قال : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ).
والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور :
- الأمر الأول : أن يكون الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي
فيما يدعو إليه .
- الأمر الثاني : أني يكون على بصيرة بحال المدعو ، فلا بد من معرفة حال المدعو : الدينية ،
والاجتماعية ، والاعتقادية ، والنفسية ، والعلمية ، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه .
- الأمر الثالث : أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة ، وقد رسم الله عز وجل طرق الدعة ومسالكها في آيات كثيرة منها : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة ... )
وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب : وهي الدعوة إلى الله : بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، قال تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ).
** المبحث الخامس : طرق تحصيل الحكمة :-
سنذكر هنا بعضاً من الطرق التي إذا سلكها الداعية المسلم كان حكيماً في أقواله وأفعاله ،
وتصرفاته ، وأفكاره ، موافقاً للصواب في جميع أموره بإذن الله تعالى ، وذلك في المطالب الآتية :
- المطلب الأول : السلوك الحكيم :
والسلوك : سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال : فلان حسن السلوك أو سيء السلوك.
أما الخلق : فهو حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية ، وجمعه : أخلاق.
والأخلاق علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح ، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين :
- القسم الأول : ما يكون طبيعيّا من أصل المزاج ، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
- القسم الثاني : ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب ، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه حتى يصير ملكة وخلقاً.
والسلوك عمل إداري ، كقول : الصدق ، والكذب ، والبخل ، والكرم ، ونحو ذلك.
فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً مظهرياً ، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان ، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية ، وهذا المظهر هو السلوك ، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق ، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه ، فالسلوك دليل الخلق ، ورمز له ، وعنوانه ، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن ، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح ، كما أن الشجرة تعرف بالثمر ، فكذلك الخلق الطيب يعرف بالأعمال الطيبة.
والحكمة تتفرع إلى فروع ، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم ، والتزام فضائل الأخلاق ، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم.
- المطلب الثاني : العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص :
العمل بالعلم بإخلاص ، وصدق ، ورغبة في رضي الله – عز وجل – من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق الله وتسديده وفضله وإحسانه.(/2)
والعلم هو ما قام عليه الدليل ، وهو النقل المصدق والبحث المحقق ، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم : علم الكتاب والسنة ، والمطلوب من الإنسان هم فهم معانيها ، والعمل بما فيهما ، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن أهل العلم والدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
(قال غير واحد من السلف ، الحكمة معرفة الدين والعمل به).
والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة ، ولهذا حذر الله المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون ، فقال عز وجل :
(يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
- المطلب الثالث : الاستقامة :
الاستقامة : كلمة جامعة تشمل الدين كله ، قال تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).
وقال تعالى : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) ، وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير).
وعن سفيان بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ! قال : (قل : آمنت بالله ، ثم استقم).
والداعية إلى الله يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة ، وبهذا – بإذن الله تعالى – لا يخيب الله سعيه ، ويجعل الحكمة على لسانه ، وفي أفعاله ، وتصرفاته ، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان.
- المطلب الرابع : الخبرات والتجارب :
التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات ، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة ، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأعظم الناس تجربة ، وأكملهم حكمة : الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله ورباهم ، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم) ، فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال : (نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة.
وفي رواية : قالوا : أكنت ترعى الغنم ؟ قال : (وهل من نبي إلا وقد رعاها ؟).
- المطلب : الخامس : السياسة الحكيمة :
إذا سلك الداعية إلى الله مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى الله تعالى ، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته واكتسابه الحكمة ، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو أسوتنا وقدوتنا ، وإمام الدعاة إلى الله ، وقد سلك هذا المسلك ، فنفع الله به العباد ، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد ، وكان لسياسته الحكيمة عظم النفع والأثر في نجاح دعوته ، وانشاء دولته ، وقوة سلطانه ، ورفعة مقامه ، ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أي أمة من الأمم كان له مثل هذا الأثر العظيم ، ومن من المصلحين المبرزين – سواء كان قائداً محنكاً ، أو مربياً حكيماً – اجتمع لديه من رجاحة العقل ، وأصالة الرأي ، وقوة العزم ، وصدق الفراسة ، ما اجتمع في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه : صحة رأيه ، وصواب تدبيره ، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه ، صلى الله عليه وسلم.
فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص ، وصدق وعزيمة ، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى الله مكتسباً عظيماً.
- المطلب السادس : فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى :
لا يكون الداعية حكيماً في دعوته إلى الله – تعالى – إلا بفقه وإتقان ركائز الدعوة وأسسها التي تقوم عليها ، حتى يسير في دعوته على بصيرة ، ولا شك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى : (قل هذه سبيلي أدعوة إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحن الله وما أنا من المشركين) ، فلا بد من معرفة الداعية لما يدعو إليه ، ومن هو الداعي ، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوفر في الداعية ؟ ومن هو المدعو ، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها ؟ هذه هي أركان الدعوة : الموضوع ، والداعي ، والأساليب والوسائل.
** المبحث السادس : إنزال الناس منازلهم ومراتبهم :-
- المطلب الأول : إنزال الناس منازلهم :
الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع ، وأحاول الناس ، ومعتقداتهم ، وينزل الناس منازلهم ، ثم يدعوهم على قدر عقولهم وأفهامهم وطبائعهم وأخلاقهم ومستواهم العلمي والاجتماعي ، والوسائل التي يؤتون من جهتها.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للدعاة إلى الله – عز وجل – فقال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن – داعياً ومعلماً وقاضياً : (إنك تأتي قوماً أهل كتاب ..) الحديث.(/3)
فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهم جداً ، فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين : الاعتقادية ، والنفسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة ، ويحتاج إلى معرفة لغتهم ، ولهجتهم ، وعاداتهم ، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية ، وثقافتهم ومستواهم الجدلي ، والشبه التي انتشرت في مجتمعهم ، ومذاهبهم.
والداعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله ، مقدراً للظروف التي يدعو فيها ، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم ، وكل أحوالهم.
- المطلب الثاني : مراتب الدعوة والمدعوين :
قد دل كتاب الله على أن مراتب الدعوة – بحسب مراتب البشر – قال الله تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجدلهم بالتي هي أحسن) ، وقال تعالى : (ولا تجدلوا أهل الكتب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) ، فاتضح بذلك أن مراتب الدعوة إلى الله أربع مراتب كالتالي :
المرتبة الأولى : الحكمة.
المرتبة الثانية : الموعظة الحسنة.
المرتبة الثالثة : الجدال بالتي هي أحسن.
المرتبة الرابعة : استخدام القوة.
ولا بد أن تكون مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب التي بعدها ، فالموعظة لا بد أن توضع في موضعها ، والجدال في موضعه ، واستخدام القوة في موضعه مع بيان الحق بدليله والإصابة في الأقوال والأفعال ، وكل ذلك بإحكام وإتقان.
وبهذا تكون مراتب المدعوين بحسب هذه المراتب كالتالي :
1- المستجيب الذكي ، القابل للحق ، الذي لا يعاند ولا يأباه ، وهذا يبين له الحق علماً وعملاً واعتقاداً ، فيقبله ويعمل به.
2- القابل للحق المعترف به ، لكن عنده نوع غفلة وتأخر ، وله أهواء وشهوات تصده عن اتباع الحق ، فهذا يدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل.
3- المعاند الجاحد ، فهذا يجادل بالتي هي أحسن.
4- فإن ظلم المعاند ولم يرجع إلى الحق انتقل معه إلى مرتبة استخدام القوة إن أمكن.
واستخدام القوة يكون بالكلام ، وبالتأدب لمن له سلطة وقوة ، وبالجهاد في سبيل الله – تعالى – تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشروط التي دل عليها الكتاب والسنة ، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح ، لأنها وضع الشيء في موضعه اللائق به بإحكام وإتقان وإصابة.
بتصرُّف : من كتاب مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة
للشيخ / سعيد بن وهف القحطاني(/4)
نواقض الإيمان العملية
الحمد لله الذي أمرنا بتوحيده، وفضَّل المسلمين على غيرهم من الأمم وجعلهم خير عبيده، وجعل لهم في الآخرة داراً هي خير لهم من هذا العالم وتنكيده، وصلى الله على محمد الذي هدى الله به الناس إلى رحمة الله وتوحيده، ونور طريقهم بتلاوة القرآن وترديده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.. أما بعد:
فإن نواقض الإيمان كثيرة، وهي تنقسم إلى نواقض عملية ونواقض قولية ونواقض اعتقادية، وما يهمنا ذكره في هذا الموضوع هو ذكر النواقض العملية والتي يعد ارتكابها خروجاً من الإسلام، نعوذ بالله من الخذلان. وسوف نعتمد بعد الله على كتاب لطيف للشيخ د/ عبد العزيز العبد اللطيف، واسم الكتاب: نواقض الإيمان القولية والعملية..
فمن النواقض العملية:
نواقض تتعلق بالتوحيد، وهي أنواع:
أولاً: الشرك في العبادة:
من النواقض التي يكفر بها العبد ويصير من الخارجين عن الإسلام:
1. الذبح لغير الله: الأدلة معلومة حول الذبح لله، وأنه من العبادة كما قال الله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة الأنعام: 162). وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (سورة الكوثر: 02)، وإذا تقرر أن الذبح عبادة فإن صرفها لغير الله شرك.. وصاحبها ملعون، وقد قال الله -عز وجل-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) (سورة المائدة: 3) ، قال مجاهد وابن جريج: (كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: وهي هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب، فهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا).1
وهكذا بيَّن المفسرون ذلك، وأن المقصود به الذبح لغير الله عند الأوثان والقبور والقباب وغيرها..
وعن عامر بن واثلة قال: كنت عند علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- فأتاه رجل فقال ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك قال: فغضب وقال ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتمه الناس غير أنه قد حدثني بكلمات أربع قال: فقال: ما هن يا أمير المؤمنين, قال: قال: "لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غيَّر منار الأرض" رواه مسلم في صحيحه.
والعجيب أن الذين يذبحون عند قبور من يسمونهم (الأولياء) وكذا عند القباب وغيرها، يقولون: نحن نذكر اسم الله، مع أنهم يتقربون بها لذاك الميت، ويريدون تعظيمه، فكان هذا هو عين الذبح لغير الله، وكلام العلماء في هذا يطول ذكره.. لكن الذي يجب أن يُعلم أن من ذبح عند قبر يريد تعظيم من فيه، والتقرب بذلك إليه، حتى ولو قال قد ذكرت اسم الله عليه، أو أني أقصد به الله، فإن ذلك متناقض، ويعد ذلك من الشرك الذي نهى الله عنه ورسوله..
2. النذر لغير الله: من الشرك، ومن نواقض لا إله إلا الله؛ لأن النذر المراد به التقرب والتعظيم، ومن نذر لغير الله - تعالى- بفعل طاعة أو قربة فقد أشرك.
3. السجود والركوع لغير الله: من الشرك ومن نواقض لا إله إلا الله؛ لأن السجود والركوع يقصد بهما التعظيم والتقرب، ولا يجوز صرف ذلك إلا لمن يستحق العبادة والتقديس -سبحانه وتعالى-.
يقول الله -عز وجل-: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (سورة فصلت: 37).
ومن أنواع ذلك السجود الذي وقع فيه أهل الضلال والشرك:
أ - سجود الصوفية الذي يفعله جُهّالهم عند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم.. قال ابن القيم: (ومن أنواع الشرك سجود المريد- الصوفي- للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له).
ب - قال ابن القيم: (ومن أنواعه: سجود المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة، وهذا سجود في اللغة، وبه فسر قوله -عز وجل-: (ادخلوا الباب سجداً) أي منحنين، وإلا فلا يُمكن بالجبهة على الأرض)2.
ومن هذا القبيل ما يفعله الناس اليوم عند دخولهم على القادة والزعماء والرؤساء من إحناء الرأس والركوع لهم..
4 0 الطواف لغير الله.. كما يفعل كثير من الضُلَّال عند مزاراتهم، وعند قبور الموتى، والقباب وغير ذلك.. لأن المقصود بالطواف تعظيم من أمر بذلك والتقرب إليه به. وصرف ذلك لغير الله -عز وجل- عند قبور الموتى يعد من الشرك، ومن نواقض التوحيد..
ووجه كون صرف هذه الأمور لغير الله من الشرك:-(/1)
1. أن هذه الأعمال شرك يناقض توحيد العبادة، فإذا كان الذبح والنذر والسجود والركوع والطواف عبادات لا يجوز صرفها لغير الله، فمن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا له فهو كافر بالإجماع.
2. أن من صرف تلك العبادات لغير الله فقد شبه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر.
ثانياً: من الشرك في التوحيد ومن نواقض لا إله إلا الله:
الحكم بغير ما أنزل الله:
أصبح الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين البشرية من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في دول المسلمين.. لقد كانت عواقب الحكم بغير ما أنزل الله كثيرة: الفساد الأخلاقي، وصنوف الظلم والذل والمحق..
ولا بد من بيان هذا الخطر الذي التهم البلدان، وقلب الأوضاع، وجعل الرعاع يستولون على خيرات المسلمين، وظهر كثير ممن يدعي الثقافة يتحدث باسم الدين حتى ميعوا شريعة الله وأحكامه وجعلوها في نطاق خاص..
الحكم بما أنزل الله من أعظم القربات والعبادات التي يتقرب بها إلى الله كما قال الله على لسان يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سورة يوسف: 40) ، فجعل الحكم هنا هو العبادة.. والآيات في هذا كثيرة..
وقد ذم الله المتحاكمين إلى أهوائهم وعاداتهم، وما تمليه مصالحهم، التاركين شرعه وراء ظهورهم، بل جعلهم ظالمين فاسقين كافرين، بنص الآيات: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي آية أخرى: (هم الفاسقون) و (هم الكافرون).
بل جعل الأحبار والرهبان الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال أرباباً من دون الله، فقال عن أهل الكتاب: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة التوبة: 31).
ولما سمع عدي ابن حاتم هذه الآية قال يا رسول الله: إنا لسنا نعبدهم ، قال : ( أليس يحرمون ما أحل اللّه فتحرمونه، ويحلون ما حرم اللّه فتحلونه ؟ ! ) قال : فقلت : بلى . قال : ( فتلك عبادتهم ) 3. وكذلك قال أبو البختري : (أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون اللّه ما أطاعوهم، ولكن أمروهم، فجعلوا حلال اللّه حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية).
وسمى الله الحكم بغير شريعته طاغوتاً: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (سورة النساء: 60).
والآيات والأحاديث وكلام السلف والعلماء مشهور لا يتسع المجال لذكر ذلك، ولكن حسبنا بما ذكرنا إشارات يعرف بها ذلك الأمر..
لكن متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله -عز وجل- ناقضاً من نواقض الإيمان؟!
1. من شرّع شرعاً يخالف ما أنزل الله: لأن التشريع حق خالص لله، من نازعه شيئاً منه فهو مشرك: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة الشورى: 21).
(وغالب الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين -من خلال استقراء دساتيرها- إنما هو انسلاخ من عقيدة إفراد الله وحده بالتشريع، حيث جَعلت التشريع والسيادة للأمة أو الشعب، وربما جَعلت الحاكم مشاركاً في سلطة التشريع، وقد يستقل بالتشريع في بعض الأحوال، وكل ذلك تمرد على حقيقة الإسلام التي توجب الانقياد والقبول لدين الله، والله المستعان)4.
2. أن يجحد أو ينكر الحاكم بغير ما أنزل الله -عز وجل- أحقية حكم الله ورسوله؛ كما جاء في رواية لابن عباس في قول الله: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: (من جحد ما أنزل الله فقد كفر ) رواه ابن جرير في تفسيره (6/149) واختاره.
3. أن يفضِّل حكم الطاغوت على حكم الله، سواء كان هذا التفضيل مطلقاً أو مقيداً في بعض المسائل.. وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب هذه الحالة ضمن نواقض الإسلام..
ولقد فعل ذلك التتار عندما أسقطوا الخلافة الإسلامية، فقدَّموا حكم الياسق (كتاب تشريعي مختلط) وفرضوه على المسلمين، ونبذوا حكم الله، وقد كفَّرهم علماء عصرهم، وقد ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (سورة المائدة: 50).(/2)
وهذا صار شائعاً في قوانين الدول اليوم، حيث أحلوا القوانين الوضعية محل شرع الله، وجعلوها أفضل منه، وقالوا: شريعة الله كانت خاصة بالأزمنة الأولى، وهي لا تتماشى مع روح العصر، فكفروا بالله من حيث يشعرون أو لا يشعرون.. وهؤلاء لا تنفعهم صلاتهم وصيامهم وزعمهم بأنهم مسلمون ما داموا لم يحكِّموا شريعة الله، فإن الحكم بشرع الله من صميم العبادة، كما تبين ذلك..
ويلحق بهذه الحالة: من لم يحكم بما أنزل الله استهانة لحكم الله، واستخفافاً واحتقاراً له، فقد اجتمع فيه من الشناعة أمران:
العدول عن حكم الله، والاستهزاء {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} (سورة التوبة: 65).
4. من ساوى بين حكم الله وحكم الطاغوت.. فهذا من نواقض التوحيد؛ لأن ذلك يقتضي مساواة المخلوق بالخالق في التشريع، وقد قال الله: (ليس كمثله شيء) وقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً) والند: هو المثيل والشبيه..
5. أن يجوّز الحكم بغير شريعة الله، أو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، فهذا ردة عن الإسلام..
من لم يحكم بما أنزل الله إباءً وامتناعاً، فهو كافر خارج عن الملة.. وإن لم يجحد أو يكذب حكم الله..
ثالثاً: الإعراض التام عن دين الله:
فلا يتعلم الدين ولا يعمل به.. والإعراض معناه في اللغة: الصدّ والتولِّي، يقول الراغب الأصفهاني: (وإذا قيل: أعرض عني، فمعناه: ولّى مبدياً عرضه)5.
والمقصود بالإعراض -هاهنا- والذي يعد ناقضاً من نواقض لا إله إلا الله العملية هو: الإعراض عن دين الله، فلا يتعلمه ولا يعمل به، وهو التولي عن طاعة الرسول، والامتناع عن الاتباع، والصدود عن قبول حكم الشريعة.. قال الله -عز وجل-: {..وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} (سورة طه: 99-101).
والإعراض عن دين الله وشرعه هو حقيقة النفاق قال الله -عز وجل-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} (سورة النساء: 61) ء ، يقول ابن القيم في هذه الآية: (فجعل الإعراض عما جاء به الرسول، والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم به رضىً واختياراً ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق..)6.
والإعراض من صفات الكافرين:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} (سورة الأحقاف: 3) ، {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (سورة القمر :2).
مفاسد الإعراض عن دين الله:
1. أنه سبب المصائب والبلايا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (سورة النساء: 61-62) ، وقال: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (سورة المائدة: 49).
2. الإعراض سبب لفساد النفس، بل وفساد العالم: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} (سورة آل عمران: 63).
3. الضنك والقلق في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (سورة طه: 124).
4. أن المعرض يُشبه أقبح وأبلد الحيوانات، وهو الحمار حال نفرته: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ* كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (سورة المدثر: 49-51).
وغيرها من العقوبات والمفاسد العاجلة والآجلة، مع كونه كفراً بالله، وكفى بذلك إثماً مبيناً..
ومن النواقض العملية لـ (لا إله إلا الله) في جانب التوحيد:
مظاهرة المشركين وتوليهم وإعانتهم على المسلمين:
وذلك أن ذلك مخالف لما يجب أن يكون عليه المسلم تجاه الكفار؛ لأنهم أعداء الله ورسوله.. ونذكر أمثلة من موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين؛ لأن البلوى عمت بذلك في هذا الزمن، وحصل خلط شديد، وتداخل رهيب، فيما يخص عقيدة الولاء والبراء، فمن ذلك:(/3)
1. الإقامة ببلاد الكفار حباً ورغبةً في صحبتهم فيرضى دينهم ويمدحهم عليه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، فهذا كافر عدو لله ورسوله، كما قال -عز وجل-: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} (سورة آل عمران: 28)..
2. من أطاع الكفار في التشريع، والتحليل والتحريم، فأظهر موافقتهم على ذلك، فهو خارج عن الملّة قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (سورة آل عمران: 100).. وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} (سورة آل عمران: 149). وقال -تعالى-: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (سورة الأنعام: 121). فصرح بأنهم مشركون في طاعة أولئك الكفار، حينما وافقوهم في تحليل أو تحريم.
ومن ذلك التجنس بجنسية الدول الكافرة رغبة في بلاد الكفار، وانتماء إليهم، ورضى بأحكامهم الطاغوتية، وتبعية لأنظمتهم الوضعية، فهذا لا شك أن فاعله خارج من الإسلام..
لكن هناك ظروف أخرى تدفع كثيراً من الناس إلى أخذ الجنسية من الدول الكافرة، فلا يعد ذلك من الكفر؛ لأسباب ودوافع وملابسات، يمكن الاطلاع عليها في مواطنها..
3. التشبه المطلق بهم، أو التشبه بهم فيما يوجب الكفر والخروج عن الملة.. لأن المشابهة الكلية في الظاهر تدل على حب في الباطن، وتعظيم لما هم عليه من تلك المظاهر... وليس المقصود أن كل من تشبه بهم في أمر ما يعد كافراً، بل المقصود أن يتشبه بهم فيما يناقض العقيدة، أما التشبه في أمور نادرة فهذا من المعاصي.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- عند حديث: ((من تشبه بقوم فهو منهم))7 قال: (فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً لهم كان حكمه كذلك.. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه)8
من أمثلة التشبه:
قال القاضي عياض: (وكذلك نكفِّر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك، كالسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها بزيهم، من شد الزنانير، وفحص الرؤوس، فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لا يوجد إلا من كافر)9.
وكذلك من التشبه لبس الصليب وتعليقه على الصدر أو أي مكان، أو رفعه في أي مكان مع الرضى بالانتساب إليهم، والإصرار على ذلك، فهذا كله من الكفر..
ومن ذلك مشاركة الكفار في أعيادهم، وهذا خطر كبير انتشر في زماننا، بين كثير من بني جلدتنا الجهلاء، الذين لم يعرفوا دينهم، وضرورة الاعتزاز به..
يقول الذهبي: (وقد أوجب الله عليك -يا هذا المسلم- أن تدعو الله -عز وجل- كل يوم وليلة سبع عشرة مرة بالهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.. فكيف تطيب نفسك بالتشبه بقوم هذه صفتهم، وهم حطب جهنم؟! ولو قيل لك: تشبه بمسخرة لأنِفْت من ذلك وغضبت! وأنت تتشبه بأقلف عابد صليب في عيده!! وتكسو صغارك وتفرحهم، وتصبغ البيض، وتشتري البخور، وتحتفل بعيد عدوك، كاحتفالك لعيد نبيك ! فأين يُذهب بك إن فعلت ذلك إلا إلى مقت الله وسخطه، إن لم يغفر الله لك، إن علمت أن نبيك محمداً -صلى الله عليه وسلم- كان يحض على مخالفة أهل الكتاب في كل ما اختصوا به)10
قال محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي: (وفي الخلاصة: من أهدى بيضة إلى المجوس يوم النيروز كفر!) وهذا ما لم يختلف فيه العلماء، وهو أن من شارك الكفار في أعيادهم كفر..
4. إقامة ملتقيات من أجل تقرير وحدة الأديان، وإزالة الخلاف العقدي، وإسقاط الفوارق الأساسية بين تلك الديانات، وذلك لتوحيد هذه الأديان والملل المختلفة.. وقد يطلقون على الأديان الثلاثة الإسلام والنصرانية واليهودية: الديانة الإبراهيمية، أوالديانة العالمية..
وقد نشأت هذه الدعوات المضللة في أحضان التنصير والصهيونية العالمية. وجمال الدين الفارسي، المشهور بالأفغاني، هو مِن أشهر مَن سعى إلى ذلك، وتلقف هذه الدعوة عنه تلميذه محمد عبده.
وهذا من أكبر الكفر وأظلم الظلم.. كيف يمكن التوفيق بين الإسلام وبين دياناتٍ جُلُّ القرآن يتحدث عن بطلانها.. أين هؤلاء من آيات تكفير اليهود والنصارى، وأن ملتهم وكتبهم محرفة! وأن الإسلام مهيمن ومسيطر على ما سبقه؟!!
وهذا الموضوع لا يحتاج إلى مزيد بيان لوضوحه.. والله أعلم.(/4)
وأما مظاهرة الكفار على المسلمين: فالمقصود بها: أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين، فينضمون إليهم، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان، فهذا كفر بالله.
قال ابن كثير في تفسير الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (سورة الممتحنة: 13) قال- رحمه الله-: (.. فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء). ولو نظرت إلى واقع العلاقات الدولية اليوم وأنزلت هذه الآيات على ذلك، لوقفت حيران من الفارق الهائل بين كلام السلف ومواقفهم، وصريح آيات القرآن، وبين تلك العلاقات بين كثير من أولئك ( المستسلمين) الذين يزعمون الإسلام، وترى منهم كافة المعونات والدعم والحب الذي يظهر عن طريق التصريحات، كالدول الشقيقة، والدول الصديقة، والأخ السيد فلان.. اليهودي أو النصراني.. فإلى الله الشكوى مما حل بنا..
وما دعم النصارى والجيوش الأمريكية في كل مكان لضرب المسلمين في كل أرض عنا ببعيد.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة المائدة: 51).
ومن نواقض لا إله إلا الله العملية: ما يتعلق بالنبوات:
ومنه الاستهانة بالمصحف.. فهو ناقض للتوحيد، ومخرج فاعل ذلك من الملة؛ لعدة أمور:
1. أن الاستهانة بالمصحف تناقض الإيمان بالله وإجلاله وإجلال كلامه..
2. أن الله توعد من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين.. ولم يجئ العذاب المهين إلا في حق الكفار.
3. أن الاستهانة بالمصحف -تحريفاً أو تبديلاً- استهانة بالدين، وهدم لأصول هذه الشريعة وفروعها..
4. أجمع العلماء على كفر من استهان بالمصحف وأنه خارج عن الملة..
وهناك نواقض أخرى سواء كانت قولية أو عملية أذكرها باختصار:
أ - سب الصحابة، رضي الله عنه: بالقدح في عدالتهم ودينهم قدحاً يعرف به انحراف اعتقاده وفساد طويته؛ كأن يقصد رد كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيما ثبت لهم من فضل أو الطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالوقوع في نسائه، أو يطعن في فضل الصحبة فيطعن في فضل الصحابة، ونحو ذلك.
ب - الاستهزاء بالعلماء والصالحين؛ لدينهم وتمسكهم بسنة نبيهم. فإن ذلك من صفات الكافرين: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } (سورة البقرة: 212) ، {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (سورة البقرة: 29-30) .. أما الاستهزاء بخلقتهم أو بعض أمور فيهم، غير دينهم واستقامتهم، فإن ذلك ذنب كبير لا يصل إلى الكفر كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة الحجرات: 11).
ت - ترك الصلاة: من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها كفر بإجماع المسلمين سلفاً وخلفاً.. ومن تركها كسلاً وتهاوناً وهو مقر لوجوبها، فهذا كافر في قول عامة الصحابة، وكثير من السلف والخلف، وخالف في ذلك أقوام.. وقد نقل إجماع الصحابة غير واحد.. وعدوا خلاف من بعدهم غير مقبول؛ لأنه حاصل بعد إجماع.. وعلى العموم فهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء فيما بعد عصر الصحابة الكرام.. لكن الذي يُجزم به أن من تركها جاحداً لوجوبها منكراً لها فهو كافر.. وأن من تهاون بتركها وهو معتقد لوجوبها مقراً بذلك فهو أيضاً كافر.. بل قد ذهب بعض العلماء إلى أن من ترك فرضاً واحداً متعمداً حتى خرج وقته فهو كافر، ونقل ابن حزم ذلك عن جمع من السلف11.
ث - السحر: تعلم السحر والعمل به كفر بنص قوله -تعالى-: (إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر..) الآية. ومن العلماء من قال إن ذلك كبيرة من كبائر الذنوب لا يصل إلى حد الكفر، ومنهم من فصل في ذلك.. ولمزيد من الإيضاح انظر (نواقض الإيمان القولية والعملية) ص504 وما بعدها..
وقد أتينا على ذكر مجمل لنواقض لا إله إلا الله العملية..
وبالله نستعين، ومنه نستمد التوفيق..
وصلى الله على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
________________________________________
1- تفسير ابن كثير (2/12).
2- مدارج السالكين (1/344).(/5)
3- رواه أحمد والترمذي والطبري ، وهو حديث حسن كما ذكر ذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى. قال أحمد شاكر في تعليقه على تفسير الطبري رقم (16632): غطيف بن أعين الشيباني الجزري أو غصيف وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: ليس بمعروف في الحديث، وضعفه الدارقطني. وأخرجه الطبراني في الكبير (17/92). قال الحافظ في غطيف: ضعيف. التقريب (5399).
4- نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية (صلاح الصاوي) ص19-20.
5- المفردات ص495.
6- مختصر الصواعق المرسلة (2/353).
7- رواه أحمد وأبو داود ، عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وصححه الألباني.
8- اقتضاء الصراط المستقيم (1/237).
9- الشفا (2/1072).
10- من كتاب: (تشبه الخسيس بأهل الخميس) ص21-23.
11- انظر المحلى (2/326).(/6)
نور الدين محمود الملقب بالشهيد تاريخ النشر: السبت 04 أغسطس 2001
مقدمة
معنى الارتباط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
معركة طويلة لا تحل بين عشية وضحاها
رجال يجب أن نقرأ تاريخهم ونتعلم منهم
نور الدين محمود شخصية فريدة
رفع المظالم ونفذ شرع الله
رجل خاف الله فأخاف الله منه كل شيء
ما صنعه في الحياة الإسلامية
اصطحاب نية الجهاد
الجهاد بالمال
مقاطعة إسرائيل
على كل مسلم أن يحمل هم المسجد الأقصى
الخاتمة
مقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصنا بخير كتاب أنزل وأكرمنا بخير نبي أرسل، وأتم علينا النعمة بأعظم منهاج شرع منهاج الإسلام (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا وقائد دربنا محمد عبد الله ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء، على الطريقة الواضحة الغرّاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا، اللهم صل وسلم وبارك على هذا الرسول الكريم، وعلى آله وصحابته وأحينا اللهم على سنته، وأمتنا على ملته واحشرنا في زمرته، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، أما بعد،،،
معنى الارتباط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
فيا أيها الأخوة المسلمون، لا زلنا في رحاب الإسراء والمعراج، ذلك الحدث العظيم الذي ربط الله به بين المسجدين، المسجد الحرام والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، هذا الحدث الذي أراد الله تبارك وتعالى به فيما أراد أن يثبت هذا المعنى الكبير، معنى الارتباط بين المسجدين، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، حتى لا يمكن لهذه الأمة أن تفرط في أحدهما إلا إذا فرط في الآخر، فمن فرط في المسجد الأقصى أوشك أن يفرط في المسجد الحرام، أراد الله تبارك وتعالى لهذه الأرض المباركة أرض النبوات وأرض القدس وفلسطين التي بارك الله فيها للعالمين أن ينتهي إليها الإسراء وأن يبتدئ منها المعراج وأن تكون ملتقى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع النبيين وأن يصلي عليه الصلاة والسلام بهم إماماً ليثبت للناس أن الدين عند الله واحد (إن الدين عند الله الإسلام) وأن الأنبياء جميعاً أخوة دينهم واحد وإن اختلفت شرائعهم (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) وأن الإمامة إنما هي لمحمد صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأن القيادة الدينية انتقلت من أمة إلى أمة، من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، أو إلى الأمة التي أخرجت للناس كل الناس، فليس الإسلام للعرب وحدهم ولكنه للعالمين جميعاً، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، هذا المسجد الأقصى وهذا القدس الشريف وهذه الأرض المباركة تتعرض اليوم لما تتعرض له تتعرض لعدوان هؤلاء الصهاينة الذين لا يخشون خالقاً ولا يرحمون مخلوقاً، الذين وصفهم الله بالقسوة (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ووصفهم الله بالعنصرية وأنهم يستحلون الأمم جميعاً (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ووصفهم الله تعالى بالغدر ونقض المواثيق والعهود (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون)، عرف ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد أن أقام معهم العهود والاتفاقيات نقضوها قبيلة بعد قبيلة، بنو قينقاع ثم بنو النضير ثم بنو قريظة، انضموا للوثنيين من المشركين وقالوا لهم أنتم أهدى سبيلا من محمد،هؤلاء الذين يدعون أنهم أمة التوحيد، فضلوا الوثنيين على دين التوحيد وعلى نبي التوحيد، (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا)
معركة طويلة لا تحل بين عشية وضحاها(/1)
نحن أيها الأخوة في معركة دائمة وطويلة مع اليهود، مشكلة كثير من الناس في عصرنا أنهم يريدون أن يختصروا هذه المعركة، وهي معركة بطبيعتها طويلة الأمد طويلة النفس، الذين ملوا الجهاد والكفاح يريدون أن يصلوا إلى حقهم بالكلام وبالمفاوضات، ولكنهم للأسف ومنذ حاولوا ذلك وإلى اليوم لم يصلوا إلى شيء، لن يصلوا إلا إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، إن السلام الذي يقال هذه الأيام هو سلام إسرائيل، إسرائيل تريد سلامها، تريد أن تأخذ كل شيء ولا تعطي شيئاً، ولا أدري كيف يصدقها هؤلاء الذين يركضون هنا وهناك من مدريد إلى أوسلو إلى واشنطن إلى شرم الشيخ .. إلى .. إلى، وحتى اليوم لم نراهم قبضوا شيئا إلا الريح في أيديهم، إن المعركة أيها الأخوة معركة طويلة لا تحل بين عشية وضحاها، ولا تحل بالاستجداء بأن تستجدي من إسرائيل بأن تعطيك شيئاً، الحقوق لا تستجدى والحريات لا توهب وإنما تؤخذ بالجهاد والكفاح والعرق والدم، هذا ما أثبته التاريخ، ولكن للأسف لم نحسن الاعتبار بالتاريخ، لم نحسن قراءة التاريخ، التاريخ معلم الأمم والأفراد، التاريخ مخزن العبر،التاريخ مدرسة لكل من يريد أن يتعلم
رجال يجب أن نقرأ تاريخهم ونتعلم منهم
ونحن كما ذكرنا من قبل قد ابتلينا بقوم احتلوا هذه المنطقة نفسها،هؤلاء الذين جاءوا من الغرب بقضهم وقضيضهم وثالوثهم وصليبهم في حملات مشهورة مسعورة، يريدون أن ينقذوا قبر المسيح،هؤلاء الذين سماهم علماء المسلمين الفرنجة، كفار الفرنجة جاءوا من الغرب من أوروبا ليحتلوا هذه البلاد وجاءوا أيضاً والمسلمون في غاية من الضعف وفي غاية من الفرقة وفي غاية من التخاذل واستطاعوا أن يدخلوا هذه البلاد وأن يقيموا لهم ممالك وإمارات ظل بعضها مائتا سنة أو تزيد وحالفوا بعض الأمراء في تلك المنطقة ضد إخوانهم من العرب والمسلمين، فهيأ الله رجالاً نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل الله، نذروا أنفسهم لمقاومة هؤلاء الكفار المعتدين، نذروا حياتهم لهذا الأمر، فكان هناك رجال ينبغي أن نقرأ تاريخهم ونتعلم منهم، هؤلاء هم الرجال الذين بعثهم الله للإنقاذ والتحرير، وجاءوا من هناك من أجناس شتى، بعضهم تركي وبعضهم كردي، هؤلاء الرجال أمثال عماد الدين زنكي التركي وابنه نور الدين محمود الذي لقب بالشهيد وتلميذه صلاح الدين يوسف بن أيوب ومن بعدهم الظاهر بيبرس البندقداري القائد المملوكي، هؤلاء هم الذين تولوا تحرير هذه الأرض من الصليبيين أو من الفرنجة وأخرجوهم مدحورين من هذه الديار.(/2)
لابد أن نتعلم من هؤلاء ماذا صنعوا ؟ يكفينا من هؤلاء رجلان اشتهرا في التاريخ، أولهما هو نور الدين محمود بن زنكي وثانيهما صلاح الدين يوسف بن أيوب، محمود بن زنكي أيها الأخوة كثير من المسلمين يجهلونه ولا يعرفون قيمته في التاريخ،يقول ابن الأثير رحمه الله في كتابه الكامل في التاريخ (لم يعرف بعد عمر بن عبدالعزيز أمير كان مثل نور الدين محمود بن زنكي في عدله وتقواه وزهده وشجاعته وحسن سيرته في الناس) بعد عمر بن عبدالعزيز لم يظهر مثله، هذا الرجل الذي ورث الملك عن أبيه، ورث حلب والموصل والشام وبلاد الجزيرة وأراد بعد ذلك أن يضم إليها مصر لأن مصر مهمة إذا انضمت إلى هذه القوة يمكنها أن تفعل شيئاً في حرب الصليبيين، كان هذا الرجل مثالاً للإنسان المسلم التقي العادل المجاهد، وكان يلقب بالملك العادل وهو عادل فعلاً، أول شيء كانت علاقته بربه على أعظم ما يكون، تعلم العلم وقرأ القرآن والحديث والفقه على المذهب الحنفي، ولكنه لم يكن متعصباً لمذهبه، كان يكرم العلماء من كل المذاهب وكان إذا دخل عليه الأمراء هابوه ووقفوا بين يديه قائمين حتى يأذن لهم بالجلوس، ولكن إذا دخل عليه عالم أو فقيه أو رجل صالح من أفقر الناس قام له وهش له وأجلسه بين يديه أو بجواره، هكذا كان هذا الرجل، كان من العلماء في نفسه، كان كثير القراءة للقرآن والتلاوة له، كان الكثير القراءة للكتب الدينية، أراد أن يفقه نفسه إلى تفقهه على مشايخ عصره وعلى علماء عصره، كان من قوام الليل، كان يقوم الليل ويتضرع إلى الله تبارك وتعالى في سجوده أن يكتب له النصر ويسأله الشهادة، وإن لم يرزق هذه الشهادة، عاش طول عمره يتمنى الشهادة ولكنه قال يبدو أني لست أهلاً لهذه الشهادة ولهذا لم يرزقني الله إياها، ومن حبه للشهادة وسؤاله إياها ورغبته فيها لقبه الناس المسلمون نورالدين محمود الشهيد وهو لم يستشهد ولكن لتعلقه بالشهادة سماه الناس الشهيد، وقد جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" روى ذلك مسلم في صحيحه، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، عاش نور الدين محمود وهو رجل خاشع لربه متضرع له خائف منه قائماً لليل،صواماً للنهار وكان يقوم الليل هو وزوجته خاتون، حتى أن امرأته أصبحت مرة فوجدها حزينة آسفة فقال لها ما بالك، قالت غلب علي النوم فلم أقم لليل، فأمر أن تقام طبلخانة (مكان للطبل) تأتي قبل الفجر بنحو ساعة أو بنحو ذلك وتضرب الطبل لمن يريد أن يقوم الليل، هذا ما كان يشغل هذا الرجل ويشغل أهل بيته، كان يقرأ الحديث ويتعلمه على أيدي شيوخ الحديث في زمنه وقد أجيز بعلم الحديث، ففي علم الحديث شيء اسمه الإجازة أن يعطيك عالم الحديث إجازة مثل شهادة بأن من حقك أن تروي الحديث، وفي مرة من المرات روى حديثاً مسلسلاً بالابتسام، ما معنى مسلسل بالابتسام ؟ أي أن راوي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وتبسم، فالصحابي الذي يروي الحديث حينما يروي الحديث يتبسم كما تبسم النبي صلى الله عليه وسلم، أي يروي الحديث قولاً وفعلاً، والتابعي الذي يروي عن الصحابي يقول كذا وتبسم ثم يتبسم هو كما تبسم الصحابي الذي روى عنه، وتابعي التابعي وكل واحد يروي الحديث يبتسم في نهاية الحديث ولما روى نور الدين محمود هذا الحديث لشيخه لم يتبسم فقال له تبسم يا نور الدين حتى تكتمل الرواية قولاً وفعلاً فقال له كيف لي أن أتبسم وثغر من ثغور المسلمين محاصر، كان الصليبيون يحاصرون دمياط فقال له من أين يأتيني الابتسام لا أجد الابتسام على شفتي وثغر من ثغور المسلمين محاصر، انظروا إلى هذه النفسية التي لا تستطيع أن تتبسم في مثل هذا الموقف، لا يجد ابتسامة، إنه مشغول بهموم هذه الأمة، هذا لون من الناس.
نور الدين محمود شخصية فريدة(/3)
كان نور الدين محمود شخصية فريدة، علم نفسه فنون الفروسية، الرماية والقتال والرياضة، وكان يلعب الكرة بالجياد، يركب الجياد ويأخذ الكرة وهي طائرة وأحيانا يلتقطها من الجو وقد لامه بعض العلماء في ذلك كأن هذا نوع من اللعب، فقال له إنما الأعمال بالنيات، نحن قوم مجاهدون ولا نريد أن ننسى الجهاد ولا أن تنسى خيلنا الحركة والمعاناة دائماً فنحن نمرن خيلنا ونمرن أنفسنا حتى لا ننسى، وإنما لكل امرئ ما نوى، كان رجلاً شجاعاً لا يهاب الموت في سبيل الله وكان رجلاً عادلاً، كان يعدل بين الناس، بين الصغير والكبير، أقام مجلساً للعدل وللنظر في المظالم، فتح بابه للناس جميعاً، كل من عنده مظلمة عليه أن يتقدم إلى الأمير أو الملك العادل نورالدين، يجلس مرتين في الأسبوع وقيل أربع وقيل خمس مرات في الأسبوع ليتلقى مظالم الناس على أي واحد من قواده أو أمرائه أو ولاته وقد رأى أن بعضهم لم يصل إليه مظلمة من قبله وهو أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، لم يتقدم أحد يقول أنه ظلمه وذلك أن أسد الدين قال للناس من كان له مظلمة فليأتي إلي ولا يفضحني عند نورالدين لأرفع المظلمة عنه، فلما سأل لماذا لم يتقدم أحد ضد أسد الدين قالوا له أنه قال للناس كذا، فمن كان له مظلمة ذهب إلى أسد الدين فرفع عنه مظلمته، فسجد لله شكراً وقال الحمد لله الذي وفق ولاتي إلى هذا، كان رجلاً حريصاً على إقامة العدل وكان يراقب الله في كل صغيرة وكبيرة وينفذ شرعه ويقول نحن خدم محمد صلى الله عليه وسلم وخدم شرعه، واقترح عليه بعض ولاته أو وزرائه أن يزيد في العقوبة عن الحد الشرعي وقالوا له أن هناك بعض العتاة من المجرمين لا تكفيهم الحدود الشرعية فلابد أن نؤدبهم بأكثر مما جاء في الحدود حتى يرتدعوا، فكتب إليه يقول (سبحان الله كيف تقترح علي مثل هذا كأنك تقول أنني أعلم من الله عز وجل وأن ما نقترحه من عند أنفسنا أعدل من شرع الله عز وجل والله لا أفعل ذلك ولا أتعدى حدود الله أبدا)، وبهذا رأى الرجل أن أي افتئات على الشرع بالزيادة أو النقصان إنما كأنما يفضل الإنسان عقله على علم الله تبارك وتعالى، هذا الرجل العظيم قال له بعض العلماء مثل الشيخ قطب الدين في يوم من الأيام : يا أمير المؤمنين لا تخاطر بنفسك، وقد كان يدخل في الجيش ويحارب ولا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، فقال له : لا تخاطر بنفسك فإنك إن قتلت فسد الحال وضاع المسلمون وضاع الدين إلى آخر ما قال، فقال له اسكت يا قطب الدين، لا تقل هذا الكلام، هذه إساءة أدب مع الله عز وجل، من كان يحرص الدين ومن كان يحمي المسلمين قبل محمود بن زنكي ؟ إن الله عز وجل هو حامي الدين وهو المدافع عن المؤمنين فلو مت أو قتلت لبعث الله من يحمي هذا الدين ويدافع عنه ممن لا نعلم عنه . انظروا إلى هذه الحساسية من هذا الرجل، يقول أنت تسيء الأدب إذا قلت أنك إذا هلكت أو قتلت ضاعت الأمة وضاع الدين، لست أنا الذي أحمي الدين ولست أنا الذي أحمي الأمة، الله هو الحامي وهو المدافع عن الدين وعن الأمة، وكان الخطباء يدعون له في المنابر بألقاب ضخمة (اللهم انصر عبدك نورالدين بن محمود بن زنكي، معز الدين وناصر الدولة ومجد الأمة وكذا وكذا ) فأمر بحذف هذا كله وقال قولوا (اللهم انصر عبدك ابن عبدك محمود بن زنكي وأصلح حاله ولا تزيدوا على ذلك) وبعض العلماء اقترح عليه قالوا هل هناك مانع أن نقول (اللهم انصر عبد الخاضع لهيبتك الراجي لرحمتك المرابط في سبيلك المقاوم لأعداء دينك .. ومثل هذا الكلام) فقال إذا لم يكن فيه كذب فلا باس أما المدائح الكاذبة والمبالغات الزائفة فلا تجوز على المنبر أبداً، هكذا كان هذا الرجل العظيم، هذا الرجل قاوم الصليبيين وأسرهم، أسر منهم من أسر وقتل منهم من قتل، وأسر بعض الملوك يوماً، ثم فاوضه هذا الملك أن يدفع له مبلغاً كبيراً من المال ويفديه وشاور العلماء والوزراء والأمراء من حوله، فبعضهم قال له اقتله وأرح المسلمين من شره، وبعضهم قال له نأخذ المال نتقوى به في الجهاد في سبيل الله، ثم ترجح له أن يقبل الفداء منه ويأخذ المال ليتقوى به في الجهاد وبعد أن أخذ كأنه لام نفسه،فلما ذهب هذا الملك إلى بلاده أدركه الموت وأخذه الله وجاء الخبر إلى نور الدين فقال الحمد لله، كفانا الله شره وأخذنا منه الفدية لمصلحة الجهاد ومصلحة المسلمين.
رفع المظالم ونفذ شرع الله(/4)
كان هذا الرجل يعمل باستمرار على تنفيذ شرع الله وعلى رفع الظلم عن الناس، هذا الفداء الذي أخذه من هذا الملك بنى به (بيماريستان) مستشفى خيرياً كبيراً ومعروف في التاريخ (بيماريستان نورالدين محمود) في دمشق، لم يبن مثله قبله ولا بعده، مستشفى للفقراء والمستضعفين من الناس، يدخل الإنسان فيه يعالج مجاناً ويبقى فيه إلى أن يشفى ويخرج ويهيأ له المأكل والمشرب والدواء وكل الرعاية المطلوبة ولا يدخلها الأغنياء إلا بأجر إلا إذا كان الدواء الذي يحتاج إليه الأغنياء لا يوجد إلا في هذه المستشفى فيسمح لهم بالتداوي به، هذا ما فعله هذا الرجل.
حينما أخذ الغنائم رفع المكوس عن المسلمين، الضرائب التي كانت تؤخذ من الناس، وكان الناس يشكون منها، فرفع عنهم هذه المكوس الجائرة والمبالغة وأعفى الناس منها فدعا الناس له في المشارق والمغارب وقال للعلماء قال لهم : أحلوني من الناس، اطلبوا من الناس أن يحلوني وأن يعفوني مما حدث ومما أخذت منهم قبل ذلك وقولوا لهم أن ما أخذناه منهم والله لم ننفقه إلا في الجهاد في سبيل الله وفي الدفاع عنهم وعن بلادهم وعن أولادهم ونسائهم، فكان العلماء يطلبون ذلك من الناس، يريد الرجل أن يلقى الله وليس في عنقه مظلمة لأحد، وقد طلب من العلماء أن يفتوه بما يحل له من بيت المال، فقالوا له يحل لك كذا وكذا، فكان أحياناً يأخذ هذا القدر فلا يكفيه فيقولون له زد، فيقول والله لا أزيد عما أفتاني به العلماء درهماً ولا ديناراً ويحاول أن يكفي نفسه بهذا القدر القليل ولذلك قالوا كان أقل الفقراء من الناس أعلى منه نفقة، يكتفي بالقليل متقشفاً زاهداً في الدنيا وخزائنها بين الدنيا، وكان له دكاكين اشتراها في حمص من ما يخصه من الغنائم فكان يأخذ منها وكانت تأتي بدخل قليل وطلبته زوجه مرة أن نفقتها قليلة فليزد معاشها أو راتبها أو ما تأخذ، فقال لها : من أين ؟ أتريدين أن أعطيك من بيت مال المسلمين ما لا يحل لك ؟، ثم قال لها أعطيك ثلاث دكاكين تأخذين من غلتها في حمص وهذه الثلاثة دكاكين كانت تأتي في العام بعشرين ديناراً، يعني شيء قليل جداً، فعاش الرجل وعاش أهله في هذا الزهد.
رجل خاف الله فأخاف الله منه كل شيء
مثل هؤلاء هم الذين تنتصر بهم الأمم، هم الذين تنتصر بهم الرسالات، هم الذين تتحقق بهم الغايات، هم الذين ينهزم بهم الأعداء ولذلك كان ذكر نورالدين محمود أمام أعداءه يرعبهم ويقلقهم ويزعجهم ويخافون من ملاقاته إذا لاقوه، لأنه رجل خاف الله فأخاف الله منه كل شيء، كان هذا نور الدين محمود بن زنكي،الذي عاش طول عمره لله وللجهاد في سبيله وللقاء أعداءه ولهذه المعركة التي كرس لها حياته ونذر لها نفسه ونذر لها كل قوته وقوة دولته، هذا هو نور الدين محمود بن زنكي، وهو رجل ينبغي أن ندرس سيرته، ما ذكرته أيها الأخوة ملامح من سيرته مقتطفات
ما صنعه في الحياة الإسلامية
أما سيرة الرجل وما صنعه في الحياة الإسلامية، لقد بنى المدارس التي تعلم الناس، المدارس النورية في كل مكان وخصوصاً في بلاد الشام، مدارس الحديث، أول من بنى مدرسة للحديث هو نور الدين محمود، بنى هذا لأنه لا يمكن أن تقيم الجهاد إلا إذا أصلحت الجبهة الداخلية، إلا إذا أعددت الشعب بالتعليم، هو كان من ناحية يعد الناس للجهاد وينفخ في الشعب من روح الإيمان وينشر العلم والثقافة وينشر العدل بين الناس حتى يكون الناس معك، حتى يقول الناس اللهم انصر فلاناً.
إن كثيراً من حكامنا اليوم يتردد الناس إذا دخلوا معركة أيدعون الله أن ينصرهم أم يدعون الله أن يأخذهم ويريح العباد والبلاد منهم، تتردد ألسنتهم بين الخوف منهم والخوف على بلادهم، أما هذا نورالدين محمود فكان الناس يتمنون أن ينصره الله لأنه إذا انتصر انتصر معه الحق والعدل والخير (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، أقول قولي هذا أيها الأخوة وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم وادعوه يستجب لكم.
اصطحاب نية الجهاد
الحمد لله، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمداً عبدالله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ورضي الله عمن دعا بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين، أما بعد،،،(/5)
فيا أيها الأخوة المسلمون، إن المعركة بيننا وبين بني صهيون الغاصبين المعتدين معركة مستمرة، لا ينبغي أن نلقي فيها السلاح حتى نحرر الأرض المغصوبة ونعيد البلاد المفقودة ونسترد حرية هذه الأمة وكرامتها ولن يكون ذلك إلا بأن يبذل كل إنسان ما يستطيع من نفس ومال، كثيراً ما سألني الشباب المسلم في كل بلد أزوره ما الواجب علينا اليوم ونحن لا نستطيع أن نذهب لتحرير المسجد الأقصى فأقول لهم إن على كل مسلم عدة أشياء، الأمر الأول عليه أن يصطحب نية الجهاد، إذا لم تستطع أن تجاهد فانوي الجهاد بقلبك "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وفي الحديث "من مات ولم يغز ولم ينو الغزو فقد مات ميتة جاهلية" وفي الحديث الآخر "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو فقد مات على شعبة من النفاق"، أقل ما في الأمر أن تحدث نفسك بالغزو وبالجهاد، أن يكون هذا حاضراً بذهنك خاطراً ببالك ليس أمراً منسياً ولا أمراً مهجوراً، حدث نفسك بالجهاد دائماً حتى تتاح لك الفرصة،اصطحب نية الجهاد فإذا أتيحت الفرصة فتقدم وإن لم تتح كتب لك أجر المجاهدين، قد سمعنا الحديث " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه".
الجهاد بالمال
الأمر الثاني، الجهاد بالمال مطلوب من المسلمين،الله تعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) ويقدم المال على النفس،وفي الحديث الصحيح " من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا "، فإذا لم تغز ولم تجاهد ساعد المجاهدين وجهزهم، ادفع لهم ما يستطيعون أن يقاومون به، ولذلك نحن نقول إذا لم تكن حكوماتنا قادرة على الحرب ولا يمكنها أن تعلن الحرب وليس عندها من المؤهلات ما يعدها لذلك على الأقل تدعم المقاومة، يجب أن تستمر المقاومة ويجب أن تستمر الانتفاضة وللانتفاضة شهداء ومجروحون ومعاقون ومعتقلون أشياء كثيرة تحتاج إلى مال، فلابد أن نبذل المال، هناك جمعية الشيخ عيد بن محمد الخيرية في قطر، هذه المؤسسة تقوم مع مثيلاتها بجمع التبرعات لإرسالها إلى هؤلاء الذين يحتاجون إلى النصرة والإغاثة، إغاثة الملهوفين وتفريج كربة المكروبين من أعظم ما دعا إليه الإسلام، فالبذل من المال يجب أن نستمر فيه ولا نتوقف أبداً، مادامت المعركة قائمة فلابد أن نمدها بالمال، إخواننا في الأرض المقدسة يبذلون من دمائهم وأنفسهم فلا أقل من أن ندفع من أموالنا،هم يبذلون الدم، أفلا نبذل نحن قليلاً من المال ؟ .
مقاطعة إسرائيل(/6)
والواجب الثالث علينا أيها الأخوة هو مقاطعة إسرائيل ومن يساند إسرائيل، حرام علينا أن نشتري من بضائع هؤلاء، لا يجوز لمسلم أن يدفع لهم درهماً أو ريالاً أو جنيها أو ديناراً أو أي عملة من العملات، كل عملة من هذه، كل ريال يدفع لهم يتحول إلى رصاصة في صدر أخيك وأختك وابنك وابنتك هناك في فلسطين، أنت إذن بهذا تساعد على قتلهم، فلا يجوز أن تقتل إخوانك، إذا لم تقاتل عنهم فلا تقتلهم،أنت تقتلهم بمالك الذي تشتري به هذه الأشياء، سواء كانت بضائع إسرائيلية أم بضائع أمريكية، ولماذا ؟ أنا أستعجب لهذه العبودية، عبّدنا هؤلاء الناس لأنماط وأذواق أصبحت تمتلك علينا أمرنا، ولم نعد نملك لها شيئاً، أصبحنا مدمنين، هذا الذي يشرب الكوكاكولا والبيبسي كولا وهو هائم، ما هذا ؟ ما هذه العبودية ؟ أأنت أسير أم حر ؟، لماذا لا تركل هذه الأشياء وترفضها، ما الذي يجعلنا نطلب الهامبورجر والبيتزا كأننا أمة أصبحنا لا نملك أن نصنع الطعام لأنفسنا، هذا أمر عجيب، ألا نملك أن نصنع لأنفسنا دجاجة نشويها أو فطيرة نأكلها أو أي شيء من هذا ؟ ولماذا نتعبد بأذواق غيرنا وكل أمة لها أذواقها ولها مأكولاتها ولها مشتهياتها ولها مواريثها في هذه الناحية، لماذا نغير أذواقنا، لندفع الملايين بل المليارات، هذه الأشياء بالجملة أيها الأخوة تكون المليارات، ما نشتريه من أمريكا مما يؤكل ويشرب ويلبس ويركب من السيارات وما يستخدم من أجهزة وآلات يكون في النهاية مليارات وعشرات المليارات ومئات المليارات تدفع للمسلمين هنا وهناك وقد قال أحد الأخوة المسلمين الأمريكان حينما استضافتنا قناة أبو ظبي الفضائية أن الأمريكان يؤيدون اليهود وسيظلون يؤيدونهم لأنهم لن يدفعوا ثمن هذا التأييد، لن يخسروا شيئاً، ما خسروا شيئاً، مع أنه لولا التأييد الأمريكي ولولا المال الأمريكي ولولا السلاح الأمريكي ولولا الفيتو الأمريكي ما قامت إسرائيل ولا صالت وجالت وعربدت في المنطقة دون أن يردها راد أو يصدها صاد، نحن لا نستطيع أن نحارب أمريكا ولكن ألا نستطيع أن نرفض أكل أمريكا وشرب أمريكا، ألا تستطيع أن تقول لا لن أشرب البيبسي ؟ هذه الأشياء دخلت علينا غيرت حياتنا، كان الناس قديماً يشربون العرقسوس والخروب والسوبيا وماء الشعير، أشياء كانت مفيدة للناس حتى دخلت هذه الأشياء، فذهب هؤلاء الناس الذين يصنعون هذه الأشياء وانقطعوا من الحياة فأصبحنا عبيداً لهؤلاء . ما هذا أيها المسلمون ؟، أنا أريد من الأمة أن تقاطع هذه الأشياء بعزيمة وإصرار وقوة وهي قادرة أن تفعل إن شاء الله.
على كل مسلم أن يحمل هم المسجد الأقصى
الأمر الرابع، أن على كل مسلم أن يحمل هذا الهم، يحمل هم المسجد الأقصى وتحرير المسجد الأقصى ولا يستبعد هذا الأمر ولا يقول أنا مالي وماذا أفعل ؟ لا، احمل هذا الهم، من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم، أقل ما ينبغي أن تدعو لإخوانك، ادع لهم في سجودك إذا سجدت وفي خلوتك إذا خلوت وفي سحرك إذا قمت في السحر، ادع الله أن ينصر إخوانك ويعزهم ويذل أعدائهم المعتدين ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الخاتمة(/7)
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصرنا علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى، اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم عليك باليهود المعتدين المجرمين، اللهم عليك باليهود المعتدين المجرمين، اللهم رد عنا كيدهم، وفل حدهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تجعل لهم سبيل على أحد من عبادك المؤمنين، اللهم أنزل عليهم غضبك وأحل بهم سخطك وأنزل عليك بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر أخوتنا المجاهدين في فلسطين، اللهم أيدهم بروح من عندك وأمدهم بملأ من جندك واحرسهم بعينك التي لا تنام واكلأهم في كنفك الذي لا يضام، اللهم افتح لهم فتحاً مبينا، واهدهم سراطاً مستقيماً، وانصرهم نصراً عزيزاً، وأتم عليهم نعمتك، وأنزل في قلوبهم سكينتك وانشر عليهم فضلك ورحمتك، اللهم اجمع كلمة هذه الأمة على الهدى وقلوبها على التقى ونياتها على الجهاد في سبيلك وعزائمها على عمل الخير وخير العمل، اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلط علينا بذنوبك من لا يخافك ولا يرحمنا، وارفع مقتك وغضبك عنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
http://www.qaradawi.net/xml/topics/printArticle.xml?cu_no=2&item_no=1111&version=1&template_id=104&parent_id=15(/8)
نية الإمام الإمامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
مسألتنا التي بين أيدينا هي: هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة؟ بمعنى: هل يلزمه أن ينوي عند قيامه للصلاة أنه إمام، أم أن الواجب عليه أن ينوي أداء الفرض؟
قبل البدء بذكر كلام العلماء في هذه المسألة لا بد من تعريف النية:
النية في اللغة: القصد، قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر. اهـ.
وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله -تعالى-.1
والنية ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها بإجماع العلماء، قال ابن رشد الحفيد: (وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطاً في صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة: أعني من المصالح المحسوسة).2
وقال ابن المنذر: (وأجمعوا على أن الصلاة لا تجزئ إلا بالنية).3
وقال ابن هبيرة: (وأجمعوا على أن النية للصلاة فرض كما قدمنا).4
ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة محدثة.
وأما حكم نية الإمام الإمامة: فقد اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
1. القول الأول: لا يشترط على الإمام أن ينوي الإمامة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية.
أدلتهم: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل في حجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام أناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فحدثوا بذلك، فقام ليلة ثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاث، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال: (إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل). رواه البخاري.
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: نمت عند ميمونة -رضي الله عنها- والنبي -صلى الله عليه وسلم- عندها تلك الليلة، فتوضأ ثم قام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ). رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) فقام رجل فصلى معه.5
ووجه الاستدلال في الحديث الأول: أن الصحابة صلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينوِ إمامتهم، ولم ينكر عليهم، والحديث الثاني: أن ابن عباس قام يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء الصلاة بعدما أحرم، ولم ينكر عليه، فدل ذلك على أن نية الإمام الإمامة غير مشروطة. وأما الحديث الثالث: فهو واضح في الدلالة حيث أن الرجل لم ينوِ الإمامة؛ لأن الذي قام معه قام بعد أن أحرم بالصلاة، والنية لا تكون إلا قبل تكبيرة الإحرام.
2. القول الثاني: لا تشترط نية الإمامة إلا في حال واحدة، وهي إمامة الرجل للنساء، فلا يصح أن يقتدين بالإمام إلا بنية الإمامة لهن، وهو مذهب أبي حنيفة. وعللوا ذلك بتعليل غير صحيح.
3. القول الثالث: وجوب نية الإمام في كل موضع تشترط فيه الجماعة، وقد حددوها في أربعة مواضع: الجمعة، والجمع بين العشائين للمطر، وصلاة الخوف، والاستخلاف. وهو قول المالكية. وعللوا ذلك بتعليل غير سليم من النقد.
4. القول الرابع: تشترط نية الإمامة مطلقاً، وهو مذهب الإمام أحمد وأكثر أصحابه.6 وعللوا ذلك بتعليل منتقد.
والقول الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه الشافعية من أن نية الإمام الإمامة لا تشترط في أي حال من الأحوال، وأدلتهم في ذلك واضحة، وأن الإمام تلزمه نية أداء الفرض كغيره من المصلين. والله أعلم بالصواب.
وإلى هنا نصل إلى ختام هذا الموضوع، وقد عرفنا أقوال العلماء في هذه المسألة التي تهم الإمام، وكذلك المأموم.
نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا الحكمة والقرآن.. والله الموفق.
________________________________________
1- انظر (تيسير العلام) لعبد الله آل بسام (1/23). ط: مكتبة دار الفيحاء 1414هـ.
2- بداية المجتهد (1/120).
3- الإجماع ص36.
4- الإفصاح (1/122).
5- رواه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (1/209). وأخرجه البيهقي وابن خزيمة. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2652).
6- انظر (أحكام الإمامة والائتمام) للمنيف، ص200.(/1)
نية الإمام الإمامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
مسألتنا التي بين أيدينا هي: هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة؟ بمعنى: هل يلزمه أن ينوي عند قيامه للصلاة أنه إمام، أم أن الواجب عليه أن ينوي أداء الفرض؟
قبل البدء بذكر كلام العلماء في هذه المسألة لا بد من تعريف النية:
النية في اللغة: القصد، قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر. اهـ.
وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله -تعالى-.1
والنية ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها بإجماع العلماء، قال ابن رشد الحفيد: (وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطاً في صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة: أعني من المصالح المحسوسة).2
وقال ابن المنذر: (وأجمعوا على أن الصلاة لا تجزئ إلا بالنية).3
وقال ابن هبيرة: (وأجمعوا على أن النية للصلاة فرض كما قدمنا).4
ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة محدثة.
وأما حكم نية الإمام الإمامة: فقد اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
1. القول الأول: لا يشترط على الإمام أن ينوي الإمامة مطلقاً، وهو مذهب الشافعية.
أدلتهم: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل في حجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام أناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فحدثوا بذلك، فقام ليلة ثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاث، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال: (إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل). رواه البخاري.
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: نمت عند ميمونة -رضي الله عنها- والنبي -صلى الله عليه وسلم- عندها تلك الليلة، فتوضأ ثم قام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ). رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) فقام رجل فصلى معه.5
ووجه الاستدلال في الحديث الأول: أن الصحابة صلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينوِ إمامتهم، ولم ينكر عليهم، والحديث الثاني: أن ابن عباس قام يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء الصلاة بعدما أحرم، ولم ينكر عليه، فدل ذلك على أن نية الإمام الإمامة غير مشروطة. وأما الحديث الثالث: فهو واضح في الدلالة حيث أن الرجل لم ينوِ الإمامة؛ لأن الذي قام معه قام بعد أن أحرم بالصلاة، والنية لا تكون إلا قبل تكبيرة الإحرام.
2. القول الثاني: لا تشترط نية الإمامة إلا في حال واحدة، وهي إمامة الرجل للنساء، فلا يصح أن يقتدين بالإمام إلا بنية الإمامة لهن، وهو مذهب أبي حنيفة. وعللوا ذلك بتعليل غير صحيح.
3. القول الثالث: وجوب نية الإمام في كل موضع تشترط فيه الجماعة، وقد حددوها في أربعة مواضع: الجمعة، والجمع بين العشائين للمطر، وصلاة الخوف، والاستخلاف. وهو قول المالكية. وعللوا ذلك بتعليل غير سليم من النقد.
4. القول الرابع: تشترط نية الإمامة مطلقاً، وهو مذهب الإمام أحمد وأكثر أصحابه.6 وعللوا ذلك بتعليل منتقد.
والقول الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه الشافعية من أن نية الإمام الإمامة لا تشترط في أي حال من الأحوال، وأدلتهم في ذلك واضحة، وأن الإمام تلزمه نية أداء الفرض كغيره من المصلين. والله أعلم بالصواب.
وإلى هنا نصل إلى ختام هذا الموضوع، وقد عرفنا أقوال العلماء في هذه المسألة التي تهم الإمام، وكذلك المأموم.
نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا الحكمة والقرآن.. والله الموفق.
_________________
1- انظر (تيسير العلام) لعبد الله آل بسام (1/23). ط: مكتبة دار الفيحاء 1414هـ.
2- بداية المجتهد (1/120).
3- الإجماع ص36.
4- الإفصاح (1/122).
5- رواه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (1/209). وأخرجه البيهقي وابن خزيمة. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2652).
6- انظر (أحكام الإمامة والائتمام) للمنيف، ص200.(/1)
نيران الدنيا " الزنا "
عناصر الموضوع :
1. الزنا إحدى الموبقات
2. ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا
3. الزنا في الإسلام
4. عقوبات الزنا
5. تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا
نيران الدنيا " الزنا ":
إن الله سبحانه وتعالى حرَّم المحرمات وجعلها على مراتب، فجعل منها الصغائر والكبائر الموبقات، وهذه المادة بصدد الحديث عن إحدى هذه الموبقات ألا وهي فاحشة الزنا الذي ذمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأديان والشرائع، وسد جميع الأبواب الموصلة إليها ورتب على ارتكابها العقوبات العديدة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
الزنا إحدى الموبقات:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. الحمد لله الذي أحل لنا النكاح وحرم علينا السفاح، الحمد لله الذي أباح لنا كل ما يصلح حالنا وحرم علينا كل ما يشيننا ويفسد حالنا. أيها الناس: إن الله سبحانه وتعالى حرم المحرمات التي فيها ضرر على العباد سواء كان الضرر في أديانهم أو في أبدانهم أو في نفوسهم أو في أحوالهم عامة، وجعل الله الحرام مراتب، فجعل منه الكبائر التي لا بد لها من التوبة فلا تكفرها الأعمال الصالحة بخلاف الصغائر، فتحتاج هذه الكبائر إلى توبة مخصوصة، وجعل من الكبائر موبقات، فالكبائر كثيرة منها: ما توعد الله عليه بلعنة أو غضب، أو نار أو طرد وإبعاد عنه سبحانه وعن رحمته أو عدم تكليم صاحبه، ومن هذه الكبائر الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه فيها؛ نظراً لكثرة شرها واتساعه، وعموم ضررها وشموله، ومن هذه الموبقات: الزنا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى ومقته وأبغضه، وأمرنا بالابتعاد عنه وعن أسبابه، وقال الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] وهو قبيح عقلاً وشرعا.
ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا:(/1)
قال عثمان رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنا وهو محصن فرجم، أو رجل قتل نفساً بغير نفس، أو رجل ارتد بعد إسلامه) قال عثمان : [فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا قتلت نفساً مسلمة، ولا ارتددت منذ أسلمت] قال ذلك لما حاصره الفجرة الذين أراقوا دمه على المصحف. أيها المسلمون: نفس عثمان وفطرته السليمة تأبى الزنا حتى لما كان في الجاهلية، لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في بيعة النساء المعروفة التي أمره الله بها بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [الممتحنة:12] قال: ولا يزنين، ثم قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيدهن وأرجلهن، وفيه معنى الزنا أيضاً، فوضعت هند بنت عتبة يدها على رأسها، وجاء في رواية أن امرأة قالت: [أوتزني الحرة؟!] مستغربةً لهذا، فالفطرة السليمة تأباه، والنفوس الأبية ترفضه؛ لما انطوى عليه من الشناعة والقبح ومعاني الرذيلة التي اجتمعت فيه، وهو حرام في الأديان والشرائع من قبلنا، هو حرام عند بني إسرائيل، هو حرام في التوراة والإنجيل، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً -يعني: مسود الوجه مجلوداً- فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم -كذبة- فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى -ولم يقل أنشدك بالله الذي أنزل القرآن- أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد نسود وجه الزاني ونجلده فقط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما قال اليهودي جعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، حرفوا دين الله-: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم) فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ .. الآية [المائدة:41] وفيها قول الله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41].
الزنا في الإسلام:(/2)
وفي شريعتنا ذمه الله أشد الذم، وقال الله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] فجعله بعد الشرك والقتل، فليس بعد الكفر أعظم من قتل بغير حق ثم الزنا، وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا، بل قدمه في آية على القتل، فقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * < وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء:32-33] وذلك لأن الزنا يؤدي إلى القتل، ويتبع الزنا في الغالب الرغبة من التخلص من آثاره بقتل الجنين وإزهاق روح ولد الزنا في بطن الزانية أو بعد ولادته، أو إهماله ووضعه في المرحاض أو رميه في الزبالة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطره: (تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي منادٍ: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشَّارا) امرأة جعلت فرجها مصدراً للكسب، زانية تسعى بفرجها، أو عشَّاراً يأخذ الضرائب ظلماً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صورةً كريهةً من صور الزاني: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر) فقير مع ذلك متكبر، والأشيمط الزاني الذي لم يردعه الشيب في شعره، لم يرتدع وقد اشتعل بالشيب رأسه أن يتعدى حدود الله، وأن يظلم نفسه وأن يقع في الفاحشة، مع أن الدواعي لديه أضعف من الشاب وكلهم ملعون، ولكن من كان هذا حاله فكيف يرجى له الخير ولم يفكر في اقتراب أجله ودنو موته، ولم يكن عنده رغبة في التوبة وقد وصل إلى ما وصل إليه في هذه المرحلة من العمر، وقد أعذر الله إلى امرئ بلغ الستين، ولما بلغ نبي الله أربعين: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الأحقاف:15] قال العلماء: تجديد التوبة بعد الأربعين، وعند الستين يتفرغ للعبادة، وهذا أشيمط زانٍ. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه) فهو ليس بمؤمن حين زنا، لا يخرج من الدين بالكلية ولا يكفر، فلا يزال إيمانه متعلق به، لكن يكون كالظلة على رأسه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره) وهذا الزاني الذي يطأ المتزوجة وفيها جنين غيره وربما تكون حاملاً من زوجها فلا يتورع أن يضع ماءه في هذا الرحم المحرم والفرج المحرم، فتختلط الأنساب وتتداخل المياه والعياذ بالله.
عقوبات الزنا :
عقوبات جماعية:
أما عقوبة الزنا فهي جماعية وليست فردية فقط، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) استحقوا العذاب فليرقبوه، فليرقبوا إتيانه فهو قريب منهم إلا أن يحجب عنهم برحمةٍ من الله، وقيام المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر) وبلدان العالم الإسلامي اليوم من أفقر البلدان؛ نظراً لأنها لا تحكم شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك نشأ فيهم الفقر، والفقر متوقع ازدياده فيهم: (ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت) حديث حسن. سبحان الله! ما أصدق هذا الوحي! انظروا في الواقع، واعلموا أن من أعظم أسباب الموت هذه الأمراض الناشئة من الزنا ومن الفاحشة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -ما هي؟- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح. فانظر الآن في الواقع، وقل بلسان الحال: صدق الله ورسوله، وبقلبك صدق ما أخبر الله ونبيه عنه في هذا الوحي وأنت ترى أخبار هذه الأوبئة والأمراض في نشرات الأخبار لعظمها وخطرها، ويقولون: دخلت فيروسات الإيدز في الطور الثالث ونحن لم نكتشف بعد علاجاً للطور الأول، والمرض يزداد تعقيداً ويكتشفون أن بعض الأدوية التي كانت تعطى لمرضى لا تنفع، وهكذا عقاب الله لهذه البشرية الضالة التي تاهت عن أمر الله ورسوله.
عقوبات فردية:(/3)
وقد عاقب الله على الزنا الزاني والزانية بأشنع العقوبات، فجعل المحصن منهما عقوبته أشنع قتلة، رجماً بالحجارة حتى يموت، حتى يجد الألم في جميع الجسد الذي تلذذ بالحرام، يجعل أمام الناس يرجمونه بالحجارة حتى يموت، قال عليه الصلاة والسلام: (وللعاهر الحجر) وإذا كانا غير محصنين زجرهما بإيذاء البدن بأعلى أنواع الجلد، مائة جلدة ردعاً عن المعاودة إلى الاستمتاع المحرم: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] لا تقل ضحية للمجتمع، ولا تقل مسكين غلبته نفسه وشهوته: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور:2] وأضاف إلى ذلك عقوبة التشهير فقال: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] فلا يجوز جلدهما سرا، وأضاف إلى ذلك عقوبة التغريب فأمر بتغريب الزاني سنة، نفيه إلى مكان نظيف آخر يذوق ألم الغربة عن بلده ولعله يبدأ حياة جديدة. وكذلك حرمت الشريعة مناكحة الزناة والزواني، فقال الله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] فلا تجوز مناكحة الزانية من قبل عفيف فهذا حرام، ولا يجوز للعفيفة أن تنكح زانياً فهو حرام، ومن فعل ذلك فإن كان يعلم بطلان العقد فهو زانٍ، وإن قال: لست مقتنعاً بحكم الله فهو مشرك، والغالب أن الزاني لا ينكح إلا زانية مثله، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها، وهذا التحريم نوعٌ من عزل الزناة والزواني عن المجتمع، الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]. ورد الله شهادة الزاني والزانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غمرٍ على أخيه في الإسلام) يعني: حقد على أخيه، لأنه إذا شهد عليه جار عليه، كان تهمة، فرد شهادة الزاني والزانية.
العقوبة في الآخرة:(/4)
وأما في الآخرة وبعد الموت، فقد ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على بناء التنور -الفرن العظيم- أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نارٌ فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا -إذا أتاهم اللهب من أسفل ضوضوا وصاحوا وارتفعوا؛ رفعتهم ألسنة اللهب- فإذا خمدت رجعوا فيها) وهكذا في ارتفاع وانخفاض بألسنة اللهب، والذي يظهر من هذا الحديث أنه في البرزخ كما يتضح من سياقه لكن إذا قامت القيامة ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار في آخر يوم القيامة وختامه، فبعد ذلك لا تتصور ولا تستطيع أن تتخيل عقوبة الزناة والزواني، التنور في البرزخ وبعد ذلك يكون العذاب أشد والعقاب أكثر ألماً، ولا تسل عن عذابهم، وشراب أهل النار عصارة فروج الزناة والزواني. أيها المسلمون: إن الله عاقب هذه البشرية في هذا القرن وفي هذا الزمان على مرأى ومسمع منا ونحن نقرأ أخبار هؤلاء السفلة -ومجتمعات المسلمين تمشي على آثارهم وتقفوا نهجهم في الانحطاط والسفالة- وهم يخرجون الإحصائيات، يموت في فرنسا أكثر من ثلاثين ألف نسمة بالأمراض الجنسية، وفي أمريكا أكثر من ستمائة وخمسين مستشفى خاص لعلاج الأمراض الجنسية، وفي السويد ولد زنا من كل أربعة مواليد، هذه إحصائية عام 1977م والآن نحن بعدها بهذه السنوات الطويلة ستة عشر عاماً كيف حالهم؟ والإحصائيات عندهم موجودة، وبالرغم من تحسن الخدمات الطبية واكتشاف العقاقير والأدوية الأمراض آخذة في الانتشار والازدياد والتعقد إنها عقوبة الله، وقد وجد بين المسلمين كثير من آثار هذه الجريمة. ليعلم الزاني خطر الجريمة وهو يساهم بنشر الأمراض، وبعضها تنتشر إلى الأبرياء، وفي تقارير بعض الأطباء: ليس هناك شك في إمكانية وجود مرض الزهري في ثلاثة أجيال متعاقبة لعائلة واحدة، هذه اللعنة تسري في الأجيال، وكيف لا يأثم وهو ينقله إلى بريء أو بريئة؟ ومشكلة أولاد الحرام وما يظهر من الانحراف؛ لأنهم ينشئون في الغالب دون رعاية، اختلاط الأنساب، إدخال الوبال والعار على العوائل والأسر المحترمة، قتل الأجنة، ومن أكثر الأدوية تصنيعاً في العالم أدوية منع الحمل، ومن أكثر العمليات إجراء في العالم الإجهاض وإسقاط الأجنة، وهذه أحوال دور الرعاية شاهدة على آثار جرائم الزناة والزواني في المجتمع. اللهم سلم سلم، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من كل شر ومكروه، وباعد بيننا وبين الحرام، اللهم طهر قلوبنا وحصن فروجنا وسدد ألسنتنا يا رب العالمين.
تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا :(/5)
أيها المؤمنون: إن الشريعة لما حرمت الزنا حرمت الوسائل المفضية إليه وسدت الذرائع المؤدية إلى طريقه، ولما قال الله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] ما قال: ولا تقعوا في الزنا، أو قال لا تزنوا، وإنما قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] أيضاً نهى عنه وعن قربه، فالقبلة للأجنبية والغمزة والنظرة حرام، النهي عن قربان الزنا وعن قرب الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله، وإن هذه الشريعة جعلت من الأسباب ما يكفل الحياة النظيفة لمتبعيها، لقد شجعت على الزواج وأمرت به وأخبرت بأنه من سنن المرسلين، وأمرت بالتبكير إليه وأعانت على من سعى فيه، وأجازت دفع الزكاة لمن خشي على نفسه العنت وأراد أن يتزوج، وحرمت على الولي أن يتكسب من مال المهر؛ لأنه حق للمرأة الزوجة، وحاربت الشريعة الإسراف في الولائم والمغالاة في المهور، واشترطت الولي سداً لذريعة الزنا ولولا ذلك لقالت أي امرأة لرجل هات اثنين من أصحابك وقل تزوجتك وأقول قبلت، وأمر بإعلان النكاح كي يكون فرقاً بينه وبين السفاح، ولا تكره الفتاة على من لا تريده، لأنها قد تقع في الفاحشة بعد ذلك في جو رجلٍ لا ترضى به، ودعت الشريعة إلى رؤية المخطوبة كي لا يتورط أي من الطرفين في رجل لا يريده، وحرمت نكاح المتعة لأنه مما يشبه الزنا، وحرمت نكاح التحليل كذلك، ومنعت الزواج من الزانية والزاني، ومنعت الزوج من الغياب عن زوجته فترة طويلة لأنه من طرق الزنا، وحدد العلماء فترة للمفقود إذا لم يظهر بعدها اعتدت المرأة أربعة أشهر وعشرا حكم المعتدة من الوفاة، ثم ولي المفقود يطلق وتذهب فتتزوج، وحددت مرات الطلاق بثلاث فلا يستطيع الزوج أن يطلق ويبقيها عنده ويطلق ويبقيها فربما أيضاً وقعت في الفاحشة، فإذا حصل عدم التوافق تفرقا ويغني الله كلاً من سعته، ونهت الشريعة عن التحدث بما يقع بين الرجل وأهله، ونهت عن وصف المرأة المرأة لزوجها فلا يبقى في ذهنه صورة لامرأة تهفو نفسه إليها، فربما يكون من وسائل الوقوع في الفاحشة، وأباحت تعدد الزوجات كذلك، وحرمت الخمر لأنها من مفاتيح الزنا، وحرمت الغناء والمعازف لأن الغناء والمعازف بريد الزنا، ودقق لكلمات الأغاني تجد الدعوة إلى الفاحشة إما علانية أو من وراء ستار خفي، ودعت إلى الصوم إذا لم يجد، وشددت في عقوبة القذف حماية للأعراض وحتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأعلنت عقوبة السفاح، وأمرت المرأة بالقرار في البيت، وأمرت بالاستئذان عند الدخول، وحرمت الخلوة بالأجنبية، وحرمت سفر المرأة بغير محرم، وحرمت على المرأة إبداء الزينة للأجانب والتعطر عندهم، وحرمت كذلك عليها الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وأمرت بغض البصر وعدم جواز لمس المرأة الأجنبية، كل هذه الاحتياطات والإجراءات والتشريعات حماية للأعراض، لأن حماية العرض من مقاصد الشريعة، ومع ذلك هذه المجتمعات المنحرفة اليوم -ومجتمعات المسلمين أعني بالذات- تسير بخلاف ما أمرت به الشريعة، النهج الموجود خلاف ما أمرت به الشريعة، حياة الناس بخلاف ما أمرت به الشريعة، فنحن على العكس كثيرٌ من الناس يغلقون منافذ الخير ويفتحون منافذ الشر، وكل ما أمرت به الشريعة مما سبق يخالفونه، فيؤخرون الزواج ويغالون في المهور ويتهمون الإسلام بالرجعية في تعدد الزوجات، وتخرج نساؤنا إلى الأسواق متعطرات متبرجات، ويخلو السائق بالمرأة، وتسافر المرأة بغير محرم، ويحدث ما يحدث من جميع المنكرات. أغلقنا أبواب الخير المؤدية للطهر والعفاف وفتحنا أبواب الشر، فهذه أفلام ومسلسلات وبث مباشر تحوي الحب والغرام والعشق الموقع في الزنا، وهذه المكالمات الهاتفية كثيراً ما تنتهي بالزنا، وتعطي مفتاح بيتها لهذا الشاب ويأتي بالليل هذا الفاجر إلى بيت أهلها ربما ويحدث، وأخبار المجتمع كثيرة، ومجاورة الفسقة ويزني الجار بحليلة جاره، والنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الخيانة بقوله: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره) فبعد الشرك بالله وقتل ولدك مخافة أن يطعم معك من الكبائر أن تزاني حليلة جارك، ويذهب هذا الرجل في نوبة ليلية في العسكرية أو في غيرها من الشركات ليخونه ذلك الآثم الفاجر مع هذه المرأة التي لم تتربّ على الإسلام ولم تعرف رائحة الطهر والعفاف فتقع المصائب، وعصابات الدعارة والفساد في بعض البلاد بطاقة البغاء رسمية، والقانون يقول: إذا زنيا برضاهما فلا شيء، وفي الأماكن الأخرى شقق الدعارة منتشرة وهؤلاء المطلقات والعوانس والتي هجرها زوجها وبعض الفجرة يفضل الزنا بالمتزوجات؛ لأنه لا يكتشف أمره وأبعد عن المشاكل، والفساد في مدارس البنات والذهاب إلى الأسواق والمستشفيات ثم تركب مع من واعدته والسفر إلى الخارج، ووضع العراقيل في طريق الزواج الشرعي، ثم تأخير الزواج بغير عذر للقادر عليه، وبعد ذلك من حصنه الله كثيرٌ منهم يقع في الفاحشة مع ذلك، قال أحد الفرنسيين وهو بول فيورو : إن عامة(/6)
الشباب يريدون بعقد النكاح عندهم استخدام البغايا أيضاً وذلك أنهم يضلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أو أحراراً طلقاء في أودية الفجور، ثم يجيء عليهم حين من دهر يملون تلك الحياة الشريرة المقلقة فيتزوجون بامرأة بعينها حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته واللذات المحرمة خارج البيت، دقق الآن واسمع من أخبار المجتمع ما تسمع لترى أننا على الطريق سائرون ولنهجهم مقتفون ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة. يا أيها الناس: هذه شريعتكم فما بال العدول عنها؟! أيها المسلمون: يوجد عافية في المجتمع والحمد لله، يوجد أطهار وشرفاء، يوجد أناس عندهم عفة، لكن السكوت عن الجريمة جريمة، والامتناع عن إنكار المنكر جريمة أيضاً، وماذا ننتظر والحرائق بين بيوتنا؟ ماذا ننتظر؟ كيف نتقاعس عن الدعوة إلى الله؟ وكيف نتقاعس عن إنكار المنكر؟ كيف نتقاعس عن نشر الفضيلة؟ كيف نتقاعس عن التوفيق بين النساء والرجال في الزواج والدلالة على الخير وتقليل المهور وتيسير الأمور؟ يا عباد الله! إنها مسئولية والله سائلنا عما حل بالمجتمع، فليقم الأطهار منا بالواجب، وليرجع أولئك الذين يقعون في الفجور عن فجورهم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. وسيقف الزاني والزانية أمام الله بفجوره ونجاساته وأرجاسه وأنجاسه، فيحاسبهم الله على ما عملوا، ثم يكون القصاص العاجل عند رب العالمين، ويكون في البرزخ أفران من النار وفي جهنم نيران جنهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36] وهؤلاء يصطرخون فيها: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] لكن قال الله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه [الأنعام:28] فلا يخرجهم العليم الخبير من النار؛ لأنه لو أخرجهم لعادوا، وقال مصداقاً لهذا في كتابه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه [الأنعام:28] فليرجع إلى الله من وقع في الفاحشة، وليتذكر من وقع ذنبه فيتوب قبل أن يأتي الموت، فالموت قريب والأجل عاجل والله يمهل ولا يهمل، وسيرى عقوبة فعله ربما في أهله وبناته، فليتق الله قبل الفضيحة في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد. اللهم إنا نسألك أن تغنينا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.(/7)
نَشأَة المُجتَمع المُسْلِم وَخَصَائِصُه
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما تمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام .. وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً : هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ، وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق .. ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ، إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق ، أو يشركون مع الله آلهة أخرى : إما في صورة الاعتقاد والعبادة ، وإما في صورة الحاكمية والاتباع ، وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله ، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول ، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد ، ويرتدُّون إلى الجاهلية التي أخرجهم منها ، ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . إما في الاعتقاد والعبادة ، وإما في الاتباع والحاكمية . وإما فيها جميعاً ..
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . إنها تستهدف " الإسلام " .. إسلام العباد لرب العباد ، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، بإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم ، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة .. وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله .. جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ، فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ، فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم ، وصحتهم ومرضهم ، وحياتهم وموتهم ، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ، وهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة ، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري ، وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني .(1)(1)
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر ، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ، والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري .. هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده ، والتي واجهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوته .. هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في " نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها " نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع ، خاضع لقيادة هذا المجتمع ، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته . وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي ، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ، والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في " نظرية " مجردة ، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ، فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية ، ورد الناس إلى الله مرة أخرى ، لا يجوز- ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في " نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي ، فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل
لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية ، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك المجتمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة : " شهادة أن لا إله إلا الله " أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية .. إفراده بها اعتقادًا في الضمير ، وعبادة في الشعائر ، وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله ، لا توجد فعلاً ، ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم .
__________
(1) يراجع بتوسع في هذه النقطة كتاب " مبادئ الإسلام " للسيد أبي الأعلى المودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان .(/1)
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية .. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله ، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها ، ولا في أي جانب من جوانبها ، من عند أنفسهم ، بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه .. وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ، وهو رسول الله . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول : " شهادة أن محمداً رسول الله " .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها .. وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ، يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية في داخل دار الإسلام وخارجها ، في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى .(1)
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في " نظرية " مجردة ، يعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ، ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى " وجود فعلي " للإسلام ، لأن الأفراد " المسلمين نظرياً " الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرون حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية .. سيتحركون - طوعاً أو كرهاً ، بوعي أو بغير وعي - لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده ، وسيدافعون عن كيانه ، وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ، لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا .. أي أن الأفراد " المسلمين نظرياً " سيظلون يقومون " فعلاً " بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون " نظرياً " لإزالته ، وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا بها ويقوى ، وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام ( أي العقيدة ) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى .. لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي ، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه ، وأن يكون محور التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولاءه من التجمع الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت ، سواء كانت في صورة قيادة دينية من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش - وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد ، وفي قيادته المسلمة .
ولم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام ، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ، لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ، له وجود ذاتي مستقل ، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ، وفي الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه ، ويعملون هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي ، تنظم حركتهم وتنسقها ، وتوجههم لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي ، ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام .. هكذا وجد متمثلاً في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي ، مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع .. ولم يوجد قط في صورة " نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي .. وهكذا يمكن أن يٍوجد الإسلام مرة أخرى ، ولا سبيل لإعادة إنشائه في المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وبعد : فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ، ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ، ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز " إنسانية الإنسان " وتقويتها وتمكينها ، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني ، وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه ..
__________
(1) راجع فصل " لا إله إلا الله منهج حياة " .(/2)
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب " الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ، ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه " الصفات " مع الحيوان ومع المادة له " خصائص " تميزه وتفرده ، وتجعل منه كائناً فريداً ، كما اضطر أصحاب " الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعية تلوي أعناقهم ليّاً ، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !(1)
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ، ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة الحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز " خصائص الإنسان " في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة !
وإن صبَّت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ، وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والإندونيسي والأفريقي .. إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما " عربية " إنما كانت دائماً " إسلامية " ، ولم تكن يوماً " قومية " إنما كانت دائماً " عقيدية ".
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة وبآصرة الحب ، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . فبذلوا جميعهم أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق ، وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! ..
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد جمعت بالفعل أجناساً متعددة ، ولغات متعددة ، وألواناً متعددة ، وأمزجة متعددة ولكن هذا كله لم يقم على " آصرة إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة ، لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس
الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي . ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً .. ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها : الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما ، والإمبراطورية الفرنسية .. كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت ! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون ، ولكنها لم تقمه على قاعدة " إنسانية " عامة ، إنما أقامته على القاعدة " الطبقية " . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة " الأشراف " وذلك تجمع على قاعدة طبقة " الصعاليك " ( البروليتريا ) ، والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى ! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن " المطالب الأساسية " للإنسان هي " الطعام والمسكن والجنس " - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . وما يزال متفرداً ..
__________
(1) في مقدمة هؤلاء جوليان هاكسلي من أصحاب " الدارونية الحديثة " .(/3)
والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ، ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق .. وهم الذين يقول الله سبحانه في أمثالهم :
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } [ الكهف : 103- 106 ]
وصدق الله العظيم ..
*******************(/4)
نِعم الله على عباده
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، حمدا يوافي نعمه جل جلاله ويكافئ مزيده والصلاة والسلام على سيد المرسلين المبعوث رحمة للعالمين نعمة من الله تعالى على عباده المؤمنين وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين وبعد :ـ
فإن من عجائب هذا الإنسان ومن طبائعه التي لا تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر أنه إذا أنعم الله تعالى عليه وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ظل غافلا بعيدا قليل الشكر معرضا عمن أنعم عليه إلا من رحم ربي ، وفي مقابل ذلك إذا أصابه ضر أو سوء لجأ إلى الله شاكيا و باكيا متضرعا ومبتهلا حتى يرفع الله عنه ما مسه من ضر فما يلبث أن يعود لسالف عهده من الإعراض والغفلة وبهذا كانت سنة الله ماضية بالبشر وسطرها ربنا في كتابه العزيز فقال تعالى (( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض )) كما أن الإنسان لا يحسب عدد النعم التي أنعمها الله تعالى عليه بكل أحواله وأوضاعه غير أنه شديد الإنتباه وقوي الذاكرة ليحصي الأمور المكروهة له حتى أنه لا يفوت مصيبة أو ضر مسه منذ سنين.
إخوة الإسلام : ينبغي على المسلم أن يكون حريصا على شكر الله على نعمه بعيدا عن الإعتراض على أقدار الله تعالى، فالمسلم الحق لا بد له أن يتميز عن غيره من الناس والعوام الذين لا يحللون ولا يحرمون إلا بالمصائب والنوازل التي تلم بهم .
فلو جاء أحدنا ليحصي النعم التي أنعم الله تعالى بها عليه ماذا سيجد ؟! فهل نعمة أكبر من نعمة الإسلام التي هدانا الله تعالى إليها فأكرمنا بها في الدنيا ونجانا بها في الآخرة ، فكفى بنعمة الإسلام أنها جامعة للقلوب مؤلفة لها ، تفرض على كل مسلم أن يشعر بأخيه بل لا يكتمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يتمناه لنفسه مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) وهذه هي النعمة الني ذكر الله تعالى بها أوائل المسلمين الذين كانوا أعداء متصارعين متناحرين فجمعهم الله على الإسلام ووحد كلمتهم حتى أصبحوا أسياد العالم فقال تعالى ((واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )).
أيها المسلمون : في الوقت الذي يسجد فيه صنف من البشر للبقر وللحجر ويقدسون النار والبهائم والجبال والأصنام , تجد المسلم يرتقي بعقله ويسمو بفكره بنعمة الإسلام فلا طاعة إلا لله تعالى ومن أمر بطاعتهم دون معصيته جل جلاله.
فبالله عليكم أخوة الإسلام أي عز بعد عز الإسلام الذي يجعل العبد الضعيف الفقير والأمي والمتعلم والصغير والكبير كلهم عند الله سواء حاكم أو محكوم رجل أو امرأة شريف أو ضعيف؛ ميزان التفاضل بينهم التقوى فقال تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) فلا يوجد في الإسلام من يدعي الخصوصية بالعلاقة مع الله تعالى حتى يحرم على الناس ما أحل الله لهم أو يحلل لهم المحرمات فلا رهبانية ولا كهنونية بل يستطيع كل مسلم مهما بلغت درجته ، أن يكون وليا من أولياء الله تعالى بتحقيق أمرين اثنين أولهما الإيمان وثانيهما التقوى فقال تعالى (( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون )) فكل مؤمن تقي هو ولي من أولياء الله وليس بحاجة لدرجة أو شهادة من أحد فالعلاقة في الإسلام بين العبد وخالقه مباشرة وموصولة دون وساطة أو تمييز ومن هنا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام (( رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )) .
عباد ا0لله : إن الحديث عن نعمة الله بالإسلام وفضلها يطول ويطول فلا يعلم قدر هذه النعمة إلا الذي فقدها وتاه في دهاليز الذل والظلم والجور وضيق الآخرين فنحمد الله تعالى أن عافانا مما ابتلى به كثيرمن خلقه وأن جعلنا من المسلمين.
أيها المسلمون : كثير من الناس من يحصر نعم الله عليه فقط بالأمور المالية والمادية متجاوزا كثيرا من النعم التي لا يعلم قيمتها فالله سبحانه وتعالى أنعم علينا من النعم التي لا تقيم ولا تقدر فقال جل جلاله (( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ))؛
يحكى أن رجلا جاء يشتكي فقره لأحد العلماء فقال العالم هل تبيع بصرك بمائة ألف فقال لا فقال هل تبيع سمعك بمائة الف قال لا فقال هل تبيع عقلك بمائة ألف فأجاب بلا فقال العالم كيف تشكوا الفقر وأنت تملك مئات الآلاف 0 فلا ينبغي على المسلم أن يكون ممن انطبق عليه قول الله تعالى (( أ فبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون )) أو كما أخبر الله تعالى عن الكافرين فقال (( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون )).(/1)
إخوة الإسلام : في الوقت الذي ينعم فيه كثير من المسلمين بالأمن والأمان يعيش الواحد منهم بين أفراد أسرته في بيته آمنا مطمئنا ثم يشكوا بعد ذلك الضر والضيق أما نظر هؤلاء لحال الكثيرين من أبناء المسلمين أما يرون هؤلاء أخوة لهم في فلسطين مهدمة بيوتهم لا يجدون من يعيلهم لا يكادون يجدون قوت يومهم فالمعيل إما شهيد أو معتقل أو مطارد.
فمَن لهؤلاء المعذبين يشعر بالعناء الذي يعانون أما علم الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا انقطع لحم الضأن أن إخوانهم في كثير من بلاد المسلمين لهم من المصائب وفقدان النعم مالا يعلم شدته إلا الله سبحانه وما حال أهل العراق وأهل أفغانستان وأهل كشمير والشيشان ناهيك عن مصاب أهل فلسطين إلا شاهد وشهيد والله المستعان؛ وهل تقبل لمن علم بحالهم وحال أمثالهم طاعة أو عبادة فضلا أن يشتكي قلة النعم ؛ أما سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (( أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله )) فيا أيها المسلمون إن الاستمرار في خذلان المسلمين والمستضعفين كفيل بأن يزيل نعمة الله تعالى عمن فعل ذلك ؛ واسمع قول الله تعالى (( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) والله سبحانه وتعالى هو الذي قال (( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )) فلا بد لكل مسلم أن يهتم بأمر المسلمين وأن يبحث عن حاجاتهم من موقعه ويذود عنهم من مكانه ويعزز صمودهم بالوسيلة الممكنة وهذا هو الشكر الواجب لنعم الله تعالى الذي أمر به فقال (( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون )) والنبي صلى الله عليه وسلم قال ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) .
عباد الله إن شكر الله تعالى نعمه وعدم الكفر بهذه النعم كفيل بأن ينجّي الناس من العذاب ويدفعه عنهم فقد أخبر الله تعالى بذلك في كتابه فقال (( إنا أرسلنا عليهم صاحبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر)) وخلاف ذلك هو الذي يجلب العذاب والدمار والويلات للأمة التي لا تحسن التعامل مع الله تعالى وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الحكيم فقال (( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )).
اخوة الإسلام : لا بد للعبد الذي أنعم الله تعالى عليه أن يظهر عليه آثار نعمة الله وأن يحدث بذلك دون بطر أو كبرياء فقال تعالى (( وأما بنعمة ربك فحدث)) وقال صلى الله عليه وسلم(( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) وهذا يكون دون إسراف أو تبذير أو مخيلة وهذا كان دعاء الأنبياء والصالحين إلى يوم الدين فهم الذين قال الله تعالى على لسانهم في كتابه (( قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه واصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين )) فالشكر لله تعالى هو الطريق الوحيد لدوام النعم وزيادتها ولكي يعلم الواحد منا مقدار الفضل الذي أفضله الله تعالى عليه لينظر إلى حال المسلمين من حوله وليتتبع معيشتهم ثم ليحمد الله تعالى قولا وفعلا ، قولا بلسانه وفعلا بمساندة إخوانه واسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم (( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )) ولقد كان لنا في سلفنا الصالح عليهم رضوان الله تعالى أفضل الأمثلة فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أخذ يعتق من ضعاف المسلمين بماله حتى لامه أبوه على ذلك وقال له إن كنت فاعلا ولا بد فأعتق الأقوياء وذوي الشأن حتى ينفعوك إن احتجت لمساعدة فما استجاب لقول أبيه لأنه كان يقدم لله تعالى فأنزل الله تعالى فيه قرءانا يتلى إلى يوم القيامة فقال (( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) ومن قبله رسولنا عليه الصلاة والسلام عبد الله حتى تفطرت قدماه فقالت له عائشة يا رسول الله ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال عليه الصلاة والسلام (( أفلا أكون عبدا شكورا )).
عباد الله لنا في رسول الله أسوة حسنة فلينظر كل واحد منا إلى نعم الله عليه ولينظر لمن دونه في الدنيا فليحمد الله ولينظر لمن هو أعلى منه في أمور الدين فليحاول اللحاق به كما قال تعالى (( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )) فعندك أخي في الله من نعم الله ما لا يمكن احصاؤه ولا عده ابتداء من خلقك وتكوينك إلى تسخير الكون لك مرورا بالنعم الأخرى التي على رأسها كما أسلفنا نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة .(/2)
فاجتهد أخي في الله في حياتك واغتنم الفرص التي وفرها الله تعالى لك ولا تكن مغبونا أو مخدوعا فالشباب والصحة والفراغ والقوة والغنى والعمر والطمأنينة والمسكن والملبس وغيرها وغيرها نعم من المنان جل في علاه احمد الله عليها ولا تنس المحرومين منها حتى تعد من الشاكرين الذين يزيدهم الله في الدنيا ويجزيهم بالآخرة فهو الجواد الكريم السميع العليم ولنصغي لنداء الخالق جل جلاله (( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله هو فأنى تؤفكون )).
صدق الله العظيم ونفعنا الله بالقرآن العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/3)
... ... ...
هادم البيوت الطلاق ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- كلمة الطلاق وتعظيم شأنها وأثرها. 2- تكدر المعيشة بين الزوجين فرع عن الثأرة والأنانية. 3- الزواج من ذات يذلل سبل حل المشكلات والمنازعات. 4- تربية الإسلام للزوجة على محبة وطاعة زوجها. 5- الحياة الزوجية لن تخلوا بحال من كدر. 6- دور الإعلام في إفساد الحياة الاجتماعية. 7- قوامة الرجل وحقوق المرأة. 8- أسباب لكثرة الطلاق. 9- نماذج من نساء السلف اللاتي أحسن التبعل لأزواجهن. 10 وصية الله ورسوله بالنساء. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي، فإن أقدامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
عباد الله، يحكي واقع كثير من الناس اليوم، صوراً شتى من اللامبالاة، بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء، لا يلقي لها بالا، ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك،
أن النار بالعيدان تذكى وأن الحرب مبدأها كلام.
أيها الناس، أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولا صُلبا، يهدم به صرح أسر وبيوتات؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادا وجماعات، وتنشئ تزلفا وشفاعات، لرأب ما صدعت وجمع ما فرقت؟ أتدرون أي كلمة هذه؟
إنها كلمة أبكت عيونا، وأجهشت قلوبا، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحا والبسمة غصة، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق؟! كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، فلله كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطعت من أواصر للأرحام والمحبين! يالها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة، يوم تسمع المرأة طلاقها، فتكفكف دموعها، وتودع زوجها! يالها من لحظة تجف فيها المآقي، حين تقف المرأة على باب دارها، لتلقي النظرات الأخيرة، نظرات الوداع على عش الزوجية، المليء بالأيام والذكريات! يا لها من لحظة عصيبة، حين تقتلع السعادة أطنابها، من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
عباد الله، العِشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة في النفس، ليس له في أنواعه ضريب، فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران، فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر، ينتجان بالتقائهما بشرا مثلهما وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72].
إن اختلال العشرة بين الزوجين، يذكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم[1] أوارها[2]، ولو أحب الأزواج أنفسهم حبا صادقا، وسكن بعضهم إلى بعض، لود كل منها الآخر، وود لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة العشيرة للأمة المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف، هو الذي يتكون من مزاج الأمة، فما يكون عليه من اعتدال وكمال، يكون كمالا في بنية الأمة واعتدالا، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال، يكون مرضا للأمة، يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [أخرجه الترمذي بإسناد صحيح][3].
عباد الله، لقد قال المصطفى في الحديث المشهور: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه][4].
هذه هي الزوجة التي يحث الشارع على تحصيلها والرضا بها، ويدعو على من أراد غيرها، وزهد فيها ورغب عنها. ومن المعلوم بداهة؛ أنه لا يرغب في الظفر بذات الدين، إلا من كان قلبه معلقا بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله، فلا غرو أن يرزق المودة بينه وبين زوجه؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة، وعلى العكس من ذلك، المشاكلة في الصفات الرديئة، والسجايا الدنيئة، فهي لا تثمر محبة، ولا تورث توددا.
قال رسول الله : ((خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) [رواه مسلم][5].
إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقدت أنفسهما، فإن كل عقدة من العقد لا تجيء إلا ومعها طريقة حلها ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات، وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة.(/1)
ومن كانت هذه حاله، فلن يستنكف أن يكون ممتثلا لما خوطب به من قول المصطفى : ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [أخرجه الترمذي وهو صحيح][6]. وقوله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه][7].
وثمرة الدين في المرأة يظهر في مثل قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن، لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها).
فما أحمق الرجل يسيء معاشرة امرأته! وما أحمق المرأة تسيء معاملة بعلها.
أيها الناس، الطلاق كلمة، لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة الزوجين إليها، حينما يتعذر العيش تحت ظل واحد، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغا، يصعب معه التودد، فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان، كما اجتمعا بهذا القصد وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النساء:130].
إن الله ـ عز وجل ـ لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان، أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه، وكيف تريد هي منه، أن يحس بقلبها وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
إن النسيم لا يهب عليلا داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها. فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وقال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) [رواه مسلم][8].
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبُ
بيد أن بيوتات كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة والنكد، واكتنفتها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية، فقد تطلق المرأة اليوم، في رطل لحم، علق الرجل به طلاقها إن قامت بشرائه، فيخبط هؤلاء خبط العشواء[9]، ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف[10].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما فقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلة تقهقر عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولى كِبْرَ[11] تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة يقعِّد فيها مفاهيم خاطئة، ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية، حتى وضع الزوجات تاريخهن.
ولرب منظر يشهده ألف امرأة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت بهنّ الخواطر والأفكار، سلبهن القرار والوقار، فمثلنه ألف مرة، بألف طريقة، في ألف حادثة، فلا تعجبوا حينئذ إذا استأسد الحَمَل، واستنوق الجمل! والعجب كل العجب، أنه في ثنايا المناقشة يقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة، إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية، والتسليم بميكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة، تقيه من أن يعي بوبائها.
وحقيقة الأمر أنهم بالذي وضعوا زادت العقد، وإن ما يذكره الإعلاميون، هو التعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، وصدق من قال:
وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج، تسللت إلى الداخل، فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله.
الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرياسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ، بما أودع الله فيه من ذلك. وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها، على منازعة الرجل قوامته، لمن الانحراف الصَّرْف، والضلال المبين.
وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية، ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل.
وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. كما أن قوامة الرجل، لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله ـ عز وجل ـ يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما صار المطلق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيدا، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء. وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبدا رقيقا.(/2)
لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسدة والواشون، فنكسوا الطباع، وعكسوا الأوضاع، وصيروا أسباب المودة والالتئام، عللا للتباغض والانقسام. ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة، بدت سببا مباشرا في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم أو الأخ، أو الأخت، فيحار الزوج من يقدم؟ والديه، الذين عرفاه وليدا، وربياه صغيرا؟ أم زَوْجَهُ التي هجرت أهلها، وفارقت عشها من أجله؟ إن هذه لمُرتَقَيَاتٌ صعبة، أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمرّ من المر.
إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية، لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت؟ فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج. ماذا يكون أثر هؤلاء في البيوت التي تتكون منها الأمة، في الأمة المكونة من البيوتات؟! إنه لا يغيب عن فهم عاقل، أن شرهم مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير.
عباد الله، إن العلاقات الزوجية، عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلا رفيقا، لينا رؤوفا، رحيما بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تحدث عنده لغطا، قال رسول الله : ((إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها)) [رواه أبو داود][12].
وقال : ((إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) [رواه ابن حبان][13].
وبهذا كله، يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين على واجباته، الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيد.
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] تضرم: توقد (القاموس ، مادة ضرم).
[2] الأُوَار: حّر النار (القاموس ، مادة أور).
[3] صحيح ، سنن الترمذي ح (3895) وقال : حسن غريب صحيح ، وأخرجه ابن ماجه ح (1977).
[4] صحيح البخاري ح (5090) ، صحيح مسلم ح (1466).
[5] صحيح مسلم ح (1467).
[6] سنن الترمذي ح (1159) ، كما أخرجه أبو داود ح (2140) ، وابن ماجه ح (1852).
[7] صحيح البخاري ح (5186) ، صحيح مسلم : كتاب الرضاع ح (60).
[8] صحيح مسلم ح (1469).
[9] يقال: خطبه خبط عشواء أي : ركبه على غير بصيرة. والعشواء: الناقة لا تبصر أمامها (القاموس ، مادة عشو).
[10] الحيف: الجور والظلم (مختار الصحاح ، مادة حيف).
[11] كِبْر الشيء: معظمه (مختار الصحاح ، مادة كبر).
[12] سنن أبي داود ح (4870) ولفظه : ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة ...)) وفي إسناده : عمر بن حمزة العمري. قال الذهبي في الميزان . 3/192) : وضعّفه يحيى بن معين والنسائي ، وقال أحمد : أحاديثه مناكير)). وانظر آداب الزفاف للألباني ص 142-143.
[13] صحيح ، صحيح ابن حبان (الإحسان ح 4163). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن أحدنا لتمر عليه فترات، لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها، يتعلل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات؛ ولابد من غض الطرف عن الهفوات والزلات، حتى تستقيم العشرة،
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ولا شيء يخفف أثقال الحياة، وأوزار المتاعب، عن كاهل الزوجين، كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل، والرجل للمرأة؛ فيشعر المصاب منهما بأن له نفسا أخرى، تمده بالقوة، وتشاطره مصيبته.
فهذه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ، كانت له في المحنة قلبا عظيماً، وكانت لنفسه كقول: (نعم)، فكأنما لم تنطق قط (لا)، إلا في الشهادتين، وما زالت ـ رضي الله عنها ـ، تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها، كما تلد الذرية من أحشائها؛ بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) [1].(/3)
وحدث أنس بن مالك ، عن أمه أم سليم، بنت ملحان الأنصارية ـ رضي الله عنهما ـ قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد، مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال أبو طلحة: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلانا، كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحَمِد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح، غدا على رسول الله فلما رآه قال: ((بارك الله لكما في ليلتكما)) [متفق عليه][2].
الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة، في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لكلا الزوجين حقا على الآخر؛ فحقٌ على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلفها من الأمر مالا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلمها، ويؤدبها، ويغار عليها، ويصونها، وألا يتخونها، ولا يلتمس عثراتها، وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه][3].
وسئل : ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: ((تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت)) [رواه أبو داود][4].
ومن حق الزوج على زوجته، أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منزله وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه. قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) [رواه الترمذي والحاكم][5].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] أخرجه البخاري ح (3).
[2] صحيح البخاري ح (5470) ، صحيح مسلم ح (2144) ، وأخرجه أحمد (3/105-106) واللفظ له.
[3] تقدم تخريجه أول الخطبة.
[4] صحيح ، سنن أبي داود ح (2142). وأخرجه أيضاً أحمد (4/447) وابن ماجه ح (1850).
[5] سنن الترمذي ح (1161) وقال : حسن غريب ، ومستدرك الحاكم (4/173) وقال: صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي. ولكن الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال (4/95) يقول عن مساور الحميري : ((مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة ، فيه جهالة ، والخبر منكر)) . وقال ابن حجر في التقريب (6631) : مجهول. وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1426). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
هادم البيوت (الطلاق)
180
الطلاق, قضايا الأسرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- كلمة الطلاق وتعظيم شأنها وأثرها. 2- تكدر المعيشة بين الزوجين فرع عن الثأرة والأنانية. 3- الزواج من ذات يذلل سبل حل المشكلات والمنازعات. 4- تربية الإسلام للزوجة على محبة وطاعة زوجها. 5- الحياة الزوجية لن تخلوا بحال من كدر. 6- دور الإعلام في إفساد الحياة الاجتماعية. 7- قوامة الرجل وحقوق المرأة. 8- أسباب لكثرة الطلاق. 9- نماذج من نساء السلف اللاتي أحسن التبعل لأزواجهن. 10 وصية الله ورسوله بالنساء.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي، فإن أقدامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
عباد الله، يحكي واقع كثير من الناس اليوم، صوراً شتى من اللامبالاة، بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء، لا يلقي لها بالا، ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك،
أن النار بالعيدان تذكى وأن الحرب مبدأها كلام.
أيها الناس، أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولا صُلبا، يهدم به صرح أسر وبيوتات؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادا وجماعات، وتنشئ تزلفا وشفاعات، لرأب ما صدعت وجمع ما فرقت؟ أتدرون أي كلمة هذه؟
إنها كلمة أبكت عيونا، وأجهشت قلوبا، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحا والبسمة غصة، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق؟! كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، فلله كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطعت من أواصر للأرحام والمحبين! يالها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة، يوم تسمع المرأة طلاقها، فتكفكف دموعها، وتودع زوجها! يالها من لحظة تجف فيها المآقي، حين تقف المرأة على باب دارها، لتلقي النظرات الأخيرة، نظرات الوداع على عش الزوجية، المليء بالأيام والذكريات! يا لها من لحظة عصيبة، حين تقتلع السعادة أطنابها، من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
عباد الله، العِشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة في النفس، ليس له في أنواعه ضريب، فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران، فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر، ينتجان بالتقائهما بشرا مثلهما وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72].
إن اختلال العشرة بين الزوجين، يذكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم[1] أوارها[2]، ولو أحب الأزواج أنفسهم حبا صادقا، وسكن بعضهم إلى بعض، لود كل منها الآخر، وود لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة العشيرة للأمة المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف، هو الذي يتكون من مزاج الأمة، فما يكون عليه من اعتدال وكمال، يكون كمالا في بنية الأمة واعتدالا، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال، يكون مرضا للأمة، يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [أخرجه الترمذي بإسناد صحيح][3].
عباد الله، لقد قال المصطفى في الحديث المشهور: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه][4].
هذه هي الزوجة التي يحث الشارع على تحصيلها والرضا بها، ويدعو على من أراد غيرها، وزهد فيها ورغب عنها. ومن المعلوم بداهة؛ أنه لا يرغب في الظفر بذات الدين، إلا من كان قلبه معلقا بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله، فلا غرو أن يرزق المودة بينه وبين زوجه؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة، وعلى العكس من ذلك، المشاكلة في الصفات الرديئة، والسجايا الدنيئة، فهي لا تثمر محبة، ولا تورث توددا.
قال رسول الله : ((خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) [رواه مسلم][5].
إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقدت أنفسهما، فإن كل عقدة من العقد لا تجيء إلا ومعها طريقة حلها ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات، وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة.(/1)
ومن كانت هذه حاله، فلن يستنكف أن يكون ممتثلا لما خوطب به من قول المصطفى : ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [أخرجه الترمذي وهو صحيح][6]. وقوله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه][7].
وثمرة الدين في المرأة يظهر في مثل قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن، لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها).
فما أحمق الرجل يسيء معاشرة امرأته! وما أحمق المرأة تسيء معاملة بعلها.
أيها الناس، الطلاق كلمة، لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة الزوجين إليها، حينما يتعذر العيش تحت ظل واحد، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغا، يصعب معه التودد، فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان، كما اجتمعا بهذا القصد وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النساء:130].
إن الله ـ عز وجل ـ لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان، أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه، وكيف تريد هي منه، أن يحس بقلبها وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
إن النسيم لا يهب عليلا داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها. فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وقال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) [رواه مسلم][8].
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبُ
بيد أن بيوتات كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة والنكد، واكتنفتها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية، فقد تطلق المرأة اليوم، في رطل لحم، علق الرجل به طلاقها إن قامت بشرائه، فيخبط هؤلاء خبط العشواء[9]، ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف[10].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما فقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلة تقهقر عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولى كِبْرَ[11] تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة يقعِّد فيها مفاهيم خاطئة، ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية، حتى وضع الزوجات تاريخهن.
ولرب منظر يشهده ألف امرأة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت بهنّ الخواطر والأفكار، سلبهن القرار والوقار، فمثلنه ألف مرة، بألف طريقة، في ألف حادثة، فلا تعجبوا حينئذ إذا استأسد الحَمَل، واستنوق الجمل! والعجب كل العجب، أنه في ثنايا المناقشة يقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة، إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية، والتسليم بميكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة، تقيه من أن يعي بوبائها.
وحقيقة الأمر أنهم بالذي وضعوا زادت العقد، وإن ما يذكره الإعلاميون، هو التعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، وصدق من قال:
وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج، تسللت إلى الداخل، فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله.
الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرياسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ، بما أودع الله فيه من ذلك. وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها، على منازعة الرجل قوامته، لمن الانحراف الصَّرْف، والضلال المبين.
وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية، ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل.
وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. كما أن قوامة الرجل، لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله ـ عز وجل ـ يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما صار المطلق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيدا، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء. وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبدا رقيقا.(/2)
لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسدة والواشون، فنكسوا الطباع، وعكسوا الأوضاع، وصيروا أسباب المودة والالتئام، عللا للتباغض والانقسام. ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة، بدت سببا مباشرا في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم أو الأخ، أو الأخت، فيحار الزوج من يقدم؟ والديه، الذين عرفاه وليدا، وربياه صغيرا؟ أم زَوْجَهُ التي هجرت أهلها، وفارقت عشها من أجله؟ إن هذه لمُرتَقَيَاتٌ صعبة، أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمرّ من المر.
إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية، لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت؟ فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج. ماذا يكون أثر هؤلاء في البيوت التي تتكون منها الأمة، في الأمة المكونة من البيوتات؟! إنه لا يغيب عن فهم عاقل، أن شرهم مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير.
عباد الله، إن العلاقات الزوجية، عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلا رفيقا، لينا رؤوفا، رحيما بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تحدث عنده لغطا، قال رسول الله : ((إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها)) [رواه أبو داود][12].
وقال : ((إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) [رواه ابن حبان][13].
وبهذا كله، يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين على واجباته، الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيد.
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] تضرم: توقد (القاموس ، مادة ضرم).
[2] الأُوَار: حّر النار (القاموس ، مادة أور).
[3] صحيح ، سنن الترمذي ح (3895) وقال : حسن غريب صحيح ، وأخرجه ابن ماجه ح (1977).
[4] صحيح البخاري ح (5090) ، صحيح مسلم ح (1466).
[5] صحيح مسلم ح (1467).
[6] سنن الترمذي ح (1159) ، كما أخرجه أبو داود ح (2140) ، وابن ماجه ح (1852).
[7] صحيح البخاري ح (5186) ، صحيح مسلم : كتاب الرضاع ح (60).
[8] صحيح مسلم ح (1469).
[9] يقال: خطبه خبط عشواء أي : ركبه على غير بصيرة. والعشواء: الناقة لا تبصر أمامها (القاموس ، مادة عشو).
[10] الحيف: الجور والظلم (مختار الصحاح ، مادة حيف).
[11] كِبْر الشيء: معظمه (مختار الصحاح ، مادة كبر).
[12] سنن أبي داود ح (4870) ولفظه : ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة ...)) وفي إسناده : عمر بن حمزة العمري. قال الذهبي في الميزان . 3/192) : وضعّفه يحيى بن معين والنسائي ، وقال أحمد : أحاديثه مناكير)). وانظر آداب الزفاف للألباني ص 142-143.
[13] صحيح ، صحيح ابن حبان (الإحسان ح 4163).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن أحدنا لتمر عليه فترات، لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها، يتعلل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات؛ ولابد من غض الطرف عن الهفوات والزلات، حتى تستقيم العشرة،
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ولا شيء يخفف أثقال الحياة، وأوزار المتاعب، عن كاهل الزوجين، كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل، والرجل للمرأة؛ فيشعر المصاب منهما بأن له نفسا أخرى، تمده بالقوة، وتشاطره مصيبته.
فهذه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ، كانت له في المحنة قلبا عظيماً، وكانت لنفسه كقول: (نعم)، فكأنما لم تنطق قط (لا)، إلا في الشهادتين، وما زالت ـ رضي الله عنها ـ، تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها، كما تلد الذرية من أحشائها؛ بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) [1].(/3)
وحدث أنس بن مالك ، عن أمه أم سليم، بنت ملحان الأنصارية ـ رضي الله عنهما ـ قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد، مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال أبو طلحة: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلانا، كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحَمِد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح، غدا على رسول الله فلما رآه قال: ((بارك الله لكما في ليلتكما)) [متفق عليه][2].
الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة، في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لكلا الزوجين حقا على الآخر؛ فحقٌ على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلفها من الأمر مالا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلمها، ويؤدبها، ويغار عليها، ويصونها، وألا يتخونها، ولا يلتمس عثراتها، وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه][3].
وسئل : ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: ((تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت)) [رواه أبو داود][4].
ومن حق الزوج على زوجته، أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منزله وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه. قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) [رواه الترمذي والحاكم][5].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] أخرجه البخاري ح (3).
[2] صحيح البخاري ح (5470) ، صحيح مسلم ح (2144) ، وأخرجه أحمد (3/105-106) واللفظ له.
[3] تقدم تخريجه أول الخطبة.
[4] صحيح ، سنن أبي داود ح (2142). وأخرجه أيضاً أحمد (4/447) وابن ماجه ح (1850).
[5] سنن الترمذي ح (1161) وقال : حسن غريب ، ومستدرك الحاكم (4/173) وقال: صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي. ولكن الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال (4/95) يقول عن مساور الحميري : ((مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة ، فيه جهالة ، والخبر منكر)) . وقال ابن حجر في التقريب (6631) : مجهول. وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1426).(/4)
هجوت محمدا فأجبت عنه
سليمان بن أحمد بن عبد العزيز الدويش
الحمد لله الذي جعل عداوة الكافرين من صلب الدين، وجعل موالاتهم من الخلل المبين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحيما بالمؤمنين عزيزا على الكافرين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد قال حسان - رضي الله عنه -:
هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفءٍ *** فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برّا حنيفا *** رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
أيها الفضلاء
لن أستحثكم على المقاطعة ولا على غيرها مما يتكاثر تداوله عبر الرسائل اليوم إبان الحملة القذرة التي تبنتها بعض وسائل الإعلام الكافرة في بلاد الغرب.
ولن أطالب الحكومات ولا غيرها ممن تحملوا أمانة المسلمين لأن ينهضوا للذبِّ عن عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
لكني سأقف هنا موبخا لنفسي أولاً ولمن يقرأ كلامي من المسلمين ثانيا فأقول:
نحن أمة جعلنا الله من أهل هذا الدين، وشرفنا بإنزال كلامه المبين، وببعثة سيد المرسلين، بل وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، ووسطا بينهم وشهودا عليهم، وجعل ديننا خير الأديان، ونبينا خاتم الأنبياء، وأخبرنا جل في علاه أنه لن يقبل من أحد دينا سوى الإسلام بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
مع هذه الكرامات كلها وتلك المزايا وغيرها مما لم أذكره وهو كثير نجدنا نحن المسلمين أقل اهتماما بديننا وغيرة عليه وحماسا له من إخوان القردة والخنازير الذين لعنهم الله في كتابه وعلى ألسن أنبيائه ورسله والذين لو تحدث أحد في شرق الأرض أو غربها عن عقائدهم الفاسدة ومقدساتهم الباطلة وكتبهم المحرفة لأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم واعتبروه (عدوا للسامية) وأثاروا عليه الأرض بغبارها وأكدارها حتى يُضطروه للتراجع عن قوله والانحناء لهم صاغرا.
لقد تدخلوا في تغيير سياسات دول ومصير حكومات تحت تلك الراية (معاداة السامية) ومثلهم في حماسهم لباطلهم الرافضة الأرجاس والهندوس وغيرهم من ملل الكفر ونحله الباطلة.
أما نحن فلا زلنا نتناقش في مسألة المقاطعة ومدى تأثيرها ومن سيتضرر بها هل هو المصدِّر أم التاجر في بلادنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
لقد اعتدي على أشرف كلام وأصدق حديث وأفخر فخر نفتخر به وهو كلام رب العالمين وكتابه فما ازدادت مبيعات الكفار عندنا إلا رواجا وما تأثر اقتصادهم إلا إيجابا.
وهاهم يعتدون على أشرف رجل في تأريخنا والذي حبه من ديننا، ويجب أن يتقدم حبَّ النفس والنفيس، والمال والعيال، والولد والبلد، وكل حطام الدنيا وحض النفس، ونحن ننتظر وكأنه ليس فينا غيرة اليهود على ساميتهم ولا الهندوس على وثنيتهم ولا الرافضة على خرافتهم.
أبغوني أشرف من كتاب الله وأصدق فندافع عنه إذا أهين؟!!!!!!!!!!!
دلوني على خير من محمد - صلى الله عليه وسلم - فننتصر لعرضه إذا أوذي؟!!!!!!!!!!!!!!!!!
متى سنغار وقد بال الكفار على كرامتنا؟
متى سنثأر وقد تغوطوا فوق عزتنا؟!!!!!!!!!
أليس فينا حس إيماني، ونور نوراني؟
من سينتصر ونحن من بُعث النبي فيه وأنزل الكتاب عليه وزف الإسلام إليه؟
أننتظر ملائكة من السماء لتنصر دين الله؟ إذن فما قيمتنا في الأرض ونحن ننتسب لهذا الدين؟.
يا أمة المليار
أنتم وأنا واحد منكم صفر شمالي لا يؤثر في الأعداد وقد تغلَّب على نخوتنا بنخوته لدينه وغيرته على عقيدته من لا يقارن بنا عددا ولا عُددا بل وفاقنا بالدهاء فجعل العالم كله تبعا له ويسير بهواه ورغبته.
نحن لازلنا ننتظر صلاحا والمعتصم ونبحث عن هارون الرشيد وكأن مليار مسلم ونيِّف ليس فيهم من يعرف الله مثلما عرفوه ولا من يغار على دينه مثل ما غاروا عليه فرحمهم الله لما بذلوا وعفا عنا لما قصرنا وتهاونا.
لن تنصر هذه الأمة طالما أنها لم تنصر دين الله - تعالى -.
فهل لنا من عودة صادقة لهذا الدين وتصحيح المسار؟
أليس من رجعة وتوبة وتسليم للشرع؟
إن هذه الأزمات المتكررة والصفعات الموجعة أفادتني قناعة في أمور:
1 = أن الكافر عدو لا يجوز الوثوق به وأن عداوته أصلية لا تنفك كما أخبر الله - تعالى - (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) وإلا فمن كان يظن أن دولة الدنمارك أو النرويج أو غيرها من أحقر الدول سيتناول ثوابتنا ورموزنا بالإهانة والتجريح رغم أنها دول لم يردها من المسلمين عداوة أو استهداف، إلا أنها عداوات الكفار المتغلغلة في سويداء قلوبهم عليهم لعائن الله تترى.
2 = أن الكافر لا تجوز مهادنته ومداهنته عقائديا وذلك بمثل تسميته بالآخر ترقيقا لمبدأ الولاء والبراء، وأن تلك الدعوات التي تثار بين الفينة والأخرى كـ (نحن والآخر) دعوات سمجة باطلة ليس لها حظ في شريعة رب العالمين.
3 = أننا بحاجة ماسة وعاجلة إلى التصحيح لأننا نعيش خللا كبيرا في ارتباطنا بديننا وانتمائنا له، وأن غيرتنا على ثوابته ومسلماته ورموزه دون المستوى بكثير.(/1)
4 = أن الإعلام له تأثير المخدر في المريض المنهك، ذلك أنه أقنعنا أن السخرية برسولنا - صلى الله عليه وسلم - بشخصه هي الخطر الداهم والشر القريب ـ هذا في حال حديثه عنه ـ وأعمانا عن الحديث عن السخرية بسنته وهديه وشريعته - صلى الله عليه وسلم - والتي لا يزال إلى اللحظة يمارسها الإعلام بلا وجل أو خجل.
5 = أنه يتفق في الهدف والنظرة كافر الشرق وكافر الغرب فكلهم يسخر من كلام ربنا ومن رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فذاك يرسمه بكاركاتير وهذا يشبهه بالشيطان وذاك يتبول على المصحف وهذا يعتبره أفيونا للعقول.
6 = الإيمان العميق بحديث (ولكنكم غثاء كغثاء السيل) وأن العدد ليس بمقياس في التأثير بل الحكمة والحنكة والدهاء، فنحن مليار ونيّف ومع هذا عجزنا عن فعل شيء، في حين أن اليهود عدة ملايين متفرقين في غرب الأرض وشرقها يديرون عالمنا بأحابيلهم وألاعيبهم وخداعهم فلعنة الله عليهم ومن أعانهم.
7 = انكشاف الازدواجية في المعايير عند الكفار فما يريدونه يجعلونه في قالب الحرية ومالا يريدونه يجعلونه في قالب مخالفة الديمقراطية ويدرجونه تحت بند الإرهاب العريض ويمنحونه طابع التهديد للأمن القومي.
8 = أن التدخل في السياسات أمر لا يحقُّ إلا لطائفة دون غيرها فالغرب مثلا أجبر تركيا على تغيير نظام حكمه ليتمشى مع رغبتهم واضطره إلى الركوع لهم في كل شيء في حين أنهم لو طالبتهم بأيسر الأشياء لاعتبروا ذلك تدخلا في الحريات وغيرها فلعنة الله عليهم من كفرة لا يرضون بأقل من أن ننسلخ عن ديننا (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
9 = السطحية في التفكير عند بعض المسلمين حين حاول التفريق بين تصرف الصحيفة والموقف الرسمي المعلن للحكومة وأن الحكومة ليس بمقدورها الضغط على تلك الصحيفة ومنعها، متناسين أو متجاهلين أن الغرب الكافر نفسه هو من حاكم الصحفي تيسير علوني بسبق صحفي أجراه، واتهمه بتأييد القاعدة، فأين الحرية الإعلامية المزعومة؟.
ومتناسين أن الصحيفة التي أساءت لنبينا أو غيرها من الصحف التي تمسُّ ثوابتنا لا تستطيع أن تمجد زعيم تنظيم القاعدة وتوجد له المبررات لغزو بلاد الغرب واستهداف مصالحه.
نعم لدى الغرب نوعا من الحرية في الإعلام ولكنه يملك قدرا لا يستهان به من الخديعة والنفاق السياسي.
ونحن يجب أن نكون أكثر عمقا وأن نعرف أن الغرب يضغط علينا إعلاميا وسياسيا و لا يحتمل أي مقال أو إشارات أو عبارات إعلامية نؤيد فيها استهداف مصالحه، و لو رأى منا ذلك لاستخدم كل وسائله المتاحة كالإعلامية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية للجمنا وتكميمنا.
لماذا لم يسكت عن حرية أبي حمزة المصري مثلا وهو لا يحمل سلاحا ولا يدير معركة إنما يتكلم بلسان في جسد مشلول؟
لماذا لم يغضّ الطرف عن مصور قناة الجزيرة والمسجون في سجون قوانتنامو؟
إن محاولة التفريق بين المواقف السياسية وبين الحرية الصحفية خدعة كبرى لمحاولة النأي بالحكومات الإسلامية على ضعفها عن الدخول في هذه الأزمة.
10 = الإيمان بحقيقة وجود الطوابير الخفية على حد قول الله - تعالى - (وفيكم سماعون لهم) وهذه الطوابير هي من يحاول ثني المسلم عن الضغط على الكافر بأي وسيلة متاحة نصرة لدينه وعقيدته.
11 = أن الغيرة على الدين منحة ربانية يكرم بها من يشاء من عباده وأنها ليست خاصة بقوم دون غيرهم وأن الله - تعالى -قادر على سلبها من أقوام حين تخمد ليكرم بها غيرهم على حد قوله جل شأنه (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) وقوله - سبحانه - (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ولهذا فمن واجبنا لنحافظ على هذه الكرامة أن نكون عالميين في دعوتنا ورسالتنا وأن ننهض لقضايا أمتنا وأن لا نلتفت للسماعين لعدونا بيننا وأن نكون يدا واحدة ضده وأن نترك خلافاتنا الجانبية جانبا، وإلا فالبديل جاهز موجود ومن خلقنا فقد خلق غيرنا. (يخلق ما يشاء ويختار).
12 = نجاح العدو في مخططاته لتمييع غيرة المسلمين حتى أشغلهم بقضايا تافهة وأنساهم أساسياتهم وثوابتهم، وفتح عليهم مزيدا من الخلافات التي عصفت بهم فلا يدرون أي باب يرد إليهم من خلاله البلاء، فتارة تنبعث رائحة حقوق المرأة، ومرة قضية الأقليات، وحينا الحريات وهلم جرا، وصار هو يمارس دور الموجه المتحكم ويختار ما يشاء من الأهداف لقصفه.
13 = أن العدو يتأثر بتكاتفنا واتحادنا ولهذا سعى جهده لإشغالنا عنه بقضايانا الخلافية المناطقية و المذهبية ولو أننا فوتنا عليه هذه الفرصة لارتعدت فرائصه ولكننا وللأسف الشديد خدمناه في هذا أيما خدمة.
14 = أن الأمة بحاجة إلى توجيه وقيادة تمسك بزمامها وتوجهها التوجيه الصحيح مقدمة السياسات الشرعية على سياسة المصالح الذاتية وتثبيت دعائم الحكم ولو على خراب الديار وانتشار الفساد والعار.(/2)
تلك هي بعض الفوائد التي استفدتها من هذه الأزمة وغيرها، وإن كنت أعلم سلفا أن من الناس من سيقول لقد أجدت جلد الذات وأكثرت اللوم وبالغت في التشاؤم.
والحقيقة أنني أعلم ذلك جيدا وقد قدمت قبل أن خطابي هذا خطاب توبيخ وتقريع وهو لايشمل حتما من ثار لدينه وثأر، ولا من بذل ماله ونفسه في كل ثغر، بل هو للقاعدين أمثالي ممن ابتليت الأمة بهم عددا دون فائدة، فالله المستعان.
فأسأل الله أن يصلح أحوالنا وأن يردنا إليه ردا جميلا.
أيها الفضلاء
إن تقليب المواجع وتأنيب الضمير ومنهج التبكيت والتوبيخ منهج يبعث على شحذ الهمم، وإيقاظ النفس من سبات الغفلة وفيه إبراء للذمة، وإقامة للحجة، ولهذا فعلينا نحن المسلمين حين يقرع مسامعنا شيء من هذا أن ننتفض لله - تعالى -كما انتفض غيرنا ممن أهمهم شأن أمتهم فنقوم ولا نقعد حتى يقضي الله لنا في أمرنا أمرا ويعلم منا صدقا.
إن منهج التقريع فيه قرع لأبواب القلوب لاستثارتها وإشعال لنار الغيرة لإنارتها.
إنه منهج رغم قوة سياطه وحرارتها، وغلظ ألفاظه وقسوتها، إلا أنه ربما يكون أنجع بكثير من أسلوب الثناء المخدِّر الذي أصابنا بتخمة الكماليات وكأننا أهل الله وخاصته فصرنا نظن أننا حملة الدين وحماته في حين أننا قاعدون لم يستفد منا الدين إلا أعدادا.
منهج التوبيخ والمقارنات يجعلنا ننظر لحظِّنا من ديننا وحظه منا، لاسيما ونحن على دين الحق وعقيدة الصدق، في حين أن مواقف أهل الباطل والزيف والزيغ فاقت مواقفنا نصرة لزيغهم وزيفهم وفسادهم بما لا تصح معه المقارنة وللأسف الشديد.
هذا ما بعثني على التوبيخ والتقريع مؤملا أن يكون له أثر فاعل، فجزى الله خيرا الكاتب والقارئ والناقل.
وهذه أبيات كتبتها للتذكير حيال هذا الموضوع وغيره وفيها قلت:
أترى ستنفعُ في القلوبِ عظاتُ؟ *** أم هل ستحسم أمرنا العبرات؟
أم سوف يرفعنا من الذل الذي *** عشنا به التنديد والآهات؟
الأرض منا قد علتها تخمة *** أعدادنا ضاقت بها الجنبات
يا ألف مليون وخمس مئينها *** ولهم بكل فجاجها أنَّات
يا ألف مليون غثاءٌ كلهم *** متشتتون مع الشتات سبات
موتى إذا عبث العدو بدينهم *** أحياء هم لكنهم أموات
وتراهمُ عند الحطام ضياغما *** وكأنها في فتكها الحيات
الذل فيهم ضاربٌ أطنابه *** وله بهم يا ويحه صولات
والوهن شاه الوهن بئس ضجيعهم *** من بطشه يتعذر الإفلات
هم ألف مليون ولكن ليت لي *** من كل ألف واحد إن فاتوا
يا ألف مليون تسنّم ظهره *** الأوغاد والأنذال والعاهات
حتَّام ترضون الدناءة والردى؟ *** وإلام َ هذا الذل والإخبات؟
لا خير في عيش بغير كرامة *** لا خير في دنيا بها أقتات
شمخت فراخ البغي فوق رؤوسنا *** ولهم بوسط جباهنا بصمات
سخروا من القرآن أي مهانة *** خير لحرٍ دون ذاك ممات
بل صوّروا المختار أقبح صورة *** أوّاه مما ضمّت الصفحات
جعلوه رمزا للتخلف والردى *** شتموه حتى بُحَّتِ الأصوات
وعلى بني الإسلام صَبُّوا حقدهم *** غَزَوُا البلاد وهددوا بالناتو
والمسلمون عن المكائد غُيبوا *** الدين يجمعهم وهم أشتات
وحِمَاهُمُ كلأٌ مباحٌ للعدا *** وكأن حق حماهمُ اللعنات
جالَ العدو به وصالَ ولم يجد *** إلا الهوى والتيه والقنوات
بالأمس أفغان الكرامة دُمّرت *** واليوم بغداد لنا وفرات
يا أمة الإسلام هل من عودة *** عجلى فما فوق الرفات رفات
هبوا فدين الله خير تجارة *** أما الحطام فما عليه فوات
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الإثنين 23/12/1426هـ
mamalms@hotmail.com(/3)
هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد أرسل الله-تعالى-رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام – هادياً ومعلماً للناس جميعاً، ولا يحصل إسلامٌ صحيح للعبد إلا باتباع ما جاء به في كل صغيرة وكبيرة، فاتباع النبي - صلى الله عليه وسلم – أحد ركائز دين الإسلام وأساسياته، ومن أعظم مسلَّمات الشريعة والأمور المعلومة منها بالضرورة، وقد استفاضت النصوص الشرعية في بيان ذلك والتأكيد عليه، ومن ذلك قوله -عز وجل-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} سورة الحشر: 7، وقوله -عز وجل-: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} سورة النساء: 80.
والواجب على المسلم معرفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته واتباعه والاقتداء به، قال -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} سورة الأحزاب: 21. ومن ذلك هديه -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، واتباعه في ذلك ..
أولاً: القصد من الصوم:
قال ابن القيم -رحمه الله-: 1"لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترَك محبوبات النفس، وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌ بين العبد وربه لا يطّلع عليه سواه، والعبادُ قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها, ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة: 183.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصوم جُنَّة2", وأمر من اشتد عليه شهوة النكاح، ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة3.
وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فيه أكمل الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس.
فرض صوم رمضان:
قال "ابن القيم" - رحمه الله -: وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وقد صام تسع رمضانات، وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام، فإنهما يفطران ويُطعمان عن كل يوم مسكيناً.
من هديه - صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان:
وقال – أيضاً-: وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل -عليه السلام- يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن, والصلاة، والذكر والاعتكاف.
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنك تواصل، فيقول: "لست كهيئتكم إني أبيت" – وفي رواية: إني أظَلَّ – عند ربي يطعمني ويسقيني"4, وأيضاً: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم – لما نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم"5 كالمنكِّل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال.. وفي لفظ آخر: "لو مُد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم" أو قال: "إنكم لستم مثلي، فإني أظَلُّ يطعني ربي ويسقيني"6, وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عن الوصال رحمة للأمة، وأذن فيه إلى السَحَر.(/1)
وقال رحمه الله: وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم – أن لا يَدْخُل في صوم رمضان إلا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة. فإن كان ذلك إخباراً فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة، فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة.
فإن لم تكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صامه. ولم يكن يصوم يوم الإغمام، ولا أمر به، بل أمر بأن تكمَّل عدة شعبان ثلاثين إذا غُمَّ، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله، وهذا أمره، ولا يناقض هذا قوله:"فإن غم عليكم فاقدروا له"7, فإن القدر: هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال، كما قال: "فأكملوا العدة" والمراد بالإكمال، إكمال عدة الشهر الذي غم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الشهر ثلاثون، والشهر تسعة وعشرون، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين"8.
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم -، أمرُ الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم، وخروجهم منه بشهادة اثنين.. وكان من هديه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد، أن يفطر، ويأمرهم بالفطر، ويصلي العيد من الغد في وقتها..
وكان - صلى الله عليه وسلم – يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة، أدعى إلى قبوله.
وكان - صلى الله عليه وسلم – يفطر قبل أن يصلي، وكان فطره على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها، فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء.
ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول عند فطره: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل منّا إنك أنت السميع العليم وهو ضعيف9.. وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله"10.
ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد"11.
وأما فيما يخص بتحديد وقت الإفطار فقد قال "ابن القيم"- رحمه الله -: وصح عنه أنه قال: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"12, وفُسِّر بأنه قد أفطر حكماً، وإن لم ينوه، وبأنه قد دخل وقت فطره، كأصبح وأمسى.
ولقد نهى - صلى الله عليه وسلم – الصائم عن الرفث، والصخب والسباب، وجواب السباب فأمره أن يقول لمن سابه: إني صائم، فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهر، وقيل: بقلبه تذكيراً لنفسه بالصوم، وقيل يقوله في الفرض بلسانه، وفي التطوع في نفسه، لأنه أبعد عن الرياء.
وسافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في رمضان، فصام وأفطر، وخيَّر الصحابة بين الأمرين، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقوّوا على قتاله.. فتنبيه الشارع وحكمته، يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، ونبَّه عليها، وصرح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها، ويدل عليه، ما رواه عيسى بن يونس عن شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمرو يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه يوم فتح مكة: "إنه يوم قتال فأفطروا"13. فعلل بالقتال ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال. وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول في الفطر: "هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"14.
وسافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في أعظم الغزوات وأجلِّها في غزاة بدر، وفي غزاة الفتح. قال عمر بن الخطاب: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم – في رمضان غزوتين: يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما. ولم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم – تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء.. وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكان الصحابة ينشئون السفر، فيفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه - صلى الله عليه وسلم -. كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُفرة.. قال: اقترب. قلت: ألستَ ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟15.
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم – أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم.. وكان يُقبِّل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان.. وشبَّه قُبلة الصائم بالمضمضة بالماء.(/2)
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم – إسقاط القضاء عمن أكل أوشرب ناسياً، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه16, فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه، فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه، إذ لا تكليف بفعل النائم ولا بفعل الناسي..
قال أي ابن القيم": والذي صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أن الذي يُفطر به الصائم، الأكل والشرب، والحجامة والقيء، والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب، لا يعرف فيه خلاف ولا يصح عنه في الكحل شيء..
وصح عنه أنه كان يستاك وهو صائم.. وذكر الإمام أحمد عنه، أنه كان يصب الماء على رأسه وهو صائم.. وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم، ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق. ولا يصح أنه احتجم وهو صائم..
وقال إسحاق: قد ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.. والمقصود، أنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه احتجم وهو صائم، ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار ولا آخره، بل قد روي عنه خلافه.
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه اكتحل وهو صائم، وروي عنه أنه خرج عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد، ولا يصح، وروي عنه أنه قال في الإثمد: "ليتقه الصائم"17 ولا يصح18 .
فهذا شيء من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر الكريم، نسأل الله العون على التأسي به، والاقتداء بسنته، صلى الله عليه وسلم..
والحمد لله رب العالمين,,,
________________________________________
1 - زاد المعاد
2- أخرجه البخاري ومسلم.
3- إشارة إلى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فيلتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
4- رواه البخاري ومسلم.
5- رواه البخاري ومسلم.
6 - صحيح مسلم.
7 - رواه البخاري ومسلم.
8- رواه مسلم.
9- الحديث رواه أبو داود وهو ضعيف، انظر ضعيف أبي داود للألباني رقم 510 .
10- رواه أبو داود وهو حديث حسن، انظر صحيح أبي داود للألباني رقم 2066.
11- رواه ابن ماجه وهو حديث ضعيف، انظر ضعيف ابن ماجه للألباني رقم 387. لكن قد صح حديث: ثلاثة لا ترد دعوتهم.. وذكر منهم الصائم حتى يفطر
12- رواه البخاري ومسلم.
13 - رجاله ثقات كما قال محقق زاد المعاد.
14- رواه مسلم والنسائي.
15- رواه أبو داود وأحمد والدارمي وهو حديث صحيح، انظر صحيح أبي داود للألباني رقم 2109.
16- ثبت هذا عنه في البخاري ومسلم.
17 - رواه أبو داود، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود رقم 514.وقال في إرواء الغليل منكر رقم 936.
18- انظر زاد المعاد 2/53.(/3)
هم الآخرة
الخطبة الأولى:
الحمد لله المحمود في عليائه الواحد الماجد الفرد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد الذي أنار الدرب لأوليائه وبصرهم إليه ويسره لهم القائل في كتابه { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } (الضحى:4) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اشد الناس وجلاً من ربه والقائل ( لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيراً و لضحكتم قليلاً و لخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أم بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعدوا لما بعد الموت : ولا تغتروا بسعة حلم الله عليكم في حياتكم، فإن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء.
عباد الله: إن المتأمل في حال الناس يجدهم عند شروعهم في أي عمل لا بد أن يخططوا لهذا العمل ودراسة جادة ذلك بحسب همومهم وبحسب أهمية العمل. فالجميع حريصون على أن يخرجوا بعد هذه الدراسة وهذا التخطيط، وعمله ناجحاًُ بنسبة عالية فيكون هذا الأمر هو همه الأول والأخير و لكن هل خطط أحدنا وقام بدراسة جادة مجدية للآخرة فيكون همه هو نجاحه في الوصول إليها سليماً من البلايا وقد جعل مطيته الدنيا غير مغتراً يزخرفها وبهرجتها إن هذا الهم هو الذي ينبغي أن يكون في قلوبنا جميعاً. فهل فكر أحدٌ مجرد تفكير فقط في هذا الأمر؟ لا... إلا من رحم الله...
أحبتي من منا يُمضي يومه يتذكر فيه مصيره. من منا إذا رأى شيئاً في الدنيا ربطه بآخرتة. من منا إذا تحدث بحديث جعل للآخرة نصيباً منه. من منا إذا فرح، فرح للآخرة. وإذا حزن، حزن للآخرة. وإذا رضي فللآخرة وإذا غضب فللآخرة وجعل كل حركاته وسعيه للآخرة. اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا.
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هاذين الصنفين في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه الألباني عن أنس رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من كان همه الآخرة، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمه ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له ). ووردت رواية أخرى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه فلم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
عباد الله : إن صاحب الهم الأخروي الذي جرد نفسه لله ولم يجعل في قلبه أحد سواه أنعم الله عليه بثلاث نعم ( ونعم الله لا تحصى ) لو يعلم بها أهل الدنيا لجالدوه عليها بالسيوف حتى يأخذوها منه وإليك أخي الكريم أولى هذه النعم.
جمع الشمل والأمر: وهو الاجتماع وكل ما يحيط بالإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه السكينة، والطمأنينة ويجمع عليه أفكاره ويقلل نسيانه، ويجمع عليه أهله، ويزيد من المودة بينهما ويجمع عليه أبناءه، وييسرهم له ويجمع عليه أقربائه، ويبعد عنه الشقاق، ويجمع عليه ماله، فلا يتشتت بتجارة خاسرة، أو تصرف أحمق، ويجمع القلوب عليه بعد أن يكتب له القبول في الأرض، فلا يراه أحد إلا أحبه، ويجمع عليه كل ما يحيط به من أمور الخير جميعها.(/1)
أما النعمة الثانية : والتي يمنها سبحانه وتعالى على صاحب الهم الأخروي هي من أجل النعم ألا وهي نعمة ( غنى القلب ) إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ) قال الإمام المناوي صاحب فيض القدير عند شرح هذا الحديث ( يعني ليس الغنى المحمود ما حصل عن كثرة العرض والمتاع، لأن كثيراً ممن وسع الله عليه لا ينتفع بما أوتي. بل هو ماضي متجرد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه. فكأنه فقير لشدة حرصه فحريص فقير دائماً، ( ولكن الغنى ) المحمود المعتبر عن أهل الكمال ( غنى القلب ) وفي رواية النفس وهو استغناؤها بما قُسم لها، وقناعتها ورضاها به بغير إلحاح في طلب ولا إلحاف في سؤال، ومن كفت نفسه عن المطامع قرت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من كان فقير النفس فإنه يورطه في رذائل الأمور و خسيس الأفعال، لدناءة همته، فيصغر في العيون ويحتقر في النفوس، ويصير أذل من كل ذليل ) أ.هـ أما الغني بالمال، الفقير القلب. فإنه يلهث كما يلهث الوحش بجمع المال وهو يملك الملايين ولكن لأنه غير قانع بما رزقه الله فإنه فقير، فقد اتخذ المال إله من دون الله، فالفقير هو الذي يشعر بانعدام المال عنده، والحاجة الدائمة إليه، اللهم اجعل غنانا في قلوبنا وآخر نعمه يمنها الله على صاحب الهم الأخروي : هي مجيء الدنيا فصاحب هم الآخرة، يهرب من الدنيا وزينتها يخشى فتنتها وزخرفها وهذا لا يعني أن ينقطع عنها ويهرب تهرب الغلاة والضالين. كلا، بل يأخذ منها قدر ما يبلغه إلى الآخرة ومع إعراضه عنها، متبعاً هدي نبيه صلى الله عليه وسلم يقول ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وقوله ( إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم تركها وارتحل ) إلا أنها تأتي إليه ذليلة صاغرة دون جهد وعناء وهو ليس بحاجة إليها لأنه جعل همه الآخرة فكفاه الله هم الدنيا وأتت إليه راغمة وأما الذي كانت الدنيا همه، فلا يفكر إلا فيها ولا يعمل إلا لها ولا يهتم إلا من أجلها، ولا يفرح إلا لها ولا يوالي أو يعادي إلا فيها، فهذا يعاقبه الله بثلاث عقوبات أولها:
تشتت الشمل والأمر: فيفرق الله عليه شمله وأمره فما من شيء كان يحط به إلا مزقه الله عليه. فتراه متشتت البال، والفكر، و مضطرب النفس، كثير القلق على كل أمر مهما كان تافهاً، يفرق عليه ماله فلا يوفق في تجارة أو عمل ويفرق عليه أبناءه وزوجه فيرى عقوقاً دائماً يزيد همه وغمه، ويجد من زوجه تأففاً وتمرداً وشكوى لا تنقطع تجعله يتمنى الخلاص من الدنيا من شدة ما يجد. ويفرق الله الناس عنه فلا يحبه أحد، بعد أن كتب الله له البغضاء في الأرض نسأل الله العافية والسلامة.
العقوبة الثانية التي تصيب صاحب الهم الدنيوي: الفقر اللازم وإن كان غنياً، فيجعله لا يشعر بالقناعة أبداً مهما ملك من المال، يشعر دائماً بالفقر والحاجة، يجعله يجري ويلهث وراء المال كلما ازداد شعوره بالفقر وهذا مما يزيد في تعبه وهمه وقلقه. اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
أما العقوبة الثالثة و الأخيرة: فإنها هروب الدنيا فتجده دوما يطلبها وهي دوماً هاربة منه ويطلبها وهي تبتعد عنه يجري وراءها كما يجري من يحسب السراب ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً فهو يسعى للمنصب والجاه والشهرة والثناء وغيرها فهو يهلك نفسه من أجل ذلك ولا يأتيه من الدنيا غير ما كتب له ولكن ذلك عقوبة من الله له وهذا ما جعل عثمان بن عفان ذو النورين رضي الله عنه يقول فيما روي عنه ( هم الدنيا ظلمة في القلب، وهم الآخرة نور في القلب ). اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله اللطيف المنان الرحيم الرحمن الحمد لله الذي جعل هم المؤمنين في الآخرة منحة منه وفضلاً وجعل هم العابثين اللاهيين في الدنيا حكمة منه وعدلاً سبحانه وهو الرءوف الرحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل في الحديث الحسن الذي ورد عنه ( من جعل الهموم هما واحداً هم المعاد، كفاه الله هم الدنيا، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها هلك ) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد :(/2)
فاتقوا الله عباد الله وأجملوا في الطلب ولا تقعدوا عن الأخذ بالأسباب في أمور حياتكم بحجة الزهد في الدنيا والتعبد لله فإن خير الناس محمد صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس في الدنيا وأكثرهم تعبداً لله تعالى وأشدهم خوفاً له ومع ذلك لم يترك الدنيا كلها بل تزوج النساء وصلى ونام وأكل اللحم وصام وأفطر فلكم فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ولكن المقصود بهذا الحديث الذين غرقوا في الدنيا ونسوا الآخرة الذين يعملون للمال والمنصب والجاه والسلطان والزوجة والأولاد الذين يعقلون عن الله والدار الآخرة تارة ويرجعون تارة فالحديث إليهم أما الذي يحمل الهم الأخروي دوماً قلباً وقالباً إليك بعض صفاتهم :- علموا ما هو دورهم بوضوح ( إصلاح النفس – إصلاح غيرهم – استخدام وسائل الدنيا للوصول للآخرة بسلام) هذه مهمتهم في الدنيا العبادة لله وحده لا شريك له هم يعلمون أن الله يرحم ويغفر ويعفوا إلا أنهم لم يتكلوا على ذلك بل يندموا على كل تفريط وتقصير وذنب يقترفونه في جنب الله مهما صغر لأنهم علموا أن الذي يُعصى هو الله العظيم الجليل جل في علاه وتراهم يحزنون لمصاب المسلمين وما يقع عليهم من ظلم وجور وما يصيبهم من بلاء.إنها نفوس ملئت رحمة ورأفة بسبب هم الآخرة الذي غلب على قلوبهم. ولا يفهم من حزنهم هذا أن يكونوا عابسي الوجوه مقطبي الحواجب كلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتألم لمصاب المسلمين وكان يبكي عليهم ومع ذلك يضحك ويداعب ويحادث الناس ولكن لكل مقام مقال.وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك وبقدر ما تحزن للدنيا بقدر ما يخرج هم الآخرة من قلبك ويصاحب هذا الحزن خوف من الله على المحاسبة يوم القيامة. ومن صفات صاحب الهم الأخروي المحاسبة الدائمة وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر ) فترى صاحب الهم الأخروي دائماً محاسباً لنفسه على كل قول أو فعل وقال الحسن البصري في تفسير قوله تعالى {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} القيامة: 2 : هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أرادت بكلامي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ والفاجر لا يحاسب نفسه وهذا الحزن وتلك المراقبة، لم تكن قيداً يكبلهم في زوايا المساجد أو البيوت يبكون على أنفسهم ويتركون أهل الباطل والضلال دون إصلاح وإنكار لأنفسهم ولمن حولهم كلا بل الحزن الذي في قلوبهم هو المحرك لهذا العمل فيصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم ويصبرون على البلاء والأذى الذي يلاقونه، والمقصود بالعمل الصالح كل عمل يحبه الله تعالى من قول أو فعل ظاهر أو باطن. والصفة البارزة في حياتهم تأثرهم بمشاهد الموتى وحالاتهم فهم بسبب حياة قلوبهم يربطون كل أمر في الدنيا بالآخرة فالموت يذكرهم بدنو الأجل مما يجعلهم يدأبون في العمل للآخرة حتى يقدموا لأنفسهم عملاً صالحاً يرفعهم إلى أعلى الدرجات في الجنات وهذه بعض ابرز صفات أصحاب هم الآخرة، جعلني الله وإياكم منهم وغيرها كثير : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء:20)(/3)
هكذا علمتني الحياة
فضيلة الشيخ : علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
نعوذ بالله منى شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وأبن عبده وأبن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، ففتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان وسلم تسليما كثيرا.
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران102)
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء1)
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جناة ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عن ما في النفس:
والنفس تعرف في عيني محدثها......... إن كان من حزبها أو من أعاديها
عيناك قد دلتا عيني منك على......... أشياء لولاهما ما كنت أدريها
اللهم لا تعذب جمعا التقى فيك ولك، اللهم لا تعذب اللسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب قلوبا تشتاقُ إلى لقائك، اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظرِ إلى وجهك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحسن الظن أخوتي بي إذ دعوني فأجبت الدعوة، وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة، أو كبائع التمر على أهل المدينة، أو كبائع السمك على أهل جده.
لكني اسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيرا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وأن لا يؤاخذني بما تقولون.
يا منزل الآيات والقرآن................ بيني وبينك حرمة الفرقان
إشرح به صدري لمعرفة الهدى......... واعصم به قلبي من الشيطان
يسر به أمري وأقض مآربي ........... وأجر به جسدي من النيران
واحطط به وزري وأخلص نيتي.........واشدد به أزري وأصلح شاني
واقطع به طمعي وشرف همتي ..........كثر به ورعي واحي جناني
أنت الذي صورتني وخلقتني............وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي أطعمتني وسقيتني............ من غير كسب يد ولا دكان
أنت الذي آويتني وحبوتني............. وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة.......... والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسنا.......... وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي............ لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.......... ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي ............وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها............. بخواطري وجوارحي ولساني
هكذا علمتني الحياة:
أي حياة تعلم، وأي حياة تدرس، وأي حياة تربي أيها الأحبة ؟
أهي حياة اللهو واللعب؟
أهي حياة العبث واللعب ؟
أهي حياة الضياع والتيه ؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية، إنها الحياة التي تجعلك متفاعلا مع هذا الكون تتدبر فيه وتتفكر. حياة على الحق نعم الحياة......وبئس الحياة إذا لم نحق
إنها الحياة الحقيقة، حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس.
حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور ومات على نور ولقي الله بنور وعبر الصراط ومعه النور: ) نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ )(النور35)
إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين، عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى.
سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون:
) انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)(الحديد13)
في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: )يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ(/1)
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)(الحديد12)
فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
)أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(الأنعام122)
كلا وألف كلا. )وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ) (فاطر:22)
لا يستوي عاقل كلا وذي سفه....... لا والذي علم الإنسان بالقلم
هل يستوي من على حق تصرفه.... ومن مشى تائها في حال الظلم
لا يستوون أبدا.
أحبتي في الله، الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فأليكم هذه الليلة أزف دروسا علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
أسال الله أن يرزقنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة، والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن سهلا إذا شئت.
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن توحيد الله هو محور الرسالات السماوية:
ومحور حياة الإنسان الحقة، فقيمة الإنسان تظهر عندما يجعل ربه محور حياته، فيستعبد كل ذرة من ذرات جسده، وكل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناته ونفسه لله رب العالمين.
فصلاته لله، ونسكه لله، وحياته لله، وموته لله، وشعاره:
)قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)
وبذلك تتفق وجهة الكون مع وجهة هذا الإنسان، تتفق وجهة الإنسان مع هذا الكون الذي يعيش فيه.
الكون - أيها الأحبة - كله مطيع لله جل وعلا خاضع لسلطان الله، مسبح بحمد الله، فإذا تمرد العبد على ربه أصبح نشازا في هذا الكون، إذا تمرد هذا العبد أصبح شاذا في هذا الكون الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخشوع والخضوع. الكون كله في اتجاه وهو في اتجاه مضاد:
)مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم:44)
خلق الله سوانا كثير وكثيُر وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم، وطاعتك أيها العبد لك، ومعصيتك أيها العبد عليك ولن تضر الله شيئا. في صحيح مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومه إلا نفسه).
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل....... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة............. ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن توحيد الله هو نقطة البداية في حياة المسلم والأمة:
وأن التوحيد هو كذلك نقطة النهاية في حياة المسلم والأمة، من ضل عنه خسر الدنيا والآخرة، فهو أضل من حمار أهله، قلبه لا يفقه، وعينه لا تبصر، وأذنه لا تسمع بهيمة في مسلاخ بشر، حياته ضنك وسعيه مردود، وذنبه غير مغفور:
)إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48)
( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(الحج: الآية31)
) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: الآية72)
نعوذ بالله من النار.
وفي المقابل من ضفر توحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة، وسعد الدنيا والآخرة، فسعيه مشكور وذنبه مغفور وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)
العز في كنف العزيز ومن.......... عبد العبيد أذله الله.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر.(/2)
(وعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خيرن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.
علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه.
فرضي فرضيَ الله عنه، وسعد بدنياه وأخراه، واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم.
في الموقف العظيم يوم يقول الله للناس وهم يدوكون في عرصات القيامة، يقول لأناس من بين الخلائق جميعهم:
ادخلوا الجنة بلا حساب.
فيقولون يا ربنا ويا مولانا قد حاسبت الناس وتركتنا؟
فيقول قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين ادخلوا الجنة.
فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.
في الحديث الصحيح كما في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول:
(ما لي عبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
ويا له من جزاء، ما لا عين رأت ولا أذن سمعة ولا خطر على قلب بشر.
في الحديث الصحيح كما في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول لملائكته:
( قبضتم أبن عبدي المؤمن، قبضتم ثمرة فؤاده –وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة نعم، فيقول وماذا قال –وهو أعلم جل وعلا- قالوا حمدك واسترجع، فيقول الله جل وعلا ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).
) وَبَشِّرِ الصَّابِرِين ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)
فطب نفس إذا حكم القضاء:
ولا تجزع لحادثة الليالي........ فمالي حوادث الدنيا بقاء
ومن نزلت بساحته المنايا....... فلا أرض تقيه ولا سماء
مروا بيزيد أبن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي:
ما فعلت العينان الجميلتان يا أبن هارون ؟
فقال ذهب بهما بكاء الأسحار وإني لأحتسبهما عند الواحد القهار.
فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضاء، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته.
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره......ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
فأحرص على ما ينفعك وأرضى بما قسم الله لك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل.
ولست بمدرك ما فات مني...........بلهف ولا بليت ولا لو أني
علمتني الحياة في ضل العقيدة أنه كما تدينُ تدان، وكما تزرعُ تحصد، والجزاءُ من جنسِ العمل:
) وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف الآية49).
حصادك يوما ما زرعت وإنما............يدان الفتي يوما كما هو دائن
إن زرعتَ خيراً حصدتَ خيراً، وإن زرعتَ شراً حصدتَ مثلَهُ، وإن لم تزرع وأبصرتَ حاصداً ندمتَ على التفريطِ في زمنِ البذرِ.
هاهوَ رجلُ كان له عبد يعملُ في مزرعته، فيقولُ هذا السيد لهذا العبد:
ازرع هذه القطعةَ برا.
وذهبَ وتركه، وكان هذا العبد لبيباً عاقلا، فما كان منه إلا أن زرعَ القطعة شعيراً بدل البر.
ولم يأتي ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده.
فجاء فإذا هي قد زُرعت شعيراً.، فما كان منه إلا أن قال:
أنا قلت لك ازرعها برا، لما زرعتها شعيرا؟
قال رجوت من الشعيرِ أن ينتجَ برا.
قال يا أحمق أفترجو من الشعيرِ أن يُنتجَ برا؟
قال يا سيدي أفتعصي اللهَ وترجُ رحمتَه، أفتعصي اللهَ وترجُ جنتَه.
ذعر وخافَ واندهشَ وتذكرَ أنه إلى اللهِ قادم فقال تبتُ إلى الله وأبت إلى الله، أنت حرٌ لوجه الله.
كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل، ولا يظلمُ ربك أحدا.
)مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل:97)
وفي المقابل:
( فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(القصص:الآية84)
هاهوَ رجلٌ كان له أبُ قد بلغَ من الكبر عتيا، وقام على خدمته زمناً طويلا ثم مله وسئمه منه.
فما كان منه إلا أن أخذه في يومٍ من الأيامِ على ظهر دابةٍ، وخرجَ به إلى الصحراْء.
ويوم وصل إلى الصحراء قال الأبُ لأبنهِ يا بني ماذا تريدُ مني هنا ؟
قال أريدُ أن أذبحَك، لا إله إلا الله ابنٌ يذبحُ أباه.
فقال أهكذا جزاءُ الإحسانِ يا بني.
قال لا بد من ذبحِك فقد أسأمتني وأمللتني.
قال إن كان لابدَ يا بني فاذبحني عند تلكَ الصخرةِ.
قال أبتاه ما ضركَ أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك ؟
قال إن كان الجزاءُ من جنسِ العمل فاذبحني عند تلك الصخرةِ فلقد ذبحتُ أبي هناك.
ولك يا بنيَ مثلُها والجزاءُ من جنسِ العمل، وكما تدينُ تدان، ولا يظلمُ ربكَ أحدا.
علمتني الحياة في ضل العقيدة أن العقيدة قوة عظمى:(/3)
لا يعدلها قوة مادية بشرية أرضية أي كانت هذه القوة والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالمثال يتضح المقال.
هاهي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤته تقابل مؤتي ألف بقلوب ملئها العقيدة.
يقول قائل المسلمين والله ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين.
فسل خالدا كم سيف أندق في يمينه؟
يجبك خالد، اندق في يميني تسعة أسياف.
وسل خالدا ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين ؟
يجب إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.
أنظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف فيهجموا عليهم هجمة واحدة يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لخالد:
يا خالد إلى أين الملجئ، إلى سلمى وأجا.
فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول لا إلى سلمى ولا إلى أجا، ولكن إلى الله الملتجأ.
فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.
بربك هل هذه قوة جسدية في خالد أبن الوليد؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها العقيدة وكفى.
إن العقيدة في قلوب رجالها.............من ذرة أقوى وألف مهند
وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر، صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله، تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وكان أسيرا في يد الصليبيين يوم ذاك. تقول الرسالة:
يا أيها الملك الذي............. لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة............ تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت ...........وأنا على شرفي أنجس.
فينتخي صلاح الدين، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر ويشحذ الهمم قبل ذلك فيمنع المزاح في جيشه ويمنع الضحك في جيشه ويهيأ الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك.
ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بأذن الله إلى حظيرة المسلمين.
ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الأحبة ؟
عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى من تخلى عن مبادئ صلاح الدين، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا ها قد عدنا يا صلاح الدين، ها قد عدنا يا صلاح الدين. وهم ينشدون:
محمد مات خلّف بنات.
فما الحال الآن أيها الأحبة ؟
إن ما يجري هناك تتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى بلسان حاله ليصيح بالأمة المسلمة.
هل من صلاح، هل من عمر ؟ فلا آذن تجيب ولا قلوب تجيب. أواه ......أواه.
إني تذكرتُ والذكرى مؤرقةٌ..............مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أن اتجهت إلى الإسلام في بلد............. تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها................وبات يملكنا شعب ملكناه
استرشدَ الغربُ بالماضي فأرشده...........ونحنُ كان لنا ماضٍ نسيناه
إنا مشينا وراء الغربِ نقبسُ من...........ضيائهِ فأصابتنا شظاياهُ
باللهِ سل خلفَ بحرِ الروم عن عرب....... بالأمسِ كانُ هنا واليومَ قد تاهوا
وانزل دمشقَ وسائل صخرَ مسجِدها......عن منً بناهُ لعل الصخرَ ينعاهُ
هاذِ معالمُ خرسٌ كل واحدة ...............منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ
اللهُ يعلمُ ما قلبتُ سيرَتهم يوماً.............وأخطاءَ دمعُ العينِ مجراهُ
لا درَ درُ إمرءٍ يطري أوائله...............فخراً ويطرقٌ إن سألتُه ما هو
يا من يرى عمراً تكسوه بردتُه.............والزيتُ ادمٌ له والكوخُ مأواهُ
يهتزُ كسرا على كرسِيه فرقاً..............من خوفه وملوكُ الرومَ تخشاه
يا ربي فأبعث لنا من مثلهم نفراً...........يشيدونَ لنا مجداً أضعناه
هاهو قلب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله كان عائدا من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمة خرسان، سمع به إمبراطور القسطنطينية رومانس.
فجهز جيشا قوامه ست مائة ألف مقاتل، والله ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملئها الخور والضعف والهون.
جاء الخبر لأرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله.
انظروا ووازنوا بين الجيشين، ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعمائة، هل هذه قوى جسدية ؟ إنها قوى العقيدة وكفى أيها الأحبة.
نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال ما بين مصاب وما بين جريح قد أنهكه السير الطويل.
فكر وقدر ونظر في جيشه أيترك هذا الجيش الكافر ليدخل إلى بلاده ويعيث فيها الفساد، أم يجازف بهذا الجيش، خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف.
فكر قليلا ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلا:
إن الإسلام اليوم في خطر، وإن المسلمين كذلك وإن أخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود.
ثم صاح وإسلامهَ، وإسلامه، ها أنا ذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله.
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف............تقيم ظباه اخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل.......... وهذا دواء الداء من كل جاهل(/4)
فما هي إلا ساعة ويتكفن الجيش الإسلامي، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماوات بصيحات الله كبر، يا خيل الله اثبتي يا خيل الله اركبي، لا إله إلا الله.
هل سمعتم بجيش مكفن ؟
هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة ؟
هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد ؟
هل تخيلتم صور جيش كامل يسير إلى معركة يظن ويثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور ؟
التقى الجمعان واصطدم الفئتان، فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوت صيحات الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله وعجلت إليك ربي لترضى.
تطايرت رؤوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشرا أنهزم الرومان وأسر قائدهم رومانس. الله أكبر، لا إله إلا الله صدق وعده ونصر جنده.
( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية249)
ذهب من جند الله كثير وكثير نحسبهم شهداء، وبقي الباقون يبكون، يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد. لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله.
أما القائد المسلم فبكى طويلا، وحمد الله حمدا كثيرا، وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه ...آه أمال لم تنل وحوائج لم تقضى وأنفس تموت بحسراتها.
كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش.
إن العقيدة في قلوب رجالها .......... من ذرة أقوى وألف مهند
فتعرف يا أبن أمي في العقيدة
يا أخ الإسلام في الأرض المديدة
ما حياة المرء من غير عقيدة
وجهاد وصراعات عنيدة
فهي طوبى واختبارات مجيدة
فانطلق وأمضي بإيمان وثيق
وإذا ما مسك الضر صديقي
فلأن قد مشينا في الطريق.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن من حفظ الله حفظه الله.
ومن وقفَ عند أوامرِ الله بالامتثال، ونواهيهِ بالاجتناب، وحدودِه بعدمِ التجاوزَ حفظَه الله.
من حفظَ الرأسَ وما وعى، والبطنَ وما حوى حفظَه الله.
من حفظَ ما بين فكيه وما بين رجليه حفظَه الله.
من حفظَ اللهَ في وقتِ الرخاء حفظَه اللهَ في وقتِ الشدةَ.
من حفظَ اللهَ في شبابه حفظَه الله عند ضعفِ قوتِه:) فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف64).
هاهوَ الإمامُ الأوزاعي ذلكم الإمامُ المحدثُ الورعُ الفقيه.
حين دخل عبدُ الله ابن علي ذلكم الحاكمُ العباسيُ دمشقَ في يوم من الأيام فيقتلُ فيها ثمانيةً وثلاثين آلفَ مسلم.
ثم يُدخلُ الخيولَ مسجدَ بني أميةَ، ثم يتبجحُ ويقول:
من ينكرُ علي في ما أفعل؟
قالوا لا نعلمُ أحداً غير الإمامُ الأوزاعي.
فيرسل من يستدعيه، فعلمَ أنه الامتحان وعلم أنه الابتلاء، وعلم أنه إما أن ينجحَ ونجاحٌ ما بعدَه رسوب، وإما أن يرسبَ ورسوبٌ ما بعده نجاح، فماذا كان من هذا الرجل ؟
قام واغتسلَ وتحنطَ وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه، ثم أخذَ عصاه في يده، ثم اتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزةِ التي لا تضام، والركنَ الذي لا يرام.
يا من لا يهزمُ جندُه ولا يغلبُ أوليائهُ أنتَ حسبي ومن كنتَ حسبَه فقد كفيتَه، حسبي اللهُ ونعم الوكيل.
ثم ينطلقَ وقد اتصلَ بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذلك الحاكم.
ذاك قد صفَ وزرائَه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها.
قال فدخلت وإذ السيوف مصلته، وإذ السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع.
قال فدخلت ووالله ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزا والمنادي ينادي:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
فوالله ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا.
قال فأنعقدَ جبينُ هذا الرجل من الغضب ثم قال له أأنتَ الأوزاعي ؟
قال يقولُ الناسُ أني الأوزاعي.
قال ما ترى في هذه الدماء التي سفكناها ؟
قال حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جَدُك أبن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أي هريرة وعن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
( لا يحلُ دمُ امرأ مسلمٍ إلا بأحدِ ثلاث، الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة).
قال فتلمظَ كما تتلمظُ الحيةَ وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لألا يصيبَهم دمي، ورفعتُ عمامتي ليقعُ السيفُ على رقبتي مباشرة.
وإذ به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموالِ التي أخذنا ؟
قال سوفَ يجردُك اللهُ عرياناً كما خلقَك ثم يسأُلك عن الصغيرِ والكبيرِ والنقيرِ والقطميرِ، فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال فأنعقدَ جبينُه مرة أخرى من الغضبِ وقام الوزراء يرفعون ثيابهم وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة.
قال وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول أخرج.
قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزا.(/5)
ذهب وما كان منه إلا أن سار بطريقه حتى لقيَ الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى.
ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي ووقف عليه وقال:
والله ما كنتُ أخافُ أحداً على وجهِ الأرضِ كخوفي هذا المدفونُ في هذا القبر.
واللهِ إني كنتُ إذا رأيتُه رأيتُ الأسدَ بارز.
اعتصمَ بالله وحفظَ اللهَ في الرخاء فحفظَه اللهُ في الشدة:
( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
والأمثلة كثيرة أيها الأحبة.
وما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء.
يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة.
ولا بد من الابتلاء: )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)
هاهوَ الأسودُ العنسيُ ذلكم الساحرُ القبيحُ الظالمُ الذي ادعى النبوةَ في اليمن:
يجتمعُ حولَه اللصوصُ وقطاعُ الطرق، ليكونُ فرقةً تسمى فرقةُ الصدَ عن سبيلِ الله، ليذبحَ الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرقَ منهم من أحرق، وطردَ منهم من طرد، وهتكَ أعراضَ بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلمٍ الخولاني عليه رحمةُ الله ورضوانه.
عذبَه فثبتَ كثباتِ سحرةِ فرعون، حاول أن يثنيَه عن دعوته قال كلا والذي فطرني لن أقف فأقضي ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها وقال لهم:
إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، إن كان على غيرِ ذلك فسترون.
ثم أمرَ بنارِ عظيمةِ فأضرمت، ثم جاءَ بأبي مسلم الخولاني عليه رحمة الله فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم
نسفوه في لهيب النار ولظاها، وإن هذه النار كما يقولون كان يمر الطير من فوقها من عظم ألسنة لهبها فتسقط الطيور في وسطها. وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا وكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
ليسقطَ في وسط النار، وكادت قلوبُ الموحدين أن تنخلع وكادت أن تتفطر، وانتظروا والنارُ تخبو شيئاً فشيئاً وإذ بأبي مسلم قد فكتُ النارُ وثاقَه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهدد هم ويتوعُدهم.
أما هذا الرجل فأنطلق إلى المدينة النبوية، إلى أصحابِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) في خلافةِ أي بكر، ويصلُ إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمعُ عمرُ رضي الله عنه بهذا الرجلِ، فينطلقُ إليه يأتي إليه ويقول:
أأنت أبو مسلم قال نعم.
قال أنت الذي قذفت في النارِ و أنقذك اللهُ منها ؟
قال نعم، فيعتنقُه ويبكي ويقول الحمد لله الذب أراني في أمةِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) من فعلَ به كما فعلَ بإبراهيم عليه السلام.
من حفظَ أبا مسلم ؟
إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظَه الله. ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وها هو أبن طولون والي من ولاة مصر ولا زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، نسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان، هذا الوالي - يا أيها الأحبة - قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقتلهم بقتلة هي أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعا وعطشا، فسمع أبو الحسن الزاهد عليه رحمة الله، فأقض مضجعه أن يسمع بأخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول:
(أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر).
ذهب إليه وقال له أتق الله في دماء المسلمين وخوفه بالله.
فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن في سجن وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام.
ثم جاء فجمع الناس جميعهم وجاء بهذا الرجل، وأطلق ذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام.
قام هذا الرجل يصلي متصلا بالله الذي لا إله إلا هو، أما الأسد فأنطلق حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها.
فما كان من الناس إلا أن ذهلوا وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام.
من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء.
ما كان من الناس إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا:
يا أبا الحسن في ما كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد ؟
قال والله ما فكرت قي ما فيه تفكرون، ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي ألعاب الأسد نجس أو طاهر لأن لا ينقض وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو.
حفظوا اللهَ فحفظَهم الله، ما اعتصمَ عبدُ بالله فكادتُه السماءُ والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجا.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك الله أن نغتال من تحتنا.
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن الظلمَ مرتَعهُ وخيمٌ.
وأن الظلمَ يفضي إلى الندم، وأنهُ ظلماتٌ يومَ القيامة.(/6)
وأن الله لا يغفلُ عما يعملُ الظالمون، لكن يؤخرُهم ليومٍ تشخصُ فيه الإبصار.
في الحديثِ القدسي يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يقول الله :
( يا عبادي إنيِ حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرما فلا تظالموا).
وظلموا ذوي القربى أشد مضاضة........على المرء من وقع الحسام المهند.
ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن:
نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم، فاجتمعوا وعقدوا مؤتمرا لهم وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا، ونعوذ بالله منه.
فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه، يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر.
فما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل والراضي كالفاعل. أي ظلم أيها الأحبة وأي ظلمات أن يقع الأب على أبنته أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه ؟ إنه والله الظلم والظلمات.
ماذا كانت النتيجة وماذا كان منهم.
يرسل الله عز وجل جندي من جنوده : ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر:31).
يخرج عليهم نمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الأخر.
فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت فسرق من أموالهم ما سرق وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين وحفر له تحت صخرة من الصخرات وعلمه بهذه الصخرة وذهب هاربا إلى مكة.
ولم يبقى في تلك القرية إلا النساء.
بقي ذلك الرجل في مكة ردحا من الزمن، قيل أنه عشرون سنة أو أكثر من ذلك.
فما كان منه بعد عشرين سنة وقد تذكر ذلك الذي حصل إلا أن أرسل واحد من أهل مكة، ما استطاع هو بنفسه أن
يرجع إلى هناك، وقال أذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا خذه
وأتنا به ولك كذا وكذا.
ذهب الرجل على وصفه وسأل على المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة، وكان ذلك الرجل أمينا فلم يغير
فيه ولم يبدل بل أخذه كما هو وجاء به إلى مكة.
وعندما فتحه ذلك الرجل وإذ بنملة على ظهره فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت.
)وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (ابراهيم:42)
وهاهوَ المعتمدَ حاكمُ بعضِ ولايةِ الأندلس:
ذلكم الشجاعُ القويُ المترف، يستعينُ به حاكم ولاية مجاورة التي غزى عليها أحدُ أعدائه، فيسرعُ المعتمدُ لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحورا لما رأى جيوش المعتمد.
هنا انتهت مهَمةُ المعتمد، لكنَه في ظلام الليل يقوم ليبثَ جيوشَه في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتلُ المدينة، ويالها من مجير: والمستجير بعمر عند كربته........كالمستجير من الرمضاء بالنار
أصيب ذلك الحاكم بصدمةٍ عنيفةٍ شُل منها، قبضَ عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع لسجن، وسبيت زوجاتُه وبناتُه، ثم أخرج من ولايته مهانا ذليلا، يقول أبوه:
والله إن هذا بسبب دعوة مظلومٍ ظلمناه بالأمس، ثم يرفعُ يديه إلى من لا يغفل عن ما يعملُ الظالمون قائلا:
اللهم كما انتقمتَ للمظلومين منا، فأنتقم لنا من الظالمين.
وتصعدُ الدعوة إلى من ينصرُ المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة ينام والمظلوم يدعُ عليه وعينُ اللهِ لم تنمِ، وتجتاحُه دولةُ المرابطين في ليلةٍ من الليالي وتأسرُه في أخرِ الليل:
يا راقدَ الليلِ مسروراً بأولِه........... إن الحوادثَ قد يطرقنَ أسحارا
ويقضي حياتَه في أغمات في بلاد المغرب أسيرا حسيرا كسيراً، وأصبحَ بناتُه المترفاتُ الآتي كنا يخلطُ لهن التراب بالمسكِ ليمشينَ عليه، أصبحن حسيراتٍ يغزلنَ للناس الصوفَ، ما عندَهن ما يسترن به سوءتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجنِ يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعرا:
في ما مضى كنتُ بالأعيادِ مسرورا............ فساءكَ العيدُ في أغمات مأسورا
ترى بناتِك في الأطمارِ جائعة................. يغزلنَ للناسِ ما يملكنَ قطميرا
برزنَ نحوكَ لتسليم خاشعةً................... أبصارُهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأنَ بالطينِ والأقدام حافية...................كأنها لم تطىء مسكاً وكافورا
من باتَ بعدك في ملكٍ يسرُ به................فإنما بات بالأحلامِ مغرورا
كم من دعوةِ مظلومٍ قصمت ظهر طاغيةٍ، والعدل أساس الملك ولا يظلمُ ربُك أحد.
هاهوَ حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا، وما عذبوهم إلا أن أمنوا بالله، يقول لهك متبجحا:
أين إلهكم الذي تستغيثون لأضعنه معكم في الحديد – جل الله وتبارك سبحانه وبحمده -.(/7)
ويخرجَ ويركبَ سيارتَه وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنةٍ ليدخل الحديدُ في جسده فلا يخرجونَه منه إلا قطعة قطعه.
( إن اللهَ ليملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يفلتِه).
)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)
لما أهينَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ اللهِ من قبل أبن أبي دؤاد، رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال:
(اللهم إنه ظلمني ومالي من ناصرٍ إلا أنت، اللهم أحبسهُ في جله وعذِبه).
فما ماتَ هذا حتى أصابه الفالج فيبست نصف جسمه وبقي نصف جسمه حي.
دخلوا عليه وهو يخورُ كما يخور الثور ويقول:
أصابتني دعوةُ الإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد. ثم يقول واللهِ لو وقعَ ذبابُ على نصفِ جسمي لكأنَ جبال الدنيا وضعت عليه، أما النصف الآخر فلو قرضَ بالمقاريض ما أحسستُ به.
فإياك والظلم ما استطعت، فظلم العباد شديد الوخم.
في الأثر أن الله عز وجل يقول:
(وعزتي وجلالِ لا تنصرفون اليوم ولأحدٍ عندَ أحدٍ مظلمةٌ، وعزتي وجلالِ لا يجاورَ هذا الجسرَ اليومَ ظالم).
لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مقتدرا.............فالظلمُ آخره يفضي إلى الندمِ
تنامُ عينُكَ والمظلوم ُمنتبهاً................ يدعُ عليك وعينُ اللهِ لم تنمِ
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن البناء جد صعب، والهدم سهل جد سهل.
فما يبنى في مئات الأعوام من المدن والقرى والقصور والدور يمكن هدمه في لحظات، وما يبنى من الأخلاق والقيم والمثل في قرون يمكن هدمه أيام وليالي.
ما رأيكم أيها الأحبة إن كان هناك ألف باني وورائهم هادم واحد هل يقوم البناء ؟
كلا لا يمكن أن يقوم، فما رأيكم إن كان الباني واحدا والهادم ألفا:
أرى ألف بان لا يقوموا لهادم.............فكيف بباني خلفه ألف هادم.
وسائل في غالبها تهدم ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين، لكن الحق يعلو والباطل يسفل:
فهل يستقيم الظل والعود أعوج.
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمو.............قد ضل من كانت العميان تهديه
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أيئس وأن لا أقنط.
وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه، فلا ييئس من روح اله إلا القوم الكافرون. )قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56)
لو تأملت أخي الحبيب قصة نوح عليه السلام الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، ولم يزدهم دعائه إلا فرارا، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا،والدعوة لمدة تسع مائة وخمسين عاما، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل:
قيل اثنا عشر وغاية ما قيل أنهم ثمانون بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحد أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحد، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.
يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في الصحيح:
(يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه أحد).
ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهاهم أصحاب قرية إنطاكية يرسل الله لهم رسولين فكذبوهما فعززنا بثالث فكذبوه، ثالثة رسل إلى قرية واحدة ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة:
)قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (يّس:26)
أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، وتحاول صعود الجدار مرة فتسقط، ثم تحاول أخرى فتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثا وأربعا حتى تصعد الجدار.
أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة ؟.
أيها الأحبة (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين).
إن الله جل وعلا يقول: )أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:20)
ثم ماذا قال بعدها ؟ )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية:21)
وكأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله:
أن يأخذوا صبر الأبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك:
)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)
ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.
هاهو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته، فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاما ولا شرابا، ويأس من الحياة فقام ينشد:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي............وصار القار كاللبن الحليب
لا يمكن أن يكون القار كاللبن، ولا يمكن أن يشيب الغراب، ومعنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت.(/8)
وإذا بهاتف يهتف ويقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه...............يكون ورائه فرج قريب
وبينما هو يسمع هذا النداء وإذ بسفينة تمر فيلوح لها فتأتي وتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا:
عسى فرج يأتي به الله إنه.............له كل يوم في خليقته أمر
إذا لاح عسر فأرجو يسؤ فإنه.........قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
ولن يغلب عسر يسرين، فأعمل أخي لا تيئس وأبذر الحب.
فعليك بذر الحب لا قطف الجنى..........والله للساعين خير معين
ستسير فلك الحق تحمل جنده.............وستنتهي للشاطئ المأمون
بالله مجراها ومرساها فهل.................تخشى الرد والله خير ضمين
ولنا بيوسف أسوة في صبره..............وقد ارتمى في السجن بضع سنين
لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى...........وطغى فإن يقين قلبي أكبر
في منهج الرحمان أمن مخاوفي............. وإليه في ليل الشدائد نجأر
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أنظر في أمور دنياي إلى من هو تحتي فذلك جدير أن لا أزدري نعمة الله علي.
وأن أنظر في أمور آخرتي لمن هو فوقي فأجتهد اجتهاده لعلي الحق به وبالصالحين، فلا أحقد على أحد ما استطعت، ولا أحسد أحدا ما استطعت.
يقول أحدهم عن أبن تيمية عليه رحمة الله:
(وددت والله أني لأصحابي مثله –يعني أبن تيمية- لأعدائه وخصومه، يقول:
والله ما رأيته يدعو على أحد من خصومه بل كان يدعو لهم، جئته يوما مبشرا بموت أكبر أعدائه، قال:
فنهرني واسترجع وحوقل وذهب إلى بيت الميت فعزاهم، وقال إني لك مكان أبيكم فسألوا ما شئتم، فسروا به كثيرا ودعوا له كثيرا وعظموا حاله ولسان حالهم والله ما رأينا مثلك).
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمو .......لطالما ملك الإنسان إحسان
لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب...... ولا ينال العلا من طبعه الغضب
ماذا استفاد الحاقدون ؟ ماذا استفاد الحاسدون ؟
ما استفادوا إلا النصب وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات.
ووالله لن يردوا نعمة أنعم الله على عبد أي كان، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
أصبر على مضض الحسود...... فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل نفسها............إن لم تجد ما تأكله
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن من عرف الحق هانت عندَه الحياة.
فيتعالى على مُتع الحياة وزخارفِها لأنه ينتظرُ متعةً أبديةً سرمدية في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
فيقدمُ مراد على شهواتِه ولذائذه،ويقدم مراد الله على كل ما يلذ لعينه وما يلذ لقلبه فيسعدُ في دنياه ويسعدُ في أخراه.
في الأثر أن الله جل وعلا يقول:
( وعزتي وجلاليِ ما من عبدٍ آثرَ هوايَ على هواه ( أي قدم مرُاد الله على لذائذ نفسه) إلا أقللتُ همومَه، وجمعةُ له ضيعتَه ونزعتُ الفقرَ من قلبِه، وجعلتُ الغناء بين عينيه، واتجرتُ له من وراءِ كلِ تاجر).
هاهوَ أحدُ صحابة أحدُ صحابةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، دميمُ الخِلقة، لكنه رجلُ أعطاه اللهُ من الإيمانِ ما أعطاه، وما ضرَه أنه دميمُ الخِلقة.
تقدم ليتزوجَ من أحد البيوت، وكلما تقدم إلى بنت رفضته لأنه دميمُ الخلقةَ ولأنه قصير لا ترغبُ فيه النساء.
فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يشكو أصحابَه ويقول:
يا رسولَ الله أليسَ من أمن بالله وصدقَ بك يدخلُ الجنة ويزوجُ من الحورِ العين ؟
قال بلى، قال فمالُ أصحابكَ لا يزوجوني.
قال اذهب إلى بيتِ فلان وقل لهم رسولُ اللهِ يطلبُ ابنتَكم.
فذهبَ إلى بيتِ رجلٍ من الأنصار، وطرق الباب عليهم فخرجَ صاحبُ البيت فسلم عليه وقال:
رسولُ اللهِ يطلبُ ابنتَكم.
قالوا نعم ونعمةٌ عين من لنا بغير رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أي نسبٍ نريدَه غيرَ هذا النسب.
قال لكنَه يطلبُها لي أنا.
فقال اللهُ المستعان، ثم ذهب ليستشير زوجه، فأخبرها بذلك فقالت رسول الله يطلب ابنتنا نعم ونعمة عين.
قال لكنه يطلبها لفلان وسماه بأسمه.
فما كان منها إلا أن ترددت وقالت أما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان ألم يجد رسول الله غير هذا.
وكانت البنتُ التقيةُ العابدة الزاهدة التي تقدمُ مراد اللهِ على لذائذ وشهوات النفس تسمع ذلك، فخرجت إليهم وقالت:
ما بكم؟
قالوا إن رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يطلبكِ لفلان، قالت وما تقولان ؟
قالوا نستشير ونرى، قالت أتردانِ أمرَ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، أين تذهبانِ من قول الله:
)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب36)
ادفعوني إليه فإن الله لا يضيعني.
ويسمعُ الرجل وينتقل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ويخبرُه الخبر .
وتبرقُ أساريرُ وجهُه (صلى الله عليه وسلم) ويفرحُ بها، ويدعو لهذه المرأة ففازت بدعوته (صلى الله عليه وسلم).
قيل أن المال كان يأتيها لا تعلمُ من أين يأتيها.
وفي ليلةِ الزفاف ليلةِ الدخول وإذ بمنادي الجهاد ينادي أن يا خيل الله أركبي.(/9)
هنا يقف موقف أيدخلُ على زوجتهِ في أولِ ليلة في كاملِ زينتِها، أم يجيبَ داعي الله جل وعلا.
فما كان منه إلا أن تركَ هذه البنت وأنطلقَ يطلبُ الحور العين، وانتهت المعركة.
وقام النبي (صلى الله عليه وسلم) يتفقدُ أصحابه، فيقول هل تفقدون من أحد؟
قالوا نفقدُ فلاناً وفلاناً وفلانا وما فقدوا هذا الرجل خفي تقي.
قال هل تفقدون من أحد ؟، فقالوا نفقدُ فلاناً وفلاناً وما فقدوه.
فما كان منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن قال لكني أفقدُ أخي جليبيب، قوموا معي لنطلبه في القتلى.
ذهبَ يبحثُ عنه (صلى الله عليه وسلم)، ووجدَه قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه.
فأخذَه (صلى الله عليه وسلم) على ذراعيه ومسحَ التراب عن وجهه وقال قتل سبعة من المشركين وقتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه.
لا إله إلا الله ماذا قدمَ هذا الرجل ؟ قدمَ قليلاً وأخذَ كثيراً وكثيراً وكثيرا.
وها هو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثنى على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له كيف أولاده وزوجته ؟
قال لقد تحولت زوجته بالأمس إلى منزل آخر، والله ما رأيتها خلال إثني عشر عاما وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت، وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام.
يعيش معها ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد لأنه يعلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(الحمو الموت، الحمو الموت).
لقد آثر أن يكون خطيب جامعا عن أن يكون رئيسا للقضاة في عهده رحمه الله.
هاهوَ صاحبيٌ أسمه أبو لبادةَ يختلفُ مع يتيمٍ على نخلةٍ كانت بين بستانينِ لهما، يدعي اليتيمُ الصغير أن هذه النخلةَ له، فيخرجُ النبيُ (صلى الله عليه وسلم) ليعاين المكان، فإذا النخلةُ في بستانِ الصحابي أبي لوبادة فيحكمُ بها لهذا الصحابي فتذرفُ دموع اليتيم، ما كان الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) أن يغيرَ حكمَه أبدا لأنه العدل والحقُ، لكنَه أعلنَ عن مسابقةٍ قال لأبي عبادة أتعطيه النخلةَ ولك بها عذقٌ في الجنة ؟
لكنه كان مغضباً إذ كيف يشكوه والحقُ له، كان في المجلسُ أبو الدحداج عليه رحمة الله وهو رجل يبحثُ عن مثلِ هذه الأمنية فقال: يا رسول الله ألي العذقُ في الجنة إن اشتريتُ نخلته بحديقتي وأعطيتُها هذا اليتيم ؟
قال لك العذق، فما كان من أب الدحداح إلا أن لحقَ بأبي لبادةَ رضي الله عنه وقال له أتبيعُني النخلةَ بحديقتي كلها ببستاني كُله ؟
قال بعتك إياها لا خيرَ في نخلةٍ شكيتُ فيها لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فباعه إياها.
فذهبَ أبو الدحداح ودخل ونادى على أم أبي الدحداد وأولاد أبي الدحداح أن أخرجوا فقد بعناها من الله بعذقٍ في الجنة، حتى قيل أن بعض أطفالهِ في أيديهمُ بعض الرطب فكان يأخذَه ويقول قد بعناه من الله ويرميه في البستانَ.
خرج ولم يكتفِ بذلك ولم يرضى ثمنا للجنة إلا أن يقدم دمَه ليزهق في سبيل الله عز وجلِ.
وتأتي موقعة أحد، ويشارك الجيش ويكون الرسول فيها في حالة تعلمونها في آخر المعركة وقد شج وجهه وكسرت رباعيته بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).
ولم ينسى أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر فإذا هو بأبي الدحداح فيمسحُ التراب عن وجهه ويقول:
يرحمُك الله، كم من عذقٍ مذللٍ الآن لآبي الدحداح في الجنة.
ماذا خسر أبو الدحداح ؟
خسر تراب، وشجيرات ونخيلات، لكنه فاز بجنةٍ عرضها الأرضُ والسماوات. وذلك هو الفوز، ومن عرف الحق هانت عنده التضحيات.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أحقر شيء مهما قل:
بل أتعلم وأعمل وأدأب وأداوم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأحب العمل إلى الله ادومه وإن قل، والقليل إلى القليل كثير وإنما السيل اجتماع النقط: اليوم شيء وغدا مثله....... من نقب العلم التي تلتقط
يحصل المرء به حكمة........ وإنما الشي اجتماع النقط
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحسن الظن بالمؤمنين:
وأن أحملهم على خير المحامل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ذلك الخلق الذي لا يتصف به حقا إلا المؤمنون:
)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35)
ها هو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا (صلى الله عليه وسلم) شهرا من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب بعد أن تنزلت البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب ارأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟
قالت لا والله، قال فوالله لعائشة خير منك وخير من نساء العالمين.
قال يا أبا أيوب ارأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن ن تفعل ما رمي به صفوان ؟
قال لا والله، قالت فصفوان واله خير منك.(/10)
إحسان ظن بالمؤمنين وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والذي بقيت وقتا من الزمن لا يرقأ لها دمع، دموعها وقلبها يتفطر، تسمع رجلا يسب حسان لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول دعوه، أليس هو القائل:
فإن أبي وولده وعرضي..........لعرض محمد منكم وقاء
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعداء الأعداء من لا يواجهك.
وإنما يغدر بك ويقتلك ويتقمص شخصك، ويتقمص عملك أحيانا لينقض عليك وهو يتبسم وهذا هو أشرس الأعداء، وهو أقوى الأعداء ظاهريا وإلا ففي باطنه فهو على شرف حرف هار.
إذا رأيت نيوب الضبع بارزة........... فلا تظن أن الضبع يبتسم
إنه النفاق والمنافقون:
إن النفاق لآفة فتاكة إن.......... أهملت أدت إلى الأسقام
وقضت على آمالنا في أمة........ راياتها في البحر كالأعلام
المنافقون ذلكم السوس الذي ينخر في جسد الأمة المسلمة منذ عهد النبوة وإلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما يريدون أن يتكلم داعية، ما يريدون أن يؤمر بمعروف ولا أن ينهى عن فاحشة فقبحهم الله وأرداهم في الحافرة.
إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الذين من دون إذا هم يستبشرون.
لهم ألف وجه بعد ما ضاع وجههم.......... فلم تدري فيها أي وجه تصدق
ملعونين أينما ثقفوا فهم في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيرا.
إن المنافقين جراثيم تسمم وبكتيريا عفونة يتربصون بالمؤمنين الدوائر، خذلوا المؤمنين في أحد وتبوك، ولا زالوا يخذلونهم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لسان حالهم:
لن تستريح قلوبنا إلا إذا........... لم يبقى في الأرض الفسيحة مسلم
يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون قائدهم وكبيرهم ومنظرهم الذي علمهم الخبث أبن سبأ الذي ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأندس في الصفوف على أنه مسلم، وكم من مندس في الصفوف على أنه مسلم:
ولو كان سهما واحدا لاتفيته.......... ولكنه سهم وثاني وثالث
يدير رحاها ألف كسرى وقيصر........وألف مدير للمدير مدير
تقولون من هم؟
نقول: ) وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )(محمد30).
ظهر هذا الرجل في عهد عثمان وقام يجوب البلدان ليجمع قطاع الطرق والمفسدين ليكون عصابة من المنافقين وبعض المغفلين ليفسد نفوسهم على عثمان رضي الله عنه، وقد نجح إلى حد ما، ونجاحهم دائما مؤقت. وهو خسارة وإنما تسميته بالنجاح من باب تسمية اللديغ بالسليم.
حتى أنه ليأتي في يوم من الأيام مع عصابته ليدفعهم ليحاصروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته.
ولينفردوا به ليضربه الغافقي بحديدة معه، ثم بضرب المصحف برجله وهو يقرأ منه رضي الله عنه ليستدير المصحف ويستقر مرة أخرى بين يدي عثمان، ويتخضب بالدماء .
ويغشى عليه ويجر برجله رضي الله عنه وأرضاه، ويأتي أحدهم في سيفه يريد وضعه في بطنه فتقيه إحدى الناس بيدها فيقطع يدها قطع الله دابره.
ثم يتكأ بالسيف على صدر عثمان، وبينما هو كذلك إذ وثب شقي آخر على صدر عثمان وبه رمق رضي الله عنه فطعنه تسع طعنات قائلا: أما ثلاث منها فلله وأما ست فلشيء كان في صدري عليه.
ثم يثب آخر عليه فيكسر ضلعا من أضلاعه، فلا إله إلا الله.
إنها مجزرة دموية يدبرها السبئيون في كل مكان وفي كل زمان يريدون قطع رأس هذا الدين وكسر أضلاع معتنقيه، والمبرر أنها لله، ولو صدقوا لقالوا: ستا منها لما في الصدور.
) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة30)
وبصيحة لله الصادرة من المنافقين في كل زمان ضاع كثير من شباب المسلمين، وثبط شباب آخرون وكشفت أسرار وملأت سجون وكلها لله كما يزعمون ولو صدقوا وأنصفوا لقالوا:
ستا منها لما في الصدور، وولله إنها كلها لما في الصدور.
حتى عثمان وهو يُذهب به ليدفن يرجم سريره ويحاول أن يمنع من الدفن في البقيع، ويقتل معه عبدان كان يدافعان عنه ويرمى بهما لتأكلهما الكلاب ولما تدفن جثثهم بعد.
أنظر أخي الكريم كيف وصلت الأمور بالمنافقين إلى أن يقدموا جثثا أعزها الله طعاما للكلاب.
لهم أشد على المؤمنين من الكلاب والنصارى.
)ْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون:4)
ولا إله إلا الله، يقول الحسن:
لو كان للمنافقين أذنابا لما استطعنا أن نمشي في الطرقات.
قوله على عهده رضي الله عنه وأرضاه، فما نقول نحن الآن، لكن نقول كل سيلقى الله بسريرته وعلانيته وعندها يتبين من بكى ممن تباكى.
يذكر أأمتنا أن رجلا تاب من عمل كان يقوم به وهو من أرذل الأعمال، كان يأتي على قبر الميت في أو ليلة من لياليه فيفتح القبر ويسرق الكفن ويذهب ليبيعه، هذه حالته لفترة طويلة ثم ترك هذا العمل فسأل:
قيل له لما تركت هذا العمل؟(/11)
قال والله لقد فتحت ألف قبر من قبور أهل القبلة فما وجدت واحدا منهم موجه إلى القبلة، وأنا أفتحه في أو ليلة من ليالي الدفن.
فما الذي حوله عن القبلة؟ ما الذي حوله عن ذلك إلا ما كان يظهره هنا ويسر، ما كان يخادع به هنا ظهر هناك.
بيننا وبينهم يوم تبلى السرائر، بيننا وبينهم يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.
وأقول مع ذلك:
فتنبهوا يا معشر الإسلام من............ أحلامكم فالضعف في الأحلام
لا تغفلوا عن حاقد يقضان يرقب....... نومكم كالوحش في الأجام
حرب المعاصي والنفاق صراحة......... ليست سوى حرب على الإسلام
لا تقل زال عصر النفاق، فلكل عصر رجاله:
ما زال فينا ألوف من بني سبأ..........يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا
ما زال لأبن سلول شيعة كثروا........أضحى النفاق لهم وسما وعنوانا
لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه......رب إذا قال كن في أمره كانا
) وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(آل عمران120)
والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون........... لا شيئا يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون
لو مر واحدهم على فرعون يجتز الرؤوس...... لأراك في لإفصاح هارون وبالإقدام موسى
)َّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون8)
علمتني الحياة في ظل العقيدة أنه لا نجاح للدعوة ولا ثمرة لها إن نحن أعطينها فضول أوقاتنا.
إذا لم ننسى معها طعامنا وشرابنا وراحتنا، إذا لم نجند كل طاقاتنا فلن نفلح في إيصال الأمانة التي كلفنا الله بها.
يقول (صلى الله عليه وسلم): (بلغوا عني ولو آية).
لم يدع فرصة لكسول ولا لخامل ولا لتنبل ولا لبطال، بلغوا عني ولو آية.
ألا فليكن الوجود للإسلام، والرسالة الإسلام والهوية الإسلام، له نحي وبه نحي وعليه نموت، حزننا لله وغضبنا لله ورضانا لله، حياتنا لله، ومماتنا لله لسان حال الواحد منه:
قد اختارنا الله في دعوته.........وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم......... ومنا الحفيظ على ذمته
ها هو نوح يدعو ويسعى كما سمعتم لا يفتر ولا ييئس بالليل والنهار لمدة تسع مائة وخمسين عاما، ماذا بقي من حياة نوح لم يسخر للدعوة إلى الله، وما النتيجة كما سمعتم لم يؤمن معه لا قليل.
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحمل هم هذا الدين ويدخل الهم به حتى يواسيه ربه سبحانه بقوله:
) فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات)(فاطر: من الآية8)
يريد حياتهم ويريدون موته، يريد نجاتهم ويريدون غرقه، يأخذ بحجزهم وهم يتهافتون كالفراش على النار.
ثم أنظر من بعده إلى صحابته رضوان الله عليهم تجد حياتهم قد أوقفت لله رب العالمين، في اليقظة يعملون لهذا الدين، في الليل يعملون لهذا الدين، أمانيهم لخدمة هذا الدين، لم تكن حول قضايا شخصية ولا هموما أرضية، يجمع عمر أصحابه يوما من الأيام ويقول تمنوا:
فيقول أحدهم أتمنى أن يكون معي ملئ هذه البيت جواهر فأنفقها في سبيل الله.
ويقول الآخر أتمنى أن يكون معي ملئ هذا البيت ذهبا أنفقه في سبيل الله.
فيقول عمر لكني أتمنى أن يكون معي ملئ هذا البيت رجالا أستعملهم في طاعة الله.
حملوا هم هذا الدين:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم.......... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
لكن هل أعجبتك خصالهم ؟
إذا أعجبتك خصال أمرء ........ فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات...... إذا جئتها حاجب يحجبك
ليسأل كل واحد منها نفسه كم جعل من وقته للدعوة إلى الله ؟
ماذا قدم لدين الله عز وجل ؟
ماذا قدم لنفسه ؟
كم اهتدى على يديه ؟
إن الإيجابيات واضحة ومخجلة.
لم نعطي للدعوة سوى فضول أوقاتنا، وسوى فضول جهودنا إلا عند من رحم الله.
لكن الفرصة لا زالت قائمة فجد واجتهد عبد الله، وسارع فستبقى طائفة على الحق منصورة فجند نفسك أن تكون في ركاب هذه الطائفة:
لأن عرف التاريخ أوسا وخزرج.......... فلله أوس قادمون وخزرج
وإنا لندعو الله حتى كأنما.................نرى بجميل الظن ما الله صانع
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن صوت الحق لا يخمد أبدا إذ هو أبلج، والبطل زبد لجلج.
الباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة.
والحق يعلو والآباطل تسفل.......... والحق عن أحكامه لا يُسأل
وإذا استحالت حالة وتبدلت.......... فالله عز وجل لا يتبدل
ها هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقف صفا واحدا في بداية دعوته والبشرية كلها ضده تريد إطفاء النور الذي جاء به ومع ذلك خسروا وما كيد الكافرين إلا في ظلال، يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون، ولو كره الفاسقون.
ويأتي صحابته من بعده (صلى الله عليه وسلم) فيصدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ومن بعدهم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تزال هناك طائفة فيها خير عظيم قد أخبر بها النبي (صلى الله عليه وسلم).(/12)
ولأن لا نيئس ولأن لا نقنط نأتي بهذه الحادثة:
الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله كما ورد في تاريخ الجزائر ورد أن المندوب الفرنسي أيام الاستعمار كان يقول بكل صراحة: جئنا لطمس معالم الإسلام، واستدعى الشيخ عبد الحميد وقال له إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت الجنود لقفل المسجد وإخماد أصواتكم المنكرة، فقال الشيخ بثبات المؤمن:
إنك لن تستطيع فاستشاط غضبا وأرغى وأزبد وقال كيف ؟
قال إن كنت في حفل عرس علمت المحتفلين.
وإن كنت في اجتماع علمت المجتمعين.
وإن ركبت سيارة علمت الراكبين.
وإن ركبت قطارا علمت المسافرين.
وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين.
وإن قتلتموني ألهبتم مشاعر المسلمين.
وخير كم ثم خير لكم ثم خير لكم أن لا تتعرضوا للأمة في دينها.
فوالله لا نقاتلكم لا بهذا الدين ووالله لا نقاتلكم إلا لهذا الدين:
إذا الله أحياء أمة لن يردها......... إلى الموت جبار ولا متكبر
ديننا الحق والكفر ذا دينهم........كل دين سوى ديننا باطل
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الأذى لا يهزم دعوة أبدا.
ولن يصل الطغاة إلى قلب مؤمن مهما فعلوا:
)إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)
أبو بكر النابلسي عليه رحمة الله، ذلكم الزاهد الورع العابد يوم ملك الفاطميون الروافض بلاد مصر عطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وذبحوا من علماء السنة الكثير، واستدعى المعزٌ الحاكم أبا بكر النابلسي عليه رحمة الله فقال له:
بلغني عنك أنك قلت لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت الفاطميين بسهم.
قال أبا بكر لا... فظن المعز أنه رجع عن قوله، قال المعز كيف ؟
قال أبا بكر بل ينبغي رميكم أيها الفاطميون بتسعة ورمي الروم بالعاشر.
فأرغى وأزبد وأمر بضربه في اليوم الأول، ثم أمر بإشهاره في اليوم الثاني، ثم أمر في اليوم الثالث بسلخه حيا.
فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن حتى أشفق عليه اليهودي فلما وصل في سلخه إلى قلبه طعنه بالسكين ليلقى ربه فكان يسمى بالشهيد.
علو في الحياة وفي الممات، فهل انتهت دعوة أبي بكر بقتل أبي بكر، هل خلف أبو بكر أحدا ؟
نعم خلف أبو بكر ألف أبي بكر من أهل السنة، وأهل السنة يقوم بذمتهم أدناهم.
إذا سيد منا مضى قام سيد........... قئول بما قال الكرام فعول
وهكذا كم عالم سقط على الطريق وعاشت كلمة الحق، وكم عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عالية، وبقيت كلمة الحق، وكم من عالم حُرم جميع حقوقه من أجل أن يُحفظ حق الله، وبقيت كلمت الحق:
) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون8)
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى ........... أبدا وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي......... بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة......... أو كبح إيماني ورد يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي........... ربي وربي حافظي ومعيني
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن سهام الليل لا تخطئ ولكن لها أمد وللأمد انقضاء.
فإذا ادهمت الخطوب وضاقت عليك الأرض وعز الصديق وقل الناصر وقل الناصر وزمجر الباطل وأهله، ودعم الفساد وأهله وكبت الحق وأهله ونطقت الرويبظة وغدا القرد ليثا وأفلتت الغنم، فأرفع يديك إلى من يقول:
)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(غافر60)
يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر........ وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله.......... روحا وريحانا بقولك كوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يونس...... وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثله في كربة............... فأرحم عبادا كلهم ذو النون
تم الكلام وربنا محمود........وله المكارم والعلا والجود
وعلى النبي محمد صلواته.... ما ناح قمري وأورق عود
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وبحمده.
………………………………
واحات الهداية
محاضرة : هكذا علمتني الحياة (2)
فضيلة الشيخ : علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد.
نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت نبيا عن أمته وأعلي على جميع الدرجات درجته واحشرنا تحت لوائه وزمرته وأوردنا حوضه في الآخرة.(/13)
اللهم لا تجعل لقلوبنا الآن حوضا ترده إلا كتابك وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقا والباطل باطلا ووفقنا لأتباع الحق والعمل به والدعوة إليه والصبرَ على الأذى فيه ابتغاء وجهك وطلب مرضاتك.
( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
سلام عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها.
أحبتي في الله:
لقائنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة هكذا علمتني الحياة.
لكم غنم هذه المحاضرة وعلي غرمها، لكم صفوها وعلي كدرها.
هذه بضاعتي وإن كنت قليل البضاعة تعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تزف إليكم، فإن صادفت قبولا فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان والله المستعان.
ما كان من صواب فمن الله الواحد المنان.
وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله المستعان.
وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان نُبذ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة.
أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرا ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. رباه،رباه:
يظن الناس بي خيرا وإني....... لشر الناس إن لم تعفو عني
وما لي حيلة إلا رجائي ........وعفوك إن عفوت وحسن ظني
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، وأغفر لي ما لا يعلمون، وهكذا علمتني الحياة:
علمتني الحياة في ظل العقيدة إنه لا خيرَ ولا أفضل ولا أجملَ ولا أحسنَ من كلمةٍ طيبة:
)أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
أخي: إن البر شيء هين..........وجه طليق وكلام لين
هاهو أعرابي كما يروى يدخل على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أصحابه:
فيمسكه بتلابيبه ويهزَه ويقول:
أعطني من مالِ اللهِ الذي أعطاك لا من مالي أبيكَ ولا من مالِ أمِك.
فيقومُ صحابةُ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخصِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) فيقول عليه الصلاة والسلام:
على رسلِكم المالُ مالُ الله، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
ثم يأخذُ هذا الأعرابيُ يداعبُه ويلاطِفُه، ويذهبُ به إلى بيتِه (صلى الله عليه وسلم) فيقول:
خذ ما شئت ودع ما شئت.
لكن ماذا يأخذ من بيتِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟
بيتٌ لا توقدُ فيه النارِ شهرينِ ولا ثلاثةَ أشهر، بيتٌ لم يشبعَ أهلُه من خبزِ الشعير، ولم يشبع من دقل التمر ورديء التمرِ، بيتُ يأتي السائلُ يسأل فلا يوجد يوم من الأيام في بيته إلا عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته (صلى الله عليه وسلم) سوى تمرة واحدة، لكنه خيرُ بيتٍ وجدَ على ظهرِ الأرضِ بأبي وأمي صاحبُ ذاك البيت (صلى الله عليه وسلم).
ما ملك الأعرابيُ إلا أن قال: أحسنتَ وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا.
قال عليه الصلاة والسلام:
إن أصحابي قد وجدوا عليك أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، فأخرج إليهم وقل لهم ما قلتَ لي الآن، فخرجَ وجاء إليهم فقال (صلى الله عليه وسلم) هل أحسنتُ إليكَ يا أعرابي؟ قال نعم وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم).
فقال (صلى الله عليه وسلم):
إنما مثلي ومثلكم و مثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة، فنفرت منه فذهب يطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون فما ازدادت الدابة إلا نفارا وشراد، فقال دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوح به لهذه الدابة فما كانت منها إلا أن انساقت إليه وجاءت إليه فأمسك بها، أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه فأوجعتموه فذهب من عندِكم على كفرهِ فماتَ فدخل النار.(/14)
أريتم إلى الكلمةِ الطيبةُ يا أيها الأحبة، فلا إله إلا الله لا أفضلَ من دفعِ السيئةِ بالحسنة، إنها آسرةُ القلوبِ والأرواح، إنها مستلةُ الأضغانِ والأحقاد والسخائم من القلوب.
)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
المؤمنُ الحق يا أيها الأحبة كالشجرةِ المثمرةِ كلما رُجِمت بالحجارةِ أسقطت ثمراً طيبا.
فيا له من قمة ويا لها من مُثل.
هاهوَ يهوديُ معه كلبُ، واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شركهم، يمرُ على إبراهيمَ ابن أدهم – عليه حمة الله - ذلكم المؤمنُ فيقولُ لهُ:
ألحيتُك يا إبراهيم أطهرُ من ذنبِ هذا الكلب، أم ذنبُ الكلبِ أطهرُ من لحيتِك ؟
فما كان منه إلا أن قال بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعود الله عز وجل:
إن كانت في الجنةِ لهيِ أطهرُ من ذنبِ كلبك، وإن كانت في النارِ لذنبُ كلبيكَ أطهرُ منها.
فما ملك هذا اليهوديُ إلا أن قال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاقُ الأنبياء.
) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
أقولُ هذا لعموم الناس، أما نحن الدعاة ونحن طلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم، ليس لنا أن ننزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشقِ برديءِ الكلام.
ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور ولو حاول غيرنا جرنا إلى هذه الأمور.
يكن تحركنا ذاتيا، فلا يحركنا غيرنا لأن لا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك، ثم علينا أن لا نغضبَ لأنفسِنا بل علينا أن نسموَ بأنفسِنا عن كلِ بذيءٍ وعن كلِ ساقط.
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا.......لأصبح الصخر مثقالا بدينار
ومن عاتب الجهال أتعب نفسه....... ومن لام من لا يعرف اللوم أفسد
ليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحيانا يا أيها الأحبة تكون بالسكوت.
والمدافعة أحيانا تكون بالاختفاء.
والمدافعة أحيانا تكون بالإعراض عن الجاهلين.
في يوم أحُد وما أدراكم ما يوم أحُد، يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان، ولا زال مشركا رضي الله عنه وأرضاه، قال:
هل فيكم محمد ؟
فلم يرد عليه (صلى الله عليه وسلم) ولم يأمر أحدا بالرد.
هل فيكم أبو بكر، هل فيكم عمر؟
فلم يجبه أحد مع أن الجواب قد كان أغيظ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:
إذا نطق السفيه فلا تجبه........ فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه......... وإن خليته كمدا يموت
ومن باب قول الآخر:
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ....... وفيه أيضاً لصونِ العرض إصلاحُ
أما ترى الأسدَ تخشى وهي صامتةٌ ........ والكلبُ يخزى لعمرُ اللهِ نباحُ
وهاهوَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيهُ من السفهاء، فيسبُه ويشتُمه ويقذعه بالسب والشتم، فيقولُ له طلابُه وتلاميذُه:
يا أبا عبد الله رد على هذا السفيه، قال لا والله فأينَ القرآنُ إذاً:
)وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً).
إذ سبني نذلٌ تزايدتُ رفعةً .......... وما العيبُ إلا أن أكونَ مساببُه
ولو لم تكن نفسي عليَ عزيزةً ....... لمكنتُها من كلِ نذلٍ تحاربُه
هاهوَ مصعبُ ابنُ عميرٍ رضي اللهُ عنه سفيرُ الدعوةِ الأولُ إلى المدينةِ النبوية، يأتيهِ أسيدُ أبنُ حضيرٍ بحربته وهو لا يزالُ مشركاً، فيقول لمصعبُ :
ما الذي جاءَ بك إلينا تسفهُ أحلامنَا وتشتمُ آلهتَنا وتضيعَ ضعفائَنا ؟
اعتزلنا إن كنتَ في حاجةٍ إلى نفسِك و إلا فاعتبر نفسَك مقتولاَ.
فما كان من مصعب بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعودِ الله وبنصر الله لهذه الدعوة إلا أن قال له في كلماتٍ هادئة:ٍ أو تجلسُ فتسمع، فإن رضيتَ أمرَنا قبِلته، وإن كرهتَهُ كففنا عنكَ ما تكره.
قال: لقد أنصفت.
وكانَ عاقلاً لبيبا، فكلمه مصعبُ رضي الله عنه عن الإسلام وقرأ عليه القرآن فتهللَ وجهُه وبرقت أساريرُه وجهه واستهل وجهه ثم قال:
كيفَ تصنعونَ إذا أردتم الدخولَ في هذا الدين ؟
جاءَ ليقتلَه والآن يريدُ أن ينهلَ من ما نهلَ مه مصعب.
قال اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله (صلى الله عليه وسلم).
أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية، قول:
إن ورائي رجلا إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه هو سعد أبن معاذ.
وذهب إلى هذا الرجل واستفزه بكلمات معينة فجاء هذا يركض إلى مصعب ويقول:
إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك.
قال أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فجلس.(/15)
فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين فما كان منه إلا أن استهل وجهه وبرقت أسارير وجهه وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟
قالوا اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ففعل، ثم خرج من توه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل وقال:
كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأي وخيرنا وأيمننا.
قال فإن كلامكم علي حرام رجالكم والنساء حتى تأمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتصدقوا برسالة محمدا (صلى الله عليه وسلم).
يقول فلم يبقى رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.
فلا إله إلا الله الكلمةَ الطيبةَ، الإحسانَ الإحسان والله يحبُ المحسنين.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ........ لطالما ما ملك الإنسان إحسان
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الاجتماع والمحبةَ بين المؤمنين قوةً، وأن التفرُقَ والتشتتَ ضعفٌ، فإن الإنسانَ قليلٌ بنفسهِ كثيرٌ بإخوانه.
وما المرء إلا بإخوانه............. كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة...... ولا خير في الساعد الأجذم
يقولُ عمرُ رضي اللهُ عنه وأرضاه:
ما أعطيَ عبدُ بعد الإسلامِ خيرٌ من أخٍ صالحٍ يذكرُه بالله، فإذا رأى أحدُكم من أخيه وداً فليتمسك به.
تمسك به مسك البخيل بماله....... وعض عليه بالنواجذ تغنم
ويقولُ الحسنُ عليه رحمةُ الله:
إخوانُنا أحبُ إلينا من أهلِنا و أولادِنا، لآن أهلُنا يذكروننا بالدنيا وإخوانُنا يذكرُننا بالآخرة، ويعنوننا على الشدائد في العاجلة.
إن يختلف نسبٌ يؤلفُ بيننا ...... .ديننا أقمناه مقامَ الوالدِ
أو يختلف ماء الوصالِ فماؤنا....... عذبُ تحدر من غمامٍ واحدِ
يقولُ عمرُ رضي الله عنه:
واللهِ لو لا أن أجالس اخوةً لي ينتقونَ أطايبَ القول كما يلتقط أطايبُ الثمر لأحببتُ أن ألحق بالله الآن.
وها هي جماعة من النمل تصادف بعيرا فيقول بعضها:
تفرقنا عنه لا يحطمكن بخفه، فقالت حكيمة منهن اجتمعن عليه تقتلنه.
تأبى الرماح إذا اجتمعنا تكسرا...... وإذا انفردنا تكسرت أحاد
بنيانُ واحد، جسدُ واحد، أمةٌ واحدة.
لو كبرت في جموعِ الصينِ مإذنةٌ ......... سمعتَ في الغربِ تهليلُ المصلينَ
)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا تضيعَ فرصةً في طاعة:
فإن لكل متحركٍ سكونَ، ولكلِ إقبالٍ أدبار، ورحم اللهُ أبا بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه يوم يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في صحيح مسلم:
( من أصبحَ منكم اليومَ صائما، قال أبو بكرٍ أنا، من تبعَ منكم اليومَ جنازةً، قال أبو بكرٍ أنا، من عاد منكم اليومَ مريضاً، قال أبو بكرٍ أنا، من تصدقَ اليومَ على مسكين، قال أبو بكرٍ أنا، قال (صلى الله عليه وسلم) ما اجتمعنا في رجلٍ إلا ودخل الجنة).
من لي بمثل مشيك المعتدل....تمشي الهوين وتجي في الأول
خرجَ أبو بكرٍ من عندِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن عمرُه في الإسلامِ بضعة أيامٍ، وعاد وهو يقود الكتيبةَ الأولى من كتائبِ هذه الأمة، عاد وقد أدخل في الإسلام ستةً من العشرةِ المبشرين بالجنة يأتي يومَ القيامةِ وهم في صحيفةِ حسناته، وبعضُنا يعيشُ عشرين عاما وثلاثين عاما وستين عاما ومائة عاما وما هدى الله على يديه رجلاً واحد، إلى اللهِ نشكو ضعفنا وتقصيرَنا.
ليسَ هذا فحسب بل يمرُ يوماً من الأيامِ على بلالَ رضي الله عنه وهو يعذبُ في رمضاءِ مكةَ وبه من الجهدِ ما به وهو يقول أحدُ أحد فيقول ينجيك الواحد الأحد.
ويذهب ويرى أنها فرصةٌ لا تتعوضَ لإنقاذِ هؤلاء الضعفاء لآن لا يفتنوا في دينِهم فيصفي تجارتِه ويصفي أموالَه ويأتي إلى أميةَ ابنَ خلف ويقولُ:
أتبيعُني بلالاً؟ قال أبيعُك إياهُ لا خيرَ فيه، فيعطيهِ فيه خمسَ أواقيً ذهبا.
فيأخذَ أمية الخمسَ ويقول:
واللهِ لو أبيت إلا أوقيةً واحدةً لبعتُك بلالا.
قالَ أبو بكر: و واللهِ لو أبيت يا أمية إلا مائة أوقيةً لأخذته منك.
لأن لأبي بكرٍ موازينَ ومقاييسَ ليست لهذا ولا لغيره من البشر فرضي اللهُ عنه وأرضاه.
يقولُ أبوه: إن كنتَ ولا بدَ منفقُ أموالَك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقتِ الشدائد.
فيقولُ أبتاه إنما أريدُ ما أريد.
ماذا يريدُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه؟
إنه يريدُ ما عندَ الله ويريدُ وجه الله والدار الآخرة0.
يقولُ الناسَ ما أعتقَ بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال، يعني لمعروفٍ أسداه بلال إليه فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى اللهُ سبحانه وتعالى الردَ من فوقِ سبعِ سماوات:
)وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى).(/16)
رضي اللهُ عنه وأرضاه قد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.
وها هو خيثمة أبن الحارث كان له أبن يسمى سعد، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، أرادوا الجهاد في سبيل الله، فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لأبنه:
يا بني تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن.
وراء هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض، جهاد في سبيل الله، قال:
والله يا أبتاه لا أجلس مع هؤلاء النساء، للنساء رب يحميهن، والله ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله لو كان غير الجنة يا أبتاه لآثرتك به، ولكنها الجنة، ووالله لا آثر بها أحدا.
ثم ذهب الشاب وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فأستشهد في سبيل الله، بأذن الله نحسبه شهيدا ولا نزكي على الله أحدا.
يقول أبوه بعد ذلك:
والله لقد كان سعد أعقل مني، أواهُ أواه لقد فاز بها دوني، والله لقد رأيته البارحة في المنام يسرح في أنهار الجنة، وثمارها ويقول أبتاه، الحق بنا فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوما فوجد كل واحدة منهما قد رشت عريشها بالماء، وبردت له الماء ووضعت له الطعام.
فلما رأى ذلك بكى وقال: أواهُ أواه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد، والله ما هذا بالنصف.
ورأى أنها فرصة لو فاتته لعد من المنافقين، قال:
والله لا أذوق شيئا حتى ألحق برسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فهيئ زاده وهيئ راحلته وأنطلق وحيدا في صحاري يبيد فيه البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.
ولحق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فأدركه قرب تبوك، وراءه الناس فقالوا:
ركب مقبل يا رسول الله.
فقال (صلى الله عليه وسلم) كن أبا خيثمة، كن أبا خيثمة، قال الصحابة هو أبو خيثمة.
فدعاء له (صلى الله عليه وسلم) ففاز بدعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) وياله من فوز.
)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى).
كانوا سباقين إلى فعل الخير، لا يضيعون فرصة في طاعة الله عز وجل.
والي من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه وأكثر فيه من الزخرفة ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له، فما كان من الحسن البصري رحمه الله يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تعوض أن يعض الناس ويذكرهم بالله ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في ما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق ثم وقف بجانبهم هناك فحمد الله وأثناء عليه فاتجهت إليه القلوب والأبصار ثم قال:
لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلا من ما بنى وشيد أعلا مما شيد، أليس هو القائل: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه، ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غروه، وأندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه أحد السامعين من هذا الوالي فقالوا حسبك يا أبا سعيد حسبك.
قال لا والله، لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار.
ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجلسائه يتميز من الغيظ ويدخل عليه ويقول:
تبا لكم وسحقا وهلاكا وبعدا، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء.
ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله، فتقدم ودخل، فلما رأى السيف والجلاد تمتم بكلمات ولم يعرف الحجاب والحراس ماذا يقول.
ويوم دخل وقد خاف الله، فخوف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي، فما كان منه إلا أن قال:
أهلا بك أيها الإمام، وقام يرحب به ويقول هاهنا يا أبا سعيد، حتى أجلسه على مجلسه وعلى كرسيه بجانبه، ويسأله بعض الأسئلة ثم يقول له أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد، انصرف راشدا بعد أن طيب لحيته.
فخرج من عنده فلحق به أحد الحجاب وقال:
والله لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول ؟
قال دعني ونفسي، قال أسألك بالله ماذا كنت تقول وأنت داخل؟
قال كنت أقول: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي أجعل نقمته علي بردا وسلاما كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم.
اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه فأنجه وأنقذه وحفظه.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
فالحياة أيها الأحبةُ فرص، من اغتنمها فاز ومن ضيعها خسر: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
إذا هبت رياحك فاغتنمها........ فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها....... فلا تدري السكون متى يكون
وإن درت نياقك فاحتلبها..........فلا تدري الفصيل لم يكون
أترجُ أن تكونَ وأنت شيخٌ ......كما قد كنتَ أيامَ الشبابِ
لقد خدعتك نفسُك ليسَ ثوبٌ.... دريس كالجديدِ من الثيابِ(/17)
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أعيبَ أحداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وأن أشتغلَ بإصلاحِ عيوبي، وإنها لكبيرة جد كبيرة، آما يستحي من يعيبَ الناس وهو معيب.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها........ كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
من ذا الذي ما ساء قط....... ومن له الحسنى فقط.
تريد مبرأ لا عيب فيه......... وهل نار تفوح بلا دخان.
هاهو عمر أبنُ عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه يختار جلاسه أختيارا، ويشترطُ عليهم شروطا، فكان من شروطه أن لا تغتابوا ولا تعيبوا أحدا في مجلسي حتى تنصرفوا.
السهلًُ أهونُ مسلكا........ فدع الطرق الأوعرَ
واحفظ لسانك تسترح......فلقد كفى ما قد جرى
هاهوَ ابنُ سيرين عليه رحمةُ الله كان إذا ذُكرَ في مجلسه رجل بسيئةٍ بادر فذكرَه بأحسنِ ما يعلمُ من أمره، فيذبُ عن عرضه فيذبُ اللهُ عن عرضه.
سمع يوما أحد جلاسه يسبُ الحجاجَ بعد وفاته، فأقبل مغضباً وقال:
صه يا أبن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربِه، وإنك حين تقدُمُ على اللهِ ستجدُ أن أحقرَ ذنبٍ ارتكبتَه في الدنيا أشدَ على نفسِك من أعظمِ ذنبٍ اقترفَه الحجاج و )لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
واعلم يا أبن أخي أن اللهَ عز وجل سوف يقتصُ من الحجاجِ لمن ظلمَهم، كما سيقتصُ للحجاجِ ممن ظلموه، فلا تشغلنا نفسك بعد اليومِ بعيبِ أحد ولا تتبعَ عثراتِ أحد.
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها..........ولا يسلم له الدهر صاحب
يا عائبَ الناسِ وهو معيب اتقِ الله، أعراضُ المسلمينَ حفرةٌ من حُفرِ النار.
وخواص المسلمين هم العلماء والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب.
وكم من عائب قولا صحيحا..........وآفته من الفهم السقيم
ومن يكو ذا فم مر مريض............. يجد مرا به الماء الزلال
فإن عبت قوما بالذي فيك مثلُه..........فكيف يعيبُ من الناسَ من هو أعورُ
وإن عبتَ قوما بالذي ليسَ فيهمُ....... فذلك عند اللهِ والناسِ أكبرُ
من طلبَ أخا بلا عيبٍ صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضى:
فعينُ الرضى عن كل عيبٍ كليلةُ.........ولكن عين السخطِ تبدي المساوي.
فكيف ترى في عينِ صاحبك القذى..... ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ
بعض الأخوة ظلمة، بعضُ الأخوة غيرُ منصفين، يرون القذاةَ في أعين غيرهم ولا يرونَ الجذعَ في أعينِهم.
فحالُهم كقولُ القائل:
إن يسمعوا ُسبةً طاروا بها فرحا...... مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمُ إذا سمعوا خيرا ذكرت به........ وإن ذكرتُ بسوءٍ عندهم أذنوا
إن يعلموا الخيرَ أخفوه......وإن علموا شرا أذاعوا... وإن لم يعلموا كذبوا.
طوبى لمن شغلته عيوبُه عن عيوبِ غيره. وكان حالُه:
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها..... لنفسيَ عن نفس من الناسِ شاغلُ
والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الصاحبَ ساحب وأن القرينَ بالقرين يقتدي:
وأن الناسَ أشكالٌ كأشكالُ الطير، الحمامُ مع الحمام، والغراب مع الغراب والدجاجُ مع الدجاج، والنسور مع النسور والصقورُ مع الصقور، وكلاً مع شكلِه، والطيورُ على أشكالها تقعُ، والخليلُ على دينِ خليله، ففرَ من خليلِ السوء فِرارك من الأسد، فهو أجربُ معدٍ، يقودُك إلى جهنَم إن أجبتهُ قذفَك فيها وسيكون لك عدواً بين يدي الله الواحد الأحد: )الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
هاهوَ عقبةُ ابن أبي مُعيط كان يجلسُ مع النبيِ (صلى الله عليه وسلم) بمكة ولا يؤذيه، وكانَ كافرا، وقد كان بقيةُ قريشُ إذا جلسواُ معه (صلى الله عليه وسلم) يؤذونَه.
كانَ لأبنِ أبي معيط صديقٌ كافرٌ غائبٌ في الشام وقد ظنت قريش أن عقبةَ قد أسلم لما يعامل النبي (صلى الله عليه وسلم) من معاملة حسنة.
فلم قدِمَ خليله من الشام قالت قريش هاهو خليلك ابنَ أبي معيطٍ قد أسلم.
فغضب خليله وقرينه غضبا شديداً وأبى يكلِمَ عقبةَ وأبى أن يسلمَ عليه حتى يؤذي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاستجاب عقبةَ له، وأذى النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى أنه خنقه بتلابيبه ذات مرة، وحتى أنه بصق في وجهه الشريف مرة أخرى فأستأثرَ بكلِ حقارةٍ ولؤم على وجه الأرض في تلك الساعة.
وكان عاقبته أن مات يومَ بدرٍ كافرا، فأنزل ال فيه وفي أمثاله قرأناً يتلى إلى يومِ القيامة:
)وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً).
فإياك وصديق السوء فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ.
إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارَهم......ولا تصحبِ لأردى فتردى مع الرديء(/18)
عن المرءِ لا تسأل واسأل عن قرينهِ......فكلُ قرين بالمقارنِ يقتديِ
من جالس الجرب يوما في أماكنها......لو كان ذا صحة لا يأمن الجرب
أنت في الناس تقاس....... بالذي اخترت خليلا
فأصحب الأخيار تعلو.... وتنل ذكرا جميلا
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعمل بما أقول ما استطعت إلى ذلك سبيلا:
ومن لم يعمل بما يقول وبما يدعو له فإنما يسخر من نفسه أولا:
كالعيس في البيداء يقتلها الضما...........والماء فوق ظهورها محمول
كحامل لثياب الناس يغسلها.............وثوب غارق في الرجس والنجس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها........ إن السفينة لا تجري على اليبس
ركوبك النعش ينسيك الركوب على.....ما كنت تركب من بعل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد...............وضمت القبر تنسي ليلة العرس
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها..............فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع ما تقول ويحتفى..............بالوعظ منك وينفع التعليم
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله..............عار عليك إذا فعلت عظيم
فأحرص على ما ينفعك واعمل بما تقول ما استطعت: )كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن إرضاء الناس غاية لا تدرك:
نعم إرضاء البشر ليس في الإمكان أبدا، لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتورهم الهوى ويعتورهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك فلا يمكن إرضاءهم، فمن ترضي إذا ؟
أرضي الله جل وعلا وكفى.
هاهو رجل يبني له بيتا فيضع بابه جهة الشرق، فيمر عليه قوم فقالوا:
هلا وضعت بابه جهة الغرب لكان أنسب.
فيمر آخرون ويقولون هلا وضعت بابه جهة الشمال لكان أجمل.
ويمر آخرون ويقولون لولا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب.
وكل له نظر ولن ترضيهم جميعا فأرضي الله وكفى.
هاهو رجل وأبنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم فقالوا:
يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشي وراءه.
فما كان منه إلا أن نزل وأركب هذا الطفل، فمروا على قوم آخرين فقالوا:
ياله من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة.
فركب الاثنان على الدابة ومروا على قوم آخرين فقالوا:
يا لهم من فجرة حملوها فوق طاقتها.
فنزل الاثنان ومشيا وراء الدابة فمروا على قوم فقالوا:
حمقى مغفلون يسخر الله لهم هذه الدابة ثم يتركونها تمشي ويمشون ورائها.
)وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ َ).
من ترضي أخي في الله ؟ أرضي الله وكفى. من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أما إرضاء رب الناس فهو الممكن سبحانه وبحمده، بل هو الواجب، لأن سبيل الله واحد، ولأن دينه واحد:
)وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).
يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف) حدثا يناسب هذه النقطة.
يذكر أن طفلة صغيرة من بيت محافظ تعود لأمها من المدرسة ذات يوم وعليها سحابة حزن وكآبه وهم وغم، فتسألها أمها عن سبب ذلك فتقول:
إن مدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة.
فتقول الأم ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا.
فتقول الطفلة، لكن المدرسة لا تريدها.
قالت الأم، المدرسة لا تريد والله يريد فمن تطيعين إذا؟ الذي خلقك وصورك وأنعم عليك أم مخلوقا لا يملك ضرا ولا نفعا.
فقالت الطفلة بفطرتها السليمة، لا.. بل أطيع الله وليكن ما يكون.
وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس وتذهب بها إلى المدرسة، فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، أكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أليم أذهل المعلمة، ثم كفكفت دموعها وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، تقول:
والله لا أدري من أطيع أنتي أم هو!
قالت المعلمة ومن هو ؟
قالت الله رب العلمين الذي خلقني وخلقك وصورني وصورك، أأطيعك فألبس ما تريدين وأغضبه هو، أم أطيعه وأعصيك أنتي، لا، لا سأطيعه وليكن ما يكون.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا........ فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ذهلت المعلمة وشدهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة، ووقت منها الكلمات موقعا عظيما، وسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أم البنت وتقول:
لقد وعظتني أبنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله وأبت إلى الله، فقد جعلت نفسي ندا لله حتى عرفتني ابنتك من أنا، فجزاك الله من أم مربية خيرا.(/19)
وهنا أقول – أيها الأحبة- إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تأثر في السامعين أبدا.
ألا فأرضي الله جل وعلا وكفى.
فلست بناجي من مقالة طاعن......... ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما..... ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
)وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحبَ الحقَ وفلاناً ما اجتمعا:
فإذا افترقا كان الحقَ أحبَ من فلانٍ ونفسي ومالي وأهلي ولدي والناسِ أجمعين.
لأنني مولع بالحق لست إلى سواه..........أنحو ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا.....من مات من غيظه منهم له كفن
هاهوَ سعد ابنَ أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، يستجيبُ لدعوةِ الهدى والحق فيكونَ ثالثُ ثلاثةٍ أسلموا، لكن إسلامه لم يمرَ هيناً سهلا، وإنما تعرضَ الفتى إلى تجربةٍ من أقسى التجارب أنزل الله في شأنها قرأناً يتلى، فلما سمِعت أمهُ بخبرِ إسلامِه ثارت ثائرتُها، يقول:
وكنت فتى براً محباً لها، قال فأقبلت تقول يا سعد ما هذا الدينُ الذي اعتنقته فصرفَك عن دينِ آبائِك وأجدادِك، لتتركنَ هذا الدين أو لامتنعنَ عن الطعامِ والشراب حتى أموتَ فيتفطرُ قلبُك حزنٌ علي ويأكلَك الندمُ بفعلتك التي فعلت ويعيرَك الناس بها أبد الدهر.
قال قلت يا أماه لا تفعلي فأنا لا أدعو ديني لشي.
لكنها نفذَت وعيدها وامتنعت عن الطعامِ والشراب أياما، كان يأتيها ويسألَها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفضُ ذلك، فما كان منه ذلك اليومَ إلا أن جاءها وقال:
يا أماه إني لعلى شديدِ حبي لكي لأشدُ حباً لله ورسولِه، واللهِ لو كانت لكِ آلفُ نفسٍ فخرجت منكِ نفساً بعد نفسٍ ما ارتددت عن ديني فكلي أو دعي.
فلما وضعها أمام هذا الأمرَ ما كان منها إلا أن أكلَت على كُره منها فأنزل اللهُ فيه وفيها: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وهاهو الإمام مالك يأتيه رجل يستفتيه وهو في حلقة العلم في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يدخل هذا الرجل إليه ويقول:
يا إمام قد قلت لزوجتي أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر.
ففكر الإمام قليلا ثم قال: ليس هناك أحلى من القمر، هذه طلقة ولا تعد لذلك.
كان تلميذه الشافعي يجلس إلى سارية من السواري، ولم يدري ما الذي حدث بينهما، وكان حريصا على طلب العلم، فلحق بهذا الأعرابي وقال: ما السؤال وما الإجابة، يريد أن يستفيد فائدة.
قال: قلت للإمام كذا وكذا، فقال القمر أحلى من زوجتك فزوجتك قد طلقت طلقة.
فقال: الإمام الشافعي لا، بل زوجتك أحلى من قمر.
قال أو قد رأيتها، وكانوا ذا غيرة، اغتاظ منه، قال لا، ألم تسمع قول الله جل وعلا:
)وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ *لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
فخلق الإنسان أحسن خلق، وأقوم خلق وأعدل خلق.
قال إذا نرجع إلى الإمام مالك، قال نرجع إليه.
فرجعوا إلى الإمام مالك فأخبروه الخبر فقال، الحق أحق أن يتبع أخطأ مالك وأصاب الشافعي.
فما أحوجنا إلى معرفة الرجال بالحق لا العكس.
والحق يعلو والأباطيل تسفل.... والحق عن أحكامه لا يُسأل
وإذا استحالة حالة وتبدلت..... فالله عز وجل لا يتبدل.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا نفرح في صفوفنا بالهازلين:
المضيعين لأوقاتهم المفرطين في المزاح المنغمسين في الملهيات.
نريد رجالا أشداء لا ينثنون للريح، يشقون الطريق بعزم وجد، لا تلهيهم كرة، ولا يضيعهم تلفاز ولا هراء، وقتهم أعظم وأثمن من أن يضيع في مثل هذه الترهات.
نريد من يأخذ الحياة بجد، فالحياة الحقيقية للشجعان الأقوياء العاملين، ولا مكان فيها للكسالى والتنابلة والبطالين والمتخاذلين.
نريد من يشق طريقه معتمدا على الله بعيدا عن التفكير الهامشي السافل، التفكير في الشهوات، التفكير في الملهيات، والركض ورائها والتفكير المادي المنحط.
نريد شباب يتربى على معالي الأمور، ويترفع عن سفاسف الأمور ليكونوا ممن قيل فيهم:
شباب ذللوا سبل المعالي........ وما عرفوا سوى الإسلام دين
إذا شهدوا الوغى كانوا حماة.... يدكون المعاقل والحصون
وإن جن المساء فلا تراهم........ من الإشفاق إلا ساجدين
شباب لم تحطمه الليالي......... ولم يسلم إلى الخصم العرين
وما عرفوا الأغاني مائعات...... ولكن العلا صيغة لحون
ولم يتشدقوا بقشور علم....... ولم يتقلبوا في الملحدين
ولم يتبجحوا في كل أمر....... خطير كي يقال مثقفون
كذلك أخر الإسلام قومي...... شبابا مخلصا حرا أمين
وعلمه الكرامة كيف تبنى........ فيأب أن يذل وأن يهون(/20)
أين نجد هؤلاء الشباب ؟
نجد هؤلاء في المسارح، أعلى المدرجات، أعلى الأرصفة ؟
لا... إنما نجدهم في حلقات العلم والتعلم، في بيوت الله، في الأمر والنهي.
فلتأخذ الحياة بجد، ولتعد الأنفس ليوم الشدائد، فما ندري ما المرحلة القادمة.
يا رقد الليل مسرورا بأوله...... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
كيف يرجو من به كسل....... نيل ما قد ناله الرجل
من يريد العز يطلبه............. في دروب ما به سهل
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن النفس البشرية كالطفل تماما:
إن هذبتها وأدبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدت وندت وشردت.
النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات والملذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، وإذا لم يقيدها وازع دين عظيم تنقاد إلى السقوط والهلاك.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على .......حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فخالف النفس والشيطان واعصهما........ وإن هما محضاك النصح فاتهمي
وإصلاح نفسك بما يكون أيها الحبيب ؟
بالمجاهدة: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
يقول ثابت البناني عليه رحمة الله:
تعذبت في الصلاة عشرين سنة، يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله، قال ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها.
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
يقول أحد السلف، ما من شيء فعلته صغر أو كبر إلا وينشر له ديوانان، لما وكيف.
لما فعلت ؟، ما علت الفعل وما باعث هذا الفعل؟ هل هو لحظ دنيوي، لجلب نفع لدفع ضر، أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده.
هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظك وهواك.
وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل الفعل وفق ما شرعه الله ورسوله، أم ليس عليه أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) القائل: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية.
يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي.
يا نفس أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز، وطوبى لمن صحة له خطوة يراد بها وجه الله.
هاهو أبن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته، تحل به سكرات الموت فيشتد بكائه ونحيبه، فيقول جلاسه: يا إمام أحسن الظن بالله، ألست من فعلت ومن فعلت.
قال والله ما أخشى إلا قول الله: ) وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).
)وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت.
وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر:
قد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عيني متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوما واعظا فنظرت حوالي أكثر من عشرة آلاف ما منهم من أحد إلا رق قلبه أو دمعت عينه، قال فقلت في نفسي:
كيف بك يا بن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، كيف بك يا ابن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، ثم صاح إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غدا فلا تخبرهم بعذابي لأن لا يقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه.
إلهي وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين لا تخيب من علق أمله ورجائه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبدك إلى دينك ولم يكن أهلا لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك أنت أهل الجود والكرم.
فأخلصوا تتخلصوا، طوبى لم صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن كثيرا من الناس محاضن خالدة لتربية الأجيال:
ولبعضهن مواقف مشرفة تصلح نبراسا وأنموذجا لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة وهي الأسوة إلا عند من رحمهن الله سبحانه.
فإليكم بعض النماذج:
هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، يتوفى عنها زوجها ويترك له أبنا هو الزبير رضي الله عنه، فنشأته نشأة الخشونة وربته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل حط، فإذا أحجم ضربته ضربا حتى أنها عوتبت من بعض أعمامه حيث قال لها إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم، قالت مرتجزة:
من قال قد أبغضته فقد كذب.... وإنما أضربه لكي يلب .....ويهزم الجيش ويأتي بالسلب.(/21)
آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهاجرت مع من هاجر وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحُد جاهدت مع أبن أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه، ذرية بعضها من بعض.
فلم انكشف المسلمون في أحد كما تعلمون هبت هذه المرأة كاللبؤة وانتزعت رمحا من أحد المنهزمين وانقضت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد وتقول ويحكم أتفرون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ويراها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقول لأبنها الزبير :
ردها فإن أخاها حمزة قد مثل به المشركون.
فقال لها ابنها إليك يا أماه، قالت تنحى عني لا أم لك، أتفر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرك أن ترجعي.
وقد كانوا وقافين عند أمر الله وأمر رسوله- قالت الأمر أمر الله وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
توقفت وقالت ولما يردني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إنه قد بلغني أنه قد مثل بأخي وذلك قي ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله.
فقال (صلى الله عليه وسلم) لأبنها خلي سبيلها، فخاضت المعركة حتى انتهت.
ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفت العظماء، وقد بقر بطنه وأخرجت كبده، وجدع أنفه، وقطعت أذناه، وشوه وجهه، فاستغفرت له وجعلت تقول:
إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب:
وليس الذي يجري من العين مائها....... ولكنها روح تسيل فتقطر
تقول الأصبرن واحتسبن إن شاء الله، الأصبرن واحتسبن إن شاء الله.
هذا موقف من مواقف صفية، وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي (صلى الله عليه وسلم) مع نساء المسلمين في حصن حسان وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود فأرسلوا واحدا ليرى هل أبقى الرسول (صلى الله عليه وسلم) حماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يبقي أحدا، فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعامود فضربته أولى وثانية وثالثة حتى قتلته، ثم احتزت رأسه ثم طلعت به إلى أعلى الحصن ثم رمت برأسه فإذا هو يتدحرج بين أيد اليهود، فقال قائل اليهود قد علمنا أن محمدا لم يترك النساء من غير حماة.
فرحم الله صفية رحمة واسعة فقد كانت مثلا فذا للأم المربية المسلمة، ربت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركا في الإسلام فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالا كصفية.
وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظى به امرأة قبلها ولا بعدها وهي خدمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في طريق الهجرة في الغار.
ثم أنظر إلى تلك المرأة في أواخر سني عمرها، في أحلك المواقف وقد بلغت السابعة والتسعين، أبنها يحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف وماذا يفعل.
فقالت تلكم المؤمنة الصابرة:
أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق فأصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبأس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك.
قال يا أماه والله ما أردت الدنيا، وما جرت في حكم وما ظلمت وما غدرت والله يعلم سريرتي، وما في قلبي، فقالت الحمد لله وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله.
تعانقا عناق الوداع، ثم قالت:
يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك0.
فأكب على يديها ورجليها ووجهها يلثمها ويقبلها دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس أبنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها وهي تقول ما هذا الذي تلبسه؟
قال درعي، قالت يا بني ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك فهو أقوى لوثبتك وأخف لحركتك، وألبس بدلا منه سراويل مضاعفة حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك.
فنزع درعه وشد سراويله ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول لا تفتري عن الدعاء يا أماه.
فرفعت كفها قائلة اللهم أرحم طول قيامه، وشدت نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم أرحم جوعه وظمئه في هواجر مكة والمدينة، اللهم إني قد أسلمته لك ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين.
ويذهب أبنها وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ تلقى أبنها عبد الله ضربة الموت ليلقى الله عز وجل، ليس هذا فحسب بل يصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون.
علو في الحياة وفي الممات...... بحق أنت إحدى المكرمات
كأنك واقف فيهم خطيبا...... وهم وقفوا قياما للصلاة.
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس حتى تصل، فتأتي فإذا هو الطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة ويقول:
يا أماه إن الخليفة أوصاني بك خيرا.(/22)
فتصيح به لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب وعند الله تجتمع الخصوم.
ويتقدم أبن عمر رضي الله عنه معزيا لها ومواسيا لها، فيقول اتقي الله واصبري، فتقول له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله:
يا ابن عمر ماذا يمنعني أن أصبر وقد أهدي رأس يحي ابن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
أريتم ما أعظم الأم وما أعظم الابن وما أعظم الأب.
سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، وسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين.
النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف ناهيك عن النساء.
فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) تتزوج علي رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تأثر الرحى في يدها، وتستقي في القربة حتى أثرت في نحرها، وتقم البيت، وتوقد النار، وتربي أبنائها فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، هي بنت من ؟ هي أم من؟ هي زوج من؟
من ذا يساوي في الأنام علاها ؟
أما أبوها فهو أكرم مرسل........ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى..... سيف غدا بيمينه تياها
فلو كان النساء كمن ذكرنا....... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لأسم الشمس عيب... وما التذكير فخر للهلال
آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة، بصفية وأسماء وعائشة وفاطمة.
فالأم مدرسة إذا أعددتها..... أعددت شعبا طيب الأعراق
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الدهر دول والأيام قلب لا تدوم على حال:
) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ).
الدنياً غرارةُ خداعةُ إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وكم من ملك رفعت له علامات فلما علا مات.
هي الأقدارُ لا تبقي عزيزا ........ وساعاتُ السرورِ بها قليلة
إذا نشر الضياءَ عليك نجمُ ........ وأشرقَ فأرتقب يوما أفوله
فيومُ علينا ويومُ لنا ......... ويومُ نساءُ ويومُ نسر
الأمرُ جدُ وهو غيرُ مزاح.............. فأعمل لنفسك صالحا ياصاح
كيف البقاءُ مع اختلافِ طبائعٍ......... وكرورُ ليلٍ دائمٍ وصباح
تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما.......... تجري عليه سفينةُ الملاح
تجري بنا في لجِ بحرٍ ماله................ من ساحلٍ أبدا ولا ضحضاح
فاقضوا مئارَبكم عجالا إنما..............أعمارُكم سفرُ من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا..........أن تسترد فإنهن عوار
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر........ والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيف.......وتستقر بأقصى قاعه الدرر
وفي السماء نجوما لا عداد لها....... وليس يكسف إلا الشمس والقمر.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن ميت الأحياء من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر:
)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
ويقول (صلى الله عليه وسلم): (لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه وتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم).
(لتأمر بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم).
(لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم).
كم من ميت هو حي بأعماله، بأمره ونهيه بعلمه وعمله، وكم حي ميت يرى المنكر فلا يهزه:
يا رب حي رخام القبر مسكنه....... ورب ميت على أقدامه انتصب
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن العصا أداة للتقويم والتربية والإصلاح:
إذا صاحبتها يد حانية ولسان هادئ وقلب رحيم، العصا أداة نافعة متى ما وجدت من يستخدمها بحكمة ولطف، متى ما وضعت في موضعا أفادت كالدواء تماما.
إننا نريد العصا حين نستنفذ كل سبيل للعلاج وعنده آخر الدواء الكي، ومن الكير يخرج الذهب.
وقسا ليزدجروا ومن يكو حازما...... فليقس أحيانا على من يرحم
وهي كذلك أداة لتوكأ والهش على الغنم وفيها مآرب أخرى، وإن للخير سبل، وكم من مريد للخير لا يدركه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لكل بداية في الدنيا نهاية:
ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع:
إذا تم شيء بدأ نقصه............ ترقب زوالا إذا قيل تم
بينما المولود يولد ويفرح به ويؤذن في أذنه، إذ به بعد وقت ليس بالطويل يحمل ليصلى عليه ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين آذان وصلاة، ولا إله إلا الله ما أقصرها من حياة.
آذان المرء حين الطفل يأتي......... وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير ............... كما بين الآذان إلى الصلاة(/23)
بينما الإنسان في أهله في ليلة آمنا مطمأنا فرحا يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيدا فريدا لا مال ولا ولد ولا أنيس ولا صاحب سوى العمل، وإذا به خبر يخبر به.
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا........فإذا به خير من الأخبار
بينما الطبيب يعالج من مرض إ به يصاب بنفس المرض، فلا طبه ينفعه، ولا دواءه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقي غيره على يديه وحال الناس:
مال الطبيب يموت في الداء الذي..........قد كان يبرأ مثله في ما مضى
مات المداوي والمداوى والذي............جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ما أنت والله إلا كقطعة ثلج تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى وكأن لم تكن:
سيصير المرء يوما.....جسدا ما فيه روح
نح على نفسك يا.....مسكين إن كنت تنوح
لست بالباقي ولو.....عمرت ما عمر نوح
فأنتبه من رقدت..........الغفلة فالعمر قصير
واطّرح سوف وحتى.....فهما داء دخيل
واتقي الله وقصر أملا...ليس في الدنيا خلود للملأ
الموت لنا بالمرض ...... إن لم يفاجئ اليوم فاجئ في غد
الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب، ومن باب إلا وبعده دار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها....... إلا الذي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه.......... وإن بناها بشر خاب بانيها
كتب الموت على الخلق فكم......... فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن ............. ملك الأرض وولى وعزل
أين من سادوا وشادوا وبنوا......... هلك الكل ولم تغني الحيل
أين أرباب الحجى أهل التقى......... أين أهل العلم والقوم الأول
سيعيد الله كل منهم................. وسيجزي فاعلا ما قد فعل
هل شاهدت محتضرا في شدة سكراته ونزعاته ؟، هل تأملت صورته بعد مماته ؟، هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته ؟
هل تذكرت ذلك فاستعديت لتلك اللحظات العصيبة فزدت في عملك وزدت في اجهاد نفسك واجتهادك.
هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على يعوده فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به فيرجع إلى أهله حزينا كئيبا بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له:
يا إمام الطعام يحرمك الله، قال يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم فو الذي نفسي بيده لقد لقيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فمثل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكيك الأسيرة وتتضرع وتقول من ليتمي بعدك ؟
وابنك ينظر ما يتعجل من اليتم بعدك ويقول من لحاجتي أبتاه ؟، وأنت تسمع فلا ترد الجواب.
هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتوارى في التراب، ثم تسألت عن حالها ما حالها.
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قالَ قال (صلى الله عليه وسلم):
(إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقها، إن كانت صالحت قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق).
تصرخ صرخات تقض المضاجع، فهل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات، يا ويلها أين تذهبون بها، والله لصعقنا ولما حملنا جنازة أبدا، وهذا ما خشيه علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم قال كما في صحيح مسلم:
(لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل
وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والأخوان، فما ينفع البكاء وما ينفع العويل وما ينفع إلا ما قدمت من صالح الأعمال.
هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابدا قد حضرته الوفاة وحوله أهله يبكون فقال لوالده أيها الشيخ ما الذي يبكيك ؟
قال أبكي فقدك وما أرى من جهدك.
فبكت أمه فقال أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟
قالت فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
فبكى صبيانه وأهله وزوجه قال يا معشر اليتامى ما الذي يبكيكم؟
قالوا نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.
فما كان منه إلا أن صرخ وقال كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآ لا ةخرتي، أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهي، أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي، ثم صرخ صرخة عظيمة شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.
أيها المسلم هل نظرت إلى القبور؟
ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رق قلبه وذرفت عيناه إذ يرى فيها الأباء والأمهات والأصحاب والأخوان والأخوات، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريبا سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
قد يتدانى القبران وبينهما ما بين السماء والأرض نعيما وجحيما.(/24)
ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رق قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفورا فهيأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر فرأى صاحبه يدلى فيه فسأل نفسه على ماذا أغلق؟
على نعيم أم على جحيم، على مطيع أم على عاص إلا رق قلبه.
فلا إله إلا الله، هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم، ألا فتذكر هادم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات ليهتز قلبك خشية من الله فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.
هاهو أبن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع وكنت قابضا على يده فأختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على قبر فبكى بكاء طويل.
فقلت ما لك يا أمير المؤمنين ؟
قال يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا ابن عوف هذه الحفرة، قال فأبكاني والله.
فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.
هاهو (صلى الله عليه وسلم) كما في المسند من حديث البراء، أنه رأى أناسا مجتمعين فسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل على قبر يحفرونه ففزع (صلى الله عليه وسلم) وذهب مسرعا حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبته وبكى طويلا ثم أقبل على الناس وهو يقول:
يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أبي ذر:
(إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تأط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومالك واضع جبهته ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، (وفي رواية المنذر)، ولحثوتم على رؤوسكم التراب).
والله لو علمن حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته،الأمر خطير جد خطير:
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل..... فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بموضع ينسى الخليل به الخليل.............. وليركبن عليك من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا فلا يبقى العزيز ولا الذليل
خالف هواك إذا دعاك لريبة.......... فلرب خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي........ حتى متى ولا ترعوي و إلى متى
علمتني الحياة في ظل العقيدة :
أن من خدم المحابر خدمته المنابر، وكم من سراج أطفأته الريح وكم من عبادة أفسدها العجب.
وأن وضع الندى في موضع السيف في العلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى.
وأن من أراد أمير كأبي بكر فليكن كخالد وسعد.
وأن سوف جندي من جنود إبليس.
وأن معظم النار من مستصغر الشرر
وأن الحق لا بد أن تحرسه قوة.
وأنه بالشكر تدوم النعم
وأن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
وأن النار من بري العودين تذكى... وأن الحرب مبدأها كلام
وأن ثمن العزة قد يكون قطرة دم.
وأن الجواد قد يكبو، وأن الصارم قد ينبو.
وأن النار قد تخبو.
وأن الإنسان محل النسيان.
وأن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.
وأخيرا علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعظم سلاح بأيدي المؤمنين هو الدعاء:
سهام الليل لا تخطئ ولكن...... لها أمد و للأمد انقضاء
لا تسألن بُني آدم حاجة........ واسأل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله.... وبني آدم حين يسأل يغضب
سلاح عظيم غفل عنه المؤمنون، لن يهلك معه أحد بأذن الله، إنه الدعاء، الالتجاء إلى رب الأرض والسماء: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
)وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
يقول ابن كثير عليه رحمة الله:
كان بقي ابن مخلد أحد الصالحين الأخيار عابدا قانتا خاشعا أتته امرأة صالحة فقالت:
يا بقي إن ابني أسره الأعداء في أرض الأندلس وليس لي من معين بعد الله إلا ابني هذا فسأل الله أن يرد علي ابني وأن يطلقه من أسره.
فقام وتوضأ ورفع يديه إلى الحيي الكريم الذي يستحي أن يرد يد العبدين صفرا خائبتين سبحانه وبحمده، دعا الله عز وجل أن يفك أسر ابنها، وأن يجمع شملها بابنها، وأن يفك قيده.
وبعد أيام وإذ بابنها يأتي من أرض الأندلس، فتسأله أمه ما الذي حدث ؟
قال في يوم كذا في ساعة كذا، وهي ساعة دعاء بقي، سقط قيدي من رجلي فأعادوه فسقط، الحموه فسقط فذعروا ودهشوا وخافوا وقالوا أطلقوه، قالت فعلمت أن ذلك بدعاء صالح من عبد صالح.
)أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
الدعاء الدعاءَ هو العبادة.
هاهو صلة ابن أشيم كان في غزوة فمات فرسه، فتلفت يمينا وشمالا ثم قال:
اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة فأني استحي من سؤال غيرك.
وعلم الله صدقه في سرائه وضرائه فأحي الله عز وجل له فرسه.
فركبه حتى إذا وصل أهله قال لغلامه فك السرج فإن الفرس عارية، فنزع السرج فهبط الفرس ميتا.(/25)
ولا عجب فمن توكل على الله ومن التجأ إلى الله أجاب دعائه وحفظه ولو كادته السماوات والأرض لجعل الله له من ذلك فرجا ومخرجا.
فمرة أخرى إذا ادلهمت الخطوب.
وضاقت عليك الأرض، وقل الناصر.
وزمجر الفساد، ودعم الباطل، وكبت الحق.
وعير البخيل الكريم، وعير العيي الفصيح، وعير الظلام الشمس.
وطاولت الأرض السماء سفاهة...... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
وتمنط كل جبان، وتخلى الأمناء، ورفع السفهاء، وتظاهر بالوفاء كل خوان.
ونطق الرويبضة، وغدى القرد ليثا وأفلتت الغنم فأرفع يديك إلى من يقول:
)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر...... وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله........ روحا وريحانا بقولك كون
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسا..... وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثلهم في كربة........... فأرحم عبادا كلهم ذي النون
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المبارك باسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت، أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا اللسنة ذاكرة، وقلوبا خاشعة، وأعينا مدرارة، وإيمانا نجد حلاوته يوم أن نلقاك.
رباه إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك وحملة كتابك وأتباع رسولك يرجون رحمتك ويخشون عذابك.
اللهم الطف بنا، اللهم الطف بنا، اللهم ارحمنا.
رباه لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا مغيثا لمن لاذ بحماه، يا قريبا لمن دعاه، يا معيذا من استعاذ به أجرنا من النار، ومن دار الخزئ والبوار.
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فأقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفنا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين.
اللهم وأجعل ما قلناه خالصا لوجهك الكريم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
تم الكلام وربنا محمود....... وله المكارم والعلا والجود
وعلى النبي محمد صلواته..... ما ناح قمري وأورق عود
واحات الهداية(/26)
هكذا علمني الغزالي (4)
* « الفقر الثاني أسوا عقبي من الفقر المالي, والشعب الذي يعانى من الغباء والتخلف لا يصلح للمعالي ، ولا يستطيع حمل رسالة كبيرة » [ من كنوز السنة : ص 13 ]
* « الإسفاف لا يحتاج إلى جهد,يكفى إن يستسلم المرء للهوى فينزلق إلى أسفل .. » [ من كنوز السنة : ص50 ]
* « الإنسان بخير ما كره الرذيلة واشمأز من فعلها وتحرز من الوقوع بها .. » [ من كنوز السنة : ص87 ]
* « العظمة الحقيقية هي نفس زكيه وعقل سليم ورباط وثيق بالله جل شانه, والمظهر الفخم على كيان أجوف كالثوب الجميل على جلد أجرب, أو بدن مجذوم » [ من كنوز السنة : ص102 ]
* « الحياة ليست لونا واحدا, فان الجو يصفو ويغيم, والصحة تقوى وتضعف, والأيام تقبل وتدبر, والمهم ألا تتعثر الخطأ مع بعد الغاية ووعثاء الطريق .. » [ من كنوز السنة : ص103 ]
* « الفرق كبير بين كسيح قعد أول الطريق, وبين ناشط مرن على حطم العقبات واكتساح السدود . والمؤمن الحق يحيا ملء الحياة, ويعلم أن الموت اختفاء من ساحة للظهور في ساحة أخرى, فليس هناك عدم, بل هناك ارتباط بالله, وعبودية دائمة لذاته, وشعور موصول بأسمائه الحسنى .. » [ من كنوز السنة : ص125 ]
* « نور في الفكر, وكمال في النفس, ونظافة في الجسم, وصلاح في العمل, ونظام يرفض الفوضى, ونشاط يحارب الكسل وحياة موارة في كل ميدان .. » [ جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج : ص5 ]
* « المعصية مخالفة نص أو تعطيل قاعدة , مع بقاء كليهما قائما واضحا على ما جاءت به الشريعة المحكمة. و العاصي يخالف أمر الله , وهو يدري ما أمر الله ! وقد يتوب إليه عاجلا أو آجلا .. أما المبتدع فقد اضطربت في ذهنه معاني الدين فهو يتقرب إلى الله بما لم يشرع .. » [ ليس من الإسلام : 92-93 ]
* « المستبد لا يري إلا نفسه, ولا يبصر إلا مصلحته, ولا يقرب منه إلا من يتملقه ويترضاه .. » [ مشكلات في طريق الحياة الإسلامية : ص59 ](/1)
هكذا فعل هؤلاء
لفضيلة الشيح/ محمد صالح المنجد
( الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
إن معرفة أخبار الماضين مما يحمس النفوس للعمل ويطرد عنها غبار الكسل انهم عرفوا قيمة الوقت رجال عرفوا الله وصدقوا المرسلين ، انهم اغتنموا أعمارهم وشبابهم و أموالهم وصحتهم انهم عرفوا قيمة هذه النعمة نعمة العمر ، كانوا يغتنمون أيام دهرهم في عبادة الله – عز وجل – فكيف كانوا ؟ وماذا فعلوا ؟ هكذا فعل هؤلاء سلفنا فما حالنا نحن ؟ ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربى ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل ونيته للخير قائمة إضاعة الوقت اشد من الموت لأن الوقت يقطعك إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا هكذا كان أولئك السلف لو قيل لحماد بن سلمة : انك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا ، كنت تراه دائما مشغولا إما أن يحدث و أما أن يقرأ وسبح أو يصلي وقد قسّم النهار على ذلك .
كانوا يقولون : افقد الساعات عليّ ساعة آكل فيها . أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يباحث عند الموت فزاره بعض عواده فقال لتلميذه إبراهيم بن الجراح : يا إبراهيم ما تقول في مسألة قال : في مثل هذه الحالة وأنت في النزع ، قال : ولا بأس بذلك ندرس لعله ينجو به ناج ثم قال : يا إبراهيم أيهما افضل في رمي الجمار أن يرميها ماشيا أو راكبا؟ قلت : راكبا قال : أخطأت قلت : ماشيا ، قال: أخطأت ، قلت : قل فيها يرضى الله عنك ، قال : أما ما كان يوقف عنده للدعاء في الجمرة الأولى والثانية فالأفضل فيها ماشيا وأما ما كان لا يوقف عنده أي الجمرة الأخيرة الكبرى فالأفضل أن يرميه راكبا ، ثم قمت من عنده فما بلغت باب الدار حتى سمعت الصراخ عليه وإذا هو قد مات – رحمه الله - .
عبيد بن يعيش يقول : أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل كانت أختي تلقمني وأنا اكتب الحديث . فهكذا كان يشغلهم كتابة الحديث عن الطعام . الطبري المفسر المحدث الفقيه حافظ الوقت كان يصلي الظهر يجلس يكتب في التصنيف إلى العصر ثم يجلس للناس يُقرئ ويقرأ عليه إلى المغرب ثم يجلس للفقه والدرس إلى العشاء الآخرة ثم يدخل منزله قد قسم ليلة ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وقفه لله – عز وجل – مرت عليه أربعين سنة لا يمر عليه يوم منها إلا يكتب فيها أربعين ورقة . الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه حتى يستفيد حتى من مشوار الوقت في المشي . سليم الرازي أحد أئمة الشافعية – رحمه الله – نزل داره يوما ورجع فقال قرأت جزءا في طريقي . وهكذا كان بعضهم إذا أراد أن يبري القلم بعدما ذهب حده يحرك شفتيه بذكر الله وبمسائل العلم لن لا يمضي الزمان وهو فارغ .
يقول ابن عقيل : انه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح فلا انهض إلا وقد خطر لي ما اسطره و إني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين اشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة . وأنا اقصر بغاية جهدي أوقات أكلي اختصار أوقات الطعام حتى اختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لماذا ؟ لأن الخبز يأخذ وقتا في المضغ أما سف الكعك على الماء فإنه يوفر وقتا وهكذا للمطالعة أو تسطير فائدة غنيمة يجب أن تنتهز أين هذا من أصحاب البوفيهات المفتوحة اليوم الذين يقضون الساعات الطوال فيها والتسالي والمشهيات والمقبلات قبلها وبعدها .
يقول ابن الجوزي – رحمه الله - : كتبت بإصبعي هاتين آلفي مجلد قال الذهبي : ما علمت أحدا من العلماء صنف مثل هذا الرجل كان يجمع برايات أقلامه فلما مات سُخِّن به الماء الذي غسل به ففاض منها من برايات الأقلام ، استعملت حطب لتسخين الماء الذي غسل به عند موته . وشيخ الإسلام تبلغ تصانيفه ثلاثمائة مجلد قال الذهبي : وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد وهكذا في سننه وكلامة وإقدامه وكتابته رأى طلابه أمرا عجبا رحمه الله شيخ الإسلام . وهكذا النووي كان لا يضيع وقتا لا في ليل ولا في نهار إلا بالاشتغال بالعلم وطلبه ست سنين متواصلة لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكله بعد العشاء الآخرة ويشرب شربة واحدة عند السحر وربما امتنع عن بعض الطعام قال : أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم . ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية كان فقيه كان من أهل العلم إذا أراد أن يصنف تُوضَع له الأقلام مبرية جاهزة ليس واحد عدد ثم يولي وجهه إلى الحائط ويأخذ في التصنيف إملاء من خاطره فيكتب مثل السيل إذا انحدر يأخذ قلم ينتهي القلم يرميه ويأخذ الثاني والثالث وهكذا لأنه لا يريد أن يضيع وقتا في بري الأقلام .
همة السلف كانت في هذا العلم طلبه حفظه المحافظة عليه تدريسه التأليف فيه التصنيف كما سيأتي العمل والعمل هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل .
في العبادة قراءة القرآن والصيام والبكاء(/1)
كان علقمه يقرأ القرآن في خمس ليالي . الأسود صاحبه كان يقرأه في ست . عبد الرحمن بن يزيد في سبع . مسلم بن يسار كان إذا صلى كأنه وتد لا يميل يمينا ولا شمالا وهكذا عطاء كما صحبه ابن جرير ثمانية عشرة سنة لما كبر وضعف كان يقوم الليل بمائتي آية من البقرة فكيف أيام الشباب ؟! ونحن كيف يضيع ليلنا اليوم ، سلفنا ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومن مما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون يبيتون لربهم سجدا وقياما هكذا كان الحال فأي شيء صار الحال اليوم ؟! كانوا يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسأل وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال وابل هطال في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال بوجوههم اثر السجود لربهم وبها أشعه نوره المتلالي قال محمد بن منكدر : ما بقي من الدنيا إلا ثلاث قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في جماعة . باقي اللذات ما عاد لها طعم . يقول مخلد بن حسين : ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن ادهم يذكر الله ويصلي فأغتم يعني كيف حالي بالنسبة لحاله ثم اعزي نفسي بهذه الآية ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) . قام أبو حنيفة ليلة بقوله تعالى ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى و أمر ) يرددها ويبكي حتى اصبح .يقول إبراهيم بن شماس : كنت أرى احمد بن حنبل يحي الليل وهو غلام .
يقول أبو بكر المرودي : كنت مع احمد نحوا من أربعة اشهر في العسكر رباط وجهاد وصلاة وعبادة لا يدع قيام الليل وقراءة القران فما علمت بختمه ختمها مع انه ختم كثيرا لكنه كان يسر بعمله . البخاري يقوم يتهجد من الليل عند السحر يقرأ ما بين النصف إلى الثلث من القرآن . ابن عبد الهادي يقول عن قيام ابن تيميه : إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه . وهكذا يقول ابن حجر عن شيخة العراقي تربية جيل عن جيل هذا أبو الروح وذاك أبو النطف فأبو الروح مقدم قال : ابن حجر لازمته فلم أره ترك قيام الليل بل صار له كالمألوف . السلف كانوا في قيام الليل على أنواع المُقل والمستكثر منهم من كان يحيي الليل كله حتى ربما صلى الصبح بوضوء العشاء ، منهم من كان يقوم شطره نصفه ، منهم من كان يقوم ثلثه ،منهم من كان يقوم سدسه، منهم من كان لا يراعي تقديرا يصلي حتى يغلبه النوم فينام ، منهم من كان يصلي من الليل ركعات محدودة ،منهم من كان يحي بين العشائيين ويعسلون في السحر فيجمعون بين الطرفين . ألم يأتك نبأ عباد بن بشر الصحابي الذي رمى بثلاث سهام في جسده فينتزعها ويمضي في صلاته . وهكذا كان يحرص النبي – صلى الله عليه وسلم – و أصحابه . عامر لا يزال يصلي ابن عبد قيس من طلوع الشمس إلى العصر فينصرف فقد انتفخت ساقاه فيقول يا أمارة بالسوء إنما خلقت للعبادة . يقولون له أتحدث نفسك وأنت في الصلاة ، يقول أحدثها بالوقوف بين يدي الله . لم يكن ذلك مقتصرا على الرجال بل حتى النساء كنا نحضر أم الدرداء كما في الرواية تحضرها نساء عابدات يصلين عندها تنتفخ أقدامهن من طول القيام بل حتى الجواري والإماء . هذه جارية الحسن بن صالح لما باعها لقوم كانت إذا صلت العشاء افتتحت الصلاة تصلي وربما إلى الفجر وتقول لأهل الدار : يا أهل الدار قوموا يا أهل الدار صلوا ،فيقولون لها : نحن لا نقوم إلا إلى الفجر ، الناس الآن لا يقومون حتى إلى الفجر !! جاءت إلى الحسن بن صالح قالت : بعتني إلى قوم سوء ينامون الليل كله ما عندهم قيام ليل أخاف أن اكسد ردني ردني فرأف بها وردها . وهكذا كانت امرأة الهيثم بن حجاز لا تكاد تنام من الليل ولكن زوجها ما كان يصبر معها فكان إذا نعس ترش عليه الماء وتنبهه وتقول أما تستحي من الله إلى كم هذا الغطيط قال : فوالله أن كنت لأستحي بما تصنع .
ثالثا : نفقاتهم في سبيل الله(/2)
( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) الإنفاق في سبيل الله يشمل الإنفاق في الجهاد في إعداد الغزاة في ترميم الثغور والحصون وهكذا في تغطية العلوم النافعة وجميع المشروعات الخيرية والمحتاجين والفقراء والمساكين وعلى أبواب الخير توزع الصدقات ولإقامة الطاعات تنفق . يأتي عمر بن الخطاب يريد أن ينافس أبا بكر الصديق فيأتي بنصف ماله ويقول : اليوم اسبق أبا بكر أن سبقته يوما يعني ما سبقته ولا يوم فجئت بنصف مالي فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟قلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا . وهكذا ربما كان الواحد منهم يتصدق بإفطاره ويبقى جائعا ، تصدق ابن عمر بطعام إفطاره وقضى الليل جائعا . تصدق احمد بن حنبل بطعام إفطاره ، طرق الباب عليه مسكين قبل المغرب فقدم له إفطاره وبات طاويا . وكان بعضهم تُعِدُّ له زوجته طعام الإفطار في الصباح فينوي الصيام ويأخذ الطعام معه إلى الدكان يتصدق به في الطريق ثم يرجع إلى أهله عند المغرب فيفطر هنالك لا يظنونه إلا انه مفطر في النهار . ويطفئون السراج ليأكل الضيف وذلك فعل الصحابي وزوجته أبو طلحه حتى لا يُحْرَجَ الضيف على الطعام القليل الموجود فيأكله كله ويبقى أبو طلحة وزوجه وأولاده في جوع يتقلبون ولكن في رحمه الله – عز وجل – هم في الحقيقة ينقلبون ، ضحك الله من صنيع فلان و فلانة هكذا فعل هؤلاء . سعيد بن العاص كان يُجِلّ الفقير أو المحتاج أن ينظر إلى وجهه ووجهه يتغير عند الطلب والذل والمسكنة كان يعشي الناس في رمضان فتأخر عنده ليلة من الليالي شاب من قريش بعدما تفرق الناس فقال له سعيد : احسب الذي خلفك حاجة ؟ قال : نعم أصلح الله الأمير ، فضرب سعيد الشمعة بكمه فأطفأها ثم قال : ما حاجتك ؟ قال : تكتب لي إلى أمير المؤمنين أن علي دينا وأحتاج إلى مسكن وخادم ، قال : كم دينك ؟ قال : ألفا دينار وذكر ثمن المسكن والخادم ، فقال سعيد : نكفيك مؤونة السفر اغدوا فخذها منا ، فكان الناس يقولون : إن إطفاء الشمعة احسن من إعطائه المال ، لماذا ؟ لئلا يرى في وجهه ذل المسألة ، أطفأ الشمعة لئلا يرى في وجه الفقير ذل المسألة وهو يسأل . زين العابدين أصحاب صدقات السر علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، لما مات غسلوه وجعلوا ينظرون لآثار سواد في ظهره قالوا : ما هذا ؟ فقيل : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة ، كان أناس يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤْتَوْن به في الليل . لك يكن ذلك خاص بالرجال حتى النساء لما دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحابيات إلى الصدقة امتلأ ثوب بلال من أقراطهن وخلاخيلهن وصخبهن و أسورتهن يلقينه في ثوب بلال . روى البخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح أن عائشة كانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته على الفقراء . أما أسماء فكانت لا تمسك شيئا للغد وزينب بنت جحش أم المساكين تعمل بيدها لأنه ما كان عندها تعمل بيدها وتكسب لتتصدق به في سبيل الله . وهكذا ذهبت حميدةً متعبدةً قالت عائشة عنها : مفزع الأيتام والأرامل . الهمة العالية في العمل هكذا كان هؤلاء .
رابعا : طلبهم للعلم
يكثر التعب في التحصيل عندما يكون الشيء نفيساً خطيراً العلم كان لا ينال بالراحة ولا بالنوم ولا بالذات ،قال بعض الفقهاء : بقيت سنين اشتهي الهريسة ولا اقدر لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس ، وقت الدرس هو وقت البيع وإذا انتهى الدرس كان البائع قد ذهب . قال ابن القيم : أما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية . من طلب الراحة ترك الراحة ، كيف ؟ من طلب راحة الآخرة ترك راحة الدنيا . ينبغي لطالب العلم أن يكون حريصا على التعلم في جميع أوقاته ليلا ونهارا سفرا وحضرا هكذا لا يقضي في نومه وطعامه إلا الضرورة استراحة يسيرة لإزاحة الملل وهكذا من أراد أن يكون على ميراث الأنبياء .ابن عباس ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يبلغه الحديث عن رجل يأتيه والرجل نائم في بيته في القيلولة يفرش ابن عباس ردائه ويتوسد على باب الرجل ، الريح تسفي عليه التراب فيخرج صاحب البيت ويراه ويقول يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلى فأتيك فأقول : أنا أحق أن آتيك فأسألك . ابن معين خلف له أبوه ألف ألف درهم يعني مليون أنفقها كلها في تحصيل الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه .(/3)
هكذا لقاء الشيوخ والسماع لئلا يفوت عندما دخل على عبد بن حميد وسأله عن حديث حماد قال : لو كان من كتابك فقام الشيخ ليأتي بالكتاب ليحدث به فقبض يحي على ثوبه وقال : أمليه علي الآن فإني أخاف أن لا ألقاك فأمليته عليه ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه . يخاف أن يقبض أحدهما في هذه البرهة . مكحول كان عبدا لما اعتق بمصر قال : لم ادع بها علما إلا حويته فيما أرى ثم أتيت العراق ثم المدينة فلم ادع بهما علما إلا حويته ثم أتيت الشام فغربلتها . شعبة وما أدراك ما شعبة قال : إني لا اذكر الحديث يفوتني فامرض أمير المؤمنين في الحديث . سعيد بن المسيب يسير الأيام والليالي في الطلب . وهكذا يرحل سعيد بن جبير إلى شيخه ابن عباس ليسأله عن قراءة في قوله تعالى ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) هل هي منسوخة ؟ قال : ما نسخها شيء . رحل في تفسير آية واحدة من الكوفة إلى المدينة . عكرمة يقول : طلبت العلم أربعين سنة وكنت أفتي بالباب وابن عباس في الدار . حتى توزيع المهمات قائم . وكان ابن مسعود يفتي في صف وتلميذه في صف على أبواب كنده في الحج . الناس ماسكين ( ؟؟ 20:53) وهم يفتونهم ويعلمونهم . وهكذا الحسن البصري رحل إلى كعب بن عجرة الصحابي قصته معروفة في قضية الحج عندما ملأ القُمَّل شعره فالنبي – عليه الصلاة والسلام – رحمه وأذن له بحلق شعره و إخراج الفدية . لماذا رحل الحسن البصري إلى كعب بن عجرة في الكوفة ؟ سافر قال له : ما كان فداؤك حين أصابك الأذى ، قال : شاة ، هذه كلمة واحدة . رحل فيها ولذلك كان للعلم بركة لأنه كان ينال بالطريق الصعب . اليوم أقراص الليزر معبأة بمائة ألف حديث ، عشرات الآلاف من الأحاديث لكن أين البركة ؟ هذه المعلومات قد جمعت والبحث بالجذر والكلمة و اللواصق والعبارات والمعاني ومع ذلك أين العلم الذي رسخ ؟ كان نفس المشايخ يظهر بالطلاب ، كان هناك تربية تعليم وتربية وليس فقط تحفيظ وتلقين و إنما معه تربية ، كل واحد يأخذ عن شيخة وعن شيوخه أنواعا من الأدب بالإضافة إلى العلوم والمعارف . عبد الوهاب الأنماطي كان بكاؤه أثناء مجلس الحديث يعمل في نفس تلميذه ابن الجوزي العمل العظيم في بناء قواعد الإيمان في نفسه قال علي بن الحسين : قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد يعني بعد العشاء فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته فما زلنا نتذاكر هذا يقول حديثا وهذا يقول حديثا قال : حتى جاء المؤذن للصبح ، يصبرون على العلم . أما الرحلة في طلبه أبو حاتم الرازي يقول : أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ، الفرسخ خمسة كيلومترات يعني خمس آلاف كيلو هذه مشاها على قدميه وليس رحله بالتذاكر الجوية ، يقول : لم أزل أحصى حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته ، الإحصاء . قال : أما ما سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصى كم مرة ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة وخرجت من البحر بالقرب من مدينة سرى من المغرب الأقصى إلى مصر ماشيا ومن مصر إلى الرملة ماشيا ومن الرملة إلى بيت المقدس ومن الرملة إلى عسقلان ومن الرملة إلى طبرية ومن طبرية إلى دمشق ومن دمشق إلى حمص ومن حمص إلى انطاكيا ومن انطاكيا إلى طرسوس ثم رجعت من طرسوس إلى حمص وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان أحد الرواة فسمعته ثم خرجت من حمص إلى بيسان ومن بيسان إلى الرقة ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة كل ذلك ماشيا . هذا سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين وخرجت المرة الثانية وكان سني في هذه الرحلة سبع و أربعون .(/4)
ما تركوا طلب العلم ولا الرحلة في جمعه لا شبابا ولا كهولا ولا شيبا لا صغارا ولا كبارا . كان النهم لمعرفة فقه الكتاب والسنة حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مسائل العلم التي يجمعونها لكن هذا التعب كان يرسخ العلم في نفوسهم يمشون على فقرهم ربما لا يملكون اجره الدابة وهذه الأسفار كم تكلف ومن الذي يطيق أن يدفع النفقات . لذة العلم كانت تنسيهم تعب طلبه . قيل للشافعي كيف شهوتك للعلم ؟ قال : اسمع بالحرف مما لم اسمعه من قبل فتود أعضائي أن لها سمعا تتنعم به مثل ما تنعمت به الأذنان . فقيل له : كيف حرصك عليه ؟ قال : حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال ، قيل : كيف طلبك له ؟ قال : طلب المرأة المظلة ولدها ليس لها غيره . هكذا فعل هؤلاء فماذا فعلنا نحن ؟ لا نكاد نصبر في الدرس وهكذا إذا حضرنا درسا في الأسبوع رأيناه كثيرا جدا ولكن بعضنا لا يحضر حتى درسا في الأسبوع وإذا أردنا قراءة كتاب مللنا من أول الصفحات وهكذا . إذا كيف والكتاب الإلكتروني موجود والوسائل المختلفة موجودة والتعليم بالشبكات قائم وسماع الدروس موجود في شبكة نسيج العنكبوت كل الوسائل متوفرة و أشرطة التسجيل والكتب والطبعات الفاخرة المذهبة الملونة وهكذا هي أحاديثها مخرجة كتب مخدومة مشكولة ، أولئك كانوا يقرؤون مخطوطات يفكون رموزها يفرح الواحد منهم جدا إذا عثر على نسخة من حديث فلان الراوي وفلان الراوي ، العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كله . لا يُسْتَطاع العلم براحة الجسد . يقول محمد بن عبدون : انه كان يصلي الصبح بوضوء العشاء ثلاثين سنة ، خمسة عشر سنة في الدراسة وخمسة عشرة سنة في العبادة يقسم الليل نصفان نصف دراسة ونصف عبادة .(/5)
قال ابن أبي حاتم : كنا بمصر سبعة اشهر لم نأكل فيها مرقه نهارنا ندور على الشيوخ وبالليل ننسخ ونقابل فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا فقال هو عليل اليوم الشيخ مريض فماذا فعلوا ؟ رأينا سمكة أعجبتنا اشتريناها لما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ ، الدرس الذي بعده صار وقته فمضينا ولم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة لم نتفرغ أن نشويها . دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس والقوا دونه الازرى وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا الكير الراسي – رحمه الله من الأئمة الكبار في مدرسة سرهنك بنيسابور كان فيها قناة لها سبعون درجة يقول : كنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة و أعيد الدرس في كل درجة مرة في الصعود والنزول وهكذا افعل في كل درس . يعني مائة و أربعين مرة يعيد كل درس . فمن أين ينسى مثل هذا ؟ وبهذا صاروا أئمة يُقتدى بهم ، هكذا فعل أولئك القوم . شعبة بن الحجاج ممكن يطوف المدن من اجل حديث واحد ، سمع حديثا فاستغربه شعبه ، سمع عن إسرائيل عن أبي إسحاق حديثا يقول لأبي إسحاق : من حدثك بهذا ؟ قال : حدثني عبد الله بن عطاء عن عقبة ، طيب عبد الله بن عطاء سمع من عقبه فأين عبد الله بن عطاء ؟ يريد شيخ الشيخ ، فقال له : عبد الله بن عطاء بمكة ، قال : فرحلت إليه بمكة أردت الحديث ، فسألته الحديث الفلاني من الذي حدّثك ؟ قال : سعد بن إبراهيم ، يقفز مالك بن انس يقول لشعبة : سعد موجود بالمدينة لم يحج هذه السنة ، قال : فرحلت إلى المدينة فسألت سعدا عنه من الذي حدثك ؟ فقال : الحديث من عندكم من زياد بن مخراق هو الذي حدثني فقال شعبة : أي شيء هذا الحديث بينما هو كوفي إذ صار مكيا إذ صار مدنيا إذ صار بصريا فأتيت البصرة فسألت زياد بن مخراق من الذي حدثك؟ قال : ليس هذا من بابتك لا يعجبك من الذي حدثني قلت : لابد أن تخبرني به قال : حدثني شهر بن حوشب ، شهر – رحمه الله – كان قد اخترطوا فيه ضعف فقال شعبة : دمر علي هذا الحديث والله لو صح لي هذا الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان احب إلى من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين . ناس ينقدون يتعبون ليرتاح من بعده في معرفة صحة السند وهل الحديث صحيح أو لا ، وما هي آفة السند . كل حديث ليس فيه حدثنا واخبرنا فهو خل وبقل كما يقول شعبة يعني لا يساوي شيئا . وهكذا كانوا يحجزون الأماكن في الدروس حتى لا تفوت كان جعفر بن دروستوية : كنا نأخذ المجلس عند علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس الغد نقعد طول الليل مخافة أن لا نلحق من الغد موضعا نسمع فيه . الآن عالم كبير في مسجد يلقي درسا عنده ثمانية !! اثنين يشخرون عند الأعمدة وواحد يكلم بالهاتف الجوال لأن الشيخ لا يبصر !! أيها الاخوة الوضع مزري ونحتاج إلى نفضة ننفض بها غبار النوم عنا والكسل . البخاري كان يقوم في بالليل إذا أراد أن ينام من خمسة عشر إلى عشرين مرة يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يُخْرج أحاديث ويعلم عليها يكتب فوائد ثم يضع رأسه يتذكر فائدة يقوم مرة ثانية يوقد السراج يكتب الفائدة يرجع لينام يتذكر فائدة يوقد السراج ويكتب الفائدة .. عشرين مرة في ليلة ممكن ؟ ممكن معه واحد خادم شاب مع ذلك كان يصلي وقت السحر ثلاثة عشر ركعة فقال له الشاب : انك تحمل على نفسك ألا توقظني قال : أنت شاب ولا احب أن افسد عليك نومك .(/6)
قال البخاري : لما طعنت في ثمان عشرة يعني صار عمري ثمانية عشرة عاما جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وفي الليالي المقمرة يكتب وهكذا كان ثلاثون من علماء مصر فيما سبق في وقت يقولون حاجتنا من الدنيا ما نشتهي من الدنيا ولا شيء إلا النظر في تاريخ محمد بن إسماعيل لأن البخاري ألف كتاب التاريخ . وهكذا أملى عليهم أحاديثه و أملى عليهم كتبا – رحمه الله – يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتا ألف حديث غير صحيح واختار كتابة الجامع الصحيح البخاري من ستمائة ألف حديث ما وضع فيه حديثا إلا اغتسل وصلى ركعتين يستخير الله أن يضع هذا الحديث في كتابه ، فليس بغريب أن يكون لكتابه هذا القبول وهذه الصحة وهذه الشهرة . هكذا كان قد تخلّف عنه نفقته مرة فجعل يتناول الحشيش الأخضر من الأرض يأكله ولا يخبر بذلك أحدا . أسد الفرات المجاهد الذي مات شهيدا في جزيرة صقلية الذي حفظ القرآن والموطأ وتفقه على مذهب مالك وكان أمير المجاهدين في جيش صقلية الذي كان استشهد وفي يده اللواء يقرأ سورة يس . هذا لما انقطع لقراءة القرآن وعلومه حضر عند محمد بن الحسن الشيباني فقال له : أني قليل النفقة والسماع منك نذر والطلبة كثير فما حيلتي ، فقال له محمد بن الحسن لما رأى حرصه ، كانوا يهتمون بالطلاب النجباء قال : اسمع مع العراقيين مع الطلاب من أهل العراق بالنهار وقد جعلت لك الليل وحدك فتبيت عندي وأسمعك أي الحديث قال أسد : وكنت أبيت عنده وينزل إلي ويجعل بين يديه قدحا فيه الماء ثم يأخذ في القراءة فإذا طال الليل ونعست ملء يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه فكان ذلك دأبه ودأبي حتى أتيت على ما أريد من السماع . الشافعي – رحمه الله – يقول : كانت نهمتي في الرمي ، تعلم الرماية لأن هذه سنة ومن تعلم الرماية ثم نسيها فهي نعمة كفرها ، كان يتعلم الرماية وطلب العلم ، قال : فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرةٍ عشرةً وسكت عن العلم فقال عمرو بن سواد : أنت والله في العلم اكبر منك في الرمي . الشيخ محمد أمين الشنقيطي – رحمه الله – كان يجيد الرمي وهكذا قال بعض أصحابه كنا معه مرة في الفلا فطار طائر فأخذ الشيخ البندقية فصاده والطائر في الهواء هكذا بدون التدقيق الذي يكون عند الرماة ، وكان يخرج لأجل هذه الرماية ليس للصيد ليس به هم الصيد ، الشنقيطي كان يلبس فردة خضراء و فردة لون ثاني لأنه لم يكن أصلا يهتم بالثياب ولا بالنعال من زهده بالدنيا – رحمه الله - .(/7)
الشافعي جزء الليل ثلثه الأول يكتب وفي الثاني يصلي وفي الثالث ينام . وهكذا لما أُشْكٍل على بعض النحويين باب من النحو انفق ثمانين ألف درهم حتى حذقه . الإمام احمد – رحمه الله – رئي ومعه مجرة ومحبرة هذه من شأن الطلاب وليست من شأن الشيوخ الكبار فقال له قائل : يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين يعني معك المحبرة فقال : مع المحبرة إلى المقبرة . وقال : أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر . كانت همم عند هؤلاء في الدراسة والتدريس ، الطبري يقول لطلابه : هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا ؟ يقولون: كم قدره ؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة ، قال نكتب نكتب يا طلابي ، قالوا : هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه ، قال : إنّا لله ماتت الهمم فاختصر نحو ذلك ثلاثة آلاف ورقة ولما أراد أن ينهي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ . ممكن يجوعوا في طلب العلم ؟ ممكن يضطروا للسؤال في طلب العلم ؟ محمد بن خزيمة ومحمد بن جرير ومحمد بن هارون الرويناني ومحمد بن مصر المروزي جمعت بينهم الرحلة في طلب العلم بمصر جمعوا نفقاتهم حتى فنيت النفقات وليس عندهم ما يقوتهم وأضر بهم الجوع اجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه يتناقشون في الجوع الذي مسهم فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام لأنهم لا يريدون واحد منهم يخرج ويسأل لكن الآن يهلكون من الجوع خرجت القرعة على ابن حزيمة، فقال: لأصحابه أمهلوني حتى اصلي صلاة الاستخارة فاندفع في الصلاة فإذا برجال من قبل السلطان والي مصر احمد بن طولون يدقون الباب ففتحوا الباب قال : أيكم محمد بن نصر قيل هو ذا فدفع إليه صرة فيها خمسين دينار يعني من الذهب ، قال : أيكم محمد بن جرير فأعطاه خمسين دينارا وكذلك للرويان ولابن خزيمة ثم قال لهم : إن الأمير كان قائلا ، نائم نوم القيلولة فرأى في المنام خيالا أو طيفا يقول له أن المحامد جياع أن المحمدين الأربعة هاذول نايمين في بلدك جياع وأنت نائم قم فقام ، سأل من هم المحمدون ؟ هل يوجد مكان فيه مكان واحد محمدون مجموعة ؟، قالوا: نعم دخلوا البلد أربعة هؤلاء فأنفذ إليكم هذه الصرر واقسم عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه ليزيدكم . الهمم في قراءة المطولات لما قال عز الدين بن عبد السلام : ما رأيت في كتب الإسلام مثل المحلل لابن حزم والمغني لابن قدامه قال الذهبي : صدق الشيخ عز الدين وثالثهما السنن الكبرى للبيهقي و رابعهما التمهيد لابن عبد البر فمن حصّل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين و أدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا . ممكن تكون حادثة غريبة هي السبب أن تجعل واحد عامي تجعله عالم من كبار العلماء أصلا ابن حزم كيف صار عالم ؟ هو كان شخص عادي جدا شهد جنازة دخل المسجد فجلس ولم يركع يعني لم يصلي ركعتي تحية المسجد فقال له رجل : قم صلي تحية المسجد كان عمرة ستة وعشرين سنة فقام وصلى ركعتين لما رجعوا من الصلاة على الجنازة دخل المسجد فأراد أن يصلي ركعتين قام وقال : اجلس ليس هذا وقت صلاة هذا كلام قبل المغرب قال : فانصرفت وقد حزنت وقلت للأستاذ الذي رباني دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن داحون فقصدته فأعلمته بما جرى فدلني على موطأ مالك ، فبدأت عليه وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحوا من ثلاثة أعوام ،قصة ممكن تبدو قصة عادية واحد دخل مسجد ماهو وقت نهي من جهله جلس قال له واحد قم صلي تحية المسجد دخل مرة ثانية في وقت النهي أراد أن يصلي على ما علمه الأول جبذه واحد قال : ليس ذا وقت صلاة ، طبعا الراجح أن تحية المسجد من ذوات الأسباب وأنها تُفعل حتى في أوقات النهي وهذا مذهب الشافعي – رحمه الله تعالى - . الفيروزابادي لا ينام حتى يحفظ مائتي سطر . النووي كل يوم كان يقرأ اثني عشر درسا على المشايخ شرحا و تصفيحا في الوسيط في المهذب في الجمع بين الصحيحين صحيح مسلم في ( ؟؟ 40:59) في إصلاح المنطق في اللغة لابن السكير في التعريف في أيصول الفقه في اللمعة لأبي إسحاق في المنتخب لفخر الدين درس في أسماء الرجال والدرس في العقيدة وهكذا .(/8)
هؤلاء كيف صاروا علماء ؟ كيف صاروا كبارا ؟ هؤلاء ممكن الواحد يكون حلاق أتى شخص يحلق عنده الحلاق هذا كان يسمع أشياء يعني من بعض الزبائن كان من زمان الحلاقين ممكن يجيه زبون شيخ مثلا طالب علم دكتور في الجامعة نحوي مفسر فقيه محدث أديب لغوي فهذا كان يصيد فوائد وهو ذكي فجاءه أحد الشيوخ مرة ليحلق رأسه عنده فانتبه لذكاء الحلاق وأنه يسأل أسئلة ويثير أشياء فلم يزل به حتى سجله في الجامعة وهكذا خرج هذا الرجل واحدا من المشايخ من الكتاب المعاصرين في هذا الزمان في واحد شيخ من قديم كان مناديا في دار البطيخ يحرج على البطيخ ولكن لما صدقت نيته في طلب العلم صار عالما من كبار العلماء . وهكذا كان الشيخ الحكمي حافظ يرعى الغنم في جيزان لما وهبة الله سرعة في الحفظ والذكاء وقيض الله له الشيخ عبد الله القرعاوي مصلح اخذ بيده فصار الحكمي من العلماء ومات وعمره خمسة وثلاثين سنة وهناك كتب له لم تطبع إلى الآن لازالت مخطوطة .توفي قريبا العالم الفقيه ابن بسام – رحمه الله – من تلاميذ الشيخ السعدي ومن أصحاب ابن عثيمين قال لي : كنت أنا وابن عثيمين نتناوب في تسميع القران فيبدأ مثلا بالثمن الأول من أول القرآن يسرد علي ثم أنا اسمع له الثمن الثاني ثم يسمع لي الثمن الذي بعده وهكذا إلى نهاية المصحف الختمه التي بعدها إذا كان هو الذي بدأ أنا الذي أبدا حتى الأشياء التي أنا ما قرأتها اقرأها والتي لم يقرأها يقرؤها وهكذا . في كان مساعدة لبعضهم ولذلك يهون الطلب عندما يقيض الله رفقة صالحة . كانت الرحلة في طلب العلم على صعوبتها قائمة كما تقدمت أمثلة ومن قبلهم موسى – عليه السلام – نبيا ورحمة عندما رحل إلى الخضر في طلب العلم وقطع المسافات الطويلة . عقبة بن الحارث الصحابي سافر من مكة إلى المدينة ليسأل عن مسألة واحدة في الرضاع .
جابر بن عبد الله سار إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد من المدينة إلى الشام طرق الباب خرج إليه اعتنقه قال حديث بلغني لم اسمعه خشيت أن أموت أو تموت وأنا لم اسمعه . ويُرْحَل في طلب العلم كما تقدم من المسافات الطويلة الكثيرة . أما الهمة في قراءة الكتاب الواحد وليس الكتب الكثيرة فقط ، الكتاب الواحد كم مرة كان يُعاد ربما يتخرق من كثرة الإعادة يقول القيرواني : وجدوا في كتب عباس أبو عرب القيرواني يقول وجدوا في آخر كتاب آخر أحد كتب عباس بن الوليد الفارسي أنه درسه ألف مرة وهكذا قال أبو محمد بن عبد الله بن إسحاق بن التبان أنه درس المدون لمالك ألف مرة . وهكذا قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الابهري قال : قرأت مختصر ابن عبد الحكيم خمسمائة مرة و الأسدية خمسة وسبعين مرة والموطأ خمس و أربعين مرة والمختصر البرقي سبعين مرة والمبسوط ثلاثين مرة والبخاري أكثر من ستين مرة ومسلم نحوا من عشرين وهكذا ، همة عالية سواء في القراءة أو في التأليف
رابعا : في الدعوة في طلب الحق في السعي في الوصول إلى الحق
همتهم في هذا كيف كانوا زيد بن عمرو بن نوفيل الذي أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه أنه يأتي أمة وحده الرجل هذا كان موحدا يسند ظهره إلى الكعبة يقول لقريش : ما أعلم أحدا على دين إبراهيم غيري ، وهكذا لما عرف بأن إبراهيم الخليل حنيفا مسلما سار على دينه كان قد خرج إلى اليهود زيد بن عمرو فلقي عالما منهم قال : إني أريد أن أكون على دينكم أخبرني عنه قال : إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال : أنا فررت من غضب الله أنا ما أتحمل غضب الله خرج لقي نصرانيا قال : أريد أن أكون على دينكم قال : لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله قال : أنا فررت من لعنة الله أنا لا أتحمل لعنة الله ، فماذا دلني على شيء آخر ، قال : إلاّ أن تكون حنيفا ما بقي إلا دين الحنيفية ، قال : ما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم الخليل ، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان يعبد الله فلما رأى زيد ذلك رفع يديه وقال : اللهم أني أشهدك أني على دين إبراهيم ، فكان موحدا مع أنه ما كان يعرف شعائر التعبد التفصيلية ما كان يعرفها لكن على دين إبراهيم الخليل على التوحيد . فذهب يطلب الحق ويبحث عن الدين الصحيح .(/9)
وهكذا سلمان الفارسي – رضى الله عنه – كان لرجل لأب من المجوس من عباد النار يحش النار يوقدها ليعبدها مع قومه لكنه بفطرته عرف أنه لا يمكن أن تكون هذه النار هي الآلهة هي الإله الذي خلق فيستحق العبادة ، فسمع بقوم من النصارى فأتاهم وهرب من أبيه وهرب من البيت وذهب للشام ودخل الكنيسة هناك ليتعلم دينهم وكان الأسقف رجلا فاسقا سيئا مات وهو يخزن غلال الفضة والذهب فدل القوم على ثروته فأخذوه صلبوه رجموه قالوا لا ندفنه أبدا ، وجاءوا برجل بدلا منه وضعوه لازمة سلمان رآه يصلي زاهد في الدنيا يقوم الليل أحبه فكان معه إلى أن مات لما حضرته الوفاة قال : إلى من توصي بي قال : أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا اكثر ما كانوا عليه إلّا رجلا بالموصل فلان الحق به ذهب سلمان إلى ذلك الرجل من بعد ما مات صاحبه الأول وقال : إن فلان أوصى بي إليك وأمرني باللحاق بك بقي عنده إلى إذ أوشك على الموت قال : من توصي بي قال : يا بني والله ما اعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به ، لما مات وغيبه ودفنه ذهب إلى نصيبين فأخبره بالخبر ولزمه و أقام عنده فكان خير رجل ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلان كان أوصى بي إلى فلان ثم إلى فلان ثم إلى فلان إليك فإلى من توصي بي قال : يا بني والله ما اعلم بقي أحد على امرنا آمرك أن تأتيه إلاّ رجل بعمورية من ارض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فائته فإنه على امرنا فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وبقي عنده حتى صار عند سلمان بقرات وغنيمة لما نزل أمر الله بهذا الرجل الأخير وطلب منه أن يوصي به إلى شخص آخر،قال : أي بني والله ما اعلم اصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه ولكن قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب يهاجر إلى أرض مهاجرة بين ارض بين حرتين بينهما نخل وهذه علامة المدينة فيها حرتان شرقية وغربية صخرية سوداء ونخل في الوسط يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإذا استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل . ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب قبيلة تجار فقلت لهم : احملوني إلى ارض العربي و أعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي قالوا : نعم ، فأعطيتموها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني وباعوني لرجل يهودي عبدا ، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه وحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها إلا عرفتها بصفة صاحبي لها الذي وصف لي هذه نفسها ، فاقمت بها وبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسلمان لا يدري و أقام بمكة وسلمان لا يدري وهاجر إلى المدينة وسلمان لا يدري فوالله إني لفي راس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ اقبل ابن عم له يهود في يهود حتى وقف عليه فقال : يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم مجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون انه نبي ، قال سلمان : فلما سمعتها أخذتني الرعدة حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه : ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ثم قال : مالك ولهذا أقبل على عملك ، فقلت : لا شيء و إنما أردت أن أستثبته عن ما قال . وكان عندي شيء قد جمعته يعني من تمر من رطب فلما أمسيت وأخذته ثم ذهبت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له : انه قد بلغني انك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذووا حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم قال : فقربته إليه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه : كلوا وامسك فلم يأكل ، فقلت في نفسي هذه واحدة ، ثم انصرفت فجمعت شيئا وتحول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة يعني من قباء إلى المدينة ثم جئته فقلت له : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها ) ( بها ، قال : فأكل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منها و أمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي هذه اثنتان ، ثم جئت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدبرته انظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استدبرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي فألقى ردائه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه اقبله وابكي فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تحول فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس . هكذا كانت الرحلة في طلب الحق ، البحث عن الحق وهكذا كانوا يفعلون . كذلك المؤمن في سورة آل ياسين عندما خرج وجاء من أقصى المدينة رجل ممتلئ رجولة يسعى مجتهدا في الدفاع عن الأنبياء وهكذا تثبت(/10)
ماشطة بنت فرعون على الحق حتى يلقي فرعون أولادها أمامها في القدر الذي يغلي بالزيت فتلوح عظامهم البيضاء على سطح ذلك القدر ثم لما أراد أن يلقيها قال : لك حاجة ؟ قالت : إن لي إليك حاجة قال : وما حاجتك ؟ ، قالت : أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا ، قال : ذلك لك علينا من الحق . وهكذا أمر بأولادها فألقوا واحدا واحدا إلى أن انتهى إلى صبي لها مرضع فكأنها تقاعست فقال : يا أم اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . قال ابن كثير إسناده لا بأس به .(/11)
خامسا : كيف كانوا في إنكار المنكر وجرأة الموقف في إيضاح الحق والجهر به والصدع ولو كان على الكبار والولاة ، قصة مروان مع أبي سعيد الخدري لما خرج مروان يريد أن يخطب قبل صلاة العيد ليه قال : الناس لا يسمعون لنا ، قال : أنت تغير السُّنَة ، الخطبة بعد الصلاة ، قال : الناس لا يسمعون لنا إذا خطبنا بعد الصلاة ، أبو سعيد آخذ بثوبه فجبذه فشد مروان الثوب وعاند وطلع،فقال أبو سعيد: غيرتم والله فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقال: ما اعلم والله خير مما لا اعلم . وهكذا كان أحمد بن حنبل في درس مرة فسمع حس طبل فقام من الدرس حتى أرسل إليهم فنهاهم. أبو مسلم الخولاني – رحمه الله – لما قام مرة إلى الأمير قال : السلام عليك أيها الأجير ،فقال الحاشية: السلام عليك أيها الأمير ،فقال أبو مسلم: السلام عليك أيها الأجير، فقال الأمير: دعوا أبا مسلم فانه اعلم بما يريد، فقال له: اعلم انه ليس من أجير استرعي رعية إلا رب الرعية سائله عنها فإن داوى مرضاها وجبر كسراها وهنأ جرباها أي طلاها بالزفت لتبرأ ، الجرب مرض في الإبل هكذا يعالج ورد أولها على أخراها ووضعها في انف من الكلأ وصفو من الماء وفاه اجره وان كان لم يداوي مرضاه ولم يهنأ جرباها ولم يجبر كسرها ولم يرد أولاها على أخراها ولم يضعها على أنف من الكلأ وصفو من الماء لم يؤته اجرها ، لم يؤته الأجر فانظر أين أنت يا فلان، قال : يرحمك الله يا أبا مسلم و أذعن . حبس معاوية – رضى الله عنه – مرة العطاء أخره عن الناس مرتبات من بيت المال وصعد المنبر قام إليه أبو مسلم قال : لما حبست العطاء يا معاوية انه ليس من كدك وكد أبيك ولا من كد أمك حتى تحبس ، فغضب معاوية غضبا شديدا ونزل عن المنبر وقال للناس : مكانكم ، وغاب عن أعينهم ساعة ثم رجع فقال : إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني و إني سمعت ( الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار و إنما تطفأ النار بالماء ) و إني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم إنه ليس من كدي ولا كد أبى فهلموا إلى عطائكم . هكذا سعيد بن المسيب – رحمه الله – يقوم بالحق فيُضرَب ستين سوطا فلا يجيد . سعيد بن جبير يبحث عنه الحجاج ويلقى عليه القبض ولما جيء به إليه قال الحجاج ائتوني بسيف عريض وكان الحجاج إذا أتي إليه بشخص قال : أكفرت بخروجك علي ، فإن قال : نعم ، خلى سبيله فقال لسعيد : اكفرت بخروجك علي ، قال : لا ، قال : اختر أي قتله أقتلك قال : اختر أنت فإن القصاص أمامك . يعني بعد الموت . أما حطيت الزيات والمواقف الجريئة عند الحجاج فإن حطيطا كان صواما قواما عرف الحجاج عنه أخذه استدعاه فقال حطيط لمن معه إني قد عاهدت الله لئن سئلت لأصدقن وان ابتليت لأصبرن ولأن عوفيت لأشكرن و لأحمدن الله على ذلك فقال له الحجاج : ما تقول في ؟ قال : أنت عدو الله تقتل على الظنة بدون دليل وبرهان قاطع ، قال : فما قولك في أمير المؤمنين قال أنت شرر من شراره هو شرر و أنت شرارة من الشرر وهو اعظم جرما قال : خذوه ففظعوا عليه العذاب ففعلوا فصبر ولم يصح فأتوه فأخبروه قال : قطعوا لحمه وصبوا عليه الخل والملح فصبر ولم يصح فأتوه فأخبروه فقال : اخرجوا إلى السوق فاضربوا عنقه – رحمه الله - ، كم عمره ثمانية عشر سنة بس . ابن أبي ذئب– رحمه الله – لما حج أبو جعفر المنصور دعاه قال نشدتك الله الست اعمل بالحق ؟ ألا تراني اعتدل قال : أما إذا ناشدتني بالله فأقول ما أراك تعدل وانك لجائر وانك لتستعمل الظلمة وتدع أهل الخير . ولما دخل المنصور المسجد النبوي قام الناس إلا من أبي ذئب فقيل له : قم قال إنما يقوم الناس لرب العالمين . سفيان الثوري يقول إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول دما . أتى المهدي بسفيان الثوري لما دخل عليه سلم سفيان ولم يسلم بالخلافة وسياف المهدي قائم على راس المهدي بسيفه متكئ عليه ينتظر متى الأمر فأقبل المهدي على سفيان قال : يا سفيان تفر منا هاهنا وهاهنا تظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك فقد قدرنا عليك الآن أمسكناك والقينا عليك القبض أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانه ؟ قال سفيان : إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل ،فقال السياف : يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا أتأذن لي أن اضرب عنقه ، المهدي كان فيه خير قال : اسكت ويلك وهل يريد هذا و أمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى لسعادتهم يعني هو يذهب شهيدا ونحن نذهب إلى جهنم ، اكتبوا عهدا لسفيان بقضاء الكوفة و ألا يعترض عليه أحد في حكم ، سفيان اخذ الخطاب وخرج رماه في نهر دجلة وغاب عن أنظار الناس فلم يُعرف أين هو . الاوزاعي لما فرض عبد الله بن علي هذا من دعاة بني العباس الذي وطؤوا له في أول الأمر وكان سفاكا للدماء لما فرغ من قتل بني أميه بعث إلى الاوزاعي وكان قد قتل يومئذ نيفا وسبعين من بني أميه قال الاوزاعي : دخلت عليه والناس صفان قال : ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه ؟ فتفكرت ثم قلت لأصدقن واستبسلت للموت(/12)
ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال بالنيات وبيده قضيب ينكت به ثم قال : ما تقول في قتل أهل هذا البيت يعني بني أميه فرويت له قول النبي – صلى الله عليه وسلم – ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلا الله و أني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) قال : اخبرني عن الخلافة وصية لنا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نحن آل البيت فقلت : لو كانت وصية من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما ترك علي رضى الله عنه أحدا يتقدم ، قال : فما تقول في أموال بني أمية ؟ قلت : إن كانت لهم حلالا فهي عليك حرام وان كانت عليهم حراما فهي عليك أحرم ، فأمرني فخرجت فقمت فجعلت لا أخطو خطوة إلا قلت أن رأسي يقع عندها . وهكذا كان ذلك الرجل سفاكا للدماء صعب المراس لكن الله نجى الاوزاعي بصدقه . وابن النابلسي – رحمه الله – لما أخذه جوهر هذا العبيدي هذا الكافر الباطني قال له : بلغنا أنك قلت إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب عليه أن يرمي في الروم سهما وفينا تسعه ، قال – رحمه الله - : ما قلت هذا بل قلت إذا كان معه عشرة اسهم وجب أن يرميكم بتسعة وان يرمي العاشر فيكم أيضا ، قال : لماذا ؟ قال : لأنكم غيرتم الملة وقتلتم الصالحين وادعيتم نورا إلهيه ، فأمر جوهر أن يسلخ من جلده فطرح على وجهه في الأرض وشق السلاخون عرقوبيه ونفخ كما تنفخ الشاه ثم سلخ وهو يقرأ القرآن بصوت قوي ثم غشى عليه ومات – رحمه الله – كان الدارقطني إذا ذكره يبكي ويقول : كان يقول وهو يسلخ ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . شمس الدين القاضي في عهد الدولة العثمانية لما حضر بايزيد محمد أحد سلاطين العثمانيين إلى المحكمة الشرعية بين يدي الشيخ ليشهد في قضية رد الشيخ شهادة السلطان ولم يقبلها قال السلطان : ولما؟ قال : لأنك تارك لصلاة الجماعة ، فابتسم السلطان ولعل الله أراد به خيرا ثم أمر بناء مسجد أمام داره ولم يترك صلاة الجماعة بعدها . وهكذا كان أهل العلم على الحق ثابتين لا يلينون ولا يتزلزلون .شيخ الإسلام الهروي إسماعيل الأنصاري يقول : عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك لكن يقال لي اسكت عن من خالفك فأقول : لا اسكت . القاضي المنذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة لما عمل أمير المؤمنين في الأندلس قبة بالذهب والفضة وبعد ما تم الإنجاز العظيم هذا ودخل الأعيان وأخذوا مجالسهم جاء منذر بن سعيد فقال له الخليفة كمن قال لمن قبله : هل رأيت أو سمعت أحدا من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا ؟ فبكى القاضي وأَقْبَل ودموعه تتحدر ثم قال : والله ما ظننت يا أمير المؤمنين أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ أن أنزلك منازل الكفار ، قال : لما ؟ قال : قال الله عز وجل ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا – يعني ذهب – وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ) فنكس الخليفة رأسه ثم قال : جزاك الله عنا خيرا وعن المسلمين الذي قلته هو الحق و أمر بنقض سقف القبة . هذا من بيت المال بأي حق يوضع يرد إلى بيت المال .(/13)
سادسا : فيما فعله أولئك القوم الجهاد في سبيل الله ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) دافعوا عن بيضة الإسلام وغزوا في سبيل الله ودخلوا نحور العدو ، دانت لهم البلدان لما أراقوا الدماء في سبيل الله ( من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق ) هذه البسالة والبطولة التي كان يبديها سلفنا – رحمهم الله – شيء عجب ، فكان انس بن النضر لما مات في بدنه ثمانون ضربة ورمية وطعنه ، كذلك جعفر الطيار في بدنه في مؤتة تسعون ضربة ما بين طعنة ورمية وضربة بسيف . الزبير يوم اليرموك قال له أصحابه : ألا تشد فنشد معك قال : إن شددتم كذبتم قالوا : لا نفعل ، فحمل حتى شق الصفوف فجاوزهم وما معه أحد ثم رجع فأخذ الروم بلجامه ضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر فهناك ثلاث آثار في عاتق الزبير ، اثنتين في اليرموك عن يمين وشمال وواحدة بينهما في بدر قال عروة ولده : كنت ادخل أصابعي في تلك الضربات العب وأنا صغير ، لما يتربى عبد الله بن الزبير عند هذا الرجل كيف يكون ؟ لذلك كان فارسا وعمره عشر سنين حتى أن الزبير وكل به رجلا لا يقتحم الأعداء فكان عبد الله يجهز على جرحى الروم يطوف على جرحى الروم ( الشيخ يحدث فتىً من الحضور يقول له : سمعت أنت ؟ كم عمرك ؟ الشيخ يستمع لإجابة الفتى ، إحدى عشر سنة يعني أنت اكبر بسنة ،فهذا عبد الله بن الزبير كان يطوف على جرحى الروم بعد المعركة والذي يجد فيه نفس يجهز عليه ، فجهز نفسك ) . يقول خالد بن الوليد – رضى الله عنه – لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ، ما صبرت في يدي إلا صفيحة لي يمانية سيفٌ يمانيٌ هو الذي صمد في يده ، تقطعت أسيافه الستة – رضى الله عنه - . وهكذا كانت البطولات والشجاعات وبراءة بن مالك يوم اليمامة لما تحصن بنو حنيفة في بستان مسيلمة الذي كان يعرف بحديقة الموت ، يقول لأصحابه ضعوني على الترس والقوني فيلقونه من فوق السور فينزل كالصاعقة على رؤوس الكفار يقاتلهم وحده ويقتل عشرة ويفتح الباب ، جرح يومئذ بضعا وثمانين جرحا . وهكذا كان جليبيب – رضى الله عنه – لما قال – عليه الصلاة والسلام – بعد المعركة ( هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : نعم فلانا وفلانا و فلانا ، قال : هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : نعم فلانا وفلانا و فلانا ، ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : لا ، قال : لكني افقد جليبيبا ، فطلبوه ، فَطُلِبَ في القتله فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فوقف عليه فقال : قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه ، هذا مني وأنا منه ثم حمله النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس له سرير إلا ساعدي رسول الله – عليه الصلاة والسلام – فحفر له ووضع في قبره ) . في واحد من المحدثين كان من شيوخ البخاري اسمه أحمد بن إسحاق هذا الرجل عجيب في شجاعته يقول البخاري : ما بلغنا أنه كان مثله ، يعني في الشجاعة يقول : مرة وقد أخرج سيفه أعلم يقينا أني قتلت به ألف كافر وإن عشت قتلت به ألفا أخرى ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي . أرسل الكفار يوما في عمل كمين لهذا الرجل خمسين فارسا انتقاء لما خرجوا حاصروه هجم عليهم وقاتلهم فقتل تسعة و أربعين وأمسك الخمسين وقطع بعض أعضائه و أرسله رسولا ليخبر قومه بما حصل . طارق بن زياد لما دخل الأندلس في ألف وسبعمائة رجل و تذفير هذا نائب اللذريق الذي صار قتال ثلاثة أيام ثم جاء الملك بنفسه بفرسان وجيش عرمرم . قال طارق : انه لا ملجأ لكم بعد الله غير سيوفكم أين تذهبون وانتم في وسط بلادهم والبحر من ورائكم محيط بكم و أنا فاعل شيئا إنما النصر و أما الموت ، قالوا : وما هو ؟ قال : أقصد طاغيتهم الآن الهدف القائد فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي ففعلوا ذلك فقتل ملكهم وجمع كثير من أصحابه وهزمهم الله تعالى وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلا ذريعا ولم يقتل من المسلمين إلا النفر اليسير . وهكذا كان على بن أسد – رحمه الله – كان رجل في البداية غير متدين كان صاحب معاصي ومن الذين أسرفوا على أنفسهم ، سمع واحد يقرأ في الليل ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله ) قال : أعد ، أعاد ، قال : أعد ، أعاد ، قال : أعد ، أعاد ، ثلاث مرات رسخت وقعت اغتسل ثم غسل ثيابه ذهب في العبادة حتى عمشت عيناه من البكاء وصارت ركبتاه كركبتي البعير من كثرة الصلاة غزا البحر فلقي الروم فارتبطوا بمراكب العدو قال اليوم أطلب الجنة لا أطلب الجنة بعد اليوم أبدا . فاقتحم بنفسه في سفينة من سفنهم فما زال يضربهم وينحازون ويضربهم وينحازون حتى مالوا في شق واحد كلهم فانكفأت السفينة فغرق وغرقوا جميعا .(/14)
أما أبو الفادية الذي كان يوما من الأيام مع المسلمين في المعارك البحرية بقيادة معاوية – رضى الله عنه – كان الروم جهّزوا طنجر مملوء بمادة مشتعلة ليقذفوه على سفن المسلمين تحترق بمن فيها ، فنظر أبو الفادية إلى رجل من الروم قد أمسك بالطنجر ليقذفه فرماه أبو الفادية بسهم فقتله وخر الطنجر في سفينة الروم فاحترقت بأهلها وكانوا ثلاثمائة فكان يقال : رمية سهم أبي الفادية قتلت ثلاثمائة نفس . أما أبا الفتحون – رحمه الله – الذي خرج إلى علج رومي كان قتل من المسلمين ثلاثة يطلب البراز يخرج مسلم يقتله يخرج مسلم يقتله ثلاثة ، جعل النصراني يمشي متبخترا يقول : هل من مبارز واحد لاثنين واحد لثلاثة ثلاثة من المسلمين لواحد من الفرنج، فتضايق المسلمون جدا وقالوا للمستعين ليس لها إلا أبو الوليد ابن فتحون فخرج أبو الوليد بقميص كتان واسع الأكمام وركب فرسا بلا سلاح وأخذ بيده سوطا طويل الطرف وفي طرفه عقدة معقودة ثم برز إليه فتعجب النصراني منه ، كيف ما يخرج إلا بسوط وحمل كل منهما على صاحبة فلم تخطيء طعنة النصراني سرج ابن فتحون فتعلق برقبة فرسه ونزل الأرض لا شيء منه في السرج ثم استوى على سرجه وضرب النصراني بالسوط على عنقه فالتوى السوط على عنقه فأخذه بيده فاقتلعه وجاء به إلى المسلمين فألقاه بين أيديهم .
وهكذا كان البَطّال رأس الشجعان والأبطال من أعيان أمراء الشاميين كما يقول الذهبي هذا الرجل بعث سرية إلى ارض الروم فغابت واختفت واختفى جندها ، ما درى ماذا صنع أصحابه المسلمون ، فركب بنفسه وحده على فرس حتى جاء إلى عمورية وكان فيها النصارى فطرق بابها ليلا فقال له البواب : من هذا ؟ قال البَطّال : أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق فأخذ لي طريقا إليه فلما دخلت على البطريق إذا هو جالس على سرير فجلست معه على السرير إلى جانبه ، يعني انه شخصية مهمة مثله وهو أصلا أهم منه ثم قلت له : إني قد جئت في رسالة فأمر هؤلاء فلينصرفوا فأمر من عنده فذهبوا ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه . الآن يظن أن رسالة من ملك النصارى . ثم جاء فجلس فاخترطت سيفي وضربته يعني ليس بحده لكن بعرضه وقلت أنا البطال اصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة . فأخبرني ما خبرها ، قال : هم في بلادي وهذا كتاب قد جاءتني يخبر انهم في وادي كذا وكذا والله لقد صدقتك ، فقالت : هات الأمان فأعطاني الأمان فقلت ائتني بطعام ، شوف الشجاعة ، فأمر أصحابه فجاءوا بطعام فوضع لي ، فأكلت فقمت لأنصرف فقال لأصحابه أُخرجوا بين يدي رسول الملك فانطلقوا يتعادون بين يدي وانطلقت إلى ذلك الوادي فإذا أصحابي هنالك فأخذتهم ورجعت . هذا الرجل كان يسأل الله الشهادة قد شُغِلَ بالجهاد عن الحج فكان يسأل الله الحج فكان يسأل الله الحج قبل أن يستشهد وفعلا حج في السنة التي استشهد فيها – رحمه الله تعالى – وكان من المسلمين أيضا كان من انتضب للقاء الإفرنج في البحر وكان غزوات عظيمة من المسلمين والنصارى في البحر ، حسام الدين لؤلؤ العادلي الذي لما خرج الإفرنج في البحر خرج و أدركهم و أحاط بهم واستسلموا وقيدهم وكانوا اكثر من ثلاثمائة مقاتل وأقبل بهم إلى القاهرة وكان يوما مشهودا .
و أما بطولات صلاح الدين ونور الدين وعماد الدين فإنها مشهورة معروفة كثيرة ومن الأشخاص الذين مروا في تاريخ الإسلام عندما وصل الإنسان إلى جزر الفليبين بقيادة ماجلان مُكتشف راس الرجاء الصالح هذا النصراني ماجلان قاد جيشا من النصارى إلى الفليبين وكان أهل الفليبين من المسلمين عام 927 م نزل الأسبان على ارض الفليبين يظنون أن أهلها على الوثنية لكنهم لاحظوا انهم فوجئوا بالمسلمين بصوت واحد فانهزم الصليبيون وكان قائدهم ماجلان قد جاء إلى ناحية الجزر الجنوبية ودخل على ملكها المسلم لابو لابو وقال له ماجلان يقول للمسلم : إنني باسم المسيح أطلب منك التسليم ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولي منكم بحكم هذه البلاد ، فرد عليه الأمير المسلم : إن الدين لله وإن الإله الذي اعبده اله جميع البشر على اختلاف ألوانهم ثم اخذ لابو لابو المسلم الفليبيني ماجلان بيده وقتله ودمر فرقته ورفض تسليم جثته للأسبان فانسحبوا خائبين . وهكذا غزا الأسبان بعد ذلك الفليبين واستولوا عليها بعدما جاهدهم المسلمون جهادا كبيرا ، لقد كان للمسلمين صولات وجولات كثيرة فهذه الصحراء وهذه البحار وهذه الأدغال شاهده على جرأتهم وشجاعتهم الأمثلة كثيرة لم تكن فقط في الرجال و إنما حتى النساء فأم سليم التي كانت تحمل الخنجر أيام حنين فرآها النبي – صلى الله عليه وسلم – معها الخنجر قال : ما هذا يا أم سليم ؟ قالت : اتخذته حتى إذا دنا مني من المشركين بقرت بطنه فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يضحك فقالت : يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء الذين انهزموا بك فقال لها : يا أم سليم إن الله قد كفى واحسن . رواه مسلم .(/15)
وكانت المقاتلة الشجاعة أم موسى اللخمية مع زوجها باليرموك وجال الرجال جوله فأبصرت عِلْجاً يجر رجلا من المسلمين رومي نصراني أسر مسلما فأخذت هذه المرأة عمود الفسطاط ثم دنت من ذلك النصراني فشدخت به رأسه وأقبلت على أخذ سلبه – رحمها الله –.
وهذه الأمة فيها خير عظيم والتاريخ يعيد نفسه في أشياء، وسنن الله الكونية ثابتة تجري وإذا كان لنا من مثل هذه الوقفات دروس وعبر أن نأخذها فإن علينا أن ننظر اليوم أيها الاخوة في حالنا ونقارب بأولئك القوم ونقول لأنفسنا هلم إلى العمل ولنذهب لنأخذ بكتاب ربنا وسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم – فإن الأيام التي تمر بنا الآن أياما صعبة تحتاج إلى عمل سريع والله أيها الاخوة والى إغاثة عاجلة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكشف الضر فإنه ليس لها من دون الله كاشفة ، ولنعلم بأن المسلمين قد آتاهم الله من الخيرات والإمكانات والعقليات والقوة ما لو اجتمعوا على دينهم لا يمكن أن يهزمهم الكفار وينبغي أن نشحذ هممنا وعزائمنا بأخبار سلفنا فإن المواجهة آتية ولابد مع معسكر أهل الشرك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت أقدامنا وان ينصرنا على القوم الكافرين ونسأله أن يلهمنا رشدنا وان يقينا شر أنفسنا ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا وان ينفعنا بما علمنا ونسأله أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .
--------------------------------------------------------------------------------
موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامي(/16)
هل أتاكم نبأ الحصالة ؟ ! ؟
الحمد لله العلي الأعلى خلق فسوى وقدر فهدى وربك يخلق ما يشاء ويختار ، وصلى الله وسلم على الهادي البشير والسراج المنير خير متبوع ، وبعد :
الحصالة صندوق صغير أو قل علبة يجمع الصغير فيها درهما إلى درهم فعند امتلائها يغدو هذا الصندوق وتلك العلبة في عين الصغير الدنيا كلها .
إنها ليست علبة مثل علب الدنيا إنها الحصالة .
الحصالة في عيني الصغير كل أمنياته .
الحصالة في عيني الصغير مجموع أحلامه .
لقد ظل يجمع فيها طوال فترة لا بأس بها كلما أودع فيها القليل كانت كلمات الأهل حافزا ً له على الجمع أكثر وأكثر .
لكم ترددت تلك العبارة : القليل بالقليل يكثر .
نعم ضع أيها الصغير ثم ضع ، فإذا كثر المال فأبشر .. أبشر لقد آن أوان فتح الحصالة وعندها ستفتح لك الدنيا فأحضر ثم أحضر أغلى أمانيك لنشتريها لك من هذا المال الوفير .
وماذا عسى أن تكون أمنية تلك النفس الصغيرة الرقيقة ؟
لعبة تمناها أو لعبة تمناها ، فهل هناك فرق بين الأمنيتين ؟ !
نفس تعودت البراءة منذ صغرها .
اللعب ثم اللعب ثم اللعب ، وهكذا .
اسمح لي أخي :
اسمح لي بهذه النقلة السريعة إلى الحصالة التي أريد أن أحدثك عنها الآن .
إنها حصالة صبي من صبيان المسلمين جمع كما يجمعون وتمنى كما يتمنون ، وآن أوان فتح حصالته ، فأقبل الوالد .. هيا يا فلان نفتح الحصالة لكي نشتري لك اللعبة التي وعدتك بها ، فأقبل الولد يحتضن الحصالة ويصرخ لا .. لا .. لا .
هذا المال جمعته لأخواني على أرض فلسطين .
الله أكبر
أي طفل هذا ويا ترى أي تربية تلقاها حتى صنعت منه نوعا مختلفا ؟ .
ثم إنه لدرس للأمة كلها في البذل .
صبي يضحي بكل أمانيه وبأغلى أحلامه فبالله علينا كيف بأصحاب الملايين ! ! .
أخي إن أنت لم تملك درهما واحدا الآن ، فهل تعجز أن تجعل لك حصالة كحصالة هذا الصبي ، ولكن أين همة كهمة الصبي .
لا شك أنك تعي أكثر منه وتفقه قوله تعالى :
" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " .
فهو درهم كحبة تبذرها في الأرض فانظر إليها لقد نمت فأخرجت سبع سنابل ويال جمال السنبلة الواحدة وما أكثر ما تحمل إن بها مائة حبة ، فاضرب السبع في المائة لتجمع سبعمائة من حبة واحدة ، ولكن هناك مضاعفة أكثر والله يضاعف لمن يشاء ، فلعل عقلي وعقلك لا يحتمل ذلك لذا جاء الخطاب القرآني :
" من ذا الذي يقرض الله قرضا ً حسنا ً فيضاعفه له أضعافا ً كثيرة" .
فهي أضاعف أكثر من السبعمائة ولكن أكثر بماذا ؟ فالجواب أكثر بكثير.
ثم افترض أنا بخلنا فلم ننفق فهل ترانا نخلد لهذا المال ؟
فإن أيقنا بالرحيل ، فلا إذا ليس هذا مالنا بل هو مال الورثة من بعدنا .
أما مالنا فما قدمنا من أجل الله .
جاء في صحيح البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر .
واسمح لي أن أسأل بكل صراحة :هل الصدقة تنقص المال ؟
والجواب قطعا لا ، ولكن لماذا ؟ لأن الله تكفل بتعويض المنفق على نفقته ، فقال جل في علاه : " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه " .
، وكلمة شيء في هذه الآية عجيبة جدا فأي شيء تنفقه يعوضك ربي عنه ، فأنفق درهما تجد عوضه ، وانفق مليون تجد عوضه ، وهو خير الرازقين .
ولذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : ما نقصت صدقة من مال .، وعند الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري : ثلاثة أقسم عليهن مانقص مال عبد ٍ من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة ، ولا فتح عبد باب مسألة .
وأخيرا فإن قلت ما عندي إلا القليل :
فأقول لك انفق منها بقدر استطاعتك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وتأمل في هذا القصة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات ، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها ، فاستطعمتها ابنتاها ، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما ، فأعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعت لرسول الله r فقال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار . رواها مسلم في صحيحه .
فهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تتصدق بالقليل ثلاث تمرات ، وهذه فقيرة تجود بتمرة تقسمها نصفين بين بنتيها فيوجب الله لها الجنة ويعتقها بها من النار ، فلنعم التمرة تلك التمرة .
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل . متفق عليه .
وإني لآمل بعد كلماتي هذه أن نجد أكوام الحصالات قد جمع فيها القليل إلا القليل لنشهد الصرح الكبير .(/1)
فيال عظم هذا الطفل الذي علمنا هذا الدرس ، وكم من الحسنات في ميزان من جراء العاملين بتلك السنة الحسنة أسأل الله ألا يحرمنا الأجر .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/2)
هل الحوادث الكونية عقوبات ربانية أم ظواهر طبيعية؟
1287
الكبائر والمعاصي
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
ملخص الخطبة
1- الآيات المرسلة من الله تخويف للعباد. 2-الذنوب سبب العقوبات والطاعات سبب الرحمات. 3- أول ذنب عصي الله به. 4- إهلاك الله للأمم التي عصت الأنبياء. 5- حالنا اليوم. 6- الكفار يقولون عن الكوارث الطبيعية. 7- خوف المصطفى من عذاب الله تعالى.
الخطبة الأولى
وبعد:
معاشر المسلمين: يقول تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً قال ابن كثير، قال قتادة: (إن الله تعالى يخوف الناس بما يشاء من الآيات لعلهم يعتبرون، لعلهم يذكرون، لعلهم يرجعون) أهـ.
وقال تعالى بعد قصة قوم لوط: وما هي من الظالمين ببعيد ، قال ابن كثير، وما هذه النقمة ممّن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه، ولهذا قال أبو حنيفة وغيره: إن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة، وأفتى على بن أبي طالب بتحريق اللوطية، وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ومعنى الآية: قل للمشركين عبّاد القبور يسيروا في الأرض وينظروا في آثار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، فيعتبروا فإن للكفار مثلهم من العذاب العظيم.
وقال تعالى: فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور قال مجاهد: ولا يعاقب الله إلا الكفور.
وقال تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) [حديث حسن رواه الحاكم].
وقبل الغوص في هذا الموضوع لابد أن نقرّر قاعدة قرآنية قطعية وهي: أن الذنوب بأنواعها سبب رئيسي للعقوبات الربانية، كما أن الطاعات والحسنات سبب الرحمات وسنة الإلهية لا يعذب عباده الصالحين المتقين الملتزمين بدينه لأنهم أحبابه.
وإنما يعذّب أعداءه من الكفار والفجار، ولهذا رد الله على اليهود والنصارى لما زعموا بأنهم أحباب الله فكذبهم حيث قال تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبابه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق .
اعلموا أيها المسلمون أن أول ذنب في هذا الكون هو عصيان إبليس لله تعالى حيث أمره أن يسجد لآدم فأتى، فطرده الله ولعنه ومسخه وغضب عليه بعد ما كان أقرب المقربين لله تعالى، وبعده ذنب أبوينا آدم وحواء، لقد أكلا من الشجرة وعصيا ربهم وأطاعا عدوهما وما زالت الذنوب تتوالى بعد هاذين الذنبين.
فهذا نوح أول رسول إلى الأرض، كان الناس على التوحيد فصاروا يعبدون الصور ويعبدون الأصنام والطواغيت، فبعث الله نوحاً يدعو للتوحيد قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ولكن عصت قوم نوح رسولها، فماذا كانت النتيجة الحتمية إنه عذاب الله الطوفان حيث قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة .
وهذا هود بعثه الله إلى عاد الأولى وعاد الثانية فنهاهم عن عبادة غير الله تعالى فعصوه حيث قال تعالى: وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ولكن عصوا ربهم فجاءه العذاب قال تعالى: فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وقال عن عاد الثانية: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين .
وهذا صالح يدعو قومه إلى التوحيد ونبذ الشرك، فعصوه بل تحدوه فقالوا له: أخرج لنا ناقة صفتها كذا وكذا من هذه الصخور الصماء، فدعا الله فأخرج لهم الناقة، ولكن عصوه وقتلوا الناقة، فحق عليهم العذاب قال تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ولكن عصوه وتمردوا حيث قال تعالى: فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بعذاب الله إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وفي آية أخرى: أخذتهم الصيحة .(/1)
وهذا شعيب كان قومه يعبدون الأصنام ويطففون في المكيال ويقطعون القبيل، فدعاهم شعيب إلى التوحيد فعصوه قال تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط لكن عصوه واستهزؤوا به فأخذهم عذاب يوم الظلة وأخذتهم الرجفة وهي الزلزلة، قال تعالى: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وقال: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين .
وهذا لوط يدعو قومه إلى التوحيد وكانوا قوماً يعبدون الأصنام ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، وكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وأرادوا أن يعتدوا على ضيوف لوط وكانوا من الملائكة، حيث قال تعالى: ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر عصوا لوطاً فأنزل الله عليهم أشد العذاب لم يسبق أن عذب به قوماً مثلهم قال تعالى: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد فأهلك الله قرى اللوطية وقلبها عليهم ثم أمطرها بحجارة شديدة المفعول، أنزلها عليهم من السماء، وقد جاء في التفسير أنها أهلكت ديارهم وأرضهم إهلاكاً وصارت أثراً لا حياة فيها تغمرها المياه وهو ما يسمى الآن بالبحر الميت لانعدام الحياة الحيوانية فيه، وهذا من شؤم الفواحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصدق الله إذ قال: فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
معاشر المسلمين: إذا علمتم أن الذنوب تجلب عقاب الله. وعلمتم أن أكبر الذنوب هو الإعراض عن دين الله، والشرك به، وكذا إتيان الفواحش، والظلم، وأكل الربا والقتل، فإن ما تعيشه اليوم في هذا العالم المتقدم - زعموا - مليء بالذنوب والمخالفات الشرعية، فلابد علينا أن نعتبر كما أمرنا الله فقال: فاعتبروا يا أولي الأبصار والاعتبار هو القياس فنقيس حالنا بحال الأمم السابقة وننظر هل نحن في خير أم في شر؟ فأكبر الذنوب في العالم.
1- الإعراض عن دين الله ودين المرسلين، قال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون .
2- انتشار الربا في جميع العالم وهو من أكبر الظلم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وقال : ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) [صحيح رواه الدارقطني].
3- الفواحش التي ملأت الدنيا فقد ذكرت الاحصائيات أن مليون زوج ذكر يوجد في العالم، كما ذكرت أن من بين كل أربعة مواليد في أوربا يوجد واحد غير شرعي.
وفي دولة السويد وحدها من بين كل أربعة مواليد يوجد اثنين غير شرعيين، وهذا سببه قلة الزواج وانتشار ظاهرة المساكنة والصداقة المحرمة.
كما انتشرت في أوربا ظاهرة الرقيق الأبيض وهو بيع أعراض النساء.
ومن المصائب المنتشرة في العالم تجارة المخدرات التي أصبحت من أكبر التجارات العالمية، وكذا انتشار ما يسمى بالجريمة المنظّمة وغيرها من الذنوب العالمية، فإذن هذه الذنوب الكبار هي بلا شك أوجبت لنا هذا العذاب الأليم المتصل في كثرة الزلازل والفيضانات، وكثرة الأعاصير والرياح التي تبلغ قوتها مائتين كيلومتر في الساعة (200كم/ساعة) وعلماء الغرب الطبيعيون يقولون إن هذه الظاهر الكونية لا تعدوا أن تكون حوادث طبيعية ولا علاقة لها بالغيب، فمرة يقولون: سبب هذه الظواهر هو اتساع ثقب الأوزون، ومرة يقولون: ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومرة يقولون:تحرك طبقات الأرض وغيرها من الأسباب العلمية، فهذا الكلام فيه حق وباطل، فنقول إن الشرع والدين لا يخالف العلم الصحيح، فمثلاً ظاهرة الزلزال تدرس من حيث تحرك طبقات الأرض فنقول سبب الزلزال هو تحرك طبقات الأرض ولكن من خلق هذا السبب، فالجواب هو الله تعالى خالق الأسباب، والذي خلق السبب هو الذي أمر الأرض أن تتزلزل بقدرته وليست الطبيعة، وهذا الاعتقاد هو الذي كان عليه المسلمون وكان عليه النبي فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني اسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت له، وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت له)). وقالت عائشة: وإذا تخبلت السماء تغيّر لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال رسول الله : ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا )).(/2)
وفي صحيح البخاري قالت عائشة: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه قالت: يا رسول الله الناس إذا رأواه الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية فقال: ((يا عائشة ما يأمنني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا))، وجاء في الحديث المتفق عليه قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره))، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)).
نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.(/3)
هل انتهى دور حملة الأقلام في وطننا العربي؟
قال أبو داوود ' القلم سفير العقل ورسوله ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل'
وقال طريح بن اسماعيل الثقفي :' عقول الرجال تحت أسنان أقلامها'
وقال سعيد بن العاص :'من لم يكتب فيمينه يسرى'
حملة الأقلام من ((كتاب وأدباء وشعراء ومثقفين)) في أي مجتمع هم رمز من رموز نهضته وشاهد على يقظة أبنائه وحرصهم على مقاومة الفكر الدخيل ، لا عن طريق الارتجال والتشنج بل عن طريق الالتزام بالمعايير الموضوعية، للرد على ما هو طارىء ومتطفل من القيم والأفكار ، والاستخفاف بهذه الفئة مؤشر قوي على وجود خلل في الرؤية .
هل انتهى دور حملة الأقلام في الوطن العربي؟ هل يُجبَرون على مغادرة درب الثقافة الى درب آخر يلاقون فيه بعض الإنصاف الذي افتقدوه في ميدان الثقافة؟ومن الذي باع الثقافة والأدب وأنزلهما من عليائهما وصيّرهما إلى أشياء قابلة للبيع والشراء والمقايضة والمزايدة فسقطت هيبتهما؟
- هل هم المتطفلون على ساحة الثقافة ومثقفوا السلطة الذين أساءوا الى الصورة النقيّة للمثقف حتى بلغت المهزلة أن نرى ديكتاتورا ما وقد أصبح كاتبا وقاصّا؟
- أم هو كساد بضاعة المثقف "الكتاب" التي يحاول تسويقها في غياب الوعي الثفافي واختفاء الصالونات الأدبية ومراكز تجمع محاور الثقافة؟
- أم هو تعرّض المثقف لملاحقة الأجهزة الأمنية ولجان الرقابة التي لا تسمح له إلا بقدر مقنّن من حريّة الكلمة مما قد يضطّره إلى إغماد قلمه في جرابه بدلا من إيتاء فاحشة الكتابة في ظل حريّة مسقوفة بالخطوط الحمراء والدوائر المقفلة ؟
- قال أحد الفلاسفة "اشبعوا قبل أن تتفلسفوا" ..فهل شبع المثقف العربي كي يقوم بدوره الفاعل في حياتنا اليومية، أم أن فقر حالته المادية مقارنة بمثيله في الدول الأخرى قد وصل لدرجة أن أيّ راقصة من الدرجة الثانية تعيش وتأكل وتلبس بشكل أفضل منه؟
عندما تختنق الكلمة يفقد التاريخ معناه، فكيف نخرج من هذا النفق المظلم ونقوّم الإعوجاج كي يتمكن حملة الأقلام من إصلاح العطب العربي؟
ينقسم العرب الى 80% من الأميين ...و10% من أنصاف المثقفين و10% من النخبة العربية ذات المستوى العالمي..وهذه النسبة تعادل او تفوق ما لدى دول شبه متقدمة كأوروبا الشرقية وامريكا الجنوبية والصين والهند...لكنها أسعد حالا من العرب لانها تجتمع تحت سقف دولة موحدة تمتلك من فرص التنمية المستقلة ما لن يعرفه العرب ابدا.
في عصر الاختصاص الذي أنهى عهد المثقف الموسوعي، لِمَ يحشر السياسي أنفه في الثقافة حشرا لا يبرّره إلا الجهل على سطح كل ما يكتبه؟ وكيف يتحول الناقد السينمائي في لحظة الى ناقد رياضي؟ ولم يتحوّل الصحفي الطريف إلى مترجم لقصائد الشعر العالمي ضاربا بعرض الحائط وقع ذلك على القارىء المسكين؟ ولِمَ يخوض الكويتب غمار النقد السينمائي والموسيقي وكأنه لم يخلق لغير هذه المهمة؟
ما هو موقف المثقف من قضايا الأمة؟ هل يسير في الاتجاه المرسوم له؟ وهل يقوم بدوره في إنقاذ ثقافة الأمّة وعقيدتها وحضارتها وتراثها ، أمام عدوّ يحرص كلّ الحرص على فرض قيمه وثقافته بكل ما يملك من وسائل الترغيب والترهيب حتى وصل الاستخفاف بالعرب والمسلمين الى درجة صنع "دعّاسة – توضع تحت الأقدام في السيارة لحماية الأرضيّة" وقد حفر عليها لفظ الجلالة ؟ أم أنه تحوّل الى خادم مطيع للسلطة يزينها في عيون الرأي العام ويبررّ أعمالها وممارساتها معتذرا بلقمة العيش والخوف من بطشها؟
لماذا تقوم الدنيا عندما تحشر الصحافة أنفها في بعض قضايا الشأن العام الغربي، ولا تقعد إلا بإقالة المسؤول عن الخطأ أو بتغيير القانون الخاطىء، بينما يمر الموضوع مرور الكرام في وطننا العربي وكأنه خبر طريف يزين صفحة الجريدة؟
هل ضعفت بنية الفكر العربي وشاخ العقل وهرم وانكسرت أجنحته فعجزت عن التحليق في سماء الإبداع والتنوير؟ ولِم لا يقوم المفكرون العرب بإصدار صحف ومجلات أجنبية توزّع على نطاق واسع في دول أمريكا والغرب وتشرح الحقائق والوقائع للرأي العام خاصة وانه لا ينقصها المال ولا الأقلام؟
سأترك لكم الإجابة على هذه الاسئلة ، لأتحدث قليلا عن الإعلام :
كلنا يذكر دور الإعلام في فضيحة ووتر جيت وأحداث حرب فيتنام، وكيف أصبح قوّة لا يستهان بها توجّه الرأي العام كوسيلة هامة لترويج المبادىء ، فأين الإعلام العربي من كل هذا؟
المجتمع العربي يعيش في متاهة إعلامية تقوده الى المجهول وربما الى خارج التاريخ.
اذا نظرنا إلى الإعلام العربي وخطابه السياسي نجده يسعى إلى بثّ الوعي الزائف لدى الجمهور إما للتوجّهات الرسمية لهذا الإعلام أو لقصور فهم القائمين عليه ، أو لقصدية التضليل لأسباب سياسية و شخصية و حزبية .(/1)
الخطاب الإعلامي العربي خطاب تضليلي معاد للتنوير الإجتماعي والثقافي والفكر الحرّ، معاد للإنسان العربي لأنه يصمت عن حقوقه المهضومة واضطهاده وقمعه وسحق كرامته، ومعاد للحريّة لأنه انتقائي في دفاعه عنها بينما ويخرس ويصمّ أمام السجون العربية والقتل والتعذيب الذي يتعرض له الإنسان العربي، اللهم الا فلسطين التي يشهرها الإعلام العربي كقميص عثمان حيثما يريد أن يدلو بدلوه في بئر الحريّات المنتهكة .
وهو انتقائي في قراءته للتاريخ العربي ماضيا وحاضرا ولايقف عند المسببّات والأسباب التي قادتنا إلى ما نحن فيه من تمزّق وعجز وتبعيّة، بحجة أن مناقشة المناطق المعتمة من تاريخنا يزيد من عدم ثقتنا بأنفسنا، وبذلك فهو يحوّل التاريخ الى أسطورة وليس علم. هذا كله يقابله حملات إعلامية صهيونيّة تكاد لا تتوقف عن مهاجمة أصحاب الحق الشرعي دون أن يتصدى لها إعلام عربي يفنّد مزاعمها وافتراءاتها.
إنّ الثقافة هي استجابة لتطلعات الجماعة البشرية بما فيها التطلعات الفردية إزاء واقعها الاجتماعي بأبعاده التاريخية وواقعها الطبيعي المادي بقوانينه التي نفهمها والتي لا نفهمها، وخصوصيّة أي ثقافة هي مصدر ثراء لمسيرة الإنسانية ولا يجوز التفريط فيها لأنها إحدى الركائز التي تعتمد عليها هويتها القومية، فهل نأمل بخروج خطاب إعلامي وفق منهج إسلامي سليم يساهم في بناء صرح إعلامي محكوم بقواعد أخلاقية وأسس علمية ، يزوّد الناس بالحقائق ويتحرّى الدقة ويتجنب الخداع والكذب في رواية الأخبار؟ تدفع الوكالات اليهودية أموالا طائلة من أجل برنامج أو دعاية لبضع ثوان على شاشة عالمية لتشويه صورة العرب والمسلمين وكسب الرأي العام العالمي لتأييد قيام دولتها في فلسطين، وكثيرا ما تسعى من أجل كتاب أو معرض أو قانون يؤيد معتقداتها هنا وهناك، مستكملة مسيرتها في احتلال العقل العربي بعد احتلال الأرض ، مع تركنا الساحة للعدو يسرح ويمرح فيها ، فماذا يفعل المال العربي في الخارج ...ونحن نملك مفكرين وشعراء وكتّاب يقفون على أرصفة الموانىء بانتظار من يسأل عن أفكارهم أو يدفع بهم بعيدا عن أوطانهم، بينما نستحلف آلاف السياسيين القافزين على الحبال ألا يبخلوا علينا بسفاهاتهم وتفاهاتهم؟>>
أما آدابنااليوم فهي إما مسروقة من صحف الغرب وآدابهم الحديثة، أو مترجمة عنها مع التصريح بذلك. يأخذ الكاتب قطعة من لغة اجنبية فيبدأ بترجمتها وهو إما أن يشوّه الأفكار فيها لضعفه لغويا أو أنه يقوم بترجمتها فتأتي غير منسّقة أو يحاول أن يكسبها الرونق العربي فيخونه قلمه وتظهر ركيكة المعنى والمبنى، وقد ينسج لها من كلمات اللغة نسيجا يلبسها إياه فيشوهّها وينزع عنها طلاوتها وخفّتها، أما الناقد فلم نرَ حتى الآن نقدا لم تلعب فيه الأهواء دورها إما من حسد أو ابتغاء شهرة .
والصحفي واحد من ثلاثة ، طالب شهرة أو طالب مال أو رجل احترف المهنة لمجرد اللذة والفائدة ، وهذا قليل. أما القارىء فإنه لا يقرأ في الأدب إلا نصوص بتوقيع المشاهير حتى وان كان ما تأنفه العيون، ويترك من لمْ يرَ له أثرا أدبيا حتى وإن كانت كتاباته أحسن بما لا يقاس من كتابة الأديب المشهور ،وذلك فعل الوهم في النفوس وقلة التبصّر في الأمور.
أين منّا أولئك الذين يكتبون ما يعتقدون أنه حقّ، ويجعلون حياتهم فداءا له؟..ما زالت أكفنا بيادر تنتظر أن تلوح في الأفق ألوان حصاد، ولنا في موقف الكاتب صنع الله ابراهيم الذي أعلنه خلال خطاب رفضه تسلم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" مثلا يعدّ خرقا للتفاهم بين السلطة والمثقف وتعبيرا عن رفضه للسلام البارد مع إسرائيل، مما أحرج المحيط الثقافي المصري وفي مقدمتهم أعضاء لجنة التحكيم .
المثقفون العرب فإنهم مصابون بانفصام في الشخصية ، القول عندهم غير مرتبط بالفعل وما يتبجحون به لا علاقة له بالواقع وبالحياة، .وعندما يطلقون صيحات الانتصار من حناجرهم فهذا يعني أن الهزيمة آتية لا محالة ، وعندما ندعي بأننا نملك حضارة وثقافة وعلم وفن وشعر أدب رفيع تأتي الوقائع لتكذبنا ولتبرهن لنا بأننا ما زلنا تحت خط الصفر .
العرب الآن في مواجهة حضارة تجارية استهلاكية تهدد تراثنا وتسعى لتدميره، وقد آن الأوان لإقامة خط دفاع ضد هذا الزحف نبدؤه بمصالحة بين الفكر والسياسة في أوطاننا ونعيد بالفكر والساعد ما ضاع منا من عزّة ومنعة قبل أن نختفي من المشهد الحضاري . >>
روي أن الإمام الشافعي دخل في بعض الكور...فاجتمع عليه قوم جهّال..فجعلوا يسألونه فيجيبهم ولا يفهمون ...فانشأ يقول:
أأنثر درّا بين سارحة الغنم
ام أنشر منظوما لراعية الغنم
لعمري لئن ضيعت في شريدة بلدة
فلست مضيعا بينهم غرر الكلم
فإن فرح الله اللطيف بلطفه
وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
أبثثت مفيدا واستفدت ودادهم
والا فمخزون لدي ومنكتم
فمن منح الجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم >>
الترجمة >>(/2)
يجب أن نعرف ماذا نترجم؟ وكيف نترجم ؟ ولمن نترجم؟ الى جانب إيجاد الحلول للعوائق الماثلة أمام خطاب الترجمة بغض النظر إن كانت مالية ، أو فكرية، أو سياسية ، أو مؤسساتية، أو اجتماعية.وأن نعي أن الترجمة لن تستطيع أن تحل مكان أدبنا الخاص ومعارفنا أو تلغيه إذا كنا على وعي تام أثناء اختيارنا لما نترجمه ، وكيف نترجمه؟ وبذلك ستملأ المواد المترجمة ما لدينا من فراغات وثغرات ، نردم بها الفجوات الرديئة مكونين أرضية أكثر قوة وصلابة تستطيع الحركة الثقافية أن تسير عليها لتلحق بموكب الأمم الأخرى التي سبقتنا في هذا المضمار.
نحن في أمسّ الحاجة الى تغيير المفاهيم والأفكار التي لم تعد صالحة واستحداث منظور جديد لهويتنا الثقافية تتعامل مع المستجدات الطارئة على العالم لتكون طرفا إنسانيا فاعلا في ثقافة البشرية .
المشروع الحضاري دليل تاريخي يوجّه المجتمع ويحدّد الجماعات التي تقبل أن تتلاحم على هدي المبدأ القومي. ...فكيف فقدنا مشروعنا الحضاري؟
منذ ألف عام استبدل الخليفة المعتصم الجيش العربي بجيش تركي قام خلال ربع قرن من ذلك بقتل الخليفة العباسي المتوكل على الله وشطروا سلطة الخلافة إلى سلطة شرعيّة يمثّلها الخليفة العربي وسلطة دنيوية يمارسها السلطان التركي ..وما لبثت كل حامية تركية أن استقلت عن الاخرى فتفكّكت الخلافة وسقط مفهوم الدولة والمجتمع...وتوقفت بذور الحضارة العربية عن النمو وانهارت المؤسسات الثقافيّة بعد أن حوربت لأنها تحدّ من تخريبهم ونهبهم لخيرات الدولة.
وتوالت بعدها الغزوات على الأمة الإسلامية من الصليبيين الى التتار الذين أحرقوا بغداد ودمشق وتم القضاء على الحضارة العربية قضاءا شمل وجودها المادي والمعنوي. واستمرت الخلافات مرورا بحكم المماليك الذين استبسلوا في الدفاع عن الأراضي الإسلامية وتطهيرها من المستعمرات الصليبية، لكنهم كانوا يكرهون العرب وعهدوا بالقيادات إلى مماليك من تركستان.
وعندما جاء العثمانيون عملوا على شدّ وثاق العرب وقمع أيّ تطلع عربي للتحرر القومي قد يعيد الخلافة للعرب، وقاموا يساومون الاستعمار الأوربي على الأرض العربية قطرا بعد قطر لتدخل الأمة العربية مرة أخرى تحت احتلال أوروبي ساهم في انعدام الإرادة الجماعية وفقدان العناصر القوميّة لقيمتها وتفسّخت الثقافة المشتركة وصار التاريخ عامل فرقة بدلا من أن يكون عاملا موحدا للأمة.
التطور الحضاري مطلوب على كل الجبهات لكنه مستحيل إذا لم نقرر غاية مسارنا، والانتماء إلى المستقبل لا يتم دون تحديد الانتماء إلى الماضي ، فهل نحن مستعدون لمثل هذه المهمة، وهل نملك القدرة على إعادة صياغة مفهوم المشروع الحضاري والتخلص من وطأة الاتباع بالموازنة ما بين الماضي الزاهر والحاضر الخلاّق؟
نظرة واحدة إلى جامعات بلادنا العربية تنبؤنا بأن نتاجها الفعلي يقتصر على الأدب والفقه والعلوم المعيشية في حين أن حاضرنا الفكري ما زال رهينا بظاهرة الفكر المستورد من ماضينا السحيق أو الحاضر الغربي، وهكذا تنطلق الأمم من حولنا نحو المستقبل، ونبقى نحن عبيدا للأمس، لم تمتّد إيجابيات الماضي وعناصر الجمال فيه إلى حاضرنا، وذلك يؤكّد على وجود خلل في ما نمارسه من سلوك وما نعتنقه من فكر وما نرسيه من قيم وما ننتمي إليه من خصال .
إن القبح السائد نحن مصدره الوحيد، يعيش وينمو على أخطائنا وخطايانا، ونحن فقط بمقدورنا تغييره ومحو آثاره أفرادا وجماعات برفض السلبية وهّز الأكتاف ومواجهة النفس فكرا وسلوكا، لنضع أقدامنا على بداية الطريق الصحيح لمستقبل أكثر جمالا وبهجة، بواقعية الفعل المدعم بأصالة القيم ونبل السلوك لمواجهة الأفكار المسمومة التي يسرّبها لنا الغرب الذي يدين لنا بالفضل في نجاح محاولاته القضاء على الإسلام عندما حوّلنا كتابنا المقدس من أقوال إلى أفعال، ومن منهج الى تبرّك وزينة فضربونا في الصميم.
ما يصيب الأمة الإسلامية اليوم من أعدائها الظاهرين وممّن يتكلمون بلسانها هو نتيجة حتمية لابتعاد الأمة عن منهج الكتاب والسنة. لا أعرف قائل هذا البيت، لكنه يمثل حال الإسلام في العالم العربي والإسلامي من فلسطين إلى العراق والشيشان وكوسوفا وأفغانستان وأندونيسيا وكشمير:
أنّى نظرت الى الإسلام في بلد...وجدته كالطير مقصوصا جناحاه
إن رسالة الدين الإسلامي هي الإعمار والبناء لأنه يدفع الإنسان لطلب العلم الذي جعله فريضة على كل مسلم ومسلمة..والخروج من وهدة التخلف يعتبر واجبا دينيا لاستعادة العزّة وتمكين المسلمين من تحقيق الضمان لإقامة فرائض الإسلام كلها كما جاء في قوله تعالى "أفلا تتفكرون" - صدق الله العظيم(/3)
والإسلام يدعونا الى التفكير والتعقل والتفقّه والاعتبار والتدبّر والتبصّر والعلم، وإذا ما عاد الوعي للفهم الشامل للإسلام بوصفه دين العزة والكرامة.، دين التقدم والحضارة والعلم والمدنية، دين الدنيا والآخرة والتوازن بين الجسم والروح، دين الاعتدال والسماحة والسلوك المسؤول الذي يرفع إلى صنع الحضارة والمشاركة فيها، ويقرر بأن الحضارة واجب ديني لا يجوز للمسلمين التخلي عنه بل جعله في قمّة الأولويات لمسح عار التخلف والانحطاط ووصمة الأمية والجهل، عندها فقط سوف نستعيد مكانة الإسلام تحت الشمس
يقول "ابن قتيبة" :
" ليست كتبنا هذه لمن لا يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم ومن الكتابة إلا بالإسم".>>
الكتابة مسؤولية، ومهمة حامل القلم والفكر هي الكشف عن الحقيقة بالحوار والنقاش للرأي المخالف ، وأن يبرز الأخطاء ويدعو إلى تغييرها نحو الأفضل، يجب أن نرتدّ إلى أصولنا ..نرجع إلى كتابنا وسنتنا وتقاليد أجدادنا الروّاد كي نعرف كيف يكون السبق الحضاري والتحقيق والإبداع. >>
يقول المتنبي في وصف القلم
نحيف الشوى يعدو على أم رأسه
ويحفى فيقوى عدوّه حين يقطع
يمجّ ظلاما في نار لسانه
ويفهم عمّن قال ما ليس يسمع(/4)
هل حقاً المصحف الشريف يُدَنَّس في بلد مسلم؟!
محمد الهادي بن مصطفى الزمزمي
صار معلوماً لدى القاصي والداني خبر الحرب التي تشنّها الحكومة التونسية على الإسلام ومقدّساته؛ فمن قانون المساجد إلى خطة تجفيف منابع الدين مروراً بالمنشور (108) القاضي بـ «تحريم الخمار، ولباس النساء الشرعي»، إلى تدنيس المصحف الشريف! أي والله! فيما روي عن تعمّد الضابط مدير سجن برج الرومي ـ الواقع بمحافظة بنزرت ـ الاعتداء بالعنف على أحد السجناء كما أخذ المصحف الشريف وضرب به السجين، وأثناء الضرب سقط المصحفُ من يده على الأرض، فركله وداسه برجليه، وهو ما أثار حفيظة السجين المذكور واستنكاره. ولقد شَهدتْ بهذه الواقعة بيانات فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمدينة (بنزرت)، ومما جاء فيها: «وبلغ لعلم الرابطة أنه كان من نتيجة ذلك تعرّض ذلك السجين لاعتداء جديد من طرف المدير نفسه وأعوانه الذي ـ زيادة على الاعتداء الجسدي ـ عاقبه مدير السجن بوضعه في السيلون ـ زنزانة انفرادية ـ ومنع عائلته من زيارته». وقد قدّم أهالي السجين المذكور شكوى ممّا جرى عليه من تعذيب وتدنيس المصحف إلى فرع الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان بمدينة (بنزرت)، كما أبلغ بذلك نقيب الهيئة التونسية للصحافيين. ولما شاع خبر تدنيس المصحف واستنكرت الهيئتان المذكورتان وغيرهما من الهيئات الجريمة، سارعت الحكومة إلى تكذيب خبر الواقعة متعهدةً بإجراء تحقيق في الواقعة، وهو ما ينمّ عن تناقض في الموقف؛ إذ كيف يعقل أن تنفي الحكومة وقوع الحادثة مع التعهد بالتحقيق فيها؟! وقد ردّت الرابطة على نفي الحكومة بتأكيد حصول الواقعة بما لديها من وثائق وبيانات. وإزاء إصرار الرابطة قامت الحكومة باعتال رئيس فرع الرابطة بـ (بنزرت)، وإحالته إلى التحقيق بتهمة نشر أخبار زائفة من شأنها تعكير صفو النظام العام، وإهانة موظف عمومي!
وما جرى بسجن برج الرومي جرى مثله وأضعاف أضعافه في سجون أخرى؛ ولولا خشية الإطالة لسردنا عشرات الوقائع! ولكن حسبنا هذه الواقعة بل الفاجعة التي حصلت في سجن «الهوارب» بالقيروان! فقد روى أحد السجناء: «أنه كان بهذا السجن رفقة ما يقارب سبعين سجيناً من شباب النهضة التونسية، وكان من جملة الإجراءات الصارمة التي اتخذتها إدارة السجن ضدّنا أن: حرّمت علينا مسك المصاحف أو قراءة القرآن تحريماً قاطعاً!
وفي صباح يوم من الأيّام أجمعنا أمرنا ـ نحن المساجين الإسلاميين ـ على مطالبة إدارة السجن بردّ مصاحف القرآن التي جرت مصادرتها منّا وحجزها عنّا.
حضر مدير السجن إلينا ـ حين بلغه طلبنا ـ وسألنا في حنق وغضب متلفّظاً بعبارات الكفر والفحش والبذاء:
- آش بيكم يا أولاد...! آش تحبّوا...؟ آش طالبين...؟
فأجابه مساعده:
- هاهم طالبين المصاحف؛ ليقرؤوا القرآن.
فالتفت المدير إلينا، وردّ على الفور قائلاًَ:
- «نعم...! لحظة...! توا تجيكم المصاحف»!
راح المدير، وتركنا متلهّفين لاستقبال مصاحف القرآن لهفة الظمآن لقطرة ماء. مضت بضع دقائق، عاد إثرها ومن ورائه فرقة من أفراد الطلائع السجنية مدجّجين بالعصيّ والهراوات! و للتوّ جرّدونا تماماً من أثوابنا، وأمرونا بالجري في ساحة السجن في شكل طابور دائري، طوّقونا وطفقوا بنا ضرباً مبرّحاً حتى أسقطونا أرضاً، وقد أنهكنا الجري والتعب والأذى والألم، وأمرنا المساعد بالجثيّ على ركبنا الدامية! ولّى المدير وتركنا ونحن على تلك الحال حفاة عراة، ثمّ عاد ومعه أحد الأعوان يحمل بين يديه مجموعة من المصاحف الشريفة. وبأمر من المدير ألقى العون المذكور بالمصاحف على الأرض! وطرحها بساحة السّجن! ثمّ صاح المدير في وجوهنا قائلاً:
ـ «هاهي المصاحف اللي طلبتوها...» وأخذ يمشي عليها! ويدوسها بنعليه! في صلف وكبرياء وعنجهية واعتداء! متلفظاً بشتم الدين! والاعتداء على العقيدة! هزّنا ذلك المشهد هزّاً عنيفاً، واعتصر الحزن قلوبنا؛ فما قدرنا على فعل شيء ندفع به ذلك الاعتداء الأثيم على كتاب ربّنا؛ وما إن صاح الطاغية بنا للالتحاق بعنابرنا مهدّداً ومتوعّداً لنا بمزيد من العذاب والنكال والانتقام إن نحن طالبنا بمصاحفنا مرة أخرى؛ حتى عدنا وقد انفجرت منّا العيون تهمل بالدّموع باكية على الحال الذي آلَ إليه القرآن في تونس بلاد الإسلام»!
ليس من قبيل المصادفة أن يتكرّر هذا الصنيع الشنيع المتمثل في تدنيس المصحف الشريف في السجون التونسية؛ فما هو إذن بحادث عرضي ولا تصرف فردي منعزل؛ فقد تكررت هذه الجناية الفظيعة النكراء من أعوان البوليس والحراس في مختلف السجون والمعتقلات؛ وهو ما يميط اللثام عن سلوك لدى الحكومة وأعوانها في انتهاك الحرمات وتدنيس المقدّسات.
إنه سلوك متعمَّد يأتي في سياق حرب شاملة تشنّها الحكومة التونسية بكافّة دوائرها وأجهزتها ومؤسّساتها على الدين الإسلامي ومقدَّساته.(/1)
إن ركل المصحف الشريف لهو جريمة عظمى تكاد السماوات يتفطّرن منها وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا! فكيف يرضى مسلم أن يُدنَّس أقدسُ مقدّساته؟! أو كيف يغضي عن منتهكي أعظم حرمات ربّه؟! إن الجناية على كتاب الله جناية على أمّة الإسلام بأسرها! فعلى هذه الأمّة إذن واجب النصرة ! {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ:40].(/2)
هل من جديد في العيد
الحمد لله الثابت وجوده، العظيم جوده، الكثير موجوده، متجه العالم ومقصوده وربه ومعبوده، فله صلاةُ عبده وركوعه وسجوده، وتسبيحه وتهليله وتحميده، واستغفاره وتكبيره وتمجيده، وصومه وفطره وحجه وعيده، وعبادته كلها وتوحيده فهو العظيم الأكبر، وكل شيء دونه حقير وأصغر، وهو الغني عما عداه وكل شيءٍ سواه فقير إلى رحمته الواسعة وفضله الأكبر.
نحمده - تعالى- أن جعلنا مسلمين، وهدانا بكتابه المبين، وبسنة سيد المرسلين، إلى خير شريعة وأشرف دين، ونشكره عز وجل صيرنا مؤمنين، وبالحق قائمين، وعن الباطل مائلين، وسيجزي الله الشاكرين، فهنيئاً لمن شكر، وويل لمن كفر، والله غنيٌ عن العالمين، وإليه المصير والمستقر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الأعياد مواسم أفراح الطائعين، وأيام سرور المتعبدين، فما أعظم فرحة الصائم إذا أفطر، وما أكبر سرور الحاج إذا طاف ونحر ولبى وكبر، وجاء من عرفة وبات بالمزدلفة ورمى جمرة العقبة وحلق أو قصر.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المفضل، السيد العظيم المبجل.
اللهم! فصل وسلم على سيدنا محمدٍ النبي المرسل، بخير كتاب منزل، نبي الهدى، وبحر الندى، وأعظم الخلق جوداً وأكرمهم يداً، وخير من حج وعج وثج وسبحل وحمدل وهلل، وضحى وعق وفدا وأهدى ونحر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان في كل أثر، ما قرأ الناس في هذا اليوم السعيد الأزهر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}سورة الكوثر(1-3).
أما بعد: لقد شرع الله للمسلمين في كل عام عيدين عظميين يظهرون فيهما شعائر دينهم الحنيف، وأمرهم يوم الفطر أن يخرجوا زكاة أبدانهم صاعاً من غالب قوت البلد يواسي به الفقير والمسكين والبائس الضعيف، ويوم النحر أمرهم بالأضاحي، وحثهم عليها وندبهم إليها، وجعل ذلك من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه الخبير اللطيف، وشرع الصلاة والخطبة التي يجتمعون لها فيشهدون الخير ويتعلمون الأحكام والتكاليف، ويسن الحضور للرجال والنساء، والصغار والكبار والعبيد والأحرار، والصحيح والمريض إذا استطاع، ولكل صعلوك وشريف، يرفعون أصواتهم بالتكبير ويسارعون في التبكير، ممسكين عن الطعام والشراب حتى يصلوا وعليهم السكينة والوقار، وقد لبسوا من الثياب كل جديد ونظيف، بمظهر العز والعظمة يبرزون لأعدائهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
فمن أدرك العيد وفهم حكمة التشريع بادر إلى الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأكثر من ذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله1.
أيها الإخوة: إن العيد مظهر من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة، التي تنطوي على حكم عظمة ومعان جليلة، وأسرار بديعة، وليس العيد كما قد يظنه بعض الناس من أنه هو التسيب وترك العمل، والغفلة عن الله، والاكثار من المباحات، والمباهاة باللباس والمآكل والمشارب، بل ربما قد يظن البعض أن العيد معناه فعل ما يبغض الله من سماع الأغاني المحرمة، والاختلاط بين الرجال والنساء في الحدائق والمنتزهات.
وليس الأمر كذلك! إنما المقصود بالعيد شكر الله على تمام العبادة وإتقانها، ولذلك فإن الله لم يشرع للأمة المحمدية إلا عيدان وكل عيد جاء بعد الفراغ من أداء ركن من أركان الإسلام، فعيد الفطر جاء بعد إكمال صيام رمضان، وعيد الأضحى بعد الوقوف بعرفة والذي يعد ركن الحج الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة" رواه الترمذي وأحمد.
قال ابن رجب - رحمه الله-: وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته؛ كما قال الله - تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}سورة يونس(58).
قال بعض العارفين: ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافل يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بمولاه.
ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم- المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "إن الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما يوم الفطر والأضحى"2. فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر والمغفرة والعفو.
ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد، عيد يتكرر فهو يوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات، فإن الله – عز وجل- فرض على المؤمنين في كل يوم وليلة خمس صلوات وأيام الدنيا تدور على سبعة أيام، فكلما دار أسبوع من أيام الدنيا واستكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في يوم استكمالهم، وهو اليوم الذي كمل فيه الخلق، وفيه خلق آدم، وأدخل الجنة، وأخرج منها، وفيه ينتهي أمد الدنيا فتزول، وتقوم الساعة، فالجمعة من الاجتماع على سماع الذكر والموعظة بالصيام.(/1)
وفي شهود الجمعة شبه من الحج، وروى: أنها حج المساكين. وقال سعيد بن المسيب: شهود الجمعة أحب إليَّ من حجة نافلة، والتبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السيف فأولهم كالمهدي بدنة، ثم بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة.
وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر؛ كما أن الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة إلى الحجة الأخرى، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة".
فهذا عيد الأسبوع وهو متعلق بإكمال الصلوات المكتوبة، وهي أعظم أركان الإسلام ومبانيه بعد الشهادتين.
أيها المسلمون! أما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام، وإنما يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة، فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مترتب على إكمال صيام رمضان وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار، فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب، وآخره عتق من النار، يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه، فشرع الله - تعالى- لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيداً، يجتمعون فيه على شكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم ويرجعون من عيدهم بالمغفرة.
والعيد الثاني: عيد النحر، وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مترتب على إكمال الحج، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم، وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، والوقوف فيه بعرفة فإنه ركن الحج الأعظم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيداً لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، وإنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من الله وتخفيفا على عباده فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة عام، وإنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم.
فإذا كمل يوم عرفة وأعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك، وشرع للجميع التقرب الموسم يرمون الجمرة، فيسرعون في التحلل من إحرامهم بالحج، ويقضون تفثهم ويوفون نذورهم، ويقربون قرابينهم من الهدايا ثم يطوفون بالبيت العتيق، وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له، ثم ينسكون عقب ذلك نسكهم ويقربون قرابينهم والنحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة الذي في عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلي لربه وينحر وقيل له :{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة الأنعام(162)3.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام على النعمة المسداة، والرحمة المهداة نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: وقفات قصيرة مختصرة نقفها معكم.
أولها: أحمدوا لله - تعالى- على أن أتم عليكم النعمة، ووفقكم لطاعته، ثم أكثروا من الدعاء بأن يتقبل الله منكم صالح الأعمال، وأن يغفر الخطأ والزلل والتقصير.
ثانيها: الفرح بالعيد، لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغناء، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبوبكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم- ؟ فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "دعهما" رواه مسلم.
وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث مشروعية التوسعة على العيال في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة، ومنه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين.
ولكن كيف يتسنى لنا الفرح والسرور في العيد ونحن نسمع آهات الثكالى وأنات اليتامى في كل صقع من بلاد المسلمين؟.
وكيف نفرح في هذا اليوم والقدس حزيناً مكبلاً.. وفلسطين قد لبست ثوباً ممزوجاً بدماء الشهداء والجرحى؟.
كيف يتسنى لنا أن نفرح والصليبية الحاقدة الماكرة تفتك بالمسلمين وتحاربهم اقتصادياً وثقافياً وتمكر بهم ليل نهار؟.
بل إن خنجر العدو يخترق صدورنا، ودماء تسيل في كل مكان، ولحومنا تتطاير حتى وصلت أعالي الجبال، وصراخنا لا يسمعه أحد.(/2)
لقد أصم العالم أذنيه عنا، ولكن لن توقفنا الصعاب، ولن تذكر لنا الخطوب؛ لأننا لا نسجد لغير الله، ولا نخضع لغيره، ولا نعتمد على غيره، فلنعلق جراحنا ولنصبر، فنحن أهل رسالة وأهل دعوة، وأصحاب لهذه الأرض، فلن ولن نستجدي عطف الاحتلال والكفر، ولكننا نريد رضا الله وعفوه ومغفرته، ونصره المؤزر بإذنه.
أيها المسلمون! إننا ونحن نفرح في هذا اليوم المبارك ينبغي لنا أن نتذكر أخواناً لنا حرموا هذه الفرحة، بل رسمت على وجوههم البؤس، والحزن والبكاء، وهدمت فوق رؤوسهم البيوت، و.. و..
والمسلم للمسلم كالبينان يشد بعضه بعضاً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
فينبغي علينا أن ندعو لهم وهذا اقل ما نقدمه لهم، وأن نواسيهم بالمال فنكفل يتيماً، ونفك أسيراً، ونطعم جائعاً، ونسد حاجة فقيراً.
ثالثها: التكبير:
فيشرع التكبير في عيد الفطر المبارك من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد.
وفي الأضحى لمن كان حاجا من عند رمي جمرة العقبة يوم النحر، ولغير الحاج من يوم عرفة إلى أخر أيام التشريق.
ويستحب للرجال رفع الصوت بالتكبير في المساجد والطرقات والأسواق والدور، إظهاراً لهذه الشعيرة التي تكاد تكون مفقودة في أوساط كثير من الناس اليوم، اقتداءً بسلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم.
وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
رابعها: الغسل والتزيين والتطيب:
يستحب للرجال الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب للعيد، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: أخذ عمر جبة إستبرق تباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله! ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود.
وكان ابن عمر- رضي الله عنه - يلبس أحسن الثياب.
خامسها: التبكير في الخروج لصلاة العيد:
قال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}سورة المائدة(48). وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}سورة الحديد (21).
وقد قال البخاري: باب التبكير إلى العيد. ثم ذكر حديث البراء قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، فقال:" إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي..".
قال الحافظ ابن حجر: هو دال على أنه لا ينبغي الاشتغال في يوم العيد بشيء غير التأهب للصلاة والخروج إليها، ومن لازمه أن يفعل شيئاً غيرها، فاقتضى ذلك التبكير إليها.
وحكم الصلاة العيد واجبة لا تسقط إلا بعذر كما رجح ذلك المحققون من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
بل إن النساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى الحيض، ويعتزل الحيض المصلى؛ لحديث أم عطية الأنصارية قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين4.
سادسها: أن لا يأكل إلا بعد الصلاة من أضحيته:
يستحب أن يخرج إلى الصلاة يوم الأضحى قبل أن يتناول شيئاً، فإذا عاد ذبح أضحيته وأكل منها، لما ورد في الترمذي والحاكم من حديث بريدة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي.
وأما في عيد الفطر فيستحب أن يتناول تمرات قبل خروجه إلى الصلاة، وأن يقطعهن وتراً، لما جاء في البخاري عن أنس - رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. وفي رواية: ويأكلهن وتراً. قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر خلافاً.
سابعها: المشي إلى المصلى:
فقد جاء في الترمذي وحسنه، عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: من السنة أني أتي العيد ماشياً. ثم قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم.
ولكن إذا كانت المسافة بعيدة أو ما أشبه ذلك فلا بأس بالركوب، قال ابن المنذر- رحمه الله-: المشي إلى العيد أحسن وأقرب إلى التواضع ولا شي على من ركب.
ثامنها: مخالفته الطريق:
لما روي عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
قال ابن القيم في زاد المعاد معللاً للحكمة في مخالفة الطريق: وكان - صلى الله عليه وسلم - يخالف الطريق يوم العيد، فيذهب من طريق، ويرجع من آخر، قيل ليسلم على أهل الطريقين، وقيل لينال بركته الفريقان، وقيل ليقضي حاجة من له حاجة منهما، وقيل ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق، وقل ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله، وقيام شعائره.(/3)
وقيل لتكثر شهادة البقاع؛ فإن الذاهب إلى المسجد والمصلى إحدى خطواته ترفع درجة وتحط خطيئة، حتى يرجع إلى منزله، وقيل وهو الأصح: إنه لذلك كله، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله.
تاسعها: الإحسان إلى الناس:
يستحب في الأعياد الإحسان إلى الناس، والتسامح والتصافح، وصلة الأقارب، وأولهما وآكدهما الأبوين، ثم الأقارب الأدنى فالأدنى، ولذلك فقد جاءت الشريعة الغراء بالترغيب في إخراج زكاة الفطر في عيد الفطر، وصلة الأرحام في عيد الأضحى وفي غيرها من الأيام، ذلك كله من باب التكافل والتسامح، وزيادة الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم.
عاشرها: التهنئة بالعيد:
لا بأس من التهنئة بالعيد كقول: تقبل الله منا ومنك، لما جاء عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك.
وأما تهنئة الكفار بأعيادهم فهذا مما حرمته الشريعة الإسلامية؛ لأن في تهنئتهم بأعيادهم إقراراً لهم على باطلهم ورضى بما عليه من الباطل، والله لا يحب الباطل ولا يرضاه، وكذلك التهنئة معناها المحبة والموالاة والله لا يحب الكافرين، وحرم موالاتهم، فقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}سورة المجادلة(22).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}سورة الممتحنة(13).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}سورة المائدة (51). والآيات في هذا الباب كثيرة.
اللهم! أعد العيد على الأمة الإسلامية وقد تحقق لها كل ما تصبوا إليه من النصر والعزة والرفعة.
اللهم! انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان. اللهم! اخذل الكفرة والملحدين والعلمانيين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
----------------
1- الفتوحات الربانية للبيحاني (305- 308). بتصرف
2 - رواه البخاري ومسلم.
3 - لطائف المعارف(299- 301). بتصرف.
4 - رواه البخاري ومسلم.(/4)
هل من ساع لأسرى المسلمين ؟؟؟
في الوقت الذي تبذل فيه كل الدول التي لها أسرى في أي مكان من العالم كل جهد لديها للإفراج عن أسراهم حتى إن كان أسر أولئك بسبب تعدّيهم وظلمهم ووجودهم على أراضي غيرهم , ومع تعالي صيحات الذين ينادون بتخليص الأسرى في تلك البلدان مما شكل ضغطا على بعضها للتحرك في قضية أسراهم فاستنجدوا بالقريب والبعيد حتى يحفظوا ماء وجوههم أمام شعوبهم , لا نكاد نجد من يتحرك لتخليص أسرى المسلمين حتى من الدول التي تحركت لتخليص أسرى المعتدين !!
فها هي الدول المشاركة في العدوان على العراق لم تذخر جهدا إلا وبذلته لتنقذ ما يمكن إنقاذه من رعاياها الذين أسرهم رجال المقاومة , وهذه دولة الإجرام الصهيوني بذلت وتبذل جهودا كبيرة للإفراج عن أسرى أو حتى رفات جثث قتلى وتمارس ترغيباً وترهيباً وضغوطاً على هذه البلد وتلك الحركة وذلك الحزب فتنجح مرة وتفشل أخرى إلا أنها تتحرك لقضية أولئك الأنجاس .
أما ما يحزن القلب ويدمع العين ويدمي الأفئدة فهو أن الدول العربية والإسلامية وسكوتها على ظلم أبنائها والإجرام في حق أسراها المظلومين وما الذي يحدث في سجون الإرهاب الصهيوني من تعذيب وتنكيل وممارسة أقسى أصناف وألوان العذاب النفسية والجسدية على الأسرى الفلسطينيين كل ذلك ليس منا ببعيد ولا نظنه من المجهول عند الدول العربية والإسلامية , وهذه دولة العربدة الأمريكية تحتجز أسرى لمعظم دول العالم وخاصة الإسلامية منها بمختلف الجنسيات في أقفاص لا تصلح للحيوانات فضلا عن البشر في غوانتانامو ولا أحد يحرك ساكنا لأنهم مسلمون ( لكن حمزة لا بواكي له ) , وها هو تحالف الشر والشيطان في العراق جاء من خلف البحار والمحيطات لتفسد في العراق فتهلك الحرث والنسل وتقتل الأطفال وتأسر الرجال والنساء وحتى الأطفال وتذيقهم العذاب ألوانا وأصنافا .
هؤلاء المجرمون من الصهاينة والصليبيين الأمريكان انتهكوا الأعراض وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال فمن يقف لهم ؟؟!! ومتى سيتحرك الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ويضجون ولا يهدءون عند أسر أو قتل أمريكي أو إسرائيلي ؟؟!!
ولو عدنا لديننا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في الأمر لوجدنا ما يلي :-
أولا : يجب على المسلمين السعي لفكاك أسراهم ولا يجوز إهمال الأمر أبدا .
فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
{ فكوا العاني ( الأسير) وأطعموا الجائع وعودوا المريض } .
ثانيا : على المسلمين التعامل مع أعدائهم بالمثل فينظروا للطريقة التي يعامل بها العدو أسرى المسلمين فيعاملهم بها قال تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .
ثالثا : إذا كان في الغلظة مع الكفار وأسراهم سبيل لردعهم وإبعادا لشرهم عن المسلمين فلا يجوز التعامل معهم بلين ورقة بل يتوجب إرهابهم وتخويفهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم , وقد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر لأنه لم يردع بهم من خلفهم فقال تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم }.
رابعا : يجب على أولياء أمور المسلمين فعل ما بوسعهم لتخليص أسرى المسلمين .
فقد قال صلى الله عليه وسلم : { كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... } ومن هنا قبل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه رأس ملك الروم مقابل أن يطلق سراح أسرى المسلمين ولما عاد إلى المدينة المنورة وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في استقباله فقال عمر رضي الله عنه : حق على كل منكم أن يقبل رأس ابن حذافة فقبل عمر رأسه وفعلوا مثل ما فعل عمر .
خامسا : على المسارعين للبحث عن خلاص أسرى الدول المعتدية على إخوان دينهم وعروبتهم أن يأخذوا الموقف ذاته على الأقل تجاه أسرى بلدانهم خصوصا والمسلمين عموما الذين يسومهم اليهود والأمريكان سوء العذاب فقد قال صلى الله عليه وسلم : { المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم}.
سادسا : نص الفقهاء والعلماء على وجوب تخليص الأسرى المسلمين بكل السبل المتاحة ومما قالوا :-
- قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ..... } النساء 75 , أوجب الله الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده وإن كان في ذلك تلف النفوس وتخليص الأسرى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أصون منها .
- وقال الإمام مالك رحمه الله : يجب على الناس أن يفادوا الأسارى بجميع أموالهم وهذا لا خلاف فيه .
- ومذهب الإمام الشافعي أن فداء الأسير مستحب .(/1)
- ومذهب الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله فداء الأسير واجب .
- ذكر الإمام النووي رحمه الله إذا أسر الأعداء مسلما أو مسلمين فالراجح أن المسألة كدخول العدو ديار الإسلام لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار فيجب العمل على استخلاص الأسير أو الأسيرين .
وقد سير المعتصم جيشا إلى عمورية لتخليص أسيرة من المسلمين وأنقذها من الأسر .
وقد أخذ الصليبيون خمسمائة أسير من المسلمين وسجنوهم في مدينة الرها فغزا السلطان عماد الدين زنكي مدينة الرها ونصره الله على الصليبيين وخلص الأسرى المسلمين من الأسر .
فهل من معتصم ؟؟!!
هل من مجيب ؟؟!!
هلا من نخوة تتحرك ؟؟!!
أين أنتم أيها المنادون بحقوق الإنسان ؟؟!!
أين أنتم يا أصحاب معاهدات الأسرى ؟؟!!
فحسبنا الله ونعم الوكيل .(/2)
... ... ...
هل من عودة قبل الموت ... ... ...
سعد البريك ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الموت غاية كل حي. 2- مشاهد من سوء الخاتمة. 3- مشاهد من الصدق وحسن الخاتمة. 4- دعوة للاستعداد للموت. 5- النعيم الحقيقي والشقاء الحقيقي إنما يكونان في الآخرة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
ثم أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى:
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين، معاشر الأحبة:
هناك مدخلُ رئيس، وهناك حقيقةُ لا بد من طرحِها، وقضيةُ لابد من مواجهتِها. قضيةُ لابد أن نواجهها نحن. لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد. ولابد أن يواجهَها كلُ مسلمٍ وكافر. كلُ بعيدٍ وقريب.
كلُ ذليلٍ وحقير. كلُ عزيزٍ وأمير. كلُ صعلوكٍ ووزير.
هيَ حقيقةُ الموت، هي نهايةُ المطاف، هي خاتمةُ الدنيا.
كلُ البشرية تشهدُ وتعلم وتنطقُ أن نهايتَها هي الموت، وأن منتهى الطريقِ بالنسبة لها هو الانقطاعُ عن هذه الدنيا.
انقطاعُ النفسَ، وانقطاعِ الروحَ، وانقطاع الجوارح، فالعينُ لا تبصر، واليدُ لا تتحرك، والأذنُ لا تسمع، والنفَسُ لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايينُ لا تنبض.
إنها النهايةُ الأخيرةُ التي يواجهها ويقفُ أمامَها كلُ صغيرٍ وكبير، كلُ بعيدٍ وقريب.
كثيراً ما سمعنا بشباب كانوا في غفلةٍ، كانوا في بعدٍ، كانوا في تسلطٍ، كانوا في قسوة، كانوا في جفاء، كانوا في غلظةٍ، كانوا في قطيعةٍ وعقوقٍ.
بعضُهم يشهدُ ويقرُ على نفسِه يقول:ُ ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضُهم يقولُ ما جانبتُ كأسَ الخمرِ مرة، وبعضُهم يقول ما سافرت إلا واقعت الفاحشة، فإذ به في يوم من الأيامِ تجده باكياً، خاشعاً، ساجداً راكعاً.
سبحان مقلبَ القلوبِ والأبصار، ما الذي غير هذا ؟ ما الذي بدل أحوالَه ؟ ما الذي غيرَ أحوالَه ؟ إنه اللهُ جل وعلا.
ولكن كيف السبب؟ وما هو السبيل؟ وأي طريقة وصلت إلى قلبه؟
قدر اللهُ على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيصَ ولا مناصَ عنه.
قدر اللهُ للكثيرين منهم أن يقفوا أمام حقيقةِ الموت وهم يشهدون بأمهات أعينهم، وأمهات أبصارِهم، يشهدون صديقاً، يشهدون حبيباً، يشهدون قريباً.
ولا ينفعُ طبيب ولا يجدي نحيبُ.
حدثني أحدهم قال: كنتُ مسافراً للدراسةِ إلى الولايات المتحدة الأمريكيةِ، وكان شأني شأنُ كثيرٍ من الشبابِ الذين يقضون الليل في الملهى، والمساء في المرقص والعبث الذي تعنيه كلمةُ العبثِ بأبعادِها ومعانيها.
وذات يوم وكنا آيبين، كنا راجعين من ملهانا وعبثنا وتقدم بعضنا إلى السكن، أما واحد منا فلقد استبطأناه وتأخرناه.
ثم قلنا لعله يأتي بعد سويعة أو بعد ساعة أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما آتى، فنزلنا نبحث يميناً أو شمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لابد أن يكون في الكراج، أو في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء.
فلما دخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة، ووجدنا السيارة لا زال محركها يدور وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة، وهو في مكانه والموسيقى الهادئةُ لا زالت تسمعُ منذ آخرَ الليلِ، حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن.
فصحنا نادينا تكلمنا: يا أخانا يا صاحبَنا، فإذا به قد انقطعَ عن الدنيا منذُ اللحظةِ التي أوقفت سيارتَه في ذلك الكراج.
هذه نهايةُ أشعلت في قلوبِ الكثير من أولئك الشبابِ يقظةً وغيرَةً وعودة وإنابة وتوبةُ وخضوعاً إلى الله فعادوا إلى اللهِ تائبين ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها بل أنابوا واستكانوا لربهم.
أسأل اللهَ أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه وأن يتجاوز عنا وعنه.
هذه واحدة، والأخرى ليس لها إلا أيام قليلة سمعتها من أحد إخواني في الله يقول: كنتُ كغيري من سائرِ الشباب، وفي ليلةٍ من الليالي التي كنتُ أسهرُ فيه مع أحبابي وأصدقائي، ومن بينهم واحد من الأحبة، ومن بينهم حبيب إلي، أعزُ صديقٍ إلى قلبي وأقربُ قريب إلى فؤادي.
بينما أنا وإياه إذ به فجأة يصرخ: فلان أدركني، فقلتُ ما الذي بك؟ قال إني أحسُ بشيءً في قلبي.
قال: فدنوتُ منهُ فإذا هو يتلبط ويقول:ُ أسرع لي بطبيب، فناديت واتصلت بمن يحضرُ لنا طبيباً. وكانتِ الفترةُ لا تتجاوز خمسة عشر دقيقة أو عشرين دقيقة ونحن ننتظر وصول الطبيب.
وفي تلك الدقائقِ وهو يقول إني أحس بالفراق. إنها النهاية. إنها الخاتمة. سأفارقُ الدنيا. سأتركُ طفلي. سأتركُ زوجتي. سأفارقُكم.ستضعوننَي في كذا. ستتركونَني وحدي.(/1)
وأخذ يمرُ عليه سجلَ ذكرياتِه. وأخذتَ تتقلبُ أمامَه صحائفَ أفعاله. قال وأنا أنظرُ إليه وكلي وحشةُ ودهشة، وكلي عجبُ وغرابةُ، وأنا أنتفضُ ويحاسبُ نفسَه ويعاتِب روحَه.
وأنا والله أصبرهُ و أنا أشدُ ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي.
فأخذت أتقلب في ذلك الموقف. وما هي إلا ستة عشر دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحُه.
وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضعُ قريبَنا وصديقنا وأعز أحبابَنا وأجل أقاربنا، نضعُه في مثواه الأخير، ونواري عليه التراب.
أحبُ الأحبابِ هو الذي منا يتقنُ اللحد أن لا يتسربَ إليه ذرة هواءٍ أو إشعاعُ نورٍ، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه في مثواه الأخير، وانصرفنا.
شاب من مدة ليس بالقريبة حدثني عن أحد الشباب في ما تسمى ببانكوك قال:
لقد كان في ضلالة، وقد كان في بلاء، وقد كان في أمر لا يفيق من جرائه من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات.
وفي لحظة من سكر وشوق إلى عهر تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، فما هي إلا لحظات وقد كاد يجن من تأخرها. ما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه فلما رآها خر ساجداً لها.
وما الذي تنتظرونه! هي السجدة الأخيرة، هي النهاية. والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.
أيها الأحبة: إن هذا الموتَ هو أخطرُ حقيقةٍ ، هو أعظم حقيقةٍ، هو أكبرُ حقيقةٍ يواجهها الشقيُ والسعيد، الغنيُ والفقير، العزيزُ والذليل، الذليلُ والحقير.
الموت هو أكبر حقيقة، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اكثروا من ذكر هادم اللذات، ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة)).
أيها الأحبة، أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة، وكلها تختلف من حيث الخاتمة وتختلف من حيث النهاية، لكنها في مؤد واحد وهو الخاتمة.
أي خاتمةٍ نواجهُها وأي نهايةٍ نفضي إليها، وأي عمرٍ يمتدُ بنا وأي شبابٍ نتقلبُ فيه، حتى ننتقلُ منه إلى الشيخوخة ثم نتوب بعد ذلك.
هل ضِمنا هذه الحياةَ ؟ هل ضمِنا هذه الأعمارَ؟ بادروا بالتوبةِ بادروا بالإنابةِ قبل أن يخطِفَكم الموتُ ويخطِفَكم الأجلُ وتمضي الملائكةُ بوديعةِ اللهِ من أرضه إلى السماءِ، فتكونَ في أعلى عليينَ أو في أسفلَ سافلين.
إن حُسنَ الخاتمةِ وسوءَ الخاتمة لأمرُ خطير وعجيب وجليل جداً.
جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً من الجيوش لمعركة حاسمة مع الكفار.
فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ كافر فقال: يا محمد أرأيت إن اتبعتك فما الذي لي وما الذي علي؟
قال: ((إن شهدت أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم)).
قال: ما على هذا أتبعك، فشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا)).
فقال ذلك الصحابي: والله ما على هذا اتبعتك. أي ما اتبعتك لأجل الغنيمة.
وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهم من هاهنا وأشار إلى نحره، ويخرج السهم من هاهنا وأشار إلى قفاه.
ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاء حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي في سهم دخل في نحره، وخرج من رقبته، وقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدق الله فصدقه، بخٍ بخ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة ما سجد لله سجدة)).
انظروا الخاتمة، انظروا النهاية وتأملوها واعتبروا بها.
أسال الله جل وعلا أن يحسن لي ولكم الخاتمة وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.(/2)
جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) [حديث صحيح].
أيها الأحبة هذا الحديث عمدة في حسن الخاتمة وسوئها، فاسألوا الله تعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، واسألوا الله جل وعلا الثباتِ على نعمة الدين.
فإن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلُ الأنبياء، وسيد المرسلين، وهو أولُ من ينشقُ عنه القبرَ، وأولُ من تُفتَحُ له أبوابَ الجنةِ، وأولُ من ينالُ أعلى منازلَها، وهو صاحبُ المقامِ المحمودِ وهو صاحبُ الوسيلةِ، والشفاعةِ العظمى، الذي غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يطيلُ قيامَه وصيامَه.
وكان يطيلُ سجوده وتهجدَه ويقولُ: ((يا مقلبَ القلوب، يا مقلب القلوب، يا مقلب القلوب)).
فيا عباد الله اسألوا الله بهذا الدعاء، اسألوا الَله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب- وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه- اسألوا الله أن يثبتَ قلوبنا وقلوبكم على الإيمان.
وأن يعصمَكم من الزيغِ والضلالةِ، ومن الغوايةِ بعد الهداية، ومن الفسادِ بعد الصلاح.
وأنتم يا شباب المسلمين: إن الكثيرَ منا وإن الكثير من شبابنا يسوفون التوبةَ، ويؤجلون الإنابةَ، وينشغلون بالعبثِ، ويلهونَ في الباطلِ ظناً منهم بأن الحياةَ أمامَهم وهم في ريعانِ الشبابِ وفي ربيعَ العمرِ، وفي زهرةِ الدنيا، يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييق وتشديد.
لا والله يا عباد الله، إننا نفوتُ على أنفسِنا حظاً عظيماً من السعادةِ بقدرِ ما نفوتُه من الأعمالِ الصالحةِ.
واعلموا أن الموتَ ساعةً لا تتقدمُ، ولا تتأخر، فمن ذا الذي يضمنُ خروجَه من المصلى؟ ومن ذا الذي يضمنُ يقظتَه من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودتَه إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمنُ وصولَه إلى عمله؟
إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوةِ القلوب، لا تدري متى تُخطف وهي مع ذلك عابثةُ لاهيةٌ.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيرِ علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهم وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجِها وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري
فيا عباد الله استعدوا للقاء الله وبادروا بالتوبةِ، وبادروا بالخضوعِ والإنابةِ.
إنما هذه الدنيا متاعُ قليل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].
والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذاتٍ وشهواتٍ ومراكبَ وقصورٍ ودورٍ وضيعاتٍ وزوجاتٍ وجناتٍ، وأموالٍ وذرياتٍ لا تعدلُ غمسةً في نارِ جهنم.
وإن الشقاءَ في هذه الدنيا بما فيه من الفقرِ والمرضِ والسقم والذلةِ وضيق الحالِ لا يساوي غمسةً في نعيمِ الجنة.
يوم القيامةِ يؤتى بألذِ أهلِ الأرضِ حالاً و أيسرُهم عيشاً ثم يغمسُ غمسةً في وهي أقلُ من اللحظةِ أو أقل، جزء من أجزاء اللحظة، يغمس غمسة في النار فيقال: يا ابنَ أدمَ هل رأيتَ نعيماً قط؟ هل مر بك نعيمُ قط؟
فيقولُ: لا يا رب ما مر بي نعيمُ قط. ينسى نعيمَ الدنيا كلَه في غمسةٍ صغيرة دقيقة في النار.
ويؤتىَ بأشدِ أهلِ الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمسُ غمسةً واحدة في الجنة. ويقالُ: يا ابنَ آدمَ هل مر بك بؤسُ قط؟ هل مر بك شقاءُ قط؟
فيقولُ: يا رب ما مر بي شقاءُ، وما مر بي بؤسُ.
فلنعد لذلك اليوم، وهو يومُ لا بد أن نردَه على صراطٍ أدقَ من الشعرةِ و أحدَّ من السيفِ، والناسُ يمضون عليهِ على قدرِ أعمالِهم، وكلاليبُ جهنمَ عن يمينهِ وعن يسارهِ.
فمِن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم من يمرون عليه كالبرقِ الخاطف، ومن المؤمنين من يمرونه كأجاويدِ الخيلِ، ومنهم من يمره كأسرعِ الناسِ عدواً، ومنهم من يحب على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركُه كلاليبُ جهنمَ.
أدركتُه أعمالُه السيئةِ، وتفريطُه في حقهِ وتضييعُه وتقصيرُه في جنبِ الِله وطاعة الله.
فلنعدَ لذلك اليوم، ولنعدِ لدار سوف نسكُنها وسوف نبقى فيها.
والله ما نفعَ أهلُ الأموالِ أموالهَم. أين الملوك، أين الوزراء، أين الأمراء، أين الرؤساء، أين الخلفاء؟ أين الذين ذهبوا، أين الذين ملكوا،أين الذين نالوا، أين الذين جمعوا ؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟(/3)
لقد ودعوهم وودعناهم في حفرةٍ لا فراشَ فيها ولا خادم فيها، ولا مائدة عندها، ولا باب إليها، ولا نورَ يضيئها، ولا هواء يهويها.
لا شيء فيها إلا خرقة بيضاء يحسدُك الدودُ عليها فينتزعُها من جسمك ولا يتركها لك.
كتب اللُه أن تعود إلى هذه الدنيا في نهايةِ المطاف وفي خاتمةِ الأمرِ كما نزلت عليها.
حتى كفنُك ينازعُك الدودُ فيه فيقرضه منك خيطاً خيطاً، وشعرةً شعرة ينتزعه من جسدك.
فإن منّ اللهُ عليك وكنتَ من الصالحينَ عوضك الله عن هذا الكفن أبواباً إلى الجنانِ ونعيماً مقيماً في دارِ الخلودِ، فتُفتح لك أبوابُ الجنةِ ويضاءُ لك القبرُ وتأنس بعملِك الصالحَ وتبقى زاهياً متغنياً تقولُ: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
وإن كنت من أهلِ الشقاءِ، من أهل الضياع، من الذين ضاعت أموالُهم في الربا، وتركوا المساجدَ وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوقَ الله وضيعوا محارمَ الله في كل سفرٍ، وفي كل ذهابٍ وإياب لا يرعون حرماتِ الله، يواقعون الفواحش لا يبالون.
فإنك لا تجني من الشوك العنب، وكل سيلقى عمله أمامه.
يا غافلاً عن العمل وغرَه طولُ الأمل
الموتُ يأتي بغتةً والقبرُ صندوق العمل
انظروا واجمعوا في صناديقكم.
لو زار كلُ واحدٍ منا قبَره في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، في نصف الشهر مرة، وأنت تنظر،ُ هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي.
هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وضياعاً وحرماناً وحسرة.
أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
هل يُؤَمِّن الإمام؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
قد ثبت فضل التأمين بعد قراءة الإمام سورة الفاتحة بما جاء من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال ابن شهاب: وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (آمين).1
والمسألة هنا هي: هل يؤمِّنُ الإمام مع المأمومين إذا ختم الفاتحة؟ لننقل كلام ابن رشد من كتابه (بداية المجتهد)2، فقد بين الكلام في هذه المسألة:
ذهب الإمام مالك في رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن..
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء، وهي رواية المدنيين عن مالك.
وسبب اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر:
أحدهما:
حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح، أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمَّن الإمامُ فأمنوا).3
والحديث الثاني:
ما خرجه مالك عن أبي هريرة -أيضاً- أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: (إذا قال الإمام }غير المغضوب عليهم ولا الضالين {فقولوا: آمين).4
فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن، وذلك أنه لو كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام؛ لأن الإمام كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)5 إلا أن يخص هذا من أقوال الإمام: أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين، ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط، لكن الذي يظهر أن مالكاً ذهب مذهب الترجيح؛ للحديث الذي رواه؛ لكون السامع هو المؤمِّن لا الداعي..
وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول؛ لكونه نصاً؛ ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام؛ وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط، لا في هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن، فتأمل هذا.
ويمكن أيضاً أن يتأول الحديث الأول بأن يقال: إن معنى قوله: (فإذا أمن فأمنوا) أي إذا بلغ موضع التأمين، وقد قيل: إن التأمين هو الدعاء، وهذا عدول عن الظاهر لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس: أعني أن يفهم من قوله: (فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأمنوا) أنه لا يؤمن الإمام). اهـ.
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
(وجملته أن التأمين عند فراغ الفاتحة سنة للإمام والمأموم، وروي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، وبه قال الثوري، وعطاء، والشافعي، ويحيى بن يحيى، وإسحاق، وأبو خيثمة، و ابن أبي شيبة، وسليمان بن داود، وأصحاب الرأي.
وقال أصحاب مالك لا يحسن التأمين للإمام؛ لما روي مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن سول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا قال الإمام { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقولوا آمين، فانه من وافق قوله قول الملائكة غفر له) وهذا دليل على أنه لا يقولها.
ولنا: ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له) متفق عليه، وروى وائل بن حجر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قال: (ولا الضالين) قال: (آمين) ورفع بها صوته) رواه أبو داود ورواه الترمذي6 وقال: (ومد بها صوته) وقال: هو حديث حسن، وقد قال بلال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبقني بآمين).7
وحديثهم لا حجة لهم فيه، وإنما قصد به تعريفهم موضع تأمينهم، وهو عقيب قول الإمام: (ولا الضالين)؛ لأنه موضع تأمين الإمام؛ ليكون تأمين الإمام والمأمومين في وقت واحد موافقاً لتأمين الملائكة، وقد جاء هذا مصرحاً به كما قلنا، وهو ما روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، والإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)8 وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في اللفظ الآخر: (إذا أمن الإمام..) يعني إذا شرع في التأمين).9
فتبين بهذا أن المسألة فيها قولان لأهل العلم عليهم رحمة الله ومغفرته، فمنهم من قال بأن الإمام يؤمن والمأمومين يؤمنون بتأمينه، والقائل بذلك هم جماهير العلماء، وقال المالكية: لا يؤمن الإمام، بل التأمين خاص بالمأمومين..
والراجح هو قول الجمهور؛ للأدلة الدالة على مشروعية تأمين الإمام والتي تقدم ذكرها..
نسأل الله العلي الكبير أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته..
والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
1- رواه البخاري ومسلم.
2- 1/228.
3- سبق تخريجه.
4- رواه البخاري ومسلم.
5- رواه البخاري ومسلم.
6- وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح أبي داود (824).
7- رواه أبو داود وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (198).(/1)
8- رواه بهذا اللفظ النسائي وعبد الرزاق الصنعاني.
9- المغني في فقه الإمام أحمد (1/564).(/2)
همسات للدعاة
موسى بن ذاكر الحربي ...
الحمد لله الذي جعل الدعاة ورثة الأنبياء . وسادات الأتقياء . ومصابيح الدجي .وأئمة الهدى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ,وكم ضال تائه قد هدوه , فما أحسن أثرهم على الناس , وأقبح أثر الناس عليهم .
وصلى الله وسلم على من قال بلغوا عني ولو آية وقال نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها فوعاها فبلغها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين .
أما بعد :-
فالهمم تتفاوت حتى بين الحيوانات .
فالعنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتا ولا يقبل منّة الأم .
والحية تطلب ما حفر غيرها إذ طبعا الظلم .
والغراب يتبع الجيف .
والصقر لا يقع إلا على حي .
والأسد لا يأكل البايت .
والخنفساء تطرد فتعود
ومن اسباب التفوق والنجاح في ميادين الحياة التي تتلاطم فيها المحن ويواجه فيها الانسان ألوانا من العقبات التي تحول بينه وبين مطمعه أو يحصل له فشل في بعضها . فمن أقوى اسباب النجاح الهمة العالية .
وهنا ينقسم الناس الى قسمين :
الاول : من يصيبه يأس وقنوط وفتور فتنهار قواة وتغرورق عيناه من الحزن فهذا النوع هم أصحاب الهمم الضعيفة فالفشل دائما حليفهم .
والقسم الثاني: من إذا أصابه فشل بادي الأمر عاد الكرة مرة بل مرات وزاده هذا الفشل قوة وإصرار على مواصلة الطريق يتجاوز كل العثرات ويحطم كل العقبات بكل صبر وعزيمة إنهم أصحاب الهمم العالية .
ذريني أنل ما لا ينال من العلا**** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدارك المعالي رخيصة *** ولابد دون الشهد من إبر النحل
وقال الأخر :
لو لا المشقة ساد الناس كلهم **** الجود يفقر والإقدام قتّال
فيا أخي الداعية :
لا تظن أن الطريق مفروشة بالورد وأنك إذا أتيت الناس بما يخالف هواهم سيرحبون بك ويجعلونك على الرؤوس .لا ليس الامر كذلك فهاهم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين بعثهم الله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن الذل إلى الكرامة ومن الهوان إلى العزة ومع هذا قال الله ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) فالعداوة أمر طبيعي ولكن تأمل أخر الآية - وكفى بربك هاديا ونصيرا- فالنصر حليفك مادام الله معك فهو هاديك وناصرك فلم الحزن والضجر ولم البرود والكسل ؟
لا تعجز :
فإياك وداء العجز فإنه مهلكة يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من ( العجز والكسل )
وانظر كيف شنع الله على الذين رغبوا في الدنيا وبهرجها وأعرضوا عن الآخرة ونعيمها (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )
وأن طرق الدعوة إلى الله تعالى هو طرق الجنة الذي تعب فيه الأنبياء.
قال ابن القيم رحمه الله
والطريق طريق تعب فيه آدم وناح لأجله نوح ورمى في النار الخليل وأضجع للذبح إسماعيل وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين ونشر بالمنشار زكريا وذبح السيد الحصور يحيى وقاسى الضر أيوب وزاد على المقدار بكاء داود وسار مع الوحش عيسي وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب .
فيا دارها بالحزن إن مزارها * قريب ولكن دون ذلك أهوال
كن كالنحلة :
كن كالنحلة لا تقع إلا على طيب ولا تخرج إلا طيبا ولا تكن كالجعل الذي يأنف من الطيبات ويألف الخبائث .
أنه حال صغار الهمة ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف )
فعالي الهمة لا يرضى أبدا بالدون ولا يقبل إلا معالي الأمور فيترفع عن كل ما يخرم المرؤة ويزيل الهيبة ويبتذله الناس بسببه فهذا يوسف عليه السلام يدعونه النساء للفحشاء وهو يقول ( رب ا لسجن أحب إليّ مما يدعونني إليه )
و لما جاءه الرسول وهو في السجن قال له ( ارجع إلى ربك فاأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ) كان يريد أن تندحر كل شبهة تحوم حوله أنها النفس الأبية التي لا ترضى بالدون ولا تقبل أن تعيش إلا في عالي القمم .
فكن رجلا رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا
الحلم حلية الداعية :
قال تعالى ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
و في الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت : إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة وإما إلى الذل والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل :
كل حلم أتى بغير اقتدار * حجة لاجىء إليها اللئام(/1)
وكان معاوية رضي الله عنه يقول ( أني لآنف من أن يكون في الارض جهل لايسعه حلمي, وذنب لا يسعه عفوي, وحاجة لا يسعها جودي)
وقال الأخوص .
ما من مصيبة نكبة أرمى بها ****إلا تشّرفني وترفع شاني
وإذا سألت الناس الكرام وجدني ** كا لشمس لا تخفى بكل مكان
احذر تلبس الشيطان :
ليس عذر ما يتعذر به بعض الناس بأنه مقصر فكيف يدعو وهو مقصر ؟ هذا من تلبيس ابليس فلو كان لا يدعوا إلا الكُمّل من الناس ما دعا بعد الأنبياء أحد .
نعم قبيح بالداعية أن تخالف أعماله أقواله قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )
ولكن ليس الحل أن يتنحى المسلم عن الدعوة بل الواجب عليه أن يجاهد نفسه على الالتزام بما يقول ويتوب من الذنوب ويواصل طريق الدعوة فالدعوة ليس حكرا على أحد أو فئة من فئات المجتمع فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بلغوا عني ولو آية ) وهذا الأمر عام لكل مسلم ومسلمة .
وكل بحسبه فعلى العالم ما ليس على غيره فالدعاة يتفاوتون في علمه وقدراتهم ولكن كل بقدر ما يستطيع فهذا الدين أمانة في عنق كل مسلم .
وهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه لم يمنعه شربه للخمر من الجهاد في سبيل الله لما كان يوم القادسية وبلغه ما فعل المشركون بالمسلمين وهو محبوس بسبب الخمر قال .
كفى حزنا أن تطعن الخيل بالقنا*** وأترك مشدودا على وثاقيا
إذا قمت عنّاني الحديد وغلقت *** مغاليق من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة *** فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
هلمّ سلاحي لا أبا لك إنني *** أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
فقالت أم ولد سعد (( أترجع لي إن أنا أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق ؟ )) قال نعم فأطلقته وركب فرسا لسعد بلقا وحمل على المشركين فجعل سعد يقول لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي , وانكشف المشركون وجاء أبو محجن فأعادته في الوثاق وأتت سعدا فأخبرته فأرسل إلى أبي محجن فأطلقه وقال ( والله لا أحبسك فيها أبدا ) وقال أبو محجن ( وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبدا )
فلم تكن معصية أبي محجن رضى الله حائلا دون نصرة الدين وكذلك أنت أخي الحبيب لا يكن تقصيرك مانعا من الدعوة إلى الله .
الصبر طريق النجاح:
اعلم أخي الداعية أن الصبر طرق النجاح والتفوق بإذن الله جلا وعلا فلم تحصل الإمامة في الدين إلا بالبصر واليقين قال تعالى ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون )
إني رأيت وفي الايام تجربة **** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه ****واستصحب الصبر إلا فازبالظفر
رأس الامر:
كل ماذكرت عوامل بلا شك في نجاح الدعوة ولكن العامل الاهم هو الأخلاص لله سبحانه وتعالى فاستصحاب النية وتخليصها من الشوائب وتنقيتها من حظوظ النفس وطلب الشهرة وكلامات الثناء هو عنوان قبولها .
أخي الداعية احذر أن تكون ممن قال الله فيهم (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )
فكل عمل تشوبه شائبة الرياء فإنه يكون هباء منثورا فكم يا أخي الحبيب تكتب في هذه المنتديات وكم تلقي من الكلامات .
فلا يكن ما تسطره يمينك ويقوله لسانك عليك غمة يوم القيامة احذر أن يزين لك الشيطان سوء عملك ويغرك عن محاسبتك نفسك فتكون ممن قال الله فيهم (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )
هذه كلامات يسيرة لعلها تكون زادا للداعية وهناك اشياء كثيرة لم اتعرض لها طلبا للأختصار ولكن ما ذكرت في نظري أنه أهم مقومات النجاح والله أعلم
صيد الفوائد
...(/2)
همسة في أذن الطبيب
إعداد/ فهد اليحيي
أخي الطبيب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية طيبة.. وبعد:
أهنيك على هذا العمل الإنساني النبيل الذي تحاول فيه جاهدًا أن تنقل المريض من الحزن إلى الفرح ومن التعاسة واليأس والقنوط إلى البشر والسعادة، ومن وجه قد علته الكآبة والبؤس إلى وجه تعلوه الابتسامة والأمل.
كل ذلك أخي الطبيب لن يتحقق على يديك ما لم يكن توفيق الله حليفك، غير أن أمرًا آخر تنال به ثوابًا من الله تعالى وأنت في عملك لا يحتاج منك جهدًا بدنيًا ولا بذلاً ماديًا، إنه احتسابك ما تعمله لله عز وجل تبتغي بذلك وجه الله تعالى وإن أخذت عليه الأجر الدنيوي.
كم هو مقدار السعادة عندما ترى مريضك وقد تماثل للشفاء ويقدم لك الشكر بعد شكر الله تعالى فأنت سبب قوي جعله الله تعالى لهذا المريض.
وحيث تعلم أن الشفاء بيد الله تعالى ولا شفاء إلا شفاؤه فلا تنس إذًا قراءة بعض الآيات والأدعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الرقية الشرعية.
قال سبحانه: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو.
وقال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.
فمن ذلك: قراءة الفاتحة، آية الكرسي، المعوذتين، قل هو الله أحد، وقراءة هذا الدعاء على المريض: «أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقمًا».
كم هو عظيم أن نعلق المريض بخالقه ومولاه، نعلقه بالله عز وجل الذي بيده مقاليد كل شيء وإليه تصير الأمور وبين إصبعيه قلوب البشر يقلبها كيف يشاء، وهو الذي إذا شاء شفاه كما قال إبراهيم عليه السلام: وإذا مرضت فهو يشفين.
من أجل أن يخرج المريض من عيادتك أيها الطبيب أعظم توكلاً على الله وحده وأعظم تعلقًا به سبحانه دون سواه: ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وفي الحديث مرفوعًا: «من تعلق شيئًا وكل إليه». رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عكيم.
إنه لمن أعظم العلاج كما لا يخفى بل هو علاج نفسي قوي حيث يطرح المريض همومه وشكواه ويتوكل على مولاه، لا سيما إذا انضاف إليه صدق الإيمان بقضاء الله وقدره والرضا بذلك والتسليم مع الأخذ بالأسباب الشرعية.
أخي الطبيب: لا ريب أنك تؤمن معي أن الإيمان بالله والالتزام بشرعه هو مصدر اطمئنان النفس وبرد الفؤاد: ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وإذا كان كذلك فلا بد للطبيب المسلم النفسي بل وغير النفسي أن يراعي ذلك وأن يجعله من جملة علاجه؛ ومن هنا كنا نتسائل عن العلاج مثلاً بالحبوب المنومة طويلاً حتى يفوت وقت كثير من الصلوات أوليس مناقضًا لهذا المبدأ؟!
فلو روعي هذا الملحظ وحُدَّ من هذا النوع من العلاج لينحصر في الضرورة أو لطائفة خاصة من المرضى لا يصلح لهم إلا ذلك.
الطبيب المسلم يختلف عن غير المسلم لأنه مع تضلعه في تخصصه في الطب سواء كان نفسيًا أو غيره لا يتخلى عن عقيدته ومبادئ دينه بل ويربط بعضها ببعض ويستفيد من عمله بدينه في عمله في طبه.
ومن مبادئ هذا الدين الإيمان بالجن والشياطين بأنهم خلق من خلق الله تعالى مكلفون، فمنهم مؤمن ومنهم كافر ومنهم صالح ومنهم فاسق كما حكى الله تعالى قوله: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك.
وأنهم قد يؤذون الإنسان بمسه فيؤثرون عليه بدنيًا أو نفسيًا بقدر اللَّه تعالى، وقد أشار القرآن إلى هذا حين وصف المرابين، قال سبحانه: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ولسنا نقول: إن كل حالة من هذا النوع فهي مسّ، ولكن أيضًا ليست جميع الحالات التي تعتري الإنسان مجرد أمراض نفسية أو إيحاء أو انفصام في الشخصية، أو خلافها.
لا نريد أن ندخل في تخصصكم معشر الأطباء ولا أن نتكلم بغير علم؛ غير أنا نقول: إن هناك نوعًا من التشابه ونوعًا من التداخل بين المرض النفسي الخالص وبين المسّ الشيطاني ولا يبعد أيضًا أن يكون بعض المرضى يعاني من مس شيطاني في بعض الأحوال ويزول أحيانًا ولكن إذا زال المسّ بقي الشخص مريضًا نفسيًا ولربما ولد ذلك لديه انفصامًا في الشخصية أو غيرها من الأمراض النفسية.
وخلاصة القول في هذه الإلماحة: نريد من النفساني المسلم تميزه عن غير المسلم في إيمانه بالجن ومسِّ شياطينهم، ففي حين يجعل غير المسلم جميع ما يعتري الإنسان من حالات نفسية إنما هو من قبيل الأمراض النفسية فأين النفساني المسلم الذي يقول عن هذه الحالة إنما هي مرض نفسي وعن تلك الحالة أنها مسّ شيطاني ويفرق بين مرضاه ويميز بين مراجعيه؟
نرجو أن يكون الكل كذلك، وأن يملك البعض الجرأة إذا لم يستطيع التمييز أن يستعين بمن يملك الخبرة والتجربة في ذلك ممن يقتنع هو به وبطريقة تشخيصه.
فكما أن من القراء الذين يتزعمون الرقى ويزعمون أنهم متخصصون فيها، ويتخذون عيادات لهم للرقى من يجعل جميع الحالات مسًا فكذلك من النفسانيين من يجعل جميع الحالات نفسية والحق والعدل والإنصاف التصديق بكلٍ، وأن الحالات تختلف، وعلاج كل حال بما يناسبها، والله أعلم.(/1)
ونسأل الله للجميع التوفيق.
قرار إشهار
رقم 1028 بتاريخ 32 / 1 / 6002م
تشهد مديرية الشئون الاجتماعية بالقليوبية عن قيد إشهار جمعية أنصار السنة المحمدية بإمياي ـ طوخ ـ محافظة القليوبية وذلك طبقا لأحكام القانون 48 لسنة 2002 ولائحته التنفيذية.
قرار إشهار
رقم 1613 بتاريخ 14 / 1 / 6002م
تشهد مديرية الشئون الاجتماعية بالشرقية عن قيد إشهار جمعية أنصار السنة المحمدية بكفر المحمودية ـ ههيا ـ محافظة الشرقية وذلك طبقا لأحكام القانون 48 لسنة 2002 ولائحته التنفيذية.
قرار إشهار
رقم 1618 بتاريخ 18 / 1 / 6002م
تشهد مديرية الشئون الاجتماعية بالشرقية عن قيد إشهار جمعية أنصار السنة المحمدية بالعدوة ـ ههيا ـ محافظة الشرقية وذلك طبقا لأحكام القانون 48 لسنة 2002 ولائحته التنفيذية(/2)
هوامش على أزمة التحدي
خالد أبو الفتوح
أثار إقدام صحيفة (يلاندز بوسطن) الدنماركية على نشر رسوم ساخرة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما تلا ذلك من أحداث.. ردود أفعال عديدة على كافة المستويات والأوساط في أرجاء كثيرة من العالم، وبعيدًا عن سباق الفعل ورد الفعل الذي صاحب هذه الأزمة والذي وجه انفعال بعض الأفراد أو المجموعات ـ ولبعضهم العذر في ذلك؛ لعظم الحدث وشدة وقعه ـ.. أحببت تسجيل بعض الملحوظات واستخلاص بعض الفوائد والدروس، ليتسنى لنا فهم بعض أبعاد هذه الأزمة، ولنستطيع إدارة الأزمات (القادمة) بأداء أفضل وفاعلية أكبر:
أولاً: يُظهر هذا الحدث أن الحقد والكراهية للإسلام ونبيه ما زالا كامنين تحت القشرة العلمانية التي يتجمل بها الغرب، فهذا الحدث يأتي في سياق سلسلة من الاعتداءات والأذى المستمر الذي يوجَّه للمسلمين ودينهم والذي لا تخطئه عين أي خبير، ونظرة سريعة على أهم بعض (الفلتات) الصريحة التي وقعت خلال العامين الماضيين فقط يوضح ذلك بجلاء:
3 ففي يناير 2004: وصف عضو الحزب الوطني البريطاني نيك جريفن الإسلام بأنه «عقيدة فاسدة»، ويخلو من أي مساحة للتسوية الضرورية في مجتمع حر، ولا يتفق مع الديمقراطية.
3 وفي نوفمبر 2004: عرض فيلم تلفزيوني بعنوان (الخضوع) للمخرج الهولندي ثيو فان جوخ يزعم فيه أن الإسلام يضطهد المرأة.
3 وعلى إثر ذلك منح الحزب الليبرالي في الدانمرك (جائزة الحرية) للبرلمانية الهولندية الصومالية الأصل المرتدة هرسي علي التي كتبت سيناريو الفيلم.
3 وفي مايو 2005: كشفت تقارير عن تدنيس الجنود الأمريكان للمصحف الشريف بالتبول عليه أو وضعه في المرحاض في معسكر غوانتانامو.
3 وفي الشهر نفسه وصف مايكل غراهام المذيع بمحطة إذاعية في واشنطن (الإسلام) بأنه (منظمة إرهابية)، وأنه في حالة حرب مع الولايات المتحدة، وأنه يجدر بهذه الأخيرة ضرب مكة المكرمة بالسلاح النووي.
3 وفي يوليو 2005: سخر الممثل الكوميدي الأميركي ـ جاكي ميسون ـ في برنامج للمذيع جيم بوهانون من الإسلام ووصفه بأنه منظمة تشجع على القتل والكراهية والإرهاب.
3 ضع ذلك بجوار: احتضان الغرب لرموز الردة والطعن في الدين من بني جلدتنا أمثال: سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، ونصر أبو زيد، وهيرسي علي؛ وضَعْه أيضاً بجوار القرصنة الدولية والإرهاب الاحترافي الذي يمارسه الغرب منذ قرون ضدنا، والذي كان آخره ما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان وغوانتانامو، واستحضر مع ذلك فلتات ألسنة قادتهم السياسيين والفكريين التي ما فتئت تصف صراعهم معنا أنه صراع حضاري، يظهر تارة في حملة على حجاب، ويستتر أخرى خلف دعوى (حقوق إنسان)، وبأن مواجهتهم لنا حملة صليبية، ولكنها تُشَن بموجب (البند السابع).. لتعلم أن صحيفة «يلاندز بوستن» جاءت لتفجر القِدر الذي ما انقطع غليانه منذ الحروب الصليبية، ولتتوج منظومة الكراهية الغربية للإسلام، ولكن أيضاً لتُُلبسها ثوب «حرية التعبير»، ولتعلم كذلك أن (تعبيرهم) إنما دل على أنه {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
ثانياً: لا يوجد لديّ أي مساحة لتصديق مزاعم الصحيفة بأن نشرها لهذه الرسوم لـ (اختبار حرية التعبير في بلادهم)، وإذا حاولنا معرفة مرامي هذا الحدث، أو الفائدة التي ستجنيها بعض الأطراف من ورائه، فإن هناك عدة احتمالات أو فرضيات يمكن ذكرها، منها:
1 ـ صرف الأنظار عن قضايا أخرى مهمة أو أحداث تجري تتصل بالعالم الإسلامي، أو التغطية على جرائم أخرى (تاريخية) تحاك أو تنفذ ضد المسلمين (تكتيك مصارع الثيران).
2 ـ محاولة جس نبض الشارع الإسلامي، وقياس ردة فعله كمّاً ونوعاً ومدى استعدادهم لتقديم تنازلات جديدة وقبول قيم غربية بديلة.
3 ـ محاولة تحطيم معنويات المسلمين وقهرها، بتدنيس المقدسات التي يعتزون بها وتشويه الرمز الذي يجلُّونه والاستهزاء بمحبوبهم علناً، مما يؤثر على قدرتهم على المقاومة والصمود.
4 ـ محاولة دق أو تعميق (إسفين) بين الشعوب الأوروبية والإسلام تحول دون تعرف الشعوب الأوروبية على الإسلام الحقيقي، وتمنع التواصل الإيجابي بين هذه الشعوب والأمة الإسلامية.(/1)
5 ـ الضغط على الجاليات الإسلامية في أوروبا؛ فحسب بعض المحللين الغربيين فإن ذلك يأتي في سياق هجمة مضادة رداً على تعرض القيم العلمانية الغربية لهجمات (المسلمين المتشددين) في أوساط المهاجرين في الغرب، كما أن هذا الحدث يُعد اختباراً لقياس مدى اندماج المهاجرين والأجيال الناشئة من أبنائهم في المجتمع الغربي، وبمعنى آخر: معرفة حجم التنازلات التي يجب أن تقدمها الدولة المضيفة لمسايرة المهاجرين، والإشارة إلى المهاجرين أنفسهم بنمط التنازلات التي تريدها منهم دولتهم المضيفة لكي يندمجوا في المجتمع الذي ينتقلون للعيش فيه، أي: إنهم يريدون وضع المهاجرين على محك التخلي عن دينهم مقابل قبول عيشهم في البلاد الغربية!
6 ـ جس نبض الشارعين العربي والإسلامي ومراكز القوى الإسلامية في أوروبا, تمهيداً للبدء في إنهاء الوجود الدعوي الإسلامي هناك، وحظر أي قنوات دعوية إسلامية يمكن من خلالها: تغيير الوجه (الحضاري) المسيحي لأوروبا، أو كسب أرضية (أصولية) داخل المهاجرين المسلمين والحيلولة دون ذوبانهم في المجتمع الغربي، أو النجاح في تجنيد (إرهابيين) يهددون الأمن والمصالح الغربية في عقر دارها.. وقد ظهر هذا التوجه بالفعل في صورة: إغلاق بعض المساجد, ومحاربة الحجاب, ووضع أقنية فضائية عربية وإسلامية تحت المراقبة, وإغلاق المؤتمر العربي الإسلامي الأوروبي والتضييق على أنشطة المراكز الإسلامية ومراقبتها, والعديد من حملات الاعتقال والمداهمة لكثير من المراكز الإسلامية.
وقد ذكر فادي ماضي رئيس المؤتمر العربي الإسلامي الأوروبي أن هناك خطة صهيونية مبرمجة، يقف وراءها مركز سايمون فيزنتال والمؤتمر اليهودي العالمي، وتطال الوجود العربي والإسلامي لضرب الإسلام وإنهاء الوجود العربي والإسلامي في أوروبا.
7 ـ ظهر بوضوح محاولة استغلال أمريكا وبريطانيا للحدث من أجل موازنة صورتهما العدائية مع صورة الدول الأوروبية الأقل تحالفاً، على طريقة (إنه سيئ ولكن أخاه أسوأ منه)، وذلك باتخاذ موقف أقل صفاقة.. فرغم أن الحقد الذي يضمرونه على الإسلام والمسلمين لا يقل بحال عن (أوروبا شرق الأطلنطي)، إلا أن أمريكا وبريطانيا كانتا حريصتين على عدم تورطهما في هذه الأزمة:
فمن جانبها امتنعت وسائل الإعلام الأميركية عن إعادة نشر الرسوم التي تتناول النبي محمد بسبب الطبيعة «المهنية» لهذه الرسومات.
وقد كان ملفتاً أن موقع (CNN ) الإخباري على الإنترنت ذيَّل معظم أخباره عن هذه الأزمة بهذه العبارة: «يُذكر أن CNN تمتنع عن نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد احتراماً لمشاعر المسلمين» في متاجرة غير ذكية بالموقف من القضية.
وقال مديرو تحرير عدة مؤسسات إعلامية أمريكية: إنهم يغطون الخلاف المتصاعد بشأن الرسوم ولكنهم لن ينشروها مجدداً ولن تبث على التلفزيون احتراماً لقرائها ومشاهديها!
وفي يوم الأربعاء 8/2/2006 نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالاً للكاتبين فيليب هينشر وجاري يونج اعترفا فيه بأن الصحيفة الدانمركية أخطأت بنشرها تلك الرسوم، وبأن هناك إهانة لحقت بالمسلمين ما كان يقبلها أتباع أي مدرسة علمانية لو وجهت هذه الإساءات لرموز مدرستهم، كما قالا إن غضب المسلمين له ما يبرره، ومضى الكاتبان إلى القول إن الصحيفة الدانمركية كانت ستفكر ألف مرة قبل أن تكتب شيئاً يمس الديانة اليهودية، حتى لا يتهمها أحد بالعداء للسامية؛ لأنها تهمة خطيرة في أوروبا وأمريكا، وقد يدفع المتهم بها عشرة أعوام من عمره في السجن.. أما الدين الإسلامي ـ على حد قولهما ـ فلم يحدث أن سُجِن أحد بسببه في أوروبا.
وقالت صحيفة الفياننشال تايمز البريطانية إن حق النشر ليس مطلقاً.
وإذا استثنينا تصريحات نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، فإن مجمل الموقف الأمريكي والبريطاني الظاهر ـ الإعلامي والرسمي ـ هو محاولة اتخاذ موقف متوازن بين إدانة أعمال العنف والمقاطعة التي ظهرت في العالم الإسلامي، والتأكيد على أهمية حرية التعبير، مع تفهم غضب المسلمين، والإلماح إلى أن حرية التعبير يجب أن يكون لها حدود بحيث لا تمس المقدسات.. وهذا ما يرمي إلى ترميم صورة البلدين السياسية في العالم الإسلامي، بعد فشل جهود الحملات الإعلامية والإعلانية التي حاولت أداء هذه المهمة.
ثالثاً: وضح أن الغرب يقف خندقاً واحداً (حتى ولو في الظاهر) عندما يتعلق الأمر بمواجهة المسلمين، سواء أكان هذا من منطلق الخلفيات التاريخية والحضارية التي تجمعهم، أو بموجب الاتحاد والتحالفات والاتفاقات المعقودة بينهم، أو بموجب المصالح المشتركة بينهم.(/2)
يظهر ذلك في تعاضد بعض الصحف مع الجريدة الدانمركية وتأييدها بنشر الرسوم المسيئة، ومحاولة إحباط قوة حملة المقاطعة والاحتجاج التي ظهرت في العالم الإسلامي، باستخدام تكتيك (توسعة الخرق على الراقع) أو سياسة (تفريق الدم بين القبائل)، ولا أستبعد ما ذكرته بعض التقارير من وجود أيادٍ مخابراتية وراء هذا النشاط والتكاتف، فقد «اعتبر مراقبون لتطورات الأحداث في جريمة الاعتداء على حرمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في بعض الصحف الأوروبية أن اتساع دائرة النشر يرتبط بجهود استخباراتية مكثفة في بعض عواصم الاتحاد الأوروبي لتخفيف الضغط عن الدانمرك، بعد أن اعترفت مفوضية الاتحاد بعجزها عن وقف موجة المقاطعة أو التورط في الأزمة بشكل مباشر وعلني، في حين اعتبرت أوساط ثقافية أن هذه الأزمة قد تمثل تحولاً خطيراً في البنية الثقافية للمجتمع الغربي؛ لأنها تفتح على نطاق واسع أبواب الجدل حول المحرمات في الإعلام الغربي، لأن بعض الأصوات الغربية بدأت تطرح الآن تساؤلات حول النفاق الأوروبي فيما يتعلق بقضية حرية التعبير..
مصادر دبلوماسية استطلعت صحيفة (المصريون) رأيها أشارت إلى أن الخطة التي تحتاج إلى إمكانيات أكبر بكثير مما تملكه الدانمرك انطلقت منذ الثلاثاء الماضي 3/1/2006م عبر صحف تصدر في عدة دول أوروبية، تبنت الخطاب نفسه، وسارت على منهج موحد، وهو ما يدل على التنسيق بين الصحف الموزعة على عدة دول، ويشير إلى أصابع أجهزة الاستخبارات التي تقود هذا التنسيق بهدف تخفيف المقاطعة التي بدأت المصانع الدانمركية تعاني بسببها، وذلك بتوريط عدة دول أوروبية في قضية الإساءة، مما يجعل العالم الإسلامي يقف عاجزاً عن مقاطعة كل هذه الدول دفعة واحدة، وفي الوقت نفسه يصبح لا معنى لاستمرار مقاطعة الدانمرك وحدها.
هذا في المدى القريب، أما في المدى البعيد فإن افتعال ما يشبه «إجماعاً أوروبياً» على الإساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدر ما يكسر شوكة الوجود الإسلامي في أوروبا بقدر ما يشكل حاجز صد يحول دون مزيد من التمدد العقائدي الإسلامي بين المواطنين في أوروبا والذي بدأ يثير قلق الكثير من دوائر الأمن القومي دون قدرة على وقفه» جريدة (المصريون) 2/2/2006.
ويظهر ذلك أيضاً في محاولة رأب الصدع الاقتصادي الذي أصاب الدانمرك جراء مقاطعة معظم الشعوب الإسلامية لمنتجاتها، ويؤيد ذلك: ما ذُكر من أن مطاعم كنتاكي وماكدونالدز وهارديز وبرجر كنج وبيتزا هت قرروا شراء المنتجات الدنمركية لتعويض الخسائر الدانمركية، وما ذكر من أن بعض الأفكار كانت تتداولها الإدارة الأمريكية؛ لإنقاذ المنتجات الدانمركية وإفشال المقاطعة، من أهمها: إلزام صناديق المساعدات الأممية باعتماد المنتجات الدانمركية، وتعويض الدانمرك عن خسائرها الناتجة عن المقاطعة إن لم تفِ الصناديق الأممية بالغرض، عبر إلزام متعهدي تمويل الجيوش الأمريكية وحلفائها في الخارج باعتماد البضائع الدانمركية أولاً.
رابعاً: كما أن الأزمة فضحت دعاوى الطابور الخامس الذي يعيش بيننا، والذي كان يروج زوراً أن الغرب تخلى عن تعصبه وكراهيته لنا، وأنه ارتقى في أسلوب حل خلافاته فأصبح (الحوار) هو الأسلوب المعتمد عنده، والذي كان يتغنى بقيم الغرب ويدعو لها زاعماً أنها لا تتعارض مع جوهر الإسلام، فها هو الغرب يضيف إلى (اعتماده) القوة سبيلاً لحل خلافاته معنا وفرض رؤيته الحضارية علينا.. يضيف عدم احترامه لديننا وهدره لمقدساتنا.
وأظهرت هذه الأزمة أيضاً خطورة الطابور السادس أو السابع (سمه ما شئت) الذي يعيش بيننا، وأعني به الكفار والمشركين الذين جاؤوا باسم العمل والارتزاق وحملوا معهم حقدهم ووثنيتهم وكفرهم وقذارتهم الأخلاقية ليبثوها في مجتمعاتنا متى ما استطاعوا، فقد كان ملفتاً للنظر ما قامت به مدرِّسة أمريكية بإحدى الجامعات في دولة الإمارات ـ وأيدها المشرف عليها من بني جلدتها ـ من عرض الرسوم المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- في قاعة الدرس، مبررة عملها هذا بأنه يندرج في إطار حرية الرأي والتعبير.. ولا أدري ما الذي يحمل مدرِّسة لغة إنجليزية على إقحام نفسها في قضية لا تتعلق بعملها وليست طرفاً فيها وتعلم أنها تمس مشاعر من تخاطبهم، إلا أن يكون دافعها هو الحقد والتعصب الأعمى الذي لم تستطع كبته أو التجمل بإخفائه، وإلا أنها تحس بالأمن من عقوبة تنالها إذا فعلت هذه الجريمة (الحضارية) باساءة الأدب مع رسول من تخاطبهم.(/3)
وفي الإمارات أيضاً ومع بدء حملة مقاطعة البضائع الدانمركية، قامت العمالة الآسيوية ـ ومعظمها هندوس ـ التي تدير كثيراً من محلات السوبر ماركت بتكثيف عرض المنتجات الدانمركية والتقليل من المنتجات المحلية وغير الدانمركية البديلة، مما يجبر المشترين على شراء المنتج الدانمركي؛ لأنه المنتج الأكثر وفرة؛ وذلك بقصد تصريف المنتج الدانمركي بسبب هبوط سعره عند الوكيل، وهذه التصرفات أعدها منطقية ومتوقعة إذا استحضرنا تلقائية (الولاء والبراء) لدى كل إنسان.
خامساً: ملحوظات حول ردود أفعالنا وكيفية تفاعلنا مع الأزمة وإدارتها:
كثرت جرائم الغرب تجاه العالم الإسلامي، أو قل: كبر وعي المسلمين وإحساسهم بهذه الجرائم، مما يرشح الأمور لوقوع مزيد من (الفلتات)، ومزيد من التصعيد، ومزيد من (المواجهات).. ومن خلال متابعة الأحداث وتحليلها نستطيع استخلاص هذه الملحوظات:
الملحوظة الأولى: ضرورة استغلال واستثمار هذه (الفلتات) في واقع العمل الإسلامي من غير تكلف، مثل: تعميق محبة الله ورسوله، تعميق مفهوم الولاء والبراء، إظهار مأزق العلمانيين والتغريبيين، إيضاح عداء الغرب للإسلام نفسه، إظهار وفضح بعض الأنظمة المعادية للإسلام، إظهار حقيقة الدعوة إلى الحوار بين الأديان والحضارات، التدرب على توحيد الصفوف ومحاولة القيام بعمل مشترك منظم ومؤثر..
وداخل أوروبا، مثل: وضع الشعوب الغربية أمام حقيقة مبادئهم التي يتغنون بها وتذكيرهم بمواقفهم التي لا تتفق مع هذه المبادئ (حرية التعبير ـ حقوق الإنسان ـ التسامح مع الديانات والحضارات الأخرى)، تعريفهم بحقيقة الإسلام، الإجابة على التساؤلات الكبرى التي تشغلهم من منطلق إسلامي..
ولا يكون ذلك إلا من خلال وضع تصور مسبق لاحتمالات الأحداث، وطرق ـ أو خطط ـ معالجتها أو مواجهتها، والوسائل والأساليب الأنجع للتعامل معها، والإمكانات المطلوبة...
الملحوظة الثانية: باستقراء تسلسل الأحداث الأخيرة يتضح أن هناك استفزازاً متعمداً لإثارة المسلمين، ولكن رد فعل المسلمين جاء متأخراً عن الحدث الأصلي ـ رغم أنه جاء قويّاً ومؤثراً ـ وهذا التأخر يضع علامات استفهام حول ما إذا كانت هناك أهداف من وراء الإثارة في مثل هذا الوقت بالذات، كما أنه يضع علامات استفهام على آلية وكيفية إحساس المسلمين بمآسيهم، وكيفية وتوقيت التصرف المناسب من غير انجرار لما يضر بأمتنا أو الوقوع فيما يحيكه لنا أعداؤنا؛ فهل من المناسب أن يشكل في كل بلد ما يشبه المرقب لمتابعة أحوال الإسلام والمسلمين وإنذار قومهم عند الإحساس بالخطر؟ وإذا كان ذلك مهمّاً فيمكن الاتفاق على جهة (أهلية) محددة موثوق بها يناط بها تلقي هذه التقارير ونشرها، أو على الأقل إنشاء موقع على الشبكة العالمية، يستطيع فيه المراقبون ـ مع الأخذ في الاعتبار احتياطات الأمان الإلكتروني ـ وضع هذه التقارير ليطلع عليها المسلمون، وتلقي التحليلات والاقتراحات لهذه التقارير.
الملحوظة الثالثة: استخدم الغرب في مواجهة حملة المقاطعة التي انتشرت في العالم الإسلامي أكثر من تكتيك لإفشال المقاطعة أو إضعافها على الأقل، وأهم هذه التكتيكات: تشتيت هدف الخصم (توسعة الخرق على الراقع) أو (تفريق الدم بين القبائل)، تفتيت القوة المضادة، امتصاص الغضب، تبادل الأدوار، استغلال عامل الوقت، تكتيك مصارع الثيران، ازدواجية الخطاب الإعلامي، الإشباع النفسي للخصم... وبجانب جهوده وإمكاناته استغل الغرب الثغرات المنتشرة فينا لإنجاح هذه التكتيكات، ونستطيع ضرب الأمثلة على ذلك:
3 تكتيك (توسعة الخرق على الراقع) أو (تفريق الدم بين القبائل): فإنه عندما أثارت الرسوم الكاريكاتيرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- استهجاناً واسعاً في العالم الإسلامي، فإن صحفاً أوروبية تنتمي لأكثر من دولة أعادت نشر الرسوم نفسها بدعوى حرية التعبير وإطلاع القراء على حقيقة الحدث الذي أثار المسلمين (لاحظ أنه لم تنشرها أي صحيفة أخرى في الدانمرك نفسها).
وبذريعة (حاكي الكفر ليس بكافر) أعادت بعض الصحف في البلدان العربية والإسلامية نشر بعض الرسوم أو كلها، كما أظهرت بعض المواقع الإسلامية الرسوم أو أشارت إلى صلات تُبرزها.
فواضح أن الهدف من ذلك كان استنساخ سبب المقاطعة نفسه في أكثر من مكان، وإشهار ذلك، وعندها إما أن يندفع المسلمون إلى إعلان مقاطعة جميع هذه الدول أيضاً؛ لاتحاد السبب، وهذا مما يصعب عليهم القيام به والاستمرار فيه فتخور عزيمتهم عن المقاطعة جميعها.. وإما أن تسقط مصداقية السبب نفسه عندما لا يطَّرد السلوك المبني عليه في جميع الأحوال.(/4)
وإذا كان موقف الصحف الغربية مفهوماً ـ خاصة في ضوء التقارير التي أشرت إليها سابقاً من وجود أصابع مخابراتية في الموضوع ـ فإن موقف الصحف التي تصدر في البلاد العربية والإسلامية كان أشد وقعاً وأكثر إيلاماً، ليس فقط لأنها طعنة من الخلف غير منتظرة ممن يعلنون انتماءهم لهذا الدين، وليس فقط لأنه عضَّد وساهم في نجاح هذا التكتيك، ولكن لأنه استخدم أيضاً من قِبَل وسائل إعلام غربية لإظهار أن الضجة بشأن الرسوم مبالغ فيها؛ لأن الصحف العربية نفسها أعادت نشرها.
وفي هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن بعض المصلحين يمكن أن يسهم في ذلك بحسن نية! ويتمثل ذلك في محاولة استغلال الحدث في إصلاح المسلمين وحل جميع مشكلاتهم دفعة واحدة، أو خلط المشكلات وتشابكها مع بعضها (الإعلام الفاسد والفن الهابط، وترك سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهديه، و.. مئة وسيلة لنصرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-...)، وبالطبع فإن من يرى أو يسمع ذلك يفهم أنه لا بد من تغيير حياته كلها، وقد يكون هذا حقاً ومطلوباً، ولكنه غير مؤهل له الآن، فلا يقوم من الوسائل المئة بوسيلة واحدة ـ أو يكاد ـ وتكون النتيجة أنه ينصرف عن النصرة لأنه ـ بهذا الشكل ـ غير مستعد لها.
بل إن بعض المتعاطين مع الأزمة اقترح حلاً لها بأن تتبنَّى الحكومات العربية والأمم المتحدة موقفاً يهدئ من مشاعر المسلمين، وهو: إلزام العدو الصهيوني بالانسحاب الفوري من القدس وتطبيق الفقرة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي تقضي بفرض عقوبات سياسية عليها في حال رفضها القرار!
ومثل هؤلاء كمن يريد إسقاط مئة عصفور على شجرة بطلقة واحدة فتكون النتيجة أن تطير العصافير كلها ولا يستطيع أن يسقط عصفوراً واحداً.
فضعف التركيز وافتقاد نَظْم الأهداف المرحلية مع الأهداف الاستراتيجية و (الاستجابة للتداعي)، يساعد على تحقيق المخطط الغربي بتشتيت التركيز، وهذا يختلف عن البحث عن الجذور والربط بين الظواهر لاستخلاص النتائج والحلول لمشكلة ما.
3 كما ظهرت بعض محاولات لاستخدام تكتيك (مصارع الثيران)، وهذا التكتيك يهدف إلى ترويض الخصم بأقل قدر من الجهد والمخاطرة، وهو يقوم على محاولة إشغال الطرف الآخر بمثيرات أخرى جانبية، وتوجيهه وجهة ـ أو وجهات ـ معينة بحيث يفقد تركيزه وينصرف عن هدفه، ويظهر هذا التكتيك هنا بمحاولة إشغال الرأي العام بقضايا مثيرة أو حساسة أخرى، لتشتيت تركيزها المنصب في قضية موحدة، وصرف انتباهها إلى قضايا أخرى هامشية ومؤقتة.. وعلى سبيل المثال: فقد نشرت صحيفة (ذي جارديان) البريطانية أوائل شهر فبراير (أي: في ذروة الغضب الشعبي الإسلامي) صورة سمكة من نوع أوسكار تحمل على حراشفها لفظ الجلالة (الله) واسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- (محمد)، وبالطبع فإن الصحيفة البريطانية لا تؤمن بالله ولا بالرسول، ولكنها تلقي الطعم ليتلقفه السذج والبسطاء ـ أو المغرضون! ـ ويتخذوا من الخبر دليلاً على صحة إيمانهم، ثم يعملوا على نشره (تعاوناً على الخير)، فينشغل الرأي العام به، مما يفقدهم تركيزهم في القضية التي كانوا يهتمون بها، فتضعف طاقتهم...
وهذا الأسلوب نفسه استخدم مراراً قبل ذلك، وإذا كان القارئ ذا ذاكرة قوية فإنه يمكن أن يستدعي قصة البنت العُمانية التي (سُخطت) بعد تحديها أمها في المعصية.. فقد راجت تلك القصة بعد ضجة تدنيس المصحف في غوانتنامو وظهور فضائح التعذيب في (أبو غريب).
3 أما تكتيك تفتيت القوة المضادة فيظهر في محاولة اللعب على المذهبيات والطائفيات والعرقيات، كما يمكن أن يندرج تحته محاولة الساسة الغربيين والإعلام الغربي استغلال حوادث الحرق والتخريب والعنف التي صدرت من بعض المحتجين، إذ إنه بجانب استغلاله لهذه الأحداث دليل إضافي يقدمه لجمهوره على وحشية المسلمين وتخلفهم وتعطشهم للعنف ومهاجمة (المسالمين)، فقد حاول بتضخيمها حرف القضية عن أصلها، لتتحول إلى قضية (عنف وتخريب وإرهاب) يرفضها كثير من المشاركين في الاحتجاجات، أو يخشون من عواقبها، مما يدفعهم إلى غلق أبوابهم عليهم، والاكتفاء بـ (اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين).
كما أن نشر الرسوم في أكثر من صحيفة يهدف أيضاً إلى تفتيت قوة المقاطعة الاقتصادية الشعبية للدانمرك؛ لأنه بعد النشر في بلاد مختلفة وعدم استطاعة مقاطعة كل هذه البلاد، فسيكتفي كل فريق بمقاطعة بلد ما، وعندها يخف الضغط الواقع على البلد الأصلي.(/5)
3 أما تكتيك ازدواجية الخطاب الإعلامي، فإنه يهدف إلى ترويض الخصم بأقل قدر من التنازلات، ومما يساعد في تحقيق آثاره عاملان: العامل الأول: عدم معرفة الخصم المستهدف إلا بالخطاب الموجه له فقط، العامل الثاني: جهل هذا الخصم يدلالة مفردات الخطاب الموجه له بدقة؛ فقد وضح في هذه الأزمة التلاعب الإعلامي وعدم انتباه معظم المهتمين (وسط الفوضى والغوغائية) لفروق الألفاظ (كالفرق بين الأسف والاعتذار، وبين الاعتذار عن الفعل وعن آثار الفعل ونتائجه، وبين سحب السفير واستدعاء السفير...)، ولدلالة عبارات، مثل: (لم نستورد من الدانمرك، يملك أسهمها شركاء وطنيون، يصنع في بلادنا...)، ولضيق المقام نوضح فرقاً واحداً، هو الفرق بين الأسف والاعتذار:
فالأسف يكون عن أي فعل أو قول يُحزِن الإنسان أو يغضبه أو يتحسر عليه، سواء صدر منه أو من غيره، وسواء أكان بقصد أو غير قصد، أما الاعتذار فهو طلب رفع اللوم والذنب، فالاعتذار يتضمن الاعتراف بالخطأ والذنب، ويحمل في طياته المسؤولية عن الفعل أو القول، وهذا قد يترتب عليه عقوبة أو عوض.
أما الإشباع النفسي للخصم، فيتم عن طريق الإدلاء بمعلومات معينة ـ صحيحة أو مغلوطة ـ تساعد على إحساس المقاطعين بنشوة نصر كاذب؛ مما يخمد حماسهم ويوقف استمرارهم؛ لأنهم بلغوا هدفهم و (أثخنوا) في عدوهم.
وكمثال على هذه الأخبار: ما أعلنه سفير الدانمارك بالقاهرة (يان سورنسن) أن حجم الخسائر المترتبة على مقاطعة الدول العربية للمنتجات الدانمركية بلغت 35 مليار يورو، إضافة إلى زيادة نسبة البطالة داخل الدولة، مشيراً إلى أن المصنع الدانمركي الذي أغلق أبوابه بالسعودية مع مقاطعة المنتجات بصفة عامة أدى إلى فقدان 15 ألف وظيفة داخل الدانمارك، وقد تصل إلى 50 ألفاً إذا استمرت المقاطعة لفترات أطول من ذلك.
وخبر غيره يقول: إذا استمرت المقاطعة حتى شهر أغسطس فستصل خسائرهم إلى 39 مليار يورو.
وخبر آخر يقول: شركة آرلا الدانمركية تخسر 1.8 مليون دولار يومياً بسبب المقاطعة.
ومسؤول في شركة ألبان دانمركية يقول: «ما بنيناه خلال 40 عاماً خسرناه خلال أيام».
وقد ساهم في نشر هذه الأخبار رسائل قصيرة من مصدر مجهول أرسلت إلى الهواتف المحمولة... و (انشر)!!
الملحوظة الرابعة: وهي عن الخطاب الدعوي في الأزمة، فالملاحظ أن معظم الخطاب الإسلامي كان موجهاً للداخل فقط، مع اتسامه بالعاطفية وعدم التنظيم مما يقلل من جدواه وثمرته.
كما ظهرت الهزيمة النفسية في خطاب بعض (المدافعين) عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أقلها: التستر خلف رفض إهانة (الرموز الدينية) لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
كما حاول بعض المحسوبين على الدعوة إظهار (التعقل) والتحلي بالمناداة بالحكمة (يريدون التهدئة وعدم التهور)، وإذا كانت الحكمة مطلوبة في كل شيء فيجب أن يستحضر أن الحكمة الحقيقية هي وضع الشيء في نصابه، ونصاب هذا الأمر معروف لدى من له أدنى إلمام بعلم شرعي، ومن نصابه أيضاً: أن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته، ولكن ليس لأمته أن تعفو عن هذا الجاني عليه -صلى الله عليه وسلم-.
وهناك خطأ استراتيجي يقع فيه بعض الدعاة في مثل هذه المواقف، وهو إذاعة المقارنة بين الأزمة الراهنة والمصائب الأكبر التي يحيا فيها المسلمون، وإذا كان هذا الكلام يحتمل أن يكون صحيحاً من ناحية التنظير والواقع، إلا أنه قد يكون أحياناً غير موفق من ناحية التحرك الدعوي أو السياسي.
ففي مثل حالتنا فإن نشر مقولة إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهان في أوقات كثيرة بترك هديه والإعراض عن شرعه.. في الوقت الذي يتلظى الناس جمراً مما أصاب نبيهم ويبدون استعدادهم للبذل في سبيل نصرته... لا يكون موفقاً فيما أحسب.(/6)
أعتقد أنه من الضروري على حملة الدعوة تبني قضايا الأمة الحيوية حتى ولو كانت هذه القضايا لاحقة في ترتيب الأولويات أو التتابع المنطقي للعمل الدعوي، ولكن بشرط رد هذه القضايا إلى أصولها وربطها بأصل الإسلام والتوحيد وليس فقط معالجتها معالجة (علمانية) باردة ولو باسم الإسلام، وهذا منهج الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)؛ فقد تقترن الدعوة إلى التوحيد بدعوة إصلاح اقتصادي وعدل اجتماعي: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]، وقد تقترن بدعوة تطهر أخلاقي: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسَأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 160 - 165].
فأمام السيل الجارف لاهتمامات الأمة نجد من يساير هذا السيل فيستهلك طاقته ويذوب فيه، ونجد من يحاول الوقوف أمامه لإيقافه ومنعه فيغرقه ويهلكه، ولكن يجب أن يوجد أيضاً من يحاول أن يغير مسار هذا السيل إلى الاتجاه الصحيح ويستفيد في الوقت نفسه من قوته الجارفة لكي تكون قوة إيجابية... وهذا هو التحدي.
أما عن دعوة الخارج: فإنه بغضِّ النظر عن تعصب الشعوب الغربية ضد الإسلام والمسلمين، وبغض النظر عن حقد قادتهم وموجهيهم وعدائهم للإسلام والمسلمين، فإن الواقع والوقائع تثبت دوماً أن عموم الشعوب الغربية ـ ولا أتحدث عن قياداتهم التي تسوقهم ـ تعيش حالة من الجهل المركب عن الإسلام والمسلمين، وهذا ما أثبتته هذه الأزمة؛ فقد ذكر المسؤول عن الرسوم الكاريكاتيرية أن معلوماته عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قليلة، وبتتبع انطباعات الشعب الدانمركي تبين أنهم فوجئوا ـ بعد الأحداث ـ بأن المسلمين يصل تعدادهم لأكثر من مليار نفس.
وبالطبع فإن ذلك نتيجة أن معلوماتهم (القليلة) استقوها من مستشرقين معظمهم مغرضون أو من رجال دين نصارى متعصبين ومنتفعين، مقالات وكتب ودراسات وقصص وروايات ونصوص مدرسية ومناهج تعليمية وكتابات ساقطة.. كلها تعمل على تشويه صورة العرب والمسلمين في عيون الرأي العام الغربي، وكلها تعمل على تعمية بصيرة الغرب وتجهيله عن الاطلاع بوضوح على الإسلام وحضارة العرب والمسلمين، وكلها تصر جاهدة على استمرار تفريخ صورة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، وأيضاً نتيجة تقصير المسلمين في إيصال الدعوة الإسلامية بشكل يتناسب مع حجم المسؤولية.
وفي الأزمة الراهنة يزيد الوضع سوءاً ما أشيع عن أن رئيس تحرير كل من صحيفة يولاند بوستن الدانمركية ومغازينات النرويجية اللتين نشرتا الصور المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- هما من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي وممولي ومصدري معلومات قسم الدراسات والأبحاث في مركز سايمون فيزنتال اليهودي، الذي يهدد مصالح العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم بحجة دفاعه عن السامية؛ فالأصابع الصهيونية ـ التي لا تريد خيراً لمسلمين ولا لنصارى ـ غير مستبعدة من هذه القضية، والصحيفة الدانمركية لا تخفي توجهها الصهيوني، بل تضع نجمة داوود شعاراً لها على اسمها في الإصدارات المطبوعة وعلى اختصار رابطها الموصل لموقعها على الشبكة العالمية، ويعضد ذلك أن المسؤول عن نشر الرسوم المسيئة فيها عندما صرح باستعداده لنشر مسابقة أعلنت عنها صحيفة إيرانية حول رسوم تتناول محرقة الهولوكست.. لم يتوان مسؤولو الصحيفة عن إعطائه (إجازة إجبارية) غير محددة المدة.
إننا في زحمة التدافع وسخونة الصراع يجب ألا ننسى أننا أصحاب دعوة إلى دين الله الحق، وأن مهمتنا ـ مع بسط سلطان الله في الأرض ـ استنقاذ البشر من أن تجتالهم الشياطين وتختم لهم بالموت على الشرك بالله والكفر بدينه، وأن القوى الصهيونية والصليبية يهمها الحيلولة بين الشعوب ودين الله الحق... وكل ذلك يوجب علينا ـ بجانب الانتصار لنبينا ـ بذل أقصى جهد للدعوة إلى دين الله، بل إن ذلك من أكبر صور الانتصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(/7)
الملحوظة الخامسة: لا يستطيع أي عاقل إنكار أن التحرك الشعبي انطوى على إيجابيات عديدة: فقد اتحد الجميع على الوقوف ضد إهانة نبيهم، وهذا لم يحدث مثله منذ وقت طويل، حتى نستطيع القول: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاد المسلمين من جديد، وعلَّم العالم ـ وخاصة الغرب ـ معرفة مدى المكانة التي ما زال يحظى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلوب المسلمين رغم الجهود الدؤوبة لإبعادهم عن دينهم، وكذلك اهتم العالم بشخصيته -صلى الله عليه وسلم- وأصبحت قضية الساعة، وقد ينتج عن ذلك أن يصل بعض الباحثين عن الحقيقة إليها ويدرك ظلم الإعلام الغربي المتصهين، وقد كان رد الفعل الشعبي في عموم الدول العربية والإسلامية شديداً لدرجة أحرجت معظم حكومات تلك الدول وأخرجتها عن صمتها على الرسوم، ودفعتها للتنديد باستهداف شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- والإسلام، لامتصاص الغضب الشعبي، أو لحين التشاور مع القيادات الغربية لإيجاد الحلول والخروج من المأزق الذي أوقعهم به السلوك الغربي الفج.
ورغم كل ذلك نستطيع القول: إن تعامل عوام المسلمين مع الأزمة اتسم بالتوهج العاطفي في الشعور، واختلاط الوعي الإيجابي بالوعي الزائف عند كثير منهم، والارتجالية أو الفوضوية في السلوك، بالإضافة إلى الحياة بإسلام الفضلة في الإرادة والتضحية عند بعضهم.
وهنا يجب أن ندرك أن أعداءنا يعوِّلون على استغلال السلبيات الكامنة فينا لإفشال جهودنا نحن وحرماننا من ثمراتها.
ومركوز في أذهان أعدائنا أننا شعوب عاطفية هوجاء تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة ولا يحركها المبدأ والفكرة، وأنها قصيرة النَّفَس لا تستطيع الاستمرار أو الصمود مدة طويلة، فوضوية لا تعرف كيف تحقق هدفها، وهذا فيه قدر من الصحة، وتعالوا نراجع: افتتاح نفق الأقصى وتهديده بالهدم، ودعم المجاهدين في فلسطين، والموقف من العراق، وقبلها الشيشان وأفغانستان وكوسوفا، وموقفنا من كارثة تسونامي، وزلزال كشمير، إهانة الجنود الأمريكان للمصحف في غوانتنامو والعراق.. وكلها أزمات تحمسنا للمشاركة فيها بصورة من الصور، ثم خمدت الهمم رغم استمرار هذه الأزمات وحاجة المسلمين فيها للدعم والمؤازرة.
فمعظم هذه الأزمات تعاطفت معها الجماهير وقامت بمظاهرات صاخبة وأعلنت المقاطعة للمعتدين، ولأن دافع هذا السلوك كان هو العاطفة فإنه بعد انطفاء توهجها ـ خاصة مع وجود إعلام يحترف التضليل والتزييف ـ خمدت مظاهر الاحتجاج انتهت المقاطعة بدون تحقيق هدفها ـ إن كان لها هدف ـ ولكن لو تحركت الجماهير من أجل فكرة ومبدأ لظلت على سلوكها حتى يتحقق لها ما تريد، بل يمكن القول: إن أحد أسباب إقدام الغرب على إهانتنا وظلمنا هو معرفته بهذه الصفات فينا.
سادساً: تساؤلات شرعية في خضم الأزمة:
سأتجاوز هنا عرض عقوبة المستهزئ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذه العقوبة يعرفها من له أدنى إلمام بالعلم الشرعي ـ كما سبق أن ذكرت ـ كما سأتجاوز أيضاً الاعتراض على أصل مشروعية المقاطعة؛ إذ أراه اعتراضاً بارداً؛ فالحصار أشد من المقاطعة، وقد كان شائعاً ومعروفاً شرعيته، كما أن المقاطعة تدخل تحت باب وسائل إنكار المنكر، ولمزيد من الإيضاح يمكن الرجوع إلى تفسير قوله ـ تعالى ـ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] وأمثالها من الآيات... ولكني سأستعرض هنا بعض التساؤلات الشائكة بالفعل والتي تحتاج إلى وقفات وبحث متعمق ومتأنٍ من هيئة شرعية أو أكثر من عالم متخصص يحيطون بعلم الشريعة وعلم الواقع، وإذا كنت أعتقد أني لست أحد هؤلاء فإني سأعرض ما يدور في أذهان بعض الناس من أفكار وأدلة و (وجهات نظر) أو تساؤلات شرعية لها وجاهتها، ولكن قبل هذا العرض أحب أن أذكّر بأن حقيقة إسلامنا تقتضي أن نستسلم جميعاً لأوامر الله ـ عز وجل ـ أياً كانت، وألا نقدم بين يدي الله ورسوله، بمعنى ألا ننساق خلف عواطفنا أو (أهوائنا) وألا نضع نتيجة نرغب فيها ونبحث لها عن مقدمات تؤدي إليها، وهذا ما أظن أننا جميعاً متفقون عليه، أما التساؤلات فهي كما يأتي:(/8)
التساؤل الأول: إذا علمنا عقوبة المستهزئ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهل هناك فرق بين حالة الاستضعاف وحالة التمكين في كيفية الرد على المستهزئ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيذائه؟ لقد ذكر القرآن سخرية المكذبين ببعض الرسل كما في قوله ـ تعالى ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]، وذكر استهزاء المشركين برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95]، ومع ذلك لم يَسْعَ رسول الله إلى عقوبة المستهزئين من كفار قريش؛ فهل كان ذلك لأن هذه العقوبة لم تكن مشروعة بعد، أم لعدم التمكن من إيقاعها بسبب حالة الاستضعاف التي كان يعيشها المسلمون؟ إن دعوى نسخ الآية بآية السيف التي كثيراً ما يذكرها بعض المتحمسين نقلاً عن بعض العلماء لا تصمد أمام التدقيق العلمي، حيث لا تنطبق شروط النسخ على الآيتين (آية السيف وآية الإعراض)، ولذا يرى بعض العلماء أن حال المسلم في النصرة يختلف من مكان إلى مكان ومن زمن إلى آخر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وصارت تلك الآيات (آيات الصفح والعفو والصبر على الأذى) في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام؛ فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» (الصارم المسلول، جـ2، ص414)، فما مدى انطباق ذلك على حالتنا؟
التساؤل الثاني: هل المقاطعة ـ أو أي عقوبة جماعية أخرى في حالتنا ـ يعد أخذ أناس بجريرة غيرهم سواء في الداخل (التجار والعاملين المتضررين)، أو الخارج؟ المعروف أن الأصل في دين الله عدم أخذ البلاد والنَّاس أجمعين بجريمة واحدٍ منهم إذا لم بتواطؤوا على تأييدها أو المشاركة فيها، فقد قال الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، {وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، وهل (في مثل الحالة التي نحن بصددها) امتدت عقوبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن الأشرف ـ الذي آذى الله ورسوله ـ إلى جميع قومه وكل من استمع شعره وحضر مجالسه التي نال فيها من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ إن العدل يجب أن يكون حادينا في جميع الأحوال حتى ولو كان شاقاً على نفوسنا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: 33]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
وهل تغيُّر الملابسات والظروف الحالية يوجب إيجاد فقه جديد وفتوى جديدة في المسألة؟ ومن المخوَّل بإصدار مثل هذه الفتوى؟(/9)
يحتج بعض الناس هنا بأن استطلاعات الرأي أوضحت أن غالبية الشعب الدانمركي تؤيد عدم اعتذار الصحيفة عن فعلتها وتؤيد موقف رئيس الحكومة في ذلك، ويرد آخرون بأن ذلك الاستطلاع جرى بعد أكثر من شهر من المقاطعة، أي لم يكن المقاطعون يعرفون كيف يبنون مقاطعتهم على هذا الأساس، كما أنه يمكن القول إن ذلك لا يعني الموافقة على الفعل نفسه، ولكنه من قبيل تأييد حق الآخر في إبداء رأيه سواء أكان موافقاً له أو مخالفاً له، «يمتد العداء في هذه القضية إلى أطراف ومستويات عديدة، لا ريب أن معظمها يفكر في الأصل بطريقة مشابهة لما يفكر به الرسام والصحيفة، ولكن لا ريب أيضاً أن الرد لا ينبغي أن يستهدف من يفكر بل من يتصرف ويسيء؛ فهذا ما يساعد على امتناع أصحاب التفكير المشابه عن «التصرف والإساءة». (نبيل شبيب ـ الإساءة لمقام النبوة بين الجماهير والنخب ـ موقع الجزيرة نت).
سابعاً: حول المقاطعة، واقتراحات لجعلها أقل فوضوية وارتجالية وأكثر فاعلية:
تعد المقاطعة الاقتصادية أحد أساليب المقاومة السلمية الفعالة والمؤثرة إذا أُحسن استخدامها، ولكن يجب أن ندرك أنها ليست الأسلوب الوحيد للمقاومة، كما أنها قد لا تكون سلاحاً فعالاً لمواجهة هذه الجرائم والحد منها أو الرد عليها في بعض الظروف والأحوال؛ فقد تصلح المقاطعة في بلد وتكون دون جدوى في بلد آخر، وذلك حسب حجم التعامل الاقتصادي بين البلد المقاطِع والمقاطَع، وعند عدم جدوى المقاطعة يجب التفكير في وسائل تأثير أخرى بحسب ظروف كل بلد (مظاهرات، اعتصامات، احتجاجات....).
ولكن التساؤلات التي تفرض نفسها، هي: ما مصير المقاطعات السابقة؟ وهل حققت أهدافها؟ ومتى توقفت؟ وهل توقفت بقرار منا وإرادتنا؟ وما السبيل لجعل المقاطعة أكثر فاعلية وأشد إيلاماً؟
وبغضِّ النظر عما حدث من محاولة الدول الأوروبية فتح عدة جبهات في آن واحد على المقاطعين والمحتجين، فإن الواقع يقول إن التداخل السياسي والاقتصادي بل والإداري آخذ في النمو بين هذه الدول، فأوروبا تتجه منذ فترة للتحول إلى (الولايات المتحدة الأوروبية)، بحيث سيصعب في أحيان كثيرة تحديد منتج معين موسوم بعبارة (Made in --- ) من الدول الأوروبية، أو فصل دولة معينة واتخاذ إجراء معين يمسها هي بالذات بحيث لا يتداخل مع دول أخرى؛ ففي هذه الحالة سنحتاج بشكل أكبر إلى تنظيم المقاطعة وحسن إدارتها لتكون ممكنة وفعالة.
ينبغي أن نلاحظ أولاً أنه إذا افترضنا أن المقاطعة الاقتصادية هي الخيار المناسب في أزمةٍ ما؛ فهذا لا يعني أن المقاطعة هي السلاح المناسب كل مرة؛ فكثرة استخدام المقاطعة مع عدم ترشيدها وتنظيمها سيؤثر مستقبلاً على فاعليتها وقوتها وتأثيرها، لذا لا ينبغي أن نرمى به في كل معركة وحالة دون النظر في مناسبته، وكيفية استخدامه، والوسائل التي تضمن فعالية نتائج هذا الاستخدام، وعدم الخروج من ذلك بنتائج عكسية... «إن كل تحرك جماهيري يصنعه الوجدان الحي في الأمة لا يؤدي مفعوله على الوجه الأمثل، إلا إذا توافرت من ورائه عناصر التوجيه والتخطيط والتنظيم، وهذا بالذات ما افتقدته مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، وتفتقده الآن مقاطعة البضائع الدانماركية» (نبيل شبيب ـ مصدر سابق).
وهذه بعض الخطوط التي أتصور أنها تساعد على إنجاح المقاطعة الاقتصادية باعتبارها إحدى وسائل المقاومة:
1 ـ تحديد حجم التعدي وقدر العقوبة التي يستحقها والوسيلة المناسبة للرد عليه والتعامل معه.
2 ـ أن تكون هناك جهة أو جهات يسترشد بها أو ينسق معها في خطوات المواجهة، ويمكن الاسترشاد في ذلك بما ذكر في الملحوظة الخامسة من (ثانياً).
3 ـ تحديد أهداف للمقاطعة، وتتحدد الأهداف بحسب نوع وحجم الاعتداء (فقد تكون بانسحاب قوات، أو تقديم اعتذار، أو إلغاء توكيلات، أو محاكمة أشخاص، أو استرداد مظلومين، أو نشر تعريف صحيح من قِبَلنا بالإسلام والرسول...)، بحيث تظل هذه المقاطعة مستمرة حتى تتحقق هذه الأهداف، وإذا تحققت هذه الأهداف تلغى المقاطعة، أو تحديد مدى زمني معروف تتحقق فيه الأهداف المحددة أو معظمها، وأهمية هذا التحديد تكمن في ألا يكون قصر النَّفَس أو الإيقاع في الحرج العملي لبعض الفئات مدعاة لإضعاف سلاح المقاطعة وجعله بلا جدوى أو ضعيف التأثير بعد ذلك.
وتحديد الهدف سيجعلنا أقرب إلى معرفة الممكن وغير الممكن، حتى لا نسعى إلى مستحيل أو صعب لا يتناسب بذل الجهد فيه مع الثمرة المتوقعة من ورائه، فلا يتحقق هدفنا ويؤثر على معنوياتنا.
وعلى سبيل المثال، ففي الأزمة الحالية طالب كثيرون باعتذار رئيس الحكومة الدانمركية عن النشر، أو محاكمة من نشر هذه الرسوم، وبغض النظر عن التحفظ في كون هذا الاعتذار هو الهدف المطلوب أم لا، ويكفي للرد على هذه الجريمة أم لا يكفي، فإننا إذا فهمنا طبيعة هذا المجتمع يتضح لنا أن هذا المطلب غير منطقي، وذلك من عدة نواحٍ:(/10)
أولاً: يجب أن نضع في اعتبارنا أن القوم يكفرون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحقيقة بالله وبجميع الرسل، وليس من المنطقي أن نطالبهم بمقتضيات الإيمان به قبل حدوث هذا الإيمان، أي: ليس لنا الطلب منهم بمعاقبة من يستهزئ برسول لا يؤمنون به وخاصة أن ذلك ليس مجَرّماً في منطق عدالتهم، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن نحقق نحن مقتضيات الإيمان به في أن ننتصر له ونذب عنه، وهنا ينبغي ملاحظة الفرق بين تناول شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ناحية فكرية أو عقائدية التي قد تقبل مجادلة ودعوة، وبين النيل منه بالسخرية والاستهزاء التي ليس لها إلا العقوبة والتأديب.
وهذا يجعلنا نعرف ما الذي نفعله وما الذي نطالب به؟
ثانياً: يجب أن نعرف طريقة حكم هذه البلاد القائمة على الفصل بين السلطات؛ فالصحافة والإعلام سلطة منفصلة عن الحكومة، ولا سيطرة للأخيرة عليها إلا في ضوء القانون؛ فهي لا تنشر ما تنشر بموافقة الحكومة أو إذنها، والحكومة لا تستطيع محاسبتها على ما تنشره؛ فمطالبة الحكومة بالاعتذار مطالبة بمحال وغير عادلة من وجهة نظرهم، ونستطيع فهم ذلك من طرح سؤال: (من المسؤول عن المشكلة حتى يعتذر عنها؟). إن مطالبتنا لرئيس الحكومة بالاعتذار تقع عليهم كمن يطالب وزير الأوقاف عندنا بالاعتذار عن خطأ وزير البترول! وهذا لا يعني أنهم لا يضمرون ما نشرته الصحيفة، ولكن هذه مسألة أخرى.. وفي ضوء ذلك نفهم أن رفض شريحة استطلاع الرأي لاعتذار رئيس الحكومة كان منطقيّاً، ونفهم لماذا كانت نسبة من يرفض اعتذار رئيس الحكومة أعلى من نسبة من يرفض اعتذار الجريدة.
ومن ثم: تكون مطالبتنا نحن بذلك وجعله هدفاً نسعى إلى تحقيقه نوعاً من العبث.
ثالثاً: كما أن الاحتجاج بإمكانية محاكمة من يعادي السامية أو يشكك في الهولوكست لا يصلح أيضاً من وجهة نظرهم؛ لأن هذه المحاكمات تعقد بناء على قانون عندهم يجرم هذه المعاداة وهذا التشكيك، ولا يوجد قانون آخر يجرم السخرية من الأنبياء (هكذا كفرهم!)، ولا جريمة إلا بنص (قانون) كما هو معروف عند الحقوقيين، ولذلك قال بعض الحقوقيين: إن المدخل الصحيح لهم هو اعتبارها جريمة إنسانية (تتعلق بحقوق الإنسان) وسياسية، وليست قانونية.
4 ـ تحديد الشريحة الموجهة لها المقاطعة والتي يكون لها صلة منطقية بمقترف التعدي أو لها تأثير محسوس في إزالة التعدي، وتحديد العدو المستهدف تحديداً دقيقاً.
«فالفارق كبير على سبيل المثال بين اختيار منتجات معينة، لشركات تساهم إسهاماً مباشراً ـ وليس تحت عنوان تسديد الضرائب لحكومة عدوانية وما شابه ذلك ـ في العدوان على المسلمين والإساءة إلى مقام رسولهم الكريم، وبين تعميم المقاطعة على كل منتج وكل شركة تحمل الاسم الأميركي أو الآن الدانماركي.
الصيغة الأولى: تساهم في تحويل عدو محدد المعالم إلى عدو كبير، وفي تحفيز من لا يتضامن معه في الأصل إلى التضامن «تعصباً»، والصيغة الثانية: يمكن أن تؤثر من منطلق التفكير في المصالح الذاتية في الامتناع عن المشاركة في العدوان والإساءة، بل ربما في المشاركة في الضغوط على من يمارسهما ليمتنع عن ذلك.
الصيغة الأولى: تسمح بالتواصل مع جهات عديدة في الغرب ممن يسعى لاستعادة مكانة القيم في المجتمع، وممن يرفض ممارسات العدوان والإساءة، للعمل على تحرك مشترك، والصيغة الثانية: تثير لدى هؤلاء التخوف من مثل تلك المشاركة، لا سيما في ظل تعميم خطاب المواجهة والاحتجاجات بما يشملهم ولا يميزهم عن سواهم» (نبيل شبيب ـ مصدر سابق).
وتحديد الشريحة المستهدفة سيجعلنا نتوخى الحذر في عدم إصابتنا لآخرين قد يكون من الظلم أن ينالهم أثر المقاطعة، وهنا يأتي ذكر الشركات والتجار وأصحاب المصالح المرتبطة بالجهات المقاطعة: حيث لوحظ أنه بجانب العاطفة الصادقة في نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعضهم، فإن الذعر من المقاطعة، والمراوغة في الالتزام بها، وركوب الموجة واستغلال تحصيل الحاصل، والنفاق الاقتصادي.. ظهر من سلوك بعض الشركات والتجار.
ولا شك أن الإحساس بظلم وقع عليهم وعدم القناعة باستحقاقهم لتلك العقوبة التي تأتي على جريمة لم يقترفوها يعد أحد أسباب هذا السلوك، خاصة والبضائع التي سيخسرونها اشتروها قبل حدوث الجريمة، وأنهم لم يشتركوا في هذه الجريمة، ولا يرضون بها.
منطق العدالة يقول: ما دام أن الأمة توجهت جميعها إلى المقاطعة فمن الواجب أن يشارك جميع القادرين في تحمل تبعات هذه المواجهة؛ فالمقاطعة قد لا تعدو عند كثير من (الأفراد) أكثر من (تغيير الصنف)، ولكنها عند بعض التجار والعاملين تعني خسائر بالملايين أو إغلاق مصادر رزقهم لذنب لم يقترفوه هم، وهذا قد يكون أحد أسباب التحايل والالتفاف على المقاطعة ومحاولة إجهاضها من قِبَل بعض الشركات المحلية.(/11)
وإضافة إلى العدالة فإن مساهمة هذه الشركات والتجار في المقاطعة يعد أحد أسباب نجاحها؛ لذا أقترح: مشاركة بعض المسلمين في تحمل تبعات من يتضررون من المقاطعة رغم عدم مشاركتهم في التعدي، مثل المشاركة في تحمل تكلفة البضائع المشتراة قبل المقاطعة (مع تعهد التاجر أو المستورد نفسه بمقاطعته لهذه البضائع فيما بعد ما دامت المقاطعة سارية)، أو المساعدة في توظيف العاملين في المنشأة إذا كان سيترتب على المقاطعة تضرر منشأتهم أو إغلاقها أو فصلهم من عملهم.. ويمكن إنشاء صندوق لدعم المقاطعة يتم بحصيلته شراء هذه المنتجات وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، أو فتح حسابات للجمعيات الخيرية نفسها لتشتري هي هذه البضائع وتتولى توزيعها بمعرفتها.. وذلك من العدل، إضافة إلى أنه سيقلل من معارضة بعض الشرائح للمقاطعة ويزيد من فاعليتها وواقعيتها.
كما أقترح إنشاء مشروع متجر وطني (الإسلامي)، يقوم على تشجيع منتجات البلدان الإسلامية والاقتصار عليها، بحيث تكون نسبة المنتج المصنَّع في هذه البلاد لا تقل عن 50%، وألا تحمل هذه المنتجات علامة تجارية لمنشأة رأسمالها لغير المسلمين، وألا يوظف في جميع هياكله الوظيفية غير المسلمين، أي أن يتبنى مقاطعة جميع البلدان غير الإسلامية طوال العام، وهذه الفكرة تحتاج إلى دراسة اقتصادية لوضع معايير نجاح المشروع، وأظن أن فرص نجاحه ليست بالقليلة، كما أن ذلك لا يتعارض مع اتفاقية منظمة التجارة؛ إذ إنها تشترط عدم منع منتج ما (إذا طلب)، ولا تستطيع إجبار أحد على شراء منتج معين.
5 ـ أن تكون المقاطعة شاملة، بمشاركة جميع المسلمين في المقاطعة بترجمة الدعوات إلى ذلك ونشرها بين أوساط المسلمين غير الناطقين بالعربية في بلادهم، وأن تكون شاملة لجميع الأنشطة والجوانب الاقتصادية والإعلامية وغيرها، وأن تكون شاملة أيضاً للمقاطعة العكسية.
6 ـ العمل بأسلوب الحملات الإعلامية في الترويج للمقاطعة: أي أن تتزامن الدعوة إلى المقاطعة في جميع وسائل الدعاية والإعلام، كالجرائد والمجلات والإذاعة والتلفزيون ـ حتى ولو في صورة إعلانات مدفوعة الأجر ـ وخطب الجمعة والمحاضرات والدروس، والإنترنت (بجميع إمكاناته).
هذا ما يحضرني، وهذا اجتهادي؛ فما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، أدعو الله أن يغفره لي.(/12)
هيَّا إلى الاحتساب!
فيصل بن علي البعداني
ترمي الشريعة إلى إشاعة الخير ودروس الشر، ولذا علت منزلة الاحتساب، وجلَّت رتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا غرو فهو أصل من أصول الشريعة، وركن عظيم من أركانها المنيعة، مفتاحٌ للإصلاح، وبوابةٌ لاستقرار المجتمع وظفره بالأمن والسعادة، وضرورةٌ كبرى تُحمَى به العقيدة، وتصان الفضيلة، ويُدافَع الباطل، وتُحْمَى الأمة من عبث ذوي الأهواء والشهوات، ويُوقَى أفرادها من اتِّباع الهوى وولوج سوق الرذيلة. يقول الغزالي: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِي بساطه، وأُهمِل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد)(1).
وكيف لا يكون الاحتساب بهذه المنزلة وقد جعله الله ـ تعالى ـ شعار هذه الأمة ومناط خيريتها، فقال ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]، وأبان ـ عز وجل ـ أن القيام به عنوان السعادة وبوابة الفلاح، وأن تركه سبيل استحقاق لعنته، والطرد من رحمته فقال آمراً به: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال ـ عز من قائل ـ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79].
وأوضح النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن القيام به شرطٌ للنجاة، وأن الإعراض عنه سببٌ للهلاك، وتعرُّضٌ للعقوبة، وحرمانٌ من إجابة الدعوة فقال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»(2)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(3).
وأمام ذلك الترغيب العظيم والتهديد الشديد بادر المصلحون على امتداد تاريخ الأمة الطويل على اختلاف مواقعهم إلى الاحتساب في كافة مستويات المجتمع وطبقاته، ولكثرة الشواهد وسعتها فسأكتفي بذكر بعض ذلك من خلال سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحياته العطرة، من خلال ما يلي:
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- في محيطه الأسري:
لم تُلْهِ المهام الجسام التي كانت موكلة بنبينا الكريم ـ من تعليم الناس الكتاب والحكمة، وتدبير شؤون الأمة، ومواجهة الأخطار المحدقة بها، والانكسار بين يدي ربه آناء الليل وأطراف النهار ـ لم تلهه -صلى الله عليه وسلم- عن تربية أسرته الكبيرة، وتوجيهها إلى الابتعاد عما يُغضِب ربها، ويحول بينها وبين الظفر برحمته ـ عز وجل ـ وإحسانه، ومن ذلك: ما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت قِرَام فيه صور، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصوِّرون هذه الصور»(4)، وما روته ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا ـ تعني قصيرة ـ فقال: «لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، قالت: وحكيتُ له إنساناً، فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا»(5)، وما رواه خادمه أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي؛ ففيمَ تفخر عليك؟! ثم قال: اتقي الله يا حفصة!»(1).
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه المحيطين به:(/1)
عُنِي -صلى الله عليه وسلم- بتزكية أصحابه الكرام ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وبخاصة القريبين منه، المكثرين من خلطته، وعمل على تنقيتهم من المعاصي والذنوب، وتحليتهم بالفضائل من أعمال القلوب والجوارج، مبادراً إلى نهيهم عن كل خطأ يراه عليهم أو زلة يستجرهم إليها الشيطان برفق ولين ينبتان المحبة دون تنفير، وحكمةٍ تبني دون أن تهدم، ومن ذلك ما رواه أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: «إني ساببت رجلاً فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»(2)، وحديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ حين أَهَمَّ قريشاً شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتشفع في حدٍ من حدود الله؟! ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأَيْم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(3)، وحديث أبي مسعود البدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلمْ أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود! قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام! قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً»(4).
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذوي الفضل من العلماء والعُبَّاد:
لأهل العلم وأرباب الطاعة والمستكثرين من العبادة شأن رفيع، ومنزلة سامقة في هذه الأمة، ولكن ذلك لم يَحُلْ بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين الإنكار عليهم، ومواجهة أحدهم حينما يقع في خطأ أو يصدر منه زلل دون أن يُنزِلهم ذلك عن رتبهم أو يحط من أقدارهم، ومن شواهد ذلك: حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ: «أن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فَتَجَوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجلَ، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إنَّا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة فتجوَّزت، فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا معاذ! أفتَّان أنت؟ (ثلاثاً)، اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، ونحوها»(5)، وحديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «زوَّجني أبي امرأة، فجاء يزورها، فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نِعْم الرجل من رجل! لا ينام الليل ولا يفطر النهار. فوقع بي، وقال: زوَّجْتك امرأةً من المسلمين فعضلْتَها، قال: فجعلت لا ألتفت إلى قوله؛ مما أرى عندي من القوة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لكني أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فقم ونم، وصم وأفطر! قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، فقلت: أنا أقوى من ذلك، قال: صم صوم داود ـ عليه السلام ـ صم يوماً وأفطر يوماً، قلت: أنا أقوى من ذلك. قال: اقرأ القرآن في كل شهر، ثم انتهى إلى خمس عشرة وأنا أقول: أنا أقوى من ذلك»(6).
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأمراء وأصحاب الولايات:(/2)
عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- ألوية الإمارة لجماعة من أصحابه الكرام -صلى الله عليه وسلم- ممن توسَّم فيهم القدرة على القيادة، وسياسة الآخرين، والقيام بالمهام الموكلة إليهم بإتقان وأمانة، ولكن توليته -صلى الله عليه وسلم- لتلك الفئة المتميزة، وثقته الكريمة بها لم تَحُلْ بينه وبين أن ينكر على أحدهم ما قد يقع منه من خطلٍ ومخالفةٍ لنهج الصواب، ومن ذلك حديث علي ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث جيشاً وأَمَّر عليهم رجلاً، فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها! فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين: لا طاعة في معصيةٍ، إنما الطاعة في المعروف»(7)، وحديث أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: «استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً على صدقات بني سليمٍ يُدعَى ابن الْلَّتْبِيَّة؛ فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالُكم، وهذا هدية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً! ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! واللهِ لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر، ثم رفع يده حتى رُئي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلَّغت، بَصَر عيني وسَمْعَ أذني»(1).
ü احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- على عامة المجتمع:
لم تَحُلْ مشاغل النبي -صلى الله عليه وسلم- العظيمة وأعماله الجسيمة بينه وبين الاحتساب على فئات المجتمع قليلة المخالطة له -صلى الله عليه وسلم-، حين يحصل داعٍ لذلك، ومن الشواهد: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على صُبْرَةِ طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعُه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟! قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟! من غشَّ فليس مني»(2)، وحديث سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ «أن رجلاً أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله، فقال: كُلْ بيمينك! قال: لا أستطيع، قال: لا استطعتَ. ما منعه إلا الكِبْر، قال: فما رفعها إلى فيه»(3). وحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا واللهِ! لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»(4)، وحديث عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حنَّ، وذرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذِفْرَاه فسكت، فقال: مَنْ ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدْئِبُه»(5).
وبالجملة: فقد كانت الحسبة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكوِّناً أساساً من مكونات شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تفارقه في كل أدواره ومواقفه، وفي كافة صِلاته وعلاقاته، وفي جميع مواقع وجوده، وهو موضع عظيم للتأسي والاقتداء فهمه الصحابة الكرام ومارسوه في عامة أحوالهم وأدوارهم حتى في الحالات الخاصة؛ كحداثة الإسلام كما في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي، الذي من حين أسلم خرج مسرعاً إلى قومه داعياً لهم ومحتسباً عليهم، حتى أقلع عن الشرك والمنكرات معه من قبيلته دوس العدد الغفير(6)، وكحالات المرض الشديد كما في قصة عمر ـ رضي الله عنه ـ حين دخل عليه في مرض موته شابٌ يعوده، فلم يلهه فراش الموت والتفكير في كيفية تدبير شأن الدولة من بعده أن يأمر الفتى برفع الإزار وترك الإسبال(7).
والمتأمل في واقعنا المعاصر يلحظ ظاهرة إحجام كثير من خيار رجال الأمة ونسائها الفضليات عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة، مما تسبب في كثرة شيوع الخبث، وذيوع المعاصي والمخالفات، والمجاهرة بالفساد، وتجذُّر كثير من المظاهر السيئة، والتعلق بالكفرة والفساق وتقليدهم، وانتشار الجهل والظلم والتناحر، وعلو أهل الأهواء والمنكرات وتسلطهم وكثرة عبثهم بالخير والفضيلة ومخالفتهم لأحكام الشريعة؛ مما يهدد سفينة المجتمع بالغرق، وقوة الأمة وتماسكها بالضعف والهوان والفرقة، وفقدان العزة والإغراق في التبعية.(/3)
ويعود ذلك التقصير والإحجام إلى أسبابٍ عدةٍ، من أبرزها: الغفلة عن جلالة هذا الأمر وضرورته وعلو منزلته، وتحقير النفس والنظرة الدونية للأثر، والتسويف والتواني، والتواكل وتبرئة النفس وإلقاء المسؤولية على الآخرين، والاستخفاف العملي بخطورة المعاصي والمنكرات وعدم تقديرها حق قدرها، وإيثار السلامة والجنوح إلى الدعة وعدم الرغبة في الولوج في تبعاتٍ قد تنجم عن الاحتساب وتحتاج إلى تحمُّلٍ وصبر، والتخوُّف من ملامةٍ قد تحصل من جراء تسرعٍ أو اجتهادٍ خاطئ، والابتعاد عن الناس وضعف معايشتهم مما أدَّى إلى الجهل بحدوث المنكرات وعدم العلم بوقوعها، وغير ذلك كثير.
لكن السبب الأكبر في حدوث ذلك التواني والخمول يعود بدرجةٍ أساسٍ إلى فتورٍ إيمانيٍ ظاهرٍ، وإلى محدوديةٍ جليةٍ في فهم الدين وتصوره كما جاء به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وإلى تقصيرٍ بيِّنٍ لدى المحاضن التربوية بدءاً بالمنزل ومروراً بالمدرسة والمسجد والبيئات التربوية المتنوعة في تفقيه الجيل وتربيته على ممارسة هذه الشعيرة العظيمة في إطارٍ فاعلٍ منضبطٍ بحسب علم كل فردٍ وحدود قدرته، وهي أمورٌ بالغة الخطورة، وسيؤدي التمادي فيها إلى تسيُّد الباطل وشيوع المنكر وانحسار كثير من معالم الحق ومظاهر المعروف في مدى زمني قريب قد لا يخطر على بال كثير من أهل العلم والدعوة فضلاً عن جماهير مجتمعاتنا الخيِّرة.
فيا قوم! هيَّا إلى الاحتساب والقيام بواجب التواصي بالحق ومدافعة المنكر، وتشجيع كل جهدٍ خيِّرٍ يصب في هذا الاتجاه قولا ًوعملاً، حساً ومعنى، تعظيماً لله تعالى، وامتثالاً لأمره سبحانه، وتأسياً بنبيا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، طلباً للثواب، وخشيةً من العقاب، وإصلاحاً للمجتمع، وحفاظاً على مسيرته من الزيغ والانحراف؛ فالمسؤولية عظيمة، والجهود المبذولة فيه قليلة، ولا تفي بالغرض المطلوب.
اللهم يسر لأمتنا من أمرها رشداً! إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله؛ عليه توكلت، وإليه أنيب.
________________________________________
(1) إحياء علوم الدين، للغزالي: 2/306. (2) البخاري (2493).
(3) الترمذي (2169)، وحسنه الألباني. (4) البخاري (6109). (5) سنن أبي داود (4875)، وصححه الألباني.
(1) الترمذي (3894)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
(2) البخاري (30)، والخَوَل: الخدم، سموا بذلك؛ لأنهم يتخوَّلون الأمور أي: يصلحونها.
(3) البخاري (3475). (4) مسلم (1659).
(5) البخاري (6106).
(6) البخاري (5052)، النسائي (1390)، واللفظ له. (7) البخاري (7257).
(1) البخاري (6979).
(2) مسلم (102).
(3) مسلم (2021).
(4) مسلم (2090).
(5) سنن أبي داود (2549)، وصححه الألباني.
(6) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير: 3/99 ـ 100.
(7) انظر: البخاري (3700).(/4)
وأطل عام
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
ها نحن وقد أطل عام جديد يضاف إلى ما منّ الله به - عز وجل - علينا من فسحة العمر ، ويذكرنا بتناقصه وسرعة انقضائه وقرب نهايته ؛ ليكون ذلك موضع عظةٍ وعبرةٍ ، وليس هذا مجال حديثنا ، ولكننا ننظر فنرى في هذا العصر وفي الآونة الأخيرة منه غلبة الأعداء على أمة الإسلام .. ليس في ميادين المعارك التي تفوقوا فيها بأسباب المادة إزاء ضعف المسلمين في إيمانهم وتفرقهم في صفوفهم ، بل غلبوا في ميادين الاقتصاد التي فرضوها على أمة الإسلام .
وغلبوا وانتصروا في ميادين الإعلان ن التي طبقت الآفاق ، ولم تدع شاردة ولا واردة ، ولا قطراً ولا مصراً إلا وجاءت عليه ، ومرت به وألقت ما فيها عليه حتى أعوج لسان كثيرٍ من أبناء الأمة الإسلامية ، وتغير فكرهم ، وتحولت أهوائهم ، وسرنا نسمع عام ألفين وكذا حتى كأنما نحن أمة ليست أمة الإسلام ! وليست أمة العرب ! وليست أمة الهجرة النبوية !
ونرى أن كثيراً من الأحوال تضبط بهذا ، وأن كثيراً من التواريخ المهمة في تاريخ الأمة المعاصر لم تعد تمتّ إلى الهجرة وإلى تاريخ الأمة وتراثها بصلة ، حتى كأن هناك انسلاخٌ عظيمٌ ، وكأن هناك تجردٌ كبيرٌ ، وتغيّر ظاهرٌ يستهدف هوية الأمة ،ويقطع حبالها الموصولة بتاريخها ، ويبتّ صلتها بماضيها .
ونحن نقف اليوم وقفة مع إطلالة عامٍ هجريٍ جديد ؛ لنرى ماذا في تاريخ الهجرة ؟ لنرى ما ينبغي أن نتذكره ونعرفه ؟ بدلاً من أن نسمع ما أصبح عند الناس معتقداً راسخاً وأمراً مقبولاً مسلّماً من أن الضبط بالتاريخ لا يكون إلا بذلك التاريخ الميلادي ، وأن ضبط الأمور المادية لا ينحسم إلا به ، وأن كثيراً وكثيراً من الأمور يصبح فيها من الخلل واضطراب إذا أخذنا بتاريخ الهجرة !
لننظر إلى تاريخ الهجرة - أيها الأحبة الكرام - لنرى أنه ليس مجرد أرقام ، وليس مجرد أعوام ، وليس مجرد تاريخٍ نكتبه بهذه الطريقة أو بتلك الطريقة ، وإنما هو أكثر من ذلك وأعظم .
أولاً : شعار أمة
هذه الأمة الإسلامية أمة التميز لا التميع .. أمة التفرد والسبق التي أراد الله - عز وجل - لها أن تكون في صبغة مستقلةٍ واحدةٍ في كل شأنِ من شؤونها ، وفي كل أمرٍ من أمورها بدءاً من الأمور العظيمة الجسيمة ، وانتهاءً بالأمور التي يظنها بعض الناس شكليةَ دقيقة .
لننظر إلى تميز الأمة في كل شيء .. تميزها في كتابها الذي منَّ الله - سبحانه وتعالى - به عليها ، ذلك الكتاب الذي جعلت له مزيةٌ لم تكن لما قبله من الكتب : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
{ آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه } .. ذلك الكتاب الذي جاء متميزاً مستقلاً عما سبقه من الكتب ، وإن كان صدقاً لما بقي فيها أو لما كان في أصلها من صوابٍ وصدقٍ ، لكنه جاء أعظم منها وأشمل منها ، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } .
{ ومهيمناً عليه } ، قالوا : " حاكماً عليه " ، وقالوا : " شاملاً لكل ما جاء من خيرٍ لكل ما سبقه " ، وقالوا : " أنه مؤتمن عليها " .. وكلها معانٍ ، ويذكر أهل التفسير أكثر من ذلك تدل على تميّز هذا الكتاب واستقلاله بنفسه .
بينما لو نظرنا في التوراة والإنجيل نرى بينهم ترابطاً ، وما الإنجيل إلا استكمالٌ للتوراة ، وما هو إلا إلحاقٌ لها ، وتأكيد لبعض أحكامها ، ونسخ لبعض أحكامها ، ومنها دائماً تجد الربط بينهما والذكر بينهما في القرآن الكريم كما قال جل وعلا : { وقفينا على أثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين } .
والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - رسول الأمة جاء أيضاً متميزاً ، فجاء من فرعٍ آخر غير فروع بني إسرائيل ، الذين كانت فيهم النبوة من أبناء إسحاق ، فجاء من ولد إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي قال في نسبه : ( أنا خيارُ من خيارٍ من خيارٍ ) .
وكانت اليهود ترتقب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء من العرب لا من العبرانيين كفروا به ولم يتبعوه ، وهذه حكمة من الله ألا يكون ثمة شيء فيه استتباع أو إلحاح ، بل تفرد أراده الله - عز وجل - لهذه الأمة .
ومن التفرد تفردها بتاريخها .. بالهجرة النبوية الشريفة .. بأيامها ، فالجمعة هي عيد الأسبوع ، وهي التي فيها تميزُ ظاهرُ بينُ شفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم وهذا اليوم الذي كتب الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له - يعني يوم الجمعة - فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً - أي في يوم السبت - والنصارى بعد غد - أي في يوم الأحد ) .(/1)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم – يشير في هذا الحديث إلى تميّز الأمة وسبقها : ( نحن الآخرون ) ، أي زمناً ووقوعاً بعد الأمم التي سبقت .. ( السابقون ) ، أي منهجاً وفضلاً ومزيةً على سائر الأمم .
ثم اخبر عليه الصلاة والسلام : ( بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ) ، أي في التاريخ لا في التميز والتفرد والسبق ، وقال عليه الصلاة والسلام (وهذا اليوم الذي كتب الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له ) ، فكانت اليهود في السبت ، والنصارى في الأحد ، وجاءت أمة الإسلام بالهدي وبالحق في الجمعة الذي تسبقهما ، إشارة إلى ذلك التميز والسبق والفضل .
وإذا جئنا إلى " التاريخ " أيضاً ، فنجد فيه الأعياد .. فأعيادنا تختلف حتى في زمانها وفي مناسباتها .. إنها في أعقاب الأركان - في أعقاب الحج وفي أعقاب الصيام - إنها في أعقاب الطاعات والعبادات .. إنها تأكيدٌ وقيامٌ بشأن طاعة الله عز وجل والعبادات ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن عيد الأضحى فقال:
" إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا " .
ولذلك لا عيد لأمتنا إلا هذان العيدان اللذان أخبر بهما النبي صلى الله عليه وسلم .
إذاً فالتاريخ ليس مجرد تاريخ ، وإنما هو أمرٌ تنصبغ به حياة الأمة ؛ لتكون مختلفةً عن غيرها ، متميزةً عن غيرها ؛ وإلا فإن من دعى إلى أن نلغي التاريخ الهجري ، أو أن نجعله جانياً ؛ فإنه سيدعونا - كما رأينا ونرى - أن نجعل السبت أو الأحد هو عطلة الأسبوع ؛ لنتوافق مع الاقتصاد ، ومع أحوال العالم ، ثم سنتظر شيئاً فشيئاً ، فكأننا مسخ لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، ليس فيه تميزٌ ، وليس فيه الأمة التي اصطفاها الله - عز وجل - واختارها لتكون هي الأمة الحاكمة الشاهدة على الأمم : { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .. } .. { وكذلك جعلناك أمةَ وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } .
فالتاريخ هو شعار أمة وعنوانها وتميزها .
وأمرُ ثانِ : التاريخ الهجري ذاكرة أمة
ذاكرة أمة تربطها بأعظم حدثٍ غيّر وجه التاريخ الإنساني كله ، وبأجلّ حادثةٍ كان لها ما بعدها في شأن البشرية جمعاء لا في شأن أمة الإسلام وحدها .
إنه ذلك الأمر الذي يرتبط بحدثٍ فيه عملٌ وجدٌّ ، وفيه كسبُ وجهادُ ومعاناة .. ارتبط تاريخنا بفضل الله - عز وجل - وبفضل ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، وإجماعهم في ذلك تشريع مقبول ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ) .
لم يرتبط التاريخ بميلاد أو وفاة ؛ لأن الميلاد والوفاة ليس في ذاته عظيماً ، ولأن الميلاد والوفاة ليس لصاحبه فيه أمر أو عمل ، وإنما ارتبط بأعطم وأجلّ ما بذله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدار به دفة الدعوة في الطريق إلى قيام الدولة ، والذي كان له ما بعده .
يجب أن تنتبه إلى هذا المعنى ، وهو الذي ينبغي أن يلتفت إليه ، وأن ينظر إليه ، وأن لا يغيب عن ذهنها مطلقاً ؛ فإن هذا له أثره ، بينما نرى أن هذا التميز الذي أشرنا إليه ، والذاكرة موجود’ بين الأمم كلها - أيها الأحبة الكرام - إنه ليس حتى مجرد قضية ترتبط بالأديان .. نحن نعرف أن الصينيين عندهم سنة صينية يقيمون لها احتفالات ، ويؤرخون بها تاريخهم ، ويربطون بها أحداثهم ، ويجعلونها هي التي تبرز مآثرهم .
والفارسيون - أيضاً - في إيران لهم تاريخهم وسنتهم ، وكثير من الأمم والأقوام .. فلماذا يحلو لأولئك أن يذكروا هذا ، وأن يفتخروا به ، وأن يتنبهوا له .
ونحن ليس في هجرتنا ولا في مبدأ عامنا عيدٌ ، ولكنها ذكر وعبر ، فينبغي أن لا نغيب عن هذا أو لا نغيب عنه ، والهجرة وتاريخها أيضاً مبعث همة ؛ فإن بداية كل عامٍ يحتاج إلى همة ، ويحتاج إلى عزيمة يحتاج إلى شحذ للقوى ، وإلى حشد للطاقات ؛ حتى تنطلق في مبدأ العام بهمة وانطلاقة .
فانظر إلى ما يبعثه التاريخ الهجري من همة ، وما يصبه في النفوس من عزائم ؛ لأنه مرتبطٌ بالهجرة .. ليس مرتبط بمجرد ميلاد أو وفاة ، وليس مرتبط – أيضاً - بشيءٍ من العادات أو التقاليد أو الخرافات التي نراها في الأمم السابقة ، وفي الأمم الأخرى .. ماذا يصنع كثير من الناس - سواء كانوا من أهل الديانات أو من أهل القوميات - بدء عامهم ؟
إنها الاحتفالات الصاخبة .. إنه الاختلاط الآثم .. إنه تغيّب العقول بشرب المسكرات و المخدرات .. إنهم يغيبون أنفسهم .. إنهم يبدأون عامهم بشيء من اللهو والعبث والغياب والتجهيل والوهم ، الذي يغرقون أنفسهم فيه ، فأي شيءِ يربطنا بتاريخنا الهجري في مبدأ العام ؟(/2)
إنه ارتباطَ بالهجرة التي أشرنا إليها وهي تبعث همةً عظيمةً في جوانب شتى من جوانب الحياة ، فهي تميز لا تميع ، تخبرنا عن أولئك النفر القليل الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا قلةً لا يتجاوزون بحال من الأحوال المائة - وإن كان بعض أهل السير قد ذكر أن عدتهم أقل من ذلك - وهؤلاء كانوا يعيشون في مجتمع كامل يخالفهم في عقائدهم وتصوراتهم ، ويخالفهم في عاداتهم وتقاليدهم ، بل ويخالفهم في كل أقوالهم وأعمالهم .. فهل قالوا : " نكون مع القوم وليس لنا قدرة على أن نكون نحن أنفسنا دون غيرنا " ؟! لقد ضلّوا متميزين في وسط هذا المجتمع الكامل ،لم يذوبوا ولم يتميعوا ، لم ينسلخوا ولم يتجردوا من هويتهم وعقيدتهم وإيمانهم ، فظلوا متميزين حتى جاءت الفترة أو اللحظة العظيمة في هدي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجروا إلى المدينة .
وهذه الهجرة عزيمة لا هزيمة .. كانوا يحملون في قلوبهم إيماناً أرسخ من الجبال الرواسي ، وأعلى من القمم الشامخة العالية ، ولذلك كانت عندهم عزيمة عظيمة ماضية ، لم تنل لهم قناة ، ولم يتراجعوا في رأي ، ولم يندخروا في معركة نفسية أو قوليةِ أو جدلية .. لماذا ؟
لأن ذلك الإيمان كان يصبّ في قلوبهم ونفوسهم من القوة الإصرار شيئاً عظيماً .
أليس ذلك كله يذكرنا في مبدأ العام ؟! ينبغي أن تكون عزائمنا مسلحةً بالإيمان ، وراجعةً إلى قوة اليقين ، ومنبعثةً من أصالة الإسلام وثبات مبادئه .
ثم نرى أيضاً أن الهجرة عمل لا كسل ..لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق أجمعين - لم يكن ليبلغ ما بلغ مما فتح الله عز وجل به عليه وهو يأكل - كما يقولون - ملء مضغيه ، وينام ملء جفنيه ، ويضحك ملء شدقيه .
لم يكن النبي - عليه الصلاة والسلام - هو الذي قد حصل له ما حصل ، لم يكن ذلك بمجرد دعواتِ في أعقاب الصلوات ، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً هيناً ، بل كان طريقاً صعباً وعراً ، وكان عملاً مجهداً شاقاً ، وكان بذلاً عظيماً كبيراً .. إن هذا كله يثير في الأمة وفي نفس أفرادها في مبدأ كل عام كيف جاهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف ظلَّ يعمل بلا كللٍ ولا كسل ، وهذا أمرٌ مهم ؛ لأننا أمة العمل { وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين } .
إن الأقوال التي نجزيها ونرسلها ، وإن الأمنيات التي نحوكها ونتخيلها ، كلها لا تغني في واقع الأمر شيئاً .. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كافح وجاهد لعزيمة وبتميز في مكة ، ثم جاهد وانتقل إلى المدينة ، ثم جاهد وقاتل في معارك شتى حتى دمي وجهه الشريف ، وكسرت رباعيته وهو يقول : ( اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون ) .
هكذا يترسم لنا الهجرة الطريق ، الذي ينبغي أن نعرف طبيعته ، وأن نعرف ضرورة السلوك فيه ، والأخذ بالعزيمة فيه .
ونرى الهجرة أيضاً فداءٌ لا ارتخاء .. كيف خلّف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ديارهم وأرضهم ، ومواطنهم التي ولدوا فيها ، ومراتعهم التي نشأوا فيها .. ذلك الحنين الفطري الطبعي إلى الأرض التي عاش بها الإنسان .. حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتاً إلى مكة : ( لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ) ، وكانت أحب بقاع الأرض إليه .
وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة يبينون أن الحياة فداء وتضحية لأجل مرضاة الله ، ولأجل إعلاء راية الله ، ولأجل إقامة دين الله في الأرض .. خلفوا ورائهم الأهل والديار والأموال ، لم تجذبهم ولم تقعدهم ولم تحل بينهم وبين الانطلاق إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى ، وكم نحن في حاجة - في مبدأ كل عام - أن نعرف أنه لا ينبغي أن يعترض طريقنا إلى رضوان الله وإلى إعلاء رايته وإلى نصرة دينه شيء من حظوظ الدنيا .. من زوجةٍ مؤنسةٍ ، أو أبناء مشغلون ، أو دنيا ملهية ، أو أموالٌ مطغية ، أو غير ذلك ..كل هذا ينبغي أن يكون مؤخرا .. { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ .. } ، إنه الأمر المهم الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال أبداً .
تاريخ الهجرة مبعث همة في بداية كل عام ، وهذا الذي يحتاجه الإنسان في مبدأ كل عام ، وفي مبدأ كل مرحلة .
لا يحتاج في مبدأ العام أن يقول : " كل عام وأنتم بخير " ، وأن تشتغل أجهزة الإعلام لتقدم لنا المسلسلات والأفلام بمناسبة بداية العام .
إن بداية العام بداية جدٍ ، إنها بداية عزم ، إنها تأكيد همةٍ ، إنها بداية انطلاقةٍ قوية تستدرك ما فات وتعوضه ، وتحاول أن تختصر الزمن لتعوض ما فات منه ، وهذا هو الأمر المهم الذي ينبغي أن نتبه له ، وأن نلتفت إليه .(/3)
وأيضاً تاريخ الهجرة موطن عبرة ، وهذا أمر مهم ؛ فإن تعلّق العبادات جعل مرتبطاً بالتاريخ الهجري وليس بغيره { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } .
جعل الله سبحانه وتعالى أمر العبادات في كثيرٍ من أحوالها مرتبطٌ بالتاريخ الهجري المتميز ، إنه تاريخ هجري مرتبط بالتقويم القمري لا بالشمسي ولا بغيره .
ألسنا نحتاج - كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم - في كل رمضان أن نتحرى الهلال ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ) ؟
ألسنا نحتاج ذلك في الحج ؟ ألسنا نراقب الشهور أولاً بأول ، وننظر في دخولها وخروجها ؟
إن هذا الأمر فيه عدد عظيم من الحِكَم والعبر الجليلة .
أمر التحري والمتابعة .. أمرٌ يجعل الإنسان يتيقظ لمرور الأيام ، وتوالي الشهور ، وتعاقب الأعوام .. إنه ليس الإنسان الذي يغمض عينيه ويمشي حتى ينتهي العام فلا ينتبه إلا الذي بعده .. إنه في كل وقت يتذكر ويتحرى .. إنه في كل لحظة يحسّ قيمة الزمن الذي ينصرم وينقضي .
وأيضاً ربط العبادة بذلك الحدث المتعلق بتعاقب الزمان والمكان هو أيضاً أمر يعلّق الإنسان بقدرة الله - سبحانه وتعالى - ويجلي لنا القدرة التي تغيب .
نحن نرى الشمس كل يومٍ ساطعة ، ولكننا نرى القمر وهو يبدأ هلالاً ، ثم ينتصف بدراً ، ثم يعود محاقاً ويرجع هلالاً .. إنه أمرٌ متغيرٌ يدفع إلى التأمل والتدبر ، ويذكّر بعظمة خلق الله سبحانه وتعالى ، ويذكّر - كما أشرنا - بتعاقب وتغير الأحوال ، وانصرام الأزمان وهذا أمرَ مهم .
والعبادة - أيها الأحبة - من حكمة الله أن جعلت مرتبطة بهذا التقويم ، فرمضان مرة في صيف ، وأخرى في ربيع ، وثالثة في شتاءٍ ، ورابعة في خريف وهكذا ..
ليس في كل وقت يكون حجّك أو يكون صيامك في فصل واحدٍ ، وهذا من الحكمة والعبرة ، وفيه تقلب الأحوال وثبات المسلم على طاعة الله . إن كان شتاءً فالصوم هين ، وإن كان صيفاً فالصوم شاق ، وإن كان نهارٌ قصير فالصوم فيه سهل يسير ، وإن كان نهار طويل فالصوم فيه شاق عسير .. وكل ذلك من التقلبات .
والعبد مقيم على طاعة الله كأنما هو تدريبٌ له ، وكأنما هو امتحانٌ له ، وكأنما هو يظهر لربه أنه متقلبٌ في طاعته وملازمٌ لها مهما تغيرت الأحوال والظروف ، وكل هذا فيه عظة وعبرة .
لوثبتنا على التاريخ الميلادي - كما يقال - فإن كل الأحوال التي قد نختارها أو الزمن الذي قد يعين يبقى إما صيف وإما شتاء ؛ لأنه تقويم شمسي يعتمد على الشمس في صيفها وشتائها لا يتغيران وهذه حكمة عظيمة .
فالذين يرون التاريخ الهجري هو مجرد تاريخٍ عادي و يلتفتون إليه في رمضان أو في الحج مرةً واحدة يفوتون الكثير والكثير مما أشرنا إليه .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن أمر ارتباط الأمة بالتاريخ الهجري أمر له دلالات كثيرة ، وله فوائد عظيمة ، وإن الأمر الذي ينبغي أن ننتبه له هو : " ضرورة حفاظ الأمة على هويتها في كل جانب من الجوانب " صغيرة كانت أو كبيرة ؛ لأن الذي يتهاون في الصغير من الأمور يوشك أن يقع في الكبير منها .
ولأننا نستقبل الآن - كما يقولون - زمن العولمة الذي يقصدون به : ( أن تصبح الكرة الأرضية كلها عالم واحد " ، ومعنى ذلك أن يكون كل شيء فيها واحد .
وأي شيءِ هذا الواحد الذي يريدونه ؟ إنه ما هم عليه ؛ لأنهم يملكون إلى حد ما في تصورهم القوة لفرضه على الناس .. يريدون أن يفرضوا نظامهم الاقتصادي ، وتقويمهم التاريخي ، ونظامهم الاجتماعي .. وغير ذلك من الأمور .
ألا ترى ما يتوالى من المؤتمرات ، وما يعقد من الندوات ، وما يقال من عدم ضرورة لخصوصيات ، وما يذاع ويعلى شأنه من اختلاط وتلاقح وحوار الحضارات وامتزاج واختلاط وارتباط الثقافات ؟
إن هذا كله مقصود به أن تكون هذه الأمة - الذي يفوق سائر أمم الأرض جميعاً ، فليس في الأمم أمةُ كأمة الإسلام عدتها على دينِ واحدِ مثل أمة الإسلام – أمة تابعة لهم .
وأيضاَ لننظر إلى جانب أخر وهو جانب : المواقع والثروات لبلاد الأمة الإسلامية
يراد أيضاً أن تنزع هذه المزية ، فضلاً عن القضايا العقدية والإيمانية والتاريخية والتراثية واللغوية والحضارية ..كل هذا في موجة عاتية تصبّ علينا عبر صحفٍ ومجلات ، وعبر قنوات وشاشات ، وعبر ندوات ومؤتمرات حتى صمت الآذان وصرنا - كما قلت - نسمع عام ألفين أكثر مما نسمع عام كذا من الهجرة وعام كذا من الهجرة ! وحتى صار كثير من الأمور يتحول تحولاً عجيباً وسريعاً نحو هذا التأقلم والتطبع والتغير الذي يفرض فيه القوي مبدأه على الضعيف .
ونحن في هذا الموقف وفي هذا الموطن ، وفي هذا الدرس والعبرة ، وعند مفتتح العام وبداية إطلالته نذكر بأننا أمةٌ متميزة سابقة ، لا بد أن تكون كذلك ؛ لأن الله أرادها أن تكون كذلك .(/4)
وأيضاَ أن نتذكر ما في الهجرة من المعاني والدروس والعظات والعبر ، وأن ننظر إلى الحِكَم التي جعل الله - عز وجل - فيها ارتباط العبادات بهذه الأشهر القمرية ، بما فيه من كثير وكثير مما ذكرته ، ومما لم أذكره أكثر ولذلك هذه الوقفة إنما هي للانتباه إلى أن الخصائص الكثيرة في الأمور التي يعدها بعض الناس يسيرة لها أهمية عظيمة .
فليس التاريخ - كما قلنا - مجرد أرقام تكتب هكذا أو هكذا ، وليس مجرد أيام أو أشهر قد تزيد أو قد تنقص ، وإنما هو - كما قلنا - هوية أمة ، وأساس عبادة ، وارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام .
ولذلك نذكّر أنفسنا بأن نحيي هذه المعاني في قلوبنا ، وأن نتذكرها في أذهاننا ، وأن ننتبه ونفطن لما يحاك حولنا ، ولما يدبر لنا ، ولما يُهيأ حتى نقبله ونحن فرحون به ، وأحيانا ونحن مفتخرون به ، وأحياناً ونحن مجادلون عنه ، وأحياناً ونحن داعون إليه ، وأحياناً ونحن مقاتلون لأجل فرضه .. وما ندري أننا ننقض عروة من عرى أمتنا ، وشيئاً من أصالتها وقوتها وهويتها .
...(/5)
وأطل عام
فضيلة الشيخ الدكتور / علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
ها نحن وقد أطل عام جديد يضاف إلى ما منّ الله به - عز وجل - علينا من فسحة العمر ، ويذكرنا بتناقصه وسرعة انقضائه وقرب نهايته ؛ ليكون ذلك موضع عظةٍ وعبرةٍ ، وليس هذا مجال حديثنا ، ولكننا ننظر فنرى في هذا العصر وفي الآونة الأخيرة منه غلبة الأعداء على أمة الإسلام .. ليس في ميادين المعارك التي تفوقوا فيها بأسباب المادة إزاء ضعف المسلمين في إيمانهم وتفرقهم في صفوفهم ، بل غلبوا في ميادين الاقتصاد التي فرضوها على أمة الإسلام .
وغلبوا وانتصروا في ميادين الإعلان ن التي طبقت الآفاق ، ولم تدع شاردة ولا واردة ، ولا قطراً ولا مصراً إلا وجاءت عليه ، ومرت به وألقت ما فيها عليه حتى أعوج لسان كثيرٍ من أبناء الأمة الإسلامية ، وتغير فكرهم ، وتحولت أهوائهم ، وسرنا نسمع عام ألفين وكذا حتى كأنما نحن أمة ليست أمة الإسلام ! وليست أمة العرب ! وليست أمة الهجرة النبوية !
ونرى أن كثيراً من الأحوال تضبط بهذا ، وأن كثيراً من التواريخ المهمة في تاريخ الأمة المعاصر لم تعد تمتّ إلى الهجرة وإلى تاريخ الأمة وتراثها بصلة ، حتى كأن هناك انسلاخٌ عظيمٌ ، وكأن هناك تجردٌ كبيرٌ ، وتغيّر ظاهرٌ يستهدف هوية الأمة ،ويقطع حبالها الموصولة بتاريخها ، ويبتّ صلتها بماضيها .
ونحن نقف اليوم وقفة مع إطلالة عامٍ هجريٍ جديد ؛ لنرى ماذا في تاريخ الهجرة ؟ لنرى ما ينبغي أن نتذكره ونعرفه ؟ بدلاً من أن نسمع ما أصبح عند الناس معتقداً راسخاً وأمراً مقبولاً مسلّماً من أن الضبط بالتاريخ لا يكون إلا بذلك التاريخ الميلادي ، وأن ضبط الأمور المادية لا ينحسم إلا به ، وأن كثيراً وكثيراً من الأمور يصبح فيها من الخلل واضطراب إذا أخذنا بتاريخ الهجرة !
لننظر إلى تاريخ الهجرة - أيها الأحبة الكرام - لنرى أنه ليس مجرد أرقام ، وليس مجرد أعوام ، وليس مجرد تاريخٍ نكتبه بهذه الطريقة أو بتلك الطريقة ، وإنما هو أكثر من ذلك وأعظم .
أولاً : شعار أمة
هذه الأمة الإسلامية أمة التميز لا التميع .. أمة التفرد والسبق التي أراد الله - عز وجل - لها أن تكون في صبغة مستقلةٍ واحدةٍ في كل شأنِ من شؤونها ، وفي كل أمرٍ من أمورها بدءاً من الأمور العظيمة الجسيمة ، وانتهاءً بالأمور التي يظنها بعض الناس شكليةَ دقيقة .
لننظر إلى تميز الأمة في كل شيء .. تميزها في كتابها الذي منَّ الله - سبحانه وتعالى - به عليها ، ذلك الكتاب الذي جعلت له مزيةٌ لم تكن لما قبله من الكتب : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
{ آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه } .. ذلك الكتاب الذي جاء متميزاً مستقلاً عما سبقه من الكتب ، وإن كان صدقاً لما بقي فيها أو لما كان في أصلها من صوابٍ وصدقٍ ، لكنه جاء أعظم منها وأشمل منها ، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } .
{ ومهيمناً عليه } ، قالوا : " حاكماً عليه " ، وقالوا : " شاملاً لكل ما جاء من خيرٍ لكل ما سبقه " ، وقالوا : " أنه مؤتمن عليها " .. وكلها معانٍ ، ويذكر أهل التفسير أكثر من ذلك تدل على تميّز هذا الكتاب واستقلاله بنفسه .
بينما لو نظرنا في التوراة والإنجيل نرى بينهم ترابطاً ، وما الإنجيل إلا استكمالٌ للتوراة ، وما هو إلا إلحاقٌ لها ، وتأكيد لبعض أحكامها ، ونسخ لبعض أحكامها ، ومنها دائماً تجد الربط بينهما والذكر بينهما في القرآن الكريم كما قال جل وعلا : { وقفينا على أثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين } .
والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - رسول الأمة جاء أيضاً متميزاً ، فجاء من فرعٍ آخر غير فروع بني إسرائيل ، الذين كانت فيهم النبوة من أبناء إسحاق ، فجاء من ولد إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي قال في نسبه : ( أنا خيارُ من خيارٍ من خيارٍ ) .
وكانت اليهود ترتقب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء من العرب لا من العبرانيين كفروا به ولم يتبعوه ، وهذه حكمة من الله ألا يكون ثمة شيء فيه استتباع أو إلحاح ، بل تفرد أراده الله - عز وجل - لهذه الأمة .
ومن التفرد تفردها بتاريخها .. بالهجرة النبوية الشريفة .. بأيامها ، فالجمعة هي عيد الأسبوع ، وهي التي فيها تميزُ ظاهرُ بينُ شفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم وهذا اليوم الذي كتب الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له - يعني يوم الجمعة - فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً - أي في يوم السبت - والنصارى بعد غد - أي في يوم الأحد ) .(/1)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم – يشير في هذا الحديث إلى تميّز الأمة وسبقها : ( نحن الآخرون ) ، أي زمناً ووقوعاً بعد الأمم التي سبقت .. ( السابقون ) ، أي منهجاً وفضلاً ومزيةً على سائر الأمم .
ثم اخبر عليه الصلاة والسلام : ( بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ) ، أي في التاريخ لا في التميز والتفرد والسبق ، وقال عليه الصلاة والسلام (وهذا اليوم الذي كتب الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له ) ، فكانت اليهود في السبت ، والنصارى في الأحد ، وجاءت أمة الإسلام بالهدي وبالحق في الجمعة الذي تسبقهما ، إشارة إلى ذلك التميز والسبق والفضل .
وإذا جئنا إلى " التاريخ " أيضاً ، فنجد فيه الأعياد .. فأعيادنا تختلف حتى في زمانها وفي مناسباتها .. إنها في أعقاب الأركان - في أعقاب الحج وفي أعقاب الصيام - إنها في أعقاب الطاعات والعبادات .. إنها تأكيدٌ وقيامٌ بشأن طاعة الله عز وجل والعبادات ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن عيد الأضحى فقال:
" إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا " .
ولذلك لا عيد لأمتنا إلا هذان العيدان اللذان أخبر بهما النبي صلى الله عليه وسلم .
إذاً فالتاريخ ليس مجرد تاريخ ، وإنما هو أمرٌ تنصبغ به حياة الأمة ؛ لتكون مختلفةً عن غيرها ، متميزةً عن غيرها ؛ وإلا فإن من دعى إلى أن نلغي التاريخ الهجري ، أو أن نجعله جانياً ؛ فإنه سيدعونا - كما رأينا ونرى - أن نجعل السبت أو الأحد هو عطلة الأسبوع ؛ لنتوافق مع الاقتصاد ، ومع أحوال العالم ، ثم سنتظر شيئاً فشيئاً ، فكأننا مسخ لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، ليس فيه تميزٌ ، وليس فيه الأمة التي اصطفاها الله - عز وجل - واختارها لتكون هي الأمة الحاكمة الشاهدة على الأمم : { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .. } .. { وكذلك جعلناك أمةَ وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } .
فالتاريخ هو شعار أمة وعنوانها وتميزها .
وأمرُ ثانِ : التاريخ الهجري ذاكرة أمة
ذاكرة أمة تربطها بأعظم حدثٍ غيّر وجه التاريخ الإنساني كله ، وبأجلّ حادثةٍ كان لها ما بعدها في شأن البشرية جمعاء لا في شأن أمة الإسلام وحدها .
إنه ذلك الأمر الذي يرتبط بحدثٍ فيه عملٌ وجدٌّ ، وفيه كسبُ وجهادُ ومعاناة .. ارتبط تاريخنا بفضل الله - عز وجل - وبفضل ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، وإجماعهم في ذلك تشريع مقبول ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ) .
لم يرتبط التاريخ بميلاد أو وفاة ؛ لأن الميلاد والوفاة ليس في ذاته عظيماً ، ولأن الميلاد والوفاة ليس لصاحبه فيه أمر أو عمل ، وإنما ارتبط بأعطم وأجلّ ما بذله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدار به دفة الدعوة في الطريق إلى قيام الدولة ، والذي كان له ما بعده .
يجب أن تنتبه إلى هذا المعنى ، وهو الذي ينبغي أن يلتفت إليه ، وأن ينظر إليه ، وأن لا يغيب عن ذهنها مطلقاً ؛ فإن هذا له أثره ، بينما نرى أن هذا التميز الذي أشرنا إليه ، والذاكرة موجود’ بين الأمم كلها - أيها الأحبة الكرام - إنه ليس حتى مجرد قضية ترتبط بالأديان .. نحن نعرف أن الصينيين عندهم سنة صينية يقيمون لها احتفالات ، ويؤرخون بها تاريخهم ، ويربطون بها أحداثهم ، ويجعلونها هي التي تبرز مآثرهم .
والفارسيون - أيضاً - في إيران لهم تاريخهم وسنتهم ، وكثير من الأمم والأقوام .. فلماذا يحلو لأولئك أن يذكروا هذا ، وأن يفتخروا به ، وأن يتنبهوا له .
ونحن ليس في هجرتنا ولا في مبدأ عامنا عيدٌ ، ولكنها ذكر وعبر ، فينبغي أن لا نغيب عن هذا أو لا نغيب عنه ، والهجرة وتاريخها أيضاً مبعث همة ؛ فإن بداية كل عامٍ يحتاج إلى همة ، ويحتاج إلى عزيمة يحتاج إلى شحذ للقوى ، وإلى حشد للطاقات ؛ حتى تنطلق في مبدأ العام بهمة وانطلاقة .
فانظر إلى ما يبعثه التاريخ الهجري من همة ، وما يصبه في النفوس من عزائم ؛ لأنه مرتبطٌ بالهجرة .. ليس مرتبط بمجرد ميلاد أو وفاة ، وليس مرتبط – أيضاً - بشيءٍ من العادات أو التقاليد أو الخرافات التي نراها في الأمم السابقة ، وفي الأمم الأخرى .. ماذا يصنع كثير من الناس - سواء كانوا من أهل الديانات أو من أهل القوميات - بدء عامهم ؟
إنها الاحتفالات الصاخبة .. إنه الاختلاط الآثم .. إنه تغيّب العقول بشرب المسكرات و المخدرات .. إنهم يغيبون أنفسهم .. إنهم يبدأون عامهم بشيء من اللهو والعبث والغياب والتجهيل والوهم ، الذي يغرقون أنفسهم فيه ، فأي شيءِ يربطنا بتاريخنا الهجري في مبدأ العام ؟(/2)
إنه ارتباطَ بالهجرة التي أشرنا إليها وهي تبعث همةً عظيمةً في جوانب شتى من جوانب الحياة ، فهي تميز لا تميع ، تخبرنا عن أولئك النفر القليل الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا قلةً لا يتجاوزون بحال من الأحوال المائة - وإن كان بعض أهل السير قد ذكر أن عدتهم أقل من ذلك - وهؤلاء كانوا يعيشون في مجتمع كامل يخالفهم في عقائدهم وتصوراتهم ، ويخالفهم في عاداتهم وتقاليدهم ، بل ويخالفهم في كل أقوالهم وأعمالهم .. فهل قالوا : " نكون مع القوم وليس لنا قدرة على أن نكون نحن أنفسنا دون غيرنا " ؟! لقد ضلّوا متميزين في وسط هذا المجتمع الكامل ،لم يذوبوا ولم يتميعوا ، لم ينسلخوا ولم يتجردوا من هويتهم وعقيدتهم وإيمانهم ، فظلوا متميزين حتى جاءت الفترة أو اللحظة العظيمة في هدي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجروا إلى المدينة .
وهذه الهجرة عزيمة لا هزيمة .. كانوا يحملون في قلوبهم إيماناً أرسخ من الجبال الرواسي ، وأعلى من القمم الشامخة العالية ، ولذلك كانت عندهم عزيمة عظيمة ماضية ، لم تنل لهم قناة ، ولم يتراجعوا في رأي ، ولم يندخروا في معركة نفسية أو قوليةِ أو جدلية .. لماذا ؟
لأن ذلك الإيمان كان يصبّ في قلوبهم ونفوسهم من القوة الإصرار شيئاً عظيماً .
أليس ذلك كله يذكرنا في مبدأ العام ؟! ينبغي أن تكون عزائمنا مسلحةً بالإيمان ، وراجعةً إلى قوة اليقين ، ومنبعثةً من أصالة الإسلام وثبات مبادئه .
ثم نرى أيضاً أن الهجرة عمل لا كسل ..لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق أجمعين - لم يكن ليبلغ ما بلغ مما فتح الله عز وجل به عليه وهو يأكل - كما يقولون - ملء مضغيه ، وينام ملء جفنيه ، ويضحك ملء شدقيه .
لم يكن النبي - عليه الصلاة والسلام - هو الذي قد حصل له ما حصل ، لم يكن ذلك بمجرد دعواتِ في أعقاب الصلوات ، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً هيناً ، بل كان طريقاً صعباً وعراً ، وكان عملاً مجهداً شاقاً ، وكان بذلاً عظيماً كبيراً .. إن هذا كله يثير في الأمة وفي نفس أفرادها في مبدأ كل عام كيف جاهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف ظلَّ يعمل بلا كللٍ ولا كسل ، وهذا أمرٌ مهم ؛ لأننا أمة العمل { وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين } .
إن الأقوال التي نجزيها ونرسلها ، وإن الأمنيات التي نحوكها ونتخيلها ، كلها لا تغني في واقع الأمر شيئاً .. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كافح وجاهد لعزيمة وبتميز في مكة ، ثم جاهد وانتقل إلى المدينة ، ثم جاهد وقاتل في معارك شتى حتى دمي وجهه الشريف ، وكسرت رباعيته وهو يقول : ( اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون ) .
هكذا يترسم لنا الهجرة الطريق ، الذي ينبغي أن نعرف طبيعته ، وأن نعرف ضرورة السلوك فيه ، والأخذ بالعزيمة فيه .
ونرى الهجرة أيضاً فداءٌ لا ارتخاء .. كيف خلّف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ديارهم وأرضهم ، ومواطنهم التي ولدوا فيها ، ومراتعهم التي نشأوا فيها .. ذلك الحنين الفطري الطبعي إلى الأرض التي عاش بها الإنسان .. حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتاً إلى مكة : ( لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ) ، وكانت أحب بقاع الأرض إليه .
وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة يبينون أن الحياة فداء وتضحية لأجل مرضاة الله ، ولأجل إعلاء راية الله ، ولأجل إقامة دين الله في الأرض .. خلفوا ورائهم الأهل والديار والأموال ، لم تجذبهم ولم تقعدهم ولم تحل بينهم وبين الانطلاق إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى ، وكم نحن في حاجة - في مبدأ كل عام - أن نعرف أنه لا ينبغي أن يعترض طريقنا إلى رضوان الله وإلى إعلاء رايته وإلى نصرة دينه شيء من حظوظ الدنيا .. من زوجةٍ مؤنسةٍ ، أو أبناء مشغلون ، أو دنيا ملهية ، أو أموالٌ مطغية ، أو غير ذلك ..كل هذا ينبغي أن يكون مؤخرا .. { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ .. } ، إنه الأمر المهم الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال أبداً .
تاريخ الهجرة مبعث همة في بداية كل عام ، وهذا الذي يحتاجه الإنسان في مبدأ كل عام ، وفي مبدأ كل مرحلة .
لا يحتاج في مبدأ العام أن يقول : " كل عام وأنتم بخير " ، وأن تشتغل أجهزة الإعلام لتقدم لنا المسلسلات والأفلام بمناسبة بداية العام .
إن بداية العام بداية جدٍ ، إنها بداية عزم ، إنها تأكيد همةٍ ، إنها بداية انطلاقةٍ قوية تستدرك ما فات وتعوضه ، وتحاول أن تختصر الزمن لتعوض ما فات منه ، وهذا هو الأمر المهم الذي ينبغي أن نتبه له ، وأن نلتفت إليه .(/3)
وأيضاً تاريخ الهجرة موطن عبرة ، وهذا أمر مهم ؛ فإن تعلّق العبادات جعل مرتبطاً بالتاريخ الهجري وليس بغيره { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } .
جعل الله سبحانه وتعالى أمر العبادات في كثيرٍ من أحوالها مرتبطٌ بالتاريخ الهجري المتميز ، إنه تاريخ هجري مرتبط بالتقويم القمري لا بالشمسي ولا بغيره .
ألسنا نحتاج - كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم - في كل رمضان أن نتحرى الهلال ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ) ؟
ألسنا نحتاج ذلك في الحج ؟ ألسنا نراقب الشهور أولاً بأول ، وننظر في دخولها وخروجها ؟
إن هذا الأمر فيه عدد عظيم من الحِكَم والعبر الجليلة .
أمر التحري والمتابعة .. أمرٌ يجعل الإنسان يتيقظ لمرور الأيام ، وتوالي الشهور ، وتعاقب الأعوام .. إنه ليس الإنسان الذي يغمض عينيه ويمشي حتى ينتهي العام فلا ينتبه إلا الذي بعده .. إنه في كل وقت يتذكر ويتحرى .. إنه في كل لحظة يحسّ قيمة الزمن الذي ينصرم وينقضي .
وأيضاً ربط العبادة بذلك الحدث المتعلق بتعاقب الزمان والمكان هو أيضاً أمر يعلّق الإنسان بقدرة الله - سبحانه وتعالى - ويجلي لنا القدرة التي تغيب .
نحن نرى الشمس كل يومٍ ساطعة ، ولكننا نرى القمر وهو يبدأ هلالاً ، ثم ينتصف بدراً ، ثم يعود محاقاً ويرجع هلالاً .. إنه أمرٌ متغيرٌ يدفع إلى التأمل والتدبر ، ويذكّر بعظمة خلق الله سبحانه وتعالى ، ويذكّر - كما أشرنا - بتعاقب وتغير الأحوال ، وانصرام الأزمان وهذا أمرَ مهم .
والعبادة - أيها الأحبة - من حكمة الله أن جعلت مرتبطة بهذا التقويم ، فرمضان مرة في صيف ، وأخرى في ربيع ، وثالثة في شتاءٍ ، ورابعة في خريف وهكذا ..
ليس في كل وقت يكون حجّك أو يكون صيامك في فصل واحدٍ ، وهذا من الحكمة والعبرة ، وفيه تقلب الأحوال وثبات المسلم على طاعة الله . إن كان شتاءً فالصوم هين ، وإن كان صيفاً فالصوم شاق ، وإن كان نهارٌ قصير فالصوم فيه سهل يسير ، وإن كان نهار طويل فالصوم فيه شاق عسير .. وكل ذلك من التقلبات .
والعبد مقيم على طاعة الله كأنما هو تدريبٌ له ، وكأنما هو امتحانٌ له ، وكأنما هو يظهر لربه أنه متقلبٌ في طاعته وملازمٌ لها مهما تغيرت الأحوال والظروف ، وكل هذا فيه عظة وعبرة .
لوثبتنا على التاريخ الميلادي - كما يقال - فإن كل الأحوال التي قد نختارها أو الزمن الذي قد يعين يبقى إما صيف وإما شتاء ؛ لأنه تقويم شمسي يعتمد على الشمس في صيفها وشتائها لا يتغيران وهذه حكمة عظيمة .
فالذين يرون التاريخ الهجري هو مجرد تاريخٍ عادي و يلتفتون إليه في رمضان أو في الحج مرةً واحدة يفوتون الكثير والكثير مما أشرنا إليه .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن أمر ارتباط الأمة بالتاريخ الهجري أمر له دلالات كثيرة ، وله فوائد عظيمة ، وإن الأمر الذي ينبغي أن ننتبه له هو : " ضرورة حفاظ الأمة على هويتها في كل جانب من الجوانب " صغيرة كانت أو كبيرة ؛ لأن الذي يتهاون في الصغير من الأمور يوشك أن يقع في الكبير منها .
ولأننا نستقبل الآن - كما يقولون - زمن العولمة الذي يقصدون به : ( أن تصبح الكرة الأرضية كلها عالم واحد " ، ومعنى ذلك أن يكون كل شيء فيها واحد .
وأي شيءِ هذا الواحد الذي يريدونه ؟ إنه ما هم عليه ؛ لأنهم يملكون إلى حد ما في تصورهم القوة لفرضه على الناس .. يريدون أن يفرضوا نظامهم الاقتصادي ، وتقويمهم التاريخي ، ونظامهم الاجتماعي .. وغير ذلك من الأمور .
ألا ترى ما يتوالى من المؤتمرات ، وما يعقد من الندوات ، وما يقال من عدم ضرورة لخصوصيات ، وما يذاع ويعلى شأنه من اختلاط وتلاقح وحوار الحضارات وامتزاج واختلاط وارتباط الثقافات ؟
إن هذا كله مقصود به أن تكون هذه الأمة - الذي يفوق سائر أمم الأرض جميعاً ، فليس في الأمم أمةُ كأمة الإسلام عدتها على دينِ واحدِ مثل أمة الإسلام – أمة تابعة لهم .
وأيضاَ لننظر إلى جانب أخر وهو جانب : المواقع والثروات لبلاد الأمة الإسلامية
يراد أيضاً أن تنزع هذه المزية ، فضلاً عن القضايا العقدية والإيمانية والتاريخية والتراثية واللغوية والحضارية ..كل هذا في موجة عاتية تصبّ علينا عبر صحفٍ ومجلات ، وعبر قنوات وشاشات ، وعبر ندوات ومؤتمرات حتى صمت الآذان وصرنا - كما قلت - نسمع عام ألفين أكثر مما نسمع عام كذا من الهجرة وعام كذا من الهجرة ! وحتى صار كثير من الأمور يتحول تحولاً عجيباً وسريعاً نحو هذا التأقلم والتطبع والتغير الذي يفرض فيه القوي مبدأه على الضعيف .
ونحن في هذا الموقف وفي هذا الموطن ، وفي هذا الدرس والعبرة ، وعند مفتتح العام وبداية إطلالته نذكر بأننا أمةٌ متميزة سابقة ، لا بد أن تكون كذلك ؛ لأن الله أرادها أن تكون كذلك .(/4)
وأيضاَ أن نتذكر ما في الهجرة من المعاني والدروس والعظات والعبر ، وأن ننظر إلى الحِكَم التي جعل الله - عز وجل - فيها ارتباط العبادات بهذه الأشهر القمرية ، بما فيه من كثير وكثير مما ذكرته ، ومما لم أذكره أكثر ولذلك هذه الوقفة إنما هي للانتباه إلى أن الخصائص الكثيرة في الأمور التي يعدها بعض الناس يسيرة لها أهمية عظيمة .
فليس التاريخ - كما قلنا - مجرد أرقام تكتب هكذا أو هكذا ، وليس مجرد أيام أو أشهر قد تزيد أو قد تنقص ، وإنما هو - كما قلنا - هوية أمة ، وأساس عبادة ، وارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام .
ولذلك نذكّر أنفسنا بأن نحيي هذه المعاني في قلوبنا ، وأن نتذكرها في أذهاننا ، وأن ننتبه ونفطن لما يحاك حولنا ، ولما يدبر لنا ، ولما يُهيأ حتى نقبله ونحن فرحون به ، وأحيانا ونحن مفتخرون به ، وأحياناً ونحن مجادلون عنه ، وأحياناً ونحن داعون إليه ، وأحياناً ونحن مقاتلون لأجل فرضه .. وما ندري أننا ننقض عروة من عرى أمتنا ، وشيئاً من أصالتها وقوتها وهويتها .
--------------------------------------------------------------------------------
إسلاميات
...
...(/5)
... ... ...
واجب الآباء نحو الأبناء في الغرب ... ... ...
أحمد عبد الكريم نجيب ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية اختيار الزوجة الصالحة. 2- تربية الأبناء واجب شرعي. 3- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال. 4- واجب من تربية الأبناء وبذل المستطاع في ذلك. 5- خطر وجود الأبناء في مدارس نصرانية. 6- الحزبية المقيتة التي تنتشر بين المسلمين. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أمّة الإسلام، إن ممّا ابتلينا به وأُلجِئنا إليه لسبب أو لآخر، أن نعيش غرباء في مجتمعات ننكر فيها أكثر ممّا نقر، فتجتمع علينا غربة الدار وغربة الدين، في زمن الضعف والدعة الذي آلت إليه أمّتنا .
وانطلاقاً من يقيننا في أنّ صلاح آخر هذه الأمّة لا يكون إلا بما صلح به أوّلها، وأن السبيل إلى ذلك هو التربية والتخلية والتحلية، لبناء مجتمع مسلم مؤهل للتمكين في الأرض، نرى لزاماً علينا أن نحرص على أولى لبنات هذا المجتمع، وهو الأسرة التي تصلح بصلاح أفرادها وتفسد بفسادهم .
وأوّل ما يجب على المرء لإقامة تلك اللبنة اختيار الأم ذات الدين، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((اظفر بذات الدين تربت يداك)).
تُرجى النساء لأربعٍ في ذاتها فيها المناقب والمثالب والبَلا
في الدين أوّلها تليه نضارة في الوجه أو مالٌ وأصلٌ في المَلا
فإذا ابتغيتَ من الأنام حليلةً فاظفَر بذات الدينِ شرطاً أوّلا
وإنّ أعظم مسؤوليات المسلم تجاه أسرته بعد اختيار الزوجة تكمن في تربية أبنائه التربية الصالحة، ورعايتهم الرعاية الشرعيّة التي كلّفه الشارع بها، وهذا مضمار ابتلاء وامتحان للعباد، لا يجوزه إلا من وفقه الله وأراد به خيراً .
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، أي سبب في امتحان آبائهم واختبارهم.
وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها المتفق على صحته يقول المصطفى صلى الله عليه وسلّّّم: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار)).
وتأمل قوله: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء))، قال القرطبي في تفسيره: "سماهن بلاءً لما ينشأ عنهن من العار أحياناً".
ومن أراد النجاة، سلك سبلها، ومن سبلها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم ولزوم غرزه في تربية الناشئة، وتعاهدهم بالعناية والرعاية .
ومن ذلك تهيئة الطفل لما ينبغي أن يكون عليه، أو يصير عليه في كبره كالقيادة والريادة والإمامة، وكفى دليلاً على ذلك تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً على جيش يغزو الروم في بلاد الشام، وفيه كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وبعثه معاذ بن جبل رضي الله عنه أميراً على اليمن وهو في التاسعة عشرة من العمر .
ومن هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: ((صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً)) . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا إسْتَ قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصاً، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ.
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه وسلّم، والأغرب من ذلك أنّه تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار ثوبه عن سوأته .
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال: تعويدهم على فعل الخيرات، ومنه ارتياد المساجد للصلاة والتعلّم والتعبد.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: (حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة).
ولهذا القول ما يؤيده في السنّة فقد روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (( الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)).(/1)
وقد ورد في السنّة ما يدل على مشروعية تعويد الصغار على الصيام وصلاة الجماعة واصطحابهم للحج صغاراً ومن ذلك: روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: (( مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ)). قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
قال ابن حجر: "في الحديث حجة على مشروعيّة تمرين الصبيان على الصيام".
- ومن هديه عليه الصلاة والسلام أيضاً ربط الأبناء بالمساجد وتوجيههم إليها، بل كان يذهب أكثر من ذلك فيتجوز في صلاته مراعاة لحال الصبية الذين تصطحبهم أمهاتهم إلى المسجد .
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)) .
فالمسجد إذاً روضة يجتمع فيها الصغير والكبير ويرتادها الرجل والمرأة، وإن كان بيت المرأة خير لها، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم، ويأخذون العلم عن نبيهم الذي قال: ((من جاء مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه، فهو كالمجاهد في سبيل الله))، وهذا حديث حسن بشواهده: أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال عنه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ فقد احتجا بجميع رواته، ولم يخرجاه، ولا أعلم له علة .اهـ .
لذلك كان المسجد المدرسة الأولى، والجامعة الأم التي تنشر العلم، وتشيع المعارف بين الناس، وهو المكان الأفضل والأمثل لهذا المقصد العظيم، وينبغي أن لا يعدل به شيءٌ في تعليم الناس والدعوة إلى الله إلا لضرورة.
وما تنكبت الأمة ولا امتهنت علوم الشريعة، ولا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد في التعليم.
أيها المسلمون، إن المسؤولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى البيت مسؤولية، وعلى المدرسة ومناهج التعليم فيها مسؤولية، وعلى الإعلام والقائمين عليه مسؤولية، وعلى البيئة والمجتمع مسؤولية .
وليس في تقصير البعض ما يبرر إعراض الآخرين عن القيام بالواجب أو تقصيرهم فيه، لأن الخطأ لا يبرر خطأً آخر .
وإذا كان الوالدان من الصالحين فاجتهدا في تربية أبنائهما تربية ترضي الله سبحانه، خرّجا جيلاً سويّاً رشيداً، أمّا إن قصّرا في ذلك فربّما تمخّض غرسهما عن عاق أو معوّق ينحرف عن الطريق، ويصير وبالاً على نفسه وأسرته ومجتمعه .
ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ [يونس:31]، الذي قيل في تفسيره: إن الله تعالى يُعقب الكافر بابن مؤمن، والفاسق بابن صالح، كما قد يُعقِب الصالح والمؤمن بابن فاسق أو كافر .
وبرهان ذلك جليٌّ واضح في قصة نبي الله نوح عليه السلام وابنه الذي كابر وأصر على الكُفر حتى مات عليه، وكان من الهالكين .
فتحمّل أخي المسلم مسؤوليتك كاملةً وكن لابنك كما كان نبيّك لأولاده وأولاد المسلمين، أباً رحيماً ومربّياً حكيماً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو التوّاب الرحيم . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
إخوة الإسلام، لو عُدنا إلى واقعنا المعاصر، ووضعنا أيدينا على موطن المعاناة وسبب البلاء، لوجدنا أنّ لإقامتنا في مجتمع غربي الثقافة، مادي النزعة، فاسد العقيدة ثمن باهظ ندفعه، وأثر سيءٌ في تربية أبنائنا شئنا أم أبينا .
وهنا لا بد من التحذير من لوثتين يعاني منهما الكبار قبل الصغار في ديار المهجر وهما :
أوّلاً: الافتقار إلى منارات تربويّة تجمع بين سلامة المعتقد وأصالة المنهج، كمدارس تحفيظ القرآن الكريم، ودور الرعاية والحضانة والتربية والتعليم، وإن وجد شيء من ذلك فهو على علاته لا يفي بالمطلوب، ولا يرقى إلى المستوى المنشود، ممّا يزيد من مسؤولية الآباء والدور المناط بهم لأداء الواجب .(/2)
وإنني لأعجبُ غاية العَجب ممّن يزجّ بأبنائه في مدارس غير إسلاميّة تدرّس العقيدة النصرانيّة وتبدأ دروسها بالصلاة الصليبيّة والترانيم الدينيّة الباطلة، وربّما ظنّ بعضهم أنّه حصّن أبناءه من هذا البلاء بتسجيل ابنه في مدرسةٍ على هذه الحال شريطة عدم مشاركته في أنشطتها الدينيّة والتعبّديّة، وهذا المسكين قد أُتي من قبل فهمه وأخلّ به تفرّسه، فما ظنك بمستقبل طفل ينشئ على قرع النواقيس وترانيم الكنائس ويفتتح بها كلّ صباح قبل دخول فصله المدرسي، وينزوي في زاوية من زوايا المدرسة كالفريد الطريد، وتعتلج الشكوك والظنون والتساؤلات الملحة في نفسه، فيخرج وقد استمرأ الضلالة، ولم يعد وجهه يتمعر غضباً لله تعالى إذا مرّ بها وببعضها، فأيّ نجاةٍ من الفتن أدرك، وأي علم وتربية أحرز .
وهنا أقول لأولياء الأمور :علّموا أولادكم في بيوتكم أو وجهوهم إلى المدارس الإسلامية والقرآنيّة في هذه البلاد على قلّتها وعلاّتها، فما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه .
ولا يقولنّ قائلٌ: إن في هذا موازنة بين مصالح المدارس ومفاسدها، أو خيرها وشرّها، فإن بعض الشر قد أطل على الأمّة وأضر بالصحوة من سوء وضع الأمور في موضعها أو تقديرها قدرها، أو الموازنة في الحكم عليها، وما رافق ذلك من إفراطٍ وتفريط .
وثانياً: إنّ الكثير من المراكز والمدارس الإسلاميّة في الغرب تئط وتئن تحت آصار حزبيّة مقيتة، وتدور في فلك جماعات وأحزاب ترسم سياساتها، وهذا قد يغرس في أذهان الطلاّب الجنوح إلى التحزّب أو الانتساب إلى بعض الجماعات العاملة في الساحة، ما عُرف منها وما لم يُعرف، وكما أنّنا دَأَبْنا على الدعوة إلى التعاون الشرعي بديلاً عن التعصّب الحزبي، وحذّرنا ونحذّر أنفسنا وإخواننا من الأحزاب والتحزب والتحزيب، والتعصب والموالاة والمعاداة على الأسس الحزبية، وفي أُطُرٍ جماعيّة فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان، فإننا ندعو الآباء ليأخذوا بحُجَز أبنائهم عن ذلك كلّه، بتحصينهم وتوجيههم إلى منهج أهل السنّة والجماعة كما عرفه ولزمه السلف الصالح وأوصوا وتواصوا به .
ولا أقول هذا من فراغ، كما لا أختلق قضيّةً لا وجود لها، فأنا أحد أطراف المعاناة، وقد بكيت ـ وحق لي أن أبكي ـ وأنا أسمع سؤال ابنتي ذات السنوات الثمان وهي تقول لي: أبتاه! يسألني الطلاّب: هل أنا قطبيّة أو سروريّة أو إخوانيّة أو سلفيّة أو غير ذلك، ماذا أقول؟
فوا حرّ قلبي على هذا الواقع، وأنى لي ولإخواني أن نحرز النجاة في زمن الفتنة .
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنّه يراه، وصلّوا وسلّموا على عبده ورسوله محمّد وآله وصحبه ومن والاه. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
واجب المسلم تجاه السنة النبوية
" أحمد سعد الدين "
لا شك أننا أمام هجمة جديدة على السنة النبوية الشريفة، ونرى أنه على المسلم المعاصر بعض الواجبات تجاهها، منها:
أولاً: اعتقاد حُجيتها:
أول ما يجب علينا تجاه السنة النبوية أن نعتقد حجيتها، وأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله جل وعلا، والبعْدية هنا في الفضل، أما في الاحتجاج فحجية السنة كحجية الكتاب ومن واجبنا أن نعتقد أن كليهما وحي من عند الله جل وعلا. فعن حسان بن عطية قال: "كان جبريل ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن". وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وكان فضل الله عليك عظيمًا} سورة النساء:113. وقال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى . إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} سورة النجم: 3 -4؛ ولذا عنون الخطيب -في "الكفاية"- بقوله: ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السنن عن المقدام بن معد يكرِب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه، ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه حلالاً فأحلوه، وما وجدتم فيه حراما فحرموه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله "، والأدلة على حجية السنة كثيرة مشهورة، والكلام في ذلك يطول فنكتفي بهذه الإشارة الموجزة الواضحة.
ثانياً: عدم معارضتها بآراء الرجال وأذواقهم، والذبّ عنها وردّ شبهات المنافقين واللادينيين؛ فالواجب تقديم النقل على العقل، وفي الحقيقة ليس في السنة الصحيحة ما يعارض العقل الصحيح أو صريح المعقول وحيثما توهمنا التعارض في الظاهر فلنعلمْ -دون تردُّد- أن الحق ما جاءت به السنة الصحيحة وأن العقل -لا محالة- سيدرك ذلك عاجلا أو آجلا. فالسنة لا تُعارَض بآراء الرجال، ولكن ليس معنى ذلك أن المرء -لأول وهلة- إذا قرأ حديثا يخالف أقوال العلماء يتجرأ، ويقول: هؤلاء العلماء خالفوا الحديث، ولا يكلف نفسه أن يعرف مستند العلماء ووجه قولهم؛ فهذا التصرف من الجهل والتطاول على أهل العلم، وإنما المقصود أن المسلم إذا بحث في معنى الحديث، وقول مَن خالف الحديث من العلماء، واجتهد في ذلك فظهر له أن الحديث كما فهمه، وأن العلماء قرروا ما فهمه ومَن خالف لم يظهر لمخالفته وجه راجح، فحينئذ عليه الأخذ بالحديث دون قول مَن خالفه. أما أن تكون المسألة مجرد تسرُّع وتطاول على العلماء مع الجهل بوجه الحديث وعدم تكليف النفس الوقوف على تفسيره عند السلف والعلماء فهذا شذوذ وإفساد وليس تمسكا بها.
ثالثاً: بذل الأسباب لحفظها من الضياع:
وحفظ السنة من الضياع أمر تكفل به رب العزة جل وعلا حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}سورة الحجر:9، ولكن ذلك لا يعفينا من السعي في حفظها كما سعى الصحابة في حفظ كتاب الله من الضياع والتحريف، مع أن الله جل وعلا متكفل بحفظه، ومن ثم جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن وكتب عثمان رضي الله عنه المصاحف، وكما اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بحفظ كتاب الله جل وعلا فكذا كانت عنايتهم شديدة بالسنة والمحافظة عليها ولنا فيهم أسوة حسنة. لقد كان سعيهم في حفظها من الضياع بوسيلتين، هما الحفظ والتدوين، ولكل منهما دوره في حفظ السنة، فإنه إذا فُقد الرجال الحفاظ بقيت المخطوطات والكتب، فيحملها قوم من جديد، وإذا فقدت المخطوطات والكتب بقي الرجال يحملون السنة في صدورهم، فيمكن كتابتها من جديد.
رابعاً: الاجتهاد في تنقيتها من الكذب وتمييز صحيحها من ضعيفها:
وهذا الواجب -وهو تحقيق الحديث النبوي- فرض كفاية، ولا يزال ملقى على عاتق الأمة منذ وقوع الفتن في الصدر الأول وإلى الآن. وليس مطلوباً من المشتغلين بعلم الحديث أن يكفّوا عن مواصلة جهودهم في هذا الشأن والاستفادة من مشايخه، كلا، وإنما المطلوب ألا ينسوا دورهم في قيادة الأمة، وفي حفظ عقيدتها وشريعتها في الواقع العملي من المسخ والتحريف.
خامساً: تدارسها والسعي إلى نشرها وإحيائها وتبصير الناس بها:(/1)
فينبغي أن يشيع بيننا دراسة الحديث النبوي الشريف وفهمه، وليكن ذلك في بيوتنا وفي مساجدنا، كلٌّ حسب طاقته، فقد يلتقي البعض على دراسة "الأربعين النووية"، ويقرأ آخرون في "رياض الصالحين"، وآخرون يتدارسون "جامع العلوم والِحكَم"، وآخرون يتدارسون كتب السنة كالصحيحين وغيرهما. ثم ينبغي لمن وعى ذلك أن يسعى في نشره وتبصير الناس به كما في الحديث الصحيح عند أبي داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع" ويلحق بذلك إحياء السنن المهجورة وحث الناس عليها، وإحياء السنن المهجورة هو المقصود في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره: "مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.."، فالحديث وارد في إحياء سنة وحث الناس عليها، وقصته أن قوما فقراء مخرقي الثياب قدموا المسجد، فقام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصدق عليهم فتبعه الناس واقتدوا بفعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث مُثنياً على ذلك الرجل.
لكن توجد هنا ملاحظة: وهي مراعاة التدرج والرفق في إحياء هذه السنن، فبعض الناس قد يستنكرون -بشدة- بعض السنن بعدما قضوا دهرا طويلاً من أعمارهم لم يسمعوا بها، وحينئذ ينبغي أن يكون موقفناً وسطاً بين طرفين، بين مَن يتجاهل هجران تلك السنة ويرى عدم المحاولة في هذه الحالة، ومَن يريد تغيير هذا الهجران بشدة -أو على الفور- مهما أدى إليه من فتنة أو نفور أو وحشة بين الناس وحَمَلة السنة، فالأول متقاعس عن القيام بدوره نحو السنة، والآخر أراد القيام بدوره، لكن دون فقه، كمن يبني قصراً ويهدم مِصراً، فليس كل مَن ابتغى خيراً أقدم عليه دون نظر في العواقب، وإلا فكم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعل خير ولكن توقفوا دفعاً لشر أو مفسدة أكبر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لولا قومك حديث عهدهم -قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس، وباب يخرجون، ففعله ابن الزبير". ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه لما أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة بمِنى، وكان ابن مسعود يريد السنة، وهي القصر إلا أنه أتم الصلاة وراءه قائلا: "الخلاف شر"، إلى غير ذلك من الأمثلة. والمقصود هو الحرص على إحياء السنة، لكن مع التدرج واتقاء الشرور التي ربما يكون دفْعها أحب إلى الله تعالى من الإتيان بتلك السنة.
سادساً: التمسك بها والتزامها، علماً واعتقاداً، وعملا وسلوكاً والتحلي بأخلاق أهلها:(/2)
وهذا هو المقصود لذاته من حفظ السنة ودراستها، فالعلم يراد للعمل وسعادة العبد في الدنيا والآخرة في التمسك بما في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلحق بها ما سنَّه الخلفاء الراشدون لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ بدعة ضلالة". وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: مَن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". فمن أعظم التمسك والعمل بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الرجوع إليها مع كتاب الله تعالى عند التنازع وردّ الأمور إليها، لا إلى قوانين البشر، ولا يتحقق إيمان لأحد إذا لم يكن احتكامه للكتاب والسنة، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ} سورة النساء:59، وكما قال العلماء فالرد يكون إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد مماته، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} سورة النساء:65، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} سورة الأحزاب:36. قال ابن سِيرين: "كانوا -أي الصحابة- يتعلمون الهدى (أي السيرة والهيئة والطريقة والسَّمْت) كما يتعلمون العلم". وقال بعضهم لابنه: "يا بني لأن تتعلم باباً من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم". وقال أبو حنيفة: "الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم". وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين". وقال ابن المبارك رحمه الله: "تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة". وعن الحسن قال: "كان طالب العلم يرى ذلك في سمعه وبصره وتخشعه". ونختم بقول الشافعي رحمه الله: "ليس العلم ما حُفظ، العلم ما نَفع".(/3)
واحة التوحيد
من نور كتاب الله
ليست الكثرة علامة على الحق
قال تعالى: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون {المائدة:100}.
من هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
تعريف الزائر بنفسه
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دَينٍ كان على أبي، فدققت الباب، فقال: "من ذا؟" فقلت: أنا. فقال: "أنا أنا". كأنه كرهها. {صحيح البخاري}
من فضائل الصحابة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعِد أُحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبيٌّ وصديق وشهيدان".
{صحيح البخاري}
من درر التفاسير
قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير قوله تعالى: واقصد في مشيك واغضض من صوتك {لقمان: 19}: "أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه"، ولهذا قال: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ، وقال مجاهد: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير : "أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا فهو بغيض إلى الله، والتشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم".
{تفسير ابن كثير}
حكم ومواعظ
قال طاووس رحمه الله: "إن من السنة أن نوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد".
{الدر المنثور للسيوطي}
قال يحيى بن معاذ الرازي: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات. {ص3315 عن مدارك السالكين}
قال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: "الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب إسبال الدمعة وحب الخلوة والمحاسبة للنفس عند كل همة". {ذم الهوى لابن الجوزي}
من مكارم الأخلاق
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث، وصدق التأسي في طاعة الله، وإعطاء السائل، ومكافأة الصنيع، وصلة الرحم، وأداء الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف ورأسهن الحياء". {مكارم الأخلاق ابن أبي الدنيا}
النصر الحقيقي
قال ابن المبارك: قوله صلى الله عليه وسلم: "النصر مع الصبر" يشمل النصر في الجهادين، جهاد العدو الظاهر وجهاد العدو الباطن، فمن صبر فيهما نصر وظفر بعدوه، ومن لم يصبر فيهما وجزع قهر وصار أسيرًا لعدوه أو قتيلاً له. {جامع العلوم والحكم ص172}
من فقه النصيحة
قال ابن رجب رحمه الله: كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه. {جامع العلوم والحكم ص71}
من أمثال العرب
الرائد لا يكذب أهله
الرائد لغة: الذي يتقدم القوم لطلب الماء والكلأ لهم فإن كذَبَهم أفسد أمرهم وأمْرَ نفسه معهم، لأنه واحد منهم. ويضرب مثلاً لمن تولى من أمر الناس شيئًا وكان لهم ناصحًا أمينًا غير كاذب ولا غاش لهم.
{جمهرة الأمثال 1-474}
صريح الإيمان
في حديث الوسوسة: "ذاك صريح الإيمان" أي: كراهتكم له وتفاديكم منه صريح الإيمان، والصريح: الخالص من كل شيء، وهو ضد الكناية، يعني أنه صريح الإيمان الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم حتى يصير ذلك وسوسة لا تتمكن في قلوبكم، ولا تطمئن إليه نفوسكم، وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريحُ الإيمان؛ لأنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله، فكيف يكون إيمانًا صريحًا. {النهاية لابن الأثير 20-3}
من نصائح السلف
قال محمد بن الحسين: "دخلت على محمد بن مقاتل، فقلت له: عظني، فقال: اعمل فإن مت لم تعد أبدًا، وانظر إلى الذاهبين هل عادوا؟
تذهب أيامنا على لعبٍ
منها والذنوب تزداد
أين أحبابنا وبهجتهم؟
بطيب أيام عيشهم بادوا
{نضرة النعيم 387-2}
العفو من الفضائل
قال الفضيل: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله- عز وجل- فَقُلْ: فإن كنت تحسن تنتصر مثلاً بمثل وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه باب أوسع؛ فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
الزم جماعة المسلمين وإمامهم
عن سماك بن الوليد الحنفي؛ أنه لقي ابن عباس فقال: "ما تقول في سلاطين علينا يظلموننا، ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم؟ قال: لا، أعطهم، الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها، أما سمعت قول الله: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ". {الدر المنثور للسيوطي}(/1)
واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- ضرورة الاعتبار بقصص السابقين. 2- ابتلاء الله لليهود بالسبت. 3- عقوبة الله للظالمين. 4- واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، اتقوه وراقبوه، لئلا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا يبغي بعضكم على بعض، وتكونوا عباد الله إخوانا.
أيها الناس، إن كتاب الله عز وجل هو المنبع الثرُّ للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، المثمرة الاعتبار والادكار، اللذين يحفزان إلى الخير، وينقذان من ترادف الزلات، وحلقات الانحراف، ومن ندّ عن السويّ من ذلك فما هو بحي، ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت، وإن طار في السماء أو غاص في الماء، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
ألا وإن المرء المؤمن حينما يغشى معالم كتاب ربه بقلب غير مقفول، لهو كمتعبد يغشى في مصلاه، ولربما أكرمه مولاه جزاء تدبره فلم يخطئ، دمع عينه مجراه، يغدو في خمائل القصص والعبر، يمتح من هذه، وينهل من تلك، متأولاً قول ربه ـ سبحانه ـ: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
إن مثل آيات القصص ـ عباد الله ـ لجديرة بحق، أن نقف عند معانيها، وما ترمي إليه من دروس وعظات، ينبغي ألا تذهب هدراً على ذوي الألباب؛ إذ ليس شيء أنفع للمرء من تدبر القرآن، وإطالة النظر في عواقب المثلات التي قد عفت، فيرى لعن اليهود ومسخهم، ويقرأ غرق فرعون ذي الأوتاد، وخسف قارون، ويتأمل عذاب إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فيعيش المرء مع القرآن حتى كأنه في الآخرة، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
عباد الله، يقول ربنا ـ جل وعلا ـ في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:163-166].
هذه الآيات ـ عباد الله ـ إنما هي بسط في المقام لما أجمل في قوله ـ سبحانه ـ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]. والمقرر ـ عباد الله ـ أن من خصائص القرآن الكريم، الإجمال في موضع، والبيان في موضع آخر، لأجل أن تشرئب النفوس إلى معرفة التأويل، وربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، وليس ذلك إلا للقرآن خاصة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].(/1)
أيها الناس، إن حاصل معنى آيات الأعراف هذه، هو أن اليهود المعارضين لرسالة محمد زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به؛ ولذا أمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور، هذه القرية أهلها من اليهود وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله؛ حيث إنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله ـ سبحانه ـ قد ابتلاهم في أمر الحيتان بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كانوا يوم السبت جاءتهم في الماء شُرّعا مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت بجملتها، ففتنهم ذلك وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وكانت في الحفرة ألقوا فيها حجار فمنعوها من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها، حتى كثر صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164]. فلما لم يستجب العاصون؛ أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:166]. فسرّي عنه وكساني حلةً.
عباد الله، إننا بحاجة ماسة إلى أن نرفع الستار، ونلي الضوء الواعظ على هذه الآيات الكريمات، التي تتمخض عنها دروس ثرة، ووصايا حثيثة، نوجز منها على سبيل المثال لا الحصر: ما أوضحه الله في هذه الآيات مما تنطوي عليه طبائع اليهود، من خبث ومكر، وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحِرْباء مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات، قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة:60].
لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:30-32]. لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم أنهم يقودون إلى تقوى، أو يعرفون بمهادنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة وهي أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل جيل ما أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غير وبدل.
إن التاريخ صفحات متتابعة، يُطوى منها اليوم ما يطوى، ويُنشر منها غداً ما ينشر، وإن الله ـ جل شأنه ـ يختبر بالرفعة والوضاعة، بالزلزلة والتمكين، بالخوف والأمن، بالضحك والبكاء: وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44]. كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتُخرس الألسن التي مُرنت الجدل، فإن ناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأنعام:23، 24].
ولأجل ذا ـ عباد الله ـ جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.
ومن الدروس المستفادة ـ عباد الله ـ: أنه ينبغي على أهل العلم وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.(/2)
ولا يمنع من التمادي على الوعظ بالأمر والنهي والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قبل أو لم يُقبل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]. ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة؛ ولأجل ذلك قال النبي : ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) [رواه البخاري ومسلم][1].
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
[1] صحيح البخاري ح (3346)، صحيح مسلم ح (2880). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين.
أما بعد:
فإن من الدروس المستفادة من الآيات ـ عباد الله ـ، أن التهوين من شأن الإصلاح أو التخذيل أو الإرجاف فيه، ليس من سمات الأمة المسلمة الحقة، وأن مقولة بعضهم: "دع الناس وشأنهم فربهم رقيب عليهم"، ليس من السنة في شيء، إنما هو في الواقع إقعاد بكل صراط يوعد فيه، ويصد عن سبيل الله من آمن، وحينئذ لابد من معرفة العاقبة، لمن كان ديدنه كذلك: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164]. ومن هنا ـ عباد الله ـ جاء حذر ابن عباس من أن يكون ومن معه من الفرقة الثالثة.
وبعد، فيا ـ رعاكم الله ـ:
ليت شعري من لم يكن بالحق مقتنعاً يخلي الطريق ولا يوهن من اقتنعا
ومن الدروس ـ عباد الله ـ، أن الشارع الحكيم جاء بسد الذرائع، المفضية إلى ما حرم الله ورسوله ، وأن شيئا من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله لا يجوز ألبتة؛ لأن الحيل طرق خفية يتوصل بها إلى حصول الغرض، بحيث لا يُفطن لها إلا بنوع من الذكاء والفطنة، وهي وإن كانت تخفى على جملة من البشر؛ إلا أنها لا تخفى على رب البشر؛ إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
وأياً كانت هذه الحيل، في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو نحوها، لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين، لا سيما في البنوك والمصارف، أو في الهيئات، والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية، أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا، فيُخدع ببهرجتها السذج، ويُغرُّ بها الذين ينشدون الكسب الحلال، فيوقعونهم في شرّ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتمع، وجمع المتفرق. ولقد كتب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فريضة الصدقة التي فرض رسول الله : ((ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) [رواه البخاري][1].
ومن ذلك ـ عباد الله ـ، الحيل في إباحة المطلقة طلاقاً لا رجوع فيه، نتيجة شقاق ورعونة عقل، أعقبها ندم، ولات ساعة مندم، ثم لا تسألوا بعدها ـ عباد الله ـ عن كذا حيلة وحيلة يزوّرها في نفسه، ويخدع بها في إباحة ما حرم من لا يعرف الحيل، إلا على المحتال فلا؛ لأنه هو طبيبها، ويا محنة الأجيال بالمحتال، ولا غرو أن يقع أولئك في أتون الإثم، والتعدي على حدود الله، ناسين أو متناسين قول النبي فيما رواه أبو عبد الله بن بطة بسند جيد أن النبي قال: ((لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) [2].(/3)
وثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)) [3]، وغير ذلك كثير وكثير، وما الأمثلة المطروحة إلا شعبة في واد، وترّة من نبع، القصد من ورائها تنبيه الغافلين، وإنذار المتغافلين، والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كدر في الصفو، وعطب في النية والمقصد، وهي وإن تقالّها ثلة من الناس، فان هذا لا يهوّن من شأنها، فإن القليل بالقليل يكثر، وإن الصفاء بالقذى ليكدر.
اللهم صل على محمد...
[1] صحيح البخاري ح (1450).
[2] إبطال الحيل لابن بطة ص 24 [نقلاً عن ارواء الغليل للألباني (5/375)].
[3] صحيح البخاري ح (2223)، صحيح مسلم ح (1582). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
وافق شن طبقة (في التشبه بالكفار)
184
اللباس والزينة, الولاء والبراء
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- التحذير من التشبه بالكفار. 2- أشكال من التشبه بالكفار. 3- الدعوة للرجوع إلى الكتاب والسنة. 4- استجابة المرأة لدعوات التشبه بالكفار.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السراء والضراء، وفي الخلوات والجلوات، اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
أيها الناس، إن الناظر المتأمل، في تاريخ الأمم والشعوب، ليعجب أشد العجب ولتأخذه الحيرة أخذا مسرعا، لما يظهر له مما يطرأ على الأمم والشعوب، من التغيرات والتقلبات، أمة قائدة رائدة، دهورا مديدة من الزمن، تعثر ركابها فسقطت رايتها، فإذا هي في مهاوي التقليد الأعمى، تتبع آثار الأمم سواها في كل نهج وسلوك، على حين أنها أمة في أعلى مراقي الحياة، وأوج العزة والقوة، إذا هي تتدهده في الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد، تموت بعد حياة، وتسفل بعد علو، وتذبل بعد إزهار.
كانت قد وردت مناهل هذا العلم، وتلك الحضارة الإسلامية البريئة، فصدروا عنها بملء سجلهم، وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم، إلى أن خرج عنهم المفتاح فكأن الباب أغلق دونهم، وظهر من مشكاة الغرب مصابيح محرقة، فكأنما حيل بينهم وبين مصدر الرفعة الأسبق، وتسلط على عضدهم لسان من يعرف ((من أين تؤكل الكتف)). فأخذ المسلمون عنهم رسوما هي من حضارتهم مسترقة، وعلقوا أشنانهم بطبقاتهم، فوافق شن طبقه، فيالها من غنيمة باردة! لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، ولم يزحف إليها بعدو عَيْدِيَّة، ولا بلحاق لاَحِق، وانسكاب سَكاَب[1].
أيها المسلمون، المقلد المحاكي لأهل الكفر والشرك إنما هو أذن وعين ولسان وقلم لنهجهم وفكرهم، يصلح بإفساد، ويداوي الحمى بالطاعون، فهو (كغاسل الحيض ببول أغيرا) ويعمل بتبعيته المهزومة ما يشبه قطع ثدي الأم، وهو في شفتي رضيعها المحضون. وما علم هذا الغِرُّ وأمثاله أن التقليد الأعمى للغرب، فيه ألغام مخبوءة، وأن حقوقنا ومروءاتنا مقتولة بتقليد أعمى، وغرور بليد.
أيها المسلمون، قال رسول الله : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) رواه البخاري ومسلم[2].
وللبخاري عنه أنه قال: ((لا تقوم الساعة، حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟))[3].
فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم.
كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ [التوبة:69].
قال ابن عباس : (ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم).
وقال ابن مسعود : (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟).
عباد الله، لقد كان النبي ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة؛ بل قد تواتر عنه أن طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة.
فالمسلمون هم أهدى الناس طريقا، وأقومهم سبيلا، وأرشدهم سلوكا في هذه الحياة. وقد أقامهم الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
وإن هذا المقام مقامٌ عزيز كريم، كيف يتناسب معه أن يكون المسلمون أتباعا لغيرهم من كل ناعق؟ يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم، ورسول الله نهى المسلمين جميعا أن يتلقوا عن أهل الكتاب. فعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى إلى النبي بكتاب أصحابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه أحمد وابن أبي شيبة[4].(/1)
إن الله تعالى جبل بني آدم بل وسائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط؛ ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، بل إن الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه؛ ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة والوقار في أهل الغنم، وصار الجمالون البغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس، من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة.
وإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم؛ لأن المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدرج الخفي، وهذا ما يشهد به الواقع، فضلا عن بيان الشرع وموافقة العقل، وقديما قيل: (الطيور على أشكالها تقع)، وهذا مثل صحيح، يوافق سنة الله في خلقه، وصدق رسول الله حيث يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داود[5].
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وقد رأينا اليهود والنصارى، الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام.
عباد الله، إن التشبه بأهل الكفر والشرك في أزيائهم وعاداتهم وأحكامهم وسياساتهم واقتصادهم قد جرى في كثير من أوساط المسلمين جريان الدم في العروق، وسرى سريان النار في يابس الحطب، بل ولربما صار المتفرنج المحاكي موضع إجلال الدهماء وإكبارهم، يحتذيه لهازم الناس وأغرارهم، حتى يساير ذلك كله الغوغاء من أبناء هذه الأيام، مترفهم ومثقفهم، بل وحتى من كان على فراش الإملاق منهم. أفٍّ للتقليد والتبعية! ما أثقل أغلالهما! وما أشد عتمة مسالكهما! وما أبخس صفقة الذين لا يتزحزحون عنها!
نعم، أف ثم أف، للتقليد ومسايرات الغرب! فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة، من التبعية الماحقة، وحجبت عنهم أنواع التفكر والتبصر والعزة، وغممت عليهم مطالع السعادة الحقيقية للنفوس.
أف ثم أف للتقليد والتبعيات! فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول، تزج بها في مهاوي العدم، أو تذرها في سجن أقفر، ممنوعا عنها كل ما يحييها.
إن الأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، ويجب ألا تغتر بما تراه من زخرف الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عراها وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
وإن حضارة الغرب، كالسراب، الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد، كأنه بحر طام وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].
ألا فليعلم الضعفاء والمغفلون منا، الذين يحاولون في تبعيتهم أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد، ينتزعونه من المدنية الغربية، ألا فليعلموا أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وإذا كان البعض يشعر في قرارة نفسه أنه لابد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ، أعظم ما يصلح لنا من التغير، وما نصلح به منه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
إننا إذا أخذنا في أسباب القوة، وتمثلت فينا الأخلاق المتينة، من الإرادة والتقوى والإقدام، والحمية الإسلامية، وإذا جعلنا لنا صبغة خاصة تميزنا عن سوانا، وتدل على أننا أهل دين وخلق، إذا كان ذلك كله، فلعمر الله، أي ضير في ذلك كله، وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الحقة، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة :138]. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].(/2)
وأما أن نأخذ من الغرب الكافر عادات وطبائع أجنبية عن ديننا، فلنتذكر أن الإسلام إسلام، وأن الكفر كفر، وأن القوم في نصف الأرض، ونحن في نصفها الآخر، ولقد كنا سادة قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا فيها ومن أثرها في المجتمعات المسلمة الحرة ما أفسد رجولة بعض رجالها وأنوثة بعض نسائها خاصة، لأنهن يندفعن اندفاعا محموما وراء المجهول، في حلبة التقليد الأعمى، لقد راعهن من الغرب بريق مصانعه وطرافة منتجاته، فرضين بالسير وراء الهابطات من نسائه، حتى أصبحن لا يرضين عن أثوابهن إلا بمقدار انطباقها على نماذجهن، الواردات في أزياء نساء الغرب وأشباههن، فإذا رأيت ثوب إحداهن كاسيا يستر بعض العورة، فاعلم أنه صورة من ذلك الأنموذج الجديد. قال عنهن المصطفى : ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن)) رواه البخاري ومسلم[6].
ولما أنشده الأعشى أبياته التي يقول فيها: ((وهن شر غالب لمن غلب)) جعل النبي يرددها ويقول: ((وهن شر غالب لمن غلب)) رواه أحمد[7]. ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]. وقال: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء :34].
أيها المسلمون، إن القيود التي يفرضها الدين على الإنسان، لا يريد بها عذابه ولا حرمانه، إنما يريد بها أن يرتفع بها من الحيوانية الهابطة، إلى الإنسانية الصاعدة، وبذلك ينتصر المسلم على التبعية التحررية، ويتغلب الإيمان والتقوى على الشهوة البَهَميَّة السبعية، وإن كل مجتمع يخرج على هذه القيود أو يهون من شأنها، فإنه يعرض نفسه للخطر ويقرب بها من حافة الهاوية وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [القصص:50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
[1] لاحق وسكّاب فرسان للعرب مشهوران ، والعيدية هي النوق النجائب ، منسوبة إلى بني العيد.
[2] صحيح البخاري ح (7320) ، صحيح مسلمح (2669).
[3] صحيح البخاري ح (7319).
[4] حسن ، مسند أحمد (3/338) ، مصنف ابن أبي شيبة (6/228).
[5] صحيح ، مسند أحمد (2/50) ، سنن أبي داود (4031) ، وانظر فتح الباري (10/274).
[6] صحيح البخاري ح (304) ، صحيح مسلم ح (79).
[7] مسند أحمد (2/201-202) . قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (ح6885) : إسناده صحيح.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور ما أحدث على غير هدً من الله، أو سنة سنها محمد بن عبد الله، فلقد ـ نهى بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ـ عن كل ما يفضي إلى مشابهة الكفار، حتى لقد قال اليهود عنه: ((ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه)) رواه مسلم[1].
وقد نهى فيما رواه مسلم في صحيحه عن الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ونهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعلل ذلك بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار[2].
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها؛ ومع ذلك فقد نهى عن الصلاة في هذا الوقت، حسما لمادة المشابهة بكل طريق.
وعليه فمشابهة أهل الكتاب والكفار من الأعاجم ونحوهم لابد أن تورث عند المسلم نوع مودة لهم، أو هي على الأقل مظنة المودة، فتكون محرمة من هذا الوجه؛ سدا للذريعة، وحسما لمادة حب الكافرين، والولاء لهم، فضلا عن كونها محرمة من وجوه أخرى، بالنصوص الشرعية الواردة وغيرها.
وإننا لندرك بوضوح أن فئاما ممن يتشبهون بالكفار، في لباسهم أو سلوكهم أو عاداتهم، أو يتكلمون بلغتهم، أنهم تميل نفوسهم إلى حبهم وتقديرهم والإعجاب بهم، ومن هنا ينجح أهل الكفر، في أن يروجوا بين المسلمين دعوات مدوية يكون لها رجع الصدى في بعض النفوس المريضة إلى حضارات عالمية، وزمالات أديان، تهدف إلى إذابة الشخصية الإسلامية، حتى إن المتنكر لهم يسمى انعزاليا وانطوائيا، بل ورجعيا ضيق الأفق، معزولا عن العالم، يجب أن يموت في مهده ـ زعموا ـ.
فما المانع عندهم إذاً من أن تصلصل النواقيس، بجانب المآذن المدوية الله أكبر الله أكبر، وما المانع عندهم أن تتعانق الأديان على أرض جزيرة العرب، ناسين أو متناسين قول المصطفى : ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)) رواه مالك وأحمد بنحوه[3].(/3)
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] صحيح مسلم ح (302).
[2] المصدر السابق ح (858 ، 832).
[3] موطأ مالك (2/892) وهو مرسل ، أما حديث أحمد فهو في المسند (1/22) وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال حين اشتد به الوجع: ((ايتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)) وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ((أوحي بثلاث)) قال : ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب..)) الحديث.
قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (1935): إسناده صحيح.(/4)
واقع اليهود وحقيقتهم
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن من أهم الأدوار التي يمكن وينبغي أن نقوم بها ، وأن نحرص عليها معرفة حقيقة الأعداء .. اعرف عدوك حتى تستطيع أن تواجهه ، وأن تعرف مواطن ضعفه ، ولعلنا اليوم ونحن نرى بغي اليهود ، وعلوهم ، وغطرستهم ، وما هم عليه من ذلك الكبر والعظمة ، التي تلقي في قلوب الخونة والخورة الهول والرعب ، لعلنا - ونحن نرى ما يشيعونه من أسطورة الجيش الذي لا يقهر ، ونحن نسمع عن ترسانة عسكرية هائلة ، ونحن نعلم عن أسلحة نووية مدمرة - ولعل كثير من المسلمين قد خامر قلوبهم وعقولهم عظمة الأعداء ، وشدة قوتهم ، ومتانة صفهم ونحو ذلك ، مما ينبغي أن نعرف حقائقه ، وأن ننظر إلى صور ذلك المجتمع الملفق من شذاذ الأرض ، الذين تجمعوا من آفاق الدنيا ، فتجمعت بهم رذائل الدنيا كلها في ذلك المجتمع العنصري البغيض .
ولعلنا ونحن نكشف بعض وجوه الخذل والضعف في تلك الدولة المزعومة نتساءل : كيف إذن - مع كل صور الضعف ، وكل مظاهر التفكك الداخلي - يستطيعون أن يبرزوا كقوة ترهب أكثر من ألف مليون مسلم ، وكيف يظهرون كدولة لا يجرؤ أحد في العالم كله وخاصة العالم الغربي الذي يدعي القوة ، والذي يحرص على العدالة ، والذي يوهم الناس أنه يقيم قسطاس العدل في الدنيا كلها ... لا يستطيع أحد ليس مجرد أن يقف موقف عداء ضدهم ، أو أن يقف موقف عدالة ونزاهة إزاء عدوانهم ، ليس ذلك ، بل لا يستطيع أحد أن يتكلم بكلمة واحدة ، وإن أخطأ أتهم بأنه عدو للسامية ، وأنه لا بد يحاكم على تلك العنصرية ، بل إننا رأينا عجباً من دول فتية قوية وهي تدفع الجزية لليهود عن جرائم وهمية ، وتعتذر لهم بكل الصور والوسائل الإعلامية عن ما سببته لهم من أخطاء أو اعتداء أو نحو ذلك .. لننظر إلى صورة في إحصاءات لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات من داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي ، وبإحصاءات ودراسات قامت بها مراكزهم ، ونشرت في صحائفهم ، وظهرت في حوارات مجتمعهم :
" ثلاثة وعشرون ونصف % من الطلاب الذين أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين يتعاطون المخدرات ، وإحدى عشرة وأربعة عشر % يتعاطون الحشيش ، وثلاثين % - كما هو في دراسة مجلس سلامة الطفل في أرضهم - يمارسون نوعاً من الاتجار بالمخدرات ، بمعنى أن أكثر أو نحو من ثلث ذلك المجتمع يمارس تجارة المخدرات " .
وفي إحصائية ودراسة لوزارة العمل الإسرائيلية أفادت الدراسة " أن سبعة وثلاثين % من طلبة وطالبات المدارس العامة يعاقرون الخمر ، وثمانية % منهم مدمنون للخمور بشكل عام ".
وفي البناء الاجتماعي والتصدع الأسري تظهر حقائق عظيمة أيضاً " نسب الطلاق تتجاوز خمسة وعشرين % ، والزنا في دائرة الأسرة نفسها بلغت نسبته في المجتمع اليهودي خمسين % ، وفي خارج إطار الأسرة خمسة وعشرين % ، وأما جرائم العنف في طلبة المدارس فإنها قد بلغت نحو خمسين % ".
وأثبتت بعض الدراسات " أن ستين % من جميع الطلاب لم يتخرجوا حتى مارسوا عمليات من العدوان على زملائهم في تلك المدارس ".
والصور أكثر من ذلك ، والشذوذ عندهم - وهو فعل قوم لوط ونحوه - مقر وشائع وذائع بل إنه يعقد الزواج الرسمي بمباركة الحاخامات وعلماء الدين اليهود في الأماكن المقدسة عند حائط المبكى الذي يقدسونه ، ولا عجب في هذا إن كنا نعرف كتاب ربنا ، وإن كنا نقرأ آيات قرآننا ؛ فإن الله قد وصفهم فقال :
{ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } .
هكذا يخبرنا الله - سبحانه وتعالى - وهم بنصوص توراتهم المحرفة المدنسة لا الأصيلة المقدسة يروجون هذا ويعلمونه ، بل وينسبونه كذباً وزوراً إلى الرسل والأنبياء ليجعلوا هذه الانحرافات الخُلقية ، والرذائل الجنسية من فعل الأنبياء ، ويجعلوا فعلها عبادة يتقربوا بها إلى الله ، ففي نصوص توراتهم المكتوبة عندهم اتهام لأكثر الأنبياء بمقارفة الزنا والفواحش مع المحارم ، وقد نصوا نصاً واضحاً على أن لوطاً - عليه السلام - قد شرب الخمر وعاقرها ،حتى فقد عقله ثم زنى بابنتيه وهذا ليس ادعاء لهم ، بل هو نص ما بين أيديهم من الكتب التي يقرءونها ويدرسونها ويدّرسونها .(/1)
وأعظم من هذا أيضاً أن هناك تفككاً اجتماعياً ، وطبقية عنصرية في داخل ذلك المجتمع فليس اليهود كلهم في مرتبة واحدة ، فهم في داخل ذلك المجتمع ينقسمون إلى يهود من الدرجة الأولى وهم اليهود الغربيون الذين من أوروبا الغربية ، ومن أمريكا ومن غيرها ويسمونهم الإيشكانزم ، واليهود الآخرون من الدرجة الثانية من أوروبا الشرقية ويسمونهم اسفادرم ،وهؤلاء أيضاً هناك من هو دونهم وهم اليهود القادمون من أفريقيا ومن بعض الدول العربية ، وهذا ليس ادعاء ، فهو معروف لديهم ، وإن أولئك اليهود الذين يحسون بهذه التفرقة العنصرية بدأت أثار تفجراتهم الاجتماعية واضحة جلية تحدث في صور كثيرة وشتى داخل ذلك المجتمع .
وهم مع هذا يعتبرون أي يهودي أعلى من الخلق كلهم وأحسن من البشرية جمعاء .
ثم كذلك ننظر لنرى كثيراً وكثيراً من الصور التي تبرز ذلك الضعف والهوان الحقيقي الذي قد نستغرب كيف يكون كذلك ثم لا يجرؤ أحدٌ ، ولا تستطيع أمة أو دولة أو شعب أن يقهرهم ويغلبهم ،وهذا صار من الأمور التي صارت معروفة في هذه الأيام على وجه الخصوص ، ومع الانتفاضة الجهادية المباركة نرى أن كثيراً من جنود اليهود يرفضون الأوامر العسكرية بالتوجه إلى مناطق التماس والمواجهة الحربية ، وأن كثير منهم الآن مسجونون في السجون الإسرائيلية عقوبة لهم على عدم امتثال الأوامر العسكرية وأن كثيراً منهم قد مُلئت قلوبهم رعباً ، وأنهم - كما رأينا بعد العمليات الجهادية الموجعة - باتوا يخفون إلى إعلان تهدئة الأوضاع أو وقف إطلاق النار كما يزعمون أو نحو ذلك ، ثم ننظر فنجد كثيراً وكثيراً من الأوضاع العجيبة في ذلك المجتمع ، ودراسات كثيرة تدل على الكثير من الفساد العظيم ، والهلاك الكامل ، والتفكك الرهيب الذي ينخر في ذلك المجتمع .
ونظرة أخرى أيضاً إلى هذه الصور التي تبيّن لنا لماذا وكيف استطاع أولئك - رغم كل هذه الصور وغيرها كثير - أن يواجهوا الأمة العربية والإسلامية ؟ والتفسير لا يحتاج إلى كثير من التفكير ؛ فإن بين يدينا من كتاب ربنا ما يبيّن ذلك ويجليه ؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قد ضرب عليهم الذل والمسكنة وبيّن وشرح أنهم قد باءوا بغضب من الله ، ثم جاء الاستثناء الذي يفسر لنا كثيراً من الواقع { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أما حبل الله - جل وعلا - فقد انقطع عنهم ، وقد ظهر أمر الله - عز وجل - عند وجود أهل الإيمان والإسلام الصادقين في بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي زمنه وزمن أصحابه - رضوان الله عليهم - . كيف نُكسوا على رؤوسهم ،وهُزموا ، وقُتلوا ، وأُخرجوا ، وطُردوا ولم يكن لهم قوة ولا شوكة ، ولا أي وجود مطلق ، وكذلك كان في كل مراحل التاريخ الإسلامي الذي كانت الأمة فيه متمسكة بكتاب ربها ، وبسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - . فما هو هذا الحبل الذي نعرفه من حبل الناس ؟ إنها حبال كثيرة ، لا حبل واحد ، والحبل هنا اسم جنس ونوع ، ليس بالضرورة أن يكون واحداً :
أول ذلك : حبل أعداء الإسلام قاطبة
فإن اليهود يجدون العون والدعم والإسناد المعنوي ، والسياسي ، والإعلامي ، والاقتصادي والعسكري من العالم الغربي النصراني ، ومن العالم الشرقي الهندوكي ، ونحن نعرف وكل الناس لا يخفى عليهم ؛ أن الأموال على إسرائيل تصب صباً ، وأن المواقف السياسية الحاسمة الرافضة المدافعة عنهم تُعلن علناً ، وتظهر لكل أحد ،وكثيرة هي الصور التي لا تخطئها العين ، من حبل أولئك القوم الذي يمد لقدر وحكمة ربانية الله يعلمها ، وهذا الحبل هو سبب عظيم من أسباب قوتهم ، وبقائهم رغم ضعف اقتصادهم ، ورغم كثير من مشكلاتهم ، ونحن نعلم أن تلك الاتجاهات والدول الغربية تنطلق إلى ذلك من منطلقات عقدية وينبغي أن نعرف ذلك وقد أخبرنا الله - عز وجل - به في قوله : { يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } .
وأخبرنا - جل وعلا - أن الكافرين بعضهم أولياء بعض ، وأخبرنا أن المنافقين بعضهم أولياء بعض ، فنحن نصدّق كتاب ربنا ، ونكذب كل قول يعارضه ويخالفه ، ولقد ذكرنا من قبل بعض المؤتمرات النصرانية المسيحية الكنسية ، التي عقدت لأجل دعم الصهيونية ، وهم يعتقدون في كتبهم - وخاصة فرقة من فرق النصارى وهم البروتستانت - بأن كثيراً من نبوءات كتبهم المقدسة وما يؤمنون به ويعتقدونه بالباطل والتحريف ، أن عيسى- عليه السلام - سينزل مرة أخرى إلى بيت المقدس ، وهم يظنون كما هي أوهامهم ، وكما هو مذكور في كتبهم ، أن اليهود حينئذٍ سيؤمنون به ، ويتابعونه ، فهم يسعون لذلك وعندهم أن هذا لا يتحقق إلا بعد ثلاثة أمور :
1ـ قيام دولة إسرائيل .
2ـ وكون القدس عاصمة لها .
3ـ إعادة بناء الهيكل .(/2)