كان مما غزانا به أعداؤنا في هذا الزمان هذه الأزياء والموضات التي وضعوا أشكالها وتفصيلها وراجت بين المسلمين وهي لا تستر العورة لقصرها أو شفافيتها أو ضيقها وكثير منها لا يجوز لبسه حتى بين النساء وأمام المحارم وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور هذه الأنواع من الألبسة على نساء آخر الزمان كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " رواه مسلم 3/ 1680 والبخت هي الجمال طوال الأعناق . ويدخل في هذا الألبسة التي تلبسها بعض النساء تكون ذات فتحة طويلة من الأسفل أو مشقوقة من عدة جهات فإذا جلست ظهر من عورتها ما ظهر مع ما في ذلك من التشبه بالكفار واتباعهم في الموضات وما استحدثوه من الأزياء الفاضحة نسأل الله السلامة . ومن الأمور الخطيرة كذلك ما يوجد على بعض الملابس من الصور السيئة كصور المغنين والفرق الموسيقية وقوارير الخمر وصور ذوات الأرواح المحرمة شرعا أو الصلبان أو شعارات الأندية والجمعيات الخبيثة أو العبارات الرديئة المخلة بالشرف والعفة والتي كثيرا ما تكون مكتوبة بلغات أجنبية
وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء :-
عن أسماء بنت أبي بكر قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق ( أي تساقط ) شعرها أفأصله فقال : " لعن الله الواصلة والمستوصلة " رواه مسلم 3/1676 . وعن جابر بن عبدالله قال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئا " رواه مسلم 3/1679 .
ومن أمثلة هذا ما يعرف في عصرنا بالباروكة ومن الواصلات في عصرنا " الكوافيرات " وما تزخر به صالاتهن من المنكرات
ومن أمثلة هذا المحرم أيضا لبس الشعر المستعار كما يفعله بعض من لا خلاق لهم من الممثلين والممثلات في التمثيليات والمسرحيات .
تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال في اللباس أو الكلام أو الهيئة :
من الفطرة أن يحافظ الرجل على رجولته التي خلقه الله عليها وأن تحافظ المرأة على أنوثتها التي خلقها الله عليها وهذا من الأسباب التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال هو مخالفة للفطرة وفتح لأبواب الفساد وإشاعة للانحلال في المجتمع وحكم هذا العمل شرعا هو التحريم وإذا ورد في نص شرعي لعن من يقوم بعمل فإن ذلك يدل على تحريمه وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " رواه البخاري انظر الفتح 10/332 ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " لعن رسول الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " رواه البخاري الفتح 10/333 . والتشبه قد يكون بالحركات والسكنات والمشية كالانخناث في الأجسام والتأنث في الكلام والمشي .
وكذلك لا يجوز تشبه كل من الجنسين بالآخر في اللباس ولا فيما هو من خصائصه فلا يجوز للرجل أن يلبس القلائد ولا الأساور ولا الخلاخل ولا الأقراط ونحوها كما هو منتشر عند أصناف الهبيين والخنافس ونحوهم وكذلك لا يجوز للمرأة أن تلبس ما اختص الرجل بلبسه من ثوب أو قميص ونحوه بل يجب أن تخالفه في الهيئة والتفصيل واللون ، والدليل على وجوب مخالفة كل من الجنسين للآخر في اللباس ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل " رواه أبو داود 4/355 وهو في صحيح الجامع 5071 .
صبغ الشعر بالسواد :
والصحيح أنه محرم للوعيد المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام " يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة " رواه أبو داود 4/419 وهو في صحيح الجامع 8153 . وهذا عمل منتشر بين كثير ممن ظهر فيهم الشيب فيغيرونه بالصبغ الأسود فيؤدي عملهم هذا إلي مفاسد منها الخداع والتدليس على خلق الله والتشبع بحال غير حاله الحقيقية ولا شك أن لهذا أثرا سيئا على السلوك الشخصي وقد يحصل به نوع من الاغترار وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير الشيب بالحناء ونحوها مما فيه اصفرار أو احمرار أو بما يميل إلى اللون البني ، ولما أتي بأبي قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة من شدة البياض قال عليه الصلاة والسلام " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " رواه مسلم 3/1663 . والصحيح أن المرأة كالرجل لا يجوز أن تصبغ بالسواد ما ليس بأسود من شعرها .
تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق ونحو ذلك :-(/19)
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " رواه البخاري انظر الفتح 10/382 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " قال الله تعالى : ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة و ليخلقوا ذرة ... ) " رواه البخاري انظر فتح الباري 10/385 . وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " كل مصور في النار ، يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذب في جهنم " قال ابن عباس : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه " رواه مسلم 3/1671 . فهذه الأحاديث دالة على تحريم صور ذوات الأرواح من الآدميين وسائر الحيوانات مما له ظل أو ليس له ظل سواء كانت مطبوعة أو مرسومة أو محفورة أو منقوشة أو منحوتة أو مصبوبة بقوالب ونحو ذلك والأحاديث في تحريم الصور تشمل ذلك كله .
والمسلم يستسلم لنصوص الشرع ولا يجادل فيقول أنا لا أعبدها ولا أسجد لها !! ولو نظر العاقل بعين البصيرة والتأمل في مفسدة واحدة فقط لشيوع التصوير في عصرنا لعرف شيئا من الحكمة في هذه الشريعة عندما جاءت بتحريم التصوير وهو ما حصل من الفساد العظيم من إثارة الغرائز وثوران الشهوات بل الوصول إلى الوقوع في الفواحش بسبب الصور .
وينبغي على المسلم أن لا يحتفظ في بيته بصور لذوات الأرواح حتى لا يكون ذلك سببا في امتناع الملائكة عن دخول بيته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير " رواه البخاري انظر الفتح 10/380 . وتوجد في بعض البيوت تماثيل بعضها لمعبودات الكفار توضع على أنها تحف ومن الزينة فهذه حرمتها أشد من غيرها وكذلك الصور المعلقة أشد من غير المعلقة فكم أفضت إلى تعظيم وكم جددت من أحزان وكم أدت إلى تفاخر ولا يقال الصور للذكرى فإن الذكرى الحقيقية في القلب من عزيز أو قريب من المسلمين يدعى لهم بالمغفرة والرحمة فينبغي إخراج كل صورة أو طمسها اللهم إلا ما كان عسيرا وفيه مشقة بالغة كالصور التي عمت بها البلوى على المعلبات والصور في القواميس والمراجع والكتب التي يستفاد منها مع السعي لإزالتها ما أمكن والحذر مما في بعضها من الصور السيئة وكذلك يمكن الاحتفاظ بالصور التي تدعو الحاجة لها كما في إثباتات الشخصية ورخص بعض أهل العلم في الصور الممتهنة كالموطوءة بالأقدام ( فاتقوا الله ما استطعتم ) التغابن/16 .
الكذب في المنام :
يعمد بعض الناس إلى اختلاق رؤى ومنامات لم يروها لتحصيل فضيلة أو ذكر بين الخلق أو لحيازة منفعة مالية أو تخويفا لمن بينه وبينهم عداوة ونحو ذلك، وكثير من العامة لهم اعتقادات في المنامات وتعلق شديد بها فيخدعون بهذا الكذب وقد ورد الوعيد الشديد لمن فعل هذا الفعل ، قال صلى الله عليه وسلم " إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يري عينه ما لم تر ويقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل " رواه البخاري انظر الفتح 6/540 ، وقال صلى الله عليه وسلم " من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ...الحديث " رواه البخاري انظر الفتح 12/427 ، والعقد بين شعيرتين أمر مستحيل فكان الجزاء من جنس العمل .
الجلوس على القبر والوطء عليه وقضاء الحاجة في المقابر :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر " رواه مسلم 2/667 . أما الوطء على القبور فطائفة من الناس يفعلونه فتراهم عندما يدفنون ميتهم لا يبالون بالوطء ( وبأحذيتهم أحيانا ) على القبور المجاورة دون احترام لبقية الموتى وفي عظم هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم ... " رواه ابن ماجة 1/499 وهو في صحيح الجامع 5038 . فكيف بمن يستولي على أرض مقبرة ويقيم عليها مشروعا تجاريا أو سكنيا . أما التغوط في المقابر وقضاء الحاجة فيها فيفعله بعض من لا خلاق له إذا حضره قضاء الحاجة تسور مقبرة أو دخل فيها فآذى الموتى بنتنه ونجاسته ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما أبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السوق "[ التخريج السابق ] . أي أن قبح قضاء الحاجة في المقبرة كقبح كشف العورة وقضاء الحاجة أمام الناس في السوق ، والذين يتعمدون إلقاء القاذورات والزبالة في المقابر ( خصوصا المهجورة والتي تهدمت أسوارها ) لهم نصيب من ذلك الوعيد . ومن الآداب المطلوبة عند زيارة المقابر خلع النعال عند إرادة المشي بين القبور .
عدم الاستتار من البول :(/20)
من محاسن هذه الشريعة أنها جاءت بكل ما يصلح شأن الإنسان ومن ذلك إزالة النجاسة ، وشرعت لأجل ذلك الاستنجاء والاستجمار وبينت الكيفية التي يحصل بها التنظيف والنقاء وبعض الناس يتساهل في إزالة النجاسة مما يتسبب في تلويث ثوبه أو بدنه وبالتالي عدم صحة صلاته وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أسباب عذاب القبر فعن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط [ بستان ] من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذبان ، وما يعذبان في كبير - ثم قال - بلى [ وفي رواية : وإنه لكبير ] كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ... " رواه البخاري انظر فتح الباري 1/317 . بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن : " أكثر عذاب القبر في البول " رواه الإمام أحمد 2/326 وهو في صحيح الجامع 1213 . وعدم الاستتار من البول يشمل من يقوم من حاجته بسرعة قبل أن ينقطع بوله أو يتعمد البول في هيئة أو مكان يرتد عليه بوله أو أن يترك الاستنجاء أو الاستجمار أو يهمل فيهما ، وقد بلغ من التشبه بالكفار في عصرنا أن صارت بعض المراحيض فيها أماكن لقضاء الحاجة مثبتة في الجدران ومكشوفة يأتي إليها الشخص فيبول أمام الداخل والخارج دون حياء ثم يرفع لباسه ويلبسه على النجاسة فيكون قد جمع بين أمرين محرمين قبيحين : الأول أنه لم يحفظ عورته من نظر الناس والثاني أنه لم يستنزه ولم يستبرئ من بوله .
التسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون :
قال الله تعالى : ( ولا تجسسوا ... ) الحجرات/11
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ... " رواه الطبراني في الكبير 11/248-249 وهو في صحيح الجامع 6004 والآنك هو الرصاص المذاب .
فإذا كان ينقل حديثهم دون علمهم لإيقاع الضرر بهم فهو يضيف إلى إثم التجسس إثما آخر بدخوله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة قتات " رواه البخاري فتح 10/472 والقتات الذي يستمع إلى حديث القوم وهم لا يشعرون به
سوء الجوار
أوصانا الله سبحانه في كتابه بالجار فقال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) النساء/36 .
وإيذاء الجار من المحرمات لعظم حقه : عن أبي شريح رضي الله عنه مرفوعا : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه " رواه البخاري انظر فتح الباري 10/443
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثناء الجار على جاره أو ذمه له مقياسا للإحسان والإساءة فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعت جيرانك يقولون : قد أحسنت فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون : قد أسأت فقد أسأت " رواه الإمام أحمد 1/402 وهو في صحيح الجامع 623 .
وإيذاء الجار له صور متعددة فمنها منعه أن يغرز خشبة في الجدار المشترك أو رفع البناء عليه وحجب الشمس أو الهواء دون إذنه أو فتح النوافذ على بيته والإطلال منها لكشف عوراته أو إيذاؤه بالأصوات المزعجة كالطرق والصياح وخصوصا في أوقات النوم والراحة أو ضرب أولاده وطرح القمامة عند عتبة بابه والذنب يعظم إذا ارتكب في حق الجار ويضاعف إثم صاحبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره .. لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره " رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 103 وهو في السلسلة الصحيحة 65 ، وبعض الخونة ينتهز غياب جاره في نوبته الليلية ويدخل بيته ليعيث فيه الفساد فالويل له من عذاب يوم أليم .
المضارة في الوصية : -
من قواعد الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار ومن الأمثلة على ذلك الإضرار بالورثة الشرعيين أو ببعضهم ومن يفعل ذلك فهو مهدد بقوله صلى الله عليه وسلم : " من ضار أضر الله به ومن شاق شق الله عليه " رواه الإمام أحمد 3/453 انظر صحيح الجامع 6348 . ومن صور المضارة في الوصية حرمان أحد الورثة من حقه الشرعي أو أن يوصي لوارث بخلاف ما جعلته له الشريعة أو أن يوصي بأكثر من الثلث .
وفي الأماكن التي لايخضع فيها الناس لسلطان القضاء الشرعي يتعذر على صاحب الحق أن يأخذ حقه الذي أعطاه الله له بسبب المحاكم الوضعية التي تحكم بخلاف الشريعة وتأمر بإنفاذ الوصية الجائرة المسجلة عند المحامي فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .
اللعب بالنرد :-(/21)
تحتوي كثير من الألعاب المنتشرة والمستعملة بين الناس على أمور من المحرمات ومن ذلك النرد ( المعروف بالزهر ) الذي يتم به الانتقال والتحريك في عدد كثير من الألعاب كالطاولة وغيرها وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النرد الذي يفتح أبواب المقامرة والميسر فقال : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه " رواه مسلم 4/1770 . وعن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعا : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " رواه الإمام أحمد 4/394 وهو في صحيح الجامع 6505 .
لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن :-
لا يملك كثير من الناس ألسنتهم إذا ما غضبوا فيسارعون باللعن فيلعنون البشر والدواب والجمادات والأيام والساعات بل وربما لعنوا أنفسهم وأولادهم ولعن الزوج زوجته والعكس وهذا أمر جد خطير فعن أبي زيد ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه مرفوعا : " .... ، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله " رواه البخاري انظر فتح الباري 10/465 ولأن اللعن يكثر من النساء فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه من أسباب دخولهن النار وكذلك فإن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة وأخطر منه أن اللعنة ترجع على صاحبها إن تلفظ بها ظلما فيكون قد دعا على نفسه بالطرد والإبعاد من رحمة الله .
النياحة :-
من المنكرات العظيمة ما تقوم به بعض النساء من رفع الصوت بالصياح وندب الميت ولطم الوجه وكذلك شق الثوب وحلق الشعر أو شده وتقطيعه وكل ذلك يدل على عدم الرضا بالقضاء وعدم الصبر على المصيبة وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور " رواه ابن ماجة 1/505 وهو في صحيح الجامع 5068 . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " رواه البخاري انظر الفتح 3/163 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " رواه مسلم رقم 934
ضرب الوجه والوسم في الوجه :-
عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه . رواه مسلم 3/1673
أما ضرب الوجه فإن عددا من الآباء والمدرسين يعمدون إليه في معاقبة الأولاد حينما يضربون الوجه بالكف ونحوه وكذا يفعله بعض الناس مع خدمهم وهذا مع ما فيه من إهانة الوجه الذي كرم الله به الإنسان فإنه قد يؤدي أيضا إلى فقد بعض الحواس المهمة المجتمعة في الوجه فيحصل الندم وقد يطلب القصاص .
أما وسم الدواب في الوجه وهو وضع علامة مميزة يعرف بها صاحب كل دابة دابته أو ترد عليه إذا ضلت فهو حرام وفيه تشويه وتعذيب ولو احتج بعض الناس بأنه عرف قبيلتهم وعلامتها المميزة فيمكن أن يجعل الوسم في مكان آخر غير الوجه .
هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي :-
من خطوات الشيطان إحداث القطيعة بين المسلمين وكثيرون أولئك الذين يتبعون خطوات الشيطان فيهجرون إخوانهم المسلمين لأسباب غير شرعية إما لخلاف مادي أو موقف سخيف وتستمر القطيعة دهرا وقد يحلف أن لا يكلمه وينذر أن لا يدخل بيته وإذا رآه في طريق أعرض عنه وإذا لقيه في مجلس صافح من قبله ومن بعده وتخطاه وهذا من أسباب الوهن في المجتمع الإسلامي ولذلك كان الحكم الشرعي حاسما والوعيد شديدا فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " رواه أبو داود 5/215 وهو في صحيح الجامع 7635 .
وعن أبي خراش الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا : " من هجر أخاه سنة فهو بسفك دمه " رواه البخاري في الأدب المفرد حديث رقم 406 وهو في صحيح الجامع 6557 .
ويكفي من سيئات القطيعة بين المسلمين الحرمان من مغفرة الله عز وجل فعن أبي هريرة مرفوعا : " تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين ، يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال : اتركوا أو أركوا ( يعني أخروا ) هذين حتى يفيئا " رواه مسلم 4/1988 .
ومن تاب إلى الله من المتخاصمين فعليه أن يعود إلى صاحبه ويلقاه بالسلام فإن فعل وأبى صاحبه فقد برئت ذمة العائد وبقيت التبعة على من أبى ، عن أبي أيوب مرفوعا : " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " رواه البخاري فتح الباري 10/492 .
أما إن وجد سبب شرعي للهجر كترك صلاة أو إصرار على فاحشة فإن كان الهجر يفيد المخطئ ويعيده إلى صوابه أو يشعره بخطئه صار الهجر واجبا ، وأما إن كان لا يزيد المذنب إلا إعراضا ولا ينتج إلا عتوا ونفورا وعنادا وازديادا في الإثم فعند ذلك لا يسوغ الهجر لأنه لا تتحقق به المصلحة الشرعية بل تزيد المفسدة فيكون من الصواب الاستمرار في الإحسان والنصح والتذكير .(/22)
وختاما هذا ما تيسر جمعه من المحرمات المنتشرة [ والموضوع طويل وقد رأيت إتماما للفائدة أن أفرد فصلا خاصا بجملة من المنهيات الواردة في الكتاب والسنة مجموع بعضها إلى بعض ستكون في رسالة مستقلة إن شاء الله ] نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه ومن طاعته ما يبلغنا به جنته وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه وأن يتقبل توبتنا ويغسل حوبتنا إنه سميع مجيب وصلى وسلم على النبي الأمي محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/23)
مخاطر الترف
الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على مسك الختام، محمد بن عبد الله خير الأنام، وعلى آله وصحبه مصابيح الظلام، وعلى التابعين لهم بإحسان على الدوام.
أما بعد:
فإن ثمة ظاهرة خطيرة جداً، ظاهرة عمت المجتمعات؛ أثرت على الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والرجال والنساء؛ حتى أنها أثرت على كثير من الدعاة وطلبة العلم، والعباد والزهاد، والواقع بهذا ظاهر للعيان، ولا يحتاج منَّا إلى كثير من الاستدلال، هذه الظاهرة هي ظاهرة الترف.
هذا الترف الذي أفسد القلوب، وأبعد الكثير من الناس عن علام الغيوب، وله أخطار جسيمة، ومفاسد عديدة؛ من هذه المخاطر نذكر ما يلي:
1. أن الترف غالباً يطغي الإنسان، ويفسد علاقته بربه، ويجعله ينحرف عن أوامر الله –تعالى-؛ قال الله –تعالى-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} سورة العلق(6)(7). فالغنى سبب من أسباب الانحراف؛ لأن الغني يستطيع أن يحصل على كثير من الشهوات التي قد لاتتاح للفقير، وهذه الشهوات كثير منها مما حرمه الله -تعالى-؛ قال صلى الله عليه وسلم-: (حجبت النار بالشهوات، حجبت الجنة بالمكاره)1. ولذلك فالدنيا سبب من أسباب الانحراف، والانحراف سبب من أسباب الدمار والهلاك؛ قال الله –تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} سورة الإسراء: (16). فهذا قارون صاحب الكنوز الثمينة، كان ترفهه وتكبره وتجبره على ملك الملوك أن أخزاه الله، فخسف به وبداره الأرض؛ قال الله-تعالى-: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} سورة القصص: (81). فالغني الذي لا يؤمن الله بالله ولا باليوم الآخر، ولا يؤدي ما أوجب الله عليه؛ يصاب بالبطر والكبر، ويصبح ماله نقمة عليه في الدنيا والآخرة؛ قال الله -تعالى-: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الخاطئون*} سورة الحاقة: (28-37).
2. أنَّ الدنيا هي سبب النزاع بين الناس في القديم والحديث؛ فهي سبب الفرقة والتناحر بين المجتمعات، وبين الأفراد في المجتمع الواحد، ولم ينج من ذلك حتى أهل القرن الأول، فبعد غزوة بدر مباشرة دبَّ شيء من الخلاف بين بعض الصحابة على الغنائم حتى نزل قوله –سبحانه-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} سورة الأنفال: (1). وكذلك كانت الغنائم سبب نزول كثير من الرماة عن التلة في غزوة أحد، وكان ذلك سبباً في تغيير مجريات المعركة. ولقد كان التنافس على الحكم سبباً لفرقة هذه الأمة قديماً وحديثاً، ولا زال ذلك السبب الأول في عدم اتحاد أمتنا الإسلامية حتى الآن. ولذلك جاء ذلك واضحاً في الحديث الصحيح: (فتنافسوها كما تنافسوها...)2. وعن عبد الله بن عمر و بن العاص-رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا فتحت عليكم فاروس والروم... تتنافسوها، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون)3. فالدنيا إذن سبب للنزاع والصراع الذي يدمر الأمة ويهلكها، والزهد فيها سبب للحب والألفة؛ قال رسول الله -صلى الله لعيه وسلم-: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)4.
3. الترف يلهي عن ذكر الله -تعالى-؛ كما في الحديث: (وتلهيكم كما ألهتهم)5؛ لأن الإنسان إذا كثرت أمواله انشغل -غالباً- بالمحافظة عليها، والتجارة فيها، وتنميتها، وتحصيلها من التجار، وملاحقة ذلك ليلاً ونهاراً، فلا يجد وقتاً لتعلم دينه، أو لقراءة القرآن، أو لصلاة الجماعة، وفعل النوافل، وقيام الليل، وما شابه ذلك؛ فهو في نهاره مشغول بأمواله، وفي نومه تعرض له في أحلامه، فيرى في نومه أنه ربح ربحاً عظيماً، أو خسر خسارة فادحة، وهكذا...(/1)
4. أنَّ الأمة المترفة لا تكون أمة مجاهدة، والتاريخ أكبر دليل على ذلك، فقد فتح المسلمون الأوائل الدنيا وهم فقراء، فلما أصابهم داء الترف؛ وقفت الفتوحات، فلما اشتد بهم هذا الداء؛ بدأت دولتهم تتقلص، وبدأوا يتراجعون. فهذه الأندلس كانت يضرب بها المثل فيما وصلت إليه من ترف، فماذا كانت نتيجة ذلك؟ تناحرت ملوكها، وتقاعس أهلها عن الجهاد، فابتلعها الصليبيون. وحدث مثل ذلك لبغداد عاصمة الخلافة العباسية التي بلغ فيها الترف مبلغه، فلم تستطع أن تقف في وجه التتار، وقس على ذلك... ولكن ليس معنى هذا أن الغنى كله سيئات، وليس له حسنات، فالمال نعمة يمكن أن تسخر في الخير كما يمكن أن تسخر في الشر، ولكن الواقع البشري نلاحظ فيه تسخير هذه النعمة في معصية الله- غالباً- وليس في طاعة الله- تعالى-؛ فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (... إنَّ هذا المال حلوة، من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع)6. كما أن ذلك لا يعني أنَّ الفقر ليس له مخاطر، فإنَّ الفقر الشديد المدقع قد يدفع الإنسان إلى الانحراف، وقد يؤدي إلى كل ما يؤدي إليه الترف. ولكن المقصود هو التوازن في النفس البشرية، فإنَّ الناس لشدة حبهم للمال لا يكادون يرون للغنى سيئة، ولشدة كرههم للفقر لا يكادون يرون له حسنة، فجاءت نصوص الكتاب والسنة تحذر من مخاطر الترف، وتحث على تحقيق التوازن في الحياة، وتبين أن الغنى ابتلاء، وأن الفقر كذلك، وكذلك تبين أن على الإنسان أن يجعل كل ما أوتي من مال وغيره، فيما يرضي الله -سبحانه وتعالى-.
أخي الحبيب: لا مانع من أن تملك الدنيا بيديك، ولكن إياك أن تدخل الدنيا قلبك؛ لأنها إن كانت بيدك فأنت الذي تملكها وتسخرها كما تريد، وأما إن دخلت قلبك فقد ملكتك، وأصبحت عبداً لها، تسيرك هي كما تشاء، وشتان بين الحالتين. ولقد كان بعض الصحابة من كبار الأغنياء، فلم نسمع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول لأحدهم: لا يصح إيمانك، ولا يستقيم أمرك، ولا تكون مؤمناً حقاً؛ إلا إذا تخليت عن أموالك؛ لأنه يعلم أنها كانت في أيديهم لا في قلوبهم. فهذا أبو بكر-رضي الله عنه- يأتي بكل ما يملك من مال، فيضعه بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فيقول له: (يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك)؟ فقال أبو بكر: أبقيت لهم الله ورسوله7. وهو الذي اشترى بلالًا وغيره من المؤمنين، وأعتقهم في سبيل الله. وهذا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- يأتي بنصف ماله فيضعه في سبيل الله في غزوة تبوك. وأما عثمان بن عفان-رضي الله عنه- فقد جهز جيش العسرة بثلاث مائة بعير بكل مستلزماتها، وبألف دينار ذهباً. واشترى بئر رومة في المدينة المنورة من يهودي كان يستغل الناس، فجعلها عثمان في سبيل الله- تعالى-. وأما عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه- فقد تصدق بمال كثير لا يُحصى، حتى إنه تصدق مرة بقافلة كاملة من الشام تحمل الطعام، وجعلها كلها في سبيل الله –تعالى-. فهل هؤلاء ممن دخلت الدنيا في قلوبهم؟ لا وألف لا.
وقد يسأل سائل: أيهما أشد فتنة الغنى أم فتنة الفقر؟ وأيهما أعظم أجراً الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ والجواب الصحيح- والله أعلم- أنَّ الغنى درجات، وأنَّ الفقر كذلك درجات، فبعض درجات الغنى أشد فتنة، كما أن بعض درجات الفقر أشد فتنة. والناس أيضاً أقسام، منهم من يكون المال أشد خطراً عليه، ومنهم من يكون الفقر أشد خطراً عليه. فالأمر يختلف من شخص إلى آخر، فقد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع؛ كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع؛ كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن النبي-صلى الله عليه وسلم- فيما يروى عن ربه -تبارك وتعالى-: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إنِّي أدبر عبادي إني بهم خبير بصير)8. والأجر كذلك، فهو تابع لشدة الفتنة والامتحان والمشقة، فمن بذل جهداً أعظم للاستقامة والنجاح في امتحانه كان أعظم أجراً، سواء كان فقيراً أم غنياً. فالعبرة بالجهد المبذول للالتزام لا بنوع الامتحان. وهكذا؛ فقد يكون أحد الأغنياء الشاكرين أعظم أجراً من فقير صابر، وقد يكون أحد الفقراء الصابرين أعظم أجراً من غني شاكر9. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم إنا نعوذ بك من غنى يطغينا، أو فقراً ينسينا. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
-----------------
1 - رواه البخاري.
2 - رواه البخاري.
3 - رواه مسلم.
4 - رواه ابن ماجه، وانظر صحيح ابن ماجه للألباني رقم (3310)
5 - سبق تخريجه.
6 - رواه البخاري.
7 - رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.(/2)
8 - أخرجه البغوي، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو بمعناه في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني.
9 - راجع: "الهدي النبوي في الرقائق"؛ صـ(88- 94). بحذف وزيادة. للدكتور شرف القضاة. دار الفرقان. الطبعة الثانية( 1410هـ). وللاستزادة في مسألة الغني الشاكر أم الفقير الصابر راجع: " مجموع الفتاوى(11/120) وما بعدها. وعدة الصابرين لابن القيم، فقد خصص جزءًا كبيراً ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة، وبين كثر ة النزاع فيها بين الأغنياء والفقراء(/3)
مختارات من علوم القرآن
إعداد/ مصطفى البصراتي
فضائل سورة البقرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فإن سورة البقرة من السور المدنية، التي تُعنى بجانب التوجيه
والتشريع، وهي أطول سور القرآن على الإطلاق، وشأنها كشأن سائر السور المدنية
التي تعالج النُظم والقوانين التشريعية للدولة الإسلامية .
اشتملت هذه السورة
الكريمة «سورة البقرة» على معظم الأحكام التشريعية في العبادات، والمعاملات،
والأخلاق، وفي أمور النكاح، والعدة، والطلاق، وسائر الأحكام الشرعية من صلاة،
وصيام، وحج، وزكاة، لأن المسلمين كانوا في بداية تكوين «الدولة الإسلامية» وهم
في أمسِّ الحاجة إلى التشريع الإلهي، والمنهاج الرباني، الذي يعصمهم من الخطأ
والزّلل، والذي يسيرون عليه في حياتهم الدنيوية، سواء فيها ما كان في العبادات
أو المعاملات.
ولهذا نجد السورة الكريمة تهتم بجانب التشريع، وإن كانت هناك
لفتاتٌ دقيقة، تتناول جانب العقيدة والإيمان، ولكنها لا تأخذ مجالاً فسيحًا في
السورة الكريمة، وفي ذلك الإطار العام الذي رسمته السورة، بهدف توجيه المسلمين
إلى التشريع والأحكام.
وقد تكلم في فضل هذه السورة كثير من العلماء والمفسرين،
ولأهمية ما كتبوه أنقل بعضًا منه ثم أتبعُ ذلك بالأحاديث الصحيحة الواردة في
فضلها مع التعليق عليها وشرح معانيها ثم أختم الكلام حولها بالأحاديث الضعيفة
والموضوعة الواردة في فضل هذه السورة في هذا المقال وما يليه.
قال القرطبي رحمه
اللَّه في تفسيره: سورة البقرة مدنية، نزلت في مدد شتى، وقيل: هي أول سورة نزلت
بالمدينة، إلا قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى،
وآيات الربا أيضًا من أواخر ما نزل من القرآن.
وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها
جسيم، ويقال لها فُسطاط القرآن (ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة)، قاله
خالد بن معدان، وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها، وتعلمها عمر رضي
الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبد اللَّه في ثمانية
أعوام.
قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف
حكم، وألف خبر، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنًا،
لحفظه سورة البقرة، وقال: «اذهب فأنت أميرهم». أخرجه الترمذي عن أبي هريرة،
وصححه، وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا
سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة». قال معاوية:
بلغني أن البطلة: السحرة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا
تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة
البقرة».
وفي كتاب الاستيعاب لابن عبد البر: وكان لبيد بن ربيعة (بن عامر) بن
مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك
الإسلام فحسن إسلامه، وترك قول الشعر في الإسلام، وسأله عمر في خلافته عن شعره
واسنتشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول
بيتًا من الشعر بعد إذ علمني اللَّه البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان
عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. اهـ. بتصرف.
قال الصابوني في «قبس من نور القرآن»:
أما الأحكام الشرعية التي تناولتها السورة الكريمة فهي كثيرة متنوعة ويمكن أن
نجملها في الآتي:
«أحكام الصيام، أحكام القصاص، أحكام الحج والعمرة، أحكام
الجهاد والقتال، ثم شئون الأسرة وما يتعلق بها من النكاح، والرضاع، والعدة
والطلاق، والخلع، والإيلاء، وسائر الأمور المتعلقة بالأسرة كالتحذير من معاشرة
النساء في الحيض وتحريم نكاح المشركات.
وكذلك فقد تناولت السورة أحكام الحلف
«اليمين» وأحكام الدَّين، وأحكام القبلة، والنسخ في القرآن، وتحدثت بالتفصيل عن
«جريمة الربا» التي تقوض بنيان المجتمع، وتهدم أركانه.
وفي خلال السورة
الكريمة: تناولت الحديث عن أهل الكتاب، وبخاصة بني إسرائيل «اليهود» لأنهم
كانوا مجاورين للمؤمنين في المدينة، فنبهت إلى خبثهم ومكرهم، وما تنطوي عليه
نفوسهم الشرِّيرة من اللؤم والكيد والغدر، والخيانة ونقض العهود والمواثيق،
وذلك للتحذير من هذه العصبة المجرمة الطاغية، لئلا يقع المسلمون فريسة كيدهم
ومكرهم، وهم الزمرة الأولى من أهل الكتاب، أما الزمرة الثانية وهم «النصارى»
فقد تناولتهم سورة آل عمران، وقد ختمت السورة الكريمة بتوجيه المؤمنين إلى
التوبة والإنابة، والاعتصام بحبل اللَّه عز وجل.
قال العلامة الشيخ محمد الطاهر
بن عاشور في «التحرير والتنوير»:
كذا سُميت السورةُ سورة البقرة في المروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم وما جرى في كلام السلف، فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ(/1)
الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، وفيه عن عائشة لما نزلت الآيات من آخر
البقرة في الربا قرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام فحرم التجارة في
الخمر.
ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر اللَّه بني إسرائيل
بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره،
وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزًا لها عن السور آل الم من الحروف
المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي
فيها وعرفوها بها نحو: طه ويس، وص، وفي الإتقان عن المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنها سَنام القرآن»، وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علمًا ولكنه وصف تشريف،
وكذلك قول خالد بن مَعْدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان
لإحاطتها بأحكام كثيرة.
نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في
المدينة وحكى ابن حجر في شرح البخاري الإتفاق عليه، وقيل: نزلت سورة المطففين
قبلها بناءً على أنها سورة مدنية، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام،
والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة، فرض فيها صوم عاشوراء، ثم فرض صيام
رمضان في السنة الثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام
الثاني من الهجرة فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها
أو في الثانية.
وفي البخاري عن عائشة: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده (تعني
النبي صلى الله عليه وسلم)، وكان بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة.
وقيل
في أول السنة الثانية، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت
ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع سنين، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام
الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام
ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست وقد يكون ممتدًا إلى ما بعد سنة
ثمان كما يقتضيه قوله: الحج أشهر معلومات الآيات إلى قوله:
لمن اتقى، على أنه قد قيل إن قوله: واتقوا يوما ترجعون
فيه إلى الله الآية، هو آخر ما نزل من القرآن، وقد بينا في المقدمة
الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سورٌ أخرى.
وقد
عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين
وقبل سورة آل عمران.
وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهدٍ بإقامة الجماعة
الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم كان من أول أغراض هذه السورة تصفية
الجماعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام اللَّه لها من الصلاح
سعيًا لتكون المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل (كناية عن الفساد
والعداوة)، وإذ كانت أول سورة نزلت بعد الهجرة فقد عُني بها الأنصار وأكبوا على
حفظها، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلى الله عليه وسلم
للعباس: «اصرُخ يا معشر الأنصار يا أهل السَّمُرَة (يعني شجرة البيعة في
الحديبية) يا أهل سورة البقرة». فقال الأنصار: لبيك لبيك يا رسول اللَّه،
أبشر.
وفي الموطأ قال مالك: إنه بلغه أن عبد اللَّه بن عمر مكث على سورة البقرة
ثماني سنين يتعلمها، وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة
ومكة والشام، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة، وسبع وثمانون عند أهل العدد
بالبصرة.
وللحديث بقية بإذن اللَّه تعالى.(/2)
مداخل الشيطان على الصالحين
الدكتور عبدالله الخاطر
أولا : التحريش بين المسلمين
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : [إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ]رواه مسلم والترمذي وأحمد من حديث جابر رضي الله عنه.
وجاء عن سليمان بن صرد رضي الله عنه أنه قال : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ] ، فَقَالُوا لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ وَهَلْ بِي جُنُونٌ . رواه البخاري ومسلم وأحمد.
ثانياً : إساءة الظن
عن عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا ؛ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ ] ، فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا ] رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد .
ثالثاً : تزيين البدعة للإنسان .
رابعاً : تضخيم جانب على حساب جانب آخر .
أ-على المستوى الفردي ، مثل :
_ كمن ارتكب ذنوباً كثيرة ، فيهتم بالصلاة دون غيرها من الأعمال الدعوية بحجة أنها عمود الدين ، وهي أول الأعمال التي ينظر فيها يوم الحساب .
_ الاهتمام بالمعاملة مع الناس أكثر من الاهتمام بالمعاملة مع الخالق من صلاة أو نحوها بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ الدين المعاملة ] .
_ الاهتمام بالنية الطيبة دون غيرها .
ب-على المستوى الاجتماعي ، مثل :
_ الاهتمام بالقضايا السياسية والفرق المعاصرة أكثر من الاهتمام بباقي الشريعة .
_الاهتمام بقضايا العبادة والجوانب الروحية أكثر من باقي أمور الشريعة .
_ الاهتمام بوحدة الصف اعتماداً على قوله تعالى : ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)[ سورة آل عمران ، ويجعلون هذا شغلهم دون بيان معايب الجماعات والفرق الأخرى المخالفة للشرع .
خامساً : التسويف والتأجيل .
سادساً : الكمال الزائف ، مثل :
_ النظر لما دونه من الأعمال الصالحة .
_ الإعجاب بالأعمال التي يقدمها ثم يشغله بالمباحات .
سابعاً : عدم التقدير الصحيح للذات وقدراتها ، وذلك من طريقين :
أ-نظرة الإعجاب والغرور بالذات ، وأن بعض الأعمال الصالحة يقوم بها من هو دونه لاترقى لدرجة أعماله .
ب-نظرة التواضع والاحتقار للذات ؛ حتى يدفعها لعدم العمل بدعوى أنه ليس بكفء لبعض الأعمال الصالحة .
ثامناً : التشكيك ، وذلك مثل :
_ التشكيك في صحة طريقة التربية مع خلال قلة الأتباع مع أن الله سبحانه وتعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : ) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103) ( سورة يوسف .
ويقول التابعي نعيم بن حماد : " إن الجماعة ماوافق طاعة الله عز وجل ، وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد ، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة ".
_ التشكيك في نيته وإخلاصه ، وعلاج هذا قول الحارث بن قيس رضي الله عنه : " إذا أتاك الشيطان وأنت تصلى ، فقال إنك ترائي ، فزدها طولا ً" .
تاسعاً : التخويف ، وذلك إما بالتخويف من :(/1)
أ-أولياء الشيطان ، يقول الله تعالى : ) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)( سورة آل عمران .
ب-الفقر ، يقول الله تعالى : ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)( سورة البقرة .
العوامل التي تساعد الشيطان في آداء وظيفته
أولاً : الجهل .
ثانياً : الهوى وضعف الإخلاص ، يقول الله تعالى عن الشيطان : ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)( سورة ص .
ثالثاً : الغفلة وعدم التنبه لمداخل الشيطان .
العلاج من كيد الشيطان
1-الإيمان بالله ، يقول الله تعالى : ) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)( سورة النحل .
2-طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة .
3-الإخلاص في هذا الدين ، يقول الله تعالى عن الشيطان : ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)( سورة ص .
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، فإنه أهون عليكم من الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم "
وعن الحسن رضي الله عنه قال : " لا تلقى المسلم إلا يحاسب نفسه،ماذا أردت تعملين ؟ وماذا أردت تأكلين ؟ وماذا أردت تشربين ؟ والفاجر يمشي قدماً ،لا يحاسب نفسه " .
4-ذكر الله والاستعاذة من الشيطان الرجيم ، يقول الله تعالى : ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200)( سورة الأعراف .وكذلك قراءة المعوذتين وآية الكرسي .
من كتاب : مداخل الشيطان على الصالحين
تأليف : عبد الله الخاطر(/2)
الدرس 100 / 100 والأخير لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
الموضوع : مدارج السالكين :الخصائص الكبرى للعبادة
التاريخ : 24/07/2000
تفريغ : عماد علان
مراجعة وتدقيق : الآنسة عفاف الجزائري .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ماينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول ، فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
أيها الإخوة الكرام :
... مع الدرس المتم للمئة ، من دروس مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، وهذا الدرس الأخير من سلسلة هذه الدروس ، أردت أن أجمع فيه بعض الخصائص الكبرى للعبادة ، لأنه خاتمة هذه السلسلة الطويلة .
هناك حقائق واضحة وضوح الشمس ، نحن مخلوقون في هذه الأرض للعبادة ، لأن الله عزوجل يقول :
[سورة الذاريات]
أيها الإخوة ، قبل أشهر ، وُلد في الهند طفل ، أتمَّ عدد سكان الأرض ستة آلاف مليون ، وما من واحد من هؤلاء الستة آلاف مليون ، إلا ويتمنى السلامة والسعادة ، وأقول السلامة في طاعة الله والسعادة في العمل الصالح ، أي مخلوق على وجه الأرض ، من المخلوقات العاقلة ، يبحث عن سلامته وسعادته ، وسلامته في طاعة الله ، أو في تطبيق منهج الله، أو في تطبيق تعليمات الصانع ، والجهة الصانعة ، هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتَّبع تعليماتها ، وما من سعادة إلا في القرب من هذا الخالق الذي هو منبع الجمال ، منبع الكمال ، منبع النوال ، وأنت أيها الإنسان تحب الجمال ، والكمال ، والنوال فمنبع الجمال هو الله ، وكل مافي الكون من جمال ، مسحة من جماله ، أنت تشعر بلذة ، حينما تتصل بمخلوق جميل ، أنت حينما تأكل طعاماً طيباً ، ويلتصق الطعام بأعصاب الذوق ، بسقف اللسان ، في سقف الفم أثناء البلع ، تشعر بطعم هذا الطعام، لأنك اتصلت بعنصر جميل في طعمه ، وقد تتصل بعنصر جميل في شكله، تنظر إلى جبل أخضر ، وبحر جميل ، ووردة متألقة ، تشعر بلذة ، ومتعة، فكيف إذا سُمح لك أن تتصل بأصل الجمال في الكون ، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :
"أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
[رواه البخاري ]
هذا معنى قول النبي : أرحنا بها يابلال ، أحدكم حينما يُحكم اتصاله بالله ، أو يعمل عملاً صالحاً كبيراً ، يبيض وجهه عند الله ، حينما تنهمر دموعه من خشية الله ، يشعر بسعادة والله لاتُوصف ، متع الأرض كلها لايمكن أن تصمد أمام هذه المتعة ، متعة الاتصال بالله ، هذا الاتصال بالله يجعلك إنسانا آخر موازينك مختلفة اختلافاً كلياً عن موازين الآخرين ، مقاييسك مختلفة ، تسعد بالعطاء لابالأخذ ، تسعد بالاندفاع ، لا بالانسحاب ، تسعد بتقديم جهودك للآخرين لا باستغلال جهودهم ، هذا هو سر التدين السلامة والسعادة مطلبان ثابتان لكل إنسان في كل زمان ومكان ، لماذا الشقاء ؟ هناك شقاء في العالم لايعلمه إلا الله ، هناك أناس ، بحسب القرآن الكريم سوف يكون مصيرهم إلى النار ، إستمع إليهم ماذا يقولون :
[سورة الملك ]
هي أزمة علم ، لأن كل إنسان يُحب وجوده ، ويحب سلامة وجوده ، وكمال وجوده ، واستمرار وجوده ، فلو أُتيح له أن يعرف أسباب سعادته ، لثبت فيها ، إنسان شقي ، لو أُتيح له أن يعرف الله ، وأن يعرف طريق سعادته كما عرفها المؤمن ، لكان مثله ، إذاً سبب الشقاء ، نقص العلم ، نقص التوحيد الشرك ، تغييب الحقائق الأساسية عن الإنسان ، هذا معنى قول الله عزوجل :
في آخر الزمان ، العبادات الشعائرية ، يؤديها الناس جميعا ، ويغيب عنهم أن منهج الله فيه عبادات شعائرية ، وفيه عبادات تعاملية ، وأنا أرى أن العبادات الشعائرية لا يمكن أن تقطف ثمارها ، ولا يمكن أن تسعد بها ، إلا إذا كنت ملتزماً بالعبادات التعاملية ، ومعي ألف دليل ودليل :
"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ."*
[مسلم ، الترمذي ، أحمد ]
قال رجل :(/1)
"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ ."*
[رواه أحمد ]
وقَالَ:
"دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ، فِي هِرَّةِ رَبَطَتْهَا، فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ هِيَ أرْسَلَتْهَا تَأَكلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ .".
[رواه ابن ماجة ]
ويقول:
" قَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقُولُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ."
هذا النمام
[ البخاري ، أبي داوود ، مسلم ، أحمد ، الترمذي]
لو استعرضت الأحاديث الصحيحة المتعلقة بالمعاملات ، لوجدتها أكثر من أن تُحصى ، ولوجدت أن العبادات الشعائرية مرتبطة بالعبادات التعاملية ، فقد ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وهذا حديث مشكل ، لكن يعنيني منه جانب واحد ، قالت ، قولوا لفلان : إنه أبطل جهاده مع رسول الله .
أنت حينما تأكل المال الحرام ، وحينما تعتدي على الأنام ، وحينما تُوقع بين اثنين ، وحينما ترتكب شيئاً منكراً ، كأنك قلت يارب ، أبطل لي صلاتي ، لا تقبل مني صلاتي ، لا تقبل مني صيامي ، لا تقبل مني حجي، أريد أن أضع يدي على بعض الحقائق ، الحقيقة الأولى ، العبادة ليست شيئا تفعله أو لا تفعله لا ، هي قدرك خُلقت من أجلها ، علة وجودك أن تعبد الله ، ويجب أن تعلم علم اليقين أنه من عبد الله ولم يحبه ، من أطاع الله ولم يحبَّه ، ماعبده ، ومن أحبه ولم يطعه ، ما عبده ، إنها طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تؤدي إلى سعادة أبدية ، إن أكثر الفرق التي انحرفت ، اعتمدت أحد كليات الإسلام، وركزت عليه ، وأهملت الكليتين الباقيتين ، جماعات اعتمدوا على القلب وحده ، وأهملوا العلم والعمل ، وجماعات اعتمدوا على العلم وحده ، وأهملوا القلب والعمل ، وجماعات اعتمدوا على العمل وحده ، وأهملوا القلب والعلم ، كل هؤلاء عرجوا ، وكل هؤلاء انحرفوا ، وكل هؤلاء تطرفوا لكن تتفوق إن فهمت العبادة بالتعريف الأصولي ، طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تؤدي إلى سعادة أبدية .
إذاً أنت مخلوق للعبادة ، والعبادات نوعان ، عبادات تعاملية ، فالمسلم صادق ، أمين ، ومما يُوقع في الحيرة أننا نجد في العالم الإسلامي مسلم يصلي ، ويكذب ، يصلي ويأكل المال الحرام ، يصلي ويخون للإمام علي كرم الله وجهه ، قول رائع ، يقول : قوام الدين والدنيا أربعة رجال ، عالم مستعمل علمه وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه . فإذا ضيع العلم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله ، باع الفقيرآخرته بدنيا غيره .
والنوع الثاني من العبادات العبادات الشعائرية وهي ثمرة للجانب التعاملي ، كساعات الامتحان تماما ، لامعنى لها إن لم تدرس ، إذا صح أن تكون العبادة التعاملية هي العام الدراسي ، فإن العبادة الشعائرية هي ساعات الامتحان الثلاثة ، بقدر دراستك ، تتألق في امتحانك ، فلو فرضنا أنك لم تدرس الامتحان ليس له معنى إطلاقا ، الشيء الثاني ، حينما يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
" .... اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ..."
[ الترمذي ، أحمد ]
فهناك نوافل ، وهناك أذكار ، وهناك أعمال صالحة ، لكن قبل كل هذه الأذكار ، وقبل كل هذه النوافل ، وكل هذه الأعمال ، يجب أن تتقي المحارم ، كي تكون أعبد الناس ، فإن الله لا يقبل نافلة ، ما لم تُؤدى الفريضة ، كما أنه لا يقبل عملاً صالحاً إلا إذا بني على استقامة ، وطاعة، فإذا أردت أن أبرز معالم الطريق إلى الله ، أول معلم من معالم الطريق إلى الله ،أن تعرفه ، مع أن جماعات كثيرة ، تهمل معرفته ، وتركز على معرفة منهجه ، مع التقدير اللامتناهي لمعرفة منهجه ، ومع التقدير الكبير لضرورة معرفة منهجه ، لكن معرفة منهجه وحدها لا تكفي ، لابد من أن تعرف الآمر من أجل أن يكون الأمر عظيماً عندك ، قال تعالى:
[سورة الحج](/2)
أول معلم من معالم الطريق أن تجتهد في معرفة الله ، لأنه آمر ، إن عرفت الآمر ، ثم عرفت الأمر ، تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر ، تفننت في التفلت من هذا الأمر وهذا ما تجده واضحاً في العالم الإسلامي ، بلد إسلامي ، قال الربى ، يجوز أن تضع مالك في المصارف وأن تأخذ فائدة ، سنسميها عوائداً ، لا فوائد ، في مكان آخر سُمح بالغناء والتمثيل ، والموسيقى ، في مكان ثالث ، سُمح بأكل الربى أضعافا غير مضاعفة ، يعني من يشتغل بالعلم الشرعي ، يُقرب هذا الدين من انحراف الناس ، ليغطي انحرافهم ، السبب بسيط ، لأنهم ما عرفوا الآمر ، عرفوا الأمر ، أنا أضرب مثلاً ، قد تأتيك ورقة ، تُدعى فيها إلى أن تذهب إلى البريد ، لتستلم رسالة مسجلة ، ورقة ، حجمها بحجم الكف ، تعالَ الساعة الثانية عشر من يوم الخميس ، وقد تأتيك ورقة بحجم الأولى تماماً ، وببساطتها ولكن جهة قوية ، تقول لك ، تعال قابلنا يوم الخميس ، الساعة الثانية عشر ، الورقة الثانية ، لا تنام الليل هماً وغماً، ثلاثة أيام وأنت في خوف شديد ، والورقة الأولى لم تعبأها ، ولم تذهب إلا بعد شهر لاستلامها أما الورقة الثانية لم تنم الليل ، لثلاثة أيام ، لأن الجهة الأولى غير قوية ، أما الجهة الثانية قوية ، تعلم علم اليقين ، من مرسل الورقة الثانية ، وماذا يعني أن تصل إليك ، فأنت ببساطة بالغة ، حينما تعرف الآمر ثم تعرف الأمر ، تتفانى في طاعة الأمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر ، تتفنن في التفلت من الأمر ، تارة بلوى عامة ، وتارة في رأي بعض المذاهب تجوز ، وتارة ، الله يغفر لنا ، نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان ، إذاً أنت كمسلم يجب أن تعرف الآمر قبل الأمر ، كي يكون لهذا الأمر شأن كبير عندك ، كي تقبل على هذا الأمر ، رغباً ورهباً ، خوفاً وطمعاً ، ترجو رحمة الله بهذا الأمر ، وتخشى عذابه ، كيف أعرف الآمر؟ الجواب ، الله جل جلاله خلق هذا الكون ، فكل شيء في هذا الكون يدل عليه فالتفكر في خلق السماوات والأرض ، أحد الوسائل الفعالة لمعرفة الآمر ، التفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله ، وأوسع باب تدخل منه على الله ، لابد من معرفة أمره ، حينما تعرف الله تندفع اندفاعاً شديداً لمعرفة أمره ، لأنك بالكون تعرفه ، وبالشرع تعبده ، لاتجد مسلماً وصل إلى حد المعقول من معرفة الله ، دفعه إلى طاعته ، إلا ويبحث ويدقق ، ويسأل عن حكم الله في كذا وكذا ، شيء طبيعي ، جداً ، حينما تتعرف إلى الله ، تبحث عن شيء يُوصلك به ، ويقربك منه ، إنه تنفيذ أمره ، هناك محرمات ، هناك مكروهات ، هناك مباحات ، هناك مندوبات ، هناك واجبات ، وهناك فروض ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
" .... اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ..."
[ الترمذي ، أحمد ]
المعلم الثاني من معالم الطريق ، الاستقامة على أمر الله ، لا تفكر أن تسعد بهذا الدين ، ولا أن تقطف ثماره ، ولا أن تكون من المتدينين عند الله ، إلا أن تستقيم على أمر الله ، في عالم التجارة ، هناك نشاطات لا تُعد ولا تُحصى ، من هذه النشاطات ، شراء محل تجاري ، شراء مستودع، شراء مكتب استيراد ، تعيين مندوبي مبيعات ، تعيين هيئة محاسبة ، مخاطبة الشركات ، تعيين مترجم ، ثم عرض هذه البضائع ، ثم بيعها وجمع ثمنها ، هناك آلاف النشاطات في التجارة ، لكن التجارة كلها ، مبنية على كلمة واحدة ، هي الربح ، فإن لم تربح ، فلا معنى لكل ذلك ، كل ما تقرأ وكل ما تسمع ، من خطب ، أو شريط درس علم ، أو كتاب من أندر الكتب ، وكل شيء تُعجب به ، وكل مؤتمر تحضره ، وكل كتاب تؤلفه ، وكل درس تلقيه ، ما لم ينتهِ بك إلى الاستقامة على أمر الله ، لا معنى له ، وبالتجارة ، ما لم تربح لامعنى لكل نشاطاتك ، المعلم الأول أن تعرف الآمر قبل الأمر ، ما قلت أن تعرف الآمر دون الأمر ، أن تعرف الآمر والأمر معاً ، إنني لا أقلل من قيمة معرفة الأمر ، ولكن معرفة الأمر من دون أن تعرف الآمر لا تنفع كثيرا ، ثم لابد من أن تتحرك لتستقيم على أمر الله ، لابد من أن تأخذ موقفاً ، قال تعالى :
[سورة الأنفال]
مالم تتخذ موقفاً عملياً ، ما لم تعط لله ، مالم تمنع لله ، ما لم تصل لله ، ما لم تقطع لله ، ما لم تغضب لله ، مالم ترض لله ، مالم تقم علاقة مع زيد لله ، ما لم تقطع هذه العلاقة لله ، فكل شيء نظري كل شيء تعتقد به ، لا جدوى منه ، مثلاً ،إنسان معه مرض جلدي ، بحاجة إلى أشعة الشمس ، والشمس ساطعة ، فلو قال الشمس ساطعة لا يستفيد ، أولا لأنه ما فعل شيئا ، هي ساطعة ، فلو قال هي ساطعة ما زاد شيئا ، ما أضاف شيئا ، وإن أنكر سطوعها ، يُتهم عقله ، وما لم يخرج هذا الإنسان المريض بجلده ليتعرض لأشعة الشمس ، فتصريحه ، واعتقاده ، ويقينه لا قيمة له ، أبدا إذاً ، المعلم الثاني الاستقامة على أمر الله :
[سورة النساء](/3)
أحيانا الإنسان يتوهم أنه يُرضي الله بسماع درس العلم ، الله عزوجل لا يرضى إلا إذا طبقت العلم قال تعالى:
[سورة الصف]
يتعرف إلى الله من خلال خلقه ، ومن خلال أفعاله ، ومن خلال كلامه ، ثم تتعرف إلى منهجه ثم تستقيم على أمره ، المعرفة ، والاستقامة ، قلت بالاستقامة تسلم ، وبالعمل الصالح تسعد ، فأول معلم معرفة الله ، المعلم الثاني ، معرفة أمره ، المعلم الثالث ، أن تستقيم على أمره ، المعلم الرابع، أن تعمل صالحا ، أن تبذل مما آتاك الله ، من علم ، من مال ، من قوة ، من جاه ، من خبرة ، من وقت ، لابد من أن تبذل ، لأن حجمك عند الله ، كحجم عملك الصالح ، نعرفه ، ونعرف أمره ، ونتقرب إليه ، هذه المعالم الأساسية للطريق إلى الله عزوجل ، الآن ، نعرفه وهو أصل الدين ، ونعرف منهجه ، كي نتقرب إليه نطيعه كي نسلم ، نعمل الصالحات كي نسعد ، لابد من الاتصال به ، الصلاة مناسبة كي تتصل به والزكاة من أجل أن تتصل به ، أن يكون هذا المال الذي دفعته سببا للإقبال على الله ، والحج من أجل أن تتصل به ، والصيام من أجل أن تتصل به ، والأذكار من أجل أن تتصل به ، والدعاء من أجل أن تتصل به ، وكل أنواع العبادلات التعاملية والشعائرية من أجل أن تتصل به ، بل إن كل شيء يقربك من الله عزوجل ، ينبغي أن تفعله ، وكل شيء يبعدك عن الله عزوجل ، ينبغي أن تبتعد عنه ، هذه معالم الطريق إلى الله عزوجل ، ديننا بسيط ، وأنا أتمنى أن تفهم هذا الدين فهماً مبسطاً ، لأنه كالهواء ، يحتاجه كل إنسان ، هذا الهواء قاسم مشترك للناس جميعا ، والدين كذلك ، أينما ذهبت ، الإنسان بحاجة إلى تدين صحيح ، بحاجة إلى أن يعرف الله، أن يتصل به ، أن يلوذ بحماه ، أن يفهم أن الجهة القوية تحبه ، فياأيها الإخوة من أجل أن نكسب الوقت ، من أجل أن نتحرك دون أن نتقدم ، من أجل أن نكسب أعمارنا الثمينة والقصيرة ، العمر ثمين ، ما دام العمر ثميناً ، والوقت قصيراً ، والمهمة كبيرة ، ينبغي أن تصطفي الشيء النافع .
فينبغي أن نعمل الصالحات من أجل أن نسعد ، ثم ينبغي أن نذكره من خلال صلواتنا وصيامنا وحجنا ، وزكاتنا ، ودعائنا ، واستغفارنا ، وبذلنا، وخدمتنا لبعضنا بعضاً ، هذا هو الطريق ، معرفة واستقامة ، وعمل صالح ، وذكر ، لو أردت أن تضغط ، مؤلفات كثيرة جدا تجدها لا تزيد عن هذه المعالم الأساسية ، التي أرادها الله لتكون طريقا إليه أتمنى أن يُبسط الدين لا أن يُعقّد ، وأتمنى أن يتوافق مع العقل لأن العقل أصل من أصول معرفة الله عزوجل ، لماذا يقول الله عزوجل : أفلا تعقلون ، أفلا ينظرون أفلا يتفكرون ، طُبع مرة قبل خمسين عاماً ، طُبع خمسون ألف مصحف ، حُذفت منه كلمة واحدة ، قوله تعالى:
[سورة آل عمران]
مصحف بخط عثماني ، وفيه تقرير ، وفيه مراجعة ، وفيه وفيه ، حُذفت منه لن هذه الكلمة ، من الذي يكشف لك أن هذا المصحف مزور ، هو العقل السليم الذي أودعه الله فيك ، لايمكن للعقل الصريح أن يتناقض مع النقل الصحيح ، لأن العقل مقياس أودعه الله فينا ، ولأن النقل كلامه ، والأصل واحد أضيف على ذلك ، كما أنه لايمكن أن تتعارض الفطرة السليمة ، مع النقل الصحيح ، كما أنه لايمكن أن يتعارض الواقع الموضوعي مع النقل الصحيح ، الواقع الموضوعي خلقه ، والفكرة السليمة جبلَّته ، والعقل مقياسه ، والنقل كلامه ، وسنة النبي بيان لكلامه ، الواقع الموضوعي خلقه ، الهاء تعود على من؟ على الله ، والفطرة السليمة جبلته ، هو جبلنا عليها ، تعود على الله ، والنقل الصحيح كلامه ، والعقل الصريح مقياسه ، هذا هو الحق ، فحينما ننطلق في حياتنا عمرنا قصير :
كم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
هناك ظاهرة جديدة ، أزمات قلبية بالثلاثين ، أزمات قلبية قاتلة بالخامسة والعشرين ، ضغوط الحياة قاسية جدا ، الإنسان له أجل ، لكن هذا الوهم المريح ، يقول له لن أموت حتى الستين ، لي صديق في التاسعة والأربعين، طبيب ، لا يشكو من شيء ، غادر الدنيا في دقائق ، ظاهرة منتشرة ، لذلك :
تزود من الدنيا فإنك لاتدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
مفهوم الزمن ، هو أخطر مفهوم في حياة الإنسان ، إنك بضعة أيام ، كلما انقضى يوم ، انقضى بضع منك ، وهذا الوقت الذي هو أنت ، أو هو رأس مالك ، أو هو أثمن شيء تملكه على الإطلاق ، إما أن تُنفقه إنفاقاً استهلاكياً، أو أن تنفقه إنفاقاً استثمارياً ، أن تسترخي ، وأن تستمتع بالحياة، هذا إنفاق إستهلاكي ، أما أن تُوظفه في معرفة الله ، ومعرفة منهجه ، وطاعته ، وفي معالم الطريق ، والعمل الصالح ، والاتصال به ، فهذا استثمار للوقت ، لذلك قال تعالى:
[سورة العصر]
والحمد لله رب العالمين(/4)
مراقبة الله
أولاً: مفهوم مراقبة الله.
ثانياً: الفرق بين المراقبة والإحسان.
ثالثاً: درجات المراقبة:
أ- استدامة السير إلى الله وتعظيمه، وحضور القلب معه والذهول عن غيره، والقرب إليه مع الأنس والسرور به.
ب- مراقبة الله بصيانة الباطن والظاهر.
ج- مراقبة الله بشهود انفراده سبحانه بأزليّته وحده، وأنه كان ولم يكن شيء قبله، وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه.
رابعاً: فضيلة المراقبة:
أ- أن المراقبة من أسباب دخول الجنة.
ب- أن بها يكسب العبد رضا الله سبحانه وتعالى عنه.
ج- أنها من أعظم البواعث على المسارعة إلى الطاعات.
د- أن بها يحصل العبد على معيّة الله وتأييده.
هـ- أنها تعينه على ترك المعاصي والمنكرات.
و- أنها من أفضل الطاعات وأغلاها.
ز- أنها من خصال الإيمان وثمراته.
ح- أن بها يسعد العبد وتصلح أحواله في الدارين.
خامساً: كيف تراقب الله؟
أ- أن تنظر إلى همك وإرادتك قبل فعل الطاعات، فإن كان همّك وإرادتك لله أمضيتها، وإن كان لغيره فلا.
ب- أن تنظر إلى إرادتك عند الشروع في فعل الطاعات فتخلص نيّتك لله تعالى.
ج- أن تراقب الله قبل الهم بالمعصية فتكف عنها.
د- أن تراقب الله بعد الوقوع في المعاصي بالتوبة.
هـ- أن تراقب الله في المباحات، فتشكره على نعمه، ولا تسترسل بالكلية فيها.
سادساً: الطرق المعينة على المراقبة:
أ- التعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى والتعبد بمقتضاها.
ب- قطع أشغال الدنيا عن القلب وتعاهده بالرعاية والعناية.
ج- تعظيم الله سبحانه وتعالى.
د- التفكر في أمور الآخرة.
سابعاً: من أقوال السلف.
ثامناً: ملحقات البحث: (قصة ـ أبيات ـ محامد ـ مراجع للتوسع).
أولاً: مفهوم مراقبة الله:
المراقبة لغة: مصدر مأخوذ من راقب يراقب مراقبة، وتدل على الانتصاب لمراعاة الشيء. والرقيب: الحافظ. وراقب الله في أمره: أي خافه.
وقال المحاسبي: "المراقبة دوام علم القلب بعلم الله عز وجل في السكون والحركة علماً لازماً مقترناً بصفاء اليقين".
قال ابن القيم: "المراقبة دوام علم العبد، وتيقّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه".
وقال القاسمي: "المراقبة هي ملاحظة الرقيب، وانصراف الهم إليه".
ينظر: مقاييس اللغة (مادة رقب 2/47) ولسان العرب (مادة رقب 5/279-280).
الوصايا (313).
مدارج السالكين (2/67).
موعظة المؤمنين (451).
ثانياً: الفرق بين المراقبة والإحسان:
ـ أن المراقبة تشمل المراقبة في الطاعات وفي المعاصي وفي المباحات، والإحسان يشمل المراقبة في الطاعات والعبادات فقط
قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
قال ابن قدامة: "أراد بذلك ـ أي الإحسان ـ استحضار عظمة الله، ومراقبته في حال العبادة".
وقال ابن الأثير: "أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة، وحسن الطاعة".
وقال النووي في شرحه للحديث: "فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه ـ تبارك وتعالى ـ في إتمام الخشوع والخضوع".
وقال ابن حجر: "وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع، وفراغ البال حال التلبّس بها، ومراقبة المعبود...".
وقال حافظ الحكمي: "فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين: أعلاهما: عبادة الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، والثاني: مقام المراقبة".
وقال ابن رجب: "والإحسان في ترك المحرمات الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها".
ـ إن الإحسان أعم من المراقبة من جهة أخرى؛ فإن الإحسان يطلق على الإحسان إلى الخلق بالإنفاق ووجوه البر؛ قال تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، وقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
قال ابن رجب: "وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب، كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة، والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه".
ـ وبعض العلماء لم يفرقوا بينهما في المعنى فأطلقوا الإحسان على الطاعات والمباحات أيضاً.
قال أبو محمد القصري: "والإحسان مقامه واحد، ولكن لما كانت العبادة ظاهراً وباطناً، انقسم الإحسان على حسب العوالم... فإن العبادة كما تقدم على ثلاثة: أوامر، ونواهي، ومباحات".
ينظر: أعمال القلوب وأثرها على الإيمان للدكوري (110).
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (50)، مسلم: كتاب الإيمان (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
مختصر منهاج القاصدين (377).
النهاية (1/387).(/1)
شرح مسلم (1/158).
فتح الباري (1/120).
إعلام السنة المنشورة (72).
جامع العلوم والحكم (1/382).
جامع العلوم والحكم (1/388).
شعب الإيمان (2/369).
ثالثاً: درجات المراقبة:
أ- الدرجة الأولى: استدامة السير إلى الله وتعظيمه، وحضور القلب معه والذهول عن غيره، والقرب إليه مع الأنس والسرور به:
قال ابن القيم في معرض شرحه لهذه الدرجة: "فإن الحضور يوجب أنساً ومحبة، وإن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجاً عن حدود العبودية ورعونة، فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب فهو سبب للبعد عنه، والسقوط من عينه... وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم، واللذة التي يجدها في تلك المداناة؛ فإن سرور القلب بالله وفرحه به، وقُرّة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة... ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته".
ب- الدرجة الثانية: مراقبة الله بصيانة الباطن والظاهر:
قال ابن القيم شارحاً لهذه الدرجة: "هذه مراقبةٌ لمراقبة الله لك، فهي مراقبة لصفة خاصة معينة، وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة".
ج- الدرجة الثالثة: مراقبة الله بشهود انفراده سبحانه بأزليته وحده، وأنه كان ولم يكن شيء قبله، وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه:
قال ابن القيم مبينا معنى هذه الدرجة: "وهذا الشهود متعلّق بأسمائه وصفاته، وتقدُّم علمه بالأشياء ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي، فهذا الشهود يُعْطي إيماناً ومعرفة، وإثباتا للعلم والقدرة، والفعل، والقضاء والقدر.
مدارج السالكين (2/69-70) بتصرف.
مدارج السالكين (2/71) بتصرف.
مدارج السالكين (2/74-75) بتصرف.
رابعاً: فضيلة المراقبة:
أ- أن المراقبة سبب من أسباب دخول الجنة:
قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
قال ابن القيم مفسراً الآية: "الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنك تراه... وفي الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته، ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان".
وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس، وذكر منها: "ومراقبة الله في السر والعلانية".
وقال عَزَّ من قائل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].
قال أبو السعود: "وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحُسْنِه الذاتي، وهو ما فسّره صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))؛ {فَلَهُ أَجْرُهُ} الذي وعده به على عمله، وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل فيه دخولاً أولياً".
ب- أن بها يكسب العبد رضا الله سبحانه وتعالى عنه:
قال تعالى: {رّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} [البينة:8].
قال أهل العلم: "ذلك لمن راقب ربه عز وجل، وحاسب نفسه وتزود لمعاده".
ج- أنها من أعظم البواعث على المسارعة إلى الطاعات:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
قال القصري: "إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وسعه، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه" .
د- أن بها يحصل العبد على معية الله وتأييده:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128].
قال ابن كثير: "أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة".
هـ- أنها تعينه على ترك المعاصي والمنكرات:
قال ابن الجوزي: "فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط".
وقال ابن القيم: "فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه من المعاصي، فإن من عبد الله كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذِكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلاً عن مواقعتها".
وقال أيضاً: "فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته".
و- أنها من أفضل الطاعات وأعلاها:
قال ابن عطاء: "أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات".
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]: "ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء... في عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة".
ويقول حافظ الحكمي:
وثالثٌ مرتبة الإحسان وتلك أغلاها لدى الرحمن(/2)
وهي رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعَيان.
ز- أنها من خصال الإيمان وثمراته:
قال القصري: "فأما كونه من الإيمان فبيّن؛ لأنه في نفسه تصديق بالنظر إلى الله في الحال، أو تصديق بأن الله ينظر إليه، إلا أنه ثمرة الإيمان، وأعلاه وخالصه".
ح- أن بها يسعد العبد، وتصلح أحواله في الدارين:
قال ابن علان: "فينبغي ألا يشتغل إلا بما فيه صلاحه معاشاً ومعاداً، بتحصيل ما لا بد منه في قوام البدن، وبقاء النوع الإنساني، ثم بالسعي في الكمالات العلمية، والفضائل العلية التي هي وسيلة لنيل السعادة الأبدية... وذلك إنما يكون بالمراقبة، ومعرفة أن فيما يأتيه بمرأى ومسمع من الله سبحانه وتعالى وأنه لا يخفى عليه شيء من شأنه" .
مدارج السالكين (2/479).
انظر: إحياء علوم الدين (4/398).
تفسير أبي السعود (1/147).
انظر: إحياء علوم الدين (4/398).
انظر: شعب الإيمان (2/371-372) بتصرّف.
تفسير ابن كثير (753).
صيد الخاطر (236).
الجواب الكافي (70).
مدارج السالكين (2/96).
انظر: إحياء علوم الدين (4/397).
تفسير ابن كثير (152).
معارج القبول (2/399).
انظر: شعب الإيمان (2/359).
دليل الفالحين (1/345).
خامساً: كيف تراقب الله؟:
أ- أن تنظر إلى همّك وإرادتك قبل فعل الطاعات، فإن كان همّك وإرادتك لله أمضيتها، وإن كان لغيره فلا:
قال الحسن البصري: "رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
وقال القاسمي: "ثم للمراقب في أعماله نظران: نظر قبل العمل، ونظر في العمل، أما قبل العمل فلينظر همه وحركته أهي لله خاصة أو لهوى النفس ومتابعة الشيطان؟ فيتوقف فيه ويتثبّت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق، فإن كان لله تعالى أمضاه، وإن كان لغير الله استحيا من الله، وانكف عنه، ثم لام نفسه على رغبته فيه، وهمه به، وميله إليه، وعرّفها سوء فِعْلها، وأنها عدوّة نفسها".
ب- أن تنظر إلى إرادتك عند الشروع في فعل الطاعات فتخلص نيتك لله سبحانه وتعالى:
قال ابن قدامة: "ومراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها".
وقال القاسمي: "وأما النظر الثاني للمراقبة عند الشروع في العمل، فذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه، ويحسن النية في إتمامه، ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه".
ج- أن تراقب الله قبل الهم بالمعصية، فتكفّ عنها:
قال القصري وهو يعدّد أنواع الإحسان: "فأما قسم المعاصي على اختلاف أنواعها؛ فإن العبد مأمور بأن يعلم أن الله يراه، فإذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه، ويبصرُه على أي حالة كان، وأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور كفَّ عن المعصية ورجع عنها".
د- أن تراقب الله بعد الوقوع في المعاصي بالتوبة:
وقال القصري: "فإن غلبه فعل المعاصي انقضَّ وزلّ عن مقام الإحسان، ووقع في شكلٍ يبطل العبادة سارع إلى الاستغفار، والرجوع إلى مقام الإحسان".
قال ابن القيم: "ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع".
هـ- أن تراقب الله في المباحات فتشكره على نعمه، ولا تسترسل بالكلية فيها:
وقال القصري: "وأما القسم الثالث من المباحات والكسبيات؛ فإن ذلك محل الغفلة، والسهو عن هذا المقام الإحساني، فإذا تذكّر العبد أن الله يراه في تصرّفه، وأنه أمره باتباعه والإقبال عليه، وقلّة الإعراض عنه استحيا أن يراه مكباً على الخسيس الفاني، مستغرقاً في الاشتغال به عن ذكره؛ فيقبضه ذلك عن الاستكثار الملهي، والاشتغال والاسترسال بالكلية في أمور الدنيا".
قال ابن القيم: "ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو العبد من نعمة لا بد له من الشكر عليها" .
انظر: مختصر منهاج القاصدين (377).
موعظة المؤمنين (451-452).
مختصر منهاج القاصدين (373).
موعظة المؤمنين (452).
انظر: شعب الإيمان (2/363).
انظر: شعب الإيمان (2/363).
مدارج السالكين (2/68).
انظر: شعب الإيمان (2/364).
مدارج السالكين (2/68).
سادساً: الطرق المعينة على المراقبة:
أ- التعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى والتعبد بمقتضاها:
قال ابن القيم: "والمراقبة التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة".
ب- قطع أشغال الدنيا عن القلب وتعاهده بالرعاية والعناية:
سئل المحاسبي: فما يوصله إلى هذه الحالة ـ أي المراقبة ـ؟
قال: "قطع علائق الأشغال، ولزوم العلم، والتعاهد بالعناية والرعاية".
ج- تعظيم الله سبحانه وتعالى:
قال محمد بن نصر المروزي: "إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله، والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر اطلاع الله العظيم، ونظره بعظمته إلى ما في قلبه وجوارحه... فاستحى الله أن يطلع على قلبه وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه، تتحرك بما يكره، فطهّر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه".
د- التفكر في أمور الآخرة:(/3)
قال القصري: "أما المقام الثاني من الإحسان في عالم الغيب ومقام الإيمان فإن العبد إذا فكر في مواطن الآخرة من موت، وقبر، وحشر،... وعلى أنه معروض على الله في ذلك العالم ومواطنه؛ تهيأ لذلك العرض" .
مدارج السالكين (2/68).
الوصايا (314).
تعظيم قدر الصلاة (2/826).
انظر: شعب الإيمان (2/364).
سابعاً: من أقوال السلف:
قال مسروق بن الأجدع: "من راقب الله في خطرات قلبه؛ عصمه الله في حركات جوارحه".
قال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"؛ فسأله عن تفسيرها، فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل".
قال أبو حفص لأبي عثمان: "إذا جلست للناس فكن واعظاً لنفسك وقلبك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك" .
انظر: صفة الصفوة (4/129) وتنوير المقباس لابن رجب (55).
انظر: إحياء علوم الدين (4/297).
انظر: إحياء علوم الدين (4/297).
ثامناً: ملحقات البحث: (قصة ـ أبيات ـ محامد ـ مراجع للتوسع):
قصة:
قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك، فقال: قل لسيّدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله ؟ قال: فبكى عمر، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تُعتقك في الآخرة.
أبيات:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
وقال ابن السّماك:
يا مدمن الذنب أما تستحي واللهُ في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
وقال أبو محمد الأندلسي:
وإذا ما خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعيةٌ إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
محامد:
الحمد لله الرقيب الذي أحاط بكل شيء رحمةً وعلماً، وأتقن ما صنعه وأبدع ما شرعه إحكاماً وحُكماً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المحسنين أجراً عظيماً، فقال: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه وجعله إماماً، أفضل داع إلى الإحسان وأعظمهم مقاماً، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً.
مراجع للتوسع:
• إحياء علوم الدين (4/398) للغزالي.
• مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة.
• مدارج السالكين لابن القيم (2/479).
• شعب الإيمان للقصري.
• الوصايا للمحاسبي.
• موعظة المؤمنين للقاسمي.
• أعمال القلوب وأثرها في الإيمان لمحمود دوكوري.
انظر: إحياء علوم الدين (4/296)، والسير (3/216).
تُنْسب لأبي نواس، ولأبي العتاهية، ولغيرهما، انظر الخلاف في ذلك في: حماسة الظرفاء (1/187) وديوان شعر الخوارج (ص260-261).
انظر: جامع العلوم والحكم (1/440).
نونية القحطاني (25).(/4)
مسائل في السُّنَّة
إعداد/ متولي البراجيلي
الحلقة الثانية عشرة
الحديث الضعيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
وبعد:
علم الحديث مفخرة من أعظم مفاخر المسلمين، شهد بهذا الداني والقاصي، حتى
قال بعض المستشرقين: فليفخر المسلمون بعلم حديثهم.
وقد كان الناس أيام فيوض
العدالة يقبلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسألون عن إسناده، حتى وقعت الفتن فبدأوا
يسألون عن الإسناد، وكما قال ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما
وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر
إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم». [مقدمة صحيح مسلم]
وقد وضع العلماء الأفذاذ
منهجًا علميًا صارمًا لقبول الحديث أو رده، وهذا - وايم اللَّه - من نعم اللَّه
تعالى على هذه الأمة، أن قيَّض للسنة هؤلاء السادة يذبُّون عنها كل عادية
وينقونها من كل شائبة، منذ ما بعد عهد النبوة إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث
اللَّه الأرض ومن عليها، ولما لا ؟ وقد قال اللَّه تعالى: إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.
وسنرى - إن شاء اللَّه
تعالى - تحقيق هذا في الكلام عن الحديث الضعيف وما يتعلق به.
أولاً: ما هو
الحديث الضعيف ؟
الحديث الضعيف هو الحديث الذي اختل فيه شرط أو أكثر من شروط
الحديث الصحيح، وقد جمع أهل العلم هذه الشروط في خمسة شروط، وهي:
1- اتصال
السند: وهو أن يأخذ كل راوٍ من رواة الحديث مباشرة عمن فوقه من أول السند إلى
منتهاه.
2- عدالة الرواة: وهي أن يتصف كل راوٍ من الرواة بصفات وضوابط، مثل أن
يكون مسلمًا، بالغًا، عاقلاً، غير فاسق، وليس به خارم من خوارم المروءة.
3- ضبط
الرواة: وهو أن يكون كل راوٍ من الرواة تام الضبط، وذلك بأن يحفظ ما يسمع
ويؤديه كما هو (ضبط الصدر)، أو يدونه في كتاب ويحفظ هذا الكتاب من التلف أو
الاعتداء (ضبط كتاب).
4- عدم الشذوذ: أي لا يكون الحديث شاذًا، بمعنى أن يخالف
الثقة من هو أوثق منه.
5- عدم العلة: والعلة سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث،
مع أن الظاهر السلامة منه.
مثال لحديث صحيح تتوافر فيه هذه الشروط الخمسة:
قال
البخاري: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور.
فالسند متصل إذ كل
راوٍ سمع من شيخه بدون واسطة، والرواة عدول ضابطون: عبد اللَّه بن يوسف: ثقة
متقن، مالك: هو الإمام مالك بن أنس إمام أهل المدينة، ابن شهاب: هو محمد بن
شهاب الزهري إمام فقيه حافظ متفق على جلالته وإتقانه، محمد بن جبير: ثقة، جبير
بن مطعم: صحابي.
والحديث غير شاذ إذ لم يعارضه من هو أقوى منه، وليس فيه علة من
العلل، وبالتالي فقد استكمل شروط الصحة الخمسة. [تيسير مصطلح الحديث للطحان،
صقل الأفهام الجلية مصطفى سلامة]
فلو اختل شرط من هذه الشروط المذكورة انتقل
الحديث من الصحة إلى الضعف.
ثانيًا: أقسام الحديث الضعيف:
يمكن إرجاع أسباب
الضعف إلى سببين رئيسين:
1- انقطاع الإسناد.
2- الطعن في الراوي سواء كان من
جهة العدالة أو الضبط، والشذوذ والعلة مرجعهما إلى الطعن في الراوي.
وتحت هذين
السببين توجد أنواع كثيرة للحديث الضعيف.
أولاً: الحديث الضعيف بسبب انقطاع في
الإسناد:
1- الحديث المعلَّق: وهو الذي حذف من أول إسناده من جهة المصنف أو
المخرِّج راوٍ أو أكثر على التوالي، حتى لو حذف جميع السند، وسمي بالمعلق
لتشبيهه بالشيء المعلق بالسقف لا يصل إلى الآخر، فلو أن راوي الحديث حذف شيخه
فقط كان الحديث معلقًا، ولو حذف شيخه وشيخ شيخه على التوالي كان معلقًا، ولو
حذف كل السند وصولاً إلى الصحابي أو النبي صلى الله عليه وسلم كان أيضًا معلقًا.
مثال: ما أخرجه
البخاري في مقدمة باب ما يذكر في الفخذ: «وقال أبو موسى: غطَّى النبي صلى الله عليه وسلم ركبتيه
حين دخل عثمان.
فهذا حديث معلق، لأن البخاري حذف جميع إسناده إلا
الصحابي.
ومثله: ما علقه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب عذاب القبر فقال: وقال
النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب القبر: كان لا يستتر من بوله.
فجزم به عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أي أنه ثابت
عنه، وقد وصله في مواضع أخرى من صحيحه.
والحديث المعلق حديث مردود لأنه فقد
شرطًا من شروط القبول (الصحة) وهو اتصال السند مع عدم علمنا بحال المحذوفين من
الرواة.
وهنا يثار سؤال هام: إذا كان الحديث المعلق حديثًا ضعيفًا، فما حكم
الأحاديث المعلقة التي في صحيحي البخاري ومسلم، وهما كتابان قائمان على الصحيح
من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أولاً: الأحاديث المعلقة التي في صحيح البخاري:
تنقسم إلى
قسمين، القسم الأول: ما كان بصيغة الجزم كقال، وفعل، وأمر، وروى، وذكر فلان،
فهو حكم بصحته إلى المضاف إليه، ويبقى النظر في باقي الإسناد، وهو أقسام:
1- ما(/1)
يلتحق بشرط البخاري لكنه علقه ولم يصله، إمَّا الاستغناء بغيره عنه مع إفادة
الإشارة إليه، وعدم إهماله بإيراده معلقًا مختصرًا.
وإمَّا لكونه لم يسمعه من
شيوخه، أو سمعه مذاكرة، أو شك في سماعه، فما رأى أن يسوقه مساق الأصول، قال
الحافظ: وقد استعمل هذه الصيغة فيما لم يسمعه من شيوخه فيوردها بصيغة قال فلان
ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم.
2- ما لا يلتحق بشرط البخاري لكنه
صحيح على شرط غيره؛ كقوله في الطهارة، وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر اللَّه
على كل أحيانه، فهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
3- ما هو حسن صالح للحجة،
كقوله: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: اللَّه أحق أن يستحيي منه. فقد أخرجه
أصحاب السنن.
4- ما هو ضعيف لا من ناحية السند، فليس هناك قدح في رجاله، بل من
جهة انقطاع يسير في إسناده، كقوله في الزكاة: وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل
اليمن: ائتوني بعرْض ثياب (قميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون
عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد استدل به البخاري رحمه اللَّه على
جواز أخذ (العرضْ) في الزكاة، والعرض هو ما عدا النقدين) الحديث، فإسناده إلى
طاووس صحيح، إلاَّ أن طاوسًا لم يسمع من معاذ.
القسم الثاني: ما كان بغير صيغة
الجزم، كيُروى، ويُذكر، ويُحكى، ويُقال... قال ابن الصلاح: أو في الباب عن
النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا القسم أحاديثه لا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه ولا تنافيها
أيضًا لكن فيها ما هو صحيح وما ليس بذلك، وهو يأتي بهذا القسم إما لكونه رواه
بالمعنى، كقوله في الطب: ويُذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرُّقى بفاتحة
الكتاب.
فإنه أسنده في موضع آخر بلفظ: أن نفرًا من الصحابة مروا بحي فيه لديغ،
فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب، وفيه: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا
كتاب اللَّه.
- وإما لأنه ليس على شرطه كقوله في الصلاة: ويُذكر عن عبد اللَّه
بن السائب قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : «المؤمنون في صلاة الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى
وهارون - عليهما السلام - أخذته سعلة فركع، وهو صحيح أخرجه مسلم، إلا أن
البخاري لم يخرج لبعض رواته».
- أو لكونه (أي البخاري) ضم للحديث ما لم يصح،
فأتى بصيغة تستعمل فيهما (أي في الصحيح وغيره)، كقوله في الطلاق باب: لا طلاق
قبل نكاح، عن علي بن أبي طالب، وابن المسيب، وذكر نحوًا من ثلاثة وعشرين
تابعيًا أنها لا تطلق (أي لا يقع الطلاق قبل النكاح).
- وقد يورده أيضًا في
الحسن، كقوله في البيوع: ويُذكر عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إذا بعت
فَكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل.
هذا الحديث رواه الدارقطني من طريق عبيد اللَّه بن
المغيرة، وهو صدوق، عن منقذ مولى عثمان، وقد وثق، عن عثمان، وتابعه سعيد بن
المسيب، ومن طريقه أخرجه الإمام أحمد في مسنده، إلا أن في إسناده ابن لهيعة،
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان، وفيه انقطاع، والحديث حسن
لما عضده من ذلك.
- ومن أمثلته ما أورده من ذلك وهو ضعيف قوله في الوصايا:
ويُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالدين قبل الوصية، وقد رواه الترمذي موصولاً من
طريق الحارث عن علي، والحارث ضعيف.
وهذا الضعيف (الذي لا عاضد له) قليل جدًا،
وحيث يقع يتعقبه البخاري بالتضعيف، وهذه عادته في ضعيف لا عاضد له من موافقة
إجماع أو نحوه، ومثال ذلك في كتاب الصلاة: ويُذكر عن أبي هريرة ورفعه: لا يتطوع
الإمام في مكانه، فقد قال عقبه: ولم يصح.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق
ليث بن أبي سُليم، وهو ضعيف، وشيخ شيخه لا يعرف وقد اختلف عليه فيه.
وما أورده
البخاري في الصحيح مما عبر عنه بصيغة التمريض ليس بواهٍ لإدخاله في الكتاب
الموسوم بالصحيح، فإيراده في الصحيح يشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به ويركن
إليه.
لذا يقول ابن الصلاح: إذا تقرر حكم التعاليق المذكورة، فقول البخاري: ما
أدخلت في كتابي إلا ما صح، وقول الحافظ أبي نصر السجزي: أجمع الفقهاء وغيرهم أن
رجلاً لو حلف بالطلاق أن جميع البخاري صحيح، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك فيه لم
يحنث، وقد أفتى بذلك إمام الحرمين كما ذكر العراقي في نكته على مقدمة ابن
الصلاح.
واعلم أيضًا أن الحافظ ابن حجر أغلق معلقات البخاري في كتابه: تغليق
التعليق.
ومن أمثلة الأحاديث المعلقة حديث المعازف الذي علقه الإمام البخاري
جزمًا (أي هو صحيح بالنسبة للمضاف إليه - كما سبق).
قال البخاري: وهشام بن عمار
من شيوخ البخاري الذين لقيهم وسمع منهم وتحمل عنهم وعلق الحديث عنه بصيغة
الجزم، وهذا لا يقتضي إسقاط راوٍ بينه وبين شيخه، وإنما هو عند أهل العلم على
الاتصال إلا ابن حزم الظاهري، خالف فقال هو منقطع. ثم ساق البخاري السند عن(/2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف...
وقرر إباحة المعازف ومشى على نهجه كل من أخذ بقوله، والحديث صحيح للآتي:
1-
علقه البخاري بصيغة الجزم.
2- أغلقه الحافظ ابن حجر في كتاب «تغليق
التعليق».
3- أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبرقاني
في صحيحه، والطبراني والبيهقي، مسندًا متصلاً إلى هشام بن عمار وغيره فصحَّ
الحديث.
ثانيًا: الأحاديث المعلقة التي في صحيح مسلم:
هي قليلة جدًا، ذكر ابن
الصلاح أنها وقعت في أربعة عشر موضعًا، وهذه المواضع الأربعة عشر وصلها مسلم
نفسه في الصحيح.
قال الحافظ العراقي: فعلى هذا ليس في كتاب مسلم بعد المقدمة
حديث معلق لم يصله إلاَّ حديث واحد فقط وهو حديث أبي الجهم: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
نحو بئر جمل، علقه الإمام مسلم وقال: وروى الليث بن سعد...
وهذا الحديث في صحيح
البخاري: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم ،
حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ السلام. [البخاري 337، تدريب
الراوي، شرح نزهة النظر لابن عثيمين، تيسير مصطلح الحديث للطحان، أسئلة وأجوبة
في مصطلح الحديث للعدوي- بتصرف]
2- الحديث المعضل: وهو ما سقط من إسناده اثنان
فأكثر على التوالي ومثاله؛ ما رواه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» بسنده إلى
القعنبي عن مالك أنه بلغه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق». قال الحاكم:
هذا معضل عن مالك أعضله هكذا في الموطأ.
وهذا الحديث معضل لأنه سقط من إسناده
راويان متواليان بين مالك وأبي هريرة، وقد عرفنا أنه سقط منه هذان الاثنان من
رواية الحديث خارج الموطأ هكذا: عن مالك عن محمد بن عَجْلان عن أبيه عن أبي
هريرة.
والحديث المعضل حديث ضعيف وهو أسوأ حالاً من الحديث المرسل والمنقطع
لكثرة المحذوفين من الإسناد، فهو مردود من جهتين: لانقطاع الإسناد، والجهالة
بالرواة المحذوفين.
ويتعرف على الحديث المعضل بجمع طرق الحديث والنظر في كل
راو، عن من روى، ومن الذي يروي عنه، ويمكن التعرف على الرواة الذين سقطوا من
السند إذا جاء الحديث متصلاً في مكان آخر، كالمثال السابق.
وقد جعل ابن الصلاح
(في المقدمة) الحديث الذي حذف منه الصحابي والنبي صلى الله عليه وسلم معضلاً.
ومثاله قول الأعمش
عن الشعبي: يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا، فيقول: ما عملته فيختم على
فيه فتنطق جوارحه أو لسانه، فيقول لجوارحه: أبعدكن اللَّه، ما خاصمت إلا
فيكن».
[رواه الحاكم]
وهذا الحديث أعضله الأعمش، وقد رواه مسلم عن الشعبي عن
أنس قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: «أتدرون ممن ضحكت ؟» فقلنا: اللَّه
ورسوله أعلم، فقال: «من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب ألم تجرني
من الظلم، فيقول: بلى، قال: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدًا إلا مني،
فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين عليك شهودًا، فيختم على
فيه، ثم يقال لأركانه انطقي...». الحديث.
وللحديث بقية إن شاء اللَّه
تعالى.(/3)
مسائل في المسح على الخفين
( المعتز بدينه )
مسائل مهمة في المسح على الخفين والجبيرة:
1- المسح أفضل للابس الخف أو الشراب من نزعه.
2- يجوز المسح على الخف أو الشراب مادام يغطي الكعبين في أصح أقوال أهل العلم.
3- الخفاف التي لا تغطي الكعبين لا يمسح عليها إلا إذا كان لابسا شرابا ومسح على الخفاف والشراب معا وله خلع الخف ولبسه متى شاء سواء على طهارة أو على غير طهارة، لأن المسح مشترك بينه وبين الشراب.
4- الخف الذي به خروق وثقوب وكذا الشراب يجوز المسح عليه في أصح قولي العلماء.
5- الخف الرقيق والشراب الخفيف يجوز المسح عليه في أصح قولي العلماء.
6- إذا لبس في الحضر ثم أحدث ومسح ثم سافر فيتم مسح مقيم في أصح قولي العلماء.
7- إذا لبس في الحضر سواء أحدث أولم يحدث وسافر قبل أن يمسح ثم مسح في السفر فيتم مسح مسافر.
8- إذا مسح وهو مسافر ثم أقام فيتم مسح مقيم فإن كان أكمل يوما وليلة خلع الخف وإلا أكمل يوما وليلة من بداية مسحه.
9- إذا لبس خفا ثم مسح عليه وأحدث ثم لبس فوقه آخر فالحكم للتحتاني من حيث المسح والمدة.
10- إذا خلع الخف وهو على طهارة من مسح فهنا تبطل طهارته وعليه أن يعيد الوضوء وكذا لو خلع بغير اختياره فلا يمسح عليه بل تبطل طهارته.
11- إذا تمت مدة المسح فتنتقض طهارته وليس له أن يصلي قبل أن يتوضأ في أصح قولي العلماء.
12- يلزم لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما على طهارة كاملة عكس الجبيرة.
13- يلزم لجواز المسح على الخفين أن يكونا طاهرين مباحين ساترين لمحل الفرض .
14- مدة المسح تبدأ من المسح ذاته وليس من الحدث في أصح قولي العلماء.
15- الخف الذي يثبت في القدم بشده بحبل أو غيره يجوز المسح عليه.
16- من لا يدري هل انتهت مدة المسح أم لا فإنه يغسل رجليه لقطع الشك باليقين.
17- من علم أنه مسح على غير طهارة وصلى فإنه يعيد الصلاة ولو بعد زمن طويل.
18- لا حرج للمسلم أن يدخل يده لحك رجله من داخل الشراب أو أخذ حصاة أو غيرها مما يؤذيه ولا تنتقض صلاته بذلك.
19- يجوز المسح على العمامة وكذا كل ما يشق نزعه مما وضع على الرأس كالقبع الذي يغطي الرأس والرقبة من خلف ومن أمام ولا يظهر منه إلا الوجه ويشق نزعه فله مسحه، أما ما يوضع على الرأس فقط فلا يمسح عليه.
20- لا يجمع في المسح على الجبيرة بين المسح والتيمم فإن أمكن المسح لم يجز التيمم وإن لم يمكن المسح عدل إلى التيمم.
21- ((اللزقة)) التي تكون على الظهر أو اليد أو الرجل ويمر الماء عليها فالغسل يكفي ذلك عن التيمم.
22- إذا كان الرأس ملبدا بحناء وغيره فيجوز المسح عليه.
23- إذا ربط الجرح وما حوله من اليد أو الرجل فيكفي المسح عليه ولا يتيمم لذلك.
24- لابد من المسح على الجبيرة كلها من أعلى و أسفل عكس الخف فلا يمسح إلا أعلاه. قرأها وعلق عليها فضيلة الشيخ/أ. د. عبد الله بن محمد الطيار حفظه الله إعداد مكتب الدعوة والإرشاد .(/1)
مسائل مهمة في النصرة
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد معاشر المؤمنين :
مسائل مهمة في النصرة نصل بها حديثنا الموصول النافع المغيث للقلوب ، والمحرك للنفوس والرافع للهمم، مع الانتصار والنصرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الأولى : التنوع والتخصص
فإن كل مسلم مؤمن يؤمن بالله ورسوله، لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق وفي عنقه واجب ؛ وهنا عندما نتحدث عن النصرة والانتصار فينبغي أن تعم كل أحد ؛ ولعلنا نشير إشارات يسيرة، وومضات معدودة في بعض أنواع تلك التخصصات، والفئات وأدوارها، وشيء من قبسات قدواتهم في هذه الميادين، ونبدأ بالعلماء، والله جل وعلا يقول : { إنما يخشى الله من عباده العلماء }
وكلنا يحفظ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي ، من حديث أبي الدرداء وفيه : ( إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا درهم ولا دينار ،ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) .
العلماء ورثة الأنبياء مجددوا عهد النبوة .. يا علماء الإسلام : أنتم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، والأمة تنتظر دوركم والحق جل وعلا بين أثركم كما قال الحق سبحانه وتعالى : {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .
وأولوا الأمر كما قال القرطبي: " أهل العلم والفقه " .
وقال السعدي في تفسيره: "ينبغي لهم - أي للمسلمين - إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة فيما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو يخافون الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة الأمر وأن يرجعوا كما قال الله عز وجل {إلى أولي الأمر الذين يستبطونه منهم} ؛ أي أهل العلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها فإن رأوا إذاعته -أي ذلك الخبر- إن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعداءهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة لكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه " .
أنتم يا علماؤنا تاج رؤوسنا، أنتم نور طريقنا، أنتم روادنا وسابقونا إلى الخير، نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تتجلى فيكم قبل غيركم، وأن تكونوا إليها سابقين لا يبلغ أحد شأوكم ، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا ذلك.
وعندما نجد آيات العلم والعلماء ندرك تماما أن للعلماء دوراً متميزاً ، ورسالة عظيمة هي بمثابة القوة المحركة والبصيرة الموجهة للأمة .. وهنا نذكر أنفسنا وعلماءنا بالمواقف التي أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، عندما قال : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) .
وعندما بين النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون، بل نسوق إلى علمائنا مواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أهل العلم الذين نطقوا به واعتنوا بنشره واتخذوا الحكمة في ذلك، ووقفوا وثبتوا لكل ما يقتضيه ذلك ويتطلبه، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول : (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من علم، أما أحدهما بثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا الحلقوم - أو البلغوم -) كما في الروايات.
وهكذا فعل ابن عباس رضي الله عنه عندما حمل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فشرق به وغرب، حتى إن واحداً من تلامذته وهو الإمام مجاهد بن جبر رضي الله عنه يقول : "ختمت القرآن على ابن عباس ثلاثين ختمه أستوقفه عند كل آية أسأله عن معناها " .
نريدكم أن تكونوا بيننا نريد أن نلتفت يميناً ويساراً فنجدكم قريب منا لئلا يسبق إلى الرأي ذووا الجهل أو الذين تدفعهم حماسة طائشة، وأين علماءنا لم يتقدموا فتقدم غيرهم .
وهنا أيضا نسوق الأمثلة من تاريخ أمتنا، يوم جاء الانحراف العقدي بتيار جامح في فتنة خلق القرآن، كان للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله منارة هادية وثبات مؤمن عظيم ووعي عالم بصير لم يرض أن يداهن ولا أن يأخذ بالأسباب التي فيها سلامة بل بقي على الحق ، وأوذي وسجن وجلد ثم آب الأمر بإذن الله عز وجل وبهذا الثبات مع نصرة العلماء إلى الحق ، فعادت السنّة من بعد البدعة ، وعاد الأمن والسكينة من بعد الفوضى .. كل ذلك بفضل الله عز وجل ثم بفضل دور العلماء في الأمة .. ونعرف قصة العز بن عبد السلام يوم وقف وقفته الشهيرة ..
الأمة اليوم تحتاج إلى تجديد تلك القدوات من علماء أمتنا في تاريخها العريض المديد ، الذين قالوا كلمة الحق ولم تأخذهم في الله لومة لائم ويوم يقولونها سيجدون الأمة كلها من وراءهم ، وسيجدون الناس يسترشدون بأقوالهم ويأخذون بفتاواهم وبأحكامهم ، وذلك ما نرى أثره يتجدد في الأمة .. ونسأل الله عز وجل المزيد منه .
التجار وما أدراك ما التجار !(/1)
كيف ينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يقفون وقفة صادقة لنصرة هذا الدين ورفعة رايته، ألا يذكرون أبا بكر رضي الله عنه الذي أنفق ماله كله أكثر من مرة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته ولنصرته في مواجهة أعداءه في يوم جيش العسرة ! ألا يذكرون - ونذكر جميعاً - موقف عثمان بن عفان يوم جهز من ماله وحده جيشا كاملا لإعلاء راية الله عز وجل ونشر رسالة الإسلام ، والوقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ويومها قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان قولة عظيمة خالدة فريدة .. لو أن كل تاجر تأمل فيها لرأى أن شطراً منها خير له من كل مال الدنيا قال : ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )
لقد سبق سبقا عظيماً وأتى فعلا جليلا يوشك أن يكون ماحيا لكل ذنب يأتيه أو يقترفه من بعد.
وهكذا نرى كيف كان المال سلاحا في الجانبين، في جانب النصرة وفي جانب العداء {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}
هم ينفقون ليصدوا فهل تنفقون لتنشروا وتنصروا، وأهل النفاق قال الله عز وجل في وصف حالهم واستخدامهم لمالهم {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا }
لا تنفقوا على أتباع الرسول .. لا تنفقوا على العلماء ودعاة الأمة .. لا تنفقوا على الجاليات المسلمة في البلاد غير المسلمة .. دعوهم حتى يضيق عليهم الخناق ، ويصبح من أثر قلة ذات اليد غير قادرين على تمثل إسلامهم ؛ فضلاً عن نشره والدعوة إليه، هل تمتد الأيدي اليوم لتنصر دين الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالبذل والدعوة والإسلام والتعريف به ونصرة المسلمين والجاليات في كل بقعة وصقع من أصقاع الأرض ، ذلك هو الدور المأمول المطلوب من التجار نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
النساء وما أدراك ما النساء !
وقبل ذلك لا بد من إشارات سننبه عليها في آخر الأمر ؛ لأن هذه الأدوار المطلوبة يقابلها بعض الواقع الذي لا بد من التنبيه عليه .. النساء هل يتذكرن الدور العظيم الرائد الفريد لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ! كيف كانت أعظم نصير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كيف كانت الصدر الحنون الذي تلقاه ؟ كيف كانت الدعم القوي الذي ثبته ؟ ألم تقل له : " كلا ! والله لا يخزيك الله أبداً ؛ إنك لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، فو الله لا يخزيك الله أبدا " .
ألم تأخذه إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، ألم يقل له : " إن هذا هو الناموس الذي جاء موسى "
ألم تكن معه في مسيرة دعوته حتى كان يوم فراقها ، يوم الحزن الذي ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه ، ألا تذكر النساء دور أم المؤمنين عائشة كيف حفظت وتلقت علم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بلغت من العلم في تخصصات عجب لها بعض الناس .. فهذا عروة بن الزبير وهو ابن أختها، يقول لها : " يا أماه - وكان يناديها بأمه- قد علمت علمك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكني أعجب من علمك بالطب " فقد كانت تصف الأدوية والعلاجات " قالت : " كان الناس يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينعت لهم النعوت فأحفظ عنه " .
ألا تتذكر أمهات المؤمنين الفداء الروحي بالنفس لأم عمارة يوم أحد حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما التفت يميناً ولا يساراً إلا وجدتها تقاتل دوني ) .
أين هذه المرأة في نصرة نبيها صلى الله عليه وسلم ونصرة دينها ؟ والواقع سنعرض له لاحقا.
أنتقل إلى فئة رابعة مهمة، الشباب!
شباب الأمة ورمز القوة، هم عنصر الحيوية، أمل المستقبل ؛ لأن الله عز وجل قضى ألا تقوم الدعوات والأفكار إلا على قوة الشباب ، فهذه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كأنما تضع العنوان : ( حالفني الشباب وخالفني الشيوخ )
{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى }
أصحاب الكهف الذين استطاعوا أن يخرجوا من قومهم ، وأن يقاطعوا التيار الجارف في بيئتهم ، وأن يثبتوا على دينهم {فتية آمنوا بربهم}
إبراهيم الخليل عليه السلام الذي واجه أمة كاملة كانت على غير الإسلام والإيمان { قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم }
فليذكروا الشباب كيف نصر الشباب والفتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كيف كانوا في خدمته كما كان ربيعة بن كعب يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قام من الليل ليصلي قام ربيعة يصب له ماء وضوءه ويصلي معه، حتى قال له:
(يا ربيعة سلني ما شئت ) فأجاب - بلسان المؤمن الذي يرجو الله والدار الآخرة- : " يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة " .
لما يطلب شيئا من أمنيات الشباب، ورغباتهم وشهواتهم بل سمى إلى ما هو أعلى من ذلك.(/2)
وهكذا نستطيع أن نسرد أمثلة كثيرة عظيمة وهي لا تقتصر على جانب دون جانب، ألم نرى معاذ ومعوذ بن عفراء يوم بدر يلتفت أحدهما إلى الصحابي يقول : "يا عماه أين أبوجهل ؟ " فيقول: مالك وله ؟! فيقول: " إني سمعت أنه يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إن رأيته لا يفارق سودي سواده حتى يقتل الأعجل منا "
ثم يلتفت الآخر إليه من الجهة الأخرى فيسأله ذات السؤال، ثم تمضي المعركة، فيسير الفتيان الشابان إلى أبي جهل فيكون لهما النصيب الأكبر في إطاحة رأس الكفر والجاهلية.
هل نرى من شباب الإسلام اليوم من يفدون دينهم ورسولهم بأرواحهم وبكل ما يملكون من طاقاتهم نريد أن نجدد النصرة في عموم الأمة.
بل أنتقل بكم إلى فئة أبعد في نظرنا، إلى الأطفال ينصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كنتم كيف كان يفعل أهل الإسلام بأطفالهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كادوا ألا يكون مولود يولد إلا ويُرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فور ولادته ليأكل شيئا من تمر ، ثم يحنّكه به ويدعو له، منذ اللحظات الأولى، ثم ننظر إلى المثل العظيم الذي نريد أن نشيعه في أبناءنا وأمتنا، نخاطب به الآباء والأمهات، يوم جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة، ومعها ابنها أنس رضي الله عنه، قالت: " هذا أنس بن مالك يخدمك يا رسول الله"
نذرته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال مقالته الشهيرة العجيبة: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله لِمَ لم تفعله"
ليس هناك أعظم من هذا الوصف في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أم سليم رضي الله عنها قدمت ابنها ليحظى بشرف الخدمة ؛ ليقبس من أنوار النبوة، ليأخذ من خلق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، لينال الشرف الدنيوي والأجر الأخروي، فهل نقرب أبناءنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل نغذّيهم بسيرته وعظمته وخلقه منذ نعومة أظفارهم، فلا تكونوا قدواتهم أفلام الكرتون أو لاعبوا الكرة أو غير ذلك.
ولو سألنا اليوم بعض شبابنا أو أطفالنا لرأينا بونا شاسعا بين تلك الأمثلة التي نسردها، وغيرها كثير وكثير .
وأنتقل إلى فئة خامسة إلى الدبلوماسيين والسياسيين
والموجات اليوم تظهر لنا فتقول: احذروا الدين في السياسة، أو جنبوا السياسة من الدين، وهنا أقول لكل دبلوماسي أنه قبل أن يكون سفيرا لدولة وقبل أن يكون في موقع له ما له من الأوصاف أو المال أو غير ذلك، أنه:
أولا: سفير لإسلامه ودينه كما كانت أول سفارة يوم بعث محمد صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة ليكون داعيا إلى الإسلام، ومعلما لمن أسلام من الأنصار، فغشي الناس في دورهم وزار أشرافهم وجلس مع عامتهم، فما دار الزمان عاماً واحداً إلا وما بيت من بيوت المدينة إلا وفيه بعض من أسلم، ذلك هو الدور الحقيقي أن تكونوا رسلا لدينكم لأمتكم، أن تبرزوا محاسن إسلامكم أن تفاخروا بعظمة نبيكم صلى الله عليه وسلم، هل تريدون أدوارا أخرى، انظروا إلى دور الدبلوماسي الذي يعرض نفسه للمخاطر فداء لدينه واستجابة لنبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، يوم كانت المفاوضات يوم الحديبية ورسل قريش تأتي تباعا، انتدب النبي صلى الله عليه وسلم مفاوضاً دبلوماسياً من قِبَله إنه عثمان رضي الله عنه دخل إلى قريش في عقر دارها إلى موطن الأعداء الذين كانوا يحملون الحقد للإسلام وأهله استجابة وموافقة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأداء لمصلحة الأمة.
بل خذوا مثلا آخر لرسول مثل أمة الإسلام في موقف عظيم، يوم بعث سعد بن أبي وقاص ربعي بن عامر إلى رستم عظيم الفرس وقائدهم، فسأله ما الذي جاء بكم، لم يقل جئنا لنقيم كذا ونصنع كذا، بل قال : "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " .
كان يعرف ماذا يقول، كان يعرف ماذا يمثل، كان يعرف ما الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم في عزته وفي رؤيته وفي دعوته وفي مواجهته لغير المسلمين، لا استخذاء ولا هوان ولا تنفير ولا إكراه ..
تلكم نماذج أين هي من سفراء بلادنا الإسلامية في شتى بقاع الأرض، هل يجددون ذلك؟ هل تكون النصرة بغير الأوراق والبيانات والوسائل المعهودة المألوفة المكرورة ؟ كثيرة هي الفئات التي يمكن أن نتحدث عنها.(/3)
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخيرة في هذا أقول: لعلنا نجد مفارقة في الواقع، فليس علماءنا في الجملة كما نريد أو كما أشرنا، والتجار ينفقون الأموال كما نرى في شيء من الترف والبذخ، أو في وسائل للفساد والإفساد في القنوات .. نرى صور الشباب وهم مشغولون بستار أكاديمي أو سوبر أستار، أو بالتقليعات أو بغير ذلك، نجد شاباتنا أو نساءنا وهن مشغولات بالتجميل والموضة ويستجبن لدعوات التحرير المزعومة فإذا بهن يطالبن بالاختلاط ويقلن لا حرج فيه ، وإذا بهن يدخلن أنفسهن في أمور وقد تخلين عن مهمة عظيمة لسد الثغرة والقيام بالمهمة داخل البيت، حصن الأسرة الحصين الذي هو حماية الأمة والمجتمع، ولو ذهبنا لوجدنا أطفالنا وهم يلعبون بهذه الألعاب الإلكترونية ليس لهم ولا لنا دور في تعليقهم بالإسلام وربطهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم .
السفارات وما أدراك ما السفارات وهي تمارس في بعض الأحيان أموراً محرمة مقطوعا بحرمتها، فكأنما تنقل صورة الإسلام شوهاء أو عكس الصورة المطلوبة الحقيقية، أقول هذا لا نؤيس ولكن لنقول: إن هذه النصرة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طبقت الأرض وقد اشترك فيها الجميع ؛ لعلها تكون بداية تجديدية قوية لتصحيح مسارنا في ارتباطنا بديننا .
ولعل قائلا يقول : وأين تركت الحكام والقواد والزعماء والرؤساء ؟
وأقول لهؤلاء ولكم : إن هؤلاء مقامهم الحقيقي في فهمنا الإسلامي أنه في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم بمثابة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام، وهنا نقول أين عدل الإمام وأين زهد الحاكم وأين نزاهة القائد وأينكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين ؟ أين ترفعكم وتنزهكم عن كل ما فيه شبهة فضلا عما فيه حرمة ؟ أين إقامتكم للعدل وإنصافكم بين الرعية ؟ أين كل ذلك، أنتم أعلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنتم أعلم بقدر المسافة والبعد بينكم وبينها وأنتم إذا صلحتم كان في صلاحكم أثر عظيم في صلاح الأمة .. ولهذا نقول إن هذه النصرة متنوعة ومتخصصة كل في ميدانه ومجاله.
والمسألة الثانية : الدعوة والحكمة
إن هدفنا معاشر المسلمين جميعا مع كل أمم الأرض هي الدعوة، ندعو الناس إلى هذا الدين، نخرجهم من الظلمات إلى النور، نبصرهم بالحق وهم في الضلال ونخرجهم من كثير وكثير من أوبار وأوباء الجاهلية إلى خيرات وبركات الإسلام، تلك هي مهمتنا ووسيلتنا حكمة كما قال الله عز وجل : {ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } .
ومن هنا ندرك المواقف العظيمة لرسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن .. نعم عاداه الكفار فوقف موقف العزة وأخذ بمبدأ الجهاد، لكن الغاية لم تغب عن باله ولا عن نهجه أبداً .. إنها غاية الدعوة .. إنها غاية فتح القلوب والعقول لمعرفة هذا الدين العظيم، ليدخل الناس فيه أفواجا، يوم انتصر عليه الصلاة والسلام على كفار مكة ألذ أعداءه الذين أخرجوه منها وبعد أن تمكن منهم ومن نواصيهم ورؤوسهم ومن أزواجهم وذراريهم ومن أموالهم وثرواتهم، قال: ( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم . قال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
هذه هي السماحة الحقيقة، هذا هو الإسلام الذي يكسر الحواجز، فلا يبقي لأحد عذرا إلا لينظر بعين الإنصاف وبعقل الرشد وبنفس الرغبة في الخير، ويقوده ذلك حتما ولا شك كما قاد صناديد الكفر وعتاد الظلم والطغيان لينقادوا صاغرين ويحنوا رؤوسهم لعظمة هذا الدين ويصيروا أتباعا وتلاميذ لخير الخلق صلى الله عليه وسلم.
تعلمون خالد بن الوليد وكيف آل مآله، سهير بن عمرو وكيف انتهى حاله، عمرو بن العاص وكيف صارت مسيرته وسيرته، كل أولئك ما رفع فوق رؤوسهم سيف ولا جاءتهم قوات تكرههم لكن الدعوة نفذت إلى قلوبهم وعقولهم ..
واليوم ونحن ننصر نبينا ينبغي أن ندرك أن كل وسائلنا إنما هي طريق إلى هذه الدعوة فلنعبر الجسور إلى أولئك القوم فإنهم في ضلال يحتاجون إلى الهدى الذي أكرمنا الله به وإنهم في ظلمات يفتقرون إلى النور الذي حبانا الله إياه ، وإنهم في تيه يحتاجون إلى قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نيعرف سيرته وينبغي لنا أن نعرف بها، ومن هنا تأتي الحكمة لئلا يكون الأمر منطلقا بلا خطام ولا زمام {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم }
قال القرطبي في هذه الآية: "وحكمها باق في المسلمين وهي أصل سد الذرائع"(/4)
إن كان فعلنا في إساءتنا لقوم سيؤدي إلى إساءتهم لأصل ديننا فالأمر عظيم والنهي عنه وارد في الكتاب الكريم ؛ لأن القوم لا يعرفون دينا ولا يقيمون وزنا ولا قيمة ولا قدر لنبي ؛ فإن قلت قولا ثم كان من أثره أن يسيئوا إلى الدين والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم فإن الحكمة تقتضي الامتناع عن ذلك وإدراك مآلات الأمور والنظر فيها، والممارسات التي تتم من بعض المسلمين في ثورة العاطفة، ما الذي أدت إليه، سفك دماء مسلمة وإزهاق أرواح مؤمنة، إتلاف أموال في بلادنا وديارنا ثم صورة يريدون أن يلصقوها بنا وأن أهل الإسلام ليس عندهم إلا القتل والدم والعنف والإرهاب كما يزعمون، ونحن لا نقول إننا قوم نسالم كل من اعتدى علينا وحل بنا عدوانه لكننا في الوقت نفسه لسنا قوما من أهل العنف الذين يرغبون فيه لذاته ولا يتعطشون للدماء بل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلك رسالة مهمة ينبغي لنا أن نعيها ونحن في هذه الأجواء العظيمة لنصرة نبينا صلى الله عليه وسلم .
أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا وأن يجعلنا متمسكين بسنة وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
ومسألة ثالثة نختم بها وهي جديرة بأن يطول الحديث فيها وقد يكون ذلك كذلك من بعد، إنها مسألة : التعريف والتعليم
نحن إذا أردنا نصرة نبينا فهذا واجبنا تجاه سيرته وتجاه أخلاقه وتجاه سنته صلى الله عليه وسلم .
ومضات سريعة للمسلمين تعليم ولغير المسلمين تعريف، ماذا نريد للسيرة بين المسلمين، جوانب ثلاثة:
أولا: السيرة إيمانا ومحبة:
نريد أن تكون السيرة طريقا إلى زيادة الإيمان، وترسيخ اليقين بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم محبته في النفوس حتى يصدق ما طلب منا عليه الصلاة والسلام : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) .
ويوم قال عمر مقالته الشهيرة، فقال له من بعد: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي التي بين جنبي، قال: ( الآن يا عمر )
تلك هي السيرة التي نريد في بعدها الأول.
والسيرة ثانيا: سيرة تربية وقدوة
نريد ألا تكون عواطف جامحة، ولا مجرد كلمات نقولها في الثناء والمدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أعظم من ثناء ربه عليه ومدحه له في كتابه الكريم وفيما جعل من التشريع لتعظيم قدره عليه الصلاة والسلام، لكن السيرة تربية لنا وقدوة تنتصب في حياتنا، فنرى الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاً وأباً، ونراه حاكماً وقائداً، ونعرفه صديقاً وصاحباً، ونطلع على سيرته قاضياً عادلاً، إلى غير ذلك من الوجوه التي نعرفها.
وأخيرا: السيرة معرفة وقدرة:
لا بد من أن نعرف سيرتنا عن بصيرة وعلم، وخاصة مواطن الشبهات الني يثيرها الأعداء، أو التي هي ضلالات عندهم أوهي جهالات عند بعض المسلمين حتى ننير للناس الطريق ؛ لأن سنة النبي وسيرته صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العملي لكتاب الله وهي التفسير الحي لما جاء في كتاب الله، فحينئذ نعرف منها ما يكشف لنا كل غامض وما ينير لنا كل مظلم فنكون على بينة من أمرنا .
{ قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين } .
ولغير المسلمين تعريف يكون في محاور ثلاثة:
السيرة تأصيل وتاريخ، ليعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم مذكور في كتبهم، وله بشارات وشهادات في كتب من جاء من قبله من الرسل، خاصة فيما جاء به عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، وهذه الآثار رغم التحريف باقية في تلك الكتب بعض دلالاتها وإشاراتها ؛ لأن القوم كما قلت لا يعرفون دينا بل هم اليوم في أكثر أحوالهم لا دينيين، فليعرفوا هذا البعد في السيرة .
ولنأخذ بُعداً آخر وهو السيرة في الإنسانية والعظمة لنبرز المعاني الإنسانية التي أصبحت لدى القوم اليوم كأنما هي مثل عظيمة وقيم لا بد من حفظها، ليعرفوا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الحقيقي للرحمة والتسامح، وليعرفوا الدور الإيجابي لرعاية وحماية حقوق الإنسان، وليعرفوا الضابط المنهجي لحرية التعبير ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للبشرية كلها، وإن كان بالنسبة لنا مصدر تشريع فإنه مصدر نور وضياء لكل إنسان حتى وإن لم يكن مسلما، لأن عظمة شخصيته يقر بها كل أحد ويرى فيها أنموذجا متفرداً حتى إن بعض كتاب الغرب عندما أراد أن يكتب عن أعظم مائة رجل، كتب كتابه فجعل محمدا أعظم عظماء البشر، وهو لا يعرف حقيقة الإيمان به والإسلام الذي جاء به عليه الصلاة والسلام .
وثالث نكمل به هذه المسألة ، وهي : السيرة تجربة خبرة(/5)
لنقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه المسائل أقوالاً، لم يرسمها شعارات، لم يكتبها كقوانين بل طبقها كواقع في حياته فكرس دور المرأة وحقيقة شخصيتها، كما ينبغي أن يكون الأمر في مجتمع المسلمين بل ينبغي أن يكون لغير المسلمين كذلك، وأن يعرفوا كل هذه الجوانب من الناحية التطبيقية العملية، يوم ننصر سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم على هذا النحو في مجتمعاتنا المسلمة، وعلى هذا النحو التعريفي في مجتمعات غير المسلمين، فسيكون الحال خيراً من حالنا الذي نحن عليه، وتلك واجبات ومسائل مهمة في قضية النصرة ..
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لها وأن يحققنا بها وأن يجعلنا من الداعين إليها والناصرين لها، والمستمرين الثابتين على العمل بها إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.(/6)
مساجد الضرار
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد ولد آدم،محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين،وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ المساجد هي بيوت الله،وبنيت لأجل أن تُؤدَّى فيها عبادته، ويتقرَّب فيها العباد إلى رب الأرض والسماوات، ولم تبن لأجل الإضرار بالمسلمين، وإثارة العداوات، وإيجاد البغضاء في قلوبهم، ولم تبن لخلخلة الصف والتفرقة بين المسلمين، وإنما لها رسالة عظيمة سامية، وللأسف يغفل عنها كثير من المسلمين اليوم.
والمساجد التي تُبنى للإضرار فإنها تحرق وتهدم، إذا كان أصل المسجد بُني لهذا. أما إذا بُني المسجد قربة لله –تعالى- ثم عرض له عارض كغلبة أهل البدع عليه، أو تحويله إلى معبد من معابد الوثنية،أو تعيين إمام لا يجوز الصلاة خلفه،فهذا لا يجوز هدمه بل يجب -إن قدر عليه- أن يزال هذا الفساد، والمسجد على أصل بنائه من الإقرار ومدح بنائه وبانيه.
وقال الشيخ جمال الدين القاسمي وهو يتكلم عن قول الله تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً...}: "دلت الآية على أن كل مسجد بُني على ما بُني عليه مسجد الضرار أنه لا حرمة، ولا يصح الوقف عليه، وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبَّل بعضها، نقله بعض المفسرين"1.
ومن مساجد الضرار بناء مساجد قرب مسجد قديم إذا كان المقصود منها الإضرار بالمسلمين، وتفريق جماعتهم، وخلق العداوات فيما بينهم، وجعلهم متناحرين، ومتباغضين، فهذه المساجد تُهدم وليس في ذلك أي حرج، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد هدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، قال ابن رشد الجد (ت255هـ): (إن من بنى مسجداً بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول ويفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر، لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما يتعلق بالنفس والمال، لاسيما في المسجد المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين، وقد أنزل الله -تعالى- في ذلك ما أنزل من قوله: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا -إلى قوله- لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)).. فإن ثبت على بانيه أنه قصد الإضرار وتفريق الجماعة لا وجهاً من وجوه البر، وجب أن يُحرق ويُهدَّم ويُترك مطروحاً للزبول كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمسجد الضرار)2.
وقال السيوطي: "ومن تلك المحدثات كثرة المساجد في المحلة الواحدة، وذلك لما فيه من تفريق الجمع وتشتيت شمل المصلين، وحل عروة الانضمام في العبادة، وذهاب رونق وفرة المتعبدين وتعديد الكلمة واختلاف المشارب، ومضارة حكمة مشروعية الجماعات -أعني اتحاد الأصوات على أداء العبادات- وعودهم على بعضهم بالمنافع والمعونات والمضارة بالمسجد القديم أو شبه المضارة أو محبته الشهرة والسمعة وصرف الأموال فيما لا ضرورة فيه"3.
وقال البهوتي: "ويحرم أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد, إلا لحاجة كضيق الأول ونحوه كخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد،وظاهره (أي المذهب) وإن لم يقصد المضارة"4.
وقال ابن تيمية: "كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه مسجد الضرار, ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد عن أن يكون بُني ضراراً من الجديد الذي يُخاف ذلك فيه"5.
وذكر العلماء أنه لا يجوز أن يُبنى مسجد جنب مسجد، وإنما يُوسَّع المسجد الأول، إلا إذا كانت هناك حاجة كأن لا يستطيعون توسعة المسجد الأول لضيق مكانه، فيُبنى المسجد عند الحاجة، قال الإمام القرطبي: "قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة، فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيُبنى حينئذ، وكذا قالوا لا ينبغي أن يُبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، وقد أحرق النبي -صلى الله عليه وسلم- مسجد الضرار وهدمه". وقال: "قال علماؤنا: وكل مسجد بُني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه"6.
ومن مساجد الضرار المساجد التي تُبنى على المقابر، فإن فيها ضرراً كبيراً على المسلمين لأنها تمس جانب التوحيد، فهذه المساجد تُهدم ولا يجوز أن تبقى، ولا يجوز الصلاة فيها، قال النووي، وقد سئل عن مقبرة مسبَّلة للمسلمين بنى فيها إنسانٌ (مسجداً) وجعل فيها محراباً هل يجوز ذلك؟ وهل يجب هدمه؟ فقال: "لا يجوز له ذلك ويجب هدمه". وقال ابن القيم "يُهدم المسجد إذا بُني على قبر، كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد، نصَّ على ذلك أحمدُ وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز"7.
اللهم أعنا على طاعتك وجنبنا معاصيك،وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - في محاسن التأويل.(/1)
2 - البيان والتحصيل (1/411).
3 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع.
4 - شرح الإقناع (1/545).
5 - في تفسير سورة الإخلاص(ص 256).
6 - الجامع (8/254).
7 - زاد المعاد (3/572).(/2)
مسجداً ضراراً
الكاتب : علي مهدي
التاريخ : 1/9/1426
( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل . وليحلفن بالله إن أردنا إلاّ الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون 107 ) التوبة
قصة مسجد الضرار قصة معروفة مشهورة ، بدأت مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بتفاعل دائب ومستمر من قبل المنافقين في المدينة وأخذت منحنى خطراً إلى الأعلى في معركة أحد لتصل إلى الذروة التي أعقبها سقوط في جرف الغي والفساد في الدنيا ، وجرف النار والخسار في الآخرة ، ذلك السقوط الذي تزامن مع غزوة تبوك ..
إمام هذا المسجد الضرار هو أبو عامر الراهب شيخ المنافقين وإمام المارقين سيد من سادات الخزرج في الجاهلية تنصر وكان صاحب عبادة ، حنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب إسلام قومه فكاد بالمسلمين ، واتصل بهرقل لمده بعون يقاتل به النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أمر أصحابه المنافقين في المدينة أن يبنوا بنياناً على مشارف المدينة يرصدون من خلاله تحركات المسلمين ويتجمع فيه من أراد حربهم والكيد بهم .. فبنوه جوار مسجد قباء .. وجلعوه مسجداً ..
هذا هو مسجد الضرار .. مسجد بني على النفاق ولم يبن على التقوى .. مسجد بني على الإفك ولم يبن على الصدق .. مسجد بني للاختلاف ولم يبن للائتلاف .. بني ليكون إرصاداً لمن حارب الله ورسوله ، ولم بين ليكون إرصاداً على من حارب الله ورسوله .. بني للفساد والكيد والكذب والخيانة .. بني لتفرقة المسلمين وشق عصا جماعتهم .
هذا المسجد الضرار .. ظاهره ( مسجد ) فيه الرحمة .. وباطنه ( ضرار ) من قبله العذاب .. وهو صورة متكررة على مر العصور والأزمنة .. يتشكل حسب حاجات الناس ومتطلبات العصر .. متفاعل متجدد .. يؤّمه الشيطان .. ويأتم فيه أعوانه من الناس .. ومنهم من يرتاده دون صلاة .. وآخرون يصغون إليه بأسماعهم من مكان خفي ، فهم لا ينكرونه ولا يريدون الظهور فيه ..
هو مسجد ضرار .. هو منبر فساد .. هو إعلام هدام .. هو مجلة هابطة .. أو صحيفة ماجنة .. هو قصة ساقطة .. أو مقالة فاسدة .. هو صديق السوء .. أو خاطرة السوء .. وهو تعمية الحقائق .. وهو تظليل الناس .. وهو حديث بغير علم .. وهو هوى متبع .. وهو دعوة للباطل ..
وهو .. وهو .. وهو .. كلها تظهر بمظهر المساجد .. وكلها ضرار .. كلها ضرار .. كلها ضرار ..(/1)
مشاكل الطلبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:-
إن من يمارس العملية التعليمية ليجد كثرة مشاكل الطلبة، وكثرة الشكاوى منهم، حتى إنه ليضجر من حل بعضها، ولكن هذه طبيعة الطالب، فهو لصغر سنه وضعف عقله، يتسبب بقصد أو بغير قصد في كثير من المشكلات التي قد تعوق مواصلة تدريسه إذا لم يحسن المشرفون والمربون حلها وتداركها حتى لا تكبر.. وقبل أن نتحدث عن مشاكل الطلبة نذكر بعض القواعد في حل المشكلات:
أولاً: على المشرف أو المدير أو المدرس تحديد نوعية كل مشكلة تظهر أمامه؛ لأن التحديد السليم للمشكلة سيؤدي إلى بحثها وجمع البيانات، والإحصائيات المتعلقة بها، ثم دراستها دراسة عميقة مستفيضة. وكلما كانت البيانات والمعلومات المتعلقة بالمشكلة صحيحة ودقيقة متكاملة، كلما كان تعريف المشكلة وبيان حدودها وإيضاح أبعادها أكثر يسراً وسهولة.
ثانياً: تعيين أولوية كل مشكلة، إذ أنه من العبث أن تسعى الإدارة لحل مشكلة لم يعد لها وجود أو أصبحت في مرتبة ثانوية مقارنة بمشكلة أخرى.
ثالثاً:- دراسة أسباب ودوافع تلك المشكلة: فإنه كما قيل: "متى عرف السبب بطل العجب" فمعرفة الأسباب والدوافع لتلك المشكلة يساعد كثيراً في إيجاد الحل المناسب لتلك المشكلة.
رابعاً: إيجاد الحلول المناسبة لوضع الطالب، وكذلك لوضع المدرسة. فقد يكون الحل في بعض الأحيان هو فصل الطالب حفاظاً على المدرسة. أو على بقية الطلاب، وعلى العموم: البحث عن حل مناسب يأتي في المرحلة الأخيرة من تلك المراحل. وقد يكون البحث عن الحل فردياً من قبل المشرف، وقد يكون جماعياً من قبل الإدارة والمشرفين، وذلك بحسب طبيعة كل مشكلة.
وبعد هذه المقدمة نأتي إلى مشاكل الطلبة، ويمكننا أن نقسمها ثلاثة أقسام:-
أ - مشاكل تواجه الطالب في دراسته، أو نقول: مشاكل الطالب مع نفسه وذلك مثل:
1. كثرة غيابه وقلة حضوره في المدرسة. وهذه من المشاكل التي يشتكي منها المدرسون.. إن هذا الغياب يؤثر على مستوى الطالب ويضعف حفظه، ويجعله دائماً متأخراً. وبالنسبة لهذه المشكلة فإن الطالب يُدرس وضعه ويُجلس معه، وينظر في أسباب تغيبه فقد تكون لعدم قناعة، أو لخوفه من المدرسة لأسباب معينة، أو تكون لظروف نفسية، المهم يُبحث في أسباب هذه المشكلة وتعالج بالعلاج المطلوب.
2. ومن المشاكل أيضاً: سوء أو قلة حفظ الطالب. وهذه من المشاكل التي تعيق تقدم الطالب. فتدرس هذه المشكلة، وينظر في الطالب فإن كان ذكياً فلا بد أن هناك ثمة أسباب أخرى لظروف نفسية أو مشاكل عائلية، يمر بها الطالب مما تجعله كثير الشرود والسرحان، وبالتالي يضعف حفظه أو يقل، وإن كان غير ذكي -وهذه هي طبيعة عقله- فيؤخذ بيده شيئاً فشيئاً، ويرتب له برامج بحسب مقدرته العقلية في الحفظ والفهم, وشيئاً فشيئاً حتى يرتقي ويلحق بالركب.
ب - مشاكل الطالب مع زملائه الطلاب.
فقد يكون أحد الطلاب كثير الحركة والمشاغبة فتارة يضرب هذا، وتارة يأخذ كتاب هذا، وتارة يأخذ قلم هذا، فمثل هذا الطالب لا بد أن ينظر في أسباب مشاغبته، وتحل مشكلته بإزالة تلك الأسباب، فقد تكون نفسية راجعة إلى الأسرة أو إلى المجتمع والبيئة، فإن لم تنفع تلك المعالجة، فلا بد من استخدام التهديد وربما الضرب غير المبرح، والإنذار، واستدعاء ولي الأمر، وغير ذلك من وسائل زجر الطالب المشاغب.
ت - مشاكل الطالب مع المدرس:
قد يكون الطالب مشاغباً لدرجة كبيرة تجعله يتطاول على مدرسه وقد يتشاجر معه أو حتى يصل الأمر إلى ضرب المدرس، وهنا لا بد من معرفة وأسباب وجذور المشكلة، وفي الغالب يكون حل هذه المشكلة هو بفرض عقوبة قاسية جداً على الطالب المتمرد قد تصل إلى الفصل. وقد تكون مشكلة الطالب مع المدرس هو عدم رغبة الطالب في مدرسه لعدم قناعته به وكفاءته، وإذا كان الأمر كذلك (أي ضعف المدرس) فإن المدرس ينصح بتطوير نفسه، ويتم إقناع الطالب بمدرسه. أو نقل الطالب إلى مكان آخر.
هذا ما تيسر جمعه في هذا الموضوع، وإن كان الموضوع واسعاً.
والحمد لله رب العالمين،،،(/1)
مشروعية الوقف على المساجد
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:
هذا بيان لمسألة مشروعية الوقف على المساجد, ومعلوم أن الوقف لغة: مصدر وقف وهو الحبس والتسبيل, وشرعاً: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
وقد دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على مشروعية الأوقاف.
فمن الكتاب قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (92) سورة آل عمران.
فإن أبا طلحة -رضي الله عنه- لما سمعها بادر إلى وقف أحب أمواله إليه، وهي بيرحاء (حديقة مشهورة).
ومن السنة ما رواه مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»1. والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، ولذلك قال النووي في شرح هذا الحديث: "فيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه.."2. والصدقة الجارية هي الوقف.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ" قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا».قال: قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ قَالَ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)3..
قال ابن حجر: وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف4.
ومن الأدلة –أيضاً- فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد روى البخاري وغيره عن عمرو بن الحارث -ختن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخي جويرية بنت الحارث- قال: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً)5.
قال ابن حجر: إنه تصدق لمنفعة الأرض، فصار حكمها حكم الوقف6.
أما إجماع الصحابة: فقد قال القرطبي: أن المسألة إجماع من الصحابة ، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف ، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة ومشهورة7.
وقال ابن قدامة: قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذا مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم، فلا يلتفت إلى خلافه8.
ولا شك أن أعظم الأو قاف ما كان على دور العبادة من المساجد والمدارس ونحوه9.
والله أعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 رواه مسلم -3084- (ج 8 / ص 405), والترمذي -1297- (ج 5 / ص 243), والنسائي -3591- (ج 11 / ص 424).
2 شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 21).
3 رواه البخاري -2532- (ج 9 / ص 263), ومسلم -3085- (ج 8 / ص 407).
4 فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 350)
5 رواه البخاري -2534 - (ج 9 / ص 267).
6 فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 293).
7 تفسير القرطبي - (ج 6 / ص 339).
8 الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 6 / ص 185) المغني - (ج 12 / ص 175).
9استفيد الموضوع من: المشروع والممنوع في المسجد –لـ(محمد بن علي العرفج) (ج 1 / ص23-25).(/1)
... ... ...
مظالم المرأة في بيت والدها ... ... ...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- قصة مؤثرة عن ظلم فتاة من قبل أبيها. 2- مكانة المرأة في الإسلام. 3- نعمة الله في هبته الذكور والإناث. 4- امتهان المرأة من قبل البعض. 5- الأجر العظيم في تربية البنات. 6- خطورة عضل الرجل ابنته أو أخته عن الزواج. 7- ذم الإسراع في تزويج البنات دون السؤال عن الخاطب. 8- حق المرأة في صداقها. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن اتقى ربه فاز، وعلى الصراط جاز.
عباد الله، نشرت إحدى صحفنا المحلية هذا المقال : أقدمت فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً على الانتحار في محاولة لوضع نهاية لحياتها المأساوية والتخلص مما تعانيه من مشاكل حياتية واضطرابات نفسية.
وفي التفاصيل، أن الفتاة زوّجها والدها على عجوز يبلغ من العمر تسعين عاماً وبعد محاولات عديدة باءت بالفشل أمام رفضها لهذا الزواج حيث لم يجد والدها بُداً من زواجها من هذا العجوز قسراً. وازداد الأمر سوءاً، وازدادت الفتاة إحباطاً عندما علمت بعد الزواج أن زوجها عقيم ولا ينجب وقد طلّق ثلاث زوجات قبلها، وفي هذه الظروف العصيبة على الفتاة المكلومة لم تمكث سوى شهور حتى طلبت الطلاق الذي ظفرت به بعد محاولات عديدة، ثم عادت لمنزل والدها وهي تحمل اللقب المؤلم (مطلقة).
ولم تجد سوى موجة قوية من الغضب من والدها الذي كان لا يريد طلاقها من هذا الرجل، عند ذلك حاولت الفتاة وضع نهاية لحياتها ولمشاكلها عندما اتجهت صوب أحد الآبار الملاصقة لمنزلهم في مساء أحد الأيام بعدما خرج الجميع من المزرعة وقبل أن تقذف بنفسها في قاع تلك البئر التي وقعت على حافتها استطاعت والدتها الإمساك بها ومنعها من البئر قبل الوقوع فيها، انتهى الخبر.
ولكن المعاني التي حفل بها لا تنتهي، وما هذه إلا ضحية واحدة وقد نشر أمرها، وإلا فكم في البيوت من أنثى مظلومة تبكي حقوقها المهضومة وتشتكي إلى ربها، والله تعالى سامع لكل شكوى، وهو سبحانه رافع الضر وكاشف البلوى، وكفى به حسيباً وكفى به وكيلاً.
وقصة أخرى أفظع من هذه وأخطر، هذه امرأة في العقد الثالث من عمرها تعمد إلى ابنتيها الصغيرتين فتذبحهما كما تذبح الشاة حتى فارقتا الحياة، وهي في كامل قواها العقلية، وحين سئلت عن سبب فعلها أجابت بأنها لا تريد أن تلقى ابنتاها مثل ما لقيت من العذاب والمعاناة، حيث إنها ابتليت بزوج ووالد وكلاهما من مدمني المخدرات، وقد بالغا في إيذائها وظلمها بما لا مزيد عليه، وكلما اشتد بها الأمر مع زوجها لجأت إلى والدها تنشد العطف والرحمة، ولكن قلب الأب القاسي وعقله المغلوب يرفضان ذلك فيعيدها إلى زوجها راغمة كما تقاد الشاة إلى مذبحها.
عباد الله، لقد جاء الإسلام وأعلى مكانة المرأة، وأحاطها بسياج منيع من المكرمات والفضائل، فهي البنت المرحومة والأخت العطوفة والزوجة الحنون والأم الرؤوم، والمرأة شقيقة الرجل وهي نصف المجتمع وتلد النصف الآخر، ولكن بعض المسلمين هداهم الله رجعوا إلى جاهلية مقيتة وصفات قبيحة، ووقعوا في مظالم شنيعة يكون ضحيتها أنثى لا تملك من أمرها شيئاً، أليس من الجاهلية يا عباد الله أن يتمعر وجه أحدنا إذا بشر بقدوم مولودة أنثى، أليس من الجاهلية أن ينقم بعض الذكور على زوجاتهم أنهن لا يلدن إلا الإنات ؟ وكأن الزوجة بيدها الأمر ولها حق اختيار جنس المولود؟ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]، وما أشبه الليلة بالبارحة.
هذه امرأة مبتلاة بزوج جاهل نقم عليها أنها تلد البنات دون البنين، ولما ولدت البنت الأخيرة هجرها زوجها ولم يأتها وكنيته أبو حمزة، فقالت هذه الكلمات معاتبة زوجها الجاهل:
ما لأبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا
تالله ماذاك في أيدينا إن نحن إلا أرض الزارعينا
فبلغت أبا حمزة هذه الكلمات فآب إلى رشده وعاد إلى زوجه.
واسمع أيها المسلم ما قال ربك تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فانظر رحمك الله كيف أعاد سبحانه العطاء له وحده سبحانه وكيف فرق عطاياه على عباده، وانظر رعاك الله كيف بدأ بالإناث قبل الذكور، وما نعمة البنين والبنات إلا فتنة، وما كون الإنسان عقيماً إلا فتنة وابتلاء ،وربنا سبحانه ينظر من يشكر ومن يصبر، ومن يكفر بما أنعم الله عليه.(/1)
أيها المسلمون، ومن حق المولود أن يختار له الاسم الطيب سواء كان ذكراً أم أنثى، فقد روي في الحديث: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم)) أخرجه أحمد، ومن فعل الجاهلية ما اعتاده البعض حين يذكر المرأة أن يقول معقباً: أكرمك الله، أو عبارة نحوها، وكأنها قد نطق بقبيح أو ذكر خبيثاً، وقد تكون هذه المرأة التي تكرم جليسك عن ذكرها هي أمك أو أختك أو زوجتك، وما عرف المسلمون في سالف عهدهم هذا الترفع عن ذكر النساء والتحرج من ذلك، أخرج البخاري عن صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما إنها صفية بنت حيي)) فهل قال: وأنتم بكرامة؟ لا والله وحاشاه أن يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، ومن أراد الأجر من الله والوقاية من نار الله فليتق الله ربه في أولاده وليحسن تربيتهم ذكوراً وإناثاً، ففي ذلك أجر عظيم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) رواه مسلم، وعند الترمذي: ((لا يكون لأحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا دخل الجنة)) فللبنت حظها من التعليم والرعاية، وصلاح البنت صلاح البيت بإذن الله تعالى، واحمدوا ربكم أن تيسرت وسائل تعليم الفتيات في المدارس وفي دور تحفيظ القرآن الكريم الخاصة بالنساء، ولا تحرموا بناتكن من هذا الخير.
ألا وإن من واجبنا نحو بناتنا تربيتهن على الحشمة والستر منذ الصغر، فمن شب على شيء شاب عليه، والمرأة ضعيفة ناقصة العقل بنص الخبر النبوي، ولا بد للرجل من القيام بقوامته على من تحت يده من البنات والزوجات، والوالد الذي يلبس بناته العاري الفاتن من الملابس قد أخل بالأمانة وتعرض للوعيد.
عباد الله، وإذا قاربت المرأة سن الزواج فإن بعضهن يتعرضن إلى الظلم من أقرب الناس إليهن، فمن ذلك أن يعمد الوالد إلى رد الخُطّاب عن ابنته طمعاً في خدمة ابنته أو مالها أو مرتبها، وقد ورد التحذير من ذلك، أخرج البخاري أن أخت معقل بن يسار رضي الله عنه طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها فأبى معقل فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة:232]، فامتثل معقل لهذا الأمر فزوجها، وأخرج البخاري أيضاً عن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، قالت: هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها فيعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها. وأي ظلم للأنثى من هذا الظلم حين تمنع من حقها الشرعي في إعفاف نفسها والعيش مع رفيق دربها وطلب الذرية، فتبقى حبيسة لدى هذا الأب أو الأخ القاسي القلب الذي لا يشعر بمعاناتها ولا يأبه بحاجتها، ولا تملك إلا الحسرات تطلقها والدعوات ترفعها إلى عالم السر والنجوى سبحانه: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وصورة أخرى قريبة من هذا الظلم والخطأ حين يسارع الوالد بتزويج كريمته لأول طارق للباب دون التحري عن خلقه ودينه، وربما كان هذا الطارق غنياً فأعمى المال بصيرة الوالد فلم يتحر عن هذا الزوج القادم ولم يسأل عنه، وربما لم يستشر صاحبة الشأن والقرار وهي المرأة، فمن حقها الشرعي أن تأذن في تزويجها بمن ترغب فيه إذا كان كفؤاً لها، ويحرم على وليها إجبارها على الزواج بمن لا ترغب فيه، وهذا حق شرعي للمرأة طبقه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يزوج شيئاً من بناته جلس إلى خدرها فقال: إن فلانا يذكر فلانة يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر فإذا نقرته لم يزوجها).(/2)
ويخطئ الولي بعدم التأكد من خلق ودين الخاطب، إذ إن المرأة ستأخذ برأي والدها، فلا بد من الاحتياط في السؤال. وبعض الآباء يكتفي بكون والد الخاطب وأسرته من كرام الناس دون النظر في خلق الخاطب نفسه ودينه، فلا يكفي كون الرجل من أسرة معروفة أو كون والده من خيار الناس، بل لا بد من السؤال عن الخاطب نفسه فهو الذي ستتزوجه المرأة، ومظلمة أخرى تقع على المرأة حين يؤكل صداقها من اقاربها ولا تعطى إياه وهو حق لها خالص لا سبيل لوالد ولا لأخ عليه، ألم يقل الله تعالى: وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4]، وحرام على والد وزوج وأخ أن يتناول من صداقها شيئاً إلا بطيب نفسها، فعلام يتساهل البعض في هذا الأمر ويرى أن ابنته سلعة يبيعها بالثمن الذي يقبضه؟ فلنتق الله يا عباد الله وليحذر كل واحد منا أن تكون ابنته وفلذة كبده خصماً له يوم القيامة وأمام أحكم الحاكمين سبحانه. وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
أقول .. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) أخرجه البخاري، فمن حق المرأة أن تشترط على زوجها ما تراه في مصلحتها مما هو مباح، ولذا فعلى الولي ألا يغفل هذا الأمر، بل يسأل موليته إن كان لها شروط ثم يعرضها على زوجها ويدون ذلك في وثيقة عقد النكاح حفظاً لحقها واحتياطاً في الأمر.
هذه أيها المسلمون بعض المظالم التي تقع على الأنثى وهي في دار والدها، أما إذا انتقلت إلى دار زوجها فهناك مظالم أخرى ليس المقام مقام ذكرها الآن، وبعد أيها المؤمنون، ليس الناس كلهم يقعون في هذه المظالم، ولكنها مظالم موجودة ووقائعها ثابتة، وما كل ما يعلم يقال، وإلا ففي الناس رجال كرام أخيار عرفوا الحق فلزموه، وقاموا بالواجب مع كرائمهم وزوجاتهم، فربحوا السعادة وظفروا بالأجر وأدوا الأمانة التي حملوا إياها، فلله درهم ولله ما قدموا وبذلوا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا .. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
مع آهات صدري
فالنصر قادم
الحمد لله كاشف البلايا واهب العطايا علام الغيوب ، والصلاة والسلام على عبد الله المصطفى ورسوله المجتبى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد :
آه ٍ صادرةٌ من صدرٍ مكلوم .
آه ٍ نابعة ٌ من قلبٍ جريح .
وكيف لا وأمتي دماءها تنزف ، وأشلاءها تمزق .
تجتاح من أطرافها ويطعن قلبها .
أف ٍ لعين ترى وتسمع ثم لا تدمع .
أف ٍ لقلب يرى ويسمع ثم لا يدمى .
يا أمتي .. ..
أعملوا فيك السهام .
يا أمتي .. ..
تسلط عليك اللئام .
أحبتي ..
قلبوا البصر شمالا ً وجنوبا .. شرقا ً وغربا ..
يا الله .. يتامى ومساكين .. ثكالى ومشردين .. أرامل و مذبوحين .
غزو عسكري ضد المدنين .
المدنيون العُزل تحت أزيز الطائرات وقصف الدبابات وأليم الغارات .
آلاف القتلى حتى إنك لترى أشلاء الجثث في الشوارع مرمية .
أما من قدر له ـ بالرغم من هذا ـ أن يعيش فيا ترى ما هو مصيره ؟ .
ها هي عجوز تخرج من بيتها أما إلى أين ؟ فهي لا تعلم ، فكيف سنعلم نحن ؟ ! .
ومن بقي في داره فحدث ولا حرج عن حياة البؤس والذل في ظل رؤية الإخوان والأحباب يفعل بهم ما تستحي منه السباع الضارية .
أي والله .. لقد مس أمتنا البأساء والضراء وزلزلت زلزالا شديدا .
في ظل هذا كله يعلو صوت القرآن .
" أم حسبتم أن تتركوا ولما يأتكم مثل الذين خلو من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " .
نعم والله نصر الله قريب .
إنها سنة الله لأولياءه وأحبابه :
" حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " .
وعد الله جل وعلا :
" وكان حقا علينا نصر المؤمنين " .
" ألا إن حزب الله هم الغالبون " .
" وإن جندنا لهم الغالبون " .
نعم أعداء الله يمكرون ويخططون ولكن العاقبة والمستقبل للإسلام .
" إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون " .
" يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " .
" إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا " .
" ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " .
وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يؤكد هذا ويدل عليه ، ففي مسند أحمد ومستدرك الحاكم وصححه ، وقال الذهبي صحيح على شرط مسلم من حديث أبي رقية تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا ً يعز الله به الإسلام وأهله وذلا ً يذل الله به الكفر . ، فكان تميم يقول : قد عرفت ذلك . أهل بيتي . لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا ً منهم الذل والصغار والجزية .
أحبتي :
لقد استمعنا إلى الألم والأمل ولم يبق إلا العمل .
إن حقا ً علينا أن نعمل من أجل هذا النصر ، وكل يستطيع أن يبذل جهده في ميدانه الذي يطيق ويحسن العمل فيه .
النصر للمؤمنين الصادقين : " وكان حقا ً علينا نصر المؤمنين " .
النصر للعاملين المجدين لا للكسالى النائمين : " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر " هؤلاء هم الموعودون بالنصر في الآية التي قبلها " ولينصرن الله من ينصره " .
إن حقا ً على من سمع تلك الكلمات أن يبادر وبسرعة في نصرة هذا الدين بتوزيع مقالة أو نشر شريط أو كلمة طيبة أو بسمة رقيقة أو معاملة حسنة فضلا عن الدور المعلى لأولي الأمر من فتح باب الجهاد ونشر الحق وبذل المال والنفس ، " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " .
، وعندها " يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو القوي العزيز وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .
اللهم نصرك الذي وعدت .
يا رب عجل لأوليائك الفرج .
اللهم أطعم الجائع واسق الظمآن وداو الجريح وفك الأسير يا مجيد يا مجيد يا ذا الأمر الرشيد والبطش الشديد يا فعالا لما يريد أقر أعيننا بعز الإسلام والمسلمين .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/1)
مع بني إسرائيل بعد سليمان عليه السلام
إعداد عبد الرازق السيد عيد
من المجد إلى الشتات
الحمد لله تعالى جده وتبارك اسمه ولا حول ولا قوة إلا به الله، والصلاة
والسلام على رسول اللَّه، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد
وعدناك أخي الكريم بنظرة تاريخية ننظر من خلالها إلى تاريخ بني إسرائيل نظرة
رأسية، وكيف نقلتهم أعمالهم من قمة المجد إلى الهوي في محيط الشتات
السحيق.
أولاً: نظرة مجملة:
وسنجمل القول بغير إطالة ولا إخلال والله المستعان:
يقول د. عبد اللَّه الشقاري الباحث في تاريخ اليهود:
1- انقسام مملكة سليمان
عليه السلام:
«وبوفاة سليمان - عليه السلام - انفرط عقد الدولة اليهودية وأخذ
الصراع على السلطة ينخر في كيانها فانقسمت بعد فترة من الصراع الدموي
مملكتين:
1- شمالية: اسمها إسرائيل وعاصمتها شكيم «نابلس» وقد اجتاحها الملك
الآشوري «سرجون الثاني» سنة 721ق المجتمع . فأزالها من الوجود.
2- جنوبية: اسمها يهوذا
وعاصمتها أورشليم «القدس» وقد عُمِّرَتْ هذه الدولة قرابة أربعة قرون حتى
اجتاحها الملك البابلي «بختنصر» 586ق. المجتمع ، فقتل الآلاف من اليهود ومحا قراهم
واحدة بعد الأخرى حتى وصل إلى أورشليم فدمرها تدميرًا وقضى على هيكل سليمان،
وشتتهم في بقاع الأرض كمصر وجزيرة العرب وغيرهما، وأخذ من بقي منهم أسرى إلى
بابل.
2- اليهود بعد السَّبي البابلي:استمر اليهود أسرى في بابل ثمانية
وأربعين عامًا، وقد مكنتهم ظروف الأسر من تكوين الحركة العنصرية وتدوين كتبها
من التوراة والتلمود وغيرهما، وفي سنة 538 ق. المجتمع ، احتل ملك الفرس (قورس) بلاد
بابل، وأذن لليهود بالعودة إلى فلسطين، عاد بعضهم بقيادة عزرا- عُزَيْرٍ - عليه
السلام - فأسّسوا هناك دولة يهودية تدين بالولاء للفرس، وقد حاولوا التمرد
عليها مرات كثيرة، وفي سنة 320 ق. المجتمع زَحَفَ الملك الروماني «الإسكندر المقدوني»
على فلسطين فهادنه اليهود، وانضموا تحت لوائه وغدروا بأحلافهم الفرس، ولكن
الرومان ساموهم سوء العذاب وقتلوا منهم الكثير؛ بسبب ثورات اليهود
المتعاقبة.
3- الشتات الأخير:كان آخر تلك الثورات سنة 70م حين ثار اليهود على
حاكم فلسطين الروماني فاجتاح الإمبراطور الروماني «تيطس» أرض فلسطين وطهرها من
شراذمهم بقعة بقعة حتى تجمعت فلولهم في أورشليم «بيت المقدس» فحاصرهم فيها فترة
من الزمن ثم هدمها عليهم وأعمل السيف فيمن بقي منهم فلم تقم لهم قائمة بعد
ذلك». اهـ.
بعد أن نظرنا تلكم النظرة الرأسية لتاريخهم من الصعود إلى الهبوط،
آن الأوان لنلقي نظرات خاطفة في عمق الدولة نلمح منها بسرعة أسباب
الانهيار: انقسام الدولة والعلاقة بينهما: يلخص هذه العلاقة صاحب تاريخ
الإسرائيليين فيقول: «وحدث بين المملكتين حروب ومنازعات كثيرة أثارها ما بين
ملوكها من التنافس وعدم انتظام الملك في كليهما على اضطراد، لكن أولئك الملوك
كانوا في بعض الأحايين، يتعاهدون ويسيرون معا بجيوشهم إلى الحروب، وكان ملوك
إسرائيل في الشمال يخشون أن ترتد رعاياهم عنهم إلى ملوك يهوذا في الجنوب
بذهابهم للعبادة في أورشليم، فاتخذ بعضهم جميع الوسائل لحملهم على عدم الذهاب
إلى الجنوب، فكانوا تارة ينصبون لهم الأوثان ليعبدوها، وطورًا يمنعونهم من
تأدية العبادة جبرًا، وهكذا تناثرت على الاتحاديين الأسباب، وازداد الشقاق
فكانت النتيجة ضعف المملكتين، وتغلَّب الأعداء والغزاة عليهما الواحدة تلو
الأخرى».
- ويصور لنا أحد الكتاب الغربيين نهاية الدولتين فيقول: «كانت حياة
العبرانيين في فلسطين نكبات، وقصة تحررات لا تعود عليهم إلا بإرجاء نزول النكبة
القاضية، هي قصة ملوك همج يحكمون شعبًا من الهمج، حتى إذا وافت سنة 721 ق. المجتمع
محت مملكة إسرائيل من الوجود وزال شعبها من التاريخ زوالاً تامًا، وظلت مملكة
يهوذا تكافح حتى أسقطها البابليون سنة 865 ق.م. ومن المبدأ إلى النهاية لم تكن
مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينقيا، وذلك التاريخ الذي
هو أكبر وأعظم من تاريخهم».
- ويصف لنا أحد المؤرخين الذين شاهدوا نهاية دولة
إسرائيل على أيدي الرومان فيقول: «لقد طال حصار «تيطس» لأورشليم، حتى فني ما
فيها من قوت واضطر سكانها إلى أكل الجيف ودبيب الأرض، وهلك خلق من الجوع واشتغل
الأحياء بأنفسهم وتركوا الموتى بدون دفن فامتلأت الشوارع والأزقة بجثث الموتى
وتعفنت، وصار الناس يخرجون إلى الروم بالآلاف دون أن يمنعهم أحد، وكانوا
يبتلعون ما عندهم من ذهب وفضة ثم يستخرجونه من البراز بعد وصولهم إلى الروم،
وانتشر خبرهم بين الروم فكانوا يقتلونهم طمعًا فيما في أجوافهم من ذهب وفضة،
وقد تمكَّن الروم في النهاية من خرق أسوار أورشليم فدخلوا المدينة وأخذوا
يقتلون اليهود، ويدمرون ما تقع عليه أيديهم، وهكذا دُمرت أورشليم ودمِّر المعبد
للمرة الثانية وهلك اليهود في المدينة قتلاً وجوعًا بأيدي بعضهم، وأيدي(/1)
الرومان». اهـ.
ويقول صاحب تاريخ الإسرائيليين واصفًا جانبًا من هذه
النهاية:
«.. ومني اليهود بالانقسام الداخلي والفتن والمنازعات بينهم حتى ضعف
أمرهم وتقلص ظلهم، وتقوى (تيطس) عليهم فمزق شملهم، ودخل أورشليم فدكها دكًا
ودمرها تدميرًا، ومات من اليهود في ذلك الحصار نحو مليون نسمة فسالت الدماء
كالأنهار، وإلى هنا ينتهي تاريخ الإسرائيليين كأمة فإنهم بعد خراب أورشليم
الثاني على يد تيطس الروماني تفرقوا في جميع بلاد اللَّه، وتاريخهم فيما بقي
ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها، أو نزلوا فيها وقد حظر عليهم الرومان دخول
أورشليم». اهـ.
- ويلخص لنا الدكتور محمد عبد الواحد وافي تاريخ اليهود من
القمة إلى الشتات فيقول:
«وانقسمت مملكتهم بعد وفاة سليمان عليه السلام إلى
مملكتين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا، ونشبت بين المملكتين حروب أهلية كثيرة،
وفي سنة 596، 587 قبل الميلاد أغار بختنصر ملك بابل على فلسطين، فأزال ملك بني
إسرائيل، وأسر منهم عددًا كبيرًا وأخذهم إلى بابل حيث ظلوا في الأسر خمسين سنة
حتى تغلب كورش ملك الفرس على البابليين عام 538 قبل الميلاد فأطلق سراح اليهود
ورجع كثير منهم إلى فلسطين، واستعادوا بعض أوضاع حياتهم الأولى، ولكنهم فقدوا
استقلالهم، ولم ينعموا به بعد ذلك إلا فترات قصيرة، فوقعوا أولاً تحت سيطرة
الفرس، وظلوا كذلك زهاء قرنين كاملين، ثم وقعوا تحت سيطرة المقدونيين خُلفاء
الإسكندر الأكبر، ثم تحت سيطرة الرومان، وفي سنة 135 بعد الميلاد - أي بعد قتل
يحيى وزكريا ومحاولة قتل عيسى - أَخْمَدَ الرومان في عهد هادريان - آخر معاقل
اليهود - ثورة قام بها اليهود في فلسطين، واستخدموا في إخمادها أعنف وسائل
البطش، فدمروا بلادهم، وهدموا هيكلهم، وأخرجوهم من ديارهم، فأصبحوا مشتتين
هائمين على وجوههم في مختلف بقاع الأرض حتى يومنا هذا، ذلك على الرغم من إنشاء
دولتهم المزعومة كما يدعون ومن هجرة شرذمة من أفاقيهم إليها». اهـ
مختصرًا.
وبعد أخي الكريم، هذه نقول من مصادر القوم ومن كُتاب غربيين وعرب
مسلمين وغير مسلمين أردنا منها زيادة الإيضاح، وللحديث بقية إن شاء اللَّه.
والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
مراجع البحث
- اليهود في الكتاب والسنة،
جامعة الإمام محمد بن سعود - دار طيبة(/2)
... ... ...
معادن الناس ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- المقياس الحقيقي في التفاضل بين الناس 2- اهتمام القرآن بذكر معادن وكذلك السلف اعتنوا بذلك من أجل التثبّت من نقل الأخبار 3- آثار تظهر على الجوارح يُعرف من خلالها معادن الناس 4- فئات المجتمع المسلم ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
روى البخاري في صحيحه حديث الصحابي الجليل، أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: ((أكرمهم: أتقاهم. قالوا: يا نبي الله، ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبيُّ الله، ابن نبيَّ الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: أفعن معادن العرب تسألونني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام إذا فقهوا)). هذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، ولنا وقفة، مع معادن الناس خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
المعدن: هو الشيئ المستقر في الأرض، وكلنا يعلم بأن المعادن منها النفيس ومنها الخسيس وكذلك الناس معادن، فمن الناس من معدنه نفيس، ومن الناس من معدنه خسيس. والنفاسة والخسة في معادن الناس، لا علاقة لها بالنسب والحسب والقبيلة والدولة. وإنما نفاسة الناس وخستهم، بحسب ما معهم من التقوى والدين والخوف من الله، والالتزام بأحكام الإسلام، وبما اتصفوا به من محاسن الأخلاق، وكرائم الفضائل من العفة والحلم والمروءة، وغيرها من الصفات الحميدة، ((فمن بطئ به عمله لم يسرع به نسبه)). وإن أكرمكم عند الله أتقاكم . فالقضية ليست لأنك من البلد الفلاني، أو النسب الفلاني، وإنما القضية ما مدى قربك وبعدك عن أوامر الله. روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تقولون في هذا؟ قالوا: حرىّ إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يُسمع. قال ثم سكت. فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حرى إن خطب ألا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يُستمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملئ الأرض مثل هذا)).
أيها المسلمون: قد يعترض شخص ويقول: لماذا تصنفون الناس، ونحن نعلم بأن تصنيف الناس أمر مذموم؟ فيقال: على حسب التصنيف فإن كان على أساس البعد والقرب من أحكام الله ورسوله، فنعم التصنيف حينئذٍ، إما إن كان على اعتبار النعرات الجاهلية القبلية، فبئس التصنيف عندئذ.
إنك لتجد الآيات الكثيرة في كتاب الله، صنف الناس، وفرز معادنهم على الأساس الأول فسورة البقرة مثلاً، وهي أكبر سور القرآن، بدأت بتقسيم الناس إلى ثلاث فئات: فئة تؤمن بالله، وأخرى كافرة، وثالثة جائرة مترددة مخادعة، عظيمة الخطر، أطال الكلام عنها لخطورتها، وهم المنافقون. فهذا تصنيف وتقسيم للناس، وفرز لمعادنهم. بل وأنت تمضي في تلاوة آيات السورة نفسها، تجد معادن الناس: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله . ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق وهكذا.
بل لو تأملت في سورة براءة تجد أيضاً تقسيم الناس على هذا الأساس وتجد معادنهم فمنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني و منهم من يلمزك في الصدقات .
و منهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن و منهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر . ومن الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق . وكل هذا ذكر لمعادن الناس بحسب قربهم وبعدهم عن دين الله جل وتعالى. بل إن الله سبحانه وتعالى زاد الأمر إيضاحاً في بعض النوعيات من المعادن. فذكر أن من الناس من معدنه معدن الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون .
ومن الناس، من معدنه معدن الحمار: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين .(/1)
أيها المسلمون: إن معرفة معادن الناس، أمر مهم، وليس هو من فضول المعرفة، بل إنه يتعين على الدعاة خاصة والمصلحين والمربين، معرفة هذه المعادن وإلا فكيف يريدون أن يتعاملوا مع أناس يجهلونهم، وكيف تريد أن تربي وأن تصلح وأن تنتقل من مرحلة لأخرى، مع أناس تجهل معادنهم، فمعرفة أحوال الناس وأصناف الرجال وطبائعهم وأخلاقهم، من المعاني المطلوبة شرعاً لو كان القصد منها الإصلاح والدعوة، وما كتب الرجال وتراجمهم، ومصنفات الجرح والتعديل إلا كلام في معادن الناس، وقد اهتم السلف بهذا الجانب من أجل حفظ الشريعة. والتوثق من نقل الأخبار والآثار وبذلك ميزوا لنا صحيحها من سقيمها.
عباد الله: إن هناك آثاراً تظهر على الجوارح والأبدان، يمكن من خلالها معرفة معادن الناس، ومراتب الرجال. وهذا على الأغلب صحيح أن النوايا لها دور بارز في هذا، لكن النوايا علمها عند المطلع على النوايا، أما نحن فليس لنا إلا الظاهر. فنقول: بأن من غلب عليه آثار الخوف، كالبكاء مثلاً إذا سمع آيات ونصوص الوعيد، فهو من الخائفين بمعنى أن هذه العلامة أو هذا الأثر الظاهر على جوارحه وهو البكاء، عند سماع الوعيد يدل في الغالب على أنه من الخائفين، وإن كان تصنّع هذه الحالة، يمكن أن يحسنها البعض في بعض المواقف. ومن غلب عليه السرور والاستشعار والفرح عند سماعه لنصوص الوعد، فاعلم أنه من الراجين. ومن غلب عليه بغض الصحابة وشتم أبي بكر وعمر والطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فاعلم أن معدن هذا الرجل، معدن خسيس، باطن، مناوئ لأهل السنة بل من المعادين لهم. ومن غلب عليه محبة العلم والعلماء، وغلب عليه الحرص على كتب العلم والقراءة والإطلاع وحضور الدروس والمحاضرات، واستغلال الأوقات في هذا المجال، فاعلم أنه طالب علم. ومن غلب عليه انتقاص العلماء، وعيب الدعاة، والطعن في أعراض المؤمنين، وذم الصالحين، وتتبع عوراتهم، حتى أنه لم يسلم منه حتى الميتين، فاعام أنه منافق، محارب للدعوة مبغض لحزب المؤمنين.
ومن غلب عليه العمل بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزم بما يدعو إليه، وتكلف تبعة دعوته، فاعلم أنه من الدعاة المخلصين العاملين، الذين يهمهم قضايا المسلمين. يفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، وهؤلاء بإذن الله تعالى، هم الذين يحبون سيرة السلف الصالح أمثال سعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وعبد الله بن المبارك، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. وهؤلاء هم الذين سيعيدون بإذن الله للأمة مكانتها، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوله. إن هؤلاء هم الذين ثبتوا على المنهج فكانوا كما وصفهم الله تعالى بقوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . إن أمثال هؤلاء ينبغي أن تمد لهم الأيدي لأنهم أمل الأمة بعد الله، وهم نجدتها، وإن كانوا في هذه الفترة أعز من الياقوت الأحمر. نخلص من هذا أيها الأحبة، بأن هناك بعض الآثار وهناك بعض المظاهر إذا ظهرت على الشخص فإنه في الغالب يدل على معدنه. وما ذكرته أمثلة وإلا فأصناف المعادن أكثر من هذا: ففتش في نفسك يا عبد الله أي الآثار التي ذكرت يغلب عليك، لأن بعضها قد يحدد دخول الإنسان ملة الإسلام أو خروجه منه.
ثم إن معرفة هذه الآثار مهمة، والتنبيه عليها وإعطاء بعض الأمثلة مهم من جهة الأفراد أنفسهم لأن الشخص قد يظن أنه على الجادة وهو في الحقيقة منحرف عنها. فكم من عاصي يظن أنه مطيع، وكم من بعيد يظن أنه قريب. ومن مخالف يعتقد أنه موافق ومن منتهك يعتقد أنه متمسك، ومن مدبر يعتقد أنه مقبل، ومن هارب يعتقد أنه طالب ومن جاهل يعتقد أنه عارف، ومن آمن يعتقد أنه خائف، بل كم من مراءٍ يعتقد أنه مخلص ومن ضال يعتقد أنه مهتد، ومن أعمى يعتقد أنه مبصر. والشرع أيها الأحبة هو الميزان، يوزن به معادن الرجال. وبه يتبين النفيس من الخسيس فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله وتتفاوت مراتب الرجحان. ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك هم أهل الخسران، وتتفاوت أيضاً دركات خفتهم في الميزان.
فنسأل الله جل وتعالى بأسمائه أن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها.
أقول هذا . . . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد: فإن معادن الناس التي تتالف منها مجتمعات المسلمين اليوم خاصة، تتكون من ثلاث فئات من الناس، ولا يمكن أن يخرج فرد من الأفراد عنها بحال وهذه الفئات هي:
1 - الفئة المصلحة الداعية إلى الخير.
2 - الفئة المفسدة الداعية إلى الشر.
3 - فئة الأتباع والمقلدة.
ولا يمكن لأي فرد منا إلا وهو واقف تحت مظلة، من هذه المظلات الثلاث.(/2)
أما المعدن الأول: وهم الفئة المصلحة الداعية للخير فهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً، وأثراً على الناس، وأنبلهم غاية وأسماهم هدفاً، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين . وهم الذين عناهم الله في قوله: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين وهم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)). هذا المعدن، هو أشرف المعادن بحق، كيف لا، وهم يحملون أعظم رسالة، وأنبل غاية ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين. وإخراجهم بإذن الله من ظلمات شهوة الحيوانيين وشبهات العلمانيين إلى نور الهداية والدين. كيف لا يكون معدن هؤلاء أنفس معدن، وهم الذين يضحون بأوقاتهم وأموالهم وراحاتهم، في سبيل إنقاذ الناس من عذاب الله تعالى في الدنيا، وعذابه الأليم في الآخرة. لاشك أن هذا الصنف من أنفس المعادن.
المعدن الثاني: الفئة المفسدة الداعية إلى الشر والصادة عن الخير، وهؤلاء هم سفلة المجتمع وهم أراذل الناس وهم أخس المعادن، لأنهم خانوا ربهم وخانوا أمتهم، وظلموها وعرضوا الناس للشقاء والنكد في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون .
إن هذه الفئة هي التي تحارب الدعوة، وهي صاحبة المكر والكيد، لكنهم مساكين لأن الله تعالى يقول في نهاية الآية: وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون إن الذي يكره انتشار الخير - ويبغض أهله، وينشر الفساد، ويصد عن سبيل الله، إنما هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وما الحياة عنده إلا هذه الدنيا فهو يسعى ليجمع ويظلم ويبطش. فهذا كافر مرتد قولاً واحداً. وإما أن يكون ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، لكن الدنيا بزخارفها ومناصبها أسكرت عقله، وغطت لبه فأصبح في قمة الغفلة، حتى استمرأ الفساد وصارت الدنيا أكبر همه، يلهث وراءها، ويجمع حطامها ولو كان عن طريق الفساد والإفساد، فهذا يؤمن بالآخرة لكن لا عقل له. كما أن الأول لا إيمان له وقد يخسر إيمانه في النهاية. وما علم هؤلاء بأن العاقبة للمتقين، وبأن المستقبل للإسلام، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
المعدن الثالث: فئة الأتباع وعامة الناس وهم الذين لم يصلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة، ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة، إنما هي بين الفئتين، ولديها الاستعداد للخير الذي تدعوا إليه الأولى، كما أن لديها الاستعداد لتلقي الشر والفساد الذي تسعى لنشره الفئة الثانية. وهذا يؤكد عليكم يا أهل الخير، ويا شباب الدعوة، ويا بغاة الإصلاح، يؤكد أهمية الدعوة إلى الله، وقطع الطريق على الفئة المفسدة حتى لا ينحرف الناس عن الجادة. والملاحظ أن هذه الفئة هي السواد الأعظم من المسلمين. ولهذا يقوم التدافع بين عناصر المعدن الأول وعناصر المعدن الثاني على الفئة الثالثة، وهو ما يسمى بالصراع بين الحق والباطل قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين . فينبغي على الفئة الأولى أن تجتهد في الخير وأن تسعى في نشره بكل وسيلة، وأن تأتي بالجديد المرغّب، لكسب أكبر عدد من الفئة الثالثة.لتندحر المعادن الخسيسة، وتدخل في جحورها، وهي خاسئة مندحرة بإذن الله عز وجل. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
معالجة الإسلام لقضية الرزق
إخوان أون لاين - 13/06/2006
بقلم: فؤاد حمودة
الحمد لله رب العالمين، نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هاديَ له.. لا إله إلا أنت سبحانك أنت القوي ذو العزة، وأنت الغفور ذو الرحمة، مالك الملك وخالق الخلق، رافع السماء وبانيها، وباسط الأرض وداحيها، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير.
ونصلي ونسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومَن دعا بدعوته واستنَّ بسنَّته إلى يوم الدين، ونسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء الطيبين الطاهرين، ونستفتح بالذي هو خير.. ?رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)? (طه) أما بعد:
كيف عالج الإسلام خوف المسلم على رزقه؟ الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: ?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)? (الذاريات)، ويقول أيضًا: ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا? (هود: من الآية 6)، فالدواب والبشر رزقه عند الله، وأراد سبحانه وتعالى أن يؤكد هذا المعنى فأقسم، ففي قوله تعالى: ?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)? (الذاريات)، اتبعه بالقسم ?فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)? (الذاريات)، وذلك لأن الإنسان قد يظن أن رزقه بيد الناس فأقسم، وعندما سمع الأعرابي هذا القسم بعد الآية الأولى قال: "مَن أغضب الجليل حتى يقسم؟" أليس الأمر واضحًا لا يحتاج إلى قسم؟!!.
طلب الرزق بعزة النفس
أما الخوف من الفقر، فأنت تجد نفسك تخاف الفقر، وهذا المعنى من الشيطان؛ لأنه هو الذي يخوف الناس ليقول لهم اخشوا كذا، وكذا، اخشوا لا تجدوا رزقكم، والله يقول إن الرزق عندي فتوجهوا إليَّ بالدعاء ولا تتوجهوا إلى غيري فالحياة بيد الله، والرزق بيد الله، نفس هذا المعنى يحدثنا عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيقول في الحديث الشريف: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"، هكذا يخبرنا أن الرزق كأمر الحياة والموت لا يكون إلا بقدرٍ من الله، ومُقدَّر في السابق، كل هذه الأمور مقدرة عند الله حتى يمنع الإنسان من أن يضطرب أو يرتبك من ألا يأتيه رزقه، فالرزق في السماء قدرٌ عليك، ولن تستطيعَ أن تحصل إلا على النصيبِ الذي يريده الله لك، فلماذا تقلق، ولكن ينبغي عليك إذا أردت شيئًا أن تلجأ إلى الله وتستعين به.
الرسول يقول: "اطلبوا الحوائج بعزةِ الأنفس فإن الأمور تجري بمقادير"، عزة الأنفس أن تبتعد عن الذل، فلا تذل نفسك لأحد، فالحياة بيد الله وكذا الرزق فلا تذل لإنسان، فالتكالب على الدنيا يجعلها هي الأسبق في كل شيء؛ لأن أمر الدنيا أهون عند الله من ذلك، والآخرة هي التي ينبغي أن يكون لها الأسبقية على كل شيء، أما الدنيا فيكفيك منها ما يُطعمك ويسقيك.
فهم الصحابة
وحديث النبي- صلى الله عليه وسلم- يؤكد هذا المعنى، فيقول: "يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت" ويوضح حال مَن يسعى إلى الدنيا وحال مَن يسعى إلى الآخرة، فيقول: "مَن أصبحت الآخرة أكبر همه جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومَن كانت الدنيا أكبر همه فرَّق عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتب له"، فنصيبك من الدنيا سيأتيك، مهما سعيت، فلن يأتيك إلا ما كُتِبَ لك عند الله.
هذه المعاني فهمها سلفنا الصالح، واقتنعوا بها تمامًا فكانوا مثلاً عليا، واستطاعوا بهذه المعاني أن يكونوا أعزةً لا يُذَلون لأحد، فكان المرء منهم يلتقي بالحاكم فلا يحس بأي ذلةٍ نحوه، أنا بشر وهو بشر، رزقه من عند الله، حتى لو كان يأتيني رزقي من رب العمل، فليس رب العمل إلا وسيلة، يقول الله تعالى: ?وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ? (النحل: من الآية 71) انظر إلى هذا المعنى العميق، فلا يظن هذا العامل البسيط أن رزقه عند رئيس العمل، بل إن رئيس العمل يُرزق برزق هذا العامل، فرزق العامل ورئيسه من عند الله.
وانظر إلى الصحابي أبو حازم الذي التقى به عبدالملك بن مروان فقال له عبد الملك سلني حاجتك، قال: رفعتها إلى مَن هو أقدر عليك منها فما أعطاني منها قبلت وما منعني رضيت، فلا أحتاج إليك.(/1)
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر كان جالسًا في المسجد فدخل عليه سليمان بن عبدالملك، وجلس بجواره، وقال سلني حاجتك، فقال: "إني أستحي أن أسأل في بيت الله غير الله"، وانتظر سليمان حتى خرج سالم من المسجد وخرج وراءه، فقال له: الآن سلني حاجتك، قال من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة، قال: من حوائج الدنيا وهل أملك الآخرة، فقال: إني ما سألت الدنيا ممَن يملكها، فكيف أسأل مَن لا يملكها.
الرسول يخاف عليك
الرسول كان يؤكد هذا المعنى دائمًا، فيذكر أن القليل من الدنيا يكفي وأن القليل الذي تستطيع أن تؤدي من الله فيه من الكثير الذي لا تؤدي حقه، بل إنه يقول: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها، كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"، وكان يعلم أن فارس والروم ستصبح من أملاك الدولة الإسلامية، ويخبر بذلك أصحابه، فلقد كان جالسًا مرة مع صحابته فقال: "كيف أنتم إذا فُتحت عليكم كنوز فارس والروم؟ قالوا: يا رسول الله: نكون كما أراد الله، قال: أو غير ذلك تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتباغضون ثم تتدابرون".
بهذه الروح ساد المسلمون، فلم يكن يشغلهم الرزق أو الموت أو الحياة تشغله الآخرة بحيث يريد أن يموت، أما نحن فنريد أن نعيش ونحيا أكثر، فما المانع أن يعيش أكثر من ثمانين أو تسعين سنة، لكن هؤلاء كانوا يقولون لا أموت اليوم؟ وعندما سأل المقوقس جنوده لماذا تُهزمون في كل معركة؟ فأنتم لكم يدان كما للمسلمين، ولكم رجلان كما للمسلمين، فقال أحدهم أنا أصدقك الحديث، ما منهم من أحد إلا ويتمنى أن يموت قبل صاحبه، وما منا من أحد إلا ويتمنى أن يموت صاحبه قبله.
هذا هو الطريق، طريق العزة، فلا يشغلكم حديث الرزق فإنه عند الله، فلا تطلبوه من غيره ونختم بدعاء الرسول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، ومن التوكل إلا عليك".(/2)
معالم العصمة عند وقوع الفتن
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أمر مهم وموضوع خطير ، نحن في أمس الحاجة إليه مع تعاون البلية ، وتفاقم الرزية وكثرة اختلافه والتنابز بالألقاب ، والتبعد والتجافي في الآراء والافتراق والانقطاع في الصفوف ، وغير ذلك مما نمر به ونشهده نسأل الله - سبحانه وتعالى - العصمة من الفتنة .. وأنه - جل وعلا - قد قدر الفتنة والابتلاء ، والفتنة ابتلاً وامتحاناً واختباراً ، ثم صارت تطلق على مكروه أو كل ما يؤول إليه من أمر من المكروه والسوء والشر والفساد ، ونسأل الله - عز وجل - السلامة .
وقد اقتضت سنة الله – سبحانه وتعالى - وقوع الفتن وجريان المحن ، وتمحيصاً للإمام ، وتجهيزاً للصفوف ، وابتلاءً يصدق به الصادقون ، ويظهر به الكاذبون ، ويختم به وينصرف حق المنافقون ، وقد قال سبحانه وتعالى : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} .. {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
قال ابن كثير في تفسيره : هذا استفهام استنكار - أي هذا سؤال على صيغة الإنكار - ومعناها : أن الله - سبحانه وتعالى - يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان .
وقال السعدي رحمه الله : " سنته تعالى وعدته في الأولين ، وفي هذه الأمة أي يبتليهم بالسراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والغنى والفقر وأذنت الأعداء عليه في بعض الأحيان ، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ، ونحو ذلك من الفتن التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة ، ومعارضة العقيدة ، وفتنة الشهوات المعارضة للإرادة أمن صدق وثبت فأولئك هم المؤمنين " .
ثم بين الله – سبحانه وتعالى - عاقبة هذا الابتلاء ، فمن كان عنده ورود الشبهات لتأثر في قلبه شك وريبة عند اعتراض الشهوات تصرف إلى المعاصي أو تصرفه عن الواجبات دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه ، وقد نراه من تحيّر شكه في ثابت المقطوع به من دين الله بل من غيّره وبدله ، وصار مخالفاً واضحاً تماماً للمقصد الظاهري البيّن مما جاء في آيات الله ، وثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن الإيمان ليست كلمة تقال ، وإنما هو حقيقة ذات تكاليف وأمانة ، وذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر وجهد .. يحتاج إلى احتمال ، والفتنة هي أدلة على أصل الإيمان ، وهي سنة الله - جل وعلا - الجارية .
ونحن لا نشك أبداً أننا في زمن فتنة وأحداث عظيمة وجليلة ، لكننا عندما ننظر بنور الله ، وعندما نستهدي بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكشف لنا حقائق الأمور ، وتتبدل ظلمات الشبهات ، ونعزف بإذن الله – سبحانه وتعالى - عن إغراء الشهوات .
ولعلنا نصف واقعنا المعاصر ، وحالتنا الراهنة التي يتكالب فيها الأعداء ، وتفترق فيها الآراء .. ليس بوصف من عندنا ، وليس بقول من زماننا ، وإنما بما ذكره المصطفى – صلى الله عليه وسلم - فيما صح عند الشيخين من حديث أبي هريرة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - فيما وصف به آخر الزمان ، قال عليه الصلاة والسلام : ( يتقارب الزمان ، ويقبض العلم ، وتظهر الفتن ، ويبقى الشح ، ويكثر الهرج ، قيل : وما الهرج يا رسول الله ؟ قال : القتل ) .
وهل ترون صورة أوضح وأدق في وصف أحوالنا اليوم في تقارب هذا الزمان واختصاره ، كما يطلقون عليه اليوم كقرية صغيرة ، وقبض العلم بموت العلماء ، وذهاب المخلصين الصادقين منهم إلا من رحم الله .
وما ظهور الفتن - أي كثرتها واشتهارها - كما ذكر الشرّاح : فتنة عظيمة ترقق التي قبلها ، وفتنة في شرق تنسى فتنة الغرب ، وفتنة في عقر دار وبعد فتنة في الديار ؛ حتى يرى الإنسان هذا الظهور والاشتهار ، والكثرة وراء الأعين ، لا يحتاج إلى بيان ولا إلى شرح ، ويلقى الشور أي يغرس في النفوس .
وكم نراه ظاهراً الهرج والقتل ، وما أدراك ما هو ! وكم أعداده ، وما هي أسلحته الفتاكة ، وما هي الجرائم القوة العظمى التي تتولى كبره وتناء وتحمله عقبة وإثمه.
ثم كذلك تنظر إلى ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة توضحه أكثر كما ورد في الصحيحين عند البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن زيد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أشرَفَ على أضمٍ من الأضامي - أي مرتع من المرتفعات - فقال لأصحابه : هل ترون ما أرى ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : ( إني أرى الفتن خلال بيوتكم كوقع المطر ) .
أليس قطر المطر يصيب كل شيء ؟ فكل قطعة من الأراضي ، وكل مكان من الأمكنة ، وذلك بكثرة شيوعه ، وعموم البلوى ، بمثل هذه الفتن .(/1)
وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( بادر بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) رواه مسلم في صحيحه .
والله لكأنا نرى ذلك رأي العين ، ونرى من اسمه اسم المسلمين ، وسمته سمتهم ، ثم نرى حاله ومقاله ، وفعله لا يختلف عن فعل الكافرين ، بل ربما كان أشد ، ولأجل أي شيء يفعل ذلك ؟ لا ترى سبباً ، ولا تستطيع أن تبحث عن علة إلا أمراً يتعلّق بدنياه ، حفاظاً على روحه ، ورعايةً لمصالحه ، أو حفظاً لمطامعه ، أو خوفاً على شيء من عرض هذه الدنيا .
قال الحسن البصري في تعليقه وبيانه في هذا الحديث ، وهو من أفصح البيان وأوضحه:
( يصبح الرجل مُحرمّاً لدم أخيه وعرضه وماله ، ويُمسي مستحلاً له ، ويمسي مستحلاً له ، ويصبح محرماً له ) .
أهواء تعبث ، ومصالح تحكم ، ودين يضوي ، وإيمان يرق ، ويقين يضعف ، نسأل الله - عز وجل - السلامة .
ثم يقول الحسن - رحمه الله - عندما ذكر قوله يبيع دنياه بعرض من الدنيا قليل ، قال : " فو الله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً ، وأجساماً ولا أحلاماً .. فراش نارٍ وذباب طمعٍ ، يغدو يبيع دينه بدرهمين .. يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين .. يبيع أحدهم دينه بثمن العنز ، والله لقد رأيناهم " .
من القائل ؟ الحسن البصري ! في أي زمن ؟ في زمن التابعين ووجود بعض الصحابة الغُر الميامين ! " والله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً ، وأجساماً ولا أحلاماً " ثم بيّن حالهم . أفلسنا نرى من ذلك ما هو أظهر ، وما هو أشهر ، وما هو أكثر ، وما هو أخطر ؟ بلى والله ، ومن لم يرى ذلك فربما لم تكن حينئذٍ له عينٌ بصيرة . نسأل الله عز وجل السلامة .
واستمع إلى هذه الومضات الإيمانية القرآنية التي تبيّن الافتراق بين المؤمنين الصادقين ، وبين المنافقين الزائغين ، وبين الكافرين المعتدين الظالمين .. التي تُبيّن كيف تُمحّص الفتن الناس ، وكيف تُظهر مكنونات ما في قلوبهم ، وتخرج دخائل نفوسهم ، وتُظهر خواطر عقولهم ، وتكشف ذلك في فلتات ألسنتهم ، في كثير من أحوالهم وأفعالهم : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } .
بمجرد الابتلاء اليسير والمحنة العارضة نجد من ينسلخ من دينه ، ويتجرّد من إيمانه ويمسخ ، حتى من فطرته وخُلقه وأي شيء لأجل عذاب دنيوي ، أو لأجل رهبة بشرية ، وينسى عذاب الآخرة ، وينسى قوة الله - عز وجل - رب الأرباب ، وملك الملوك ، وجبّار السماوات والأرض ، وينسى أن أمر الله - جلّ وعلا - بين الكاف والنون ، وأن كل قوى الأرض لا يمكن أن يكون لها أثر ، ولا ذكرٌ ، ولا خبر إذا أراد الله – سبحانه وتعالى - إثناءها ، وإذا أراد الله عز وجل ردها في نحور أربابها ، وإذا أراد الله عز وجل أن تكون شِقوة لمن يأخذون بها ، ويؤذون بها ، ويعتدون بها .. { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة } .
أليس هذا حال نراه ؟ أليست هذه صورة ينبغي أن تمتلئ قلوبنا رهبة وخوفاً من أن نكون من أربابها ، أو نكون من أصحابها ، إنها الفِتن التي تُقلِّب القلوب ، وتعبث بالآراء ؛ فإنما يكون لنا بذلك عصمة بالله ، وإن لم يكون أمرنا كذلك سنضيع مع الضائعين ، ونزيغ مع الزائغين ، ونهلك مع الهالكين . نسأل الله - عز وجل - أن يعصمنا ، ونسأله – سبحانه وتعالى - أن يُنجينا ، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا .
إننا إذا تأملنا وجدنا حالاً تُصوّره الآيات يشبه حالنا اليوم وقد تكالب الأعداء ، وقد اختلفت آراء الأولياء والأحباء ، بل تضاربت مصالحهم ، بل وقد تهيأت أسباب ظهور صراعهم وعداءهم جلية واضحة ، أي شيء في كتاب الله يُصوّر لنا ذلك ؟ :
{ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
سبحان الله ! كأن الآيات تنطق بألسنة كثير ممن يقع منهم ذلك في هذا اليوم ، فالله – سبحانه وتعالى - كما قال : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } .(/2)
قاعدة مطّردة .. نفيٌ مؤبد .. كلام رب العالمين لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين ، أين هم إن وُجدوا فلن يكون للكافرين عليهم سبيلاً .. قد تكون جولة ولكن الدولة تعود إلى أهل الحق إلى قيام الساعة ، ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون ، وعند الشدة لا يثبتون ، وذلك هو أثر الفتنة التي يقضيها الله عز وجل ؛ فإن ثبت الثابت واعتصم بالله - عز وجل - يوشك عمّا قريب أن تنكشف الغمة ، وأن تُفرج هذه المُلمّة ، وأن يكون للناس من وراءها خيراً عظيماً ، وفرجاً كبيراً ، ونصراً عظيماً ، ولكن كثير من الناس لا يوقنون ، ولكن كثيراً من الناس لا يصبرون ولا يثبتون ، نسأل الله - عز وجل - أن لا يجعلنا من أولئك .
وعندما نتلو هذه الآيات نجد ما بعدها مباشرة : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } .
ثم تُبيّن مواقف المنافقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .. أي شيء أوضح من بيان أن هذه المواقف هي مواقف النفاق الذي لا يصدق معه الإيمان ؟ إنما يكون ظاهراً لا باطناً .. إنما يكون صورة لا حقيقة .. إنما يكون مداهنة لأغراضٍ وليس صدقاً لحقيقة ، كما هو الأصل في هذا الإيمان .
ولسنا نريد أن نفيض الحديث عن الفتنة ؛ فإنها مما يراه الناس ويعرفونه ، ولكننا نريد أن نقف مع معالم العصمة من هذه الفتنة ، والنجاة من هذا الهلاك ، والخروج من هذا المأزق ، سيما وأن الأحداث تتوالى ، وأن البلايا تتعاظم . والله - عز وجل - قد منّ علينا بكثير مما نحتاج إليه ، ونحتاج إلى التبصر به ؛ حتى نسلم بعون الله عز وجل .
وهذه بعض المعالم :
أولها : الاعتصام بكتاب الله ، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم
{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } . ونعلم أن هذه جملة مجملة ، لكنه قد سبق لنا في جُمعٌ سابقة تفصيل طويلاً في حقيقة هذا الاعتصام ، وحقيقة فهمنا بكتاب ربنا ، ويقيناً بما جاء فيه ، فلعلنا أن نستحضر ذلك ، وأن نتذكره .
هذا الطبري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية يقول : " يريد بذلك - تعالى ذكره – أن تتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه إليكم ، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله " .
قال ابن كثير : " وقد ضُمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ " .
يُعصمون من الخطأ إذا ائتلفوا واتفقوا ، ويُنجون من الآراء الزائغة ، والمواقف الحائرة ، والمواقف الخاطئة كذلك ، وقد بيّن الله – سبحانه وتعالى - ذلك في آياتٍ كثيرة : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
عندما تأتي الفِتن وتشتد المحن ، تجد الناس يلجئون ويفزعون إلى ما يظنونه مستمسكاً ومستعصماً وملجأً وملاذاً ، فبعضٌ يرجع إلى قوة من قوى أهل الدنيا ، وإن كانت قوى كافرة باغية ظالمة يلتمسوا الأمن في ظلالها ، والحماية في جوارها ، والنصرة في طريقها أو في مسيرها ، وذلك من أعظم الزيغ ، وأشد الفتن ،وعظمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى . نسأل الله - عز وجل - السلامة .
والله - جلّ وعلا - يُبيّن أن لا عصمة إلا لمن اعتصم به : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ } .
وغير أولئك لا ينجون ، وغير أولئك لا يُصيبون ، وغير أولئك لا يكون لهم ما يقع به أمنهم من الخوف ، ولا نجاتهم من الهلكة ، ولذلك لابد أن نتأمل في هذه الآيات ، وكثير غيرها ، وكثير كذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .. قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } .
لاشك أن المسائل مختلطة ، وأن الأمور محيّرة ، فكيف ينكشف الطريق ؟ وكيف يُعرف المسار ؟ وكيف تنجلي الغمة ؟ وكيف تُكشف الظُلمة ؟ إنه لا كاشف إلا بنور الوحي ، ولا بصيرة إلا ببصيرة الإيمان ، ولا معرفة إلا بمعرفة اليقين ، فكلما اعتصمنا بكتاب ربنا اعتصاماً حقيقياً عن وعي وإدراك ، وعن إيمانٍ ويقين ، وعن ثباتٍ وصبر ؛ فإن ذلك هو العون الأساسي .
المعلم الثاني : تقوى الله
ونعني به ذلك التعلّق الذي يزداد عند الفِتن والمحن ، والذي يعظُم عند الشدائد والكرب والبلاء .
مع أن كثيراً من أحوال الناس إذا ازدادت الشدة ذهلت عقولهم ، وفزعت قلوبهم ، فانصرفوا عن حياض التقوى ، وخرجوا من دائرة العبادة ،ولم يكن ذلك دافعاً لهم لمزيد من التعلّق ، وكثيرٍ من الارتباط بالعبادة والطاعة ؛ لأن الناس في وقت الفِتن يُذهلون ، وينشغلون بأمور أنفسهم ، وينصرفون كثير عن أمور تعلقهم بطاعة ربهم وعبادته – سبحانه وتعالى - أليس قد قال الحق جلّ وعلا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } .(/3)
كُن مع تقوى الله سوف تجد بإذن الله - عز وجل - كل عسيرٍ يسيراً ، وكل صعب سهلاً ، وكل مغلق مفتوح ، وذلك وعد الله القاطع الذي لا يتخلف بإذن الله عز وجل .
وتأمل كيف يبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثر العبادة في وقت الفتنة على وجه الخصوص ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ، عندما تتأملها تدرك أنه كل ما زادت الفتنة ينبغي أن تزيد العبادة والطاعة ، هذا حديث معقل بن يسار – رضي الله عنه - يقول فيه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم : ( العبادة في الهرج كهجرة إليّ ) .
وفي رواية أخرى عند الطبراني ، وهي صحيحة : ( عبادةٌ في الهرج أو الفتنة كهجرةٍ إليّ ) .
قال الشُرّاح : " لما كانت فتنة الدين كانت النجاة منها في زمنه صلى الله عليه وسلم الهجرة إليه وإلى دار الإسلام ؛ لتثبيت الإيمان وإعلاء راية العبادة لله عز وجل ، فلما كانت الفِتن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - كان المنجى هو العودة إلى العبادة والطاعة ، والاستكثار منها فهي هجرة من المعاصي إلى الطاعات ، ومن الفِتن إلى الثبات ومن كل سوء إلى كل خير بإذن الله سبحانه وتعالى ، حتى أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : ( أن السجدة في زمن الفتنة تعدل الدنيا وما فيها ) .
كم نرى من الناس انصرافاً وذهولاً كلما اشتد الخطب ..كلما زاد الشرود والبعد والغفلة عن الطاعة ، والصلة بالله سبحانه وتعالى .
والأمر الثالث : دعاء الله جلّ وعلا
وقد يكون ذلك مندرجاً فيما قبله ، لكن التفصيل مهم ولكن ذكر الآحاد والأفراد مهم أيها الأخوة الأحبة : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
أفليس وقت المحن هو وقت الدعاء المهم الخالص الذي ينطرح فيه المؤمنون بين يدي الله ؟ أليس رسولنا صلى الله عليه وسلم قد ضرب به المثل في سيرته في كل شدة ومحنة كانت يديه الكريمتين تُرفع تضرعاً إلى الله ، وعينه تُذرف تبتلاً وخضوعاً وتضرعاً إلى الله ، وقلبه يخفق ، ولسانه ينطق .
إنها صورة لابد أن تعظم وتكثر في حياتنا الذاتية عموماً ، وعند هذه الفِتن خصوصاً ، والله -سبحانه وتعالى - بيّن لنا أثر هذا الدعاء ، وبيّنه لنا في سيَِر الرسل والأنبياء في آدم وزوجه : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
عندما وقعت الفتنة بالأكل من الشجرة كان المخرج الدعاء والتبتل والتضرع لرب الأرض والسماء ، فكان الفيض ، وكانت التوبة ، وكانت النعمة من الله – سبحانه وتعالى - على آدم .
وفي قصة يونس - عليه السلام - نعرف جميعاً ماذا كان يقول في جوف الحوت ، وماذا كان دعاءه وذكره الذي كان سبباً من أسباب تفريج همه وكربه ونجاته مما ألمّ به .. { لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } .
وفي مثل هذا الدعاء إقرارٌ بالخطأ ، واعترافٌ بالذنب ورجاءٌ وابتهالٌ وتضرعٌ بالسلامة من الآثار الوخيمة .
ولذلك ورد كذلك في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم - في هذه اللفظة {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } قال عليه الصلاة والسلام : ( لم يدعو به رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له ) رواه الترمذي في السنن .
ومن الدعاء الاستغفار وهو من أسباب النجاة ، كما قال الله عز وجل : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
والإكثار من الذكر كما في قصة يونس : {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } .
والله – سبحانه وتعالى - جعل لنا أنواعاً من ذكره ودعاءه ، والتبتل إليه ..من اعتصم بها وأدمن عليها ، وأكثر منها أحيا الإيمان في قلبه ، وعظمت التقوى في نفسه ، وانكشفت البصيرة في عقله ، وأصبح له من نور الله ، ومن اعتصامه به ، ومن الدعاء له ، ومن تضرعه إليه ما يفيء به إلى خيرٍ كثيرٍ بإذن الله .
ومن ذلك الاستعاذة والتعوذ من هذه الفِتن من شرورها وضلالها وزيغها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ) رواه مسلم .
وقال ابن مسعود – رضي الله عنه - في هذا التعوّذ : " لا يقولنّ أحدكم : إني أعوذ بالله من الفِتن ؛ فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مشتملٌ على فتنة ، إنما أولادكم وأموالكم فتنة فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مُضلات الفِتن " .
نسأل الله - عز وجل - أن يعذنا من مُضلات الفتن ، وأن يصرفنا عنها وأن يفيء بنا إلى الحق والثبات والاعتصام بكتابه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
ومن معالم العصمة الصبر والثبات ، ولابد من ذلك ؛ فإنها محن لابد أن تصيب بالأذى ، ولابد أن يشعر بما فيها من البلاء ، ولكن الصابرون - بإذن الله عز وجل - تكون لهم الغلبة والمخرج السالم برئ من أثر وخيم على إيمانهم ويقينهم وعلى سلوكهم وأخلاقهم.(/4)
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ البقرة:5 ] .
هذه آية ناطقة بأثر هذا الصبر في مثل تلك المحن ، وقد قال جل وعلا : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] .
لا يضرنا كيد الكايدين ، ولا ظلم الظالمين ، ولا عدوان المعتدين ، وأهم شيء ألا يضرنا في ديننا ، واعتقادنا ، وإسلامنا ، وثوابتنا ، والتزامنا شرع الله – سبحانه وتعالى - وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله - جل وعلا - يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة:153 ] .
وكان المصطفى – صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( ما أعطي أحداً عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر ) .
وقال في دلالة هذا الصبر عند المحن :
( يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر ).
ومن هذا الصبر - كما ذكر العلماء - الصبر في كف اللسان ، والمنع من الخوض في الفتن من غير بصيرة وعلم وبيان ، ونحن نعلم أن كثيراً من القول في مثل هذه الأحوال باندفاع وعواطف ومجاراة لمن يقول ويخوض مع الخائضين إنما تعظم به الرزية ، ويكثر به الاختلاف ، وتعظم به الحيرة والاضطراب ، وكثير من ذلك ليس له أساس يثبت ، وإنما هو محض هذه الاضطرابات والاختلافات ، وكذلك التنابز بالألقاب ، والاختلاف بين الناس يعظم أثره بما يكون من قول اللسان في هذه الفتن ، حتى عظّم الرسول – صلى الله عليه وسلم - ذلك على وجه الخصوص في الفتنة ، كما روى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تكون فتنة تستنظف العرب - أي تستوعبهم هلاكاً - قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف ) ، رواه أبو داؤد ، وابن ماجه في سننهما ، وأحمد في مسنده بسند صحيح.
وذلك أمر مهم ، ولعلنا نختم هذه المعالم بحقائق الإيمان وأباطيل الكفر معرفتها في ضوء هذه الثوابت ؛ فإننا نعرف من حقائق الولاء والبراء ، ومن حقائق معرفة الظلم والاعتداء ، ومن حقائق وجوب نصرة أهل الإيمان والإسلام ، ومن حقائق الولاء لهم ، والبراء من أعدائهم ما ينبغي أن لا يتغير ؛ لأن آيات القرآن لا تتغير ، ولأن الحقائق الإيمانية الثابتة المقطوع بها لا تتبدد ، والله - عز وجل - قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة: من الآية1 ] .
وبين – سبحانه وتعالى - حقيقتهم فقال : { إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [ الممتحنة:2 ] .
وقال – سبحانه وتعالى - لأهل الإيمان : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ }[ الممتحنة: من الآية4 ] .
وهذا أمر واضح هو الإيمان والكفر ، من آمن بالله رباً ، وبرسوله – صلى الله عليه وسلم - نبياً ، وبالإسلام ديناً فهو الذي نواليه ومن برئ من ذلك بل وحاربه وعداءه فنحن أعداءه إلى يوم الدين بدل من بدل وغير من غير سيما إذا اجتمعت حقائق أخرى من الظلم والبغي والعدوان.
إن الله عز وجل قد قال : {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
وأولئك قوم قد عرفنا أنهم أصحاب كل قتال لأهل الإسلام في كل ميدان ، قد شهدت بذلك أدغال إفريقيا ، كما شهدت به مواطن الضياء التي يزعمونها في أوربا ، كما شهدت به مواقع شرق وغرب كثيرة .(/5)
ولا ننسى أنه لابد لنا من معلم مهم ، وهو النظر الشامل الكامل في الأحداث ؛ فإنها ليست قضية واحدة ، وإنها ليست مسألة عارضة ، وإنها ليست مصلحة عابرة ، وإنما هي قضية شاملة ، ومواجهة كاملة .
نحن لن ننسى ، ولا يمكن أن ننسى ، ولا ينبغي أن ننسى قضيتنا الأولى في حرب أهل الإسلام والإيمان مع اليهود ، وأحلافهم من الصليبين والنصارى ، وقضية فلسطين ليست مما يجري ببعيد هي أساسها ، وجوهرها ، وهي هدفها ، وغايتها ، وهي طريقها ومعبرها .
ينبغي أن ندرك حقائق كلية شاملة ، لا أن نسير مع السائرين ، وأن نركز إن تحدثوا غرباً نظرنا غرباً ، ولم يكن لنا إلا الغرب ، وإن جاءوا شرقاً ذهبنا معهم ، واهتممنا بما يقولون وما يفعلون ، وننسى أن وراء ذلك الحقائق الثابتة ، والتاريخ التي تشهد به ليست الأيام ولا الأعوام ، بل العقول والدهور والقرون .ولذلك ينبغي أن نعرف ذلك ، وأن نحرص عليه .
وأخيراً لابد من الحرص فيما بيننا على أن نكون على قلب رجل واحد ، وأن نسدَّ أبواب الفتن والاختلاف ، التي تعظم الفرقة وتزيد الفتنة ؛ حتى نبرأ بإذن الله - عز وجل - وتنكشف الغمة ، وتنجلي هذه الملمة ، ولابد لها من أن تكون كذلك ، وليس لها من دون الله كاشفة .(/6)
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين
محمد بن صامل السلمي
الخلفاء الراشدون هم الأئمة الأربعة ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم أجمعين- ، وهم الذين خلفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيادة الأمة ، ومدة خلافتهم من انتقاله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى في 12 ربيع الأول سنة 11هـ إلى مقتل علي بن أي طالب في 17 رمضان سنة 40 هـ(1): تسع وعشرون سنة وستة أشهر وخمسة أيام.
وإذا أضيفت لها خلافة الحسن بن علي (من مقتل أبيه عن تنازله لمعاوية بن أبي سفيان 25 ربيع الأول سنة41هـ) (2) تكون ثلاثين سنة بالتمام ، وقد اختصوا بوصف الراشدين لصفات تميزوا بها في سلوكهم الذاتي وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم لدينها وعقيدتها وحفاظهم على النهج الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدعوة، والجهاد ، وإقامة العدل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
والرشد ضد الغي والهوى وهو الاستقامة الكاملة على المنهاج النبوي ، وقد جاء وصفهم بهذه الصفة في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: "... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور" (3).
كما جاء وصف خلافتهم في بعض الأحاديث النبوية: أخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن حذيفة- رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-:"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها..." الحديث(4).
وفي حديث سفينة -رضي الله عنه- تحديد لزمن الخلافة الراشدة ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء"(5)، قال سفينة: أَمست خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-سنتين، وخلافة عمر -رضي الله عنه-عشر سنين ، وخلافة عثمان -رضي الله عنه-اثني عشر سنة ، وخلافة علي -رضي الله عنه-ست سنين(6).
وقد تميز عصرهم من بين سائر عصور الدول الإسلامية بجملة من المميزات التي تميزه عن غيره، وصار العصر الراشدي مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً ، تسعى الأمة الإسلامية وكل مصلح إلى محاولة الوصول إلى ذلك المستوى السامق الرفيع ، ويجعله كل داعية نصب عينيه فيحاول في دعوته رفع الأمة إلى مستوى ذلك العصر أو قريباً منه ، ويجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة للأجيال الإسلامية ، ومن ثم صار كل مصلح وكل حاكم عادل وكل إمام مجتهد يقاس بهذا العصر ويوزن بميزانه ، حتى لقب كثير من العلماء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الراشدين)(7)، ونسبوه إليهم، وذلك لأنه سار بسيرتهم ، وسلك طريقهم ، وأعاد في خلافته رغم قصرها (99-101هـ) معالم نهجهم ، وأحيا طريقتهم في الحكم والإدارة وسياسة الرعية.
وفي هذه المقالة نتعرف على بعض معالم عصر الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-؛ لتكون مثالاً يحتذى وصدىً يهتدى بها في طريق الدعوة إلى الله.
1- توحيد مصدر التلقي:
ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة المطهرة، وهذه قضية مهمة جداً، فما وقع التفرق والاختلاف إلا عندما قصَّرَ المسلمون في فهم الكتاب والسنة وزاحموهما بمصادر ومقررات خارجية من فلسفات الأمم وأهواء النفوس ، والبشرية لا يمكن لها أن تتقارب وتتوحد إلا إذا وحدت مصادر فهمها وتلقيها ، فإن الناظر في الفلسفات البشرية والمذاهب الفكرية والسياسات العملية يجد بينها بوناً شاسعاً واختلافاً كبيراً يصل إلى التضاد والتناقض ، ولذلك فإنه لا سبيل لوحدتها وإزالة ما بينها من اختلاف وتناقض ، ويبرأ من النقص والهوى ويخضع له الجميع سوى وحي الله المنزل في كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، لأنه من تشريع الله الخالق لكل شيء ، الحكيم الخبير الذي أحاط علمه بكل شيء ، قال تعالى: ((ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً)) [مريم:64]، وقال تعالى: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ)) [البقرة:255 ] ، وقال: ((وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) [النساء:26 ] ، وقال تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ ولَداً ولَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)) [الفرقان:2 ] ، وقال تعالى: ((ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:52 ] ، وقال تعالى: ((واللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الحجرات:16].(/1)
فما كان الخلفاء الراشدون يتلقون أو يأخذون نظمهم ولا سياستهم ولا مناهج علمهم وكافة أمورهم إلا من الكتاب المنزل من الله والسنة الموحى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولم يكن الاقتصار منهم على الوحي الرباني عن فقر في العلوم والثقافة في عصرهم ولكنه عن علم وقصد واتباع لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الجاثية:18].
فكل ما خالف الوحي فهو هوى وجهل وعمى ، وقال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [الروم:30 ].
ولقد غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة وقال:"لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"(7) ، وأقوال الخلفاء الراشدين بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومواقفهم توضح ذلك وتبينه.
قال الخليفة الأول صديق هذه الأمة بعد أن بويع بالخلافة في خطبة عامة: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني"(8).
وقال عمر الخطاب -رضي الله عنه-:" قد كنت أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدبر أمرنا-أي: يكون آخرنا - ، وإن الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسوله ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله ، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم (9) (يعني: أبا بكر).
وقال أيضاً:" إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ،فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(10). فالاعتصام بالكتاب والسنة والتلقي منهما قضية مسلمة لا تقبل النقاش ، ولقد استمرت الأمة على هذا الفهم قروناً ، ولكنها أصيبت في الأعْصُر المتأخرة بالانحرافات حتى جهلت المسلمات ووجد من أبنائها من يجادل في هذا ، بل وربما وجد فيمن ينتسبون إلى الدعوة ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
2- حماية جانب العقيدة:
لقد جاءت الشريعة بسد باب الذرائع المؤدية إلى الشرك ومحاربة البدع والمحدثات في الدين، ولهذا لم يكن الخلفاء الراشدون وظيفتهم تقف عند حفظ الأمن والحكم بين الناس، بل إنها تتعدى ذلك لتشمل كافة مصالح الأمة الدنيوية والأخروية ، ومن ثم قاموا على نشر العقيدة الصحيحة وسدوا كافة المنافذ المؤدية إلى الابتداع في الدين أو النقص منه أو الانحراف في فهمه، وقاوموا كل مبتدع أو مشكك في الدين ، وطبقوا قوله -صلى الله عليه وسلم-:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(11).
والوقائع التاريخية والمواقف المنقولة عنهم في هذا المعنى ، كثيرة نذكر نماذج منها:
- موقف الصديق -رضي الله عنه-في الردة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقد واجه المرتدين بكل قوة وصلابة وحزم وشجاعة ، ورفض مهادنة مانعي الزكاة رغم قلة الجند الإسلامي ومشورة كثير من الصحابة له بذلك منهم عمر بن الخطاب ، فقال -رضي الله عنه- قولته الشهيرة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه" (12).
وقال لعمر بن الخطاب: "أجبار في الجاهلية ، خوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوَ ينقص وأنا حي؟ (13).. فهو يعلم -رضي الله عنه-أن واجب الخليفة حراسة الدين من الزيادة والنقصان ، لذلك قال مستفهماً هذا الاستفهام: "أو ينقص وأنا حي؟ "أي:إن ذلك غير ممكن ولا أقبل به أبداً مادمت حياً، ولذلك قال أيضاً: "والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف في يدي ، ولو لم يبق في القرى غيري"(14).
- مواقف عمر بن الخطاب كثيرة: فقد كان -رضي الله عنه-شديداً على أهل الأهواء والبدع ، فقد ضرب صبيغ بن عسل التميمي بجريد النخل وعراجينه عندما أخذ يثير بعض الأسئلة المشككة ،حتى قال له: والله لقد ذهب ما أجد يا أمير المؤمنين ، ثم بعث به إلى والي البصرة أبي موسى الأشعري وأمره بمنعه من مخالطة الناس ، فحجز حتى تاب واستقام أمره وأقلع عن بدعته (15)
وقولته -رضي الله عنه- عند تقبيله الحجر الأسود:" إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك "(16)... دليل واضح على المتابعة الدقيقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإبعاد لأي اعتقاد ينشأ عند بعض الناس بأن الحجر ينفع أو يضر بذاته.
وكذلك قطعه للشجرة التي بايع تحتها رسول -صلى الله عليه وسلم- أهل الحديبية بيعة الرضوان ، عندما بلغه أن بعض الناس يقصدها بعبادة كالصلاة عندها أو الدعاء والتبرك بها (17).(/2)
- موقف عثمان -رضي الله عنه- في سد باب الفتنة والاختلاف في القرآن الكريم: حيث سارع -عندما قدم عليه حذيفة بن اليمان من أرمينية وأخبره بما رأى من الاختلاف في قراءة القرآن- إلى الأمر بكتابة مصحف واحد من عدة نسخ ، وبعث إلى كل قطر وناحية نسخة ، وأمر بإحراق بقية النسخ والصحف الموجودة عند الناس ، فجمع الناس على مصحف واحد ، وقطع الله بعمله هذا دابر الفتنة، وحقق الله على يديه صيانة كتابه وحفظه من الزيادة والنقصان (18).
- قتال علي -رضي الله عنه- للخوارج وللشيعة الذين غلوا فيه حتى ألَّهوه -رضي الله عنه- فنصحهم عن ذلك ، ثم لمَّا لم ينتهوا أمر بإحراقهم بالنار ، وقال:" لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناراً ودعوت قنبراً"(19).
الهوامش:
1- تاريخ الطبري 3/217 ، 5/143 ، ويذكر قولاً للمدائني في تاريخ قتل علي مقارب لهذا.
2- تاريخ الطبري 5/163 ويذكر ذلك عن بن شبة عن المدائني قال: سلم الحسن بن علي الكوفة إلى معاوية، ودخلها معاوية لخمس بقين من ربيع الأول، ويقال: من جماد الأول.
3- رواه أبو داود 4/201 ، والترمذي 5/44. وقال: حديث حسن صحيح ، وأحمد في المسند 4/126.
4- المسند 4/273 ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/189:رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات.وقد حسنه الشيخ الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 5.
5- أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب لزوم السنة وهذا لفظه. والترمذي في باب 16
6- انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (باب في أنه من الخلفاء الراشدين المهديين) ،والنووي تهذيب الأسماء واللغات 2/17، والذهبي سير أعلام النبلاء 5/120.
7- رواه أحمد 3 / 387 ، من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله. وقال الحافظ في الفتح 13 / 234:رواه ابن أبي شيبة والبزار ، وسكت عنه. وقد صرح في "مقدمة الفتح" أن ما يسكت عنه هو حسن عنده. ويشهد لمعناه ما رواه البخاري في صحيحه 13 / 333 -الفتح- عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي انزل على رسول الله أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب؟!.
8- تاريخ الطبري 3 / 224.
9- البداية والنهاية 6 / 301 وقال: إسناده صحيح.
10- رواه الحاكم في المستدرك 1/ 62 وقال: صحيح على شرطهما. وسكت عنه الذهبي.وقال الألباني: صحيح.
11 - رواه مسلم 3 / 1344 حديث رقم 1718 ، ط فؤاد عبد الباقي.
12- رواه مسلم في صحيحه 1 / 206 بشرح النووي.
13- قال في الرياض النضرة في مناقب العشرة ، ، 247:خرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين.
14- البداية والنهاية 6 / 304.
15- سنن الدرامي 1/ 54 ، 55 ، ومسند أحمد.
16- رواه الجماعة. انظر المنتقى من صحيح الأخبار ، حديث رقم (2536).
17- طبقات ابن سعد 2 / 100 ، وأخبار مكة للفاكهي 5 / 78.
18- انظر صحيح البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب جمع القرآن.
19- ابن حزم ، الفصل 4 /186.
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين
-2-
محمد بن صامل السلمي
3- سيادة العدل والمساواة بمفهومها الإسلامي الصحيح :
وذلك أن التفاضل بين البشر قوامه الميزان الذي قرره الله في كتابه. قال تعالى :((إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [ الحجرات/13]،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم »لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى«(1).
والأدلة الواقعية والتاريخية على سيادة هذا المبدأ في عصر الخلفاء الراشدين أكثر من أن تحصى ، فهذا الخليفة الأول أبي بكر الصديق يطلب في أول خطبة له من الرعية أن تقوّم ما ترى فيه من خطاً أو اعوجاج(2).
وهذا عمر بن الخطاب يتقاضى وهو خليفة مع أبي بن كعب الأنصاري عند قاض المدينة في عهده زيد بن ثابت ، فيأتي عمر وأبي ابن كعب إلى مجلس القضاء ، ويقول زيد لعمر: لو طلبتني يا أمير المؤمنين لأحضر عندك. فيرد عليه عمر : مقرراً قاعدة مهمة من قواعد التقاضي وهي قاعدة المساواة:في بيته يؤتى الحكم.
ثم يحاول زيد-من باب الإكرام للخليفة-أن يدني مجلس عمر ، فيأبى عمر إلا أن يجلس مع خصمه على قدم المساواة ويقول لزيد : هذا أول الجور منك.
وبعد أن يدلى كل من الخصمين بحجته ، يحكم زيد باليمين على عمر ثم يطلب من أبى بن كعب أن يعفى أمير المؤمنين من اليمين لكن عمر أصر على تنفيذ ذلك ، فيحلف كما حكم القاضي ، وبعد أن استحق الأرض المتنازع عليها قضاء وهبها عمر لأبي بن كعب(3).
ومرة جاء رجل من المسلمين فقال لعمر : اتق الله ، فقال أحد الحاضرين : أتقول ذلك لأمير المؤمنين ، فرد عليه عمر بقوله : دعه يقلها فلا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم(4).(/3)
ومن مظاهر المساواة والعدل توزيع الفيء وأخماس الغنائم على كافة المسلمين فإن عمر رضي الله عنه لما دون ديوان العطاء جعل لكل مسلم حق في ذلك العطاء حتى المواليد ، فبمجرد ولادة طفل لأحد المسلمين يسجل أسمه في الديوان ويفرض له عطاؤه وكان عمر يقول : لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه دون أن يسعى لطلبه (5). ويقول أيضاً : والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد ، ووالله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب ، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله (6).
وقد واسى رضي الله عنه الناس بنفسه في عام الرمادة فامتنع عن أكل اللحم والسمن حتى توفر ذلك لعامة الناس ومضت أزمة المجاعة وجاءهم الفرج من الله.
يقول أنس رضي الله عنه : غلا الطعام بالمدينة فجعل عمر. رضى الله عنه يأكل الشعير وجعل بطنه يصوّت فضرب بيده على بطنه وقال : والله مما هو إلا ما ترى حتى يوسع الله على المسلمين(7).
وعن طاووس قال: جدب على عهد عمر فما أكل سمناً ولاسمينا حتى أخصب الناس (8).
4 - سيادة مبدأ الشورى قاعدة للتعامل بين الحاكم والمحكوم :
مبدأ الشورى من المبادئ الإسلامية الهامة التي توفر الأمن والطمأنينة للأفراد والاستقرار السياسي للدولة ، ويؤدي إلى إشاعة ء المحبة وبث روح التعاون والتناصح بين الحاكم والرعية ، وهو ضروري حتى لا ينفرد الحاكم بالأمر والرأي الذي قد لا يكون صواباً فإن رأي الجماعة خير من رأي الواحد لأنه يأتي بعد نظر ودراسة وتفكر في الأمر وعواقبه. ومن ثم تضمن الأمة أكبر قدر من إصابة الحق، قال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب (9).
وقد قال تعالى مثنياً على المؤمنين ومعدداً بعض صفاتهم : ((والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [الشورى/38].
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: كان الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه فمدحهم الله به. ونقل عن الحسن البصري أنه قال : انهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا باتفاق كلمتهم(10).
وقال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)) [آل عمران:159].
أخرج ابن أبى حاتم بسند حسن -كما قال الحافظ في الفتح (11) عن الحسن قال : قد علم أنه ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده.
فالشورى مشاركة في المسئولية وضمانة من الانحراف ولهذا بوب البخاري رحمه الله في صحيحه بهاتين الآيتين باباً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (12).
وهذا فقه عميق ونظر دقيق من البخاري رحمه الله لأهمية الشورى وكون العمل بها اعتصام بالكتاب والسنة وبعد عن الانحراف والبدعة، مما أحوج دعاة الإسلام اليوم إلى تدبره وتفهمه لتسلم دعوتهم من القرارات العشوائية ، والاتجاهات الفردية. وقد وردت الآثار عن الأئمة في مدح الشورى وبيان فضائلها. قال الحسن البصري : ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم ، وفي لفظ : إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع (13).
وقال بعض العقلاء : ما أخطأت قط !! إذا حزبني أمر شاورت قومي فعملت الذي يرون فإن أصبت فهم المصيبون وان أخطأت فهم المخطئون (14).
وقال البخاري: كان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم "يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره" (15).
وقال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة ، ومسار للعقول ، وسبب إلى الصواب ، وما تشاور قوم إلا هدوا (16).
ولقد كانت سيرة رسول صلى الله عليه وسلم وخلافة الخلفاء الراشدين من بعده تطبيق واقعي لمبدأ الشورى ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من الله يسدده يصفه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله. ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).
وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمور العامة كما في القتال يوم بدر، وفي أسرى بدر وفى أحد والخندق والحديبية بل حتى في الأمور الخاصة ، كما في قصة حادثة الإفك.(/4)
أما الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم جميعاً فقد وقعت منهم في خلافتهم أمور كثيرة توضح التزامهم بهذا المنهج الشوري منها : تشاورهم في اختيار الخليفة ، ومنها استشارة أبى بكر رض الله عنه في قتال أهل الردة ، وقد أخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر رض الله عنه إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قض بينهم وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به ، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلمائهم واستشارهم. وإن عمر كان يفعل ذلك(18). وقد كان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً(19).
وقد شاور عمر الصحابة في الصحابة في إملاص المرأة(20) ، وأيضاً في قتال الفرس(21) ، وفى دخول الشام لما وقع الطاعون بها(22).
وقد ترك عمر الخلافة من بعده شورى.
وشاور عثمان رضى الله عنه الصحابة أول خلافته فيما يفعل بعبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان ظناً منه أن له في قتل أبيه مدخلاً (23).. وشاور الصحابة في جمع الناس على مصحف واحد ، قال علي بن أي طالب : "ما فعل عثمان الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا "(24)...
فهذه الوقائع من تاريخ الخلفاء الراشدين توضح بما لا مزيد عليه التزامهم بمنهج الشورى في كافة الأعمال المحتاجة إلى ذلك مثل بعث الجيوش واختيار القادة وحكام الأقاليم والولايات والاجتهاد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها بخصوصها.
وقد كانت الشورى طريقاً ومنهجاً في اختيار الخلفاء الأربعة للإمامة العظمى، وإن اختلفت صور المشاورة ، وقد قال عمر رض الله عنه: من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي يبايعه(25). مما يدل على التزام الشورى في البيعة والخلافة.
5- قيام الجهاد والعلاقات الدولية في عهدهم على مقتضى الشرعية :
من المعلوم أن الدولة الإسلامية دولة متميزة في منهجها وتصورها وسياستها لأنها تأخذ أحكامها ونظمها من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولذا فإن علاقتها مع غير المسلمين محكومة بتلك النصوص والأحكام.
ولقد أقام الخلفاء الراشدون علاقاتهم مع غير المسلمين على موجب تلك الأحكام. فالأرض إما.
1- دار إسلام : وتطبق فيها أحكام الشريعة على كافة المقيمين فيها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، لأن غير المسلم لابد أن يدفع الجزية للأحكام الإسلامية التي شرعها الله في حق أهل الذمة ، وللشروط التي وضعها الخلفاء ، وهى مفصلة في كتب الفقه ومنها أن يلتزموا بآداب المسلمين الظاهرة ولا يرفعوا صليبا ولا يشربوا خمرا ولا يؤذوا مسلما ولا يبنوا كنيسة ولا يدعوا أحدا إلى دينهم ولا يرفعوا دورهم فوق دور المسلمين ، ولا يحتفلوا بأعيادهم ظاهراً ولا ينشروا شيئاً من كتبهم بين المسلمين (26).
ب - أو دار كفر ، وتنقسم هذه الدار إلى قسمين : دار صلح وعهد ، ودار حرب.
فأهل الصلح والعهد يوفى لهم بعهدهم إذا حصل منهم الوفاء ، والعهد والصلح لا يكون مستمراً إلى الأبد بل لابد من توقيته بأجل ، ومن العلماء من جعل أطول مدة للعهد والصلح عشر سنين أخذاً من أطول مدة صالح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في صلح الحديبية (27).
أما أهل الحرب فلا علاقة بينهم وبين المسلمين إلا السيف والقتال والأخذ بكل طريق ومرصد –إذا أقيمت عليهم الحجة وكان بالمسلمين قوة واستطاعة- لإرغامهم على الخضوع لله ولدينه وليكون الدين كله لله ، قال تعالى :((فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [التوبة /5].
وقد طبق الخلفاء الراشدون هذه الأحكام بأعلى وأتم ما يكون التطبيق وكسرت في عهدهم أكبر دولتين في العالم في ذلك الزمن الدولة الفارسية والدولة الرومانية وأورث الله المسلمين أرضهم وأموالهم وأنفقت كنوزهما في سبيل الله وخضعت أراضيهم لحكم المسلمين وأصبحت دار إسلام ، ومن لم يسلم من أهل تلك المناطق طبقت عليه أحكام أهل الذمة وأخذت منه الجزية مقرونة بالذل والصغار كما أمر الله تعالى :((قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة:29].
كما ضربوا العشور على تجار غير المسلمين إذا مروا بأرض الإسلام أما المسلمون فلا يؤخذ منهم عشور ولا ضرائب وإنما تؤخذ منهم الزكاة المفروضة، ووضع الخلفاء الراشدون الخراج على الأرض حسب التفصيلات المقررة في مواطنها.(/5)
أما جزيرة العرب فقد أخرجوا منها اليهود والنصارى ولم يبق فيها إلا مسلماً تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته في آخر حياته حيث قال :»لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً«(28) ، وقوله: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (29).
6- الحماس في نشر الإسلام:
وظيفة الدولة الإسلامية هي نشر الدين حتى يعبد الله وحده، ولهذا عرف ابن خلدون الخلافة بقوله: هي نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا(30).
والدولة تنفذ هذه الوظيفة بالجهاد وفتح البلدان وبالدعوة والتعليم لأوامر الدين ونواهيه وكافة أحكامه الشرعية. فحركة الجهاد والفتح العسكري لا بد أن يصحبها ويتبعها الدعاة والمعلمون ليفقهوا الناس في دينهم وهذا التلازم بين الفتح العسكري والتعليم أمر ضروري لابد منه لاستقرار الدعوة والدولة ولابد من ملاحظة التوازن المطلوب في هذا الجانب، فبقدر التوسع في الأرض يكون التوسع في الدعوة والتعليم حتى لا يختل ميزان التربية وتحدث الخلخلة في الصف الإسلامي وتتوسع الفجوة بين الفاتحين وسكان الأراضي المفتوحة مما يتسبب في حدوث ظواهر سلبية تؤثر في تماسك الصف الإسلامي ووحدته السياسية والفكرية.
وقد بذل الخلفاء الراشدون ما استطاعوا في سبيل حدوث هذا التوازن بين حركة التوسع الأفقي في فتح البلدان وبين التوسع الرأسي في تعليم الناس وتفقيههم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن رغم وجود البذل والحماس في ميدان التقليم والتربية على تعاليم هذا الدين إلا أن الملاحظ أن التوسع في الأرض كان سريعا وواسعا فقد فتحت العراق وما وراءها والشام ومصر في سنوات قليلة معدودة فلم يكن في مقدرة الطاقة البشرية في ميدان التربية والتعليم استيعاب الأعداد الهائلة من سكان تلك المناطق وتعليمها كما لم يكن الزمن كافيا لرسوخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم مما ساعد ـ مع غيره من العوامل ـ فيما بعد على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج الإسلامي مما سبب ظهور الفرق والأهواء المتشعبة.
وبعد فهذه جملة من أهم المعالم البارزة في تاريخ الخلافة الراشدة أردنا بالتنبيه إليها توجيه أنظار دعاة الإسلام إلى الاستفادة من هذا التاريخ المشرق والسير على منوالهم فإنهم القوم بهم يقتدى وبهديهم وسنتهم يسلك ويتبع، والله الموفق والهادي.
الهوامش :
1- المسند للإمام أحمد بن حنبل 5/411.
2- ابن هشام ، السيرة النبوية 2/661، والطبري 3/210.
3- أخرج القصة ابن شبه في أخبار المدينة 2/755-756 بإسناد صحيح من طريقتين عن الشعبي.
4- ابن الجوزي : مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،ص155.
5- ابن سعد : الطبقات الكبرى 3/299 ، ومسند أحمد حديث رقم 262 ، ط شاكر.
6- ابن سعد : الطبقات الكبرى 3/299.
7- ابن سعد : الطبقات الكبرى 3/1313، وابن شبه ، أخبار المدينة 2/742 ، ومنتخب كنز العمال 5/397.
8- وابن شبه ، أخبار المدينة 2/742.
9- المحرر الوجيز 2/280.
10- تفسير القرطبي 16/36.
11- فتح الباري 13/340.
12- انظر صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب(28).
13- فتح الباري 13/340، وقال ابن حجر: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم بسند قوي.
14- تفسير القرطبي 16/37.
15- الصحيح ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب(28).
16- أحكام القرآن 4/1868.
17- أشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد من سنته بقول : ويروى عن أبي هريرة ، وقال الحافظ في الفتح 13/340 ، رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
19- ذكره الحافظ في الفتح 13/342.
20- صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب(28).
21- صحيح البخاري ، كتاب الديات ، باب (25).
22- فتح الباري 13/342.
23- المصدر السابق.
24- ذكره الحافظ في فتح الباري 13/342، وقال رواه ابن سعد وغيره بسند حسن.
25- ذكره الحافظ في فتح الباري 13/342، وقال أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ، وسنده حسن.
26- رواه البخاري ، كتاب الحدود ، باب (31).
27- انظر ذلك مفصلاً في كتاب أحكام أهل الذمة للحافظ بن القيم.
28- حكى الطبري في كتاب اختلاف الفقهاء (ص 14) الإجماع على أن الصلح بين المسلمين والكفار لا يكون إلى الأبد.
29- رواه مسلم 3/1388 ، حديث رقم (1767).
30- طرف من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الجهاد والسير ، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة.
31- المقدمة /191.
Cd مجلة البيان(/6)
معالم من تلك الحادثة
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
أخبرني صاحبي ـ وهو من الراصدين مواقع الصوفية على شبكة «الإنترنت» ـ أنه تصفح قرابة ستين موقعاً للصوفية أثناء نازلة تطاول «الدانمارك» على سيّد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يرَ للقوم حديثاً، ولم يسمع لهم همساً في تلك الحادثة التي غدت مَشْغَلة السمع والبصر في جميع الأصقاع؛ ثم تدارك صاحبي قائلاً: اللهمّ إلا أن واحداً من تلك الستين قد نقل مقالة من أحدالمواقع السنية!
وختم هذا الصاحب كلامه قائلاً: هؤلاء الصوفية يعرفون الرسول عند الطمع، ويتخلون عنه عند الفزع.
ولئن كشفت هذه الحقيقة زيف محبة القوم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتهافت دعاويهم العريضة، فهي تبيّن حالة «السُّكْر» الذي أغرقهم، و «الفناء» الذي استحوذ عليهم، فكأن الأمر لا يعنيهم، وكما لو كانوا خارج العالم! ولو كان «السُّكْر» و «الاصطلام» أمراً ملازماً لهم لهان الخَطْب؛ فالمجنون معفو عنه، إلا أن هذا السكر سرعان ما يزول عند صوفية الأرزاق، إذا كان في الصحو تحقيق لحظوظهم الشخصية ومطامعهم الدنيوية.
هذه الواقعة الموجعة مع تداعياتها المختلفة، والتي حرَّكت القلوب، فأظهرت محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعمدت إلى الذبّ عنه، وعبّرت عن ذلك من خلال مقاطعات اقتصادية، ومظاهرات واحتجاجات، وتأليف كتب ورسائل في دعوة الكفار إلى الإسلام، والتعريف بسيّد الأنام -صلى الله عليه وسلم-.. هذه الواقعة تقرر أن الخير فيما اختاره الله تعالى، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخلق شراً محضاً، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
«فمن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة إنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.. وذلك أن الحق ـ إذا جُحد وعُورض بالشبهات ـ أقام الله ـ تعالى ـ له ما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات والبينات»(1).
هذه النازلة يمكن تسخيرها وتوظيفها في سبيل ترسيخ جملة من الأصول الشرعية، كوجوب محبة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ووجوب تعزيره وتوقيره، وأهمية الاتباع لسنته، والتحذير من الإحداث والابتداع في دين الله تعالى.
ورحم الله الشيخ محمد رشيد رضا إذ يقول: «من تتبع التاريخ يعلم أن أشدَّ المؤمنين حبّاً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه، ولا سيما أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل وترى ذلك في شِعْر الفريقين»(2).
ومن الأصول التي ينبغي تقريرها في هذا الشأن: تلازم الظاهر والباطن؛ فالمحبة القلبية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بد أن تظهر على الجوارح، من خلال الاتِّباع له والذبّ عنه وتعظيمه وإجلاله، وما المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدانمارك إلا سبب من الأسباب العملية المشروعة في تحقيق تعزيره -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره، وردع أولئك السفهاء المتطاولين على خير البرية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كما أن هذه الواقعة لتكشف عن عداوة الكافرين لأهل الإسلام، وتواطئهم على ذلك، وهذا يؤكد أهمية أوثق عرى الإيمان: الحبّ في الله والبغض في الله، ووجوب البراءة منهم، وأن عداوتهم لأجل كفرهم لا تنافي العدل والقسط معهم، بل ينبغي دعوتهم إلى الإسلام بالطريقة الصحيحة الملائمة، والحذر من تمييع الإسلام أثناء تلك الدعوة والتعريف.
هذه الأمة كالغيث لا يُدرى أأوله خير أم آخره؟ فقد أظهر أهل الإسلام احتساباً ونصرةً لمقام سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المشاعر الصادقة والمواقف النبيلة توجب أهمية إحياء شَعِيرة الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك على أوسع نطاق، وفي أكثر من مجال؛ فهناك الاحتساب بالخطبة والمحاضرة، والاحتساب بالمقاطعة، والاحتساب بالمظاهرة والاحتجاج، والاحتساب بالرسالة والكتاب، وكما أن العلماء والدعاة احتسبوا في هذه النازلة؛ فقد احتسب الساسة والتجار، والمثقفون والمفكرون، والعامة والصغار؛ فهذه الواقعة حققت تجييشاً لأهل الإسلام، وحشداً لأنواع متعددة من المناشط والجهود في سبيل الذبّ عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يوجب على أهل الشأن إعداد برامج وخطط احتسابية تجاه هذه الواقعة ونظائرها.
غارت أمة الإسلام لرسول الأنام -صلى الله عليه وسلم-، وظهرتْ هذه الغَيْرة في صور صادقة ومشاهد مؤثِّرة، والمتعيَّن تحريك هذه الغيرة وتقويتها من جهة، وضبطها وفق ما توجبه الشريعة وتقتضيه المصلحة من جهة أخرى.(/1)
فابن تيمية احتسب على نصراني شتم نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، وذلك سنة 693هـ، وألّف كتابه النفيس «الصارم المسلول في الردّ على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-»، ولما تحدّث عن أنواع السبّ في هذا الشأن، قال ـ رحمه الله ـ: «التكلم في تمثيل سبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين..»(1).
فغيرة ابن تيمية تجعله يتعاظم مجرد تصوير مسألة السبّ وحكايتها، لولا أن الحكم الشرعي يقتضي ذلك، وهذه الغيرة الصادقة اقترن بها المسلك الشرعي الملائم؛ فقد كلّم شيخ الإسلام الأميرَ آنذاك، وسعى في الاحتساب على ذاك النصراني المخذول، وألّف كتابه «الصارم المسلول» بعد هذه الواقعة.
وها هو السبكي ـ رحمه الله ـ يقول ـ في مطلع كتابه «السيف المسلول على من سبَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم-» عن سبب تصنيفه ـ: «كان الداعي إليه أن فُتيا رُفعت إليّ في نصراني سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يُسْلم، فكتبتُ عليها: يُقتل النصراني المذكور كما قَتَل النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبَ بن الأشرف، ويُطهّر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب.
لا يَسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
إلى أن قال: وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم أن قلبي كارهٌ منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجِّيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفوّ غفور»(2).
فالسبكي بلغتْ غيرته ما بلغت، وصاحبَ ذلك موقفٌ عملي من خلال تحرير هذه الفتيا وكتاب «السيف المسلول».
وهذا ابن عابدين ـ رحمه الله ـ يقول عن شقيٍّ استطال على سيد المرسلين: «وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام..»(3).
والمقصود أن نجمع بين إحياء هذه الغَيْرة الإيمانية وتحريكها، وبين ضبطها وفق الأصول الشرعية والمصالح المرعية.
لعل هذه الحادثة تكون سبباً إلى فقه التعامل مع أهل القبلة، والتعاون مع أهل الإسلام في الأصول المتفق عليها، دون الإخلال بثوابت أهل السنة ومعالمهم؛ فالذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محل اتفاق بين أهل الإسلام، ومدافعة التغريب والهيمنة الأمريكية كذلك.. وما أكثر القضايا التي هي محل إجماع بين أهل الإسلام. فمن المهم أن نبعث هذ التعاون والتنسيق بين أهل الإسلام، مع المحافظة على شعائر أهل السنة وأصولهم، لما في ذلك من المقاصد الشرعية، ونفوذ أهل الإسلام وتقويتهم.
فلقد تعاون أهل الإسلام من قبل ـ في القرن الرابع الهجري ـ في مواجهة المدّ العُبَيْدي الباطني، فكتب المعتزلة والزيدية والأشاعرة ـ وكذا أهل السنة ـ في فضح الباطنيين وهتك أستارهم.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعزّ فيه أهل الإيمان، ويُذلّ فيه أهل الكفر والطغيان.
معالم من تلك الحادثة
_________________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض ـ السعودية.
(1) الجواب الصحيح، لابن تيمية: 1/ 13، 14.
(2) تعليق محمد رشيد رضا على كتاب صيانة الإنسان للسهسواني، ص 244.
(1) السيف المسلول: ص 113 ـ 114.
(2) الصارم المسلول: 3/1005.
(3) رسائل ابن عابدين: 1/293.(/2)
معاناة معتقلي غوانتانامو وواجبنا نحوهم
د. مفلح بن ربيعان القحطاني
تتابع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وبقلق شديد منذ نشأتها وضع المعتقلين السعوديين في غوانتانامو والبحث في كل السبل الكفيلة بإنهاء معاناة هؤلاء المعتقلين وأسرهم على حد سواء، ووضع نهاية لهذه المأساة الإنسانية؛ حيث ورد للجمعية شكاوى وتظلمات من العديد من أسر المعتقلين يطالبون فيها بمساعدتهم في وضع حد لمعاناة أبنائهم المعتقلين التي استمرت لما يزيد عن 4 سنوات دون النظر في وضعهم ومحاسبتهم إذا كانوا بالفعل مذنبين على حد ادعاء السلطات الأمريكية؛ فمثل هذه القضية تعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ومن هذا المنطلق وبحكم اختصاصاتها قامت الجمعية بالعديد من الوسائل للبحث عن حلول لهذه القضية الإنسانية؛ حيث رصدت الجمعية ما تناقلته وسائل الإعلام عما يتعرض له المعتقلون من انتهاكات لحقوقهم وآدميتهم من قِبَل مسؤولي المعتقل، وقامت الجمعية بمخاطبة سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى المملكة تطالب فيها الحكومة الأمريكية بسرعة التدخل للوقوف على أوضاع المعتقلين هناك، وقد طالبت الجمعية بأن يتم التنسيق مع الجهات المختصّة في الحكومة الأمريكية لتمكين بعض أعضاء الجمعية من زيارة معتقل غوانتانامو والالتقاء بالمعتقلين، والتأكد من صحة ما تناقلته وسائل الإعلام عن وقوع انتهاكات وتجاوزات لحقوقهم؛ إلا أن هذا الأمر لم يتم لعدم التجاوب مع طلب الجمعية، بالإضافة إلى قيام الجمعية بوضع إطار عام للعمل من أجل توحيد وتضافر الجهود بهدف سرعة الوصول لحلول عاجلة ومنهية لهذا الوضع المأساوي المخالف لأبسط حقوق الإنسان؛ حيث قامت الجمعية بالتواصل مع العديد من الجهات داخلياً وخارجياً بالإضافة إلى الاجتماع بأهالي المعتقلين وبعض وكلائهم للتباحث حول آخر المستجدات والتطورات فيما يتعلق بقضية المعتقلين، ومناقشة الآليات الواجب اتباعها لمساعدتهم وأسرهم. وقد تم اتخاذ العديد من الإجراءات والخطوات التي من شانها المساعدة في إنهاء وضع هؤلاء المعتقلين بالإضافة إلى ضمان التواصل مع أسرهم والعمل على الاستفادة من تجارب الجمعيات الحقوقية المماثلة والمهتمة بقضايا معتقلي غوانتانامو.
وعندما لاحظت الجمعية أن بعض أسر المعتقلين لا تمكنهم ظروفهم من معرفة تطورات القضية وما هو وضع أبنائهم إما بسبب عدم وجود القائم على شؤونهم أو لأي سبب آخر؛ فقد جرى الاتصال ببعض أسر المعتقلين وطلب الاجتماع بهم، وكان الهدف من الاجتماع هو التباحث مع الأهالي لتكثيف الجهود والعمل من أجل خدمة القضية وعودة جميع المعتقلين السعوديين في غوانتانامو، والبحث في الوسائل التي تمكِّن الأهالي من معرفة أوضاع أبنائهم بشكل مستمر، وكذلك إطلاع الأهالي على جهود الجمعية وأعضائها في هذا الجانب، وقد خرج المجتمعون بالتوصيات الآتية:
< مناشدة القيادة الأمريكية لإطلاق سراح المعتقلين.
< الدعوة إلى إقامة مؤتمر في المملكة يدعى له مجموعة من الحقوقيين والناشطين في حقوق الإنسان للمطالبة بإنهاء وضع هؤلاء المعتقلين.
< مخاطبة الجهات المؤثرة في القيادة الأمريكية للتدخل من أجل وضع حل نهائي لقضية هؤلاء المعتقلين.
< التأكيد على أهمية دور الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان لمساعدة هؤلاء المعتقلين.
< العمل على تمكين ممثلين من الأهالي للوصول للمؤتمرات الدولية التي تناقش أوضاع معتقلي غوانتانامو.
< تكثيف التواصل مع الجمعيات والمنظمات الدولية المعنية في هذا الشأن.
< استمرار السعي لضمان السماح من قِبَل الحكومة الأمريكية لبعض أعضاء الجمعية وذوي المعتقلين لزيارتهم في سجن غوانتانامو.
< تشكيل لجنة لمتابعة أوضاع المعتقلين وتتبع أحوالهم والتأكد من حصولهم على حقوقهم من خلال القنوات الرسمية، وقد تم تشكيل اللجنة وتحديد أسماء أعضائها وعددهم (12) عضواً تجتمع بشكل دوري ومنتظم، وقد تشكلت هذه اللجنة بهدف التعريف بقضية المعتقلين السعوديين في غوانتانامو من خلال وسائل الإعلام الغربية المختلفة، والتواصل مع أهالي المعتقلين من حيث موافاتهم بأخبار المعتقلين عند توفرها، والتواصل مع المعتقلين المفرج عنهم سواء كليّاً أو من لا يزالون تحت التحقيق في المملكة، أو من لا يزالون داخل المعتقل في غوانتانامو؛ بالإضافة إلى سعي الجمعية لإنشاء رابط خاص على الموقع الرسمي للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان يتم تخصيصه لقضية المعتقلين السعوديين في معتقل غوانتانامو يُعنَى بهذه القضية؛ بحيث يتم توفير بيانات عن أسماء المعتقلين السعوديين وصورهم، ومراسلات المعتقلين لأهلهم وذويهم، ومراسلات الأهالي للمعتقلين، بالإضافة إلى أبرز القوانين والمعاهدات الدولية الخاصة بأوضاع المعتقلين والأسرى، وأخبار اللجنة المشكّلة، وأخبار الأسرى وأهاليهم، وأخيراً التصريحات والأخبار الرسمية التي تصدر عن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بالمعتقلين وكل ما من شانه خدمة هذه القضية.(/1)
وفي خضم هذه الأعمال التي تقوم بها الجمعية في سبيل توفير جميع الوسائل اللازمة لتحقيق الهدف المنشود من هذا العمل ألا وهو إطلاق سراح جميع المعتقلين أو محاكمة من ثبت تورطه منهم أمام محاكم مدنية تفاجأت الجمعية والعالم بأسره بما أُعلن من قِبَل السلطات الأمريكية والمسؤولين عن المعتقل أن ثلاثة من المعتقلين أقدموا على الانتحار؛ فكيف يمكن لثلاثة من المعتقلين بحسب الرواية الأمريكية الانتحار؟ أليس هناك حراس مكلفون بالمرور كل دقيقتين على زنزانة كل معتقل بالإضافة إلى كاميرات مراقبة تراقب كل ما يدور في كل زنزانة؛ ناهيك عن غياب الوسائل المساعدة على أي محاولة لإيذاء النفس؟ ومع ذلك تقول وزارة الدفاع الأمريكية إن هؤلاء المعتقلين انتحروا!!! ولذلك فإن الجمعية تشكك في صحة الرواية الأمريكية؛ فما قيل على لسان بعض المسؤولين الأمريكيين من تبريرات غريبة غير مقنع؛ فموت هؤلاء المعتقلين تقع مسؤوليته على الإدارة الأمريكية سواء نُحروا بالوسيلة أم بالنتيجة؛ لأنه ليس من المعقول ولا من المقبول، فضلاً عن عدم المشروعية القانونية احتجاز مجموعة من الناس لمدة تزيد عن أربع سنوات دون إثبات تُهَم ضدهم.
ولا زالت الجمعية تتابع وضع هؤلاء المعتقلين وتطالب بإغلاق هذا المعتقل.
________________________________________
(ü) نائب رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان(/2)
معجزات الأنبياء
عبد العظيم بدوي الخلفي
1097
ملخص المادة العلمية
1- لكل نبي آية تدل على صدقه تناسب زمن ظهوره والقوم الذين ظهر فيهم والقرآن هو آية صدق نبينا . 2- حال الكفار مع القرآن وعنادهم في عدم الاستسلام لله تعالى. 3- طلب الكفار للآيات والمعجزات وإمهال الله تعالى لهم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)).
أفاد هذا الحديث أن النبي لابد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة.
والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من شاهدها من البشر أن يؤمن بذلك مغلوبا عليه، بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل:14].
وقوله : ((وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي)) يعني أن معجزتي التي تحدّيت بها الوحي الذي أنزل علي، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره، وتحدّى بها قومه. وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاء موسى عليه السلام بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره. وكذلك إحياء عيسى عليه السلام الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، لكون الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه.
ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي في الغاية من البلاغة جاءهم بالقران الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا على ذلك، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، وهو باق بإعجازه إلى يوم القيامة، بخلاف معجزات من قبله فإنها قد انقرضت.
ولذا قال : ((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)).
والمعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة. وهي مختصة بالأنبياء وحدهم، فمن ادعاها من غيرهم فهو كاذب. وفرق بينها وبين الكرامة. يقول الفيروزآبادى: المعجزة مختصة بالنبي دائما، ووقت إظهارها مردد بين الجواز والوجوب، وتقرن بالتحدي، وتحصل بالدعاء، ولا تكون ثمرة المعاملات المرضية، ولا يمكن تحصيلها بالكسب والجهد.
وأما الكرامة فموقوفة على الولي، ويكون كتمانها واجبا، وإن أراد إظهارها وإشاعتها زالت وبطلت.
وقد تحدثنا قبل عن الولاية والأولياء، وثبوت كراماتهم، ومن تمام القول أن نقول هنا: أن الكرامة لا تبلغ درجة المعجزة، ولا يراد بها التحدي، وقد تكون للولي كرامات عدة، كما تكون للنبي معجزات عدة كذلك. والنبي يؤمر بإظهار معجزاته لأنها من الوحي، خلافا للولي فإنه إن قصد إظهار الكرامة عوقب بحرمانها، أما إن ظهرت من غير قصد فيكون لله حكمة في ظهورها، وعلى صاحبها أن لا يغتر بظهورها، فربما كان ذلك ابتلاء من الله فيوقع نفسه في مهلكة الحرمان.
وقد حاز النبي قصب السبق من الأنبياء بمعجزاته، كما حازه بتفضيله الذاتي عليهم جميعا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ولم يكن النبي نبيا بالمعجزات بل كانت به المعجزات. فهو رسول الله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، وهذا كاف في بلوغه المنزلة التي لا يطمع في بلوغها بشر، ويقصر عن التطلع إليها العقل والبصر، غير أنه كان فضلا من الله عليه أن آتاه من الآيات البينات والدلائل الظاهرات ما يكفي في إقناع المعاندين المنكرين أنه رسول الله يوحى إليه من ربه.
وقد اجتمعت معجزات الأنبياء جميعا بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، مدوّنة في أفضل معجزاته وأكملها، وأجلّها وأعظمه، وهي القرآن الكريم، وأظلها بظله إعجازه القاهر بنظمه ومعناه ولفظه، فكان معجزة المعجزات، وآية الآيات، يُدرَك ولا يُدرِك، ويَغلب ولا يُغلب، ويَنال ولا يُنال، ليس كمثله شيء، لا يأتيه الباطل، ولا يعتريه التبديل، يأتي يوم القيامة شاهدا ومشهودا.
يقول: الفيروزآبادى: ومذهب أهل السنة أن القرآن معجزة من جميع الوجوه: نظما ومعنى ولفظا، لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين أصلا، مميز عن خطب الخطباء، وشعر الشعراء، باثني عشر معنى، لو لم يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعاني لكان معجزا، فكيف إذا اجتمعت فيه جميعا ؟! ومجملها: إيجاز اللفظ، وتشبيه الشيء بالشيء، واستعارة المعاني البديعة، وتلاؤم الحروف والكلمات، والفواصل والمقاطع والآيات، وتجانس الصيغ والألفاظ، وتعريف القصص والأحوال، وتضمين الحكم والأسرار، والمبالغة في الأمر والنهي، وحسن بيان المقاصد والأغراض، وتمهيد المصالح والأسباب والإخبار عما كان وعما يكون. وكل من ذكر شيئا من وجوه الإعجاز ليس من هذه فمردّه إليها، فهي جماع الإعجاز في القرآن. وحينما كان الكفار يلبّسون بمنطق الحق الذي يواجههم به النبي ولا يجدون في مستودع فصاحتهم ما يقدرون به على الرد عليه يقولون له: ما أنت بأهل لما تدّعيه!.(/1)
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [الزخرف:31].
ويطلبون منه أن يأتيهم بآية بينة على صدق دعواه ليؤمنوا به ويتبعوه وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه [الإسراء:90-93].
فما يكون جوابه إلا أن يقول: سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [الإسراء:93].
ثم يفضح القرآن ما يسّروه من الجحود والإصرار على الكفر فيقول: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [الأنعام:25].
ويأمر الله نبيه أن يعلمهم أن الأمر في هذه الآيات بيد الله وحده، وأنهم لن يؤمنوا بها إن بدت لهم: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله [الرعد:38].
قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأنعام:37].
ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون [الروم:58].
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [يس:46].
إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [يونسك96-97].
قال أبو جعفر الطبري: ولو جاءتهم كل آية وموعظة وعبرة فعاينوها حتى يعاينوا العذاب الأليم لم يؤمنوا كما لم يؤمن فرعون وملؤه إذ حقت عليهم كلمة العذاب حتى عاينوا العذاب الأليم.
وكان طلبهم أن يأتيهم النبي بآية يقترن أحيانا بالإثارة والسخرية والاتهام: بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون [الأنبياء:5].
فيرد عليهم متوعدا: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [الشعراء:4].
وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [القمر:2].
وإذا كانوا لا يريدون إلا إظهار عجز النبي ليكون ذلك سبيلا إلى إبقاء سلطانهم على الضعفاء، والحيلولة بينهم وبين الإيمان، وصرف الناس عن دعوة الحق، فذلك أمر سفاهة ينبغي أن يجل بالنبي عن مجاراتهم فيه، لذا فلم يحفل القرآن بمرادهم، وجعل أمر الإيمان بدعوة الحق متوطاً بنور آياته والوقوف على الأسرار العظيمة فيها، لأن ذلك أدعى لثبات الإيمان واستقراره، والظهور على العجز النفسي الذي أطبق عليهم بكل جحوده وعناده، ويسّر لهم فهمه والعلم به: ولقد يسرنا القرآن للذكر [ القمر:17].
من هنا كانت المعجزات التي قامت أمام عناد الكفار وجحودهم وصدتهم عن النيل من القرآن تدور حول محور القرآن، ومن أعظم الشواهد على ذلك علم علماء بني إسرائيل به: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل [الشعراء:197].
والمعنى: أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها، ووجه الإعجاز فيه الكتب السماوية التي سبقت القرآن جاء ذكره فيها، فصدق به أهلها، فكانت البشارة به قبل بعث النبي الذي سيبشر به بعد نزوله معجزة ظاهرة أيد الله بها نبيه .
وقد أفاض القرآن في ذكر المعجزات والآيات التي كانت للأنبياء السابقين، ففيها المقنع الكافي لمن أراد أن يذكر أو أراد النجاة لنفسه، ولا ريب أنهم كانوا على علم بما أصاب الأقوام السابقة من عذاب واستئصال لكفرهم بأنبيائهم وبالمعجزات التي جاءوا بها من عند ربهم، فكان منّ الله بهم أن حبس عنهم هذه المعجزات لئلا يصيبهم ما أصاب من قبلهم من سوء العذاب.
قال تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون [الإسراء:59].
جاء في سبب نزول هذه الآية: ((قالت قريش للنبي : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال: (وتفعلون؟!) قالوا: نعم، قال: فدعا. فأتى جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة)).
والمعنى: أن الله تعالى لم يرسل الآيات التي طلبها المشركون من قريش، إلا أنه قد كذّب بها الأولون بعد ما سألوها وجرت سنة الله تعالى فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها.
ولما قالوا: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون [الأنبياء:5].
رد عليهم بقوله: ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون [الأنبياء:6].
أي: ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها، بل كذبوا فأهلكناهم بذلك، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا.
هذا إلى جانب أن القرآن العظيم وهو معجزة النبي الباقية على الدهر، بل معجزة المعجزات جميعا كان سجلا لمعجزات الأنبياء السابقين، فبتلاوته تحجز نفوس الناس عن أسباب الهلاك والمعاصي.(/2)
من أجل ذلك اكتفى القرآن بذكر معجزتين للنبي ، واحدة كانت بطلب النبي من الله: وهي معجزة انشقاق القمر، والثانية كانت من غير طلب منه فكانت تكريما عظيما له ومواساة لقلبه، وكلاهما وقع في السماء، ليظهر الله نبيه عليهم بأن كلمته ستكون فوق كلمتهم، وكأن ذلك كان من الله إعلانا لنبيه بذلك، وبخاصة وأنهما كانتا في مكة وهو في حال من الضعف هو وأصحابه، وأن القدرة التي تحدث المعجزات في السماء هيّن عليها أن تحدث المعجزات في الأرض، وأن الأشواق النبوية علوية لا تجد لها مستقرا تأوي إليه، ولا مستراحا تطمئن فيه إلا في ملكوت السماء، فإليها يتوجه، وفيها يقلّب طرفه، ومن أطرافها يستلهم الحكمة، ومنها يتنزل عليه الوحي.
ولكي يقيم الله الحجة عليهم، ويظهرهم على ما بأنفسهم من عناد وجحود، وليعلمهم أن المعجزات شيء من خلقه فلا يعجز عن شيء منها، وأنها لا تكون إلا بإذن منه وحده سبحانه أجرى لهم آيتين على يدي نبيه .
والآية الأولى التي تذكرها لنا سورة القمر في مطلعها اقتربت الساعة وانشق القمر معجزة ضخمة عظيمة كهذه يذكرها القرآن في كلمتين اثنتين فقط، لأن القمر انفلق فلقتين، فليكن التعبير عنها فقط بكلمتين أيضا، وليدع للعقل البشري في كل زمان، وفي كل مكان أن يتصور هول هذه المعجزة التي بشقيها ربما يعقبها دمار العالم، ولكنها لأنها معجزة يلتئم شقها فيهدأ روح العالم، ويؤمن بأن معارفه التجريبية كلها لا يمكن أن تبلغ به حد التصديق أن شيئا من ذلك يكون، فما يكون من سبيل إلا التصديق بها إلا التسليم القلبي المحض، ورد ذلك إلى عالم الغيب والشهادة.
جاء في سبب هذه المعجزة:
أن أهل مكة سألوا النبي آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فنزلت: اقتربت الساعة وانشق القمر . إلى قوله: ويقولوا سحر مستمر .
أما المعجزة الثانية فهي معجزة الإسراء والمعراج، وإذا كان العقل يُبعد بل يُحيل انشقاق القمر، فهو لمعجزة الإسراء والمعراج أشد إبعادا وإحالة، ذلكم أن انشقاق القمر شيء مرئي إذا وقع لا ينكر فيعود العقل إلى تصديق ما أحال أو أبعد حدوثه ثم إن القمر جرم لم يكن عند العرب معروفا بما كشفه العلم وأظهر الناس على ما فيه، فأن ينشطر شطرين وينفلق فلقتين أمر يمكن تأويله علميا مع صغر دائرة علوم العرب إذ ذاك، التي قد تضيق عن الاستمرار في التأويل، فترده أخيرا إلى حركة الأنواء التي كانت عقيدة راسخة فيهم، مكنت لكثير من الخرافات في عقولهم.
أما أن يرتحل إنسان من مكة إلى بيت المقدس ليلا في مثل لمح البصر، ثم يصعد به إلى السماء ولا يرى، ويعود ولا يحس به أحد، فهذا لا يدنو أبدا من دائرة العقل، وقد عقلت العرب كل الأساطير والخرافات التي بلغتها ورسخت في صدورها، وأخذ عليها كل أقطارها، وملأت أجربة علمها، ولكنها لم ولن تصدّق الذي حدّث به محمدٌ الناس.
ولكي يقطع الله تعالى على العرب والبشر جميعا طريق الشك في هذه المعجزة الفذة سجلها في كتابه، فقال في شأن الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [الإسراء:1].
وقال في شأن المعراج: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم:13-18].
والمراد: لقد رأى محمد جبريل مرة أخرى، عند سدرة المنتهى في السماء السابعة، على أصل خِلقته الملائكية التي خلقه الله عليها، وكان قد رآه قبلُ في مكة جهة أجياد، قد ظهر له في الأفق له ستمائة جناح قد سد بها الأفق. ولقد رأى النبي في عروجه إلى السماء الكثير من الآيات التي تدل على عظمة الله وتفرده سبحانه بالألوهية. هذا وسنفرد هذه المعجزة بخطبة مستقلة إن شاء الله(/3)
معركة القادسية ... ...
هيثم جواد الحداد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الحديث عن انتصارات المسلمين السابقة في ظل الهزيمة والذل الحال. 2- خطر فقد الأمة الثقة بالنصر واستسلامها للهزيمة. 3- عمر يبحث عن قائد للمسلمين في القادسية. 4- خروج سعد ووصاة عمر له. 5- وفود المسلمين في بلاط يزدجر وكسرى ورستم. 6- بعض ما جرى في معركة القادسية. 7- البشارة بالنصر المؤزر. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
وبعد:
أيها المسلمون، فحينما يرى المسلم ذو القلب الحي بعينيه، ويسمع بأذنيه ما يجري الآن على أرض فلسطين، من قتل بأبشع الطرق، وإذلال للإنسان على يد أحقر الخلق، واستخفاف بالأعراض، وغطرسة همجية، وأسر وسجن وتعذيب للصغير والكبير، وقد رأى قبل أشهر ما حل في أفغانستان وكيف استأسدت الدول المتغطرسة على إخوان لنا ضعاف، فصبت عليهم من جحيم قنابلهم ما يفوق الوصف، ثم يجول بخاطره وهو يسمع هذه الأيام عن مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص من المسلمين في الهند على يد أراذل الهندوس بطريقة لا تقل بشاعة عن الطريقة اليهودية في القتل حيث أحرق كثير منهم وهم أحياء.
أنادي أمة علمت بدائي ولكن لم يحرّكها ندائي
كأني والعدا تقتات لحمي وتشرب بالتذاذ من دمائي
بلا حام يذد عني بلاها ويغضب لي ويبكي من بكائي
مصابي آلم الأحجار حزناً وناحت منه أقطار السماء
فهل صُمت مسامعهم وماتت ضمائرهم، فما أحسوا ابتلائي
إذا تذكر الإنسان وتذكر... يكاد يصاب بغصة في حلقة، تحيل حياته إلى جحيم لا يطاق، وتلبسه نظارة سوداء لا يرى فيها إلا السواد أمام ناظريه، وتحيل تفاؤله إلى يأس قاتل، ثم يستولي عليه الشيطان فيجعله حبيس آهات حسرات، وأنات ذكريات، ويسلب منه الثقة بنفسه وبدينه وبوعد الله جل وعلا.
عباد الله، هذان الخنجران هما أخطر ما يواجه أمة من الأمم، وليس أخطر ما يواجهها قتل أبنائها ولو سالت دماؤهم أنهاراً، وبني من جماجمهم أهراماً، وليس أخطر ما يواجهها أن تسلب أرضها أو تدمر حضارتها.
خنجران هما الذان ينحران الأمة، ويجهزان على حياتها، ويزهقان روحها:
أولهما: أن تسلب منها الثقة بما تعتقد وتدين وتعيش من أجله، وتقاتل من أجله، وتموت من أجله، فتفقد ثقتها بنفسها قبل كل شيء.
حينما تفقد ثقتها بوعد الله: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
فإنها تطعن نفسها بخنجر في سويداء قلبها.
ثانيهما: أن يقعد أفراد الأمة عن العمل الدؤوب لنصر عقيدتهم ومبادئهم التي يؤمنون بها، سواء كان قعودهم ذلك نتيجة آهات الحسرة، وبكاء على الماضي، ونوحاً على الحاضر، أو كان نتيجة رضى الأمة بالدون، وقبولها بالهوان.
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاْحْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:22-24].
ومهما يكن من أمر فإن القعود وترك العمل هو خنجر يجهز على حياة الأمة، إن أخطأها الخنجر الأول، وإن كان الأول قد أصابها فإن هذا الثاني يسرع في إزهاق روحها والفتك بها.
أمة الإسلام، في هذه الخطبة سنتحدث عن سبيل من سبل حماية الأمة من خنجر فقد الثقة بالنفس الناتج عن فقد الأمة لثقتها بدينها وعقيدتها.
وحتى نثبت الثقة بالنفس، ونطرد شبح اليأس، لا بد من معرفة حقيقة هذه الأمة، هل هي أمة ذليلة في كل مراحل حياتها؟ هل عاشت هذه الأمة قرينة الهزائم؟ هل كان لهذه الأمة مجد تليد؟ هل ما تمر به هذه الأمة أزمة عابرة، لا تلبث أن يعقبها انبلاج فجر جديد؟
هذه الأسئلة لا تلبث أن تتلاشى إذا ما ألقى الإنسان نظرة عابرة على تاريخ هذه الأمة المجيد، هذا التاريخ الذي يبعث في المسلم التفاؤل، ويخلصه من أوهام الخوف، ويهز فيه الحنين للسؤدد والمجد، فيحرك فيه التمرد على الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة، وهذا ما يخشاه أعداؤها كل الخشية.
أعداء هذه الأمة يريدون الناشئة أن تدرس تاريخ الفراعنة والآشوريين، والبابلين والفينيقين، أو يدرسون تاريخ الأسر التي حكمت بعض البلاد.
ويريدوننا أن نطوي في صفحات النسيان تاريخ العظماء، لا يريدوننا أن نعرف خالد بن الوليد، ولا سعد بن أبي وقاص، ولا الفاروق عمر، يريدون جيلاً، بل أجيالاً تجهل عدل عمر بن عبد العزيز، وقوة أحمد بن حنبل، ونجدة المعتصم، وفتوحات صلاح الدين قاهر الصليبين، يريدون أن تجتث الأمة من أمجاد قاهر التتار، وفاتح القسطنطينية.(/1)
عباد الله، في هذه الخطبة نتحدث عن صفحة واحدة فقط من آلاف صفحات هذا التاريخ المجيد.
نعود بكم أيها الإخوة إلى ما قبل أربعة عشر قرناً، إلى ضفاف نهري دجلة والفرات، إلى تلك البلاد العريقة، إلى أرض الأمجاد والفتوح، في عراقنا الحبيب، في عهد من عهود ثالث أعظم رجالات التاريخ الإسلامي، بل التاريخ كله، في عهد الفاروق عمر بن الخطاب .
كان الصراع بين الدولة الإسلامية وبين أقوى دول الكفر والطغيان، المعسكرين الشرقي والغربي، الفرس والرومان على أشده.
وفي جنبات هذا الصراع، ترسم معركة من أعظم معارك الإسلام، كانت شامة في تاريخ المجد، ومناراً في طريق الهدى، إنها معركة القادسية، التي حدثت في العام الرابع عشر للهجرة النبوية.
تلك المعركة التي نشبت لتحدد مصير العالم، إلى الأمامية البصيرة، أم إلى الرجعية العمياء؟
ولنعلم أيها الإخوة أنه لا يمكننا أن نصور هذه المعركة في ربع ساعة، ولكننا مجرد إشارات.
فلننتقل إلى الجبهة.
ههنا جيش مسلم، جُله من العرب، فيه ثلاثون ألف مقاتل، من جنود جاؤوا متطلعين إلى الشهادة في سبيل الله، متطوعين من تلقاء أنفسهم، كان الجندي منهم هو الذي يعد لنفسه الراحلة، ويعد لنفسه السلاح، ويعد لنفسه الزاد، فإن لم يجد ما يتزود به عاش على التمرات أو التمرة يومه كله، فهل وجد في تاريخ البشر جميعهم مثل هؤلاء الجنود؟
إنهم المثل الأعلى في الجندية في كل مكان وزمان، كان الواحد منهم يقاتل وهو جائع، يقاتل وهو متعب، يقاتل وهو مثخن، يقاتل وهو مريض، قاتل في الصحاري المتوقدة في المناطق الحارة، قاتل على السفوح المغطاة بالثلوج في المناطق الباردة، قاتل في آسيا، في أوروبا، في أفريقيا، قاتل في البر، وقاتل في البحر، كان الشاب يقاتل، والشيخ يقاتل، بل والمرأة تقاتل.
مُني الفرس بعدة هزائم متلاحقة، أوجعتهم بها ضربات المسلمين، فعزم يزدجرد ملك الفرس على إنهاء تلك الهزائم، فجمع طاقاته كلها، وحشد أكبر عدد من المقاتلين، واستخدم أعنف أنواع الأسلحة التي قدر عليها في وقته، فبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني فكتب إلى خليفة المسلمين في المدينة عمر بن الخطاب ، فقال عمر قولته المشهورة: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب، وأعلن النفير العام للمسلمين أن يدركوا المسلمين في العراق، فقد رأى ببصره الثاقب حجم تلك الحشود، وضخامة المعركة، والآثار المترتبة عليها، فهمَّ في أول الأمر بالخروج بنفسه.
واجتمع الناس بالمدينة فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق، والناس لا يدرون ما يريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه، ثم أشاروا عليه بغير ذلك، فقال لهم: (إني كنت عزمت على المسير، حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً، فأشيروا علي برجل).
فأخذ الناس يشيرون عليه، حتى قال له الصحابة: إليك الأسد في براثنه، سعد بن أبي وقاص، إنه الأسد عادياً.
فاستدعاه عمر ووصاه، وأوصى الجيش الذي معه، وأمر سعد الجيش بالسير ومعه أربعة آلاف، وكان مع المثنى بن حارثة في العراق ثمانية آلاف، لكن المثنى مات قبل وصول سعد، وتتابعت الإمدادات إلى القادسية حتى صار مع سعد بن أبي وقاص ثلاثون ألفاً، منهم تسعة وتسعون صحابياً بدرياً.
كان عمر يدير المعركة من المدينة النبوية، ولا يكف عن مراسلة الجيش وحثهم على الشهادة والثبات، حتى إنه أرسل إليهم مثبتاً، وباعثاً لهم على التفاؤل بالنصر، وقائلاً: (إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم).
أما الفرس فقد أجبر يزدجرد ملك الفرس أحد كبار قواده واسمه رستم على قيادة الجيش الفارسي بنفسه.
أرسل سعد وفداً إلى ملك الفرس يزدجرد فيهم: النعمان بن مقرن المزن، والمغيرة بن شعبة، قال لهم يزدجرد في كل غطرسة وكبر: "إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً منكم، ولا أسوء ذات بينكم، قد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم، ولا تغزوكم فارس، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان الجهد دعاكم لقتالنا فرضنا لكم قوتاً، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم".
فقال له أحد أعضاء الوفد كلاماً طويلاً جاء فيه: (لقد أرسل إلينا الله رسولاً بالحق ويأمر بالعدل، وقال لنا: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك).
ونحن أناسٌ لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يُغله المهر(/2)
فاستشاط ملك الفرس وهو ملك المشرق، ورئيس إحدى الدولتين العظميين، وهو في أبهته وبين أعظم قواده وعلى أرضه أن يقال له هذا الكلام من بدوي مرقع الثياب. فقال: أتستقبلني بمثل هذا؟ ثم قال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية، وينكل به وبكم.
وسار رستم وفي مقدمته أحد القادة الكبار واسمه الجالينوس، في أربعين ألفاً، وخرج هو في ستين ألفاً، وفي ساقته عشرون ألفاً، وجعل في ميمنته (الهرمزان)، وعلى الميسرة (مهران بن بهرام )، وهكذا تجمع لرستم مائة وعشرين ألفاً.
سار رستم حتى وصل الحيرة ثم النجف حتى وصل القادسية ومعه سبعون فيلاً، وأرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، فأرسل له سعد ربعي بن عامر فدار بينهما حوار مشهور، وفي اليوم الثاني طلب رستم مقابلة ربعي فبعث له حذيفة بن محصن ليعلم رستم أن الجيش على قلب واحد، فحاوره بما يشبه الحوار الأول، وفي اليوم الثالث طلب رستم رجلاً آخر فأرسل له سعدٌ المغيرة بن شعبة فلما وصل إليه المغيرة جلس مع رستم على سريره فتناوشه الحرس وأنزلوه بقوة، ومنعوه فقال كلاماً بكل طمأنينة وجرأة، كلاماً أحرق قلوبهم، قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننتكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني، اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول.
فقالت السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة، فهابه رستم وبدأ بممازحته ليمحو ما صنع.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب... ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
وبعد:
وفي اليوم الثاني، وهو أول أيام المعركة، عبر الفرس النهر في الصباح ونظموا جيشهم، ونظم سعد جيشه، وأمر بقراءة سورة الجهاد، أي سورة الأنفال على الجيش استحثاثا لهم على القتال والثبات حتى الممات، ثم حثهم على السمع والطاعة لنائبه خالد بن عرفطة لأن سعداً أصابته دمامل في فخذيه وإليتيه، فكان ينام على وجهه، وفي صدره وسادة، ويقود المعركة من فوق قصره، ثم قال لهم: ألزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر.
ولما نودي لصلاة الظهر، ورأى رستم سعداً يصلى بالجيش، نادى قائلاً: (أكل عمر كبدي، أحرق الله كبده، علّم هؤلاء حتى علموا).
وصلى المسلمون الظهر، وكبر سعد التكبيرة الأولى فاستعدوا، وكبر الثانية فلبسوا عدتهم، وكبر الثالثة فنشط الفرسان، وكبر الرابعة فزحف الجميع، وبدأ القتال والتلاحم.
وفي أثناء المعركة برز أحد الفرس ونادى بالمبارزة، فوثب إليه الفارس المغوار عمرو بن معد يكرب، فبارزه، فاعتنقه ثم جلد به الأرض فذبحه، ثم التفت إلى الناس وقال: إن الفارسي إذا فقد قوسه فإنما هو تيس، وبارز فارساً آخر فاعتنقه، وحمله حتى جاء به إلى المسلمين، كسر عنقه ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، وقال: هكذا فافعلوا بهم.
أجِّجوها حِمَما وابعَثُوها هِمَما قَرِّبُوا مني القَنا قد كَسَرْتُ القَلَمَا
نعم هم كذلك الكفار على اختلاف أوصافهم، يرمون من بعيد، سواء كان من الطائرات، أو من دباباتهم المجنزرة، ولا يقدرون على النزال وجهاً لوجه.
ولما رأت خيل المسلمين الفيلة نفرت وكر الفرس بسبعة عشر فيلاً على قبيلة بجيلة فكادت تهلك، فأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة، فأبلوا بلاء حسناً وردوا عنهم هجمة الفيلة، ولكن الفيلة عادت للفتك بقبيلة أسد، فنادى سعد عاصم بن عمرو ليصنع شيئاً بالفيلة، فأخذ رجالاً من قومه فقطعوا حبال التوابيت التي توضع على الفيلة، فارتفع عواؤها، فما بقي لهم فيل إلا أعري وقتل أصحابه، ونفّس عن قبيلة أسد، واقتتل الفريقان حتى الغروب، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة كانوا ردء للناس، وهذا هو اليوم الأول من المعركة ويسمى أرماث، وهو الرابع عشر من المحرم.
وفي اليوم الثاني أصبح القوم فوكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم، وسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم، وفي أثناء ذلك طلعت نواصي الخيل قادمة من الشام وكان في مقدمتها القعقاع بن عمرو التميمي، وقسم القعقاع جيشه إلى أعشار وهم ألف فارس، وانطلق أول عشرة ومعهم القعقاع بن عمرو التميمي، فلما وصلوا تبعتهم العشرة الثانية مجللين الأرض بصيحات التكبير.
وهكذا حتى تكامل وصولهم في المساء، فألقى بهذا الرعب في قلوب الفرس، فقد ظنوا أن مائة ألف قد وصلوا من الشام، فهبطت هممهم.(/3)
وعلى التو، وفور وصوله، إذا بهذا الهزبر الذي يقول فيه أبو بكر: لا يهزم جيش فيه القعقاع بن عمرو، إذا به يطالب المبارزة مع كبير الفرس وقائدهم (بهمن جاذويه) فتجالدا حتى قتله القعقاع، فأسقط في يد الفرس، وخارت معنوياتهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتل الفرس بالفيلة في هذا اليوم لأن توابيتها قد تكسرت بالأمس، فاشتغلوا هذا اليوم بإصلاحها، وألبس بعض المسلمين إبلهم فهي مجللة مبرقعة، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتشبهون بها بالفيلة، ففعلوا بهم هذا اليوم، وهو يوم أغواث، كما فعلت فارس في اليوم الأول يوم أرماث، فجعلت خيل الفرس تفر منها، وقاتلت الفرس حتى انتصف النهار، فلما اعتدل النهار تزاحفوا من جديد حتى انتصف الليل.
أصبح القوم لليوم الثالث وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان، ومن جريح وميت من المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وأما قتلى الفرس فبين الصفين لم ينقلوا.
وبات القعقاع لا ينام، فجعل يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس، وقال: إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة، ففعلوا ذلك في الصباح، فزاد ذلك في هبوط معنويات الفرس.
وابتدأ القتال في الصباح في هذا اليوم الثالث وسمي يوم عمواس، والفرس قد أصلحوا التوابيت، فأقبلت الفيلة يحميها الرجالة فنفرت الخيل، ورأى سعد الفيلة عادت لفعلها يوم أرماث فقال لعاصم بن عمرو والقعقاع: اكفياني الفيل الأبيض، وقال لآخرين: اكفياني الفيل الأجرب،فأخذ الأولان رمحين وتقدما نحو الفيل الأبيض، فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فنفض رأسه وطرح ساسته، ودلى مشفره، فضربه القعقاع فوقع لجنبه، وحمل الآخران على الفيل الأجرب، فطعنه الأول في عينه فجلس ثم استوى، وضربه الثاني فقطع خرطومه، فأفلت الأجرب جريحاً، وولى وألقى نفسه في النهر، واتبعته الفيلة وعدت حتى وصلت المدائن، ثم تزاحف الجيشان فاجتلدوا، وفي هذه الليلة حمل القعقاع وأخوه عاصم والجيش على الفرس بعد صلاة العشاء، فكان القتال حتى الصباح، وانقطعت الأخبار عن سعد ورستم، فلم ينم الناس تلك الليلة، وكان القعقاع محور المعركة.
فلما جاءت الظهيرة كان أول من زال عن مكانه قائد الفرس والهرمزان فانفرج القلب، وأرسل الله ريحاً هوت بسرير رستم، وعلاه الغبار، ووصل القعقاع إلى السرير فلم يجد رستم الذي هرب واستظل تحت بغل فوقَه حمله، ثم أدركه أحد المسلمين فقتله ثم صعد طرف سريره وقال: قتلت رستم ورب الكعبة، إليّ إليّ.
فانهارت حينئذ معنويات الفرس فانهزموا، وعبروا النهر فتبعهم السسلمون يخزونهم برماحهم فسقط من الفرس في النهر ثلاثون ألفاً.
وهناك في المدينة المنورة، حيث عمر بن الخطاب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مشغول الفكر بأمر القادسية، فكان يخرج كل يوم متنسماً أخبار جيشه منذ الصباح إلى انتصاف النهار لعله يرى من يزف له البشرى بالنصر.
وفي اليوم الذي ورد فيه البشير لقيه عمر، وهو يسرع على ناقته، فسأله عمر: من أين؟ فأخبره أنه من قبل سعد بن أبي وقاص، آت من القادسية، فقال عمر: يا عبد الله حدثني، قال: هزم الله العدو، كل هذا، والبشير مسرع على ناقته يريد أن ينقل الخبر إلى أمير المؤمنين، ولم يعرف أن الذي سأله هو أمير المؤمنين، وعمر يجري وراءه يستخبره الخبر، حتى دخل المدينة، فسلم الناس على عمر بأمير المؤمنين، فقال الرجل: هلا أخبرتني رحمك الله، أنك أمير المؤمنين، وعمر يقول: لا عليك، فنادى: الصلاة جامعة، وزف إلى المسلمين بشرى النصر، وقرئ كتاب الفتح، ومما جاء في الكتاب: (وأصيب سعد، وعبيد القارئ، وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل، دوي النحل، وهم آساد لا يشبههم الأسود).
عباد الله، ها هي القادسية، إحدى المعارك الكبرى في تاريخ الحروب العالمية، حلقة ذهبية في سلسلة الوقائع التي فتحت أبواب العالم، لنور الإسلام، بدر، واليرموك، وجبل طارق، وعين جالوت، وحطين، ومعركة أخرى يا أبناء سعد، وخالد والقعقاع، إنها معركة تل أبيب، التي سيسطرها التاريخ، ويقرأ أولاد المسلمين في المدارس، قصة طرد اليهود من فلسطين، حيث لا تغيير في مناهج التعليم ولا طمس لانتصارات هذه الأمة.
نعم، وإنا لها، ما فقدنا سلائقنا، ولا أضعنا إرثنا من أولئك الأبطال، نعم وإنا في قلوبنا لذلك الإيمان، وعلى ألسنتا لذلك الهتاف، وفي سواعدنا لهاتيك العزائم، وإن الشعب الذي أطاح تيجان كسرة وقيصر، وخاقان، قادر على أن يطيح رأس صهيون.
أرى للفجر إرهاصا قريباً برغم الليل أوشك بالزهاء
سنأخذ ثأرنا من كل باغ ونطعمه مرارات البلاء
فيا صهيون ويلك من جموع تحب الموت حبك للبقاء
سيرفع صوتها: الله أكبر مد وية بأكناف الفضاء
ويرجع قدسنا المنهوب منا ولو سالت سيول من د ماء(/4)
أيها المسلمون، اختم هذه الخطبة بتنبيه هام جداً، وهو أننا نوقن بأن معالجة مصية اهتزاز الثقة بالنفس يكون بعدة وسائل منها استرجاع أمجاد الماضي، لكن الحذر ثم الحذر، أن يعيش المسلمون مخدرون بأمجاد الماضي دون أن يصنعوا حاضرهم بدمائهم، إن هذا من أسوء ما يمكن أن تقع فيه أمة من الأمم، ما صنع الماضون مجدهم إلا بأنفسهم، لم يخلدوا إلى الراحة، ولم يركنوا إلى التاريخ، فحذار ثم حذار من هذا المزلق، إن العمل لنصرة هذا الدين، واجب على الجميع وجوباً لا ينقطع، ما تعاقب الليل والنهار، فإن تخلينا عن حمل هذه الرسالة فليس لنا إلا ذل, وقهر أسوء مما نعيش فيه، فلنختر لأنفسنا هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم [محمد:38]. ... ...
... ...
... ...(/5)
معنى المزاح هو الدعابة، والمزح نقيض الجد.
ذم المزاح الأصل في المسلم أن يكون جاداً، إذ لم يخلق في هذه الدنيا للعبث واللعب، والمزاح قد يخرج المرء عن الواجب الذي خلق له، ومن هنا ذم المزاح، إنما ذم لما يؤدي إليه من كذب أو ترويع أو استهزاء أو غفلة عن الله وذكره.
قال : ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه)) [ضعيف أخرجه الترمذي 1995].
والمقصود بالنهي كما قال العلماء الإفراط والمداومة.
1- الإفراط في المزاح يؤدي إلى كثرة الضحك التي تميت القلب.
وفي الحديث عند الترمذي وغيره وفيه فقال: ((ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) [رواه الترمذي ح2305، وابن ماجه ح4193، وأحمد ح7748].
نظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر فقال: إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين.
2- المزاح يؤدي إلى الغفلة، والمسلم يحتاج إلى قلب حي لا تتسرب الغفلة إليه فيجس صراعه مع الشيطان فقد أقسم الشيطان على غوايتنا فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ص:83-84].
والغفلة هي صفة الكافرين فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون [الطور:11-12]. فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [الزخرف:83]. ثم ذرهم في خوض يلعبون [الأنعام:91]. وفي يوم القيامة يقال لهم ما سلككم في سقر [المدثر:42]. فكان من جوابهم وكنا نخوض مع الخائضين [المدثر:45].
وهذه الغفلة حذر منها السلف أشد الحذر، فكان أبو يعلى يقول: ((أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار)).
وقال محمد بن واسع: "إذا رأيت رجلاً في الجنة ويبكي ألست تعجب من بكانه؟ قيل: بلى. قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه".
3- وقد يؤدي المزاح حال كثرته إلى قلة الهيبة أو اجتراء السفهاء على المازح، قال عمر رضي الله عنه: "من مزح استخف به".
وقال محمد بن المنكدر: قالت لي أمي: يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم.
وعن سعيد بن العاص أنه قال: "لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك". وقال الحسين بن عبد الرحمن: كان يقال: المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للصداقة.
4- وقد يسبب المزاح شيئاً من الضغينة فيكون مذموماً، قال عمر بن عبد العزيز: "اتقوا الله وإياكم المزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، فحدثوا بالقرآن وتجالسوا به، فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال".
قال خالد بن صفوان: كان يقال: لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح.
وقال الحسين بن عبد الرحمن: كان يقال: المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للصداقة.
ويصبح المزاح حراماً إذا صاحبه مخالفة شرعية 1-الترويع:
وفيه أن أصحاب رسول الله كانوا يسيرون مع رسول الله في مسير فنام رجل منه فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نبل هذا ففزع فقال رسول الله : ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)) [رواه أحمد في مسنده ح21986 ونحوه أبو داود ح5004].
وقال : ((لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جاداً ولا لاعباً، وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه)) [رواه أحمد في مسنده ح17261 و أبو داود2194].
2-الكذب في المزاح:
قال : ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له)) [رواه الترمذي ح 2315 وأبو داود ح 4990، الدارمي ح2702].
((إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها بأساً إلا ليضحك بها القوم فإنه يقع فيها أبعد ما بين السماء والأرض)) [رواه أحمد ح10903].
عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: )(إني لا أقوال إلا حقاً)) [رواه الترمذي ح1990 وأحمد ح8366].
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) [رواه أبو داود ح4800].
3- المزاح الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالممزوح معه.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: ((لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار))، وفي مسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) [البخاري ح7072، ومسلم ح2617].
4- المزاح الذي تنتهك فيه حدود الله.
فقد يمتد المزاح إلى باب كبير من أبواب الكبائر كالاستهزاء ببعض القرآن أو النبي أو الأحكام الفقهية أو العلماء، كما وقع من بعض المنافقين يوم تبوك حين استهزءوا برسول الله وأصحابه فنزل: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:64-65].(/1)
وقد حذر الله من مجالسة هؤلاء الذين يمزحون في هذا الباب من الكبائر وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [الأنعام:86].
وقال: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معه حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً [النساء:140].
مزاح النبي وهديه في ذلك جاءت صور كثيرة تذكر أن النبي كان يمازح أصحابه ويمازحونه، وهذا يفيد إباحة المزاح إذا خلى عن الحرام كالكذب والترويع.
عن جابر كان رسول الله إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت أخلق الناس وجهاً وأكثرهم ضحكاً (تبسماً) وأحسنهم بشراً. [قال الهيثمي: رواه البزار، وإسناده حسن].
عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: ((إني لا أقوال إلا حقاً)) [رواه الترمذي ح1990 وأحمد ح8366].
ومزاح النبي لم يكن للعبث أو لمجرد الترويح، بل كان جزءً من تربيته لأصحابه:
1-المزاح للتحبب
قدم صهيب على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز قال: أدن فكل، فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بعينك رمداً))، فقال: يا رسول الله: إنما آكل من الناحية الأخرى. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أنس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا حاملوك على ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق)) [رواه أبو داود ح 4998، والترمذي ح 1991].
عن أنس قال: ربما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا ذا الأذنين)) [رواه الترمذي ح 3828 وأبو داود ح 5002].
يقول عوف بن مالك الأشجعي أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من آدم، فسلمت فرد وقال: ((أدخل فقلت: أكلي يا رسول الله؟ قال: كلك، فدخلت)).
قال عثمان بن أبي العاتكة: إنما قال: (أدخل كلي) من صغر القبة. [رواه أبو داود ح5000 وأحمد ح 22846].
قال كعب بن مرة سمعته يقول: ((ارموا، من بلغ العدو بسهم رفعه الله به درجة)) قال ابن النمام: يا رسول الله وما الدرجة؟ قال: ((أما إنها ليست بعتبة أمك، ولكن ما بين الدرجتين مائة عام)) [رواه النسائي ح3144، وأحمد ح17369].
وعن أنس أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن زاهر باديتنا ونحن حاضروه)).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان رجلاً دميماً فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال الرجل: أرسلني. من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله: إذاً والله تجدني كاسداً فقال: صلى الله عليه وسلم، لكن عند الله لست بكاسد أو قال: لكن عند الله أنت غالٍ)) [رواه أحمد ح12187].
وبينما أسيد يحدث القوم وكان فيه مزاح، بينما يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال: أصبرني، فقال: ((اصطبر))، قال: إن عليك قميصاً وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه، وجعل يقبل كشحه قال: إنما أردت هذا يا رسول الله. [رواه أبو داود ح5224].
2- المزاح للمواساة.
وعن أنس: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: ((يا أبا عمير ما فعل النغير)) [رواه البخاري ح6129].
وفي رواية لأحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم سليم ولها ابن من أبي طلحة يكنى: أبا عمير، وكان يمازحه فدخل عليه فرآه حزيناً فقال: ((مالي أرى أبا عمير حزيناً ؟ فقالوا: مات نغره الذي كان يلعب به، قال: فجعل يقول: أبا عمير ما فعل النغير)) [رواه أحمد ح12489].
3- المزاح من أجل التربية.
وفيه أن خوات بن جبير الأنصاري كان جالساً إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة فطلع عليه رسول الله فقال: ((يا أبا عبد الله مالك مع النسوة؟)) فقال: يفتلن ضفيراً لجمل لي شرود، فمضى رسول الله لحاجته ثم عاد فقال: ((يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟)) قال خوات: فاستحيت وسكت، فكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى قدمت المدينة فرآني في المسجد يوماً أصلي فجلس إلي فطولت فقال: ((لا تطول فإني أنتظرك))، فلما سلمت، قال: ((يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟)) فسكت واستحيت فقام، وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار وقد جعله رجليه في شق واحد.(/2)
فقال: ((يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟)) فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت فقال: ((الله أكبر، الله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله)). قال: فحسن إسلامه وهداه الله. [قال:الهيثمي: رواه الطبراني من طريقين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد، وهو ثقة].
مزاح الصحابة والصحابة رضي الله عنهم كانوا أكثر الناس جداً وأقلهم غفلة، ومع ذلك كانوا يتمازحون.
روى البخاري في الأدب المفرد "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ([1]) فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال" [الأدب المفرد 266 وهو صحيح].
"وقيل لابن سيرين هل كانوا يتمازحون؟: قال: ما كانوا إلا كالناس".
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء في دينه دارت معاليق عينيه" [رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن، وصححه الألباني].
لما جاء أبو موسى الأشعري من عند عمر مذعوراً عندما استأذن ثلاثاً وانصرف فقال له عمر: والله لتأتيني على هذا ببرهان أو ببينة أو لأفعلن بك، فذهب إلى مجمع للأنصار ليبحث عن شاهد.. "فجعل القوم يمازحونه" [رواه الترمذي ح2690].أي ليخففوا عنه.
وفي مسند أحمد "فجاءنا أبو موسى كأنه مذعور" [رواه أحمد ح10605].
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله كان لا يلتفت إذا مشى، وكان ربما تعلق رداؤه بالشجرة أو الشيء، فلا يلتفت حتى يرفعوه لأنهم كانوا يمزحون ويضحكون، وكانوا قد أمنوا التفاته صلى الله عليه وسلم. [رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: إسناده حسن]. أي أن الصحابة كانوا يهابونه فلا يمزحون أمامه.
وهذا عبد الله بن عمر يمازح مولاة له فيقول لها: خلقتي خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام. فتغضب وتصيح وتبكي، ويضحك عبد الله بن عمر.
وممن عرف بالمزاح من الصحابة نعيمان بن عمرو، وكان لا يدخل المدينة طُرفة، أو فاكهة، إلا اشترى منها، وأكل بعضها، وأهدى الباقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها من نُعيمان أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعط هذا ثمن متاعه!! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولم تهده لي؟)) فيقول: نعم، ولكن، والله ليس عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله. فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمر لصاحبه بالثمن.
ومن نوادره: أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ ناقته بفنائه، وكانت – ناقة – فتية سمينة، فقال بعض أصحاب نُعيمان: لو عقرتها فأكلناها. فإنا قد قرمنا إلى اللحم. فقام نُعيمان وعقر الناقة.
فخرج الأعرابي من عند النبي صلى الله عليه وسلم ووجد ناقته تُسلخ، ونُعيمان يتولى توزيع لحمها. فصاح: يا محمد، واعقراه: واناقتاه.
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ((من فعل هذا؟)) فقالوا: النُعيمان. فأتبعه يسأل عنه، حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. واستخفى تحت سرب (دكة تكون خارج الغرفة) فوقه جريد.
فأشار بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكانه: فأمر بإخراجه. وقال له: ((ما حملك على ما صنعت؟)).
قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله، هم الذين قَرِموا إلى اللحم، وأمروني بعقر الناقة.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يمسح التراب عن وجهه، ثم غرم ثمنها للأعرابي.
[انظره في ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة].
المزاح مع الأهل من زوجة وأولاد يقول صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)).
قال ابن مسعود: "خالط الناس ودينك لا تكلمنه والدعابة مع الأهل" [رواه البخاري في الأدب / الانبساط].
ومنه ما رواه أحمد أنه خرج من بعض أسفاره ومعه عائشة فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي: ((تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني.
حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا فتقدموا ثم قالي لي: تعالى أسابقك فسابقته، فسبقني فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك)).
وروى الشيخان في حديث عائشة قالت: ((والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين أذنه وعاتقه ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو)) [ رواه مسلم ح892، ونحوه في البخاري ح5236].
ويروي الحاكم من حديث عمرة قالت سألت عائشة كيف كان رسول الله إذا خلا مع نسائه، قالت: كالرجل من رجالكم إلا أنه من رجالكم إلا أنه كان أكرم الناس وألين الناس ضحاكاً وبساماً.
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن أنه كان رسول الله يصفّ عبد الله وعبيد الله وكثيراً بني العباس ثم يقول: ((من سبق إلي فله كذا. قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم)) [رواه أحمد في مسنده ح1739].(/3)
وقال عائشة كان عندي رسول الله وسودة فصنعت حريرة وجئت به فقلت لسودة: كلي. فقالت: لا أحبه فقلت: والله لتأكلين أو لألطخن به وجهك. فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذتُ بيدي في الصحفة شيئاً منه فلطخت به وجهها، ورسول الله جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني، فتناولتْ من الصحفة شيئاً، فمسحت بها وجهي، ورسول الله يضحك" [رواه أبو يعلى بإسناد جيد].
وأخرج أبو يعلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يدلع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصبي لسانه فيهش له.
([1]) المقصود بالبطيخ ذو القشرة الصفراء اللينة ، فالبدح رميك بكل شيء فيه رخاوة . انظر فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني 1/366.(/4)
مالَه حكم المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المسجد له توابع، كالفناء والمكتبة ومغاسل الوضوء ونحوها ولاشك أنها قد اختلفت عما كانت عليه في السابق، لاختلاف أشكال البناء والعمارة الحديثة، وعليه فما حكم هذه المرافق أولاً هل أخذ أحكام المساجد أم لا؟ ثم ما حكمها وهذا التغيير الحادث في أشكال البناء لاسيما والحاجة تدعو أحياناً لمثل هذا التغيير كمثل بناء المساجد أعلى الحمامات أو بناء المسجد أعلى الدكاكين ومحلات البيع ....
أولاً: المسجد لغة وشرعاً:
"المسجد لغة موضع السجود. وشرعا كل ما أعد ليؤدي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة، وقد يطلق على ما هو أعم من هذا فيدخل فيه ما يتخذه الإنسان في بيته ليصلي النافلة أو ليصلي فيه الفريضة عند وجود مانع شرعي يمنعه من أدائها جماعة في المسجد الذي يقيم الناس فيه الجماعة، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل1
وحدود المسجد الذي أعد ليصلي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة هي ما أحاط به من بناء أو أخشاب أو جريد أو قصب أو نحو ذلك، وهذا هو الذي يعطى حكم المسجد من منع الحائض والنفساء والجنب ونحوهم من المكوث فيه..."2
"أَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ سَاحَتُهُ الَّتِي زِيدَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِتَوْسِعَتِهِ، وَكَانَتْ مُحَجَّرًا عَلَيْهَا، فَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنْ الْمَسْجِدِ، وَجَمَعَ أَبُو يَعْلَى بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الرَّحْبَةَ الْمَحُوطَةَ وَعَلَيْهَا بَابٌ هِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَوْ اعْتَكَفَ فِيهَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ" ا.ه 3
وعليه فـ(حائط المسجد من داخله وخارجه: له حكم المسجد، وكذا سطحه، والبئر التي فيه... وكذلك يعتبر سطح المسجد كالمسجد في بقية المذاهب)4.
وعلى القول بأن لها حكم المسجد، فإنه لا يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يمكثوا فيها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}النساء: 43.
وكذلك يجوز أن تصلى فيها تحية المسجد، ويصح الاعتكاف فيها، ولا يجوز البيع والشراء، ولا إنشاد الضالة، ولا رفع الصوت فيها، لأنها لها حكم المسجد.
وكذا التمسح بحائطها والبول عليه، كما ذكر ابن عقيل أن أحمد قال أكره لمن بال أن يمسح ذكره بجدار المسجد قال المراد به الحظر
وكذلك لا يجوز لكافر دخولها ولو بإذن مسلم، ويجوز دخولها للذمي ومثله المعاهد والمستأمن إذا استؤجر لعمارتها لأنه لمصلحتها إلا دخول حرم مكة فلا يجوز لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} التوبة: 28.
وأما من يقولون بأنها ليست من المسجد، فحكمها ليس كحكم المسجد، فيجوز للجنب والحائض والنفساء المكث فيها، وغير وغير ذلك مما سبق ذكره.
والصحيح أن لها حكم المسجد إذا كانت داخلة في حائط المسجد ولم تفصل، وإن لم تكن كذلك فلا. وهو ما أفتى به الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، حفظه الله حيث قال "ما كان حائط المسجد شاملاً ومُدخلاً له في المسجد فهو من المسجد، وما كان خارج محيط المسجد فهو خارج المسجد"5.
ولذلك لو قال قائل ما حكم الصلاة في المسعى من الحرم المكي؟ هل هي كالصلاة في حدود المسجد القديمة أيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكذا الصلاة في توسعة المسجد النبوي تحت المظلات هل تعتبر كالصلاة داخل المسجد النبوي وتجري عليها أحكام مضاعفة الأجر وغيرها من الأحكام؟.
الجواب: نعم تأخذ الصلاة أحكام المضاعفة وغيرها في كلا المسجدين، لأن الصحيح من قولي أهل العلم أن المضاعفة في الحرم تشمل مساجد الحرم كلها لا المسجد المحيط بالكعبة فقط6. كذلك الصلاة في توسعة المسجد النبوي تحت المظلات تعتبر كالصلاة داخل المسجد النبوي وتجري عليها أحكام مضاعفة الأجر وغيرها، غير أن المسعى في المسجد الحرام لا يعد من المسجد في قول أكثر علماء العصر وذلك لوجود الجدار الفاصل بينهما. وذكر عن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أنه من المسجد الحرام للضرورة. والله أعلم بصحة ذلك عنه.
الصلاة على سطوح الحمامات أو الحشوش ونحوها:(/1)
كره الشافعية الصلاة في الحمام فضلاً عن سطحه ومنعها الحنابلة، فقال في الحلية: "وتكره الصلاة في الحمام وقيل إن الكراهة بسبب النجاسة فتكون كالمقبرة وقيل إن ذلك لأجل أنه مأوى الشيطان فتكره الصلاة وإن كان الموضع طاهرا وقال أحمد لا تجوز الصلاة في الحمام ولا على سطحه" 7
وقال في المغني: " ذكر القاضي أن حكمه8 حكم المصلى فيها، لأن الهواء تابع للقرار فيثبت فيه حكمه ولذلك لو حلف لا يدخل داراً فدخل سطحها حنث ولو خرج المعتكف إلى سطح المسجد كان له ذلك لأن حكمه حكم المسجد. والصحيح إن شاء الله قصر النهي على ما تناوله ولأنه لا يعدى إلى غيره، لأن الحكم إن كان تعبديا فالقياس فيه ممتنع وإن علل فإنما يعلل بكونه للنجاسة ولا يتخيل هذا في سطحها"9
ولهذا أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن إنشاء مسجد ضمن مبنى وزارة لتمكين الموظفين من أداء الصلاة فيه. ويقع هذا المسجد في الدور الأول من مبنى الوزارة وتحته مباشرة مكاتب للموظفين ودورة مياه (حمام) تحت مؤخرة المسجد، وقد ذكر بعض موظفي الوزارة أن الصلاة لا تجوز في جزء المسجد الواقع فوق سطح دورة المياه بحجة وجود نص شرعي يمنع من الصلاة في أرضية الحمام، وأن هناك من يرى أن هذا الحكم ينسحب على سطح الحمام باعتباره جزءا من بنائه..
فأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكر جاز أن يصلى على سطح دورة المياه المذكورة ولا حرج إن شاء الله ولا كراهية في ذلك لأن السطح لا يتبع الأصل في مثل هذا، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء في هذه المسألة، كما صرح بذلك أبو محمد ابن قدامة المقدسي رحمه الله في كتابه المغني.10
ومثل الصلاة على أسطح الحمامات الصلاة إليها، حيث كرها الحنابلة كذلك، . وأَمر هذه الحمامات أو " المغاسل لا يخلو من أَمرين: إِما أن تكون مفصولة عن المسجد بجدار مستقل بها منفصل عن جداره القبلي، وهذا لا محظور فيه ولا بأْس بالصلاة ولو كانت المغاسل في قبلة المسجد ما دامت مفصولة عنه بجدار غير جداره.
وإِما أَن تكون متصلة به ليس بينها وبينه إِلا حائطه القبلي فهذا مما ذكر العلماء كراهة الصلاة إِليه... ما لم يكن حائل ولو كمؤخرة رحل، ولا يكفي حائط المسجد، لكراهة السلف -رحمهم الله- الصلاة في مسجد في قبلته حُش. وعلى هذا فينبغي فصل هذه المغاسل عن جدار المسجد بحائط مستقل بها منفصل عن حائط المسجد..."11
هذا والله أعلم نسأل الله أن يفقهنا في الدين، ويعيننا لكل خير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - أخرجه أحمد 3/304، والبخاري 1/87 كتاب التيمم، ومسلم 1/370 كتاب المساجد باب في مواضع الصلاة، والنسائي 1/209 كتاب الغسل والتيمم باب التيمم بالصعيد، والترمذي 4/104 كتاب السير باب ما جاء في الغنيمة.
2 - بتصرف من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
3 - الموسوعة الفقهية (5/225)
4 - الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي: (1/553) بتصرف.
5 - مجلة البحوث الإسلامية (59/81) وموقع: الإسلام سؤال وجواب. الرابط (www.islam-qa.com).
6 - أنظر الفتوى رقم (6267) و الفتوى رقم (1559) و الفتوى رقم (2021) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
7 - حلية العلماء للشاشي 2/51-52
8 - أي حكم السطوح.
9 - المغني لاين قدامة: 1/405
10 - ما ذكره أعلاه من كلام الموفق رحمه الله.
11 - بتصرف من فتاوى محمد بن إبراهيم المجلد الثاني (أصول الفقه - الطهارة – الصلاة)(/2)
مفاتيح الرزق ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الله هو الرزاق، وقد تكفل برزق الجميع. 2- الرزق أمر مقدر قبل ولادة الإنسان. 3- تقسيم الأرزاق وتفاوت الناس إنما هو قسمة الرزاق الكريم. 4- الإنفاق وسيلة لزيادة الرزق. 5- الرزق لا يطلب إلا من الله. 6- لا تلازم بين محبة الله وسعة الرزق. 7- أسباب شرعية تستجلب الرزق والبركة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد: إن الله جل جلاله، خلق الخلق، وتكفل برزقهم وقوتهم، فآواهم وأعطاهم وأمدهم، فهذه تسعة من جوانب عقيدة المسلم في باب الرزق.
أولاً: إن الله سبحانه وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم:40]، وقال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ [يونس:31]، وقال جل ذكره: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]. إذاً كل ما بيد المسلم في هذه الدنيا فهو من رزق الله له، أموال وبنين، بيوت ودور، مزارع وقصور صحة وعافية، كلها وغيرها من تمام رزق الله لعبده في الدنيا.
ثانياً: رزق الخلق في الدنيا من صفات الله الدالة على كمال ربوبيته وقيوميته، انظر إلى ما خلق الله في هذا الكون، تجده كله مرزوقاً متقلباً في رزق الله.
ثالثاً: إن من لوزام مقتضيات الإيمان بالقضاء والقدر، في عقيدة المسلم، في باب الرزق، أن كل خير وكل رزق يقدره الله للعبد، لا يمكن أن يخطئه ويستحيل أن يصيب غيره، قال الله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]. لقد تكفل الله برزق الخلق عندما خلقهم، فلم يتركهم سبحانه هَمَلاً، ولم يتركهم جياعاً عطاشاً، بل قدر لهم مقاديرهم، وكتب لكل نفس رزقها ولن تموت يا عبد الله، اعلم أنك لن تموت حتى تستكمل الرزق الذي كتبه الله لك.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) [السلسلة (2866)].
إن رزقك يا عبد الله كتب لك بالدقة، حتى القرش حتى اللقمة، وأنت في بطن أمك، أَرْعِني سمعك وافهم هذا الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له، اكتب عمله و رزقه وأجله، وشقي أو سعيد ثمُ ينفخ فيه الروح)) رواه البخاري ومسلم.
فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقضيضها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها وأرادوا أن يمنعوا رزقاً قدره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبْه الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة.
رابعاً: وأيضاً من جوانب الاعتقاد في الرزق، أن تقسيم الأرزاق بين الناس، لا علاقة له، بالحسب ولا بالنسب، ولا بالعقل والذكاء، ولا بالوجاهة والمكانة ولا بالطاعة والعصيان، وإنما يوزع جل جلاله رزقه على عباده، لحكمة هو يعلمها، فقد يعطي المجنون، ويحرم العاقل، وقد يعطي الوضيع، ويمنع الحسيب.
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم
ولم يجتمع شرق وغربٌ لقاصد ولا المجد في كف امرئ والدراهمُ
فإذا أُعطيتَ يا عبد الله، فلا تظن بأن هذا الرزق قد سيق إليك لأنك من قبيلة كذا، أو لأنك تحمل الجنسية الفلانية، أو لأنك أذكى من غيرك، لا، وإنما هذه أرزاق يقسمها مالك السماوات والأرض، لِحِكَمٍ هو يعلمها.
خامساً: إن الرزق يُجرىَ للعبد، ليستعين به على طاعة ربه، قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: "إنما خلق الله الخلق، ليعبدوه، وإنما خلق الزرق لهم، ليستعينوا به على عبادته".
إذن يعطيك الله سبحانه ما أعطاك لتلهوَ وتلعب به، وتنسى الدار الآخرة، الذي من أجله خلقت ولأجله أُعطيت، لا يا عبد الله، إن الله أعطاك ما أعطاك، لتستعين به على عبادته، لا لتستخدمه في محرماته. إن أولئك الذين يستخدمون مال الله، فيما حرم الله، وينهكون الصحة والبدن والعافية، التي هي من أَجَلِّ زرق الله، ينهكونه ويسخرونه في شهوات حرمها الله عليهم، هؤلاء بماذا وكيف يجيبون إذا سئلوا يوم القيامة؟
بماذا يجيب الذي يستخدم رزق الله، في سفرات محرمة، وجلسات مشبوهة؟
بماذا يجيب من يستخدم رزق الله، في إدخال آلات ووسائل محرمة إلى بيته، تستقبل العهر والفاحشة من شرق الدنيا وغربها.بل قبل وبعد هذا؟
بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في محاربة دين الله؟(/1)
بماذا يستجيب من يستخدم رزق الله في محاربة أولياء الله؟
بماذا يستجيب من يستخدم رزق الله في التمكين لأعداء الله؟
إذاً فلْيُعِدَّ كلٌ لسؤال ذلك اليوم جوابا.
سادساً: كثيراً ما يُربط في القرآن بين رزق الله للعباد، وبين مطالبة العباد للإنفاق في سبيل الله، من ذلك الرزق، الذي تفضل هو به عليهم، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
وكثيراً ما يصف الله سبحانه المؤمنين بأنهم مما رزقناهم ينفقون، قال الله تعالى: قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، وقال تعالى: وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا [النحل:75]، وقال سبحانه: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، ما دلالة هذه الآيات؟
إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن من المقاصد الأساسية لرزق الله للعبد، هو أن يُتعَبَّدَ اللهُ بهذا الرزق، ولهذا تجد أن الفقهاء يذكرون في كتب الفقه، أنّ على العباد، عبادات مالية، ويضربون لذلك مثلاً الزكاة، وعبادات بدنية كالصلاة، ونوع ثالث تجتمع في العبادات البدنية والمالية، ويضربون لذلك مثلاً بالحج. فأنت تنفق من رزق الله وتصرف في الحج تتعبد بذلك لله.
إذاً من المقاصد الأساسية لرزق الله، هو التعبد لله به، بالنفقة والزكاة والصدقة والوقف وبإطعام الطعام، والهدية، والهبة، فهذه كلها وغيرها ينفقها المسلم من رزق الله، تعبداً لله.
كل هذا ليس بغريب، لكن الغريب هو العكس أن لا يتَعَبَّدَ العبدُ الله من رزقٍ لله، والعجيب أن يمسك العبد عن العطاء لله، من رزق الله.هذا هو الغريب.
سابعاً: ومن عقيدة المسلم في الرزق، أن الله جل وعز، فضل بعض الناس على بعض في الرزق، فأعطى هذا وبسط له الكثير، وأعطى ذاك أقل منه، وحرم الثالث فلم يعطهِ شيئاً. قال الله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرّزْقِ [النحل:71]، وهذا ليس بغريب وليس بسر، لكن من لطيف أسرار الرزق، أنك تجد الأول الذي بُسط له في الرزق، ويملك الكثير، لا يشعر بذلك، بل يشعر أنه محروم يملك، لكن حياته جحيم، يملك، ويعيش حياة من لا يملك.
والآخر، الذي أعطِيَ القليل وفي كثير من الأحيان لا يكفيه، ولا يكفي عياله، ومع ذلك يرى أنه قد أوتي خيراً كثيراً، وأنه رُزق رزقاً عظيماً.ما السر في ذلك أيها الأحبة؟
السر، أن الرزقَ الحقيقي رزقُ القلب بالإيمان والقناعة، فمن رزقه الله القناعة، فقد أوتي خيراً كثيراً، وأحسَّ بالسعادة في دنياه قبل آخرته. كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له، "واقنعْ برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق.
ثامناً: ومن العقائد المهمة في باب الرزق، أنه لا يُطلب إلا من الله، ولا يُسأل إلا وجهه الكريم، إذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله، ولذا ذمَّ الله تعالى أولئك الذين يدعون غيره في طلب الرزق، فقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [النحل:73]، وأمر جل وتعالى عباده المؤمنين بطلب الرزق عنده فقال: فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17]. من طلب الله وسأله وبذل الأسباب وتوكل عليه، أعطاه الله، وسخر له ما لا يتوقع، ورزقه من حيث لا يحتسب.وأتته الدنيا وهي راغمة.
وأما من التفت إلى غير الله، وتعلق قلبه بما في يد فلان وفلان، ظن أنهم سيعطوه، وترك سؤال الله، أذله الله، وحرمه ما تمنى ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له. أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ [الملك:21].
أما علم ذلك أولئك الذين باعوا ذممهم لعرض من الدنيا قليل، وباعوا دينهم مقابل قطعة أرض، أو حفنة مال. إن أولئك الذين يلوون أعناق النصوص. ويستظهرون فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان طمعاً في الدنيا، هؤلاء سيمحق الله بركة علمهم إذا كان عندهم علم، وسيمحق بركة العَرَض الذي نالوه، بل وسيمحق بركة حياتهم كلها، أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ .(/2)
تاسعاً: إن عطاء الله، وإغداقه سبحانه في الرزق على العبد، لا يدل على محبة الله لهذا العبد، ورضاه عنه وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [البقرة:126]، فلو وُسِّعَ عليك في رزقك، وأصبحت تربح الألوف بدل المئات، والملايين بدل الألوف، فلا تظن بأن هذا بسبب محبة الله لك، فالله قد يعطي الفجار أكثر من الأبرار، وقد يرزق الكافرين أضعاف أضعاف المسلمين، قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءياً قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً [مريم:73-76].
وأَرْعِني سمعك ـ يا أخي ـ لحديث عقبة بن عامر في المسند، وهو حديث صحيح، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، وهو قائم على معاصيه فليحذرْ فإنما هو استدراج)) ثم تلا قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44]. قال الله تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ [الفجر:15، 16].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم... ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
أما بعد: يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، طلبُ الرزق، وكيف يكون؟ويلجأ بعضهم إلى طرق ملتوية ومحرمة للحصول على الأرزاق وما علم أولئك أن الحرام يمحق البركة، وجهلوا الأسباب الشرعية التي بها يُستجلب الرزق، وبها تفتح بركات السماء، فإليك ـ يا عبد الله ـ ثمانية أسباب شرعية، بها يُستجلب الرزق، هل تستطيع حفظها والأهم العمل بها؟
أولاً: الاستغفار والتوبة، نعم، التوبة والاستغفار، قال الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار"، وقال ابن كثير رحمه الله: "أي إذا تبتم واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم".
جاء رجل إلى الحسن فشكا إليه الجَدْب، فقال: استغفر الله، وجاء آخر فشكا الفقر، فقال له: استغفر الله، وجاء آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال: استغفر الله، فقال أصحاب الحسن: سألوك مسائل شتى وأجبتهم بجواب واحد وهو الاستغفار، فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً .
ثانياً: ومن أسباب الرزق ومفاتحه، التوكل على الله، الأحد الفرد الصمد، روى الإمام أحمد والترمذي وغيره، بسند صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3].
ثالثاً: من أسباب استجداب الرزق، عبادة الله، والتفرغ لها، والاعتناء بها، أخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأَسُد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أَسُد فقرك)).
رابعاً: من أسباب الرزق، المتابعة بين الحج والعمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه النسائي وغيره بسند صحيح. قال أهل العلم: إزالة المتابعة بين الحج والعمرة للفقر، كزيادة الصدقة للمال.(/3)
خامساً: مما يُستجلب به الرزق، صلة الرحم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنْسَأ له في أثره، فليصل رحمه)) رواه البخاري. وفي رواية: ((من سره أن يُعظم الله رزقه وأن يمد في أجله فليصل رحمه)) رواه أحمد.
أين أنت ـ يا عبد الله ـ من صلة الرحم، إن كنت تريد بسط الرزق بدون صلة الرحم، فهيهات هيهات، فاتَّقِ الله وصِلْ رحمك يبسط لك في رزقك ولعلك تعجب من أن الفَجَرَة إذا تواصلوا بسط الله لهم في الرزق، اسمع لهذا الحديث الصحيح، الذي رواه الطبراني من حديث أبي بكرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعجلَ الطاعة ثواباً لَصِلَةُ الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فَجَرة، فتنموَ أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)).
سادساً: من أسباب الرزق أيضاً، الإنفاق في سبيل الله، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]. ((أنفقْ يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً)) صححه الألباني. روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: ((يا ابن آدم أنفِقْ أُنفِقُ عليك)) الله أكبر ما أعظمه من ضمان بالرزق، أنفقْ أُنفقُ عليك.
سابعاً: من أسباب الرزق ومفاتيحه، الإحسان إلى الضعفاء والفقراء. وبذل العون لهم، فهذا سبب في زيادة الرزق وهو أحد مفاتيحه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) رواه البخاري.
فمن رغب في رزق الله له، وبسطه عليه، فلا ينسَ الضعفاء والمساكين، فإنما بهم ترزق ويُعطى لك، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) رواه النسائي وأبو داود والترمذي.
ثامناً: من مستجلبات الرزق، المهاجرة في سبيل الله، والسعي في أرض الله الواسعة، فما أغلق دونك هنا، قد يفتح لك هناك، وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100]، كم من الناس تركوا بلاداً، هي أحب البلاد لقلوبهم ولو خيروا لاختاروها على غيرها ـ لكنه الرزق ـ فتح الله عليهم في غير أرضهم، وفي غير بلادهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ... ...
... ...
... ...(/4)
مفارقة الإمام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
معنى قطع الصلاة أو فصلها أو ما يعبر عنه الفقهاء بـ مفارقة الإمام: هو أن يفارق المصلي إمامه أثناء الصلاة، لعذر أو لغير عذر. فما هو الحكم في هذه المفارقة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
الأول: ذهب الشافعية إلى جواز مفارقة المأموم إمامه وإكمال الصلاة منفرداً، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر مع الكراهة، وهذه أصح الروايات في مذهبهم، وإلا فقد وردت روايتان كما ذكر ذلك النووي، وهما: أن ذلك جائز للعذر فقط، والثانية: أن ذلك لا يجوز مطلقاً، واستثنوا الجمعة فلا تصح نية المفارقة في الركعة الأولى منها، والصلاة التي يريد إعادتها جماعة، فلا تصح نية المفارقة في شيء منها، وكذا الصلاة المجموعة تقديماً.
وسيأتي الدليل على جواز ذلك، عند الشافعية.
وذهب الحنابلة إلى إن مفارقة المأموم لإمامه تجوز لعذر، وأما لغير العذر ففيه روايتان: إحداهما: تفسد صلاته وهي الأصح، والثانية: تصح.
فهذا مذهب الحنابلة والشافعية، وفي رواياتهم اختلاف، إلا أن المشهور من مذهب الشافعية الجواز مطلقاً بعذر أو بغير عذر، وأظن أن ذلك الإطلاق للحكم جاء من كونهم يرون أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة، وليست واجبة كما يراها الحنابلة، لهذا نجد أن الرواية المشهورة عند الحنابلة هي القول بالجواز لعذر فقط.
ما هي الأعذار التي يجوز بها مفارقة الإمام؟
قالوا من ذلك: تطويل الإمام الصلاة، أو تركه سنة مقصودة، كتشهد أول عند من يرى أنه سنة لا واجب أو قنوت عند من يرى بسنيته، فله مفارقته ليأتي بتلك السنة، أو المرض، أو خشية غلبة النعاس، أو شيء يفسد صلاته، أو خوف ضياع ماله أو تلفه، أو ذهاب رفقته، أو إنقاذ غريق أو حريق، ونحو ذلك.
ودليل الحنابلة والشافعية: ما ثبت في الصحيحين أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يرجع فيصلي بقومه ، فأخر النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، فصلى معاذ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم جاء يؤم قومه ، فقرأ البقرة، فاعتزل رجل من القوم فصلى، فقيل: نافقت يا فلان، فقال: ما نافقت، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن معاذاً يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله، وإنما نحن أصحاب نواضح ( النواضح: الإبل التي يستقى عليها ) ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة فقال: " يا معاذ، أفتان أنت، أفتان أنت؟ اقرأ بكذا، اقرأ بكذا " قال أبو الزبير: بـ {سبح اسم ربك الأعلى} ، و{الليل إذا يغشى} هذا لفظ أبي داود.
فكون النبي -صلى الله عليه وسلم- غضب على معاذ وأنكر عليه الإطالة ولم ينكر على الرجل ولم يأمره بإعادة الصلاة دليل على أن مفارقة الإمام بهذا العذر جائزة.
أما الحنفية فقد أجازوا سلام المقتدي قبل سلام الإمام، لكن مع الكراهة، ولا تجوز مفارقة الإمام عندهم.
وقال المالكية: من اقتدى بإمام لم يَجُزْ له مفارقته.
والراجح – والله أعلم- أن مفارقة المأموم إمامه في الصلاة وإكماله الصلاة منفرداً تجوز إذا كان بعذر؛ لحديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-..
نسأل الله التوفيق لكل خير.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/1)
... ... ...
مفسدات الأخوة ... ... ...
سعد الغنام ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
ضعف الأواصر في زمن غلبة المادة – أثر ذلك على الفرد والمجتمع – نصوص الكتاب والسنة في الأخوة الإيمانية وفضلها – من كلام السلف في أهمية الأخوة – مفسدات الأخوة : (الطمع فيما أيدي الإخوان – المعاصي – عدم التزام أدب الأخوة – الخصومة والجدال – النجوى). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
ثم أما بعد:
فكم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، والملاحظ أنه مع هذه المدَنِيَّة المادية التي طغت على الناس بدأت الأوصار تضعف والألفة تتقطع، بل تفقد في بعض الأحيان، وشتان بين مجتمع تسوده الألفة والمودة والإخاء والحب، ومجتمع يشعر بالفردية، يشعر بالأنانية، فالفرد بقربه من الآخرين وقربهم منه دون انقباض ولا تكلف يعيش حياة نفسية سوية، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذات محل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة ويشعر بعزلة ـ قاسية ـ عن مجتمعه.
كثير من الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعر بذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.
انطلاقًا من هذا نحاول في هذه الخطبة والتي تليها إن شاء الله أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة في رياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث النبوية الثابتة عن النبي في مقام الأخوة في الله، والحب في الله، والإخاء في الله، ونزينها ببعض أقاويل سلف الأمة.
يقول سبحانه وتعالى ـ قبل كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الفتح:10].
ووصف نعيم أهل الجنة المعنوي أو ذكر جانباً منه: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون في القلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.
قال ـ والحديث ثابت في الصحيحين، بل هو من أشهر الأحاديث، حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))، وفي الحديث القدسي يقول فيما يرويه عن ربه: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)) يغبطهم من؟ يتمنى منزلتهم من؟ النبيون والشهداء، والحديث رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وفي الحديث القدسي الآخر يقول : ((حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ)) رواه أحمد كذلك، وهو حديث صحيح.
وقال ـ والحديث رواه مسلم، وهو حديث عظيم ـ برواية أبي هريرة: ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرسل له سبحانه وتعالى ملكًا من الملائكة في مدرجته، فلقاه في الطريق وقال: إلى أين؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
أحبه الله بحبه لفلان؛ لأنه يحبه لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى على أمثالكم قول النبي في الحديث المتفق عليه: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) وذكر منها ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) نقول هذا في وقت طغت فيه المادة، وأصبحت العلائق في أغلب الناس تقاس بالمناصب والمصالح، لعلنا أن نفكر في هذه الفضائل فنسموا بأنفسنا أن تكون علائقنا مثل علائق البهائم.
أما أقوال السلف: يقول محمد بن المنكدر ـ رحمه الله تعالى ـ كما ذكره ابن كثير في البداية، قال: لما سئل ما بقي من لذته في هذه الحياة؟ قال: "إلتقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم"، وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".
وسئل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: "لقاء الإخوان".
وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه، وقال خالد بن صفوان: "إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم". يضيعهم، يبدد إخوانه بسبب جهله بأصول المودة والعشرة.
تأمل هذه الأقوال الجميلة، آيات الله، وأحاديث رسول الله، أقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.
من الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان).
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة، هناك مفاسد كثيرة نذكر منها في هذه الخطبة:-(/1)
أولاً: الطمع في الدنيا بما في أيدي إخوانك، قال ـ والحديث ثابت عنه ـ: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس)) سبحان ربي العظيم، أحاديث نبوية يتكلم بها النبي عن ربه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى [النجم:3، 4] يتكلم عن نفوس بشرية، لا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديك تكنه وتجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيدي الناس، وقلت مرة بقول الله, أن النبي عليه الصلاة والسلام احتاج لتوجيه من هذا النوع، يقول سبحانه وتعالى لنبيه ، ونحن من باب أولى؛ ففي علم الأصول إذا نزل الخطاب بأقل الناس استحقاقًا فأكثر الناس استحقاقًا من باب أولى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تتطلع لما عند الناس وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]ولكن إذا ألمت بالإنسان مصيبة، كما قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان)، أقول إذا ألمت بك مصيبة، ونزلت به نازلة فاطلب مشورة إخوانك من أقرب الناس إليك، ممن تعزهم وتجلهم، وتشعر بأنهم يبادلونك نفس الشعور، فإن كان مؤمنًا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بقوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] تبوءا الدار أي المدينة، الذين استقبلوا المهاجرين المسلمين من صحابة النبي تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ أي مما أوتي المهاجرون من الفضائل فهم أول الناس إسلامًا، وأولهم ذكرًا في الآيات الْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ [التوبة:117] فلهم فضائل معروفة، وإن كان الأنصار فضلهم معروف، فلا يتضايقون من فضل المهاجرين عليهم، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا.
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ نزلت في أنصاري، قصته أنّ النبي يأتيه رجل يعاني من اللأواء وضيق العيش ويطلب ولو طعامًا يسد جوعته، فيستنفر الأنصار من يؤويه، فينبري أحد الأنصار رضي الله تعالى عنه وكان فقيرًا، ويأتي إلى أهله ويطلب منهم أن يصنعوا طعامًا لضيفه الذي دفعه إليه النبي عليه الصلاة والسلام، فالمرأة تقول: البيت ليس فيه إلا طعام الصبية، طعام الصبية فقط لهذه الليلة، فقال: اطبخوه وكان قليلاً، وأشغل الأطفال حتى ناموا ولم يتعشوا، وبدأ الضيف يأكل والطعام قليل، وأطفأ النور ليأكل الضيف ليشعر الضيف بأنه يأكل معه، فاستحق بهذا الصنيع أن ينزل فيه قرآن وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .
اسأله سبحانه وتعالى أن يربينا وإياكم على معاني الإسلام من إيثار وغيره، أصبح الإسلام مجرد مفاهيم، عاريةعن تطبيق إلا من رحم الله وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص:24].
إذاً إذا ألمت بك مصيبة فاطلب مشورة أخيك، لا تطلب منه حاجتك، اطلب منه المشورة، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك فسينبري لمساعدتك، لا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه, لذلك فرق العلماء بين الطمع فيما بين أيدي الناس وعرض المشكلات، عرض المشكلات، قد تشير عليه بمشورة ولا تقدم له شيئاً، وتكون هذه المشورة من أعظم ما يقدم للإنسان، تأمره بالصبر, بالاستعفاف، بأشياء كثيرة وكلها مأثورة في ديننا العظيم.
ومن الأمور التي تقدح في الأخوة وتبعثر الأصدقاء: المعاصي، المعاصي وتضييع الطاعات والقربات، والتنافس في المعاصي عياذاً بالله، سبحان الله إذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله عندما قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)) في روايتين قال : ((والذي نفس محمد بيده ما توادّ اثنان فيُفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهم)) حديث صحيح رواه أحمد.
سبحان الله، الذنوب هذه تمحق الشركات، ((فإن صدقا بوركا لهما في بيعها، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما))، والشريكان في بركة إذا صدقا، وإذا تسربت المعاصي والنيات تبعثرت الأوراق، وهكذا العلائق والإخوة.(/2)
لذلك ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "الجواب الكافي" قال: "من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه" لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، سبحان الله المعاصي قطعت العلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله فانقطعت الصلة مع أحبته في الله، سبحان الله العظيم.
وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.
أما فرسان المعاصي ورجالات المنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم من الأيام في ضحكات وجلسات وسفرات ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، سبحان الله العظيم.
ثم يكون لهم الخزي والعار يوم القيامة الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] الله أكبر، إخوة في الله في الدنيا وتواصل في الجنان عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
أسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم حبًا في الله، ويزكي نفوسنا ويرفع همومنا.
كذلك من مفسدات الأخوة عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث، فقد ترك لنا النبي منهجًا رائعًا راقيًا يبني علاقاتنا ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا ويصفي علاقاتنا، من ذلك اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان، قال سبحانه وتعالى: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا [الأسراء:53] يسميه الناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني، هذه فرصة الشيطان، يقصدك, تنقصك, يرمي إلى كذا، هل يقصد كذا؟ لذلك وجب على المتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي : ((الكلمة الطيبة صدقة))، وقال سبحانه وتعالى موجهًا إلى خفض الصوت مع الإخوان: وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]. سبحان الله، كيف الشارع يبشع التصرفات الرعناء والهوجاء يلعن ويسب ويرفع صوته على إخوانه إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ .
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.
لذلك عبد الله بن عمرو بن العاص يصف النبي بقوله: (لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا) لم يكن فاحشًا يعني لم يكن قبيحًا في قوله أو فعله ولا متفحشًا ولا يتعمد ذلك، سجية فيه الكلام الطيب، ولكن بعض الناس عياذاً بالله حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب ينثر القيءَ والصديد يمينًا وشمالاً لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه أعوذ بالله رفع الصوت والسباب والشتم والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات ويقضي على العلاقات.
كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام؛ لذلك قال أحد السلف "إن الرجل ليحدثني بالحديث ـ يعني من حديث النبي وربما بمسألة علمية ـ أعرفه قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ" ذكر هذا الذهبي في السير في المجلد الخامس عن عطاء رحمه الله تعالى.
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به
أدرى بفقه الحديث وسنده ومراميه ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.
بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا، أنا مر عليّ هذا كأنه يقول: أنت جاهل فقدرك أن تكون مستمعًا، سبحان الله العظيم.
والنبي يجلس يستمع لمن؟ لأحد رؤوس الكفر عتبة بن الربيعة يتكلم ويتكلم حتى سكت، ولما سكت لم يتكلم النبي إلا بعد هذه الجملة ((هل فرغت يا أبا الوليد)) تريد إكمال تريد حلقة تكملها، تريد استدراكاً، قال: لا، قال: ((الآن اسمع)) أدب، سبحان الله العظيم، يدعو إلى الكفر والباطل والزندقة، والنبي يدعو إلى الحق بكتاب الله ومعجزة ظاهرة، ومع ذلك يعطيه درسًا في أدب الاستماع.
كذلك من مفسدات الأخوة ـ مما يتعلق بالأدب ـ المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل، لذلك قالوا: "كثرة المزاح تجرأ السفهاء وتسقط الهيبة" مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها، لها معاني، لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا ومدروسًا ملائمًا، كثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة أو تعليقه سخيفة، أليس كذلك؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
المراء والجدال، قد تنقطع العلاقة المتينة الضاربة في الزمن بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه، وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة فلا يبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة. عياذاً بالله سبحانه وتعالى، يضرب بالعشرة والمودة لما تصل إلى ملامسة ذاته وكبريائه؛ بسبب أنه لم ينصهر بعد في بوتقة الإيمان، وفي بحبوحة العقيدة.
وصدق رسول الله ، والحديث في البخاري في كتاب الأدب، يقول: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) كثير الخصومة، افتعال المعارك الكلامية، وحب الجدال والمناظرة وإظهار الرأي، هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال ، والحديث ثابت كما ذكره أحمد والترمذي، ورمز الألباني إلى ثبوته في صحيح الجامع، قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل، يورث الجدل، سبحان الله العظيم، والجدال والمجادلة وردت كثيرًا في القرآن في أغلب سياقتها مذمومة، وارجع إلى المعجم المفهرس، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:56]. مجادل، كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه, نسأل الله السلامة، ولذلك فاستعذ بالله.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع لا بأس به، لكن إذا خرج الجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لا يريد حقاً، إنما يرد مشاغبة فانسحب بلطف وبطريقة جميلة تدل على حكمة، قال سبحانه وتعالى: وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] لا بأس، لكن الجدال بمعناه العام لا شك أنه مذموم، لذلك قال في الحج تربية فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ [البقرة:197]. سبحان الله، تخصيص بعد تعميم، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، جدال تخصيص بعد تعميم يدل على العناية، مخصوص، الجدال الذي من أجل إظهار النفس ولا طائل من ورائه لا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
وقال سبحانه وتعالى: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54] ووصف الكفار بأنهم قوم لدٌّ، كثيرو اللدد والخصومة، قالوا للنبي : شُق القمر، شَق القمر هل أسلموا؟ لا، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:1، 2]، أما صاحب الحق فيحتاج فقط إلى بيان بسيط وجلي ويقبل بدون مجادلة.
نسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن لا يجادلون إلا بحق ولأجل الحق، أقول: هذا الجدال قد يذهب بالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه، لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة فيقطع علاقة متينة لأنه أورث الجدل عياذاً بالله.
كذلك من مفسدات الأخوة: النجوى، أشياء بسيطة في ظاهرها لكن لها معاني عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة المؤسسة على كتاب الله وسنة رسوله إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ [المجادلة:10].
ما معنى النجوى؟
يفصلها النبي في الحديث الثابت في الصحيحين، يقول: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه))، قال العلماء: إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك في كلامهم، فاشترط العلماء كما أشار ابن كثير رحمه الله إلى طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة، وليس طلبه الإذن كعادة بعض الناس يأخذه بيده ويقول: عن إذنك، لا، لا بد أن تطيب نفسه قبل الشروع في الابتعاد، كأن يقول: تسمح لنا يا أخي بحديث في موضوع خاص سري بيني وبينه يتعلق بموضوع لو كان لك به علاقة لما أخفيناه عن مثلك، ليس لك به علاقة، لكن ثمة سر نكتمه كما أمر الله وأمر رسوله، فإن طابت نفسه وقال: لكم ما أردتما فلا بأس، أماأن يقول: عن إذنك وينصرف فهذا لا ينبغي, الله يقول: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ والنبي يقول: ((فإن ذلك يحزنه)).
بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ إمارات الريبة فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيب نفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث وأنه لن يذكر من بعيد ولا من قريب.
آداب نبوية مرعية لمن أراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أن يستعيذ بالله من الظنون السيئة. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
مفسدات القلب الخمسة
ابن القيم الجوزي
دار الوطن
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام. فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب.
المفسد الأول: كثرة المخالطة:
فأما ما تؤثره كثرة الخلطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما، وضعفا، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشثغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم. فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟
هذا، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية. وهل آفة الناس إلا الناس؟
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا، وقضاء وطر بعضهم من بعض، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، ويعض المخلط عليها يديه ندما، كما قال تعالى: [الفرقان:27-29] وقال تعالى: [الزخرف:67]، وقال خليله إبراهيم لقومه: [العنكبوت:25]، وهذا شأن كل مشتركين في غرضك يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً زلعنة، وذماً من بعضهم لبعض.
والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات.
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم: فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر. ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له، وتعظيم وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له، ومقت، وذم منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين. فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة، وأحمد ما لا.
وان دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه.
المفسد الثاني من مفسدات القلب: ركوبه بحر التمني:
وهو بحر لا ساحل له. وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس. فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة، تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية. وكل بحسب حاله: من متمن للقدوة والسلطان، وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمردان، فيمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه وقد فاز بوصولها والتذ بالظفر بها، فبينا هو على هذا الحال، إذ استيقظ فإذا يده والحصير!!
وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره. فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع وغرور.
وقد مدح النبي واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون لا تجعل مع الله إلاها أخر فتقعد مذموما مخذولا يكرهه. فهو مكروه شرعا وطبعا. والله المستعان.
أسباب شرح الصدور
وقال الإمام ابن القيم أيضا:
فأعظم أسباب شرح الصدر:
1- التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه. قال الله تعالى: [الزمر:22]. وقال تعالى: [الأنعام:125].
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه.
2- ومنها: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد- وهو نور الإيمان- فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب. فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه.
وقد روى الترمذي في "جامعه" عن النبي وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرا، وأوسعهم قلوبا، وأحسنهم أخلاقا، وأطيبهم عيشا.
4- ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، حتى إنه ليقول أحيانا: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذا في عيش طيب. وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن، فرؤيتهم قذى عينه، ومخالطتهم حمى روحه.(/1)
ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الأعراض عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالا، ولا أنكد عيشا، ولا أتعب قلبا. فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها، بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده بكل القلب، وانجذاب قوى الميل والإرادة والمحبة كلها إليه.
ومحبة هي عذاب الروح، وكم النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سواه سبحانه.
5- ومن أسباب شرح الصدر: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن. فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه.
6- ومنها: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما ليمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان. فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا، وأطيبهم نفسا، وأنعمهم قلبا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا، وأنكدهم عيشا، وأعظمهم هما وكما، وقد ضرب رسول الله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب، وقرة العين، وحياة الروح، فهو أكمل الخلق في هذا الشرح والحياة، وقرة العين مع ما خص في ذروة الكمال من شرح الصدر، ورفع الذكر، ووضع الوزر، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتباعه. والله المستعان.
وهكذا لأتباعه نصيب من حفظ الله لهم، وعصمته إياهم، ودفاعه عنهم، وإعزازه لهم، ونصره لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقل، ومستكثر، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وصلى الله على رسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=95 ...(/2)
... ... ...
مفهوم الأمن في الإسلام ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية الأمن والأمان في رخاء الشعوب واستقرارها. 2- الإخلال بالأمن إخلال بحياة المجتمع وهدم لأركانه. 3- وقفة مع مزعزع الأمن. 4- جاءت الحدود والعزيرات في الشريعة الإسلامية لحفظ أمن المجتمعات واستقرارها. 5- شريعة الإسلام وحقوق الإنسان. 6- شمولية مفهوم الأمن في الإسلام. 7- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ الأمن. 10 ـ أحاديث العقل كلها كذب. 11 ـ للعقول حدود. 12 ـ أصناف المخالفين للوحي. 13 ـ موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الأمن عند الخوف والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
أيها الناس:
في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً، الأمن والأمان، هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.
بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كل المنابر، لما للأمن من وقع في حس الناس، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده، ونعمة يغبط عليها كل من وهبها ولا غرو في ذلك.
وقد صح عنه أنه قال: ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
بضعف الأمن وانحلاله؛ تظهر آثار خبث الشيطان، وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس، وإقعاده بكل صراط، يوعد بالأغرار من البشر، ويستخفهم فيطيعونه؛ فيبين حذقه وإغواؤه، محققاً توعده بقوله : لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17].
إن المزايدة على الأمن والأمان في مجتمعات المسلمين بعامة، لهو مدعاة للسخرية والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة، كل ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان.
بل كل مزايدة في اختلال الأمن والأمان، إنما هو من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله، اللهازم من أبناء أمتنا وأغرارهم؛ من أجل سلب أمن الأمة المسلمة ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة.
إن المرء المسلم في فسحة من دينه، عن أن يزج بنفسه في مهاوي الرذيلة ومحال الريب.
ومزعزع الأمن ومخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته، قبل أن يزعزع أمن غيره من الناس.
كل هذا يبدو واضحاً جلياً، في مثل كأس خمر، أو قتل نفس، أو جرعة مخدر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، بمثل ذلك ينسلخ مواقع مثل هذه الأمور عن إنسانيته وإسلاميته، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك، والفاحشة والإضلال بالمسلمين؛ فيشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن ويروع المجتمع، ويبدد أمنهم شذر مذر.
إنه متى امتد شذوذ المرء ليشمل الآخرين، ويمس من أهله ومجتمعه فإنه لا محالة، يعرض نفسه لحتفه بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، وإلا لو فكر مزعزع الأمن ملياً في مصير والده ووالدته حينما تأخذهما الحسرات كل مأخذ، وهما اللذان ربياه صغيراً، يتساءلان في دهشة وذهول، أمِن المعقول أين يكون من ولدناه تحت ناظرنا معول هدم لأمن المجتمع وصرحه؟!!
أما يفكر مزعزع الأمن في زوجه وأولاده الذين يخشى عليهم الضياع من بعده والأسى من فقده؟! ألا يشعر بأن زوجه أرملة -ولو كان حياً؟!-.
أو ما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له عرق ينبض؟!
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
أولا يفكر مزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف محل القوة، والهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء؟!
حيث لم يعد يؤنسه جليس ولا يريحه حديث، قلق متوجس، كثير الالتفات. فكيف يصل إلى منشوده ومبتغاه؟! بعد أن يسأم الحياة بفعله الشاذ، والذي سيجعله قابعاً في غياهب السجون بسبب جرمه ، فضلاً عما يخالج أنفاسه وأحاسيسه، من ارتقاب العقوبة كامنة عند كل طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه وتغييبه من هذه الحياة.(/1)
ولا غرو في ذلك، فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
وقديماً قيل: القتل أنفى للقتل.
أيها المسلمون: من أجل استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص.
بل إن من المسلّم في الشريعة، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات المتحضرة.
فحفظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي على من شفع في حد من حدود الله بعدما بلغ السلطان، وأكد على ذلك بقوله: ((وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
وما ذاك أيها الناس، إلا من باب سد الذريعة المفضية إلى التهاون بالحدود والتعزيرات، أو التقليل من شأنها.
وإنه حين يدب في الأمة داء التسلل الأمني؛ فإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة، والآمال المرتقبة.
وهم يخدمون بمثل هذا - عن وعي أو عن غباء – الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال خرقاء تزيد السقم علة، والطن بلة؛ فيطاح بالمسلمين، وتوصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة.
ومثل هذا ظاهر جلي في طرح الدعوات الصارخة لما يسمى بمبادئ حقوق الإنسان، والتي تجعل من فتح الحريات، وعتق الرغبات، رفضاً باتاً للفطر السليمة، وسبباً مباشراً تدمر به الأخلاق المستقيمة؛ ومن ثم يزعمون أن من خالف ذلك فهو ضد الإنسان والإنسانية، وضد الحقوق الشخصية والرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، ولا هي من بابتها، فلا تمت لها بخيط رقيق، ولا حبل متين.
بل إن ما ينمق حول ذلك ويذوق مُرّ العاقبة وإن حلا ظاهره، وصعب المرتقى وإن سهل ترويجه، وذميم الطرح مهما بدت للاهثين دماثته.
لقد سفهت دعوات حقوق الإنسان أحكام الشريعة، فوصفت إقامة الحدود بالسفه والحطة والغلظة. دعا أهلها إلى حفظ حقوق الإنسان فقتلوه من حيث أرادوا حفظ حقه، أخرجوه من القيود الشرعية حرصاً عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنهم إن ما كانوا ينادون بحفظ حقوق الإنسان المجرم، فإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون: القاعدة المقررة تقول: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولأجل أن نعرف حقيقة الأمن وصورته فلابد أن تكون هذه المعرفة متصفة بالشمولية، وأن لا تكون ضيقة العطن، مستهجنة الطرح، من خلال قصر بعض الأفهام حقيقة الأمن على ناحية حماية المجتمع من الجرائم فحسب، وأن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشرط والدوريات الأمنية في المجتمعات بعامة. كلا، فالحديث عن الأمن ليس مقصوراً على هذا التصور البسيط، إذ الحقيقة أشد من ذلك والخطب أعظم.
بل إن المواطن نفسه – رجلاً كان أو امرأة – ينبغي أن يكون رجل أمن، ورجل الأمن ما هو إلا مواطن صِرْف.
فإذا استحضرنا هذا التصور بما فيه الكفاية، وجب علينا بعد ذلك أن نعلم شمولية الأمن، وأنه ينطلق بادي الأمر في عقيدة المجتمع، وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن كل ما من شأنه أن يوقع أفراده في الخوف بدل الأمن، والزعزعة بدل الاستقرار.
فأول الواجبات الأمنية : البعد عن الشرك بالله في ربوبيته، أو ألوهيته، أو حكمه، أو الكفر بدينه، أو تنحية شرعه عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرع غير شرعه معه بالغة ما بلغت المبررات المغلوطة. الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الأمن بهذه الصورة هو المطلب الأول، وهو الذي تتحقق به الصلة بالله جل وعلا، والتي بسببها يعم الأمن إرجاء المجتمعات، وتتحقق وعد الله لها بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور:55]. فكان الجواب التالي لذلك يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
والشرك هنا غير مقصور على مجرد عبادة الأصنام، كما يتصوره البعض، فيخرجون معنى هذه الآية عن صور شتى في هذه الأزمنة.
فكلمة شَيْئاً نكرة في سياق النهي؛ فتعم جميع صور الشرك مهما قلّت، ألا تسمعون قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وقد ذكر الإمام أحمد -رحمه الله -: أن الفتنة هنا هي الشرك.
ثم إن مما ينبغي علينا اتجاه مفهوم الأمن ألا ننحيه عن مراكز القوى في مجتمعاتنا، أو نتجاهل أثر هذه المراكز في تحقيق معنى الأمن بصورته الأساس.(/2)
فهناك ما يسمى بالأمن الغذائي، وما يسمى بالأمن الصحي الوقائي، وهناك ما يتعلق بالضوابط الأمنية في مجال التكافل الاجتماعي، وتهيئة فرص العمل والإنتاج، والقضاء على البطالة المثمرة الخلل والفوضى، إضافة إلى النواح الأمنية المنبثقة من دراسة الظواهر الأسرية وما وما يعتريها من ثقوب واهتزاز في بُنيتها التحتية، لأن الأمن بين الجنسين وبالأخص بين الزوجين هو سبب ولاشك من أسباب أمن العشيرة، وأمن العشيرة أمن للأمة، المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج.
فهذا الأمن المترابط هو الذي يتكون منه مزاج الأمة الأمني.
كما يجب علينا أن لا نغفل عما لا يقل أهمية عن ما مضى، بل إنه في هذه العصور يعد هاجساً أمنياً لكل مجتمع، ألا وهو الأمن الفكري، الأمن الفكري الذي يحمي عقول المجتمعات ويحفظها من الوقوع في الفوضى، والعَبِّ من الشهوات بنهم، أو الولوغ في أتون الانسلاخ الأخلاقي الممزق للحياء الفطري والشرعي.
الأمن الفكري – عباد الله – ينبغي أن يتوج بحفظ عنصرين عظيمين؛ ألا وهما: عنصر الفكر التعليمي، وعنصر الأمن الإعلامي، إذ يجب على الأمة من خلال هذين العنصرين ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب، والتي هي بدورها تطمس هوية المسلم، وتفقده توازنه الأمني والاعتزاز بتمسكه بدينه، إذ إن الأمن على العقول، لا يقل أهميته عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين، وللأموال كذلك؛ فإن للعقول لصوصاً ومختلسين.
بل إن لصوص العقول أشد خطراً، وأنكى جرحاً من سائر اللصوص.
فحماية التعليم بين المسلمين من أن يتسلل لِواذاً عن هويته، وحماية التعليم في إيجاد الآلية الفعالة في توفير سبل العلم النافع؛ الداعي إلى العمل الصالح، والبعد عن التبعية المقيتة، أو التقليل من شأن العلوم النافعة، والتي لها مساس أساس في حياة الأمم، من الحيثية الشرعية الدينية، التي يعرف بها المرء ربه، وواجبه المفروض عليه، أو التهوين من شأن علوم الدين أو استثقالها على النفوس، لمن شأن ذلك كله أن تضعف المجتمعات بسببه، وأن تندرس معالم الأمن الفكري فيه إبّان عصر التحكم المعرفي، والاتصالات العلمية والثقافية التي غلبت على أدوار الأسر والبيئات، التي تنشد الصلاح العام.
أما الفكر الإعلامي – عباد الله – فهو مقبض رحى المجتمعات المعاصرة، وأقنومها الأساس، به يبصر الناس وبه يغربون، به تخدم قضايا المسلمين وتنصر، وبه تطمس حقائقها وتهدر.
بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة، المجتمعات المثلى من المجتمعات الناكبة.
فما يكون في الفكر الإعلامي من اعتدال وكمال، يكون كمالاً في بنية الأمن الإعلامي واعتدالاً، وقرة عين لمجموع الأمة بأكملها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال فإنه يكون مرضاً للأمة، يوردها موارد الهلكة والتيه.
وحاصل الأمر – عباد الله – أنه ينبغي علينا جميعاً، أن ننظر إلى الحقيقة الأمنية من أوسع أبوابها، وأقرب الطرق الموصلة إليها، بل لا نُبعد النجعة إن قلنا : ينبغي على المسلمين جميعاً ألا يغفلوا جانب أسلمة الأمن الفكري.
فالإسلام هو دين السلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ولله، ما أعظم قول النبي لعظيم الروم: ((أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم تسلم)).
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون.
ثم اعلموا أن من أهم الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية من كافة جوانبها، دون كلفة أو تجنيد وإعداد؛ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فإن ذلك عماد الدين الذي فضلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يسد من خلاله خوخات كثيرة من مداخل الشر على العباد.
بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر.
وبفقد ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس، يعني بداهة حلول الفوضى، وانتشار اللامبالاة المولدة للأمن العكسي، وهو الأمن من مكر الله، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].(/3)
بالأمر والنهي – عباد الله – يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائي الذي يسقط التبعة والإثم عن بقية المجتمع، وإلا يتحقق فينا قول الباري جل شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]. ولم يقل وأهلها صالحون؛ لأن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة.
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بين المسلمين، إنما هم في الحقيقة يقومون بمهام الرسل في أقوامهم وذويهم.
فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].
إن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود، ومعرة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده؛ فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164].
فلما لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناجين بقوله: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء [الأعراف:165]. وسكت عن الساكتين.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس – رضي الله عنهما – والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟ جعلني الله فداك، فقال: (هؤلاء الورقات)، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: (ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت : تلك أيلة، فقال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت! نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ ؟ [الأعراف:166]. فسري عنه، وكساني حلة).
إذاً ينبغي لأفراد الناس عموماً، وأهل العلم بخاصة؛ أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، حكمة، وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ثم إنه لا يمنع من التمادي في الوعظ والنصح والإصرار عليه عدم قبول الحق منه؛ لأنه فرض فرضه الله علينا جميعاً، قُبل أو لم يُقبل، فإن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبه تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة.
والله الهادي إلى سواء السبيل. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
مفهوم التشبه بالكفار
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى، واشكروه على أن جعلكم خير أمة أخرجت للناس، فإن أمة محمدٍ هي خير أمة، وحزبَه هم أعزّ حزب، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (8) سورة المنافقون.
لقد جاء دين الإسلام آمرًا أتباعه بالبعد عن كل ما فيه تقريب من الشرك، وجاء بالنهي عن كل ما فيه مشابهة للمشركين أو مماثلة لهم.
ولقد كان من علامات تميز هذه الأمة عن غيرها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علل كثيرًا من الشرائع والأحكام بمخالفة اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر، مما يدل على أن مخالفة الكافرين مقصد شرعي.
وتأكيدًا لهذه العزة وهذا التميز لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد نهى الله تعالى المؤمنين عن اتباع سبيل الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين، وغيرهم من أمم الكفر، فنهى الله أهل الإسلام عن التشبه بالكفار، وعن تقليدهم والتبعية لهم، فقال جل وعلا: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} (48) سورة المائدة. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) سورة الأحزاب. ولا شك عند أولي الأبصار أن تقليد الكفار والتشبه بهم من أعظم صور الطاعة لهم، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مشابهة الكفار في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أبو داود وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تشبه بقوم فهو منهم".
ففي هذا الحديث غاية التحذير ومنتهى التنفير عن مشابهة الكفار.
وقال -صلى الله عليه وسلم- في بيان خطورة التشبه: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى".
عباد الله:
إن مفهوم التشبه بالكافرين لا يقتصر على صورة واحدة, أو صوراً محدودة, بل الأمر أكبر من ذلك، فهناك صور وأشكال عديدة للتشبه المذموم الذي يخل بعقيدة الولاء والبراء والذي يؤدي إلى تفسخ الأخلاق, والسير في ركاب أولئك الفجرة وقد يؤدي إلى الخروج عن دين الإسلام في بعض الأحيان والعياذ بالله -تعالى- لما يترتب على ذلك التشبه من الولاء لغير المؤمنين وعدم البراءة منهم, ومن تلك الصور المزرية التي يجب على المسلم اجتنابها والتحذير منها:
- العصبية إلى قوم أو إلى مذهب أو إلى بلد أو قبيلة، وهذه العصبيات البغيضة جعلت المسلمين في هذا الزمن يرفعون لواء القوميات المقيتة والوطنيات الضيقة التي جعلت المسلمين شعوبًا وفرقتهم أممًا، ناهيك عمّن يشمخ بأنف الكبر والخيلاء لأنّه من قبيلة كذا وكذا، يوالي ويعادي على ذلك.
ومن صور التشبه المنتشر في هذا الزمان: تبرج النساء والافتتان بهن، وهذا -وربي- من أفتك الأمراض الخُلُقية التي تبتلى بها الأمم وتنهار بسببها الحضارات، وتبرّجُهن سمة الكفار، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(33) سورة الأحزاب، والفتنة التي ابتلي بها بنو إسرائيل كانت في النساء, ففي الحديث: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".
ولا يخفى على من له أدنى بصر السباقُ المحموم الذي تتسابقه كثير من النساء لهثاً وراء موضات الغرب ركضًا في كشف ما أمرت بستره، رويدًا رويدًا حذو القذة بالقذة.
ومن صور التشبه بالكفار –أيضاً يا عباد الله- الاحتفال والاحتفاء بأعياد الكفار وكذا الأيام والأسابيع التي ابتدعوها، وهي مما تساهل فيه المسلمون، فمن ذلك الاحتفال بالمولد النبوي إلى الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وكذلك الأعياد الوطنية والقومية التي تزداد يومًا بعد يوم بين المسلمين، وكذا أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية, وكذا عيد الحب الذي هو من آخر ما ابتليت به أمة الإسلام، الذي يحتفي به قِطاع من شباب الأمة وفتياتها، يرتدون فيه الملابس الحمراء ويتبادلون الورود الحمراء، سبحان ربي!! تشبّه ظاهر ومعلن، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (72) سورة الفرقان, قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أعياد المشركين".(/1)
بل وصل الأمر إلى أن تجد بعضهم يستسهل تهنئتهم بأعيادهم ومناسباتهم، يقول ابن القيم-رحمه الله-: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه". انتهى.
ومن التشبه الخطير -أيها الناس-: تقليد الكفار بلباسهم، ويا لله؛ هذا بحر لا ساحل له، ألوانه شتى، ونماذجه هنا وهناك، نرى بأم أعيننا محاكاتهم للكفار وتقليدهم فيها. إنك لتأسى عندما ترى عددًا من شباب الأمة الذين هم أملها يتشبهون بالكفار في لباسهم، بل يشهرونها ويعدّونها تحضرا ومدنية وأناقة وتقدمية. انظر إلى قبعاتهم التي يرتدونها على رؤوسهم وسراويلهم الضيقة التي تصف العورة, ألا فليعلم هؤلاء أن هذه من خصائص بني يهود في لباسهم، وانظر إلى فنايلهم التي تعجّ بالكلمات الأعجمية وقد يكون منها ما هو دعوة للزنا أو الحرام وهو لا يعلم، بل يعلق بعضهم على صدره صور أهل الفسق والمجون وغير ذلك من الموديلات القديمة والحديثة، والله المستعان.
فأين هؤلاء من رسول الله!! كما في صحيح مسلم عندما رأى على رجل ثوبين معصفرين قال له: "إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها". وهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب للمسلمين وهم بأذربيجان: (إياكم والتنعم وزي أهل الشرك).
وإن مما انتشر بين المسلمين من صور التشبه الممقوت تعلم لغة الكفار من أجل الشهرة لا من أجل الدعوة، وسبحان ربي! أصبح بعض المسلمين يحيي بها ويختم لقاءه بها، بل بدأت بعض كلماتهم تتخلل بعض كلمات المسلمين، وكأنه يرى هذا تمدّنا وتقدما، سبحان الله! أين هؤلاء من قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (إياكم ورطانة الأعاجم)؟! والسلف -رحمهم الله -كانوا يكرهون التكلم بغير العربية أشدّ الكراهية وينهون عنه إلا إذا كان في تعلمها مصلحة وحاجة فهذا جائز، ومما زاد الطين بلةً -إضافةً إلى تعلم لغتهم والتحدث بها- أن انتشر التسمّي بأسماء الغرب والتكني بكناهم والتلقب بألقابهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كذلك من صور التشبه بالغرب الكافر: وصل الشَعر وتقليد الكفار بتسريحات الشعر.
إنك لو نظرت إلى بعض البلدان لرأيت عجباً, قصات عجيبة وتسريحات غريبة تُعدّ بمال كثير، وما علم أصحابها –خاصةً النساء- أنهن يحصدن الذنوب بها، رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ناهيك عن شباب الأمة الذين يفترض فيهم الخشونة، إنك لترى أشكالاً غريبة من قصات رؤوسهم، حتى إنك إذا رأيته شككت هل هو من المسلمين أم هو من بلاد الغرب!!.
ومن تقليد الكفار -يا عباد الله- حلق اللّحى وإعفاء الشوارب، وهذا تشبه بالمشركين والمجوس وغيرهم، وفي صحيح مسلم يقول -عليه الصلاة والسلام-: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس"
ومن التقليد الأعمى للكفار: تربية الكلاب واقتناؤها لغير حاجة، ولا شك في حرمة ذلك إلا كلب الصيد والماشية أو الحرث، كفاك أن من رباه لغير حاجة ينقص من أجره كل يوم قيراط، كما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن مظاهر التشبه بالكفار-أيضاً- الموسيقى والغناء، ولا يشك شاك في حرمتها لتوافر الأدلة في ذلك، سواء كانت عربية أم عجمية، وإنك لا تدري أتضحك أم تبكي عندما ترى شابًا يرفع صوت مسجلته على أغنية غربية لا يعلم معناها!! ولكن الشيطان يحركه، بل قد يكون فيها سب لدينه وأهله وهو لا يعلم!!
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا: " لتتبعنّ سنن من قبلكم، شِبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضَب لسلكتموه!" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟! قال: "فمن؟!".
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي العظيم, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى صراط الله المستقيم.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فإن المتأمل في النصوص الشرعية يتبين له أن مخالفة الكافرين مقصودة للشارع في جميع الشؤون، فليس النهي عن مشابهتهم في عباداتهم أو عقائدهم فقط، بل هو عام في عاداتهم وآدابهم وأخلاقهم وجميع شؤون حياتهم.
عباد الله:
إن مما ينبغي التنبه له أن مشابهة أهل الكتاب ومشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم توجب عند المسلم نوعَ مودة لهم -ولا شك- وإننا لندرك أن فئامًا ممن يتشبهون بالكفار في لباسهم أو سلوكهم أو عاداتهم أو يتكلمون بلغتهم أنهم تميل نفوسهم إلى حبهم وتقديرهم, والإعجاب بهم والفرح لفرحهم والحزن لحزنهم.(/2)
إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن,كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر, وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة, حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم, وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين؛ وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة, بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما, وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا مالا يألفون غيرهم, حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة إما على الملك وإما على الدين, وكذلك تجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض, وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها, إلا أن يمنع عن ذلك دين أو غرض خاص, فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟!! إن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة.
إن المسلمين -أيها الناس- أهدى الناس طريقًا, وأقومهم سبيلاً, وأرشدهم سلوكًا في هذه الحياة، وقد أقامهم الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }(143) سورة البقرة.
فكيف يتناسب مع ذلك أن يكون المسلمون أتباعًا لغيرهم من كل ناعق، يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم؟!! ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى المسلمين جميعًا أن يتلقوا عن أهل الكتاب، فعن جابر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ثم قال: "أوَفي شكٍّ يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقٍ فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به, والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني"
لقد جاءت أوامر الشريعة -يا عباد الله- ناهيةً عن كل ما فيه مشابهة حتى في أخص عبادات المسلمين ومعاملاتهم، أفيرضى عاقل بعد ذلك أن يوافق اليهود أو النصارى أو غيرهم في أعيادهم وأكاذيبهم؟!
لما صلى رسول الله في مرضه جالسًا وصلى خلفه الصحابة قيامًا أشار إليهم فقعدوا، فلما سلموا قال: "إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمّوا بأئمتكم" ولما كثر الناس بالمدينة اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا, فلم يعجبه ذلك, قال: فذكر له القنع -يعني البوق كما في رواية البخاري- فلم يعجبه ذلك وقال: "هو من أمر اليهود!" قال: فذكر له الناقوس فقال: "هو من أمر النصارى" إلى أن أُرِي عبد الله بن زيد الأذان في منامه.
ولما جاء عمرو بن عبسة السلمي -رضي الله عنه- إلى رسول الله ليخبره عن الصلاة، قال له: "صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار", ثم قال: "وصل العصر بعد الفيء ثم أقصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطانٍ وحينئذٍ يسجد لها الكفار"، فنهاه النبي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنه وقت يصلي فيه الكفار.
عباد الله:
لابد قبل الختام من التنبيه إلى أن المقصود بعدم التشبه به من أعمال وأخلاق الكافرين هو ما يكون بسببه اندثار الدين والقضاء على الشريعة وفساد الأخلاق, وما يتعارض مع أحكام الإسلام، وما فيه ذلة واستكانة واحتقار للمؤمنين، وأما ما لم يكن كذلك فلا يمنع الشارع منه كالمشاريع التي تعود بالخير والفائدة على الإسلام والمسلمين في المجال الصناعي والتكنولوجي والخبرات المهنية وغيرها.
هذا وصلى الله وسلم على البشير النذير, والسراج المنير, الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
انظر:سنن أبي داود حديث رقم 4031 (2/441) قال الشيخ الألباني: (صحيح) كما في صحيح الجامع رقم: 2831.
رواه الترمذي برقم 2695(5/56), وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 5434 .
رواه مسلم برقم 2742 (4/2098) وأحمد برقم11185(3/22).
الدر المنثور للسيوطي(6/282) ط: دار الفكر - بيروت، 1993(/3)
أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية (1/441) ط: دار ابن حزم - الدمام – بيروت, الطبعة الأولى، 1418هـ – 1997م
صحيح مسلم حديث رقم 2077(3/1647).
صحيح مسلم حديث2069(3/1641).
رواه مسلم رقم 260 (1/222).
رواه البخاري برقم: 3146(3/1207) ومسلم برقم:1574(3/1201) وفي بعض الروايات لهما:" قيراطان"
رواه البخاري رقم 3269(3/1274)
راجع كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم: مخالفة أصحاب الجحيم) لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني -رحمه الله تعالى–. مطبعة السنة المحمدية – القاهرة - الطبعة الثانية، 1369هـ.
رواه الإمام أحمد في مسنده برقم 15195(3/387) وابن أبي شيبة في مصنفه برقم 26421(5/312), وقد حسنه العلامة الألباني في كتابه إرواء الغليل برقم" 1589"
رواه مسلم برقم" 413"(1/309)
رواه أبو داود برقم 498(1/188) وأصله في الصحيحين.
رواه مسلم برقم 832(1/569).(/4)
مقارنات في الاختبارات
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
مقارنات في الاختبارات ؛ لأن طلابنا يبدءون غداً في الاختبارات ، وهي اختبارات عندنا مهمة ، ولها من الاستعداد والإعداد والتهيؤ ما لها .
غير أن أمتنا تمر باختبارات أكبر وأصعب ، دون أن يكون هناك ما يكافئ هذه الاختبارات من الاستعدادات .
ولعلنا نعرف ما ذكرته مراراً وتكراراً من أن القضية الأولى والمسألة الأعظم والاختبار الأصعب الذي تمتحن فيه الأمة في إيمانها وعقيدتها ، وفي سيادتها وإرادتها ، وفي مبادئها وأخلاقها وحضارتها.
هو الاختبار على أرض فلسطين وفي قضية الأقصى .
وها هنا وقفات سريعة ، ننظر فيها بين اختبارات طلابنا واختبارات أمتنا :
أولاً: التهيئة والاستعداد
في اختبارات الطلاب تهيئة أسرية يعنى بها الآباء والأمهات يهيئون الأجواء ويوفرون أسباب الراحة ، ويقدمون الخدمات ، ويخففون التبعات والمسؤوليات على الأبناء والبنات ؛ فإن سألتهم: ما لكم ؟
قالوا : إنه موسم الاختبارات .
ونجد كذلك استعداداً اجتماعياً فالمجتمع كله يراعي ذلك ، فلا ترى المناسبات ولا المباريات ولا المشاركات المعتادة في سائر الأوقات فإن سألت: لماذا ؟
قالوا: لأنه موسم الاختبارات.
ترى أيضاً تهيئة واستعداداً إعلامياً فلا ترى كثيراً من البرامج واللهو والترفيه المعتاد ، بل تجد الدروس والتذكير والندوات والمساءلات في قضية الاختبارات.
وترى كذلك تهيئة واستعداداً نفسياً: كل هذه العوامل توطد في نفوس الطلاب أن يثقوا بأنفسهم ، ألا يتهيبوا تلك الاختبارات ، أن يقووا عزائمهم ، أن يعلوا هممهم ، أن يوطنوا أنفسهم على أن يبذلوا الجهد ويواصلوا المسير حتى يجنوا النتائج والثمار .
كلنا يدرك هذه الأجواء ويعرفها.
فكيف والأمة في اختبارها الصعب ؟ ومرحلتها المريرة التي تستهدف وجودها وإيمانها والتي تعادي مناهجها وأخلاقها والتي تريد اجتثاث جذورها وأصولها ؟
هل ترون الأسر تستعد بمثل هذا الاستعداد ؟
أم أننا نرى غير ذلك ، أسر مضيعة لمهمات التربية وآباء مهملون لصناعة الأجيال وأمهات متخليات عن صناعة صانعات الأجيال .
كم نرى في المجتمع كذلك من مجتمعات منشغلة وراء لقمة العيش أو الكدح في هذه الدنيا ؟
أو منشغلة بأمور عارضة واهتمامات دنيا فتلك هي مواسم ومسابقات الرياضات ، وتلك هي مهرجانات الفنون والأفلام والتمثيليات ، وتلك هي وسائل الإعلام التي تصمّ الآذان وتفجع العيون وتدمي القلوب وتحزن النفوس بكل لهو رخيص وتفاهة مغرية وسخافة مضللة عن معالي الأمور ومهامها.
فهل أمتنا تستعد للاختبارات العصيبة بمثل تلك الاهتمامات الهزيلة ؟
إنها وقفات ومقارنات لا أحتاج فيها إلى كثير من التعليقات ، ولكنها تحتاج منا جميعاً إلى كثير من التأملات والمراجعات والتقويم والتصحيحات .
ليس على المسار العام الذي دائماً ما نلقي عليه بالتبعات بل على مسارنا الخاص ، وعلى تكويننا النفسي والقلبي ، وعلى أدائنا الأسري والتربوي ، وعلى معايشتنا الحياتية والمادية فضلاً عن طموحاتنا وآمالنا ، فضلاً قبل ذلك كله عن إيماننا واعتقادنا ومبادئنا وأخلاقنا.
كيف نخوض خضم هذه العولمة الجارفة التي يراد بها تغيير الثقافة والأخلاق والفكر ونحن لا نهيئ شيئاً لتلك المواجهة ولا للاختبارات العصيبة الرهيبة ؟ .
فهل هذا إنصاف؟ وهل هذا معقول؟
ونحن ندرك أن هذه الأمة هي الأمة التي اصطفاها الله - عز وجل - واختارها لتؤدي أعظم دور وتقوم بأجلى وأسنى وأبقى وأعظم رسالة في هذه الوجود:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه } [ آل عمران: من الآية110 ].
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة: من الآية143 ] .
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ) .
ثانياً : الجد والاجتهاد
صورة حيّة واقعية في اختبارات طلابنا الوقت مستغرق في الاختبارات والجهد مبذول فيها والفكر منشغل بها والإمكانيات مسخرة لأجلها ، وكل شيء في هذه الأوقات عند الطلاب منصب في هذا الهدف فإن قلت : لماذا ؟ قالوا: لأهميته.
وإن قلت: لم هذه الجهود المضنية وسهر الليالي وإنحال الجسم وترك الراحة؟
قالوا: لأنها معمعة يوشك بعدها أن نخرج إلى النجاح والتقدم والاطراد.
ونحن نريد نصراً مؤزراً وعزاً مؤفلاً ومجداً فاخراً .
وأمتنا تنشد تاريخها وتستدعي مآثرها دون بذل جد ولا جهد ولا اجتهاد دون أن تسخر لذلك الإمكانيات .. دون أن تنفق فيه الأموال .. دون أن تسهر فيه الليالي .. دون أن تتضافر فيه كل الجهود وأن تجتمع كل الحشود .
لكي تتجاوز المرحلة العصيبة والفترة القاتمة من تاريخ أمتنا ومن المواجهات الصعبة التي تتحداها.(/1)
وذلك أمر أيضاً نره في غير مساره الصحيح في جملة من أحوال أمتنا .
أين الأوقات مبذولة؟
حتى في ميادين الحياة العملية ، وتقول بعض الدراسات التي تقيس مدى إنتاج الموظف والعامل في بلاد عربية وبلاد إسلامية وبلاد غير إسلامية أو عربية .
فنجد التفاوت العظيم والبون الشاسع ، فلا أوقاتنا مبذولة حتى في تقوية أمورنا المادية.
وأين نحن من بذل الأموال في الأبحاث العلمية والتقدم التقني ؟ وأين نحن من بذل الجهود الفكرية في معالجة أوضاع أمتنا المختلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وغير ذلك ؟ أين نحن من هذا كله ؟
ونحن نرى الاجتماعات والمؤتمرات ونرى الجهود والأوقات ونرى غير ذلك يصرف فيما أشرت إليه من بعض تلك الجوانب التي ذكرناها .
والحق - جل وعلا – يقول :
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [ التوبة: من الآية105 ].
إنه ميدان العمل الذي كفاءه وجزاءه يكون يوم القيامة.
إن من لا يقدم عملاً لا ينال ثمرة .. إن من يريد النتائج وهو ينام ملء جفنيه ويأكل ملء ماضغيه ويرتاح ملء جنبيه ؛ فإنما هو حالم واهم لا يجني إلا ما يجنيه القابض على الهواء .
وينبغي أن ندرك ذلك:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله **** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
كيف نريد أن نعود أمة رائدة قائدة - كما هو الشأن الذي كان لنا وكما هو الواجب المنوط بنا - دون أن نبذل شيئاً يكافئ ذلك ؟ ألا نستحضر تاريخ أمتنا ! ألا نستحضر سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ! ألا نستحضر الأمة التي شرقت وغربت وجاهدت وبذلت الأنفس والأرواح وعمرت الدنيا وأسست الحضارة وتفوقت في العلوم ! أ ليس هذا هو ميدان الاختبار؟!
ونحن نرى أمتنا في مجمل أحوالها متخلفة في ميدان العلم متأخرة في مجال التكنولوجيا متراجعة في مجالات الفكر متأخرة ومتراجعة في كثير من هذه المجالات دون جد ولا اجتهاد.
وثالثاً : المراجعة والمذاكرة
فطلابنا اليوم يعودون إلى أول درس وإلى بداية المنهج ، يمرونه صفحة صفحة ، يقرؤونه درساً درساً ، يراجعونه وحدة وحدة من البداية إلى النهاية .
لأن المنهج لا يكون إلا متكاملاً ؛ لأن المنهج لابد أن يستوعب استيعاباً شاملاً .
وفي كل ذلك يمرون على معرفة الأخطاء السابقة ، ويراجعون الاختبارات السالفة ويرون كيف مرت بهم تلك الدروس وفاتهم فقه بعضها ومعرفة بعض أسرارها، كيف مرت بهم تلك الاختبارات وعثروا في بعض الإجابات وأخفقوا في تحقيق بعض النتائج.
وكل ذلك يدخرونه لكي يتهيئوا لهذا الاختبار النهائي الكبير.
ونسأل: هل في أمتنا مراجعة لمنهجها من أوله إلى آخره ؟ وهل لها في ذلك مذاكرة ومشاورة ؟ وأهم من ذلك هل تعي دروس الماضي؟ هل تراجع الاختبارات وما كان فيها من نجاحات أو اخفاقات ؟
أم أنها تمر على ذلك مر الكرام ترسب في اختبار مدريد لتواصل الرسوب بعد ذلك في اختبار أوسلوا لتواصل المسيرة المنحدرة في المستوى الهابط فيما يأتي بعد ذلك في صورة تبين أن الإجمال لهذا الحال الذي يتصدر فيه من يتصدر في أمتنا.
يدل على ألا مراجعة وألا مذاكرة وألا منهج يقود ولا رؤية تسدد ولا قواعد تضبط ولا مناهج تقود الأمة في قياداتها المتصدرة لمهامها العظمى كما ينبغي أن يكون عليه الحال.
عجباً وقد هزمت أمتنا في ثمانية وأربعين من قبل شراذم عصابات اليهود - عليهم لعائن الله - وكان درس الفرقة وكان درس المؤامرة .
ثم تكرر درس النكبة في الخيانة العظمى والمؤامرة الكبرى في سبعة وستين.
ثم توالت الحيل وتواصلت الإخفاقات فيما بعد ذلك ، دون أن نعي دروس الكذب والمراوغة دروس الغدر والإجرام دروس المفاوضة والمناورة.
فأنت صاحب حق وصاحب دار يأتيك ضيف إن اعتبرته ضيفاً فيحل ولا يخرج ثم يدعي أنه صاحب المنزل ثم يطردك ثم يفاوضك على أن يكون لك مكان خارج الدار أو بعد ذلك يمنّ عليك أن يجعلك في فنائه ولكنك تحت قوته وسطوته ثم يقول لك بعد ذلك: كيف تطلب أكثر من هذا؟
ونرى كيف دارت الأمور ، حتى أصبحت اليوم هذه القضية الإسلامية الإيمانية العقدية التي تمثل بؤرة المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه .
أصبحت اليوم تقاس بالأشبار والأمتار وتقاس بالطرقات والشوارع بعد أن كانت قضية الإيمان والعقيدة قضية الحق الثابت وقضية المبدأ الراسخ.
وأمر رابع: وهو التوقع والاحتياط
الطلبة عندما يذاكرون يستعدون لكل شيء يتوقعون أن يأتي السؤال في أي باب من الأبواب يتوقعون أن تأتي الأسئلة في غاية الصعوبة ، لا يعيشون على أوهام وأحلام فيذاكر أحدهم درساً واحداً ويقول: ستأتي الأسئلة كلها فيه ويقول: ستأتي الأسئلة كلها سهلة ويقول: سيعطوننا الدرجات وننجح .
ماذا نَصفُ هذا الطالب ؟
إنه قطعاً طالب غبي وطالب خائب ومصيره معروف إلى الرسوب ولابد قطعاً.
ولكننا نجد بعض الأحوال في هذه القضية وقد حصرت الدرس والاختبار كله في درس واحد وفي سؤال واحد أعدت له إجابة واحدة لجميع الأسئلة .(/2)
وهذا ما نراه في قضية فلسطين اليوم في مشهدها السياسي المعلن العام دون ما سنشير إليه في آخر حديثنا.
يقولون: الحرب.
السؤال الأول : ما هي الحرب؟
الجواب : فنقول في تعريفها وجوابها: هي السلام .
السؤال الثاني : ما هي أدوات مقاومة الأسلحة والطائرات؟
الجواب : ويكون الجواب: هو السلام.
السؤال الثالث: ما هي الوسيلة الناجحة لمواجهة تهديم البيوت وقتل الأطفال وتشريد الناس؟
الجواب : فيكون الجواب هو السلام.
ونظن أن النتيجة ستكون نجاحاً بامتياز ! وهذا حال الطالب الخائب الذي ذكرته ولا يحتاج الأمر إلى بيان .
ولو أننا نفقه من سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مراجعة الدروس واستحضارها لوجدنا كيف تدرج - عليه الصلاة والسلام - مع اليهود أنفسهم عندما كان غدرهم في أول الأمر في دائرة معينة وفي اعتداء على امرأة مسلمة. كانت العقوبة والإجابة في حصار وإجلاء مع سلامة الأرواح والأنفس ونقل الأموال والثروات .
فلما تكرر مرة أخرى الأمر كان الجواب مختلفاً كان حصاراً وطرداً وعقاباً مع سلامة الأرواح والأنفس دون نقل الأموال والثروات .
فلما تكرر الأمر في بني قريظة وكانت الخيانة أعظم كان الحكم كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن حكم سعد بن معاذ يوم حكم بأن يقتل الرجال وأن تسبى النساء والذرية والأموال ، قال عليه الصلاة والسلام: ( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ).
ويومها قال سعد وهو طريح الفراش محمول مثخناً بجراحه لما دعاه النبي أن يحكم في اليهود بحسب طلبهم وتعيينهم لسعد بن معاذ ظناً أنه يراعيهم ويداهنهم ويجاملهم لعلاقات سابقة ومصالح سالفة. فقالها سعد كلمات تدوي في سمع الزمان:
" لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم " .
لقد أراد أن يذكر نفسه بأنه لابد أن يقول بالحق ، وأن يحكم بالعدل ، وأن يأتي بالجواب الصحيح للسؤال المباشر ، وأن يجعل العقاب المناسب للفعل الشنيع . فحكم بحكمه الذي ثبته وأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - وفياً بعهده قائماً بواجبه وبواجب أمته لكنه كان يمثل قولة عمر رضي الله عنه: " لست بالخب ولا الخب يخدعني " .
أعطى الحقوق وأوفى بالعهود ، فلما وجد الخلل ولما وجد الطعن في الظهر كانت الإجابات مناسبة وكانت الأحوال ملائمة وكانت الاستعدادات والتوقعات والاحتياطات والتحسبات موجودة.
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين ).
فكيف بعشر مرات وعشرين مرة ؟ أين ذهبت فطنة المؤمن ؟ وأين ذهبت عزة المسلم ؟ وأين ذهبت غيرة صاحب الحق وحميته ؟
كل ذلك يطوى فيما نشهده من المشهد العام.
وفي الاختبارات كذلك: التركيز والدقة.
عندما يأتي الطلاب للإجابات يركزون في معرفة وفهم الأسئلة يقرؤونها قراءة فاحصة ، يعيدون النظر إليها ليعرفوا مغازيها ومراميها وما قد يكون فيها من بعض الحيل المقصودة وما قد يريده أصحاب الأسئلة من المعلمين من اكتشاف الذكاء والفطنة واستحضار الانتباه والذكاء .
ثم بعد ذلك يجيبون كل سؤال في مكانه على سؤاله الصحيح مع الشمولية ؛ فإنه لو أتقن إجابة سؤال واحد وحاز فيه على الدرجة الكاملة ، ثم ترك بقية الأسئلة فنتيجته إلى رسوب قطعاً .
ثم كلنا يعلم أنه لابد من المراجعة قبل تسليم أوراق الامتحانات.
للتأكد من دقة الإجابات وصوابها.
وذلك أيضاً في هذه القضية المهمة ، وفي كل اختبارات أمتنا الملمة لابد أن يكون كذلك .
أما هذه السذاجات أو إن شئت قل: المؤامرات والتآمر على قضية الإسلام والمسلمين أمره بين.
فنحن لا يكاد نرى أن القوم يقرؤون الأسئلة ولا يعرفون مغازي ما يقدم لهم من المبادرات أو ما يطرح لهم على ما يسمى طاولة المفاوضات يقرؤون الأسئلة قراءة الطالب الغر الساذج الذي لا يفهمها ثم يجيب في غير ذلك المجال ثم يخفق في نتيجة الأمر.
ونحن نرى تشتتاً وليس هناك تركيز ونحن نرى هلامية وليس هناك وضوح ونحن نرى جزئية وليس هناك شمول.
وهذه من أخطر القضايا، أصبحت قضية المسلمين مقدساتهم قضية لشعب واحد ، بل ربما لجزء من شعب ، بل ربما لفئة محدودة من جزء من شعب حتى تتلخص بعد ذلك في أشخاص معدودين ، هم الذين يعنيهم الأمر وهم الذين إذا قبلوا ينبغي أن نقبل وإذا وافقوا ينبغي أن نوافق .
وهذا من جزئية العلاج كأنما ننظر إلى سؤال واحد ونترك بقية الأسئلة ، كأنما لا ندرك أن ما يجري - كما يقولون - اليوم في أقصى الأرض يمس من في أدناها ، وما يحصل من حدث في شرقها يصل تأثيره إلى غربها.
فكيف ونحن أبناء دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد ونحن نعرف اليوم بلا أدنى شك أن الاستهداف هو لديننا بذاته هو لكل مسلم منتسب للإسلام وإن لم يتحقق بحقائقه هو لهذه الأمة بمقدراتها ثقافية وحضارية ومادية واقتصادية.
ثم نجيب هذه الإجابات ولا نسعى إلى المراجعات قبل أن نقدم النتائج أو قبل أن نقدم الإجابات.(/3)
ولو استمرينا لوجدنا النتائج في آخر الاختبارات إما رسوب وإما نجاح.
والراسب نعلم أنه قد تتاح له فرصة حتى يعوّض ؛ فإن أتيحت له الفرصة كيف تجدونه؟ مهتماً مغتماً؟ حريصاً جاداً؟ يريد أن يعوض ما فات؟ أم أنه يعود إلى لهوه وغيه؟ وإلى تضييعه وتشتته فيعاود الكرة؟
ولو عاود الكرة فرسب لأعاد عاماً كاملاً ولو أعاد الرسوب لطرد من هذه المدارس.
تلك هي النتائج ولا شك ولكننا نرى في واقعنا أن الراسبون في واقع أمتنا في هذه القضية ينجحون وينتقلون إلى مراحل أخرى ويزدادون رسوباً ويرتفعون ويزدادون رسوباً ويتعلون.
وهذه من المعجزات الغريبة المحيرة للعقول ! لم نرى أحداً من طلاب المدارس يرسب عشرات الأعوام ثم يظل مع ذلك هو الطالب الناجح المتقدم في الفصول من مرحلة إلى مرحلة .
إنه أمر عجيب ونرى ذلك توقعاً خيالياً ونتائج عكسية ورسوباً متواصلاً.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
ولاشك - أيها الأخوة الأحبة - أننا بحاجة أن نستشعر أن أمتنا كلها وأننا جميعاً كأفراد وأسر ومجتمعات في مرحلة اختبار وهو اختبار صعب ونتائجه خطيرة .
إذا لم نستشعر ذلك فلن نتهيأ للاختبارات ، ولن نجد ولن نجتهد ولن نذاكر ولن نراجع ولن نركز ولن نصيب ولن ننجح ولن نتفوق .
هل نشعر نحن أننا في اختبار؟
راجعوا أنفسكم لتسألوا هذه السؤال ، هل نحن مستشعرون في ذواتنا وأفرادنا وأنفسنا أننا في اختبار صعب عناصره كثيرة ؟
الثبات على الدين، والحفاظ على الهوية، اختبار نتعرض له كل يوم عبر المداولات السياسية والغزوات الفضائية الإعلامية والمناقشات الثقافية الفكرية.
نحن في اختبار ممحص في الاستعلاء بالإيمان والاعتزاز بالإسلام .
وقد رأينا من دعا إلى تبديل وتغيير وتراجع وغير ذلك مما نسمعه ونقرأه.
نحن في حاجة إلى اختبار عصيب في قوة الحق وحق القوة.
ونحن اليوم أصحاب حق نستخفي بحقنا ، وننخذل عن نصرته ، وندعو إلى ترك هذه النصرة .
وأصحاب القوة بلا حق يفرضون بقوتهم حقاً باطلاً موهوماً مزعوماً ثم نعترف به ونكرسه وندعو إلى الحفاظ عليه وإلى مراعاته.
وهي أمور عجيبة واختبارات لبعض القوم مخفقة وراسبة ونحن في اختبار كبير في الانتصار على الضعف وقهر العجز الذي يشيع في أجواء كثيرة من أمتنا.
ومع ذلك - أيها الأخوة الأحبة - نعلم جميعاً في الاختبارات كلها أنه مهما وجد راسبون فثمة ناجحون لا يلفتون النظر لكن ثمة متفوقون وأوائل مبرزون هم الذين يتصدرون تلك الصحف فيما تكتبه عن أسمائهم ، وما تذكره من جهودهم وما تسطرّه من مآثرهم وما تبرزه من نتائجهم .
ونحن في هذه القضية رأينا الأوائل والسابقون .. رأينا المتفوقون المتقدمون في الأبطال المقاومين الثابتين على الحق المدافعين عن حقهم الرافعين لراية الإسلام الذين عرفوا كل الدروس وراجعوها ، وعرفوا الإخفاقات في تلك الهزائم المتوالية ، وعرفوا تلك الحيل في تلك المفاوضات المتوالية.
فكان بطل واحد منهم يتعرض لجريمة في محاولة اغتياله فتسمع الدنيا كلها به وتتحدث عنه.
وقلت في نفسي وحدثت غيري: من هذا الرجل ؟ هل هو رئيس دولة حتى يأتي في صدر كل نشرات الأخبار في شرق الدنيا وغربها ؟ هل هو رجل صاحب ثقل سياسي أو وزن اقتصادي ؟ ماذا يملك؟ ما قيمته ؟ لم كل هذه الأهمية ؟
حتى يعرف التافهون والرخيصون كيف تكون القيمة.
إن قيمته كانت بوقوفه شامخاً ورفع رأسه عالياً يوم جثا الناس على الركب وطأطئوا الرؤوس إلى الأرض .
إن قيمته في استمساكه واعتصامه بما لا يزول ولا يحول ولا يتبدل ولا يتغير من عقائد الإيمان والإسلام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن قيمته وعلوه وسموه كان في أنه استطاع هو وغيره من أصحابه وأربابه أن يقولوا: لا للإجابة الخاطئة في الاختبار الصعب .. يوم قال آخرون: نعم نعم وأخذوا تصحيحات من المدرسين غير المؤهلين لينجحوا نجاحاً كاذباً وليرسبوا في حقيقة الأمر رسوباً مريعاً.
إنها قضية مهمة نحن اليوم في اختيار صعب في هذا الاختبار نحن جميعاً مختبرون كل منا يعود إليه الأمر إن شاء أن يكون من الراسبين أو من الناجحين أو إن أراد أن يكون من المتفوقين .
وهذا حال طلابنا اليوم إنما يفكّرون في هذه الدوائر.
وهذا حال أمتنا في اختباراتها الصعبة وحال كل واحد منا فيما يوجه له من اختبار بعضنا يرضى بالدون ويسكن بالركون والخمول ، ويوافق أو يري بأنه لا يعنى بهذا الأمر.
وكيف يكون حينئذ طالباً مجداً مجتهداً راغباً في النجاح.
إنها مخاطبة لابد منها لكي نسعى إلى القمة ونطلب العزة بطريقها الصحيح ، ومنهاجها القويم وخلف الذين ساروا فيها من الرسل والأنبياء والدعاة والمخلصين والمجاهدين والمضحين والأشراف الأحرار الأبرار .(/4)
لا خلف يهود أو نصارى أو دجاجلة كاذبين أو خونة منافقين ؛ فإن السائر وراء هذا الطريق لا يفضي به إلا إلى خسران الدنيا وعقاب وعذاب الآخرة نسأل الله - عز وجل - السلامة.
إلى أولئك النفر المتفوقين ننادي :
يا نخبة الأفذاذ إني ناصح **** والنصح يقبله اللبيب العاقل
المجد مهما عز ظل وارف **** ونجيه مهما تكبد واصل
وصباحه مهما تأخر مشرق **** ونتاجه مهما تمنع حاصل
فاستمسكوا بالصبر إن سبيلكم **** صعب وليل سراكم متواصل
لا يثنكم عن نيل أسباب العلا **** متخاذل في سيره متكاسل
أو تصرفن نفوسكم عن همة **** دنيا يتوق لها ويشرف خامل
بل وطنوا هذه النفوس على الندى **** وتناولوها بالجميل وواصلوا
صونوا حقوقاً للإله وحرمة **** لكتابه ورسوله وتخاللوا
لا يرتقي درب المكارم تافه **** أو يبلغ العلياء يوماً جاهل
لكنه عزم يبين ونية **** تعلي وحال يستبين وصاقل
إن كان في الدنيا نعيم يرتجى **** فنعيمها الغرر الكرام أوائل
لا نرضى إلا أن نكون أوائل ولا أولية إلا باستمساكنا بديننا ونهج ربنا ، وأن نعلم حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وما الذي يضحى به لأجل الآخر .
هل نضحي بآخرتنا وديننا لأجل دنيانا وحفاظ أرواحنا وسلامنا وأمننا كما يدعون ويزعمون؟ أم أننا نؤثر أخرانا ونقدم لأجلها مهجنا وأرواحنا ونستحضر الصفقة الرابحة التي أخبر الحق - سبحانه وتعالى - بها ، والتي ذكرها في آيات القرآن الكريم ترغيباً وبياناً لهذه الحقيقة المهمة التي لابد لنا أن ندركها وأن نعيها وأن نتشبث بها دائماً وأبداً في كل أحوالنا.
ونتذكر كذلك قول رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يوم تخلى صهيب الرومي عن دنياه وعن ثروته وأقبل إلى دينه وإلى أمته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ).
ذلكم هو الربح .. ذلكم هو النجاح .. ذلكم هو التفوق :
ربح البيع ألا بعنا الإله أنفساً **** تزكوا إذا الله اصطفاها
ربح البيع جناناً وعلاً **** في هذه الأرض وجاها
ربح البيع فهل من بائع **** فالضلال اليوم قد صال وتاها
والشعارات وأصنام الهوى **** ويد الشحناء لا تلقي عصاها
والجراحات وأشباح الأسى **** في قفار التيه تختال دماها
أين منا الأمس إذ كنا به **** غرة الدنيا ومشكاة ضياها
موثقاً حقاً وفتحاً ناجزاً **** يملأ الأرض عدلاً لا يضاهى
وجهاداً يحمل الناس إلى **** قمم الإيمان يعليهم سناها
وبطولات تراءت قبساً ساطعاً **** كالشمس في أوج ضحاها ... ... ... ... ... ... ...
...
... ... ... ... ... ... ...(/5)
مقارنات في الاختبارات
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
مقارنات في الاختبارات ؛ لأن طلابنا يبدءون غداً في الاختبارات ، وهي اختبارات عندنا مهمة ، ولها من الاستعداد والإعداد والتهيؤ ما لها .
غير أن أمتنا تمر باختبارات أكبر وأصعب ، دون أن يكون هناك ما يكافئ هذه الاختبارات من الاستعدادات .
ولعلنا نعرف ما ذكرته مراراً وتكراراً من أن القضية الأولى والمسألة الأعظم والاختبار الأصعب الذي تمتحن فيه الأمة في إيمانها وعقيدتها ، وفي سيادتها وإرادتها ، وفي مبادئها وأخلاقها وحضارتها.
هو الاختبار على أرض فلسطين وفي قضية الأقصى .
وها هنا وقفات سريعة ، ننظر فيها بين اختبارات طلابنا واختبارات أمتنا :
أولاً: التهيئة والاستعداد
في اختبارات الطلاب تهيئة أسرية يعنى بها الآباء والأمهات يهيئون الأجواء ويوفرون أسباب الراحة ، ويقدمون الخدمات ، ويخففون التبعات والمسؤوليات على الأبناء والبنات ؛ فإن سألتهم: ما لكم ؟
قالوا : إنه موسم الاختبارات .
ونجد كذلك استعداداً اجتماعياً فالمجتمع كله يراعي ذلك ، فلا ترى المناسبات ولا المباريات ولا المشاركات المعتادة في سائر الأوقات فإن سألت: لماذا ؟
قالوا: لأنه موسم الاختبارات.
ترى أيضاً تهيئة واستعداداً إعلامياً فلا ترى كثيراً من البرامج واللهو والترفيه المعتاد ، بل تجد الدروس والتذكير والندوات والمساءلات في قضية الاختبارات.
وترى كذلك تهيئة واستعداداً نفسياً: كل هذه العوامل توطد في نفوس الطلاب أن يثقوا بأنفسهم ، ألا يتهيبوا تلك الاختبارات ، أن يقووا عزائمهم ، أن يعلوا هممهم ، أن يوطنوا أنفسهم على أن يبذلوا الجهد ويواصلوا المسير حتى يجنوا النتائج والثمار .
كلنا يدرك هذه الأجواء ويعرفها.
فكيف والأمة في اختبارها الصعب ؟ ومرحلتها المريرة التي تستهدف وجودها وإيمانها والتي تعادي مناهجها وأخلاقها والتي تريد اجتثاث جذورها وأصولها ؟
هل ترون الأسر تستعد بمثل هذا الاستعداد ؟
أم أننا نرى غير ذلك ، أسر مضيعة لمهمات التربية وآباء مهملون لصناعة الأجيال وأمهات متخليات عن صناعة صانعات الأجيال .
كم نرى في المجتمع كذلك من مجتمعات منشغلة وراء لقمة العيش أو الكدح في هذه الدنيا ؟
أو منشغلة بأمور عارضة واهتمامات دنيا فتلك هي مواسم ومسابقات الرياضات ، وتلك هي مهرجانات الفنون والأفلام والتمثيليات ، وتلك هي وسائل الإعلام التي تصمّ الآذان وتفجع العيون وتدمي القلوب وتحزن النفوس بكل لهو رخيص وتفاهة مغرية وسخافة مضللة عن معالي الأمور ومهامها.
فهل أمتنا تستعد للاختبارات العصيبة بمثل تلك الاهتمامات الهزيلة ؟
إنها وقفات ومقارنات لا أحتاج فيها إلى كثير من التعليقات ، ولكنها تحتاج منا جميعاً إلى كثير من التأملات والمراجعات والتقويم والتصحيحات .
ليس على المسار العام الذي دائماً ما نلقي عليه بالتبعات بل على مسارنا الخاص ، وعلى تكويننا النفسي والقلبي ، وعلى أدائنا الأسري والتربوي ، وعلى معايشتنا الحياتية والمادية فضلاً عن طموحاتنا وآمالنا ، فضلاً قبل ذلك كله عن إيماننا واعتقادنا ومبادئنا وأخلاقنا.
كيف نخوض خضم هذه العولمة الجارفة التي يراد بها تغيير الثقافة والأخلاق والفكر ونحن لا نهيئ شيئاً لتلك المواجهة ولا للاختبارات العصيبة الرهيبة ؟ .
فهل هذا إنصاف؟ وهل هذا معقول؟
ونحن ندرك أن هذه الأمة هي الأمة التي اصطفاها الله - عز وجل - واختارها لتؤدي أعظم دور وتقوم بأجلى وأسنى وأبقى وأعظم رسالة في هذه الوجود:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه } [ آل عمران: من الآية110 ].
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة: من الآية143 ] .
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ) .
ثانياً : الجد والاجتهاد
صورة حيّة واقعية في اختبارات طلابنا الوقت مستغرق في الاختبارات والجهد مبذول فيها والفكر منشغل بها والإمكانيات مسخرة لأجلها ، وكل شيء في هذه الأوقات عند الطلاب منصب في هذا الهدف فإن قلت : لماذا ؟ قالوا: لأهميته.
وإن قلت: لم هذه الجهود المضنية وسهر الليالي وإنحال الجسم وترك الراحة؟
قالوا: لأنها معمعة يوشك بعدها أن نخرج إلى النجاح والتقدم والاطراد.
ونحن نريد نصراً مؤزراً وعزاً مؤفلاً ومجداً فاخراً .
وأمتنا تنشد تاريخها وتستدعي مآثرها دون بذل جد ولا جهد ولا اجتهاد دون أن تسخر لذلك الإمكانيات .. دون أن تنفق فيه الأموال .. دون أن تسهر فيه الليالي .. دون أن تتضافر فيه كل الجهود وأن تجتمع كل الحشود .
لكي تتجاوز المرحلة العصيبة والفترة القاتمة من تاريخ أمتنا ومن المواجهات الصعبة التي تتحداها.(/1)
وذلك أمر أيضاً نره في غير مساره الصحيح في جملة من أحوال أمتنا .
أين الأوقات مبذولة؟
حتى في ميادين الحياة العملية ، وتقول بعض الدراسات التي تقيس مدى إنتاج الموظف والعامل في بلاد عربية وبلاد إسلامية وبلاد غير إسلامية أو عربية .
فنجد التفاوت العظيم والبون الشاسع ، فلا أوقاتنا مبذولة حتى في تقوية أمورنا المادية.
وأين نحن من بذل الأموال في الأبحاث العلمية والتقدم التقني ؟ وأين نحن من بذل الجهود الفكرية في معالجة أوضاع أمتنا المختلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وغير ذلك ؟ أين نحن من هذا كله ؟
ونحن نرى الاجتماعات والمؤتمرات ونرى الجهود والأوقات ونرى غير ذلك يصرف فيما أشرت إليه من بعض تلك الجوانب التي ذكرناها .
والحق - جل وعلا – يقول :
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [ التوبة: من الآية105 ].
إنه ميدان العمل الذي كفاءه وجزاءه يكون يوم القيامة.
إن من لا يقدم عملاً لا ينال ثمرة .. إن من يريد النتائج وهو ينام ملء جفنيه ويأكل ملء ماضغيه ويرتاح ملء جنبيه ؛ فإنما هو حالم واهم لا يجني إلا ما يجنيه القابض على الهواء .
وينبغي أن ندرك ذلك:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله **** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
كيف نريد أن نعود أمة رائدة قائدة - كما هو الشأن الذي كان لنا وكما هو الواجب المنوط بنا - دون أن نبذل شيئاً يكافئ ذلك ؟ ألا نستحضر تاريخ أمتنا ! ألا نستحضر سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ! ألا نستحضر الأمة التي شرقت وغربت وجاهدت وبذلت الأنفس والأرواح وعمرت الدنيا وأسست الحضارة وتفوقت في العلوم ! أ ليس هذا هو ميدان الاختبار؟!
ونحن نرى أمتنا في مجمل أحوالها متخلفة في ميدان العلم متأخرة في مجال التكنولوجيا متراجعة في مجالات الفكر متأخرة ومتراجعة في كثير من هذه المجالات دون جد ولا اجتهاد.
وثالثاً : المراجعة والمذاكرة
فطلابنا اليوم يعودون إلى أول درس وإلى بداية المنهج ، يمرونه صفحة صفحة ، يقرؤونه درساً درساً ، يراجعونه وحدة وحدة من البداية إلى النهاية .
لأن المنهج لا يكون إلا متكاملاً ؛ لأن المنهج لابد أن يستوعب استيعاباً شاملاً .
وفي كل ذلك يمرون على معرفة الأخطاء السابقة ، ويراجعون الاختبارات السالفة ويرون كيف مرت بهم تلك الدروس وفاتهم فقه بعضها ومعرفة بعض أسرارها، كيف مرت بهم تلك الاختبارات وعثروا في بعض الإجابات وأخفقوا في تحقيق بعض النتائج.
وكل ذلك يدخرونه لكي يتهيئوا لهذا الاختبار النهائي الكبير.
ونسأل: هل في أمتنا مراجعة لمنهجها من أوله إلى آخره ؟ وهل لها في ذلك مذاكرة ومشاورة ؟ وأهم من ذلك هل تعي دروس الماضي؟ هل تراجع الاختبارات وما كان فيها من نجاحات أو اخفاقات ؟
أم أنها تمر على ذلك مر الكرام ترسب في اختبار مدريد لتواصل الرسوب بعد ذلك في اختبار أوسلوا لتواصل المسيرة المنحدرة في المستوى الهابط فيما يأتي بعد ذلك في صورة تبين أن الإجمال لهذا الحال الذي يتصدر فيه من يتصدر في أمتنا.
يدل على ألا مراجعة وألا مذاكرة وألا منهج يقود ولا رؤية تسدد ولا قواعد تضبط ولا مناهج تقود الأمة في قياداتها المتصدرة لمهامها العظمى كما ينبغي أن يكون عليه الحال.
عجباً وقد هزمت أمتنا في ثمانية وأربعين من قبل شراذم عصابات اليهود - عليهم لعائن الله - وكان درس الفرقة وكان درس المؤامرة .
ثم تكرر درس النكبة في الخيانة العظمى والمؤامرة الكبرى في سبعة وستين.
ثم توالت الحيل وتواصلت الإخفاقات فيما بعد ذلك ، دون أن نعي دروس الكذب والمراوغة دروس الغدر والإجرام دروس المفاوضة والمناورة.
فأنت صاحب حق وصاحب دار يأتيك ضيف إن اعتبرته ضيفاً فيحل ولا يخرج ثم يدعي أنه صاحب المنزل ثم يطردك ثم يفاوضك على أن يكون لك مكان خارج الدار أو بعد ذلك يمنّ عليك أن يجعلك في فنائه ولكنك تحت قوته وسطوته ثم يقول لك بعد ذلك: كيف تطلب أكثر من هذا؟
ونرى كيف دارت الأمور ، حتى أصبحت اليوم هذه القضية الإسلامية الإيمانية العقدية التي تمثل بؤرة المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه .
أصبحت اليوم تقاس بالأشبار والأمتار وتقاس بالطرقات والشوارع بعد أن كانت قضية الإيمان والعقيدة قضية الحق الثابت وقضية المبدأ الراسخ.
وأمر رابع: وهو التوقع والاحتياط
الطلبة عندما يذاكرون يستعدون لكل شيء يتوقعون أن يأتي السؤال في أي باب من الأبواب يتوقعون أن تأتي الأسئلة في غاية الصعوبة ، لا يعيشون على أوهام وأحلام فيذاكر أحدهم درساً واحداً ويقول: ستأتي الأسئلة كلها فيه ويقول: ستأتي الأسئلة كلها سهلة ويقول: سيعطوننا الدرجات وننجح .
ماذا نَصفُ هذا الطالب ؟
إنه قطعاً طالب غبي وطالب خائب ومصيره معروف إلى الرسوب ولابد قطعاً.
ولكننا نجد بعض الأحوال في هذه القضية وقد حصرت الدرس والاختبار كله في درس واحد وفي سؤال واحد أعدت له إجابة واحدة لجميع الأسئلة .(/2)
وهذا ما نراه في قضية فلسطين اليوم في مشهدها السياسي المعلن العام دون ما سنشير إليه في آخر حديثنا.
يقولون: الحرب.
السؤال الأول : ما هي الحرب؟
الجواب : فنقول في تعريفها وجوابها: هي السلام .
السؤال الثاني : ما هي أدوات مقاومة الأسلحة والطائرات؟
الجواب : ويكون الجواب: هو السلام.
السؤال الثالث: ما هي الوسيلة الناجحة لمواجهة تهديم البيوت وقتل الأطفال وتشريد الناس؟
الجواب : فيكون الجواب هو السلام.
ونظن أن النتيجة ستكون نجاحاً بامتياز ! وهذا حال الطالب الخائب الذي ذكرته ولا يحتاج الأمر إلى بيان .
ولو أننا نفقه من سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مراجعة الدروس واستحضارها لوجدنا كيف تدرج - عليه الصلاة والسلام - مع اليهود أنفسهم عندما كان غدرهم في أول الأمر في دائرة معينة وفي اعتداء على امرأة مسلمة. كانت العقوبة والإجابة في حصار وإجلاء مع سلامة الأرواح والأنفس ونقل الأموال والثروات .
فلما تكرر مرة أخرى الأمر كان الجواب مختلفاً كان حصاراً وطرداً وعقاباً مع سلامة الأرواح والأنفس دون نقل الأموال والثروات .
فلما تكرر الأمر في بني قريظة وكانت الخيانة أعظم كان الحكم كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن حكم سعد بن معاذ يوم حكم بأن يقتل الرجال وأن تسبى النساء والذرية والأموال ، قال عليه الصلاة والسلام: ( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ).
ويومها قال سعد وهو طريح الفراش محمول مثخناً بجراحه لما دعاه النبي أن يحكم في اليهود بحسب طلبهم وتعيينهم لسعد بن معاذ ظناً أنه يراعيهم ويداهنهم ويجاملهم لعلاقات سابقة ومصالح سالفة. فقالها سعد كلمات تدوي في سمع الزمان:
" لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم " .
لقد أراد أن يذكر نفسه بأنه لابد أن يقول بالحق ، وأن يحكم بالعدل ، وأن يأتي بالجواب الصحيح للسؤال المباشر ، وأن يجعل العقاب المناسب للفعل الشنيع . فحكم بحكمه الذي ثبته وأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - وفياً بعهده قائماً بواجبه وبواجب أمته لكنه كان يمثل قولة عمر رضي الله عنه: " لست بالخب ولا الخب يخدعني " .
أعطى الحقوق وأوفى بالعهود ، فلما وجد الخلل ولما وجد الطعن في الظهر كانت الإجابات مناسبة وكانت الأحوال ملائمة وكانت الاستعدادات والتوقعات والاحتياطات والتحسبات موجودة.
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين ).
فكيف بعشر مرات وعشرين مرة ؟ أين ذهبت فطنة المؤمن ؟ وأين ذهبت عزة المسلم ؟ وأين ذهبت غيرة صاحب الحق وحميته ؟
كل ذلك يطوى فيما نشهده من المشهد العام.
وفي الاختبارات كذلك: التركيز والدقة.
عندما يأتي الطلاب للإجابات يركزون في معرفة وفهم الأسئلة يقرؤونها قراءة فاحصة ، يعيدون النظر إليها ليعرفوا مغازيها ومراميها وما قد يكون فيها من بعض الحيل المقصودة وما قد يريده أصحاب الأسئلة من المعلمين من اكتشاف الذكاء والفطنة واستحضار الانتباه والذكاء .
ثم بعد ذلك يجيبون كل سؤال في مكانه على سؤاله الصحيح مع الشمولية ؛ فإنه لو أتقن إجابة سؤال واحد وحاز فيه على الدرجة الكاملة ، ثم ترك بقية الأسئلة فنتيجته إلى رسوب قطعاً .
ثم كلنا يعلم أنه لابد من المراجعة قبل تسليم أوراق الامتحانات.
للتأكد من دقة الإجابات وصوابها.
وذلك أيضاً في هذه القضية المهمة ، وفي كل اختبارات أمتنا الملمة لابد أن يكون كذلك .
أما هذه السذاجات أو إن شئت قل: المؤامرات والتآمر على قضية الإسلام والمسلمين أمره بين.
فنحن لا يكاد نرى أن القوم يقرؤون الأسئلة ولا يعرفون مغازي ما يقدم لهم من المبادرات أو ما يطرح لهم على ما يسمى طاولة المفاوضات يقرؤون الأسئلة قراءة الطالب الغر الساذج الذي لا يفهمها ثم يجيب في غير ذلك المجال ثم يخفق في نتيجة الأمر.
ونحن نرى تشتتاً وليس هناك تركيز ونحن نرى هلامية وليس هناك وضوح ونحن نرى جزئية وليس هناك شمول.
وهذه من أخطر القضايا، أصبحت قضية المسلمين مقدساتهم قضية لشعب واحد ، بل ربما لجزء من شعب ، بل ربما لفئة محدودة من جزء من شعب حتى تتلخص بعد ذلك في أشخاص معدودين ، هم الذين يعنيهم الأمر وهم الذين إذا قبلوا ينبغي أن نقبل وإذا وافقوا ينبغي أن نوافق .
وهذا من جزئية العلاج كأنما ننظر إلى سؤال واحد ونترك بقية الأسئلة ، كأنما لا ندرك أن ما يجري - كما يقولون - اليوم في أقصى الأرض يمس من في أدناها ، وما يحصل من حدث في شرقها يصل تأثيره إلى غربها.
فكيف ونحن أبناء دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد ونحن نعرف اليوم بلا أدنى شك أن الاستهداف هو لديننا بذاته هو لكل مسلم منتسب للإسلام وإن لم يتحقق بحقائقه هو لهذه الأمة بمقدراتها ثقافية وحضارية ومادية واقتصادية.
ثم نجيب هذه الإجابات ولا نسعى إلى المراجعات قبل أن نقدم النتائج أو قبل أن نقدم الإجابات.(/3)
ولو استمرينا لوجدنا النتائج في آخر الاختبارات إما رسوب وإما نجاح.
والراسب نعلم أنه قد تتاح له فرصة حتى يعوّض ؛ فإن أتيحت له الفرصة كيف تجدونه؟ مهتماً مغتماً؟ حريصاً جاداً؟ يريد أن يعوض ما فات؟ أم أنه يعود إلى لهوه وغيه؟ وإلى تضييعه وتشتته فيعاود الكرة؟
ولو عاود الكرة فرسب لأعاد عاماً كاملاً ولو أعاد الرسوب لطرد من هذه المدارس.
تلك هي النتائج ولا شك ولكننا نرى في واقعنا أن الراسبون في واقع أمتنا في هذه القضية ينجحون وينتقلون إلى مراحل أخرى ويزدادون رسوباً ويرتفعون ويزدادون رسوباً ويتعلون.
وهذه من المعجزات الغريبة المحيرة للعقول ! لم نرى أحداً من طلاب المدارس يرسب عشرات الأعوام ثم يظل مع ذلك هو الطالب الناجح المتقدم في الفصول من مرحلة إلى مرحلة .
إنه أمر عجيب ونرى ذلك توقعاً خيالياً ونتائج عكسية ورسوباً متواصلاً.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
ولاشك - أيها الأخوة الأحبة - أننا بحاجة أن نستشعر أن أمتنا كلها وأننا جميعاً كأفراد وأسر ومجتمعات في مرحلة اختبار وهو اختبار صعب ونتائجه خطيرة .
إذا لم نستشعر ذلك فلن نتهيأ للاختبارات ، ولن نجد ولن نجتهد ولن نذاكر ولن نراجع ولن نركز ولن نصيب ولن ننجح ولن نتفوق .
هل نشعر نحن أننا في اختبار؟
راجعوا أنفسكم لتسألوا هذه السؤال ، هل نحن مستشعرون في ذواتنا وأفرادنا وأنفسنا أننا في اختبار صعب عناصره كثيرة ؟
الثبات على الدين، والحفاظ على الهوية، اختبار نتعرض له كل يوم عبر المداولات السياسية والغزوات الفضائية الإعلامية والمناقشات الثقافية الفكرية.
نحن في اختبار ممحص في الاستعلاء بالإيمان والاعتزاز بالإسلام .
وقد رأينا من دعا إلى تبديل وتغيير وتراجع وغير ذلك مما نسمعه ونقرأه.
نحن في حاجة إلى اختبار عصيب في قوة الحق وحق القوة.
ونحن اليوم أصحاب حق نستخفي بحقنا ، وننخذل عن نصرته ، وندعو إلى ترك هذه النصرة .
وأصحاب القوة بلا حق يفرضون بقوتهم حقاً باطلاً موهوماً مزعوماً ثم نعترف به ونكرسه وندعو إلى الحفاظ عليه وإلى مراعاته.
وهي أمور عجيبة واختبارات لبعض القوم مخفقة وراسبة ونحن في اختبار كبير في الانتصار على الضعف وقهر العجز الذي يشيع في أجواء كثيرة من أمتنا.
ومع ذلك - أيها الأخوة الأحبة - نعلم جميعاً في الاختبارات كلها أنه مهما وجد راسبون فثمة ناجحون لا يلفتون النظر لكن ثمة متفوقون وأوائل مبرزون هم الذين يتصدرون تلك الصحف فيما تكتبه عن أسمائهم ، وما تذكره من جهودهم وما تسطرّه من مآثرهم وما تبرزه من نتائجهم .
ونحن في هذه القضية رأينا الأوائل والسابقون .. رأينا المتفوقون المتقدمون في الأبطال المقاومين الثابتين على الحق المدافعين عن حقهم الرافعين لراية الإسلام الذين عرفوا كل الدروس وراجعوها ، وعرفوا الإخفاقات في تلك الهزائم المتوالية ، وعرفوا تلك الحيل في تلك المفاوضات المتوالية.
فكان بطل واحد منهم يتعرض لجريمة في محاولة اغتياله فتسمع الدنيا كلها به وتتحدث عنه.
وقلت في نفسي وحدثت غيري: من هذا الرجل ؟ هل هو رئيس دولة حتى يأتي في صدر كل نشرات الأخبار في شرق الدنيا وغربها ؟ هل هو رجل صاحب ثقل سياسي أو وزن اقتصادي ؟ ماذا يملك؟ ما قيمته ؟ لم كل هذه الأهمية ؟
حتى يعرف التافهون والرخيصون كيف تكون القيمة.
إن قيمته كانت بوقوفه شامخاً ورفع رأسه عالياً يوم جثا الناس على الركب وطأطئوا الرؤوس إلى الأرض .
إن قيمته في استمساكه واعتصامه بما لا يزول ولا يحول ولا يتبدل ولا يتغير من عقائد الإيمان والإسلام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن قيمته وعلوه وسموه كان في أنه استطاع هو وغيره من أصحابه وأربابه أن يقولوا: لا للإجابة الخاطئة في الاختبار الصعب .. يوم قال آخرون: نعم نعم وأخذوا تصحيحات من المدرسين غير المؤهلين لينجحوا نجاحاً كاذباً وليرسبوا في حقيقة الأمر رسوباً مريعاً.
إنها قضية مهمة نحن اليوم في اختيار صعب في هذا الاختبار نحن جميعاً مختبرون كل منا يعود إليه الأمر إن شاء أن يكون من الراسبين أو من الناجحين أو إن أراد أن يكون من المتفوقين .
وهذا حال طلابنا اليوم إنما يفكّرون في هذه الدوائر.
وهذا حال أمتنا في اختباراتها الصعبة وحال كل واحد منا فيما يوجه له من اختبار بعضنا يرضى بالدون ويسكن بالركون والخمول ، ويوافق أو يري بأنه لا يعنى بهذا الأمر.
وكيف يكون حينئذ طالباً مجداً مجتهداً راغباً في النجاح.
إنها مخاطبة لابد منها لكي نسعى إلى القمة ونطلب العزة بطريقها الصحيح ، ومنهاجها القويم وخلف الذين ساروا فيها من الرسل والأنبياء والدعاة والمخلصين والمجاهدين والمضحين والأشراف الأحرار الأبرار .(/4)
لا خلف يهود أو نصارى أو دجاجلة كاذبين أو خونة منافقين ؛ فإن السائر وراء هذا الطريق لا يفضي به إلا إلى خسران الدنيا وعقاب وعذاب الآخرة نسأل الله - عز وجل - السلامة.
إلى أولئك النفر المتفوقين ننادي :
يا نخبة الأفذاذ إني ناصح **** والنصح يقبله اللبيب العاقل
المجد مهما عز ظل وارف **** ونجيه مهما تكبد واصل
وصباحه مهما تأخر مشرق **** ونتاجه مهما تمنع حاصل
فاستمسكوا بالصبر إن سبيلكم **** صعب وليل سراكم متواصل
لا يثنكم عن نيل أسباب العلا **** متخاذل في سيره متكاسل
أو تصرفن نفوسكم عن همة **** دنيا يتوق لها ويشرف خامل
بل وطنوا هذه النفوس على الندى **** وتناولوها بالجميل وواصلوا
صونوا حقوقاً للإله وحرمة **** لكتابه ورسوله وتخاللوا
لا يرتقي درب المكارم تافه **** أو يبلغ العلياء يوماً جاهل
لكنه عزم يبين ونية **** تعلي وحال يستبين وصاقل
إن كان في الدنيا نعيم يرتجى **** فنعيمها الغرر الكرام أوائل
لا نرضى إلا أن نكون أوائل ولا أولية إلا باستمساكنا بديننا ونهج ربنا ، وأن نعلم حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وما الذي يضحى به لأجل الآخر .
هل نضحي بآخرتنا وديننا لأجل دنيانا وحفاظ أرواحنا وسلامنا وأمننا كما يدعون ويزعمون؟ أم أننا نؤثر أخرانا ونقدم لأجلها مهجنا وأرواحنا ونستحضر الصفقة الرابحة التي أخبر الحق - سبحانه وتعالى - بها ، والتي ذكرها في آيات القرآن الكريم ترغيباً وبياناً لهذه الحقيقة المهمة التي لابد لنا أن ندركها وأن نعيها وأن نتشبث بها دائماً وأبداً في كل أحوالنا.
ونتذكر كذلك قول رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يوم تخلى صهيب الرومي عن دنياه وعن ثروته وأقبل إلى دينه وإلى أمته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ).
ذلكم هو الربح .. ذلكم هو النجاح .. ذلكم هو التفوق :
ربح البيع ألا بعنا الإله أنفساً **** تزكوا إذا الله اصطفاها
ربح البيع جناناً وعلاً **** في هذه الأرض وجاها
ربح البيع فهل من بائع **** فالضلال اليوم قد صال وتاها
والشعارات وأصنام الهوى **** ويد الشحناء لا تلقي عصاها
والجراحات وأشباح الأسى **** في قفار التيه تختال دماها
أين منا الأمس إذ كنا به **** غرة الدنيا ومشكاة ضياها
موثقاً حقاً وفتحاً ناجزاً **** يملأ الأرض عدلاً لا يضاهى
وجهاداً يحمل الناس إلى **** قمم الإيمان يعليهم سناها
وبطولات تراءت قبساً ساطعاً **** كالشمس في أوج ضحاها(/5)
مقاصد السفر
الحمد لله رب الأولين والآخرين، ورب السموات والأرض وما فيهن العزيز العليم، مالك الملك وخالق الخلق العزيز الوهاب، والصلاة والسلام على أشرف وأكرم خلق الله أجمعين، محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم أما بعد:
إن لكل شيء مقصد، وفي هذه الأسطر الوجيزة سنتحدث عن مقاصد السفر، ومقاصد الناس في أسفارهم.
لقد قسم أهل العلم السفر إلى ثلاثة مقاصد عامة ورئيسية وهي ما تسمى بأنواع السفر، القسم الأول: سفر الطاعة، والثاني: سفر المعصية، والثالث: السفر المباح وسنقف مع كل قسم مع ذكر بعض أنواعه بشيء من التفصيل.
أولاً: سفر الطاعة: وهو أي سفر ينوي به المسافر نيل قربة من القربات وأداء طاعة من الطاعات ومنه:
1: السفر لطلب العلم.
السفر لطلب العلم قربة من أعظم القرب عند الله تعالى وذلك لما للعلم من فضل عظيم عند الله، يقول الله تعالى في تعظيم أولي العلم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} آل عمران: 18. وقد روى مكحول فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا هذه الآية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر:28 ."إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير" 1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة"2. ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أهمية طلب العلم وفضل ذلك، وكذلك فضل السفر في طلب العلم فتمثلوا ذلك وخرجوا في طلب العلم. ( فقد رحل جابر بن عبدالله من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبدالله بن أنيس)3.
وقال الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا ً 4.
والسفر في طلب العلم له من الأجر الشيء الكثير وذلك لما له من نشر العلم والدين بين الناس وتعليمهم أمور دينهم، ومن قام بذلك فله من الأجر ما لا يعلم به إلا الله تعالى.
2: السفر للجهاد:
قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فذكر نوعين من أنواع السفر سفر المعاش وسفر الجهاد، والجهاد شرع من أجل نشر دين الله تعالى في الأرض وعدم منع أحد من الاستسلام لله بالإيمان والانقياد له بالطاعة.عن ابن عمر قال: "ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلى من الموت بين شعبتي رحلي ابتغي من فضل الله ضاربا في الأرض" 5
والجهاد من أفضل الأعمال وأشرفها فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال: "مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله.." الحديث 6
والمجاهد عند سفره وخروجه إلى الجهاد قد قرر في نفسه ترك كل شيء يملكه في هذه الدنيا لوجه الله تعالى، ولم يكتف بذلك فحسب بل إنه قدّم نفسه ابتغاء رضوان الله تعالى ودفاعاً عن دين الله. خرج من بيته ووطنه ويترك أهله وماله فوقع أجره على الله تعالى، جاد بنفسه في سبيل الله ليتمتع بالخلود والرفعة والمكانة عند الله، حين يجعله في مصاف الأنبياء والمرسلين، والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً. إنه قلما يوجد إنسان يقوم بهذا العمل الذي يقوم به المجاهد في سبيل الله من التضحية والبذل ابتغاء مرضات الله، لأن. { اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة: 111.
والسفر للجهاد خير من جميع الأعمال وخير من الدنيا وما عليها فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها"7
وهو كذلك سياحة هذه الأمة دون غيرها من الأمم. فعن أبي أمامة أن رجلا ً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى"8.
3: السفر للحج:(/1)
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام ولا بد من السفر إليه لغير أهل مكة. وبما أن الحج ركن من أركان الإسلام فلا بد من القيام به عند الاستطاعة، والسفر لأدائه. ولكن رحمة الله بهذه الأمة تتجلى هنا؛لأنه من المعروف أن السفر لأداء فريضة الحج يأخذ المال والجهد الكثير فأوجب سبحانه الحج على المستطيع دون غيره. وللحج ثواب كبير وفضل من الله تعالى فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة، وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة"9 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"10.
فالسفر للحج من أفضل سفر الطاعة لأنه قيام بأداء ركن من أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها الإسلام فالقيام به طاعة كبيرة لله تعالى.
4: السفر لزيارة المساجد الثلاثة:
من سفر الطاعة زيارة المساجد الثلاثة المسجد الحرام والنبوي ومسجد بيت المقدس لأنها مهبط الرسالات ومحل إقامة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكون أنبياء الله تعالى قد أدوا الصلاة في تلك المساجد. ولما لذلك أيضاً من أهمية في تقوية الإيمان في قلوب من عاينها وشاهدها، ودارت بخلده عظمتها ومكانتها عند الله.
ولقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارتها ونهى شد الرحال إلى غيرها من المساجد الأخرى المنتشرة على وجه الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى"11 فهذه هي المساجد التي تشد إليها الرحال ولا يجوز شد الرحال إلى غيرها من المساجد كما يحصل هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والسفر إلى هذه المساجد يعد سفر طاعة لما يحصل للمسافرين من أجر عندما يصلي في أحد هذه المساجد لكون الصلاة فيها تختلف عما سواها من المساجد الأخرى فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة من غيره من المساجد إلا المسجد الحرام" 12.
5: السفر لزيارة الأقارب وصلتهم والإحسان إليهم:
إن الدين الإسلامي دين الرحمة ودين الرخاء والتراحم والصلة، ولقد حث الإسلام في كثير من الآيات والأحاديث على صلة الرحم وشنع على من قطعها يقول تعالى:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } محمد: 22. فصلة الرحم من الأمور الهامة التي ركز عليها الدين الإسلام، وحيث عليها وأمر الناس بالقيام بها.
ولقد وصل الله تعالى من وصل الرحم وقطع من قطعها فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله علي وسلم قال: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطعية، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت: بلى، قال فهو لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرؤوا إن شئتم{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }13. فصلة الرحم لها أثر كبير في بناء مجتمع مسلم قوي مبني على التراحم والتعاطف فيما بين أفراده لا يستطيع شيء الوقوف أمامه.
فإذا كانت هذه هي صلة الرحم وهذا هو فضل صلتها، فكيف إذا كان ولا بد من السفر للقيام بها، فلا شك أن الأجر والفضل في هذه الحالة سيكون أكثر وأكبر مما كان سابقاً، وذلك أنه - والحالة هذه - سوف يتحمل الكثير من المشاق والمتاعب لا في سبيل القيام بها والوصول إليها.
6: السفر لزيارة الإخوان في الله:
من المعلوم أن الدين الإسلامي هو دين الإخاء وأن أول ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد هجرته وبناء المسجد مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، فكان هذا الإخاء أحد العناوين الرئيسية للدين الجديد الذي بهر الناس بهذه المثالية التي تمثلها المهاجرون والأنصار.(/2)
فالسفر لزيارة الإخوان في الله -لا في النسب- من القربات الكبيرة عند الله سبحانه وتعالى، لأن من يقوم به يتجشم المتاعب والأخطار لا لشيء وإنما لزيارة أخ له جمعه به الإسلام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضاً أو زار أخا ً له في الله ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً" 14. وإذا كان الحب بين الإخوة في الله ولله فهذا يكون أرقى حب وأسماه لأنه تجرد من جميع الشوائب التي قد تغيره وتضعفه، وصاحبه يكون ممن يحبهم الله تعالى ومن أحبه الله فقد فاز بنعيم الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد: فذكر أنه يريد زيارة أخيه في الله، قال: هل لك عليه من نعمة تربها قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" 15.
هذه بعض أنواع سفر الطاعة وهناك الكثير من الأنواع التي إذا أريد بها وجه الله تعالى وكانت نيتها خالصة لوجهه تعالى كانت من سفر الطاعة.
النوع الثاني من أنواع السفر: سفر المعصية:
وسفر المعصية هو السفر الذي تكون فيه نية المسافر القيام بعمل نهى الشارع عنه نهياً قطعياً جازماً ونفر منه الشارع ومن القيام به، ورتب على القيام به عقوبة شرعية تقع على من قام بهذا العمل وهذه العقوبة إما دنيوية من حد أو قصاص، أو تعزير، وإما أخروية بما يكتسبه الإنسان من إثم وسيئات تهلكه وتدخله نار جهنم والعياذ بالله. وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن سردها للدلالة على ما مضى الآتي:
1: الخروج إلى البراري والفلوات والجبال، من أجل التقطع والسرقة ونهب أموال الناس بالباطل:
فهذا الخروج من المنكرات ومن أكبر المعاصي التي قد حد لها الشرع حداً، وعقوبة زجرٍ لمن يقوم بمثل هذه الأعمال التي لا يرضاها عقل ولا دين، وتنشر الخوف والذعر بين الناس وعدم الطمأنينة يقول تعالى:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساد أن يقتلوا.. الآية} لمائدة: 33، فكانت هذه الآية حداً قوياً وزاجراً لكل من تسول له نفسه الخروج إلى مثل تلك الأماكن للنهب والسلب والقتل، وذلك لأن الدين الإسلامي كفل حماية النفس والمال والعقل والعرض والدين، وعظم قدرها بل وكل شريعة، تعظمها، لذلك فهذا السفر والخروج والمشقة التي يلاقيها صاحبه كله معصية كبرى لله سبحانه وتعالى.
2: السفر للتجارة بالمحرمات:
التجارة أمر مشروع ورغب فيها الشارع الحكيم، وكذلك السفر للتجارة من مدينة أو دولة لأخرى فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشام للتجارة في مال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: فكان هذا السفر مباحاً، ولكن إذا كان السفر للتجارة بأشياء محرمة فإن هذا السفر لهذه التجارة مهما قل أو كثر تكون له أضراره الملموسة على الفرد والمجتمع.
ثالثا ً: السفر المباح:
هذا السفر يختلف عن غيره من الأسفار المذكورة سابقاً؛ وذلك لأن حكم على هذا النوع يرجع مباشرة إلى حكم المقصد الذي أنشأ من أجله المسافر سفره، فإن كانت نية المسافر مقصده من السفر طلب العلم أو المسافر للتجارة بالمحرمات خرج حكم هذا السفر عن كونه مباحاً إلى حكم تلك الأسفار على ما مرّ آنفاً وإن السفر مثلاً:
1: لطلب الرزق والتجارة المشروعة:
فطلب الرزق من الأمور المشروعة والمباحة لكل فرد ليدفع به الضرر أو الجوع عن نفسه وعن من يعول من أفراد أسرته، قال الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} سورة الملك: 15. فـ( إذا كان قصده بطلب المال مثلاً: التعفف عن السؤال ورعاية ستر المروءة على الأهل والعيال، والتصدق فيما يفضل عن مبلغ الحاجة صار هذا المباح بهذه النية من أعمال الآخرة 16 فالنية هنا لها دور كبير في تعيين حكم السفر من حيث الوجوب أو الندب أوالحرمة أو بقاؤه على أصل الإباحة. ومن الأمثلة أيضاً:
2: السفر للوظيفة:
من المعروف أن أغلب الأسفار تكون باختيار المسافر نفسه للقيام بأي الأعمال التي تهمه، ولكن قد يحث وأن يسافر الإنسان تنفيذا ًلأمر يطلب من قبل الجهة التي يعمل بها وذلك كالبعثات الدبلوماسية والملحقات العسكرية والثقافية، ومندوبي الشركات وممثليها وغيرهم ممن يقومون بأعمال توكل إليهم أثناء سفرهم، فهذا النوع مثل غيره من سفر الإباحة، وقد يكون واجباً إذا كان فيه خدمة لدين الله أو دفع ضر عن الإسلام والمسلمين. فإذا كان هذا السفر بعيداً عن المحرمات وعن الشبهات ومحارم الناس وأعراضهم، فإنه مباح كغيره لكونه من الأعمال المباحة التي أباحها الله تعالى.
3: السفر للسياحة والتنزه:(/3)
يحتاج الإنسان من وقت إلى آخر إلى فترة يرفه فيها عن نفسه لأنه قد يمل من تكرار الوجوه والمناظر والأشياء، وعدم التغير فيها، وقد يمل كذلك من كثرة الأعمال والمشاغل والمسؤوليات والمشاكل التي تواجهه في حياته، كل ذلك يجعله يفكر بالسفر والخروج من المكان المعتاد والبعد عنه، للترويح عن نفسه واستعادة نشاطه. أو التفكر في مخلوقات الله تعالى وعظمته.
وهذا السفر إذا خلا من المنكرات والمحرمات التي ترتكب هذه الأيام بإسم السياحة والتنزه والتصيف فهو سفر مباح.
وعلى الإنسان أن لا يكثر من هذه الأسفار حتى لا يضيع وقته وحياته في ما لا يعود عليه بالنفع في آخرته؛ لأن الإنسان سوف يسأل يوم القيامة عن شبابه ووقته وحياته فيم قضاها. كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه".. الحديث 17.
فالإكثار من الأسفار من الشواغل التي تشغل الإنسان وتشل تفكيره وتجعله يقصر في أداء الواجبات والفرائض التي افترضها الله عليه، قال الغزالي: وأما السياحة في الأرض على الدوام فمن المشوشات للقلب 18.
هذه بعض مقاصد السفر وقد ذكرنا الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر، وأسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - أخرجه الترمذي كتاب العلم باب ( ما جاء في فضل الفقه على العبادة ) (5/48).
2 - رواه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن الكريم والذكر (4/2074).
3 - انظر صحيح البخاري كتاب العلم باب ( الخروج في طلب العلم ) (1/40).
4 - تهذيب موعظة المتقين عن إحياء علوم الدين للقاسمي ص136).
5 - القرطبي: 19/55
6- أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله (3/1026).
7 - أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب الغدوة والروحة في سبيل الله (3/1028-1029).
8 -أخرجه أبو داود. كتاب الجهاد. باب النهي عن السياحة (3/12)
9 - أخرجه النسائي كتاب الحج باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة (5/122).
9- أخرجه البخاري كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (2/552).
11 -أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/398).
12 - أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/398).
13 - أخرجه البخاري كتاب الأدب، باب ( صلة من وصله الله ) (5/2232).
14 - أخرجه الترمذي كتاب البر والصلة. باب ما جاء في زيارة الإخوان (4/321/320).
15 - أخرجه مسلم (4/1988).
16 - تهذيب موعظة المتقين. محمد جمال الدين القاسمي (137 – 138).
17 - أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة باب ( في القيامة ) (4/529).
18 - إحياء علوم الدين (2/2).(/4)
مقتل الحسين ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- نشأة الحسين رضي الله عنه. 2- أهل العراق يبايعون الحسين بعد وفاة الحسن. 3- أهل العراق ينكثون في بيعتهم. 4- خروج الحسين ونصح الصحابة له بعدم الخروج. 5- محاولات لمنع القتل والقتال. 6- شجاعة الحسين في القتال ومقتله رضي الله عنه. 7- حمل رأس الحسين إلى ابن أبي زياد ، وترحم يزيد عليه. 8- الإمساك عما شجر بينهم الفتن. 9- صيام عاشوراء لا علاقة له بمقتل الحسين. 10- بدع الرافضة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت محمد، ولد بعد أخيه الحسن، في شعبان سنة أربع من الهجرة، وقتل يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين رضي الله عنه وأرضاه.
أدرك الحسين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين، وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ولكنه كان صغيراً، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، وكان معظماً موقراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، فلما آلت الخلافة إلى أخيه الحسن، وتنازل عنها لمعاوية لم يكن الحسين موافقاً لأخاه لكنه سكت وسلّم.
ولما توفي الحسن كان الحسين في الجيش الذي غزا القسطنطينية في زمن معاوية، ولما أخذت البيعة ليزيد بن معاوية في حياة معاوية امتنع الحسين من البيعة لأنه كان يرى أن هناك من هو أحق بالخلافة والبيعة من يزيد.
فخرج من المدينة إلى مكة، ولم يكن على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساويه في الفضل والمنزلة.
ثم صارت ترد إليه الكتب والرسائل من بلاد العراق يدعونه إليهم ليبايعونه للخلافة، فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان متحتماً وأمراً حازماً محكماً بعث إليه ليركب في أهله وذويه.
فلما دخل مسلم الكوفة تسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفاً ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفاً فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمت له البيعة، فتجهز رضي الله عنه خارجاً من مكة قاصداً الكوفة.
فانتشر الخبر فكتب يزيد بن معاوية لعامله على الكوفة ابن زياد بأن يطلب مسلم بن عقيل ويقتله أو ينفيه عن البلد.
فسمع مسلم الخبر فركب فرسه واجتمع معه أربعة آلاف من أهل الكوفة وتوجه إلى قصر ابن زياد، فدخل ابن زياد القصر وأغلق عليه الباب، فأقبل أشراف وأمراء القبائل بترتيب من ابن زياد في تخذيل الناس عن عقيل ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت والناس يكفونك، كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟ فتخاذل الناس حتى لم يبق معه إلا خمسمائة نفس ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثمائة، ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب ثم انصرفوا عنه فلم يبق معه أحد، فذهب على وجهه واختلط عليه الظلام يتردد الطريق لا يدري أين يذهب، فاختبأ في خيمة، فعلموا بمكانه فأرسل ابن زياد سبعين فارساً فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط به فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم ثلاث مرات وأصيبت شفته العليا والسفلى ثم جعلوا يرمونه بالحجارة فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه أحدهم الأمان فأمكنه من يده وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه، فالتفت إلى رجل يسمى محمد بن الأشعث فقال له: إن الحسين خرج اليوم إليكم فابعث إليه على لساني تأمره بالرجوع، ففعل ذلك ابن الأشعت، لكن الحسين لم يصدق ذلك، فأتوا بمسلم بن عقيل فأُدخل على ابن زياد، فأمر بأن تضرب عنقه فأُصعد إلى أعلى القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر، فقام رجل فضرب عنقه وألقى برأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده. وكان قتله رضي الله عنه يوم التروية الثامن من ذي الحجة.
ثم إن ابن زياد قتل معه أناساً آخرين وبعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية إلى الشام.
خرج الحسين من مكة قاصداً أرض العراق ولم يعلم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وقبل خروجه استشار ابن عباس فقال له: لولا أن يزرى بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب. فقال الحسين: لأن أُقتل في مكان كذا وكذا أحب إلي من أن أُقتل بمكة.
فلما كان من العشي جاء ابن عباس إلى الحسين مرة أخرى فقال له يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغتر بهم، أقم في هذا البلد وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً وكن عن الناس في معزل، فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونساءك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.(/1)
وكان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال له: أين تريد؟ قال: العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى، فقال له: إني محدثك حديثاً، إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل.
فخرج متوجهاً إليهم في أهل بيته وستون شخصاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الاثنين العاشر من ذي الحجة. يقال أن الحسين لقي الفرزدق في الطريق فسلم عليه وسأله عن أمر الناس وما وراءه فقال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية. ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من قتل ابن عمه مسلم بن عقيل وغيرها من الأخبار، وكان لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه، فوصل كربلاء، فقال: ما اسم هذه الأرض؟ فقالوا له: كربلاء، فقال: كرب وبلاء. فلما كان وقت السحر قال لغلمانه: استقوا من الماء وأكثروا، فأقبلت عليهم خيول ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد وكانوا ألف فارس، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يترووا من الماء ويسقوا خيولهم وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضاً.
فلما دخل وقت الظهر أمر الحسين رجلاً فأذن ثم خرج في إزار ورداء ونعلين، فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم مجيئه هذا، ولكن قد كتب له أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحرّ بن يزيد تريد أن تصلي بأصحابك؟ قال لا! ولكن صل أنت فصلى الحسين بالجميع ثم دخل خيمته حتى العصر فخرج وصلى بهم، فسأله الحرّ عن هذه الرسائل التي أرسلت له فأحضر له الحسين كتباً كثيرة فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة، فقال الحرّ: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا لك في شيء، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على ابن زياد فقال الحسين الموت أدنى من ذلك. فقال له الحرّ فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين: أفبالموت تخوفني؟:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق خوفاً أن يعيش ويرغما
عندها تزاحف الفريقان بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام خيمته محتبياً بسيفه ونعس فخفق برأسه وسمعت أخته الضجة فأيقظته، فرجع برأسه كما هو وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ((إنك تروح إلينا)). فتقدم عشرون فارساً من جيش ابن زياد فقالوا لهم: جاء أمر الأمير أن تأتوا على حكمه أو نقاتلكم. فقال أصحاب الحسين: بئس القوم أنتم تريدون قتل ذرية نبيكم وخيار الناس في زمانهم؟ فقال الحسين: ارجعوا لننظر أمرنا الليلة وكان يريد أن يستزيد تلك الليلة من الصلاة والدعاء والاستغفار وقال: قد علم الله مني أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والاستغفار والدعاء، وأوصى أهله تلك الليلة، وخطب أصحابه في أول الليل، فحمد الله وأثنى عليه وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له، فإن القوم إنما يريدونني، فاذهبوا حتى يفرج الله عز وجل فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: فما تقول الناس أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا، لم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف رغبة في الحياة الدنيا , لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.(/2)
وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم. فلما أذن الصبح صلى رضي الله عنه بأصحابه صلاة الفجر وكانوا اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً وأعطى رايته أخاه العباس، وجعلوا الخيام التي فيها النساء والذرية وراء ظهورهم، فدخل الحسين خيمته فاغتسل وتطيب بالمسك ثم ركب فرسه وأخذ مصحفاً ووضعه بين يديه ثم استقبل القوم رافعاً يديه يدعو ثم أناخ راحلته وأقبلوا يزحفون نحوه، فترامى الناس بالنبل، وكثرت المبارزة يومئذٍ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وأنهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم، فأرسل أصحاب ابن زياد يطلبون المدد فبعث إليهم ابن زياد نحواً من خمسمائة. دخل عليهم وقت الظهر، فقال الحسين مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلي، فقال رجل من أهل الكوفة: إنها لا تقبل منكم، فصلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديداً، فتكاثر القوم حتى يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحابه ذلك تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فقتل عبدالله بن مسلم بن عقيل، ثم قتل عون ومحمد ابنا عبدالله بن جعفر، ثم قتل عبدالرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم قتل عبدالله والعباس وعثمان وجعفر ومحمد إخوان الحسين أبناء علي بن أبي طالب، حتى بقي الحسين لوحده ومكث نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحدٌ إليه إلا رجع عنه لا يحب أن يقتله هيبةً من مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أحاطوا به فجعل رجل يدعى شمّر يحرضهم على قتله، فرد آخر وما يمنعك أن تقتله أنت؟ فاستبا فجاء شمّر مع جماعة من أصحابه وأحاطوا به فحرضهم على قتله: اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، فجاء سنان بن أبي عمرو فطعنه بالرمح فوقع ثم نزل فذبحه وحز رأسه. ثم أخذ الجيش النسوة والأطفال إلى الكوفة، فأتوا ابن زياد أمير الكوفة برأس الحسين وجعل في طست، فأمر ابن زياد فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر وذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين، فقام إليه عبد الله الأزدي فقال: ويحك يا ابن زياد! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين.
فجاءت الرواحل بالنساء والأطفال وأُدخلوا على ابن زياد، فدخلت زينب ابنة فاطمة فقال من هذه؟ فلم تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، فقالت: بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهريا لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذِب الفاجر. قال: كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكم؟ فقالت: كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله.
قال عبد الملك بن عمير: دخلت على ابن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا برأس ابن زياد بين يدي المختار على ترس.
ثم أمر برأس الحسين وأرسل إلى يزيد بن معاوية بالشام فلما وضعت بين يديه بكى ودمعت عيناه وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبك ما قتلتك.
وكان مقتله رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة. [1] ... ... ... ...
طريقان شتى مستقيم وأعوج
بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا
ذكيٌ بالدماء مُضرّج
ولا خائفٍ من ربه يتحرج
تضيء مصابيح السماء فتُسرج
له في جنان الخلد عيش مُخرفج
لدى الله حيٌ في الجنان مُزوج
يؤم بهم وِرد المنية منهج
عليك وممدود من الظل سجسج
يرف عليه الأقحوان المفلج
أحرّ البكائين البكاء المولج
وأنت لأذيال الروامس مدرج
فليس بها للصالحين مُعرّج
أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج
وعُفّر بالترب الجبين المُشجج
هنالك خَلخالٌ عليه ودُملج
ولله أوسٌ آخرون وخزرج
تماماً وما كل الحوامل تُخدج
... ... أمامك فانظر أي نهجيك تنهج
ألا أيها الناس طال ظريركم
أكلُ أوانٍ للنبي محمدٍ قتيلٌ
أما فيكم راعٍ لحق نبيه
أبعد المسمى بالحسين شهيدكم
وكيف نباكي فائزاً عند ربه
فإلا يكن حياً لدينا فإنه
مضى ومضى الفُرّاط من أهل بيته
سلام وريحان وروح ورحمة
ولا بَرح القاع الذي أنت جاره
وليس البكا أن تسفح العين إنما
أتمنعني عيني عليك بدمعةٍ
عفاءٌ على دار رحلت لغيرها
كدأب عليّ في المواطن قبله
كأني أراه إذ هوى عن جواده
يود الذي لاقوه أن سلاحه
فيدرك ثأر الله أنصار دينه
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه
... ...
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، واتباع النبي المجاب، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
بارك الله. .
[1] البداية والنهاية 8/149 - 212 ... ... ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
أما بعد:
ولنا مع قصة مقتل الحسين عدة وقفات:(/3)
أولاً: إن ما حصل بين المسلمين من المعارك والحروب إنما هي فتنة ابتلى الله بها هذه الأمة، وإن من منهج أهل السنة والجماعة هو الإمساك عما شجر بين الصحابة. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. . فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور. انتهى.
فنمسك ألسنتنا عن الخوض في الفتن التي حصلت بين المسلمين، ونكل أمرهم إلى الله. وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة خلافاً لغيرهم من أهل البدع.
ثانياً: إن صيام المسلمين ليوم عاشوراء لا علاقة له بمقتل الحسين أبداً كما يدعي بذلك بعض الفرق الضالة المنحرفة عن منهج أهل السنة، وإنما صيامنا ليوم عاشوراء هو لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)).
ثالثاً: إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل الحسين أو حتى غير الحسين من عامة المسلمين فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة، وكيف إذا كان من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رضي الله عنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عابداً شجاعاً سخياً، ولا يجوز إقامة المآتم في يوم قتله أو لطم الخدود أو شق الثياب كما تفعل الرافضة يوم عاشوراء، والعجيب من أمر الرافضة أن أباه كان أفضل منه، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، ولا يتخذون مقتله مأتماً، وكذلك عثمان بن عفان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الفاروق عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، وقتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، كما يفعل هؤلاء الجهلة يوم مصرع الحسين.
وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها)) [رواه الإمام أحمد وابن ماجة].
رابعاً: لقد بالغ الرافضة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً من كون الشمس كسفت يوم قتله حتى بدت النجوم، وما رفع حجر إلا وجد تحته دماً، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضاً، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم، إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: فصارت طائفة جاهلة ظالمة إما ملحدة منافقة وإما ضالة غاوية تظهر موالاته وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية، والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع [1].
وقال ابن رجب رحمه الله: "وأما اتخاذه مأتماً كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن دونهم"[2].
خامساً: ادعت الدولة الفاطمية التي حكمت الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستمائة وستين، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر الذي يقال له تاج الحسين، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف وهم في ذلك كذبة خونة.(/4)
سادساً: روى مسلم في صحيحه حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضية)) وفي رواية: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)). قال البيهقي رحمه الله: "وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفرها، فإن صادف صومه وقد كُفّرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته"[3].
ولما عُرف من فضل صوم عاشوراء فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه حتى كان بعضهم يصومه في السفر خشية فواته، كما نقله ابن رجب عن طائفة منهم ابن عباس وأبوإسحاق السبيعي والزهري وقال: رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر [4].
[1] الفتاوى 25/307
[2] لطائف المعارف 113
[3] فضائل الأوقات 439
[4] لطائف المعارف لابن رجب 110 ... ...
... ...
... ...(/5)
مقتل سلَّام بن أبي الحقيق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فهذا درسٌ في السيرة يسلط الضوء على حادثة مقتل المجرم سلام بن أبي الحقيق.
قال ابن كثير -في البداية والنهاية -: "مقتل أبي رافع عبد الله، ويقال: سلام بن أبي الحقيق اليهودي -لعنه الله- وكان في قصر له في أرض خيبر، وكان تاجراً مشهوراً بأرض الحجاز"أ. ه1
وهو من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة2، وكان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فرغ المسلمون من أمر بني قريظة وكانت الأوس قد قتلت على أيدي رجالها كعب بن الأشرف، استأذنت الخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبي رافع رغبةً منها في إحراز فضيلةٍ مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان.
أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت جماعةٌ قوامها خمسة رجال كلهم من بني سلمة من الخزرج، وقائدهم عبد الله بن عتيك وبقيتهم هم: مسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة وخزاعي بن أسود.
وزاد ابن الأثير في جامع الأصول عبد الله بن عِتبة -بكسر العين3-.
خرج هؤلاء القوم، واتجهوا نحو خيبر، إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنَوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم4 قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم إني منطلق ومتلطف للبوَّاب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس.
فهتف به البواب: يا عبد الله-إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب.
قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنتُ - أي اختبأت - فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق المفاتيح على وتد، قال: فقمت إلى المغالق ففتحتها، وكان أبو رافع يسمر عنده أناس، فلما ذهب أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من بالداخل.
قلت: إن القوم لو نذروا بي لم يخلصوا إليَّ حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو ببيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربةً بالسيف وأنا مندهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت فمكثت قليلاً، ثم دخلت عليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟
فقال: لأمك الويل! إن رجلاً في البيت ضربني قبل قليل بالسيف.
قال عبد الله: فضربته ضربةً لم تقتله، ثم وضعت ذبابة السيف في بطنه حتى خرج من ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجةٍ له، فوضعت رجلي معتقداً أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت فانكسرت ساقي، وكانت ليلةً مقمرة فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته.
فلما صاح الديك، صاح من ينعي أبا رافع على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز.
فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.5
فانتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: أبسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنهالم أشتكها قط.6
وعند ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله به لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غناءً إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الإسلام. قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً فعلت الأوس مثل ذلك.
ولما أصابت الأوسُ كعبَ بن الأشرف في عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت الخزرج، والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً، قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العداوة كابن الأشرف فتذكروا ابن أبي الحقيق، وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود، فخرجوا، وأمَّر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن عتيك، ونهاهم عن أن يقتلوا وليداً أو امرأة فخرجوا حتى قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلا أغلقوه على أهله، قال: فقاموا على بابه مستندين على جذع نخلة فاستأذنوا عليه، فخرجت امرأته إليهم. فقالت: من أنتم؟
قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة (أي أصحاب حاجة).
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا عليه أغلقنا علينا وعليها الحجرة، تخوفاً أن تحول بيننا وبينه، فابتدرناه بأسيافنا وهو على فراشه، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا ثياب بيض ملقاةٌ.(/1)
قال: فصاحت امرأته فكان الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليلٍ. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قَطْني قطني -أي حسبي حسبي- قال: وخرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئاً شديد7، ويقال: رجله -فيما قال ابن هشام- وحملناه حتى نأتي به منهر8من عيونهم، فندخل فيه، قال: فأوقدوا فيه النيران، واشتدوا في كل وجهٍ يطلبوننا.
قال: حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، فاكتنفوه وهو ينزع بينهم قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدوَّ الله قد مات؟ قال: فقال رجلٌ منا أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال: فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ثم قالت تحدثهم: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبتُ نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟! ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ9وإله يهود، فما سمعت من كلمة كانت ألذَّ إلى نفسي منها. قال: ثم جاءنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه بقتل عدوِّ الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه فقال: لسيف عبد الله بن أنيس (هذا والله قتله).
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لله درُّ عصابة لاقيتَهم ... **** ... يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكمُ ... **** ... مُرُحاً كأسدٍ في عرين مغرِف
حتى أتوكم في محلِّ بلادكم ... **** ... فسقوكم حتفاً ببيضً ذفَّفِ10.
مستبصرين لنصر دين نبيهم ... **** ... مستصغرين لكلٍ أمرٍ مجحفِ
هكذا أورد القصة الإمام محمد بن إسحاق11-رحمه الله- وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه12 مثل سياق محمد بن إسحاق وسمى الجماعة الذين ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق، ثم قال موسى بن عقبة: قال الزهري: قال ابن كعب13: فقدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر فقال: (أفلحت الوجوه).
قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله.
قال: (أقتلتموه؟) قالوا: نعم، قال: (ناولني السيف) فسله فقال: (أجل وهذا طعامه في ذباب السيف)14.
الدروس والعبر المستفادة من قصة مقتل سلام بن أبي الحقيق:
1. أن شاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقام عليه الحد الشرعي سواء كان مسلماً أو كافراً، وحده هو القتل، كما قتل المسلمون ابن سلَّام وابن الأشرف؛ فقد كانا مشهورين بهجاء رسول الله والمسلمين، وكما جرى ذلك لبعض من كان يظهر الإسلام ووقع في عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شتماً أو سباً؛ كحال المرأة التي قتلها زوجها بعد أن وقعت في عرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقامت تشتمه وتسبه فأهدر رسول الله دمها. وإقامة الحد لا تكون إلا إلى القضاء الشرعي وليست لأي أحد من أفراد الناس، وإلا لسادت الفوضى بينهم؛ فلا بد من فهم هذا الضابط وهو أن الذي يقيم الأحكام والحدود والعقوبات على المجرمين هو الإمام المسلم والولي الشرعي.
2. كان سلَّام ابن أبي الحقيق من زعماء يهود بني النضير الذي أقاموا في المدينة بعد أن أجلاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإفسادهم في المدينة ونقضهم العهود والمواثيق التي أبرموها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما هي عادتهم في كل زمان! فتم قتله في بيته ليعلم الطغاة أن أيدي المسلمين بإمكانها أن تصل إليهم وتنال منهم، ولو كانوا داخل بيوتهم في منأى من الأرض حتى لا يعودوا إلى معاداة المسلمين والعمل ضدهم وضد دعوتهم.
3. يجب على المسلمين أن يتنبهوا إلى أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا وإذنه لقتل ذلك المجرم لم يكن إلا بعد أن صار للمسلمين قوة ودولة تحكم بالشريعة الإسلامية.
4. في القصة ما يدل على تنافس الصحابة في التقرب إلى الله وأن هذا من المشروع كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (26) سورة المطففين ).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - البداية والنهاية (6/127)
2 - انظر فتح الباري (7/343)
3 - انظر فتح الباري (7/343)
4 - راح الناس بسرحهم: أي رجعوا إلى بيوتهم بمواشيهم التي ترعى، والسرح: السائمة من إبل وبقرٍ وغنم. (البداية والنهاية 6/131)
5 - الرحيق المختوم للمباركفوري (358).
6 - انظر: صحيح البخاري حديث رقم 3813(4/1482)
7 - الوثء: إصابة العظم بلا كسر، ووصم يصيب اللحم ولا يبلغ العظم (تاج العروس 1/481)
8 - المنهر: شق في الحصن نافذٌ يجري منه الماء (تاج العروس (14/316)
9 - فاظ: مات
10 - قال ابن هشام: قوله: ذفف: عن غير ابن إسحاق. انظر سيرة ابن هشام 3/220.
11 - البداية والنهاية لابن كثير 6/130.(/2)
12 - البداية والنهاية لابن كثير 6/134، نقلاً من دلائل النبوة للبيهقي 4/38 ، 39، السنن الكبرى 3/222.
13 - هو عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري - انظر تهذيب الكمال 17/369.
14 - نقل تفاصيل هذه الحادثة -كما سبق- المباركفوري في (الرحيق المختوم) ص358،ط: دار مكتبة وليد الكعبة.(/3)
مقومات الاصطفاء بين المسلمين واليهود
منقذ السقار
1557
ملخص المادة العلمية
1- اصطفاء الله لبني إسرائيل وآثار هذا الاصطفاء. 2- غضب الله على بني إسرائيل بسبب ذنوبهم وأعمالهم. 3- تكريم الله لأمة من الأمم مشروط بعبادتها لله وإقامتها لدينه وشرائعه. 4- انتقال الاصطفاء لأمة الإسلام وبنفس الشروط. 5- تحذير رسول الله من مشابهة أهل الكتاب والسير على طريقتهم ومنهجهم. 6- واقع المسلمين اليوم ووقوعهم فيما حذرهم منه النبي . 7- الأمل معقود بالطائفة المنصورة الثابتة على الدين إلى قيام الساعة.
1- اصطفى الله أمة بني إسرائيل على سائر الأمم الوثنية القائمة حينذاك، وجعل فيهم النبوة والكتاب والملك والشريعة.
وقال عنهم: ولقد اخترناهم على علم على العالمين [الدخان:32]. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [البقرة:74]. ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين [الجاثية:16]. أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين [الأعراف:170].
2- ظهرت بركات هذا الاصطفاء والاختيار في حياة بني إسرائيل :
أ - كثر فيهم الأنبياء المصلحون ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة [الجاثية:16].
ب - العز والتمكين بعد الذل والمهانة. ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم [الجاثية:16].
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف:173]. وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [البقرة:49].
وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [البقرة:50].
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم [النور:55].
ج- كثرة النعم عليهم. وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [الأعراف:160].
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم [البقرة:60].
يزعم اليهود أنهم شعب الله المختار إلى الأبد، وإن هذا الاختيار قائم على حسن حسبهم ونسبهم ولا علاقة له بالإيمان والعمل، فقد جاء في توراتهم المحرفة قولها: "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية" (سفر التكوين/الإصحاح17).
ويعتبرون هذا العهد والاصطفاء ماضياً فيهم إلى قيام الساعة. ففي نص آخر تقول التوراة: "يدعو اسمه إسحاق وأقيم معه عهداً وأبدياً لنسله من بعده" (سفر التكوين/الإصحاح17).
3- التكريم الإلهي متعلق بالعمل لا بالنسب.
لم يستحق بنو إسرائيل هذا الاختيار والاصطفاء، فكان المحق والغضب عليهم، لأن الاصطفاء مشروط بشروط لم يوفوا بها.
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون [البقرة:40]. فعندما نكثوا عهد الله لم يبقهم الله أمة الاختيار والاصطفاء سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعدما جاءته فإن الله شديد العقاب [البقرة:211].
وقال لهم: إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله شديد العقاب [الأنفال:53].
4- تحول الأمة المصطفاة إلى أمة غضيبة ملعونة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة:6-7]. قال أهل العلم: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى وباءوا بغضب من الله [آل عمران:112]. بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون [البقرة:88]. لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [المائدة:78]. ولعنوا بما قالوا [المائدة:46].
ومن غضب الله عليهم مسخ بعضهم قردة وخنازير فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [البقرة:65]. من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت [المائدة:60].
5- الاصطفاء يتحول إلى أمة جديدة وبنفس الشروط التي أعطيها بنو إسرائيل.
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [آل عمران:110].
لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [الأنبياء:105].
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل:59]. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [فاطر:32]. وجاهدوا في الله حق جهاده وهو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل [الحج:78].
6- تحذير رسول الله من التشبه باليهود والسير على طريقهم ودربهم المشئوم.(/1)
((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) [رواه البخاري ح7320، ومسلم ح2669].
وسنن الله لا تحابي أحداً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً[الفتح 23]
وقال ((فوالله مالفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))[البخاري ح4043، ومسلم ح2961]
قُرأ قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون-قٌُرأ عند حذيفة بن اليمان فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل.
قال حذيفة: (نعم الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر، كلا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة).[رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 2/312].
وعن ابن عباس أنه قال(ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم).[تفسير الطبري]
لكن المسلمين وقعوا في مشابهة بني إسرائيل التي حذر منها النبي ووافقوهم في ضلالهم ومن ذلك أمور نذكر أهمها:
أولاً: الوقوع في الشرك.
وقع بنو إسرائيل في عبادة العجل بل والأصنام التي أقاموها في الهيكل الذي بناه سليمان بعد ذلك لعبادة الله ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [البقرة:51]. وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم [البقرة:54]. لكنهم لفرط ضلالهم وكفرهم أُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم [البقرة:93].
وحذر النبي أمته من الوقوع في الشرك وذكر أن ((أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل)) [رواه أحمد ح19781].
ولما خرج النبي إلى حنين خرج معه مسلمة الفتح وكانوا حديثو عهد بكفر فمرّوا على قوم لهم سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال : ((قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إنها السنن، لتركبن سَنَن من كان قبلكم سنة بسنة)) [روه أحمد ح20892، والترمذي ح2180].
وفي صور الشرك التي نراها في حياة المسلمين ما نراه من عبادة القبور والأضرحة والنذر عندها والذبح لها والطواف حولها، وقد وقعنا فيما حذر منه حين قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا)) [رواه البخاري ح436، ومسلم ح531]. وفي رواية: ((أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله)) [رواه البخاري ح434، ومسلم ح528].
((لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان))[رواه أحمد ح21361، والترمذي ح2219، وابن ماجه ح3952 ].
قال عبد الله بن مسعود: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).
ثانياً: الجبن والخوف على النفس وترك الجهاد والذل والعقوبة بالصغار والذل بعد ذلك.
قال تعالى عن اليهود ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة [البقرة:96].
ولما أمرهم الله بقتال عدوهم في الأرض المقدسة جبنوا عن ذلك وإذا قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون [المائدة:20-24]. فكانت العقوبة لهذا الخذلان أن يتيهوا في الأرض قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين [المائدة:26].
ووقعت أمتنا فيما حذره النبي حين قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [رواه أبو داود ح4297، وأحمد ح21363].
وقال : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [أبو داود 3462 وأحمد وهو صحيح].
وهو ما أصاب المسلمين اليوم حيث ضربت عليهم الذلة والصغار الذين ضربهما الله على بني إسرائيل: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وفي الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث أبي بكر: ((ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب)).
ثالثاً: تحريف الشريعة والتلاعب بها بالتحليل والتحريم.(/2)
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لما أسمع رسولُ الله عدي بن حاتم الآية، وكان على النصرانية قال له: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) [الترمذي ح 3306 وحسنه الألباني].
وقد أخذ اليهود من دينهم ما وافق هواهم وتركوا غيره فقال الله لهم: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
وقال ((إنما هلك من كان قبلكم أنهم يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف)) [ رواه البخاري ح6787]
ومشت هذه الأمة على سيرة أهل الكتاب فنكصت عن تطبيق الشريعة أو بعض الكتاب، وزعم بعض علماء السوء أن الشريعة مطبقة في بلاد المسلمين، وأفتوا بتحليل الحرام كالفوائد البنكية، وتحريم الحلال كمنع الجهاد وإنكار المنكر ومحاربة الحجاب والنقاب، ووقعت الأمة فيما حذره النبي : ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) [رواه أحمد ح21361، ابن ماجه ح3952، والدارمي ح209].
قال سفيان بن عيينة: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففبه شبه من النصارى.
رابعاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [المائدة:78-79].
ثم قال : ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو لتقصرنه على الحق قصراً)).
وجاء في رواية أخرى أيضاً لأبي داود: ((أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعننكم كما لعنهم)) [رواه أبو داود ح4336، والترمذي ح3047، وابن ماجه ح4006].
وستقع هذه الأمة فيما وقع به بنو إسرائيل فهي ما تزال تتبع سنن بني إسرائيل حيث قال: ((ستكون بعدي فتن، لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيده ولا بلسانه، قلت: يا رسول الله، وكيف ذاك قال: ينكرونه بقلوبهم)) [رواه الإسماعيلي].
خامساً:الافتراق في الدين
ذكر الله لنا تفرق أهل الكتاب في دينهم محذراً من صنيعهم، قال تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً[الروم 32] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات[آل عمران 105]ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه[فصلت 54]ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله[الأنعام 153]واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا[آل عمران 103]شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[الشورى 13]
وحذرنا رسول الله من أسباب الافتراق التي وقع بها بنو إسرائيل حتى لا نصير إلى ما صاروا إليه،ومن ذلك معارضة النصوص بعضها ببعض، قال عبد الله بن عمرو : ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافتهم في الكتاب)) [مسلم ح 2666].
قال ابن سعود سمعت رجلاً قرأ آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما فحسن.قال شعبة: أظنه قال: ((لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) [البخاري:2410].
وفي مسند أحمد خرج علينا رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجه حب الرمان من الغضب ، فقال لهم: ((مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ، بهذا هلك من كان قبلكم)) [أحمد ح 6381]. وفي مسلم :فسمع صوت رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال(( إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)) [مسلم 2666].(/3)
وقال ((دعوني ما تركتكم ، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) [البخاري:7288 ، مسلم 1337].
والغلو في الدين سبب من أسباب الافتراق حذر منه فقال((إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) [النسائي:3057 ، أحمد 1754 ، ابن ماجه 3029].وقد وقع فيه أهل الكتاب كما قال الله يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلى الحقوقال ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله ))[رواه البخاري ح3262] وفي حديث أنس أن رسول الله كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناه عليهم)) [أبو داود ح 4904].
ومن أسباب التفرق التي وقع بها بنو إسرائيل ثم وقعنا بها الجدل وعصيان النبي في أمره ((ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم)) أي مخالفتهم. [البخاري 7288 ، مسلم 1337].
عن أبي أمامة قال : قال صلى الله عليه وسلم : ((ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).[رواه الترمذي ح 3253، وابن ماجه ح 48]
وقد وقعت الأمة لهذه الأسباب وغيرها في التفرق المذموم الذي حذر منه النبي وأخبر بوقوعه حين قال((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) [الترمذي 3640 ، أبو داود 4596، ابن ماجه 3991].
لكن الأمل يبقى في هذه الأمة موصولاً إلى قيام الساعة بما تضمن الله من بقاء طائفة منها قائمة بأمر الله، محافظة على شروط الاصطفاء ، قال ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ))[رواه البخاري ح3442، ومسلم ح1921](/4)
مقومات الاصطفاء بين المسلمين واليهود
منقذ السقار
ملخص المادة العلمية
1- اصطفاء الله لبني إسرائيل وآثار هذا الاصطفاء. 2- غضب الله على بني إسرائيل بسبب ذنوبهم وأعمالهم. 3- تكريم الله لأمة من الأمم مشروط بعبادتها لله وإقامتها لدينه وشرائعه. 4- انتقال الاصطفاء لأمة الإسلام وبنفس الشروط. 5- تحذير رسول الله من مشابهة أهل الكتاب والسير على طريقتهم ومنهجهم. 6- واقع المسلمين اليوم ووقوعهم فيما حذرهم منه النبي . 7- الأمل معقود بالطائفة المنصورة الثابتة على الدين إلى قيام الساعة.
1- اصطفى الله أمة بني إسرائيل على سائر الأمم الوثنية القائمة حينذاك، وجعل فيهم النبوة والكتاب والملك والشريعة.
وقال عنهم: ولقد اخترناهم على علم على العالمين [الدخان:32]. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [البقرة:74]. ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين [الجاثية:16]. أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين [الأعراف:170].
2- ظهرت بركات هذا الاصطفاء والاختيار في حياة بني إسرائيل :
أ - كثر فيهم الأنبياء المصلحون ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة [الجاثية:16].
ب - العز والتمكين بعد الذل والمهانة. ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم [الجاثية:16].
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف:173]. وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [البقرة:49].
وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [البقرة:50].
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم [النور:55].
ج- كثرة النعم عليهم. وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [الأعراف:160].
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم [البقرة:60].
يزعم اليهود أنهم شعب الله المختار إلى الأبد، وإن هذا الاختيار قائم على حسن حسبهم ونسبهم ولا علاقة له بالإيمان والعمل، فقد جاء في توراتهم المحرفة قولها: "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية" (سفر التكوين/الإصحاح17).
ويعتبرون هذا العهد والاصطفاء ماضياً فيهم إلى قيام الساعة. ففي نص آخر تقول التوراة: "يدعو اسمه إسحاق وأقيم معه عهداً وأبدياً لنسله من بعده" (سفر التكوين/الإصحاح17).
3- التكريم الإلهي متعلق بالعمل لا بالنسب.
لم يستحق بنو إسرائيل هذا الاختيار والاصطفاء، فكان المحق والغضب عليهم، لأن الاصطفاء مشروط بشروط لم يوفوا بها.
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون [البقرة:40]. فعندما نكثوا عهد الله لم يبقهم الله أمة الاختيار والاصطفاء سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعدما جاءته فإن الله شديد العقاب [البقرة:211].
وقال لهم: إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله شديد العقاب [الأنفال:53].
4- تحول الأمة المصطفاة إلى أمة غضيبة ملعونة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة:6-7]. قال أهل العلم: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى وباءوا بغضب من الله [آل عمران:112]. بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون [البقرة:88]. لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [المائدة:78]. ولعنوا بما قالوا [المائدة:46].
ومن غضب الله عليهم مسخ بعضهم قردة وخنازير فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [البقرة:65]. من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت [المائدة:60].
5- الاصطفاء يتحول إلى أمة جديدة وبنفس الشروط التي أعطيها بنو إسرائيل.
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [آل عمران:110].
لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [الأنبياء:105].
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل:59]. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [فاطر:32]. وجاهدوا في الله حق جهاده وهو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل [الحج:78].
6- تحذير رسول الله من التشبه باليهود والسير على طريقهم ودربهم المشئوم.(/1)
((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) [رواه البخاري ح7320، ومسلم ح2669].
وسنن الله لا تحابي أحداً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً[الفتح 23]
وقال ((فوالله مالفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))[البخاري ح4043، ومسلم ح2961]
قُرأ قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون-قٌُرأ عند حذيفة بن اليمان فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل.
قال حذيفة: (نعم الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر، كلا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة).[رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 2/312].
وعن ابن عباس أنه قال(ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم).[تفسير الطبري]
لكن المسلمين وقعوا في مشابهة بني إسرائيل التي حذر منها النبي ووافقوهم في ضلالهم ومن ذلك أمور نذكر أهمها:
أولاً: الوقوع في الشرك.
وقع بنو إسرائيل في عبادة العجل بل والأصنام التي أقاموها في الهيكل الذي بناه سليمان بعد ذلك لعبادة الله ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [البقرة:51]. وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم [البقرة:54]. لكنهم لفرط ضلالهم وكفرهم أُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم [البقرة:93].
وحذر النبي أمته من الوقوع في الشرك وذكر أن ((أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل)) [رواه أحمد ح19781].
ولما خرج النبي إلى حنين خرج معه مسلمة الفتح وكانوا حديثو عهد بكفر فمرّوا على قوم لهم سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال : ((قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إنها السنن، لتركبن سَنَن من كان قبلكم سنة بسنة)) [روه أحمد ح20892، والترمذي ح2180].
وفي صور الشرك التي نراها في حياة المسلمين ما نراه من عبادة القبور والأضرحة والنذر عندها والذبح لها والطواف حولها، وقد وقعنا فيما حذر منه حين قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا)) [رواه البخاري ح436، ومسلم ح531]. وفي رواية: ((أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله)) [رواه البخاري ح434، ومسلم ح528].
((لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان))[رواه أحمد ح21361، والترمذي ح2219، وابن ماجه ح3952 ].
قال عبد الله بن مسعود: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).
ثانياً: الجبن والخوف على النفس وترك الجهاد والذل والعقوبة بالصغار والذل بعد ذلك.
قال تعالى عن اليهود ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة [البقرة:96].
ولما أمرهم الله بقتال عدوهم في الأرض المقدسة جبنوا عن ذلك وإذا قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون [المائدة:20-24]. فكانت العقوبة لهذا الخذلان أن يتيهوا في الأرض قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين [المائدة:26].
ووقعت أمتنا فيما حذره النبي حين قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [رواه أبو داود ح4297، وأحمد ح21363].
وقال : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [أبو داود 3462 وأحمد وهو صحيح].
وهو ما أصاب المسلمين اليوم حيث ضربت عليهم الذلة والصغار الذين ضربهما الله على بني إسرائيل: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وفي الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث أبي بكر: ((ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب)).
ثالثاً: تحريف الشريعة والتلاعب بها بالتحليل والتحريم.(/2)
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لما أسمع رسولُ الله عدي بن حاتم الآية، وكان على النصرانية قال له: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) [الترمذي ح 3306 وحسنه الألباني].
وقد أخذ اليهود من دينهم ما وافق هواهم وتركوا غيره فقال الله لهم: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
وقال ((إنما هلك من كان قبلكم أنهم يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف)) [ رواه البخاري ح6787]
ومشت هذه الأمة على سيرة أهل الكتاب فنكصت عن تطبيق الشريعة أو بعض الكتاب، وزعم بعض علماء السوء أن الشريعة مطبقة في بلاد المسلمين، وأفتوا بتحليل الحرام كالفوائد البنكية، وتحريم الحلال كمنع الجهاد وإنكار المنكر ومحاربة الحجاب والنقاب، ووقعت الأمة فيما حذره النبي : ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) [رواه أحمد ح21361، ابن ماجه ح3952، والدارمي ح209].
قال سفيان بن عيينة: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففبه شبه من النصارى.
رابعاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [المائدة:78-79].
ثم قال : ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو لتقصرنه على الحق قصراً)).
وجاء في رواية أخرى أيضاً لأبي داود: ((أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعننكم كما لعنهم)) [رواه أبو داود ح4336، والترمذي ح3047، وابن ماجه ح4006].
وستقع هذه الأمة فيما وقع به بنو إسرائيل فهي ما تزال تتبع سنن بني إسرائيل حيث قال: ((ستكون بعدي فتن، لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيده ولا بلسانه، قلت: يا رسول الله، وكيف ذاك قال: ينكرونه بقلوبهم)) [رواه الإسماعيلي].
خامساً:الافتراق في الدين
ذكر الله لنا تفرق أهل الكتاب في دينهم محذراً من صنيعهم، قال تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً[الروم 32] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات[آل عمران 105]ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه[فصلت 54]ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله[الأنعام 153]واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا[آل عمران 103]شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[الشورى 13]
وحذرنا رسول الله من أسباب الافتراق التي وقع بها بنو إسرائيل حتى لا نصير إلى ما صاروا إليه،ومن ذلك معارضة النصوص بعضها ببعض، قال عبد الله بن عمرو : ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافتهم في الكتاب)) [مسلم ح 2666].
قال ابن سعود سمعت رجلاً قرأ آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما فحسن.قال شعبة: أظنه قال: ((لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) [البخاري:2410].
وفي مسند أحمد خرج علينا رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجه حب الرمان من الغضب ، فقال لهم: ((مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ، بهذا هلك من كان قبلكم)) [أحمد ح 6381]. وفي مسلم :فسمع صوت رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال(( إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)) [مسلم 2666].(/3)
وقال ((دعوني ما تركتكم ، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) [البخاري:7288 ، مسلم 1337].
والغلو في الدين سبب من أسباب الافتراق حذر منه فقال((إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) [النسائي:3057 ، أحمد 1754 ، ابن ماجه 3029].وقد وقع فيه أهل الكتاب كما قال الله يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلى الحقوقال ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله ))[رواه البخاري ح3262] وفي حديث أنس أن رسول الله كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناه عليهم)) [أبو داود ح 4904].
ومن أسباب التفرق التي وقع بها بنو إسرائيل ثم وقعنا بها الجدل وعصيان النبي في أمره ((ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم)) أي مخالفتهم. [البخاري 7288 ، مسلم 1337].
عن أبي أمامة قال : قال صلى الله عليه وسلم : ((ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).[رواه الترمذي ح 3253، وابن ماجه ح 48]
وقد وقعت الأمة لهذه الأسباب وغيرها في التفرق المذموم الذي حذر منه النبي وأخبر بوقوعه حين قال((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) [الترمذي 3640 ، أبو داود 4596، ابن ماجه 3991].
لكن الأمل يبقى في هذه الأمة موصولاً إلى قيام الساعة بما تضمن الله من بقاء طائفة منها قائمة بأمر الله، محافظة على شروط الاصطفاء ، قال ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ))[رواه البخاري ح3442، ومسلم ح1921](/4)
مقومات الداعية الناجح
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات
• مقدمة .
• دلالة هذا الموضوع .
• من فوائد نجاح الداعية .
• عناصر التأثير في الدعوة .
• مقومات نجاح الداعية .
• معالم التميز .
• وصايا في طلب العلم .
• من أساليب التأثير المقنعة .
• مقومات في ممارسة الدعوة .
• المقومات في مفاهيم الداعية .
مقومات الداعية الناجح
مقدمة
لقاؤنا في هذا اليوم عن مقومات الداعية الناجح ، وهذا موضوع مهم وحديثه طويل، ولكننا بعون الله - سبحانه وتعالى - نأخذ الأهم فالأهم ، ونصل بإذن الله - عز وجل - إلى ما يضيء لنا جوانب هذا الموضوع ، ويجلّي لنا حقائقه ، ويبصرنا بطرائقه ، ويعيننا على التزامه والانتفاع به بعون الله - جل وعلا - .
سوف نتحدث - إن شاء الله - عن دلالة هذا الموضوع وأهميته ، ثم نذكر عناصر التأثير في الجملة - أي العناصر التي يتأثر بها الناس فيتغير سلوكهم ويستقيم حالهم - ، ثم سننتقل إلى الداعية ؛لنرى مقومات النجاح في تكوينه الشخصي ، وفي ممارساته الدعوة وفي مفاهيمه حول الإسلام والدعوة .
دلالة هذا الموضوع
دلالة العنوان على ثلاث كلمات : مقومات ، الداعية ، الناجح .
المقوّم
هذه الكلمة مشتقة من الفعل الثلاثي ، وأصل معناه : الانتصاب والعزم ، وتأتي القوامة بمعنى المحافظة والإصلاح ، كما في قوله - جل وعلا - : { الرجال قوامون على النساء } ، وقام الرجل بالشيء أي فعله بما يؤدي إلى تحقيق غايته ومراده ، فمعنى المقومات هنا هي : الأسباب والصفات التي يقع بها المطلوب . فما هي هذه الصفات ؟ وما هي تلك الخصائص التي يحتاج إليها الداعية لكي ينجح في مهمته ويؤدي رسالته ؟ .
الداعية
والداعية أصلها الداعي ، والهاء فيها للتنبيه وليس للتأنيث ، والداعي إلى شيء : المرغب والحاث عليه ، فالله -جل وعلا – يقول : { والله يدعو إلى دار السلام } أي يرغب فيها ويحث عليها ، وعندما نقول : من دعا إلى هدى ؛ أي من رغب فيه وحث عليه ، والدعوة إلى الله - عز وجل - معناها شامل للإسلام كله ، يعني الترغيب في جميع محاسن الإسلام وفرائضه وشعائره وآدابه وسلوكياته ، بما يؤدي مع الحث عليها إلى التزامها ، واستجابة أمر الله - سبحانه وتعالى - فيها .
النجاح
والنجاح في اللغة أصله الظفر ، فالنجْْح هو الظفر والنجاح في أمر ما ، وهو تحقيق الغاية والوصول إلى الهدف ، ومعنى هذا الموضوع الذي نتحدث عنه أننا سنتكلم عنه ، صفات وخصائص تتحقق في الذي يدعو إلى الخير فيحصل بها النجاح ، والمقصود بالنجاح هو استجابة الناس وتأثرهم ، وتغير حالهم من سوء إلى حسن ، أو من حسن إلى أحسن مما كانوا عليه ؛ فإن الدعوة إما أمر بخير أو نهي عن شر ليُترك ، فمعنى تحقق النجاح هو أن الأمر الذي يؤمر به يفعل ، والنهي الذي ينهى عنه يترك، فيكون الناس حينئذ قد استجابوا لأمر الله - سبحانه وتعالى - .
من فوائد نجاح الداعية
1 ـ الأجر الجزيل
فالله - جل وعلا – يقول : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } والآية إذا تأملنا تتحدث عن فعل الدعوة وليس عن أثرها واستجابتها ، إن الداعية هو أحسن الناس قولاً ، وإن لم يكن لدعوته أثر ، وإن لم يقبله الناس ؛ فإنه إذا قام بها على وجهها ؛ فإن أجره عند الله - عز وجل - عظيم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خاطب علياً في يوم خيبر فقال : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) ومتى قال له ذلك ؟ ، عندما أعطاه الراية وأمره بالتوجه لفتح خيبر ، فقال علي - رضي الله عنه - بعد أن مضى يسيراً : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أدعهم إلى الإسلام فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) .
فليس في الإسلام إكراه ، وإنما دعوة وترغيب ، فمن أسلم فالخير له ، والثمرة والنفع عائد عليه ، ومن أعرض فالعذاب ينتظره في الآخرة ، والشقاء يحل به في الدنيا نسأل الله - عز وجل – السلامة ، وغير ذلك ، هناك انتشار الخير ، ما معنى هذا عندما يدعو الدعاة فيقبل الناس منهم ويقبلون عليهم ؟ ما الذي يحصل ؟ يكثر الخير والبر والإحسان ، وينحسر الأذى والشر والعدوان ، كل استجابة للدعوة معناها مزيد من إتيان الأوامر الربانية ، والتزام الشرائع الإلهية، وكل التزام وقبول للدعوة معناه أيضا أن الشر والفساد ينحسر وينزوي بعيداً عن حياة الناس .
2 ـ مغالبة الباطل(/1)
وما معنى ذلك ؟ ألا نعرف أن للشر دعاة كثر ؟ ألا نعرف أن أهل الباطل من الديانات المحرفة ، أو من المذاهب الوضعية ، أو من أصحاب الانحلال السلوكي والخلقي ، أنهم يبذلون أموال طائلة ، ويدبرون حيل ماكرة ، ويسعون بكل وسيلة لماذا ؟ لتقبل دعواتهم وليتأثر الناس بهم فينحرفوا عن دين الله - عز وجل - ، ويزلّوا فيضلّوا ويزيغوا ، والله - سبحانه وتعالى - قد بيّن لنا شأن دعاة الفساد : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } كثير هم المفسدون ، ما الذي يبطل عملهم ؟ ما الذي يدحر كيدهم ؟ ما الذي يبطل مكرهم ؟ إنها دعوة الخير ، فكل نجاح للدعوة في ميدان معنى ذلك أنها هزيمة للباطل .. أهل الباطل يريدون أن يحرّفوا مناهج التعليم ، والدعاة وأهل العلم يريدون أن تستقيموا على هدى الله ، وهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أهل الزيغ والفساد يريدون انحراف في الفكر ، وضلال وتقبّل للشبهات ، وأهل الحق ينيرون بالقرآن والسنة البصائر والقلوب ، فيكون لذلك أثره في دحض الشبهات ، أهل الفساد يزينون الشهوات ، ويعددون صور وألوان الإغراءات ؛ليقع الناس في المنكرات ،فيأتي أهل الدعوة يحذرون ويخوفون بالله ، ويبينون لذة الطاعات ، ويرغّبون في الطاعات ، فكأنها معركة الحق والباطل ، فإذا نجح الدعاة معنى ذلك أنه قد هزم دعاة الباطل .
3 ـ الحماية من المفاهيم الخاطئة
ومعنى ذلك - كما يقولون - : بضدها تتميز الأشياء ، إذا لم ينجح الداعية ماذا يكون المقابل في ذلك ؟ فشل وإخفاق ، ما معنى ذلك ؟ أي عدم قبول للدعوة ، وإعراض عنها ، وعدم الاستجابة لأمر الله - سبحانه وتعالى - ، وعدم متابعة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ماذا يحصل من أثر ذلك ؟ مفاهيم خاطئة كثيرة .
هذا الداعية الذي يفشل ولا يستجيب الناس له ، ماذا يحصل له في كثير من الأحوال ؟ يتوجه بالنقد على الناس ، فيقول عنهم : أنهم فسقة منحرفون ، لا يحبّون دين الله ، وأنهم لا يستجيبون لأمر الله ، وأنهم لا يعظمون أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينعتهم . كما نرى كثيراً من الناس الذين ليست عندهم حكمة وبصيرة .. تجده دائماً يظن نفسه قد أحسن وأجاد ، وأن الناس هم الذين لا يستجيبون ، لو أنه تنبه وتوقف لوجد أن في أسلوبه ، أو في علمه ، أوفي طريقته خطأ ، منع الناس من القبول ، ماذا يقول هذا ؟ يحكم بفساد الناس ، وقد يتعدى حدوده ، ويصمهم أو يلصق بهم تهم الابتداع أو الفسق أو الكفر والعياذ بالله ، وهذا من الخطر العظيم . وقد ورد الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم : ( من قال هلك الناس فهو أهلَكَهم ) وفي بعض ضبط الروايات : (فهو أهلَكُهم ) ، ما معنى الحديث ؟من قال : هلك الناس .. فسدوا .. لا سبيل لإصلاحهم .. ليست عندهم استجابة وهم هالكون .. وهم إلى عذاب الله وسخط من الله - سبحانه وتعالى .. من قال ذلك وحكم على عموم الناس فهو أهلكهم .. فهو أشد هلاكاً منهم ؛ لأنه يعتدي على مالا يجوز له في شرع الله بالحكم على الناس ، وبالإساءة إليهم ، وبصدهم ، وبأسلوبه في تنفيرهم عن دين الله - عز وجل - .
ومن المفاهيم أيضاً أو من الأمور التي تنتج عن هذا الفشل والإحباط اليأس أو الإحباط عند بعض الدعاة . الداعية إذا دعا فلم يستجب له ، ولم يحظى بالاستجابة ماذا يقول ؟ ينزوي على نفسه وينعزل عن الناس ، ويقول : الدنيا فساد ، ولا أمل في الإصلاح ، ويصبح حينئذ نخسر الذي كان عنده خير كثير ، وربما علم غزير وأثر نافع ، ولذلك بحثنا عن أسباب نجاح الدعوة مهم ؛ ليتحقق الأجر ، ولينتشر الخير ، وليهزم الباطل ، ولنحمي أنفسنا ودعاتنا ومجتمعاتنا من مفاهيم خاطئة يحصل بها الصراع والتنابز بالألقاب بين الدعاة وبين الناس ، الأصل أن الداعية كالطبيب ، هل ترون الطبيب يختصم مع مرضاه ، وهل ترونه إذا وجد علة ومرض عند بعض الناس ، وطال العلاج والبرء منها يقول له : أنت مريض لا فائدة منك ،سوف تموت ، أو سوف ينتشر مرضك ؟ أم أنه يصبر ، ويأتي بالحكمة ، ويصبّر مريضه ويعينه ؛ حتى يتغلب على مرضه بإذن الله - عز وجل - فالموضوع مهم من هذه الوجوه .
عناصر التأثير في الدعوة
هناك عناصر مهمة في التأثير ؛ حتى ننتبه إلى عموم هذه القضية . كيف تؤثر في أي إنسان ، هناك ثلاثة جوانب مؤثرة :
1 ـ الميل العاطفي والمحبة القلبية(/2)
كما يقولون : " الحب أعمى " وكما يقال : " إن المحب لمن يحب مطيع " ، ألا نرى الناس إذا أحبوا إنساناً وافقوه حتى فيما لا ينبغي موافقتهم له ؛ لأن الحب ميل قلبي له أثره . يقول ابن القيم : "الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر ، والفعل الظاهر ، و فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال إنما هو موجب ما في القلب ولازمه " .ويقول ابن تيمية - رحمه الله - : "المحبة والإرادة أصل كل دين ، صالحاً كان أو فاسداً – لماذا ؟ - لأن المحبة هي التي تبعث وتحرك الإرادة ، وهي التي تمضي وتوقع الفعل في الواقع " .
لذلك من المهم أن يتحبب الداعية إلى الناس ؛ لأنهم إذا أبغضوه هل ترونه يسمعون قوله حتى وإن كان عنده من العلم بحار لا بحراً واحداً ، وحتى لو كان عنده حجة بينة قاطعة ، وأدلة واضحة ساطعة ، ما دامت القلوب قد أغلقت فلم تتعلق بمحبته ولا الميل إليه ، فذلك يمنع من قبول دعوته بشكل كبير ، لكن ليس الحب وحده هو الذي يؤثر ، ولذلك أحياناً يكون الحب مؤثر تأثير سلبي . قد يحب المرء من فيه فسق أو فساد فيوافقه على فسقه وفساده ، ألسنا نعرف أمر الأصحاب وما يقال من أن الصاحب ساحب ، لِما يتأثر الناس بأصدقائهم وجلسائهم .. يميلون إليهم .. يحبونهم .. يؤنسون فيوافقونهم في أقوالهم وأفعالهم .
2 ـ الإقناع العقلي والحجة العلمية
المدرس إذا كان محبوباً عند الطلاب ، ولكنه إذا جاء يشرح الدرس وهو لا يحسن ذلك ، وليس متخصص في فنه أو علمه أو لم يحضّر درسه ومع ذلك تسلم له العقول ، فالداعية إذا لم يكن عنده حجة وإقناع تسلم له العقول ، وترى قوة الدليل ونصاعة البرهان ، فكذلك قد تنصرف عن هذا من غير أن تستجيب له ؛ لأنه أحياناً قد لا تكون المحبة موجودة بالقدر الكافي ، قد لا تحب هذا الإنسان لكن لا تكرهه ، ما الذي يعينك على موافقته عندما يأتيك بحجة ودليل مقنع ؟ ما دمت لا تبغضه ليس هناك نفرة ،لم يسئ إليك ، فإذاً مجرد هذه الحجة سوف تعين على القبول ، ونحن نعرف أن الإنسان فيه هوى وعقل ، إذا تحكم الهوى قاده إلى الهلاك . إذا كان العقل هو الذي يتحكم في الهوى كانت العاقبة إلى الخير في غالب الأحوال ؛ وذلك لأن سلطان الهوى خفي ، ومكره ومدخل مكره خفي ، فهو كما قال ابن القيم : " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة إليه " ؛ لأن الهوى إذا تحكّم في العقل يقول : " هذا حرام ، والحرام سوف يوجب العقاب في الآخر والمضرة في الدنيا " لكن الهوى والمحبة للشهوات تغلب الحجة ، فإذا جاءت الحجة ووقعت المحبة كان التأثير أكبر .
3 ـ القدوة المتحركة
القدوة الحية ؛ قد يتحبب الداعية إلى الناس ثم يحسن القول ويبسط الدليل لكنه إن لم يوافق فعله قوله لم يكن لذلك أثر ، ربما - أحياناً - قد لا توجد المحبة الكافية ، ولكن قد لا يوجد الكلام الذي يبين ويشرح ، لكن هناك قدوة ، وهناك أسوة .. هناك أخلاق متحركة .. هناك معاملة حسنة ظاهرة ، مجرد وجود الفعل الحسن والقدوة الطيبة له أثره في حياة الناس ، ولذلك كثيراً ما يتأثر الناس - خاصة عوام الناس وأكثريتهم - ، أحياناً الأدلة والبراهين والإقناع فيها تفصيلات ، وفيها علوم قد لا تستوعبها عقول الناس كلهم ، لكن أكثر الناس يتأثرون بالسلوك والعمل ؛ لأنه يراه بعينيه ، عندما نقول للناس : الصلاة خير .. عندما نقول للناس اجتنبوا المحرمات فسوف يعطيكم الله ويغنيكم ، كثيراً لا يقع ذلك موقعه حتى يروا من أهل الدعوة والعلم والإيمان من يفعل ذلك فيصبح كأنه النموذج المتحرك أمامه فيقتدون به وينتفعون إذا هذه عناصر التأثير .
مقومات نجاح الداعية
في تكوينه الشخصي وفي ممارساته الدعوية وفي مفاهيمه من بعد ذلك .
أولاً : التميّز الإيماني والتفوق الروحاني
إذا لم يكن العالم والداعية ذا إيمان عظيم بالله شديد الخشية له، صادق التوكل عليه ، عظيم الإنابة إليه ، لسانه رطب بذكر الله - عز وجل - ، عقله مفكر في ملكوت الله - سبحانه وتعالى - .. مسارع إلى الطاعات .. مسابق إلى الخيرات دائم الإحسان حريص عل البر، إذا لم يكن كذلك فإنه يفقد أهم وأعظم أسباب التوفيق ، فالله - عز وجل - إنما يوفق من كان قريباً منه ، ومن كان مؤمنا به ، ومن كان عظيم الصلة به كما نرى ، وهذه أيضاً مسألة مهمة .
معالم التميز
1 ـ الإيمان والاعتقاد الصحيح والتعلق الصادق بالله عز وجل
وهو أعظم أسباب نجاح الدعوة ؛ لأن الدعوة والاستجابة ليست بالحجج ولا بالبراهين ولا بالفصاحة ، وإنما هبة من الله - سبحانه وتعالى - : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } هذه الهداية يقذفها الله في قلب من يشاء إذا علم من هذا الداعية إيماناً صادقاً ، وإخلاصاً كاملاً ، والله خاطب نبيه عيسى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } . إذاً هو الذي أوحى إليهم وقذف في قلوبهم الاستجابة للدعوة وقبولها ، فهي هبة من الله - جل وعلا - .(/3)
الإيمان والتميز الإيماني أمره عظيم ، أوله عظمة الإيمان بالله ، ونعني بها أن يكون القلب ممتلئ بخشية الله تعظيماً وإجلالاً ومعرفة أسماءه وصفاته ، وإقرار بألوهيته والخضوع لربوبيته - سبحانه وتعالى - ، إذا وقع ذلك جاءت الآثار التحرر من عبودية غير الله - جل وعلا -، فلا يخاف من أحد مهما كان ، ولا يذل لأحد مهما كان إلا لله - عز وجل - ، فيتحرر من خوفه على الحياة ، ويتحرر من خوفه على الرزق . يصبح بإيمانه متحرر ليس لأحد عليه سلطان ، فإذا واجه الصعاب في دعوته ، وإذا تعرض للأذى كان له من هذا الإيمان حرية وقوة ، يستطيع أن يواجه هذا الباطل ، وأن يجابه ذلك البغي ، وأن يستعلي بإيمانه ، وأن يتميز ويثبت بيقينه ، وأن يشمخ بصبره وجلده ، وأن يضرب المثل بتضحيته وفدائه ، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان ، و لا يصبر إلا مؤمن ، ولا يضحّي إلا مؤمن ، ولا يثبت إلا مؤمن ؛ لأن الإيمان هو الزاد الأعظم ، والمنبع الثر الذي ينهل منه الدعاة في طريقهم إلى دعوة الله - سبحانه وتعالى - .
2 ـ خشية الله سبحانه وتعالى
والخشية من أعظم الخلال المؤثرة في سلوك المرء ، فالله قد بيّن ذلك فقال في صفات أهل الإيمان : { الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون } و بيّن الله - سبحانه وتعالى - صفات الدعاة على وجه الخصوص كما في - قوله تعالى - : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله } . وكان من كلام أسلافنا ما يدل على ذلك كما قال إبراهيم بن سفيان : " إذا سكن الخوف قلب المؤمن أحرق مواطن الشهوات " .. تثار في القلب ما الذي يحرقها ويطفئها ؟ خشية الله وكما قال أيضاً الفضيل - رحمه الله - : " من خاف الله لم يضره أحد ، ومن لم يخف الله لن ينفعه أحد " . فخوف الله إذا سكن القلب فهو من أعظم آثار الإيمان ومن أكثر دلائله .
3 ـ الإخلاص لله عز وجل وابتغاء وجهه
فإن هذا هو الذي يحقق المقاصد بإذن الله - جلا وعلا - ، وتجنى به الثمار بعون الله ، أما من لم يخلص وقصد مراءاة الناس ، أو قصد الاستكثار بالأتباع ، وهذا كثير ما يحصل لأهل الخير ، يحب أن يرى جمهور من الناس .. يفرح إذا رأى الناس أقبلوا ، وإذا لم يقبلوا ولم يجد إلا واحداً أو اثنين أمتعض من ذلك ، وانقبض وجفل من ذلك ، كأنه لا يتحدث ولا يذكر إلا لشهوة في نفسه .
أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه قام يخطب في الناس مرة ، وفجأة في وسط الخطبة قطعها وترك الحديث ، فلما سئل من بعد ذلك قال : " تحدثت فرأيت إصغاء الناس فأعجبتني نفسي فخشيت عليها فقطعت حديثي " . وأثر عن ابن مسعود كان يسير مرة ، فسار معه بعض الناس فوقف والتفت إليهم ، فقال : ألكم حاجة ؟ قالوا : لا وإنما نحب أن نمشي معك .. جمهور شعبية - كما يقولون - فقال - رضي الله عنه - معلماً أهل العلم والإيمان كيف ينبغي أن يحرصوا أن لا يداخل نواياهم شيء من الغرور أو الفتنة أو الإعجاب بكثرة محبة الناس وإقبالهم ، وإن كان هذا من الخير ومن عاجل بشرى المؤمن .. قال :" لا تفعلوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع " لماذا تمشي وراء الإنسان كأنك أنت تابع له ، وفتنة للمتبوع عندما يرى الناس حوله ، وهذا يقول : ما شاء الله ، وهذا يقول : ما سمعنا حديثاً مثل هذا ، وهذا يقول : من أين هذا العلم الغزير وكذا الإخلاص والتجرد لله - عز وجل - مهم جداً ، وهو أساسٌ عظيم من أسس النجاح المتعلقة بهذه الناحية الإيمانية .
4 ـ حسن الصلة بالله
ونعني بها الجانب العملي التزام الفرائض ، والحرص والاستكثار من النوافل ، ودوام الاستغفار ، والحرص على المواظبة على الأذكار ، وإدمان تلاوة كتاب الله ، والتبتل بالدعاء والتضرع إليه ، وكثرة الإنفاق في سبيل الله -جل وعلا - ، كل أعمال الخير هي من آثار الإيمان ومن دلائله ، فينبغي الحرص عليها والعمل بها .
ثانياً : التميز العلمي والشرعي
أن يكون عنده علم وثقافة ؛ لأنه يدعو الناس إلى شيء ، إذا لم يكن عالماً بهذا الشيء يدعوهم إلى الإسلام ، إذا لم يكن عالما بالإسلام وبالخير فكيف يدعوهم، فالعلم مهم وفضل العلم في هذه المسائل أمره معروف ، والله - عز وجل - قد قدّم العلم على العمل :{ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } وبيّن درجة أهل العلم ومرتبتهم ، فقال -جل وعلا - : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، وبيّن مهمة العلم وأهله فقال : { فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } هذه معاني كثيرة ، لكن ما هو العلم المطلوب ؟ هل لا بد أن تكون -كما يقولون - من هيئة كبار العلماء ، أو أن تكون مفتي البلد حتى تدعو إلى الله عز وجل ؟! لو افترضنا أن لا يدعو إلا من حاز العلم كله هل يصح هذا ؟ ثم أسألكم هل العلم محدد بقدر معين ؟ يعني من قرأ هذه الكتب فهو عالم .. من قرأ نصفها فهو نصف عالم .. من قرأ ربعها فهو ربع عالم ! .(/4)
العلم لا يتجزأ لكن المسألة ما هي ؟ أن لا تدعو إلى شيء حتى تعلمه ، وإذا علمت شيء فادعوا إليه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بلغوا عني ولو آية ) ألا نعلم آياتٍ من كتاب الله - جل وعلا - ، بعض الأخوة أحياناً تقول لبعضهم : لما لا تذهبون في العطل والإجازات إلى الدعوة إلى الله - عز وجل - ؟ يقول : أنا ليس عندي شيء أقوله .. اذهب إلى بعض الأماكن أو البقاع أو بعض القرى ، فستجد أقواماً لا يحسنون قراءة الفاتحة أفلا تستطيع أن تقرئهم الفاتحة ؟ ألا تحسن الفاتحة ؟ قال : نعم وأحسن غيرها ، قلت : إذا عندك خير كثير . فلا نستقل ما عندنا المهم ألا ندعو إلا بما نعلم .
والنبي -صلى الله عليه وسلم - لفت نظرنا إلى ذلك دائماً ، عندما كان يقول في كثير من خطبه ودعوته وتنبيهاته : ( ألا فليبلغ الشاهد الغائب ) ما معنى ذلك ؟ ما سمعته انقله إلى غيرك ، نحن كم نسمع من آيات القرآن ، وكم نتلو ؟كم نسمع في إذاعة القرآن ؟ وكم نسمع من الخطب والمواعظ ؟كم نسمع من الدروس ؟كم نقرأ في الكتب ؟كم بين أيدينا من الخير الكثير الذي نعلمه ؟ وألسنتنا معقودة لا تنطق بكلمه ، ولا نكاد نبلغ عن دين الله ، ولا عن كتاب الله ، ولا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء يذكر .
العلم يتجزأ فإذا علمت مسألة ، أو علمت خصيصة ، أو علمت باباً من أبواب العلم فادعو إليه وذكّر به ، ولو أن كل واحد الآن يحصي ما يعرفه من الآيات ، وما يعرفه من الأحاديث ، ومن مواقف السيرة ، ثم يحاسب نفسه هل بلّغ ذلك ، ولو أن كل واحد حاسب نفسه وسعى إلى أن يبلغ ما يعرف لأنتشر من الخير الكثير .
الله - عز وجل - وحده هو العالم به ، لكننا لا نتكلم ، ننتظر العلماء .. ننتظر الدعاة لسنا فصحاء يا أخي ، من قال لك لا بد أن تدعو وتأتي بالأشعار والقصائد، قل كلاماً إن أخلصت فيه لله ربما ينفع أضعاف ما ينفع ، الكلام الذي قد يكون مهيئاً منمقاً ؛ لأن المسائل إنما هي بمضامينها ، ونحن ندعو إلى القرآن والسنة ؛ فإن سر القوة والأثر هو في نفس آية القرآن ، وفي نفس حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نحن لا نتكلم من عند أنفسنا ، نحن لا نقول كلاماً نزيّنه لأنفسنا ، نحن نقول : {إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم } كلام الله معجز ، وفيه حق ، وفيه الأدلة ، وفيه النور ، وفيه الهدى ، وفيه الخير فبلغوا وانشروا ، سيكون لذلك أثره العلمي المطلوب .
ما من شك أنه يتجزأ كثيراً ، ومن أهميته أن يكون هناك الجانب الشرعي المتعلق بالعلوم الشرعية .
وهناك قسمان : قسم العلم الذي يعتبر فريضة عينية الذي يتعلق بعلم الفرائض العينية ؛ كل فرض عين ينبغي أن تعلمه ، أمر الاعتقاد ومعرفة الأصول الثلاثة في مجملها أمر أساسي به يصح إيمانك وإسلامك ، لا بد أن تعلمه بالقدر المجمل الذي يصح به إيمانك واعتقادك ، الفرائض الشرعية الصلاة فريضة يومية واجبة على كل أحد ، ينبغي أن تعرفها وتعرف أحكامها وأركانها في الجملة التي تصح به صلاتك ، وإذا صرت صاحب مال وجب عليك معرفة أحكام الزكاة ، وإذا عزمت على الحج تعلمت أحكامه والباب في هذا معروف، ثم بعد ذلك في الجانب الشرعي أبواب واسعة.
لا بد أن يتزود الداعية بقدر ما يستطيع من العلم ، وأن يتوسع فيه بقدر ما يستطيع ، وأن يحرص على تعلم العلم الإسلامي علم العقيدة الإسلامية ، والإيمان بالله - عز وجل - يتلقى فيه كتاب مختصراً جامعاً ، وربما أيضاً كتاب متوسع نافع ، وكذلك في علم التفسير يقرأ تفسيراً كاملاً مختصراً ، أو ما يستطيع من توسع في التفسير في بعض السور والآيات التي يكثر حفظ الناس لها ، وتلاوتهم لها ونحو ذلك ، وكذلك في علم الحديث يحفظ ويتعلم من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -ولو الشيء اليسير .. الأربعون النووية ، ثم رياض الصالحين ، ثم مشكاة المصابيح ، ثم إذا استطاع في مختصر البخاري ومختصر مسلم ، وصحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي غيرها من السنن ، والأبواب في هذا - كما قلنا - واسعة .
والفقه أن يدرس مختصر على مذهب معين ثم يتوسع فيه ، ثم يتعلم ما قد يستطيع أن يتعرف فيه على أدلة المذاهب والمقارنة بينها ، حتى تصبح لديه ملكة الترجيح والمعرفة بالكتاب والسنة ، ومن العلوم المهمة علم السيرة والتاريخ الإسلامي ؛ لأن السيرة تطبيق القرآن والسنة هي النموذج المتكامل الذي وجد في واقع الحياة ، فيه كل النواحي المختلفة في جانب الأمة ، فيه جانب القضاء ، والجانب العسكري ، وجانب الدولة كل هذه النواحي طبقها في سيرته وحياته رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - فيحتاج من ذلك إلى جوانب كثيرة بقدر الاستطاعة .
وصايا في طلب العلم
1ـ التدرج(/5)
فينبغي أن يبدأ الأهم فالأهم ، وأن يبدأ بالمختصر ثم المتوسط ثم المتوسع ، ولا يخلط في الأمور كما يصنع بعض الشباب عند التحمس ، يبدأ بالكتب الكبيرة التي فيها مسائل عظيمة وفيها مقارنات كثيرة فلا يكاد يفقه منها شيئاً ، وربما يصيبه شيء من الملل ، ويشعر بأنه عديم الفهم أو بليد الذهن ، أو نحو ذلك وهذه مسألة مهمة .
2ـ الملازمة والصبر
فلا ينتقل من علم إلى علم أو كتاب إلى كتاب حتى يتمه ويكمله ؛ حتى لا يختلط عليه ، ويتشوش ذهنه ، أو تشتبك الأسلاك ، كما نقول يبدأ بشيء من الفقه ، يدخل في الحديث وقبل أن يأخذ شيء من الحديث يدخل في أصول الفقه ولا يكاد يتقن شيء .
3 ـ ملازمة الشيوخ والتلقي عن أهل العلم
لا يكفي أن يمسك الكتاب ويقرأ ؛ لأن ذلك -كما قيل - : من كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه ؛ لأن هذه مسائل قد حررها العلماء وتلقوها كابراً عن كابر ، ولعلمائنا وأسلافنا من العلم الغزير ما سجلوه وما نقله عنهم الأجيال إثر الأجيال .
فالعلم في هذا الجانب ، ومن الجوانب الثقافة الإسلامية سواء كانت العامة أو المعاصرة ، ونعني بالثقافة الإسلامية عموم القضايا التي تتعلق بالإسلام ، ليست علوماً بعينها ليست عقيدة ولا أصول فقه ، ولا أصول حديث ، وإنما خصائص محاسن الإسلام ويسر الإسلام وسهولته وسماحته ، كثير من القضايا التي تبرز محاسن هذا الدين تدخل في هذه القضية ، ومن الثقافة المعاصرة نعني بها ما يشاع أو يشيع في المجتمعات الإسلامية من مذاهب أو أفكار ينبغي أن يعرفها ؛حتى يعرف كيف يبطلها ، وحتى يعرف كيف يحذّر الناس منها .
الداعية والعالم لا بد أن يكون بصيراً بواقعه ، عالماً بأحوال أمته ، عارفاً بما يؤثر في الناس من الأفكار أو المبادئ أو نحو ذلك ؛ حتى يستطيع أن يدحض ذلك وأن يردّه ، إذن فمع إيمانه يحتاج إلى العلم ، ومع العلم يحتاج إلى الفطنة والذكاء ورجاحة العقل وقوة الحجة ، لا بد أن يكون الداعية ذا فطنة وحكمة وقدرة على الإقناع ؛ لأن العلم قد يكون محفوظاً ، قد أحفظ مسائل فآتي فأسردها ! لن يستطيع أحد أن يفقهها ، ربما يثار عند أحد فلا يستطيع أن يرد عليها ، لكن إذا كان الداعية فطناً ذكياً لماحاً ؛ فإنه في غالب الأحوال يستطيع الإجابة على الأسئلة ، ويفند الشبهات ، ويوضح الإشكاليات ونحو ذلك، ولتوضيح هذا نذكر بعض الأساليب المستنبطة من الكتب والسنة .
من أساليب التأثير المقنعة
1ـ أسلوب المقارنة
كأنها نوع من القياس ، إذا قلت له لا تفعل كذا فإن عاقبتها إلى خسر ، وانظر إلى من فعل هذا كيف انتهى به الحال ، أليس هذا أمرٌ واضحٌ بيّن ! الجواب : نعم ، والقرآن قد مثّل بهذا وضرب له كثيراً من الأمثلة : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } ، الإيمان نور وحياة ، والكفر ظلمة وموت ، قارن هذا بهذا لكي تختار الخير فتمضي فيه ، وتعرف الشر فتعزف عنه وتنأى بنفسك منه ، وكما قال الله - عز وجل - : { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم } ، إذاً هذه مقارنات ،
النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب الأمثلة والمقارنة أيضاً : ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت ) إذا رغّبت الناس في ذكر الله قل لهم : إذا ذكرتم الله فسوف تكونون كالأحياء .. هذه الأمثلة في بيان وتقريب الأمور بالأقنعة العقلية التي تستخدم أسلوب المقارنة .
2 ـ أسلوب التقرير(/6)
أسلوب آخر من الأساليب التي تفحم وتقنع ، وتقيم الحجة ، ولا تجعل للإنسان مجال لكي يرفض ، إلا إذا كان مكابراً ومعانداً .. قصة إبراهيم مع النمرود : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت } هل رد عليه إبراهيم ؟ قال أنت لا تحيي وتميت ! أقر كأنه سلّم له ، يعني لم ينتبه له وبعد ذلك رد عليه . وهذا سنوضحه في الأسلوب الذي يليه ، هنا في التقرير عندما نسأل الناس سؤال ولا يكون له إلا إجابات محددة . فماذا ينتهي بهم الأمر إلى أن يقروا بهذا مثاله : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } ، ما معنى هذا السؤال ؟ أنتم موجودون الآن أم أنتم أحياء ؟ أم السؤال : من أين جئتم ؟ إما أنكم خلقتم أنفسكم ، وإما أن أحد خلقكم { أم خلقوا من غير شيء } خلقوا من العدم أم هم الخالقون ؟ هل خلقوا من العدم ؟ الجواب : لا ، هل يدعّي أحد أنه خلق نفسه ؟ الجواب : لا، إذاً لم يبقى إلا أنهم خُلقوا ، وأن الخالق هو الله - سبحانه وتعالى - ، وكما قلنا في هذا أيضا يأتي الأسلوب .. أسلوب إبراهيم - عليه السلام - في القصة التي سردت في سورة الأنعام ، لما رأى كوكباً أراد أن يقرهم على البطلان : { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدن ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما افلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } ، كل مرة يقول ذلك ، ليس هذا إقرار منه ، بذلك يريد أن يلفت نظرهم ، فيقروا بأن هذا هو الباطل فيبقى الحق بعد ذلك .
3 ـ أسلوب الإمرار والإبطال
هو الذي أشرت إليه في قصة إبراهيم في سورة البقرة لما قال له : أنا أحيي وأميت ما اعترض عليه و سكت عنه، ثم قال : { فإن الله يأت بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } ماذا كانت النتيجة ؟ فبهت الذي كفر ، لو مضى إبراهيم وقال : لا ! أنت لا تحيي وتميت ، أصبح جدل ولم يحصل شيء من إقامة الحجة ، ولكن ذلك كان على خلاف ذلك ، النبي -صلى الله عليه وسلم - استخدم الأساليب كلها .
الأسلوب الأول ذكر فيه : ( مثل الجليس الصالح .. ) ، (مثل الذي يذكر ربه .. ) ، الأسلوب الثاني كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه الرجل ، شك في ولده أنه ليس منه لماذا ؟ لأن لونه مختلف ، ليس كلونه ولا كلون زوجته ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعندك إبل بهم ؟ قال : نعم ، قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر يا رسول الله ، قال : هل فيها من أورق - يعني لونه فاتح – قال : نعم ،قال : فمن أين جاء ؟ تلك نوقك ، وتلك جمالك ، قال : يا رسول الله لعله نزعة عرق - يعني لعله من أجداده -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة واحدة : فلعله ). وهذا من إعجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يقولون في علم الوراثة أنه قد تتنحى بعض الصفات الوراثية ، فلا تظهر في جيل الأول ، ولا الجيل الثاني ، ثم تظهر بعد ذلك في جيل بعده ، ويكون صحيحاً ومن صلب أبيه ، ومن رحم أمه ، ليس فيه شك ، لكن نزعه عرق ، وجاءت صفة من صفاته لم تكن ظهرت ، كانوا يسمونها في علم الأحياء الصفات المتنحية ، وكذلك لما جاء الشاب الذي قال له : يا رسول الله ائذن لي بالزنا، ماذا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : حرام وزجره ! بل قال له : أترضاه لأمك !،قال : لا ، قال : والناس لا يرضونه لأمهاتهم ، أترضاه .. أترضاه .. حتى قرره بأن هذا لا يقبل ، ولا ينفع ، ولا يمكن أن تفعله ؛ لأنك لا ترضاه لنفسك ، ثم دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي أسلوبه الإقرار أيضاً قصصٌ كثيرةٌ ، ووقائع عديدة ، تبين رجاحة العقل وأهميته في الدعوة .
ثالثاً : رحابة الصدر وسماحة النفس(/7)
لا بد أن يكون الداعية سمحاً كريماً حليماً عطوفاً على الناس ، فهم يحتاجون إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ولا يضيق بحلمهم ، ولا نقصهم ولا جهلهم ، الناس يحتاجون إلى قلب كبير يعطيهم ولا ينتظر منهم العطاء ، الناس أصناف فيهم الغاضبون ، وفيهم المخطئون ،فيهم الذين ليست عندهم آداب وتهذيب ،فيهم جلافة وفظاظة ..هؤلاء كلهم يحتاجون إليه ، أما إذا كان الداعية سريع الغضب ، شديد العنف ؛ فإنه في غالب الأحوال لا يؤتي الثمرة والرحمة والشفقة أول ذلك { فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، والله - عز وجل - خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } يعني مهلك نفسك ، وأنت تتبع آثار القوم تريد لهم الخير ، وتدعوهم إلى الإيمان وهم معرضون ، من الذي يحزن ؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يدعوهم إلى الخير وهو حزين أنهم لم يستجيبوا ! مع أنهم المفروض أن يحزنوا على أنفسهم ، لكن هي نفس المؤمن الداعية المريد الخير للناس ، الذي يحب لهم ما يحب لنفسه ، وهذه مسألة مهمة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمثلته في هذا عظيمة جداً .
ولعل من أشهر الأمثلة لما جاءه ملك الجبال وقال له : " لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين لفعلت " قال : ( لا ولكن أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله )، وفي يوم أحد ودمه يسيل على وجهه ، ويقول : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، ونحن نتعرض أحياناً لبعض الأذى من الناس ، فمباشرة ندعو عليهم ، ونغلظ عليهم ، ثم نقول الناس لا يقبلون الدعوة !كيف يقبلونها ونحن نضيق بهم ونتبرم منهم ونغلظ في القول لهم؟! هذا لا يمكن أن يكون .
وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كثير وكثير من هذه الأمثلة العظيمة ، بل مثله الذي ضربه لنفسه يجلي هذه الحقيقة ، عندما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً ،فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والدواب تتقحم فيها فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تواقعون فيها ) . كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشدّهم ويجرّهم ويزيحهم عنها ، وكذلك الحلم والأناة، وهما الخلتان اللتان وصفهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما من الخصال التي يحبها الله ورسوله ، عندما قال لأشج عبد قيس : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة ) ، والحلم سعة الصدر ، وبعد الغضب ، وقلة الانفعال الجامح ، والأناة والتروي والتأني وعدم العجلة ، وانتظار النتائج وإعطاء الوقت حقه وحظه ؛ فإن من الناس من يكون سريعاً حتى في حديثه .. في طلبه للنتائج يريد أن يتحدث اليوم بالموضوع ، ويريد أن يصطلح حال الناس في اليوم الذي يليه .
سبحان الله كيف تستقيم النفوس وتصلح القلوب ؟! لو كان الأمر كذلك لكان أولى الناس بأن تذعن له الناس وتستجيب له ، هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه ذكّر ، وبشّر ، وأنذر ، ودعا بقوله وبحاله وبلسانه وبفعله ، ومع ذلك كم من الناس كانوا معرضين وكانوا معاندين ؟ ليست المسألة سهلة ، ولذلك لما قال أصحاب بيعة العقبة الثانية في مكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو شئت أن نميل على أهل هذا الوادي لفعلنا " قال لهم : ( لا إنا لم نؤمر بذلك اصبروا ) ولما جاء -كما نعلم - واشتكى خبات بن الأرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلقونه من الأذى ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنه كان فيمن قبلكم من يمشطون بأمشاط من حديد فيما بين لحمه وعظمه فلا يصده ذلك عن دينه، ومنهم ينشر حتى ينفلق إلى شقين لا يصده ذلك عن دينه ... ولكنكم قوم تستعجلون ) الأناة وسعة الصدر ، وعدم تسرع النتائج ، من أهم الأمور .
ونعرف من حلم النبي - صلى الله عليه وسلم – وأناته من قصة ذلك الأعرابي الذي جاء يبول ، فابتدره الصحابة ، فقال : لا تزرموه ، ثم أمر بأن يهريقوا على بوله بسجل من ماء ، ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم - بحلمه وعلمه وبكماله ، فنبهه وعلّمه وكان لذلك أثره العظيم .(/8)
ومن المهم خلة العفو والصفح ، إذا أخطأ الناس وهم يخطئون ، وإذا أساءوا وهم يسيئون ، هل نحاسب على كل أمر ؟ وهل نقف بالمرصاد لكل خطأ وكل كلمة كما يصنع بعض الناس ؟ إذن لا تستقيم الحياة كلها، فضلاً عن أن يكون استجابة للدعوة .. هذا خطاب الله لرسوله - عليه الصلاة والسلام - : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقوله : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } بل إن أبا بكر -كما نعلم - لما كانت حادثة الإفك ، وتكلم ابن خالته مسطح بن أثاثه فيمن تكلموا على عائشة - رضي الله عنها - ، فأوقف نفقته ، وكان أبو بكر ينفق عليه وغضب منه ، فنزلت الآيات : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ...}وحتى جاء في نداء القرآن لأبي بكر وللأمة كلها : {ألا تحبون أن يغفر الله لكم } فقال أبو بكر : "بلى أحب أن يغفر الله لي " ، فعفا عنه - رضي الله عنه وأرضاه - ، وكيف كان عفوه - صلى الله عليه وسلم - عندما فتح مكة ؟ وكيف كان عفوه وصفحه عن كثير ممن أخطأوا في مقامه وقدره الشريف عليه الصلاة والسلام ؟ ، وكيف كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يعفون ويصفحون إذا كان الأمر يتعلق بأشخاصهم ؟ أما إذا كان الأمر متعلق بالدين وبالحدود فإنهم كانوا يغضبون لدين الله - سبحانه وتعالى - .
إذاً هذه جملة من الصفات والمقومات في تكوين الداعية ؛ تميزٌ في إيمانه .. غزارة في علمه .. رجاحة في عقله ، وسماحة في نفسه وخلقه .
مقومات في ممارسة الدعوة
عندما يدعو الداعية يراعي أمور ، ويحتاج إلى أمور ، أهمها : المراعاة والتدرج ونحن نذكر الأمور على سبيل الاختصار :
المقوم الأول : المراعاة
مناحي المراعات
أ ـ الطبائع
هل الناس كلهم مثل بعضهم ؟فإذا أراد من الناس أن يستجيبوا ، أو أن يتفاعلوا بتفاعل واحد فهو مخطئ ؛ لأن من الناس من هو -كما قلنا - سريع الغضب ، ومنهم الحليم ، ومنهم سريع التأثر ، ومنهم سريع الفهم ، ومنهم عكس ذلك ، فينبغي أن يراعي طبائع الناس .
ب ـ الأفهام
قال ابن مسعود رضي الله عنه : " ما أنت بمحدث قوم حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " ، وعند البخاري من كلام علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " عندما تأتي إلى قوم تعلم أنهم بسطاء ، وأنهم ممن لا يقرؤون ولا يكتبون ، ولم تتح لهم فرصة للعلم ، فتأتيهم بمسائل صعبة ، حتى وإن رددت عليهم ،ماذا يصنع الناس ؟ ماذا يقع لهم ؟ تتشوش أذهانهم .. تضطرب عقولهم ، وربما تقسوا قلوبهم ، وربما يتحيرون ويقولون : هذه كلها خلافات وكذا أمور عجيبة . أذكر موقفاً فيه طرافة : في الجامعة جاءنا مرة رجل كبير في السن ، ويحب أن يتعلم ، وقال أنا كلما بحثت في مسألة ، أو سألت قالوا :على المذهب كذا يجوز ، وعلى مذهب كذا وكذا .. أربعة مذاهب ، قال : أنا أريد أن أدرس حتى أعرف طريقاً واحداً ، وهو يظن أن المسألة أنها كما اتفقت كما يقال !
إذن مهمٌ جداً مراعاة الأفهام . قد ذكر الشاطبي أن عدم مراعاة أفهام الناس ، وتحديثهم بما لا يعرفون بدعة من البدع ، وذلك أنه من جهتين : من جهة أن هذا مخالف للسنة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يحدث الناس إلا بما يعرفون كل إنسان يحدثه بما يناسبه ، ومن جهة : أنه يقع بمثل هذه الأحاديث فتن عظيمة .
ج ـ مراعاة النيات
والمقاصد علمها عند الله نعم لكن لا نجترأ على الناس فنحكم عليهم لأنا لا نعلم نواياهم ، ينبغي أولاً أن نستفصل منهم ، وأن نذكّرهم وأن نعلّمهم حتى نعرف حالهم ؛ لأن من الناس من يرتكب المنكر وهو لا يعرف أنه محرم ، فمن الناس من يكون جاهلاً ، ومنهم من يكون متأول ، ومنهم من قد يكون مكرهاً فلا تبادر حتى تعرف مقصده من فعله ، أو ظروفه أو نيته .
د ـ الأوقات
أيضاً قالوا لابن مسعود : وددنا يا أبا عبد الرحمن لو أنك حدثتنا كل يوم ، فقال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة خشية السآمة علينا " ، بعض الناس في كل وقت في الصباح في الظهر وكذا وخاصة لعموم الناس ، لو كان عندك طلبة العلم وهم حريصين وعندهم منهج لا بأس ، ولكن أن تبتلي الناس بك وبحديثك ، فلا يفترون عن سماع لموضوع منك حتى تلحقه بغيره ، كلا !هذا لا ينبغي أن يكون ، وإنه ينفر الناس ، وكان ابن مسعود يقول : " حدث الناس ما حدجوك بأبصارهم – أي ما داموا ينظرون إليك وما زالوا منتبهين لك - فإذا انصرفت أبصارهم عنك فأمسك " إذا بدأ الناس هكذا وهكذا ، وينظر في الساعة ، يعني ذلك افهم أنه قد بلغ الأمر حد يحتاج أن لا يطال فيه ، وأن لا يكثر منه ، وكثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً ، فكلما كان هناك مراعاة للأوقات المناسبة للناس المناسبة لنشاطهم ولحيويتهم ، وأيضاً ما يطال عليهم بما قد يملهم ، وهذا أمر مهم .
هـ ـ المصالح والمفاسد(/9)
فهي من أعظم الأمور ؛ فإن بعض الناس يصرّ على أن يذكر بأمر ويكون تذكيره به أو أمره بهذا المعروف يؤدي إلى مفاسد كبيرة وطوام عظيمة ، وهو مع ذلك يقول : لا بد .. ربما يذهب ويقاتل الناس ويخاصمهم ؛ لأنهم لا يستخدمون السواك ! نعم السواك سنة ، وفيه فضائل ، وفيه أيضاً فوائد صحية ، لكن إذا كان هذا السواك سيجعلك تختصم مع الناس ، وسوف يجعل الناس فيما بينهم شحناء ، وتقطع أواصرك ، أيهما أهم السواك أم صلتك مع إخوانك في الله وإحسانك إليهم ، وصلة رحمك وأقاربك ؟ فينبغي الانتباه لهذا . وكلام العلماء في هذا فيه نفائس وفوائد كثيرة ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وإذا كانت هناك مصلحة تترتب عليها مفسدة أكبر ،فترك المصلحة هو المصلحة .
أحياناً قد تترك الأمر بالمعروف وقد تترك الأمر من أوامر الشرع ؛ لأن الأمر به قد يتولد عنه مضرة أو ارتكاب منكر أكبر ، وقد تكلّم العلماء في ذلك كثيراً ، وأفاضوا فيه ، بل عقدوا له كتباً مستقلة . وقد تكلم الشاطبي في الموافقات في هذا كلام نفيس ، وألّف العز بن عبد السلام - سلطان العلماء الإمام المشهور - كتابه في المصالح ، ومراعاة المصالح والمفاسد ، والموازنة بينها ، وهو كتاب عظيم حافل ، وهذه مسألة مهمة وهي مراعاة الأحوال الخاصة .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف ذلك ويتقنه ، ألم تسمعوا عدداً من الأحاديث كان السائل يطلب الوصية من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟فيأتي أحدهم فيقول : يا رسول الله أوصني ، فيكون الجواب : ( لا يزال لسانك رطبا بذكر الله ) .. يأتي أحدهم فيقول : أوصني ،فيقول : ( لا تغضب )، بعض الناس يسأل عن فضائل الأعمال ، فيدله على شيء ، ويأتي آخر ... لماذا ؟ مراعاة كل أحد كما جاء في حديث ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فسأله : أقبل وأنا صائم ! قال : افعل ولا حرج، ثم جاء آخر فقال : أقبل وأنا صائم ! ، فقال : لا تفعل ، فعجب الصحابة ، فعلل النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك بأن الأول كان رجلاً كبيراً في السن وهو يملك إربه ،وأما الثاني فشاب لا يملك إربه ، فمنع الشاب من القبلة في الصيام ؛ لأنه لا يملك نفسه كالشيخ الكبير ، وهذه من أمور الحكمة والمراعاة المهمة في ممارسة الدعوة .
و ـ الأعراف والعوائد العامة
فإن المعروف عرفاً كالمشروع شرعاً، وكما قال ابن القيم : لا تفتي الناس بما عندك من المنقول في كل مكان ..
كالذي يطبب الناس كلهم على اختلاف أدواءهم وأمراضهم بعلاج واحد ،كلما جاء واحد اسبرين اسبرين نفس الدواء ، عينه تؤلمه نفس الدواء ، هذا نوع من قلة الفقه ، لكن معرفة ظروف الناس وعوائدهم لا تغير الدين ، لكن تتغير الفتوى بالفعل بتغير الزمان والمكان ، كما عقد لذلك ابن القيم فصل واسع في كتابه إعلام الموقعين في أول المجلد الثالث وقال : " إن مراعاة المصالح ومراعاة الأعراف من حكم ومن دلائل عظمة هذه الشريعة وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان " .
ز ـ مراعاة الأولويات
والله - عز وجل - والنبي - عليه الصلاة والسلام - قد بيّن لنا أن هناك أعمالاً متفاوتة ، كما قال الله : {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن الله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } هل هذا مثلاً أولى وأهم ؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ( الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) لا إله إلا الله يقاتل عليها ولأجل إقرارها ، وكذا من أنكرها بعد أن كان مقراً بها، أليس كذلك ؟فهل نقاتل ونحارب ونهتم ونعتني بها بمثل ما نعتني بلا إله إلا الله ؟ كل شيء له مرتبة ، الفرائض ليست كالنوافل ، والفرائض العينية ليست كالفرائض الكفائية ، والنوافل الراتبة المؤكدة ليست كالنوافل الغير مؤكدة ، كل له مرتبة ، فينبغي مراعاة ذلك ومعرفته .
المقوم الثاني : الجرأة مع الحكمة
الجرأة مهمة - أيها الأخوة - لأن الخوف والجبن سمة لا تليق بمن يريد أن يكون مقدماً بين الناس ، الداعية والعالم متصدر في الناس ومتقدم ، لا بد من الجرأة والشجاعة والحمية لدين الله -جل وعلا -والغيرة على حرمات الله ، لكن هذه الشجاعة ليست طيشاً ، وليست تهوراً ، بل هي مضبوطة بالحكمة ، فهي جرأة محمودة ، وهي جرأة مربوطة ، والحكمة في اللغة : مشتقة من الحَكَمة بفتح الحاء والكاف ، وهي الحديدة التي توضع في لجام الفرس ، ما هي فائدة هذه الحديدة ؟ هذه هي التي تضبطه ، إذ أرخي المقود عرف الخيل أنه مطلوب منه أن يسرع فيسرع .. إذا شد عرف المطلوب البطء وعدم السرعة ، ولذلك السرعة في موضعها محمودة ، ولو أنه كانت هناك فسحة ولم يسرع ، وكان محتاجاًََ إلى الوصول ألا يكون ذلك مقصراً ومفرطاً ؟ ولكن إذا جاء في وقت الزحام يسرع ويزاحم الناس ، ويحصل بذلك فتن أو مشكلات ، هذا ليس من الحكمة ، فليست الجرأة في كل وقت محمودة ، وتقدير الظروف والأمور أمر مهم .(/10)
والجرأة فيها شجاعة نادرة نضرب أمثلة سريعة ؛ لأن الوقت يضيق بنا .
جاء في صحيح البخاري من رواية أنس بن مالك أنه قال : ( كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أحسن الناس وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت ، فاستقبلهم النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد استبرأ الخبر ، وهو على فرس لأبي طلحة عُري وفي عنقه السيف ، وهو يقول : لم تراعوا لم تراعوا . ثم قال : وجدناه بحراً ) ما معنى ذلك ؟ الناس خرجوا ومازالوا في أول المدينة ، أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان من شجاعته وجرأته قد ركب فرساً من غير سرج ، وقد ذهب إلى الموقع وعرف الخبر ورجع ، وهو يقول : ( لن تراعوا .. لن تراعوا )هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه العالم والداعية ، فيكون هو المتقدم ،كان علي - رضي الله عنه - يقول : " كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم - في المعارك " .
والحكمة مهمة ، وأبوابها واسعة ؛ منها كثير مما ذكرناه من المراعاة والتدرج والأناة والبصيرة .
المقوم الثالث : الاستغناء مع العطاء
كل الرسل والأنبياء ذكر في قصصهم : { قل ما أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله } أما الذي يكون عليه بعض الدعاة اليوم !كل كلمة بمبلغ ، وكل خطبة بمبلغ ، وكل شريط بمال ، وكل كتاب بأجرة .. هذا تاجر وليس عالم أو داعية .
ما الذي يؤثر في الناس ؟ يؤثر في الناس أن يجدوا من يبذل ويعطي من وقته أو من جهده أو من ماله ولا يرون له مصلحة .. يعطي من وقته وجهده فينظر إليه بعض الناس فيتعجبون ، وينظرون إلى بعض العلماء أو الدعاة يتعبون أنفسهم ، ويسافر هنا وهناك ، وعنده درس بعد الفجر و... دون أن يأخذ شيئاً، هذا هو الذي يعظم قدره عند الناس ، ويجعل أثره فيهم حميداً ، ويوم تصبح الدعوة تجارة يفقد الناس حماسهم لها ، وتعظيمهم لحملتها ، ويرون أن هؤلاء قد يتشبهون باليهود - عليهم لعائن الله - وأهل الكتاب الذين قال الله فيهم : { يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } فكلما استغنى الداعية ، وأكثر عطاءه للناس كلما كان ذلك أعظم تأثيراً في نفوسهم ، وأيسر في قبولهم وتأثرهم بإذن الله سبحانه وتعالى .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ما سُئل - عليه الصلاة والسلام - شيئاً إلا أعطاه ، ومن حكمته - صلى الله عليه وسلم - في العطاء أنه يعطي حتى لا يظن أن المنع لشيء أو لخلة غير حميدة .
في الحديث الصحيح في قصة حكيم بن حزام قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، وقال : ( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلو فمن أعطيه بعزة نفس بورك له فيه ، ومن أعطيه باستشراف نفس لم يبارك له فيه ) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، قال أهل العلم : لما أعطاه في المرة الأولى والثانية بدون أن يكلمه حتى لا يقول : إن الرسول -صلى الله عليه وسلم -لم يعطيني لأنني لا أستحق ، أو لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله - لا يعطي من ليس بكريم ، أعطاه ثم أعطاه ، ثم أراد أن يبين له أن السؤال غير مناسب ، وأن سؤال الناس لا ينبغي أن يكون من صفة المسلم .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - أثّر في كثير من الناس بهذا العطاء ، كان صفوان بن أمية يقول : " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أبغض الناس إليّ ، فما زال يعطيني ويعطيني حتى ما أحد أحب إلي منه " . وأيضاً العطاء كان له أثر على أحد الأعراب ، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال : يا محمد أعطني من مال الذي أعطاك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم – للأعرابي : أترى هذا الغنم التي في الوادي بين جبلين ! قال : نعم ، قال : خذها فإنها لك ، فقال الأعرابي أتهزأ بي وأنت رسول الله ! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا ، فذهب الأعرابي فرحاً يقول يا قوم أسلموا ؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول لبلال : ( أنفق بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلال ) .
هذا العطاء ليس مجرد المال فقط ، ولكن العطاء من سماحة النفس ، عندما كانت العجوز تستوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطريق فيقف لها ويسمع لها .. من هو ؟ سيد الخلق وخاتم الرسل والأنبياء .
وأما حال داعية اليوم فيقول : مشغول وكذا ، وإذا أردت لا بد أن تأتي ، هذه ليست من صفات الداعية لماذا ؟ لأنك عندما تعطي الناس من وقتك يحبك الناس ،ويتأثرون بك ، ويجدون فيك قدوة ، ويتأسون بك .
المقوم الرابع : الاستمرار والابتكار(/11)
من أراد أن يدعو الناس فلا يدعوهم يوماً ثم ينام دهراً .. إنما تؤتى الأمور ثمارها بمواصلتها واستمرارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله تعالى : { قم فأنذر } إلى قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } كان يدعو ، والله صور لنا نماذج لهذه الدعوة في قصة نوح .. دعوة بالليل والنهار .. بالسر والجهر .. في الملأ وفي الأفراد .. في كل الأحوال . وقصة يوسف - عليه السلام - في السجن ، وهو سُجِنَ مظلوماً ، ومع ذلك ماذا قال في السجن لما جاءه الرجل يسأله عن الرؤية ؟ مباشرة حوّل المسار إلى الدعوة وذكّر بالله – عز وجل - وكأن شيئاً لم يكن ؛ لأن الدعوة هي أمر يحمله الداعي إلى الله - عز وجل - معه في كل مكان ، وفي كل ظرف ، وفي كل زمان ، وفي كل حال ، لا يفتر عنها بقوله ، وبفعله ، وبحاله ، وبمقاله ، كل شيء يستطيع أن يدعو به .
ولذلك الاستمرار على المدى الطويل يحصل به ثمرة . إذ الإنسان لا بد له أن يسمع الموعظة مرة فلا يلين له قلبه ، فيسمعها ثانية .. ثالثة فيزداد تأثره .
والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن - جل وعلا - يقلبها كيف يشاء ، لا تدري ! استمر قد يقول : يا أخي تكلمنا في مسألة كذا من الأمور التي يفعلها الناس ، أو في مخالفات الصلاة أو كذا ليس هناك فائدة .. استمر ، ولو كان هذا الدين ليس فيه هذا الاستمرار ما وصل ، وما اقتضت حكمة الله أن يبقى إلى قيام الساعة .
والابتكار أيضاً مطلوب ؛ لأنه كلما استمر الإنسان يصبح هناك نوع من التكرار ، والتكرار أحياناً يصبح سبيل إلى الملل ، لكن عندما يتنوع عبر وسائل كثيرة ومختلفة ومتنوعة ، ومسابقات ، وبحوث ومحاضرات أو دروس أو رحلات أو ألوان مختلفة، كما كان ابن عباس - رضي الله عنه - يجلس إلى الناس فيعلمهم التفسير ، فإذا رأى أنهم قد طال بهم المقام يقول : أحمضوا بالشعر – أي ائتوا بكتب الشعر .. نقف قليلاً .. نغيّر نجدد ببعض الأشعار والقصص - حتى ينشط الناس مرة أخرى ؛فإن التجديد والتنويع له أثره .
المقومات في مفاهيم الداعية
وهذه أكثر أهمية فيما مضى ، فالفهم مهم جداً ، قال ابن القيم : " صحة الفهم وحسن القصد هما ساقا الإسلام يمشي بهما " ، إذا كان عنده فهم سقيم يكون المشي أعرج ، أو إذا كان فهمه صحيح لكن مقصده غير حسن أيضا لا يمشي مشياً سلمياً ، لذلك الفهم مهم جداً ما دام يريد أن يفهم الإسلام فهماً صحيحاً .
أولاً : ربانية هذا الدين
هذا الدين ليس من عند أحد ، ليس هو دين محمد لم يأتي به - النبي صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه كما ادعى كفار قريش والمشركون ، كل شيء فيه رباني من الله - سبحانه وتعالى - ، فهو لذلك كامل ، وهو لذلك نافع صالح ، وهو لذلك مستمر ؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } وشمولية الإسلام هذا الدين يشمل كل شيء في الحياة الله { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ، وفي سنن أبي داود ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ) يعني حتى كيفية قضاء الحاجة ، كل شيء في هذا الدين .. تستيقظ هناك دعاء .. تلبس ثوبك هناك ذكر .. تخرج من بيتك هناك أثر ..كل حياتنا مرتبطة بهذا الدين ، فالاقتصاد هناك أحكام وتشريعات ونظام في السياسة ..هناك مبادئ وأسس وقواعد في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية .. هناك آيات تتلى ، وأحاديث تروى ، وشرائع تُعلّم وتدرس تنتظم بها أمور الناس كلهم ، لماذا ؟ نقول : لأنه إذا جاء أحد يتكلم عن الاقتصاد أو عن الربا ، يقول : دعونا نتكلم في الدين ، نقول له : هذا ما هو ؟ أليس هذا من الدين ! أليس قد تنزلت آيات في ذلك وهكذا يقع أحيانا خلل بسبب هذا .
ثانياً : وسطية الإسلام
وهذه مهمة ؛ لأن هذا الدين وهذه الأمة وسط : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } ، الوسطية وسط بين الإفراط والتفريط .. بين التعسير والتيسير ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً .
فإذا كان التيسير هو إثم ، فهذا ليس تيسيراً ، هذا حرام ؛ لأن بعض الناس بحجة التوسط ، وبحجة المرونة ، يريد أن ينسلخوا من الشرائع والأحكام يقول لك يا أخي الدين يسر يقول صلي في بيتك من قال ـ أن هذا من يسر الدين، الدين يسر ليس علينا كذا وكذا أمور كثيرة يغيرون فيها وسطية الإسلام وسطية أهل السنة، بين الفرق التي إنحرفت وابتدعت أيضا أمرها واضح بين الإرجاء الذي كان عند المرجئة وبين التكفير الذي عند الخوارج وبين المعطلة الذين أنكروا الصفات وبين المشبهة الذين شبهوا صفات المخلوق بالخالق دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الأمور أوسطها، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان أمره أمر واضح من أثر كل ما ذكرنا .
مفاهيم الدعوة(/12)
1 ـ أن الدعوة إلى الله واجب شرعي كفائي ، والواجب الكفائي هو الذي إذا قام به البعض قياماً يكفي سقط عن الباقين ، فهل قام أمر الدعوة وانتظم بحيث ليست هناك حاجة ، بل قال ابن تيمية ما معنى كلامه : إن الفرض الكفائي يتوزع على الناس حتى يكون على كل واحد منهم قدرٌ هو في حقه فرض عين ، فالعالم : التعليم والدعوة في حقه فرض عين أكثر من غيره ، لكن الآخرون إعانتهم لهذا العالم وإقامتهم هو واجب عليهم ؛ حتى يؤدي دوره ، وكل يكون عليه واجب بقدر هذا ، والحاجة ماسة جداً ؛ لأن الجهل في المسلمين عظيم ، ولأن غير المسلمين الذين لم يعرفوا الإسلام كثر ، ولأن الشبهات حول هذا الدين عظيمة ، فالدعوة الحاجة إليها ماسة ، ومن لوازم هذه الدعوة أن نفهم حقيقة هذا الواقع المعاصر ، وأن نتفاعل مع الدعوة بحماسة وقوة وتصدي ومواجهة .
ليست الدعوة كلام ولا ميكروفونات وإنما هي جهاد حقيقي في إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، واستنقاذ الناس من الضلال ، وإشاعة نور العلم في قلوبهم ونفوسهم ، وهي نوع من مغالبة الباطل ومحاربته في كل موقع وميدان ، ومن المهم أن نعرف ضرورة التعاون على الدعوة .
و المشكلة الكبيرة عندما لا يفقه الدعاة بعض المفاهيم يختصمون ، فهذا يعلّم العلم وذلك يريد من الناس أن ينفقوا المال ، ماذا يصنعون ؟ أليس هذا فيه تكامل ! العلم خير والإنفاق خير ، لكن الذي يعلم العلم يقول : هذا خاطئ ومخطئ في طريقته ، لماذا يدعو الناس إلى الإنفاق ولا يهتم بالعلم والمنفق ، كمن يعمل في اللجان الخيرية يقول : هؤلاء يضيعون وقتهم في طلب العلم ، وكل يرد على الآخر وهو مخطئ ينبغي أن نثني على هذا العمل ، وأن نتعاون فيه ، ونحرص عليه ؛ لأن المجالات متعددة ، والإمكانيات محدودة ، والأعداء متربصون بنا في كل حين ، هذا وينبغي أن نفهم أن الابتلاء على طريق الدعوة حاصل ، وأن الصبر لازم ، وأن الطريق طويل ، وأن الذي يريد استعجال الثمرة لن ينالها ، وأن الله قد ابتلى الرسل والأنبياء وصفوة الخلق - عليهم الصلاة والسلام - وحصل لهم ما حصل من الملأ من أقوامهم ، وما نحن بأحسن من الرسل والأنبياء ، وإنما يصيبنا شيء قليل من هؤلاء العظام من خلق الله الذين شرفهم بالنبوة والرسالة ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .(/13)
مقومات النجاح في تكوين الداعية
التميز الإيماني من أهم ركائز ومستلزمات الدعوة:
إن الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل والأنبياء، ورسالة الوارثين من الدعاة والعلماء{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن }، والدعوة لها مستلزمات ومتطلبات، ومن أهم ركائزها وأولى دعائمها الإيمان والعلم وهما أعظم الأسس وأولى الأولويات، ولذا فإن التوضيح لهما والتركيز عليهما له أهميته في تثقيف وتكوين الدعاة.
ونبدأ اليوم بالتميز الإيماني والتفوق الروحي باعتبارهما الركيزتين الرئيستين اللتين تعتمد عليهما الدعوة.
فالتميز في مجال الإيمان عقيدة صحيحة، ومعرفة جازمة وتأثيراً قوياً يعد- بلا نزاع- أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للدعية، لكي يكون عظيم الإيمان بالله، شديد الخوف منه، صادق التوكل عليه، دائم المراقبة له، كثير الإنابة إليه، لسانه رطب بذكر الله، وعقله مفكر في ملكوت الله، وقلبه مستحضر للقاء الله، مجتهد في الطاعات، مسابق إلى الخيرات، صوام بالنهار قوام بالليل، مع تحري الإخلاص التام، وحسن الظن بالله وهذا هو عنوان الفلاح، وسمت الصلاح ومفتاح النجاح، إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من الله فإذا بالداعية مسدد، إن عمل أجاد، وإن حكم أصاب، وإن تكلم أفاد.
وهذا الباب واسع الجوانب متعدد المستلزمات، وحسبي أن أبرز أهم هذه الجوانب :
1- عظمة الإيمان بالله
فأساس كل أمر هو تجريد التوحيد والبعد عن الشرك. ولا بد أن يكون الداعية صحيح الإيمان، خالص التوحيد، وعنده من العلم ما يعرفه بالله وربوبيته وأولوهيته وأسمائه وصفاته، وان تستقر هذه المعرفة في سويداء قلبه، وتملك عليه أقطار نفسه، وتجري مع الدماء في عروقه.
وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفي على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال، وكل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار الإيمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها:
أولا: التحرير من عبودية غير الله
الإيمان قوة عظمى يستعلى بها المؤمن على كل قوى الأرض، وكل شهوات الدنيا، ويصبح حرا لا سلطان لأحد عليه إلا لله، فلا يخاف إلا من الله، ولا يذل إلا لله، ولا يطلب إلا من الله، ولا يأمل إلا في الله، ولا يتوكل إلا على الله، وللإيمان تأثير كبير في أعظم أمرين يسيطران على حياة البشر وهما: الخوف على الرزق، والخوف على الحياة .
أما الأول: فلا يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال، وكم شغل الناس حب المال، لما ذهب الذهب بأبصارهم وسبى قلوبهم، أما المؤمن فحقائق الإيمان تملأ قلبه فلا يتأثر بشيء من هذا لأن في قلبه قول الحق جل وعلا {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [ الذاريات : 22 ] .
ولأنه يعلم من بيده الرزق {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له} [ العنكبوت : 17].
الثاني : اليقين
وأما الثاني: فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله، وأنه لا ينجي حذر من قدر، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأن الموت ليس بالأقدام وأن السلامة ليست بالإحجام بل كما قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [ النساء :78] .
2- الخشية من الله:
وهي من أعظم آثار الإيمان وأبرز أوصاف المؤمنين {الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون} [ الأنبياء :49]
{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} [ الأحزاب : 39 ]
وقدوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ( إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ) [ أخرجه البخاري في كتاب النكاح "الفتح:9104" ] .
" والخشية أخص من الخوف، فهي خوف مقرون بمعرفة" [ تهذيب مدارج السالكين : ص:269 ]
وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن الغافلين والعابثين لأن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله.
والخشية أساس مراقبة الله ترقى بالمؤمن إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه .
الإخلاص لله
" الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله" [مع الله : ص 201] .
وهو " في حقيقته قوة إيمانية، وصراع نفسي، يدفع صاحبه بعد جذب وشد- إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية، وأن يترفع عن الغايات الذاتية، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكورا " [ صفات الداعية النفسية : ص 12 ] .
فالمخلصون " أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا أو باطنا لوجه الله وحده " [ تهذيب مدارج السالكين : ص68 ]
والإخلاص للداعية ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر، وهو استجابة لأمر الله {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [ البينة :5].
3- حسن الصلة بالله(/1)
المقصود بها إقامة الفرائض، والاستكثار من النوافل، والاشتغال بالأذكار، والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية، والحرص على المناجاة الربانية، وغير ذلك من القربات والطاعات.
والخلاصة أن التميز الإيماني من أعظم أسباب نجاح الداعية، إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ولا قوة البرهان ولا كثرة الأعوان، بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه ولا شك " أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى سبيله، لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق،وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم،ورقابتهم له أوضح"، ونحن نريد روحانية إيجابية لا انعزالية ترتكز على العبادات والأوراد بعيدة عن التفاعل مع الحياة وما فيها من هموم ومعاناة، نريد "روحانية إيجابية تحفزه للتضحية وتستهدف الشهادة وتعمق الحاجة إلى رضا الله لتغدو هاجسا يوميا يلاحق كل مواطن رضاه في عملية تدقيق ومعاناة تجعله يعيش مع عقيدته في أفكاره ومشاعره وفي علاقاته ومطامحه، فتتحول في داخل ذاته إلى هم يومي متحرك يراقب الأشياء من خلاله، ويحدد موفقه منها على أساسه".
د. علي بن عمر بادحدح(/2)
مكانة الجهاد في الإسلام --------(1)
في الوقت الذي يسارع فيه الكثير من المسلمين إلى أداء الطاعات والعبادات رغبة في جنة الله تعالى وهربا من النيران وخاصة ركن الحج الذي نعيش موسمه في هذه الأيام يعيش أهل فلسطين تحت حكم أظلم وأشرس عدو عرفه التاريخ المعاصر ألا وهو العدو الصهيوني المجرم رافع راية الإرهاب العالمي يتحكم في حياة أهلنا ومصائرهم حتى وصل به الأمر انه منع أهلنا في فلسطين من التوجه لأداء فريضة الحج التي تتسابق الفضائيات العربية في نقلها لأخبار خدماتها لأبناء دولها في الأراضي المقدسة ولكن حمزة لا بواكي له فمن لأهلنا المجاهدين في فلسطين حتى يصلوا لحرية العبادة كغيرهم من المسلمين .
إلا أن عزاءنا لأهلنا في فلسطين أنهم وإن لم يتمكنوا من أداء العبادات الراتبة كغيرهم من المسلمين فهم يعيشون في أعظم طاعة وأكبر عبادة لا يعدلها شيء ألا وهي الجهاد في سبيل الله وهذا بنص قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك :-
أولا : الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا ؟ قال: الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا ؟ قال: حج مبرور }.
ثانيا : الجهاد في سبيل الله أفضل عند الله من عمارة المسجد الحرام .
روى مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: { كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج , وقال الآخر لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام , وقال آخر لا الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ! فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله قوله تعالى : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) }.
ثالثا : الجهاد في سبيل الله أحب الأعمال إلى الله .
روى الترمذي والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن سلام رضي الله قال: { قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عملنا فأنزل الله ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم } .
رابعا : المجاهد في سبيل الله أفضل عند الله من غيره من الناس .
قال تعالى : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما }.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال { أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي الناس أفضل قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره }.
خامسا : الجهاد في سبيل لا يعدله شيء .
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا تستطيعونه , فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه , ثم قال مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله }.
سادسا : الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال على الإطلاق .
روى أحمد والبيهقي عن عمرو بن عبسه السلمي رضي الله قال : { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما الإسلام ؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن يسلم قلبك لله وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك , قال فأي الإسلام أفضل ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الإيمان , قال وما الإيمان ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله و تؤمن بالبعث بعد الموت , قال فأي الإيمان أفضل ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الهجرة , قال وما الهجرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أن تهجر السوء , قال فأي الهجرة أفضل ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الجهاد , قال وما الجهاد ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم , قال فأي الجهاد أفضل ؟ قال صلى الله عليه وسلم : من عقر جواده وأريق دمه }.
فهنيئا لكم جهادكم أهل فلسطين !! هنيئا لكم عبادتكم المتميزة !! هنيئا لكم ثباتكم على الحق في زمن قل فيه الثابتون !! ونسأل الله أن يلحقنا بكم جهادا وثباتا وأجرا إنه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين .
مكانة الجهاد في الإسلام --------(2)(/1)
في الوقت الذي يبذل فيه المسلمون الذين كتب الله لهم فريضة الحج المال والجهد لأداء فريضتهم إرضاء لله تعالى وطلبا لعفوه ومغفرته ورحمته وفي الوقت الذي يواظب فيه الملتزمون على طاعاتهم وعباداتهم من صلاة على وقتها أداء للمال وصيام التطوع خاصة في هذه الأيام المباركة – العشر من ذي الحجة- فمن صائم بالنهار وقائم بالليل متبتلا داعيا الله المغفرة والرحمة فمع كل هذا وذاك نجد المجاهدين في فلسطين يضحون بأموالهم وأنفسهم وتسيل دماؤهم عوضا عن دموعهم بين يدي الله تعالى دفاعا عن عقيدة الأمة ومقدساتها حاملين بذلك الواجب عن الأمة بأسرها فلا يكاد يمر يوما إلا وبيتا يهدم أو شهداء يرتقون إلى باريهم أو أبطال تعتقل أو أرضا تجرف وذلك كله أصبح من مفردات الحياة اليومية للشعب الفلسطيني المجاهد إلا أن الذي يصبرهم ويعزينا أن ثواب المجاهدين عند الله عظيم ولن يذهب صبرهم ورباطهم سدى في الدنيا قبل الآخرة فإن مكانة الجهاد والمجاهدين في الإسلام جد عظيمة ومن ذلك :-
أولا : الجهاد في سبيل الله أفضل عند الله تعالى من العزلة والتفرغ للعبادة .
روى الترمذي والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فقال : لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم { فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما, ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ؟ اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة }.
فواق الناقة: هو الوقت ما بين الحلبتين من الناقة لأن الناقة تحلب ثم تترك فترة ثم تحلب مرة أخرى .
ثانيا : المجاهد في سبيل الله خير الناس وأكرمهم على الله تعالى .
روى الترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم جلوس في مجلس فقال : { ألا أخبركم بخير الناس منزلا ؟ قلنا بلى يا رسول الله , قال : رجل أخذ برأس فرسه في سبيل الله حتى يموت أو يقتل , ألا أخبركم بالذي يليه ؟ قلنا بلى يا رسول الله , قال امرؤ معتزل في شعب يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس }.
ثالثا : نوم المجاهد في سبيل الله أفضل من قيام غيره من الليل وصيامه النهار .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : أيستطيع أحدكم أن يقوم فلا يفتر ويصوم فلا يفطر ما كان حيا ؟ قيل ومن يطيق ذلك يا أبا هريرة ؟! قال والذي نفسي بيده إن نوم المجاهد في سبيل الله أفضل منه .
روى أحمد عن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله حتى يرجع متى يرجع }.
رابعا : يرفع الله المجاهد في سبيل الله مائة درجة .
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد , فقال : أعدها علي با رسول الله فأعادها عليه , ثم قال : وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض , قال: وما هي يا رسول الله؟ قال : الجهاد في سبيل الله }.
خامسا : سياحة هذه الأمة بالجهاد في سبيل الله .
روى أبو داود والبيهقي والحاكم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه : {أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة , فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله } .
سادسا : الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام .
روى الترمذي وأحمد والحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : { كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك , فقال إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت أجل يا رسول الله ! قال أما رأس الأمر فالإسلام وأما عموده فالصلاة وأما ذروة سنامه فالجهاد }.
سابعا : يضمن الله تعالى للمجاهد في سبيله كفالته وعونه وهدايته من خروجه حتى عودته أو استشهاده .
قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
روى النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل أنه قال :{ أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي , وابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة , وإن قبضته غفرت له } .
روى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله , و المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف }.(/2)
وأخيرا أخوة الإسلام لو سأل كل واحد منا نفسه من أفضل عند الله في هذه الأيام الجهاد في سبيل الله أم الحج لبيت الله الحرام الذي يتمناه كل مسلم منا ويغبط الناس من توفرت له الإمكانات لأداء هذه الفريضة ؟!
فاسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه{سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله , قيل ثم ماذا ؟ قال الجهاد في سبيل الله , قيل ثم ماذا ؟ قال حج مبرور}.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : لسفرة في سبيل الله أفضل من خمسين حجة .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : عليكم بالحج فإنه عمل صالح أمر الله به والجهاد أفضل منه .
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : غزوة في سبيل الله أفضل من عشر حجج لمن قد حج .
فيا ليت أمتنا تتنافس على الجهاد ونوال فضله عشر معشار ما تتنافس على أدائها لفريضة الحج مع أن المقصود للجميع رضى الرحمن والفرق في الأجر والفضل واضح ويا ليت قومي يفقهون والحمد لله رب العالمين(/3)
مكانة المرأة في الإسلام
الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض فكل الحمد لك اللهم لك الشكر ملء السماوات والأرض فكل الشكر لك نحمدك على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن ونحمدك على أن هديتنا للإسلام وجعلتنا من أمة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه نشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الدقائق في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات في يوم الحسرات وأن يجعل من تسبب في ذلك بشيء قليل أو كثير يجعل هذه في ميزانه وأن يجعلها له من الباقيات الصالحات هو ولي ذلك والقادر عليه أيتها الأخوات المؤمنات إدارة ومعلمات وطالبات ومنسوبات أوصيكن ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن نقدم لأنفسنا أعمال تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) (يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور) يوم تبلى السرائر وتنكشف الضمائر يوم الحاقة والطامة والقارعة والزلزلة والصاخة (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)
أيتها الأخوات من أنتن لولا الإسلام والإيمان والقرآن؟ أنتن بالإسلام وبالإيمان والقرآن شيء وبدونها والله لا شيء، ولعلكنَّ تُعِرنني أسماعكنَّ قليلا، لتعرفن تلك النعمة التي أنتنَّ تعِشْنَها في هذه الأيام، يوم تسمعْن لحال المرأة في عصور الجاهلية، وأنتنَّ تتبوأن نعمة الهداية. كيف كانت المرأة؟ كانت سلعة تُباع وتُشترى، يُتشاءم منها وتُزدرى، تُبَاع كالبهيمة والمتاع، تُكْرَه على الزواج والبِغَاء، تُورث ولا تَرث، تُملَك ولا تَمْلِك، للزوج حق التصرف في مالها –إن ملكت مالها- بدون إذنها، بل لقد أُخْتلِفَ فيها في بعض الجاهليات، هل هي إنسان ذو نفس وروح كالرجل أم لا؟ ويقرر أحد المجامع الروسية أنها حيوان نَجِس يجب عليه الخدمة فحسب، فهي ككلب عَقُور، تُمنَع من الضَّحِك –أيضا-؛ لأنها أحبولة شيطان، وتتعدد الجاهليات، والنهاية والنتيجة واحدة. جاهلية تبيح للوالد بيع ابنته، بل له حق قتلها ووأدها في مهدها، ثم لا قِصاص ولا قَصاص فيمن قتلها ولا دِيَة، إن بُشِّر بها ظلَّ وجهه مسودًا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيُمْسِكَه على هونٍ، أم يدسُّه في التراب.
وعند اليهود إذا حاضت تكون نجسة، تنجس البيت، وكل ما تَمسُّه من طعام أو إنسان أو حيوان، وبعضهم يطردها من بيته؛ لأنها نجسة، فإذا تطهَّرت عادت لبيتها، وكان بعضهم ينصب لها خيمة عند بابه، ويضع أمامها خبزا وماء كالدابة، ويجعلها فيها حتى تطهر.
وعند الهنود الوثنيين عُبَّاد البقر يجب على كل زوجة يموت زوجها أن يُحرق جسدها حية على جسد زوجها المحروق.
وعند بعض النصارى أن المرأة ينبوع المعاصي، وأصل السيئات، وهي للرجل باب من أبواب جهنم، هذا كله قبل بعثة محمد –صلى الله عليه وسلم-.(/1)
فهل أتاكنَّ أيتها المؤمنات المسلمات القانتات، بل هل أتاكنَّ يا بنات حواء في هذا العالم كله أنباء ما جاء به نبي الرحمة والهدى محمد –صلى الله عليه وسلم- من التعاليم في حقِّكنَّ فحمدتنَّ الله على ما تبوأتنَّ به من هذه النعمة. بعد تلك المهانة والذِلَّة، يأتي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليرفع مكانة المرأة، ليُعلي شأنها، فإذا به –صلى الله عليه وسلم- يبايع النساء بيعة مستقلة عن الرجال، وإذا بالآيات تتنزل، وإذا المرأة فيها إلى جانب الرجل تكُلَّف كما يُكَلَّف الرجل إلا فيما اختصت به. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم منْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم منْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً) (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) صفات صالحة في الرجال، ما ذكرها الله إلا وذكر في جانبها النساء، والصالحة كذلك. (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ) (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد مدة ليست باليسيرة يقول: "إنما النساء شقائق الرجال" وإذا به -صلى الله عليه وسلم- بعدها يقول في خطبته الشهيرة: "استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عَوَان "يعني أسيرات، ثم يقول -صلى الله عليه وسلم- رافعًا شأن المرأة، وشأن من اهتم بالمرأة على ضوابط الشرع: " خياركم خياركم لنسائهم، خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" صلوات الله وسلامه عليه. يأتيه [ابن عاصم المنقري]؛ ليحدثه عن ضحاياه، وعن جهله المُطْبِق، ضحاياه المؤودات فيقول : لقد وأدت يا رسول الله اثنتي عشرة منهن، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: "من لا يَرحم لا يُرحم ،من كانت له أنثى فلم يَئدْها، ولم يُهِنْها، ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله –عز وجل وتعالى- بها الجنة ". ثم يقول –صلوات الله وسلامه عليه-: "من عَالَ جاريتيْن حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضمَّ بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه" ثم يقول –صلى الله عليه وسلم:" الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم لا يفتر، أو كالصائم لا يفطر" أو كما قال –صلى الله عليه وسلم-: أمٌّ مكرَّمَة مع الأب، أُمِرْنَا بحسن القول لهما (فَلاَ تَقُل لهما أُفٍّ) وحسن الرعاية (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) وحسن الاستماع إليهما والخطاب (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) وحسن الدعاء لهما (وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيرًا). أمٌّ مكرَّمة مقدَّمة على الأبِّ في البرِّ. "من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك". يأتي [جاهمة] إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الجهاد في سبيل الله من >اليمن<، قد قطع الوِهَاد والوِجَاد حتى وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: أردت يا رسول الله أن أغزو وجئت لأستشيرك، فقال -صلى الله عليه وسلم-": هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: الْزمها؛ فإن الجنة عند رجليها " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. بل أوصى –صلى الله عليه وسلم- بالأم وإن كانت غير مسلمة. فها هي [أسماء] تقول: "قدمت أمي عليَّ، وهي ما زالت مشركة، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: قدمت أمي وهي راغبة أَفأَصِلُها؟ قال: نعم –صلى الله عليه وسلم-، صِلي أمك".(/2)
ليس هذا فحسب، بل أنزل الله فيكِ سورة كاملة باسم سورة النساء، وخصَّكِ بأحكام خاصة، وكرَّمك، وطهَّرك، واصطفاك، ورفع منزلتك، ووعظك، وذكَّرك، وجعلك راعية ومسؤولة، وأرجو من الله –عز وجل- أن تكوني كذلك، فالأمل –والله- فيكن –أيتها المؤمنات المتعلمات- كبير، والمسئولية –والله- عليكن عظيمة وجسيمة. راعيات في المدارس، راعيات في البيوت، فلتكنَّ قدوات، قدوات في المظاهر، وقدوات في المخابر، قدوات في القول، وفي العمل، وفي كل أمورِكن؛ فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي رفع شأنكن بهذا الدين يقول: "وما من راعٍ استرعاه الله رعية فضيَّعهم، أو بات غاشًا لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة ". منذ بزوغ فجر الرسالة –يا أيتها المسلمة- والمرأة مُكرَّمة معزَّزة تقوم بدورها إلى جانب الرجل تؤازره، تشد من عزمه، تقوي همَّته، تناصره، تحفظه إن غاب، تسرُّهُ إذا حضر إليها، ثم تنال بعد ذلك نصيبها في شرف الدعوة إلى الله –عز وجل- . وتنال نصيبها من الإيذاء في سبيل الله. فها هي [سمية]، ما سمية؟! سمية أول شهيدة في الإسلام، وهاهو ابنها وزوجها يُعذَّبون، يُلبسون أذرع الحديد، ثم يُصهرون في الشمس، في رمضاء <مكة>، وما أدراكم ما تلك الرمضاء؟! ثم يمرُّ –صلى الله عليه وسلم- وهم يُعذَّبون بـ>الأبطح<، وهو في بداية دعوته لا يملك لنفسه شيئًا بل لا يملك ما يدفع به عنهم وعنها، فيقول: "اصبروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة" وذات يوم بالعشي يأتي [أبو جهل] إلى [سمية]، فيسبها، ويشتمها، ويتكلم بكل كلمة وَقِحَة ومهينة، وهي ثابتة بإيمانها، راسخة بيقينها، لا تلتفت إلى وقاحته، ولا تنظر إلى سفالته، وإنما رنت عينها مباشرة إلى جِنَانٍ ذاكية، وإلى منازل ذاكية، في دار النعيم والرِّضوان والتكريم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، نظرت إلى هناك ولم ترد عليه ليتقدم -أخزاه الله- إلى تلك العجوز الضعيفة الكبيرة فيطعنها بالحربة في موطن عِفَّتِها، لم يرحم ضعفها ولا عَجْزَهَا لتسقط؛ فتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يموت زوجها بعد ذلك بالعذاب فيحتسبها، ثم يحتسبه أبناء هذا الرجل، ويشاء الله أن يعيش ابنها [عمار] حتى يرى قاتل أمه يوم >بدر < مجدلاً على الأرض، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: " قتل الله قاتل أمك يا عمار، قتل الله قاتل أمك يا عمار".
أخواتي المؤمنات؛ ونَعِمَت المرأة في ظل الإسلام قرونًا، ولا زالت تنعم بذلك حتى جاءت جاهلية هذا القرن والذي قبله، فوأدت المرأة وأدًا معنويًا، أمثل خطرًا من وأد الجاهلية. فإن الموءودة في الجنة كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-.
أما موءودة هذا القرن فهي التي وأدت نفسها، وباعت عفَّتها، وأهدرت حياءها، لا تجد الجنة، ولا تجد ريحها، كاسية عارية، مائلة مُمِيلة، لا تجد عرف الجنة، وإن ريح الجنة ليوجد من مسافة كذا وكذا، أصغت بأذنها إلى الدعاة على أبواب جهنم، فقذفوها في جهنم، فشقيت وخسرت دنياها وأخراها، فهي تعض أصابع الندم هنا ويوم القيامة، نسأل الله –عز وجل- أن يتجاوز عنَّا، وعن العاصيات من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. يا أمَةَ الله تجيء جاهلية هذا القرن في صور متعددة؛ في صورة المشفق عليك، الضاحك ظاهرًا، وهو يريد قتلك باطنًا.
إذا رأيت نِيُوبَ اللَّيثِ بارزةً *** فلا تظنِّين أنَّ اللَّيث يبتسمُ
جاءت هذه الجاهلية في صورة المشفق عن طريق مجلة، أو عن طريق صفحة جريدة، أو أغنية فاجرة، أو مسلسلة، أو تمثيلية، أو جهاز استقبال، يريدون منكِ أن تكوني عاهرة، سافرة، فاجرة، يريدون أن تكوني بهيمة في مِسْلاخِ بشر. حاشاك يا ابنة الإسلام، ويا حفيدة [سمية] و[أسماء].
اسمعي لقائلهم سمع الكبار يوم يقول وهو أحد الكفار الذي يتربص بك وبأخواتك وبالمؤمنين الدوائر يقول: لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي لنا حتى يُرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويُغطَّى به القرآن، وحتى تؤتى الفواحش والمنكرات. وخاب وخَسِر.
ويقول الآخر: مزِّقيه مزِّقيه بلا ريث، فقد كان حارسًا كذابًا -يخاطب بذلك الحجاب-.
ويقول الآخر: إلى متى تحملين هذه الخيمة؟.
ويقول آخر: ينبغي أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة والكليَّة .
ويقول آخر: لابد أن نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا، ونخلِّصها من قيود الدين. خاب وخسر.
ويقول الآخر: إن الحجاب خاص بزوجات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- .
فأين تنطلي مثل هذه الأمور؟ وأين هذا من القرآن؟ إنه لم يعرف القرآن، ولو عرف القرآن لقرأ قول الله في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ)
ويقول أحدهم -وهو [قاسم أمين]، من الذين تأثروا بالغرب- يقول: إن الحجاب ضرر على المرأة؛ فهو معرقل لحياتها اليومية يضرب بالآيات عرض الحائط، ويحكِّم عقله، وينظر إلى الغرب الهائم. فعامله الله –عز وجل- بما يستحق.(/3)
وآخر يقول: كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية مالا يفعله ألف مدفع؛ فأغرقوهم في الشهوات والملذَّات.
كيف جاءت هذه الأمور؟ إنها لم تأتنا إلا من أعداء الإسلام، على طريقة من؟! على طريقة الذين رُبُّوا على أفكار أولئك.
يخرج [سعد زغلول] منفيًا مُرتبًا له من مصر إلى بريطانيا أيام الاحتلال، ليعود من هناك وهو بطل وزعيم وطني قومي، وقد رُتِّب له الأمر، فإذا بسرادق النساء في استقباله، وإذا بزوجته [صفية زغلول] –انتسبت إليه، ولا تنسب إلى أبيها على طريقة الغربيات الكابرات- تأتي معه على ظهر الباخرة، وتصل إلى هناك، ولمَّا وصلت إلى هناك، وجاءوا لاستقباله إذا الأمر مرتب، ينزل وينطلق مباشرة إلى سرادق النساء، إلى سرادق الحريم المحجبات فتقوم [هدى شعراوي] –عاملها الله بما يستحق- تقوم إليه محجبة، فينطلق إليها ليمد يده –وقد مدَّ اليهودي قبل ذلك يده فدفع ثمن ذلك نفسه- يمد يده إلى حجابها ويرفع ذلك، وهي تضحك وتصفِّق، ويضحك ويصفِّق، ثم يصفِّق النساء لِيُعْلِنَّ الرَّذيلة من ذلك اليوم، وليبدأنَ في تقليد الكافرات، هذا هو عمله، فماذا فعلت؟ التي قامت بالدور بعد ذلك [هدى] و[صفيَّة] ، انطلقا في مظاهرة ظاهرها وهدفها مناوأة الاحتلال الإنجليزي، وانطلقا إلى ميدان الإسماعيلية، ليقفا في ذلك الميدان محجبات سود كالغربان، كما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- ولكن لحاجة في نفسهن، رمين الحجاب ودُسْنَهُ بالأقدام، ثم أحرقْنَه في تلك الساحات، ليُعلنَّ التمرد على القيم والأخلاق الإسلامية، فماذا كان بعد ذلك؟! حصل في <مصر> ما حصل ، حصل فيها أن بدأ التغريب هناك على يد هؤلاء، وبين أيادي المؤمنات، وعلى مرأى المسلمين والمسلمات.
ماذا حصل؟! انطلقوا مباشرة، فإذا بالرجل ينطلق إلى جنب المرأة مباشرة، وإذا به يعمل معها، وإذا بها يخالطها في المدرسة تلميذًا ومعلِّمًا فيما بعد، وإذا بالأمور تنفرط، ليس هناك فتدب العدوى إلى بلاد عربية ، حتى يكاد لا يَسْلَم من ذلك بلد إلا من رحم الله، وقليل ما هم. وإذا بنا نئن ونشكو من اختلاط ، من رذيلة توأد، ومن طهر وعفاف يوأد، وإذا الفساد ينتشر، وإذا الداعية يطيح هنا وهناك، فإذا الآذان صُمَّت، واتجهت تقلِّد الغرب حتى في لباسها، قامت تقلدهم في الموضة والأزياء. جاءت هذه الصرعات فاستنفذت البيوت واستنفذت ميزانيات الأسر. حتى إنك لترى التي بلغت الخامسة عشر لا زال لباسها من فوق ركبتها، وتقول: لازلت صغيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما –والله- ذكرت من هؤلاء سواءً [هدى] أو [قاسم] أو [زغلول] أو غيرهم من الدعاة هنا وهناك إلا نماذج للدعاة على أبواب جهنم الذين ألقوا بحجابهم، وداسوه بالأقدام إنما يتَحَدَّوْن مشاعر المسلمين، والذين يكتبون لتحرير المرأة، والذين وقفوا بذلك الميدان وسموه ميدان التحرير إنما هو التحرر من الفضيلة والخُلُق والطُّهر ولاشك، يكتبون، والله يكتب ما يُبيِّتون هم وأذنابهم إلى يوم يبعثون. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ). أختي المؤمنة؛ هل لهؤلاء ومن على أدرابهم من الكُتَّاب والراقصات والعاهرات أهلٌ لأن يَكُنَّ قدوة للصالحات المؤمنات القانتات الصابرات الخاشعات ؟ نعوذ بالله من الانتكاس ، ونسأل الله الثبات حتى الممات . أنت الطهر ، وأنت الفضيلة ، وأنت السُّمُوُّ ، والطهر لا يقتدي بالرِّجس والمهين ، والفضيلة لا تقتدي بالرذيلة ، والسمو لا يقتدي بالسُّفْل . خابوا وخسروا وتعسوا وانتكسوا .
أغيظيهم وقولي بلسان حالك ومقالك:
دعهم يعضوا على صُمِّ الحَصَى كمدًا *** من مات من غيظه منهم له كفن
إن آمالنا في المسلمة المتعلِّمة والمعلِّمة أن تكون أقوى من التحدِّيات، آمالنا في المسلمة في كل مكان وآمالنا في المسلمة في هذه الجزيرة أن تكون أقوى من التحديات، تعتز بدينها، تتمسك بعقيدتها ومبادئها وأخلاقها، بل وتدعو إليها؛ فذلك من دينها.(/4)
هاهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخبر ليلة الإسراء أنه كما قال: "فلما كانت الليلة التي أُسْرِيَ بي أتت علىَّ رائحة طيِّبة ، فقلت: ما هذا الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها" أتدرون ما خبر هذه المرأة؟ وما خبر هذه الماشطة؟ اسمعنَ إليها؛ فلعل فيها ما يثبِّت المرأة أمام شهواتها، وأمام رغباتها، والترغيب والترهيب عمومًا. هذه كانت تمشط بنت فرعون، ذات يوم من الأيام، وبينما هي تمشِّط بنت فرعون –وهو الذي يقول: أنا ربكم الأعلى- وإذا بالمِدْرَى يسقط من يديها، -المشط أو المِفْرَق التي تفرق به الشعر يسقط من يديها-، ويوم سقط من يديها قالت: باسم الله –وقد كانت تخفي إيمانها قبل ذلك- فقالت بنت فرعون: أبي؟ قالت: باسم الله ربي، ورب أبيك، وربك رب العالمين جميعًا، فقالت: إذاً أخبره بذلك، قالت: افعلي، فذهبت وأخبرت أباها، فجاء في تكبُّره وتجبُّره، ووقف عندها، وقال: أو إنَّ لك ربًا غيري؟ أو إن لك ربًا غيري؟! قالت: ربي وربك ورب الجميع رب العالمين سبحانه وبحمده، فاغتاظ، وقال: أما أنت بمنتهية؟ قالت: لا، فقال: إذًا أعذب أو أقتل، قالت: (اقْضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا) فانطلق يعذِّبها، أوتد يديْها ورجليْها، وصنف عليها أنواع العذاب، فكانت تمزج حلاوة إيمانها بمرارة العذاب، فتطفو حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فتشتاق وتقول: إنما هي ساعات، وإلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. يرسل عليها العقارب لتلسعها علَّه أن يصل إلى قلبها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين، فيعود ليرسل عليها الحيَّات لتنهشها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين، ينوِّع عليها العذاب، ويصنف عليها ذلك، وهي راسخة بإيمانها وعقيدتها، قد علمت إنما هي سويعات، ثم تعود إلى الله –عز وجل- فماذا حصل؟ قال: إذاً أقتلك وأحرقك بالنَّار، قالت: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فأمر ببقرة من نحاس، قيل أنه قدِر على صورة بقرة، وقيل: إنها بقرة أُذِيبت، ثم جيء بها وبأولادها ليقفوا على طرف هذه النار، يقف على طرف هذه النار، ثم يأخذ واحدًا من أولادها، وقبل أن يأخذه قالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أولادي، ثم تدفننا في ثوب واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق ، ثم رمى الولد الأول فوقفت ، فوقف أخوه الثاني وقال: اصبري يا أماه، فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت، ثم رمى بالثاني، فقال الثالث: اصبري يا أماه؛ فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت. ويرمي بهم واحداً بعد الآخر، وهي تقول: ربي وربك الله رب العالمين. لم يبقَ سوى طفل على ثديها رضيع لم ينطق بعد في شهوره الأولى، فما كان منها إلا أن ترددت أن تلقي بنفسها مع أولادها من أجل هذا الرضيع، ويشاء الله، فيطلق الثدي وينطقه الله الذي تعبده؛ ربها ورب كل شيء، فيقول: يا أماه اقتحمي؛ لَعذابُ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فتقتحم مع طفلها لتلقى الله- عز وجل-، راسخة ثابتة بإيمانها؛ فعليها رحمة الله ورضوانه. لم يقف الأمر عند ذلك، بل كانت [آسيا بنت مزاحم] زوج فرعون، والتي ربت [موسى] –صلوات الله وسلامه عليه- والتي قالت: (قُرَّتُ عَيْنٍ لي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) كانت تراقب الموقف وهي مؤمنة، ولم تعلن إيمانها بعد؛ خوفًا من أن يفتنها عن دينها، ولما رأت من الماشطة ما رأت، فقوي في قلبها إيمانها، وتعلقت بربها؛ رب العالمين. فجاء إليها ليخبرها متبجحًا وقد علمت ما حصل، فقال: فعلت بالماشطة كذا وكذا، فقالت: الويل لك، ما أجرأك على الله! الويل لك ما أجرأك على الله! الويل لك، ما أجرأك على الله! قال: لقد اعتراك جنون الماشطة، قالت: بل آمَنْتُ بالله ربي ورب الماشطة، وربك رب العالمين. آمنت بالله رب العالمين، فذهب إلى والدتها، وقال: لأذيقنَّها ما ذاقته الماشطة أو لترجع، فجاءت أمها –برحمتها وشفقتها عليها- تعرض عليها أن تتنازل عن دينها –وهي إنما تتنازل عن الجنة التي عرضها السماوات والأرض- فماذا كان منها؟ قالت: يا أماه أما أن أكفر بالله، فوالله لا أكفر بالله، عندها بدأ في التعذيب، أوتد يديْها ورجليها، وعرَّضها لأشعة الشمس، ووكَّلَ من يعذبها يصنف عليها أنواع العذاب ويقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: لن أنتهي حتى ألقى الله –أو كما قالت- فيأتي بعد ذلك، ويقول: لأرمينك بكذا وكذا من الصخور – يهدِّد – قالت: لا أرجع عن ذلك أبدًا، فماذا يحصل بعد ذلك؟ كان الذين يعذبونها في حرارة الشمس ينصرفون عنها ويذهبون بعيدًا عنها؟ فإذا ذهبوا، نزلت الملائكة لتظلَّها بأجنحتها، ثم يرجع إليها ويعرض عليها مرة أخرى، فترفض فيرمي بالصخرة عليها لتلقى الله –عز وجل- ثابتة بإيمانها. هذا خبر من قبلنا من الأمم.(/5)
فما خبر من بعد البعثة؟ إن الخبر ليستلزم أن نقف عند [خديجة] –رضي الله عنها- تلك المؤمنة صاحبة الثراء، وصاحبة الجاه، وصاحبة المال، التي تزوجت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكانت أول مؤمنة به، وآزرته في محنته، وثبَّتته يوم خاف، ويوم عاصرت نزول القرآن من أول لحظاته، كانت أول مثبت للنبي –صلى الله عليه وسلم-، وهي التي جاء النبي –صلى الله عليه وسلم- منها الولد، وكان يذكر ذلك لها بعد موتها، رضي الله عنها، وصلى الله عليه وسلم. جاء إليها يومًا من الأيام، وهي تبكي بعد موت ابنها [القاسم]، فيقول: ما بك؟ قالت: دَرَّت لُبَينَة القاسم، فكان بودِّي لو عاش حتى يستكمل رضاعته، فقال –صلى الله عليه وسلم-: إن له في الجنة مرضعًا تستكمل له رضاعته، فهان عليها ما كان، ثم قامت معه حتى أنزل عليه الوحي، وجاء إليها يرتعش خائفًا مرتعدًا؛ لما رأى جبريل وهو يقول له: اقرأ، وهو يقول لها: زملوني ، دثِّروني، فيقول لها: والله يا خديجة لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكلَّ، وتُقْرِى الضَّيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. وقفت معه –صلى الله عليه وسلم- فقاسمته شدَّته ومحنته، وما تراجعت عن ذلك مع أنها صاحبة الجاه، وصاحبة السؤدد، وصاحبة المال، فزادت ذلك سؤددًا ومالاً وجاهًا يوم ارتقت لأن أفقد ولدي خير لي من أن أفقد حيائي وديني، إن الله خاطب رسوله فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ) ووالله ما أنا بخير منهن. فتخلقي بأخلاق أهل الإسلام، وارجعي إلى سِيَر هؤلاء الأعلام . وادعي إلى الله –عز وجل- فإنك مسؤولة عن علمك، ماذا عملت به أيتها المؤمنة فما عسى يكون الجواب؟ المرأة المسلمة على ثغرة عظيمة. فاللهَ اللهَ أن تؤتى البيوت من قِبَلِك. واللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك. واللهَ اللهَ أن يؤتى أبناء المسلمين من قبلك. هاهي مَثَل لك؛ لأن الخير يستمر في الأمة إلى قيام الساعة والأمثلة كثيرة في هذا العصر والذي قبله.
هاهي [بنان الطنطاوي]؛ ابنة الشيخ الوقور [على الطنطاوي] غفر الله لنا وله، وتجاوز عنا وعنه؛ زوجة [عصام العطار] علمت مسؤولية الزوجة في البيت، وآمنت بربها، ودعت بما تستطيع، وهيأت لذلك الداعية أن يدعو إلى الله –عز وجل-. انطلق يرد الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الهدى والهداية، فأغاظ ذلك المنافقين، والذين يَشْرَقُونَ بالنور، والذين ما يعيشون إلا في الظلام، فما كان منهم إلا أن سجنوه في سجن من السجون، فأرسلت إليه رسالة، فما فحوى هذه الرسالة يا أيتها الداعية، يا أيتها المعلِّمة، يا أيتها المتعلِّمة؟ اسمعي إلى هذه الرسالة ماذا تقول لزوجها وهو في سجنه؟ تقول له: لا تحزن ولا تفكِّر فيَّ، ولا في أهلك، ولا في مالك، ولا في ولدك، ولكن فكِّر في دينك وواجبك ودعوتك؛ فإننا –والله- لا نطلب منك شيئًا يخصُّنا، وإنما نطلبك في الموقف السليم الكريم الذي يبيِّض وجهك، ويرضي ربك الكريم، يوم تقف بين يديْه حيثما كنت، وأينما كنت، أما نحن فالله معنا، ويكتب لنا الخير، وهو أعلم وأدرى سبحانه وأحكم.
انظر إلى هذه الكلمات، كيف وقفت معه وهو بعيد عنها، وقفت معه لأنها تعلم أنها على ثغرة وأنَّ ثغرةً ذهبت فسدَّت تلك الثغرة، ثم يشاء الله أن يخرج من ذلك السجن ليُشرَّد في ديار الغرب، وما أُخرج وما نُقِم منه إلا أن قال: ربي الله، واعتز بدينه ومبادئه، شُرِّد في بلاد الغرب ، ويبتليه الله –عز وجل- هناك أيضًا ليرفع درجته بإذن الله –عز وجل- ، ويوم ابتلاه الله –عز وجل- هناك بكونه يعيش بين الكفار، وكونه مشردًا عن أهله وغيرهم، يُبتلى بالشلل، يُشلُّ في ديار الغرب، لا أهل، ولا صاحب، ولا صديق، لكن له الله الذي أُخْرِج من أجله، وله الله الذي سُجِنَ من أجله، وله الله الذي دعا من أجله. فماذا فعلت هذه الزوجة؟ بعيدة عنه، بعيدة بجسمها لكن قلبها معه، وروحها معه، هدفها وهدفه واحد؛ وهو نشر دين الله، ولقاء الله، والتعامل مع الله –عز وجل-.(/6)
كتبت إليه رسالة هناك وقالت: لا تحزن يا [عصام]، ولا تأس، يرفع الله من يبتليه، إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، والله معك، الله الله معك ولن يَتِرَك، ولن يضيع لك ما أنت فيه. ثم تنطلق بعد ذلك لتلحق به في ديار الغرب إلى هناك، لا لتجلس بجانبه تندب حظَّها، ولا لتجلس بجانبه وتقول: جَنَت الدعوة عليه، لا ، وإنما لتجلس بجانبه هناك، لتأخذ أفكاره، وتأخذ علمه، فيكتب هو بيدها، ويسير بقدمها، فتنشئ مركزًا إسلاميًا في ديار الكفر، فلا إله إلا الله . كم من تائبة تابت على يديها هناك، وكم من ضالة كافرةٍ لا تعرف شيئًا إلا الحياة البهيمية ردها الله على يد [بنان الطنطاوي]، هناك مع زوجها تستشيره ليعطيها المعلومات، فتنطلق ويأبى أولئك الذين يَشْرَقُون بهذا الدين أن يروا للخير قولة أو جولة، ويأتي ثلاثة رجال يبحثون عن ذلك المشلول في تلك البلاد، وما وجدوه إلا أن دلُّوا على شقته، فجاءوا فاقتحموها، وتقدموا على هذه الداعية المسكينة -امرأة في بيت غربة، وبعيدة، لكن معها الله الذي قدمت نفسها له- فإذا بها يُطلق عليها خمس رصاصات؛ في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، لتسقط مُدْرَجة بدمائها. أسأل الله أن يجعلها من أهل الفردوس الأعلى. أسأل الله أن يكتب لها ولمن بعدها من أهلها النعيم المقيم السرمدي الأبدي الذي لا يزول. وأسأل الله أن يوقظ في بنات المسلمين ومعلمات ومتعلمات المسلمين نماذج مثل تلك النماذج، وأَعْظَمَ من تلك النماذج.
إن الأمة تنتظر منك الكثير والكثير. اعلمي أخيرًا أن طريق الجنة صعب، وأنه محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة؛ أخبر بذلك من؟ أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه [مسلم] يوم يقول: "إن الله –عز وجل- لما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر ما أعددت لعبادي الصالحين فيها، فذهب؛ فإذا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فرجع إلى ربه، وقال: يا رب وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ،" لِما فيها من النعيم، ثم حفَّها الله بالمكاره، بما تكره النفس من التكاليف؛ من الأوامر ، من النواهي ، من الضوابط الشرعية التي يتنقل الإنسان بينها وفيها، حفَّها بهذا كله. ثم قال: ارجع فانظر إليها، فنظر إليها، فإذا هي حفَّت بكل ما تكرهه النفس، فماذا قال؟ رجع إلى ربه، وقال: وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد. النفس يا أيها الأحبة ، والله لا يدخلها إلا من زكىَّ نفسه . اسمعوا إلى الله وهو يقسم، يٌقسم مرات بعد مرات، يقسم بالضحى، وله أن يقسم بما شاء (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) ثم يقول هناك: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ثم الجواب يأتيك بعد هذه الأقسام المتعددة المغلظة العظيمة من الرب العظيم يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) فوالله لن يفلح إلا من زكَّى نفسه بالإيمان بالله، والدعوة إلى الله -عز وجل-. وطريق النار سهل، ولكنه محفوف بالشهوات ، وآخره الشقاء الأبدي السرمدي الذي لا يزول. "لمَّا خلق الله النار -في نفس الحديث السابق- قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب إليها، فإذا هي سوداء مظلمة، يحطم بعضها بعضًا، ترمي بشرر كالقصر، كأنه جِمَالت صُفْر، فرجع إلى ربه وقال: وعزتك وجلالك ما يسمع بها أحد فيدخلها، ثم حفَّها الله بالشهوات، وبكل ما تشتهيه النفس، وبكل ما ترتاح له النفس، وبكل ما تهواه النفس، ثم قال: ارجع فانظر إليها، فرجع فنظر إليها، فإذا هي قد حفت بكل ما تشتهيه النفس، فرجع إلى ربه وقال: لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها". إن التعامل مع الله عظيم، وإن المتعامل مع الله لا يخيبه الله رجلاً كان أو امرأة، فيا أيتها المؤمنة انوِالخير، واعملي الخير، فوالله لن تزالي بخير ما نويت الخير، وما عملت الخير.
اسمعي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة". فضلا من الله ومِنَّة.(/7)
فيا ويل ويا ويل ويا ثبور من غلبت آحاده عشراته. حسنة واحدة، أو سيئة واحدة تغلب عشرات الحسنات. يا ويل من كان حاله على ذلك. فانتبهن وتقربن إلى الله -عز وجل- بما يرضى الله. تقربن إليه بالفرائض؛ فإن أحب ما يتقرب به إلى الله الفرائض، ثم تقربن بالنوافل؛ فإنه لا تزال المرأة تتقرب، والرجل يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله، "فإذا أحببته -كما قال-: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". فالهِمَّة الهمة؛ فإنها طريق إلى القمة. أسرعي ولا تنظري إلى الخلف، لا تنظري إلى أي عائق، واعلمي أن شبرًا بذراع، وأن ذراعًا بباع، وأن مشيًا بهرولة. فضلا من الله ومِنَّة. اصبري، وجِدِّي، ولا تسأمي، ولا تملي بالنصح، بالدعوة، بالقيام، بما أوجب الله عليكِ، فلا تنظري إلى لوم لائم، ولا إلى عتاب عاتب، ولا إلى هوى نفس أو شيطان. وإذا اجتمعت عليكِ هذه كلها، فانظري إلى منازل زاكية في جنان ورضوان. أدنى أهل الجنة فيها من يأتي بعد ما دخل أهل الجنة، فيقول الله له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب وقد أخذ الناس منازلهم وسكنوا مساكنهم - يخيَّل إليه أنها ملأى- فيقول الله: ألا ترضى أن يكون لك مثل مَلِك من ملوك الدنيا؟ قال: بلى رضيت يا رب، قال: فإن لك مثله ومثله ومثله ومثله، وفي الخامسة يقول: رضيت يا رب رضيت. فيقول: ولك عشرة أمثاله، وما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك وأنت فيها.
قولي خيرًا، وادعي خيرًا، وتكلمي خيرًا أو اصمتي؛ فكم كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، وإن المرء ليقول الكلمة من سخط الله يكتب الله –عز وجل- لها بها سخطه إلى أن يلقاه.
أخيرًا. توبي إلى الله، واستغفري الله؛ فإن الشيطان قد قطع علي نفسه عهدًا، فقال: وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله يقطع العهد على نفسه –ورغمت أنف إبليس- وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فاللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا، أرسل السماء علينا مدرارًا، وأقرَّ أعيننا بصلاح المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلا أن تجعلنا من الصالحين، وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن تجعلنا ممن باع نفسه لله، فجعل همَّه الله والدار الآخرة.
أسأل الله أن يرينا من بنات المسلمين، وأمهات المسلمين، وأخوات المسلمين ما تقَرُّ به الأعين، صالحات، قانتات، تائبات، عابدات. أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، من كان سببًا في هذا الاجتماع، ومن ساهم فيه بأي مساهمة صَغُرَت أو كَبُرَت أن تجعل له ذلك في ميزان الحسنات عظيمًا عظيمًا؛ فأنت أهل التقوى، وأهل المغفرة. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين .
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/8)
مكانة فلسطين الإسلامية
تتمتع أرض فلسطين بمكانة خاصة في التصور الإسلامي ، وهي المكانة التي جعلتها محط أنظار ومهوى أفئدة المسلمين ، ومن أهم النقاط التي جعلتها تحظى بهذه المكانة:
* في أرض فلسطين المسجد الأقصى المبارك وهو أول قبلة للمسلمين في صلاتهم ، كما يعتبر ثالث المساجد مكانة ومنزلة في الإسلام بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي ، ويسن شد الرحال إليه وزيارته ، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة عما سواه من المساجد ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى}. وقال صلى الله عليه وسلم : { الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة } .
* أرض فلسطين أرض مباركة بنص القرآن الكريم ، فقد قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } , وقال تعالى : { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها}, قال ابن كثير : بلاد الشام , وقوله تعالى: فيها { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها }, قال ابن كثير : بلاد الشام , وقال تعالى:{ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } قال ابن عباس : القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس , قال تعالى على لسان موسى عليه السلام : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } , قال الزجاج : المقدسة : الطاهرة , وقيل سماها مقدسة لأنها طهرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين , قال الكلبي : الأرض المقدسة هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن , وقال قتادة : هي الشام كلها .
والبركة هنا حسية ومعنوية 000 لما فيها من ثمار وخيرات ولما خصت به من مكانة ولكونها مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار .
* فلسطين أرض الأنبياء ومبعثهم - عليهم السلام – فعلى أرضها عاش إبراهيم, واسحق, ويعقوب, ويوسف, ولوط, وداود, وسليمان,وصالح, وزكريا, ويحيى, وعيسى عليهم السلام ممن ورد ذكرهم في القرآن الكريم , كما عاش على أرضها الكثير من أنبياء بني إسرائيل الذين كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي جاءهم نبي آخر , وممن ورد ذكرهم في الحديث الصحيح نبي الله يوشع عليه السلام .
ومن هنا فإن المسلمين عندما يقرأون القرآن يشعرون بارتباط عظيم بينهم وبين هذه الأرض لأن ميدان الصراع بين الحق والباطل تركز على الأرض ولأنهم يؤمنون أنهم حاملو ميراث الأنبياء ورافعوا رايتهم ولأن دين الإسلام جاء ناسخا لما قبله مع الأمر للمسلمين بالإيمان بكل من سبق من الأنبياء والمرسلين فقل تعالى :{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير }.
* والمسجد الأقصى هو مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه كان معراجه إلى السماء وفي هذا المسجد جمع الله لرسوله الأنبياء من قبله فأمّهم دلالة على انتقال الإمامة والريادة وأعباء الرسالة إلى الأمة الإسلامية وهذا الباب الوحيد الذي فتح بين السماء والأرض في فلسطين .
* وتبسط الملائكة أجنحتها على أرض فلسطين - التي هي جزء من الشام- ففي الحديث الصحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول : { يا طوبى للشام , يا طوبى للشام و قالوا يا رسول الله وبم ذلك ؟ قال ( تلك ملائكة الله باسطة أجنحتها على الشام ) }.
* فلسطين أرض المحشر والمنشر , فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال ((أرض المحشر والمنشر )) .
* هي عقر دار الإسلام وقت اشتداد المحن والفتن , فعن سلمة بن نفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عقر دار الإسلام بالشام }, وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي , فنظرت فإذا نور ساطع عمد به إلى الشام , ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام }.
* والمقيم المحتسب فيها كالمجاهد والمرابط في سبيل الله فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله فمن احتل مدينة من المدائن فهو في رباط ومن احتل منها ثغرا من الثغور فهو في جهاد }.
وفي الأحاديث التي يفسر ويقوي بعضها البعض أن الطائفة المنصورة الثابتة على الحق تسكن الشام وخصوصا بيت المقدس وأكناف بيت المقدس , فعن أبي أمامة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك , قيل يا رسول الله أين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس }.(/1)
هذه مكانة فلسطين من الناحية الدينية , وهي مكانة جعلتها جزءا من عقيدة المسلمين ووجدانهم , وقد تعمقت هذه المكانة بالفتح الإسلامي لفلسطين ووقوع عدد من المعارك الفاصلة في التاريخ على أرضها كأجنادين وفحل بيسان واليرموك وعين جالوت وحطين , وباختلاط دماء الصحابة والتابعين والمجاهدين بثراها المبارك وبهجرة وإقامة الكثير من الصحابة والتابعين والعلماء وأنسالهم فيها وببروز عدد من أبنائها كعلماء وقادة ورجال حكم .
وهذا يقودنا إلى الإشارة إلى أحد معالم الحل الإسلامي المنشود لتحرير الأرض المباركة , وهو توسيع دائرة الصراع لتشمل كافة المسلمين المؤمنين بحقهم فيها , وعدم التفريط بأي جزء منها باعتبارها أرضا مقدسة وباعتبارها جزءا من عقيدة كل مسلم ووجدانه , وإن استشعار المسلمين بواجبهم تجاه تحرير أرض الإسراء وقيامهم بخطوات عملية في هذا الإطار هو ضمانة حقيقية للسير بخطوات جادة لتحقيق آمال المسلمين باستعادة أرضهم ومقدساتهم .
وأخيرا أخوة الإسلام إذا كانت هذه هي المكانة التي حباها الله لفلسطين هذه الأرض المباركة المقدسة على وجه الخصوص والشام على وجه العموم , أفلا يستحق ذلك منا أن نستنهض هممنا ونسترجع ما ضاع من عقيدتنا خاصة إذا علمنا أن أنظار العدو الصهيوني المجرم وأطماعه لا تقف عند حدود فلسطين بل تتعداها إلى الشام وأكثر من ذلك , ولنعلم جميعا علم اليقين أن القدس وفلسطين كانت وما زالت على مدى التاريخ هي مقياس عزة الإسلام والمسلمين أو عدمه فمتى كانت القدس في حظيرة المسلمين دل ذلك على علو شأنهم وقوتهم وعزتهم ومتى خرجت من أيديهم فهم ليسوا بالمستوى الذي أراده الله لهم لقيادة الناس وهداية العالم ودائما القدس بيد الذي يحكم العالم وهم الصهاينة في هذه الأيام ولله وحده المشتكى وحسبنا الله ونعم الوكيل .
عن كتاب ( الطريق إلى القدس )------ د. محسن محمد صالح , من منشورات فلسطين المسلمة _10_. بشيء من التصرف .(/2)
الشيطان مداخل ومكائد(مداخل الشيطان)
ملخص الخطبة
سبب عداوة الشيطان للأبوين – أهمية معرفة صور كيد إبليس ومداخله للنجاة منه - من خطوات الشيطان : الكفر , البدع والأهواء والشبهات , القول على الله بغير علم , البخل وخوف الفقر ,الغضب , الغلو والتفريط – سبل النجاة من كيد الشيطان - بعض التوجيهات والإرشادات في التحذير من مسالك الشيطان
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فإن لكل شيء حساباً، ولكل أجل كتاباً، وأنتم بأعمالكم مجزيون.
أيها المسلمون، يقول الله عزَّ وتبارك: يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].
مارس الشيطان كيده وفتنته مبتدئاً بالأبوين الكريمين. ولقد كان بلاءً عظيماً، دافعه الغيظ والحسد: أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ [الإسراء:62]، دافعه الكبر والخيلاء: إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، ووسيلته الأيْمان الكاذبة: وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]. والمقاييس الفاسدة: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].
فتنة عظمى، وبلية كبرى حين يعظم سلطان إبليس فيستفز القلوب والعقول والمشاعر في معركة صاخبة. تزمجر فيها الأصوات، وفيها إجلاب الخيل والرجال للمبارزات: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالأولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].
أيها الإخوة في الله، إن تبين صور هذا الكيد الإبليسي، والتأمل في هذا المكر الشيطاني، أمرٌ من الأهمية بمكان؛ من أجل النظر في سبيل الخلاص، وطريق النجاة. فالله قد هدى النجدين، وأوضح الطريقين.
معاشر الأحبة، مداخل الشيطان تأتي من قبل صفات الإنسان، فلإن كان الشيطان خرج من الجنة بالحسد، فإن آدم خرج منها ـ كما يقول العلماء ـ بالحرص والطمع.
وتترقى خطوات الشيطان التي يستدرج فيها ابن آدم حتى يتَّخذه معبوداً له من دون الله عياذاً بالله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]. ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً [مريم:44].
ويقع العبد في ذلك حين يسلم قياده لعدوه، ويفلت الزمام لشهواته، فيتبع كل شيطان مريد كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4]. وفي الحديث: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك، وآباء أبيك؟...))[1].
ويأتي من بعد الكفر مسالك أخرى في خطوات البدع والأهواء والشبهات. فكم روَّج الزغل على بعض العارفين، وكم سحر ببهرجه بعض المتعبدين، حتى ألقاهم في تشعبات الآراء، ومسالك الضلال. منتقلاً بهم إلى حالة يقولون فيها على الله ما لا يعلمون: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169].
نعم أيها الإخوة، القول على الله بلا علم خطوة من خطوات الشيطان، وهو الأصل في فساد العقائد، وتحريف الشرائع، ويخشى من ذلك على أقوام يخوضون في علوم لا يحسنونها، ويتجرءون على فتاوى لا يحيطون بها، وقد يجرهم في خطواتهم إلى الإفك والإثم، والتزوير والكذب، وحينئذٍ تتنزل عليهم الشياطين تنزلاً هل أنبئكم على من تنزل الشياطين % تنزل على كل أفاك أثيم [الشعراء:221-222]. وحينئذٍ لا يدعون إلى هدىً، ولا يأمرون بتقوى، ولا يدلون على حق، ويريد الشيطان في ذلك الطيش والعجلة كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان))[2]، ورواته رواة الصحيح، وتأتي خطوات من بعد ذلك في أهواء النفوس وطبائعها، فالبخل وخوف الفقر سلاح شيطاني. يقول فيه سفيان الثوري: ليس للشيطان سلاح للإنسان مثل خوف الفقر. فإذا وقع في قلب الإنسان مُنع الحق، وتكلم بالهوى، وظن بربه ظن السوء. وأصدق من ذلك وأبلغ قول ربنا عزّ وتبارك: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].(/1)
والغضب ـ أيها الإخوة ـ تمرد شيطاني على عقل العاقل، وحالةٌ من الخروج عن جادة ذوي الرجاحة والأسوياء. رُوي عن بعض الأنبياء أنه قال لإبليس: بم غلبت ابن آدم؟ قال: عند الغضب وعند الهوى. وأغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول، فأطرق عمر برهةً، ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تنال مني غداً!!
أمَّا الأماني وحصائد الغرور... فذلكم هو السلاح الشيطاني المضَّاء يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:120]. وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ [إبراهيم:22]. فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ [الأنفال:48]. يعدهم هذا الغرَّار بحسب طبائعهم، يجرهم إلى حبائله بحسب ميولهم ومشتهياتهم. يخوِّف الأغنياء بالفقر، إذا هم تصدقوا وأحسنوا. كما يزين لهم الغنى وألوان الثراء بالأسباب المحرمة والوسائل القذرة.
يزين لأصحاب المِلل والنحل التعصب وتحقير المخالفين، ويصور لهم ذلك طريقاً إلى الحرص على العلم وحبِّ أهله. وينقضي عمْرُ ابن آدم وهو في بحر الأماني يسبح، وفي سبيل الغواية يخوض. يعده الباطل، ويمنيه المحال، والنفس الضعيفة المهينة تغتذي بوعده، وتلتذ بأباطيله، وتفرح كما يفرح الصبيان والمعتوهون.
والخروج عن الوسط ومجاوزة حد الاعتدال خطو إبليسي، ومسلك شيطاني. يقول بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط أو تقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي إبليس بأيهما ظفر.
وإن حبائل الشيطان بين هذين الواديين تحبك وتحاك. غلا قومٌ في الأنبياء وأتباعهم حتى عبدوهم، وقصَّر آخرون حتى قتلوهم، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وطوائف غلوا في الشيوخ وأهل الصلاح، وآخرون جفوهم وأعرضوا عنهم.
وإذا نظرت في فروع الأحكام. فإنك سترى أناساً قصَّروا بواجبات الطهارة، وتجاوز آخرون إلى الوسواس، وفئامٌ من أناس جعلوا تحصيل العلم غايتهم، وأهملوا العمل. وآخرون تركوا فروض الأعيان المتعيِّنة فلم يتعلموها. وأما أعمال القلوب من الخشية والانكسار والإخبات وأمثالها فقد أهملها بعض من استحوذ عليهم الشيطان، ولم يلتفتوا إليها، وظنوها من فضول العمل، واستحوذ على آخرين في الجانب الآخر حتى أهملوا أعمال الجوارح، وقالوا بسقوط التكاليف عن بعض العارفين الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]. وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً [النساء:38]. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:37]. إن أسوأ ما يصنعه القرين من الشيطان أن يصد قرينه عن سبيل الحق. ثم لا يدعه يفيق ولا يستبين، بل يوهمه أنه سائر على الطريق المستقيم... حتى يُفجأ بالمصير الأليم: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الأعراف:30].
أيها المسلمون، لقد أخذ هذا اللعين الميثاق على نفسه ليقعد لابن آدم كل طريق: لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]. لإن كان هدد بذلك وتوعد؛ فإن كيده ضعيف، ومكره يبور. إذا تسلح العبد بسلاح الإيمان، والعقيدة النقية، وحسن لله تعبده، وصح على ربه توكله إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]. ليس له سلطان على أهل التوحيد والإخلاص، ولكنه ذو تسلط عظيم على من تولاه وكفر بالله: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83]. ولإن انطلق عدو الله ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، فليس له طريق إلى عباد الله وحزب الرحمن: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء:65].(/2)
أيها الإخوة: وعلى الرغم من وضوح ذلك وجلائه، فقد يزل المؤمن أو يخطئ، وقد يصيبه نزغ من الشيطان، أو يمسه طائف منه، وقد يران على قلبه من وسواسه، لكنه سرعان ما يلوذ بربه ويلجأ إلى ذكره، ويتوب إليه من قريب، فيخنس شيطانه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. صلتهم بالله الوثيقة تعصمهم من أن ينساقوا مع عدو الله وعدوهم، يتخلص المؤمن بذكر الله – لجوءاً إلى ربه، واستعاذة به – من نزوات الشيطان ونزغاته، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]. ((أعوذ بوجه الله الكريم، وكلماته التامات اللاتي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر، ومن شر ما ينزل من السماء، وشر ما يعرج فيها. وشر ما ذرأ في الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن))[3].
أيها الإخوة، حق على من أراد الخير لنفسه، والسلامة لدينه، ودحر شيطانه، أن ينظر بعين البصيرة لا يهوى الطبع والطمع، وليسلك مسالك التقوى والعلم المكين.
ولقد قال الحسن رحمه الله: إنما هما همَّان يجولان في القلب. هَمٌّ من الله تعالى، وهَمٌّ من العدو، فرحم الله عبداً وقف عند همِّه فما كان من الله تعالى أمضاه، وما كان من عدوه جاهده وتوقاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/483)، والنسائي: كتاب الجهاد – باب ما لمن أسلم وهاجر... حديث (3134)، والطبراني في الكبير (6558)، وحسّن الحافظ إسناده في الإصابة (3/31) في ترجمة سبرة بن الفاكه رضي الله عنه راوي الحديث. وصححه الألباني في صحيح الجامع (1648).
[2] حسن، أخرجه أبو يعلى (4256)، والبيهقي (10/104)، كما أخرجه أيضاً الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في التأني والعجلة، حديث (2012)، والطبراني في الكبير (5702) كلاهما بلفظ: ((الأناة من الله...))، قال المنذري في الترغيب: رجاله رجال الصحيح (2/284) و(3/280)، وتبعه الهيثمي في المجمع (8/19)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (3088)، والسلسلة الصحيحة (1795).
[3] إسناده ضعيف، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع – باب ما يؤمر به من التعوذ، حديث (1773) مرسلاً، وأخرجه أيضاً أحمد (3/419) وفي إسناده جعفر بن سليمان الضبعي وهو لا يُحتمل تفرده. انظر ميزان الاعتدال للذهبي (1/408).
الخطبة الثانية
الحمد لله المتعالي في مجده وملكه، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن شر الشيطان وشركه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحقِّ؛ ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون، هذه بعض التوجيهات المحمدية، والإرشادات المصطفوية، تحذر من مسالك الشيطان وعوائد إبليس.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها))[1].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية))[2].
وعن قتادة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره وإن الشيطان لا يتراءى بي))[3]، وفي حديث عند مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا تثاءب أحدكم، فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل))[4].
وفي الخبر الآخر: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان))[5].
فاتقوا الله رحمكم الله، واستعيذوا بالله ربكم من الشيطان، ومن شره وشركه، ومن همزه ونفثه ونفخه.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأشربة – باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، حديث (2020).(/3)
[2] حسن، أخرجه أحمد (5/196)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب في التشديد في ترك الجماعة، حديث (547)، والنسائي: كتاب الإمامة – باب التشديد في ترك الجماعة، حديث (847)، وصححه ابن حبان (2101)، والحاكم (1/246)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5577).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب التعبير – من رأى النبي في المنام، حديث (6995)، واللفظ له، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الرؤيا، حديث (2261).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزهد – باب تشميت العاطس... حديث (2995)، وأخرجه البخاري نحوه: كتاب الأدب – إذا تثاءب فليضع... حديث (6226).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب القدر – باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، حديث (2664).(/4)
من آيات النبي صلى الله عليه وسلم إبراء المرضى
عبد العظيم بدوي الخلفي
1099
ملخص المادة العلمية
1- بيان منقبة من مناقب علي رضي الله عنه. 2- تأييد الله تعالى لنبيه محمد بآيات تدل على صدقه ومن ذلك ما وقع في عدة وقائع من إبرائه للمرض وذكر أمثلة على ذلك. 3- قصة الأعمى مع رسول الله وكيف رد الله إليه بصره والرد على استدلال بعضهم بهذه القصة على جواز التوسل بجاه النبي وغيره من الصالحين. 4- بيان أنواع التوسل المشروع.
عن سهل بن سعد : أن رسول الله قال يوم خيبر: ((لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)).
قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: ((فأرسلوا إليه))، فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له بخير، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله عز وجل، فوالله لأن يهدي بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)).
في هذا الحديث معجزة من معجزاته ، وهي إبراء المرضى بإذن الله.
وفيه منقبة عظيمة لعلي ، حيث شهد له الرسول بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وفيه منقبة أخرى له وهي أن الله فتح خيبر على يديه.
وفيه حرص الصحابة جميعا على الخير وتنافسهم فيه، حيث باتوا يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا أتوا النبي كلهم يرجوا أن يعطاها.
وقد وقعت هذه المعجزة إبراء المرضى كثيرا لرسول الله ، وحفظت السنة هذه الوقائع ومنها:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: بعث النبي رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله، قال عبد الله بن عتيك: فوضعت السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره ، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، فانطلقت إلى أصحابي، فانتهيت إلى النبي فحدثته، فقال: ((ابسط رجلك)). فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: (رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة؟ قال: ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة).
وعن قتادة بن النعمان : (أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا رسول الله فقال: ((لا))، فدعاه، فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت؟ وفي رواية: فكانت أحسن عينيه).
وعن عثمان بن حنيف : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: ((إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت، فهو خير لك))، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي لي، اللهم فشفعه في، وشفعني فيه، قال: ففعل الرجل فبرأ)).
وقد فهم بعض الناس من هذا الحديث أنه يجوز التوسل بجاه النبي وغيره من الصالحين، ولا حجة لهم فيه، بل هو دليل على جواز التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين فقط، لأن توسل الأعمى كان بدعاء النبي ، لا بذاته وجاهه، والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1- أن الأعمى إنما جاء إلى النبي ليدعو له، وذلك قوله: ((ادع الله أن يعافيني)) فهو قد توسل إلى الله تعالى بدعائه ، لأنه يعلم أن دعاءه أرجى للقبول عند الله تعالى، بخلاف دعاء غيره.
ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته ويدعو ربه، كأن يقول مثلا: اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيرا. ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة يذكر فيها اسم المتوّسل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة وطلب الدعاء منه له.
2- أن النبي وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله : ((إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك)). وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه النبي في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبته فصبر عوضته منها الجنة)).
3- إصرار الأعمى على الدعاء، وهو قوله (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول دعا له، لأن رسول الله خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصرّ عليه، فإذن لابد أنه دعا له.(/1)
وجه النبي الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه على أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى نوع من التوسل مشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى، يقدمها بين يدي دعاء النبي له، وهي تدخل في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [المائدة:35].
وهكذا لم يكتف النبي بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة الله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملا من جميع نواحيه وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى.
4- أن في الدعاء الذي علمه رسول الله إياه أن يقول: ((اللهم فشفعه فيّ)) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته أو جاهه أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته فيّ، أي اقبل دعاءه في أن تردّ عليّ بصري.
والشفاعة لغة: الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا سببه أن الشفاعة أخص من الدعاء.
5- إن مما علّم النبي الأعمى أن يقول: ((وشفعني فيه)) أي اقبل شفاعتي أي دعائي في أن تقبل شفاعته أي دعاءه في أن ترد علي بصري.
6- إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في دلائل النبوة، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي ، ويؤيده أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي وقدره وحقه، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه بل يضمون إليه أحيانا جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة والإنس والجن أجمعين، ولم نعلم ولا نظن أحدا قد علم حصول مثل هذا خلال هذه القرون الطويلة بعد وفاة النبي إلى اليوم، ولو كان هذا حقا ما بقي أعمى أبدا، لأن كل أعمى سيدعو بهذا الدعاء، وسيتوجه إلى الله بنبيه.
وإذا تبين هذا أن قول الأعمى في دعائه: ((اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد )) إنما المراد به أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف مضاف، كما في قوله تعالى: واسأل القرية [يوسف:82].
أي أهل القرية وأصحاب العير.
وتبين أيضا أن من التوسل المشروع:
التوسل بدعاء الصالحين.
التوسل بالعمل الصالح، ويشهد له حديث عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبواب شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
ج- التوسل بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أو يقول: اللهم يا رزّاق ارزقني، يا شافي اشفني، ونحو ذلك.
قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف:180].
وسمع النبي رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
فقال : ((لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)).
تنبيه:(/2)
اعلم أن قولنا لا يجوز التوسل بجاه النبي ولا بجاه غيره من الأنبياء والصالحين ليس معناه إنكار أن يكون لهم عند الله جاه أو قدر أو مكانة. وليس معناه أن من ينكر التوسل بجاههم يبغضهم وينكر قدرهم ومنزلتهم عند الله. كلا، فمنزلة الأنبياء فوق كل منزلة، وجاههم عند الله أعظم من جاه غيرهم، ولكنا نهينا عن الغلو في ديننا والإفراط فيه كما نهينا عن التفريط، قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [النساء:171].
وقال النبي : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
وليست محبة النبي ادعاء يدعى، ولا شعارا يرفع، وإنما المحبة الاتباع، قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني [آل عمران:31].
فمن ادعى محبة الله ورسوله فعليه باتباع رسول الله واقتفاء أثره، والتمسك بسنته.(/3)
من أحكام الذبائح
إعداد/ سعيد عامر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وآله ومن والاه، أما بعد:
فقد سبق الحديث عن الأحكام الخاصة بالهدي والأضحية والفدية، وإليك الأحكامَ الخاصةَ بالعقيقة.
أولاً: تعريفها
هي اسم لما يُذبح عن المولود، وأصل العَقِّ: الشقُّ والقطع، وقيل للذبيحة التي تُذْبَحُ عن المولود عقيقة؛ لأنها يُشَقُّ حَلْقُها. [النهاية لابن الأثير (3/276)]
ثانيًا: حكمها
جمهور الفقهاء على أن العقيقة سنة مؤكدة، وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وعائشة وفقهاء التابعين وأئمة الأمصار؛ الشافعية والحنابلة في الصحيح المشهور عنهم. [المجموع للنووي (8/435) بتصرف]
وذهب المالكية إلى أنها مندوبة، وأما الحنفية فلم يَرَوْها سنّة، بل قالوا: إنها من أمر الجاهلية ولكن هذا الرأي مدفوع بالأحاديث النبوية الصحيحة.
وقال الظاهرية: إنها واجب. قال ابن حزم: العقيقة فرض واجب يُجْبَرُ عليها إذا فضل عن القوت مِقدارها، وهو أن يذبح عن كل مولود يولد حيًا أو ميتًا بعد أن يقع عليه اسم غلام أو اسم جارية.
[المحلى: 7/543]
والراجح أن العقيقة سنة مؤكدة، والأحاديث في ذلك كثيرة، منها:
عن سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهين- رهينة- بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويُحلق رأسه ويسمَّى». وفي رواية: «الغلام مُرتهن بعقيقته». أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ثالثًا: حكمة مشروعيتها
تبدو حكمة مشروعية العقيقة من وجوه منها:
أ- إظهار الْبِشْرِ والنِّعْمَة.
ب- إظهار الشكر لله تعالى بما أنعم من مولود، فيعق عنه لخروج نسمة مسلمة يكاثر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة، وتعبد الله عز وجل.
جـ- وسيلة إلى إشاعة نسب الولد، فلحم العقيقة يُدْعَى إليه الأهل والأصدقاء والأقارب، وقد يوزع على الجيران، فيعلمون سبب هذا التوزيع وهو ولادة المولود.
د- أنها قربة الله تعالى، وفيها الكرم والتغلب على الشح، وفيها إطعام الأقارب والفقراء والمساكين.
وحديث سمرة السابق: «كل غلام رهينة بعقيقته» أي مرهونة، والتاء للمبالغة. قال الخطابي: اختلف الناس في معنى هذه العبارة وأجود ما قيل فيها ما ذهب إليه أحمد ابن حنبل ـ رحمه الله ـ حيث قال: هذا في الشفاعة. يريد الإمام بقوله هذ؛، أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلاً لم يُشفّع في أبويه، وقيل معناه: أن العقيقة لازمة لابد منها، فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المُرتهن. [عون المعبود شرح سنن أبي داود 8/37]
رابعًا: من المطالب بالعقيقة؟
ذكر المالكية أن المطالب بالعقيقة هو الأب، وصرح الحنابلة: أنه لا يعق غير الأب إلا إن تعذر بموت أو امتناع، فإن فعلها غير الأب لم تكره، وقد عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وصرحوا بأنها تسن في حق الأب وإن كان معسرًا، ويقترض إن كان يستطيع الوفاء، قال أحمد: إذا لم يكن مالكًا ما يعق فاستقرض أرجو أن يُخْلِفَ الله عليه، لأنه أحيا سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وذهب الشافعية إلى أن العقيقة تطلب من الأصل الذي تلزمه نفقة المولود بتقدير فقره، فيؤديها من مال نفسه لا من مال المولود، ولا يفعلها من لا تلزمه النفقة إلا بإذن من تلزمه.
خامسًا: الفرق بين عقيقة الغلام وعقيقة الجارية
أكثر أهل العلم على أن عقيقة الغلام شاتان، وعقيقة الجارية شاة، وقد ذكر ابن حجر بعض الأحاديث التي تَدُلُّ على ذلك منها:
أخرج أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه: «من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة». قال داود بن قيس: «سألت زيد بن أسلم عن قوله: «مكافئتان» فقال: متشابتهان تذبحان جميعًا، أي: لا يؤخر ذبح إحداهما عن الأخرى، وحكى أبو داود عن أحمد المكافئتان: المتقاربتان. قال الخطابي: أي في السن، فلا تكون إحداهما مُسنة والأخرى غير مُسنة، بل يكونان مما يجزئ في الأضحية. وقال الزمخشري: معنى متكافئتين: أي أنهما مُتعادلتان لما يجزئ في الزكاة وفي الأضحية.
ثم قال ابن حجر: وأولى من ذلك كله ما وقع في رواية سعيد بن منصور في حديث أم كُرز من وجه آخر عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: «شاتان مثلان». ووقع عند الطبراني في حديث آخر، قيل: ما المكافئتان؟ قال: «المثلان» وما أشار إليه زيد بن أسلم من ذبح إحداهما عُقيب الأخرى. هو قولٌ حَسَنٌ، ويحتمل الحمل على المعنيين معًا.
ثم قال: وهذه الأحاديث حجة للجمهور في التفرقة بين الغلام والجارية. [فتح الباري (9/506)]
وعن الإمام مالك: الغلام والجارية في العقيقة سواء يعق عن كل منهما شاةً، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا. أبو داود.(/1)
والراجح قول الجمهور؛ لأن الأحاديث صحيحة وصريحة فيما قالوه، وأن ما احتج به الإمام مالك لا يصلح حجة، فالاحتجاج بحديث أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا. قال فيه ابن حجر: لا حجة فيه فقد أخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: «كبشين كبشين». وأخرج أيضًا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله.
وعلى تقدير ثبوت رواية أبي داود، فليس في الحديث ما يرد به الأحاديث المتواردة في التنصيص على التثنية للغلام، بل غايته أن يدل على جواز الاقتصار، وهو كذلك فإن العدد ليس شرطًا بل مستحب. [الفتح 9/506]
قال ابن القيم: حجة الجمهور الأحاديث الصريحة في أن عقيقة الغلام شاتان وعقيقة الجارية شاة، وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين، فذلك يدل على الجواز، وما ذكرناه في عقيقة الغلام من الأحاديث صريح في الاستحباب وسماع أم كرز لهذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الحديبية، فهو متأخر عن عقيقة الحسن والحسين، وهو أَوْلى بالأخذ والاتباع.
[عون المعبود شرح سنن أبي داود(8/425)]
سادسًا: ما يجزئ في العقيقة
يجزئ في العقيقة الجنس الذي يجزئ في الأضحية، وهو الأنعام من إبل وبقر وغنم، ولا يجزئ غيرها، وهذا قول الجمهور.
وقال ابن حزم: ولا يجزئ في العقيقة إلا ما يقع عليه اسم شاة إما من الضأن وإما من الماعز فقط، ولا يجزئ في ذلك شيء من غير ما ذكر، لا من الإبل، ولا من البقر الإنسية ولا من غير ذلك.
[المحلى 9/593]
والراجح هو قول الجمهور: إجزاء الإبل والبقر أيضًا في العقيقة.
وذكر الرافعي بحثًا أنها تتأدى بالسُّبع (أي سبع بقرة)، كما في الأضحية، والله أعلم.
[الفتح: 9/507]
وعلى ذلك يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، وأنه يمنع فيها من العيب ما يمنع في الأضحية، ويستحب فيها من الأوصاف ما يستحب في الأضحية.
لحم العقيقة
يجوز أن يأكل منها صاحبها الذي ذبحها عن المولود، ويدخر منها ويهدى ويتصدق منها كما في الأضحية، وإن طبخ منها ودعا إخوانه فأكلوا فحسن.
قال ابن حزم: ويؤكل منها ويُهْدَى ويُتَصَدَّقُ، هذا كله مباح.
وقال ابن سيرين: اصنع بلحمها كيف شِئْتَ.
سابعًا: وقت الذبح:
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن وقت ذبح العقيقة يبدأ من تمام انفصال المولود، فلا تصح عقيقة قبله، بل تكون ذبيحة عادية.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن وقت العقيقة يكون في سابع الولادة ولا يكون قبله.
[الموسوعة الفقهية 30/278]
واتفق الفقهاء على استحباب كون الذبح في اليوم السابع، قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافًا بين القائلين بمشروعية العقيقة في استحباب ذبحها يوم السابع، والأصل فيه حديث سَمُرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه ويحلق رأسه». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع، فإن لم يُتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ، عق عنه يوم حادٍ وعشرين. [جامع الترمذي: 5/115]
وهذا موقوف على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإن تجاوز اليوم الحادي والعشرين جاز في كل وقت لأن هذا قضاء فائت، فلم يتوقف على يوم معين. [المغني 8/614]
وقال ابن حزم: يُذبح في اليوم السابع من الولادة، ولا يُجزئ قبل اليوم السابع أصلاً، فإن لم يذبح في اليوم السابع ذبح بعد ذلك متى أمكن.
وقال ابن حجر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «يُذْبح عنه يوم السابع» أي من يوم الولادة.
وهل يحسب يوم الولادة؟
قال ابن عبد البر: نصّ مالك على أن أول السبعة اليوم الذي يلي يوم الولادة، إلا إذا ولد قبل طلوع الفجر، وكذا نقله البُويطي عن الشافعي، ونقل الرافعي من الشافعية وجهين ورجع حُسْبان يوم الولادة. [الفتح (9/509)]
ثامنًا: إزالة الشك
ربما يتوهم البعض أو يشك في مشروعية العقيقة بحديث ذكره ابن الأثير: أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: «لا أحب العُقُوق» قال ابن الأثير: ليس فيه توهين لأمر العقيقة ولا إسقاط لها، وإنما كره الاسم، وأحب أن يسمى بأحسن منه، كالنسيكة والذبيحة جريًا على عادته صلى الله عليه وسلم في تغيير الاسم القبيح. [النهاية لابن الأثير 3/277]
والحمد لله رب العالمين(/2)
من أحكام الذبائح (7) العتيرة
إعداد/ سعيد عامر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه ومن والاه، وبعد:
في حلقات حديثنا عن أحكام الذبائح بيّنا في الحلقة
السابقة حكم ذبائح أهل الكتاب، وفي هذه الحلقة نبين أحكام العتيرة،
فأقول:
أولاً: التعريف:
1- العتيرة لغة: أول ما ينتج، كانوا يذبحونها
لآلهتهم.
ذبيحة كانت تذبح في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية والمسلمون، فنسخ
ذلك.
يقول ابن الأثير: كان الرجل من العرب ينذرُ النَّذْر، يقول: إذا كان كذا
وكذا، أو بلغ شاؤُه كذا فعليه أن يذبح من كل عشرة منها في رجب كذا، وكانوا
يسمونها العتائر، وقد عَتَّر يَعْتر عَترًا إذا ذَبَح العتيرة، وهكذا كان في
صدر الإسلام وأوَّله، ثم نُسخ. اهـ (3/178)
قال الخطابي: العتيرة تفسيرها في
الحديث أنها شاةٌ تذبحُ في رجب، وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث ويليقُ بحكم
الدين. وأما العتيرة التي كانت تَعْتِرُها الجاهلية فهي الذبيحة التي كانت
تذبحُ للأصنام، فيصب دمها على رأسها.
[المرجع السابق]
2- العتيرة اصطلاحًا: لا
يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي: فقد جاء في لسان العرب: قال الأزهري:
العتيرة في رجب، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا طلب أحدهم أمرًا نذر: لئن
ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، فإذا ظفر به، فربما ضاقت نفسه عن ذلك
وضّن بغنمه، فيأخذ عددها ظباء، فيذبحها في رجب مكان تلك الغنم، فكأن تلك
عتائره.
وقد انفرد ابن يونس من المالكية بتفسير خاص. قال: العتيرة: الطعام الذي
يبعث لأهل الميت. [البدائع 5/69]. فالعتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر
الأول من شهر رجب ويسمونها الرجبية.
3- حكم العتيرة:
كانت العرب في الجاهلية
تفعل بعض أفعال الخير، لكن بعقيدة خاطئة، فكانت مثلاً تذبح ناقة أو بقرة في شهر
رجب إذا بلغ ما يملكه أحدهم خمسين تقربًا إلى الأصنام، لتبارك لهم آلهتهم في
أنعامهم، ويوزعون اللحوم على الفقراء والمساكين، وتسمي هذا بالعتيرة أو
الرجبية.
وجاء الإسلام فحارب الشرك وحارب الذبح للأصنام، لكنه لم يحارب توزيع
اللحوم على الفقراء والمساكين، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فَرْعَ ولا عتيرة».
أ-
استحباب العتيرة:
روى الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وأحمد من
حديث نبيشة رضي الله عنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا
كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: «اذبحوا لله في أي شيء
كان، وبروا الله وأطعموا».
وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمرو قال: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، أو قال: بمنى وسأله رجل عن العتيرة، فقال:
«من شاء عتر ومن لم يشاء لم يعتر». ومن ذلك قالت الشافعية والحنابلة بإباحة
العتيرة.
ب- كراهية العتيرة:
قال الأحناف والمالكية بكراهة العتيرة، ففي الحديث
المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «لا فرع ولا عتيرة».
وهو نفي في معنى النهي، يدل عليه ما في رواية
النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الفرع والعتيرة.
قال النووي: الصحيح عند أصحابنا استحباب الفرع والعتيرة،
وأجابوا عن حديث: «لا فرع ولا عتيرة» بثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد نفي
الوجوب.
الثاني: أن المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم.
الثالث: أن المراد
أنهما ليستا كالأضحية في الاستحباب أو ثواب إراقة الدم. فأما تفريق اللحم على
المساكين فبر وصدقة. وقد نص الشافعي أنها إن تيسرت كل شهر كان حسنًا. [شرح مسلم
13/137]
وادعى القاضي عياض أن الأمر بالفرع والعتيرة منسوخ عند جماهير العلماء.
وقالوا: حديث أبي هريرة متأخر، فإنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة.
وردّ بما
تقدم عن الحارث بن عمرو، فحديثه كان في حجة الوداع، وقد كانت بعد إسلام أبي
هريرة، وهو صريح في الإباحة.
وخلاصة القول: أن النهي ليس لأصل العتيرة، وإنما
لصفة العتيرة، فكان النهي لخصوص الذبح في شهر رجب قال الحافظ ابن حجر: وأما
الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من طريق أبي رملة عن مخنفٍ بن محمد بن سليم قال:
كنا وقوفًا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فسمعته يقول: «يا أيها الناس،
على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي يسمونها
الرجبية». فقد ضعفه الخطابي، لكن حسنه الترمذي ويمكن رده إلى ما حمل عليه حديث
نبيشة: «اذبحوا لله في أي شهر كان». [راجع الفتح (9/512)]
وكذلك كان النهي لأن
الذبح كان لأصنامهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم: لا عتيرة للطواغيت.
فأهل
الشرك كانوا يذبحون عن أهل البيت في رجب ويتقربون بها لأصنامهم، فكان النهي عن
ذلك وليس لأصل الذبح الذي لا يتقيد بزمن أو بشهر، ويكون لله رب العالمين، وقد(/1)
صرح صلى الله عليه وسلم بذلك كما في مسلم: «اذبحوا لله في أي شهر كان» أي:
اذبحوا إن شئتم، واجعلوا الذبح لله، ولا تجعلوه في رجب خاصة دون غيره من
الشهور.
وعلى هذا المعنى يحمل حديث أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل
عن العتيرة فحسنها. وغير ذلك من الأحاديث التي دلت على الإباحة.
وتحمل أحاديث
النهي: «لا فرع ولا عتيرة» على تخصيصها بشهر رجب، أو للطواغيت، قال تعالى:
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول
المسلمين[الأنعام: 162، 163].
وعلى ذلك يحمل كلام الشافعي: اذحبوا إن
شئتم، واجعلوا الذبح لله في أي شهر كان، لا أنها في رجب دون غيره من الشهور،
ولا للطواغيت، ولعموم الأحاديث الدالة على فضل إطعام الطعام، وأن يكون من
الطيب.
روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين». فقال: يا أيها الرسل كلوا من
الطيبات واعملوا صالحا <<، وقال: يا أيها الذين آمنوا
كلوا من طيبات ما رزقناكم <<.
وروى البخاري من حديث ربيعة أنه
سمع القاسم بن محمد يقول: كان في بريرة ثلاث سنن: أرادت عائشة أن تشتريها
فتعتقها، فقال أهلها: ولنا الولاء. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: «لو شئت شرطته لهم، فإنما الولاء لمن أعتق». قال: وأعتقت
فخيرت في أن تقر تحت زوجها أو تفارقه. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما بيت عائشة وعلى النار برمة تفور فدعا بالغداء، فأتي بخبز وأدم من
البيت، فقال: «ألم أر لحما؟» قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنه لحم تصدق به
على بريرة فأهدته لنا، فقال: «هو صدقة عليها وهدية لنا».
وحديث جابر عند
الإمام أحمد لما أضاف النبي صلى الله عليه وسلم وذبح له شاة، فلما قدمها إليه
قال صلى الله عليه وسلم له: «كأنك قد علمت حبنا للحم».
وصلى الله وسلم وبارك
على نبينا محمد وآله، وللحديث بقية.(/2)
من أحكام الذبائح (6 ـ ذبائح أهل الكتاب)
إعداد/ سعيد عامر
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين والمبعوث رحمة للعالمين... وبعد:
فقد سبق بيان أن اللَّه تعالى جعل الذكاة شرطًا لحل الأكل من الحيوانات كالإبل والبقر والغنم الطيور كالأوز والبط... إلخ.
وعلمنا أن الذكاة تكون فيما يذبح من البقر والغنم ونحوهما، وبالنحر فيما ينحر وهو الإبل، وبها يطيب اللحم ويحل.
- : تحريم ما أهل به لغير الله : -
وحرم اللَّه تعالى ما أهل لغير اللَّه به، وهو ما ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى، قال سبحانه: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [الأنعام: 145].
وأصل الإهلال: رفع الصوت، وكل رافع صوته فهو مُهِلٌّ، وكان العرب في الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح بأسماء أصنامهم وأوثانهم، فذلك هو الإهلال.
والمراد من قوله: «لغير اللَّه» الصنم والوثن وغيرهما كالعزير والمسيح والصليب والكعبة، فلا يحل شيء من الذبائح التي أهلَّ بها لغير اللَّه تعالى، ومنها: وما ذبح على النصب، قال تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب [المائدة: 3].
والنصب: هي الأحجار كانت منصوبة حول الكعبة يذبحون عليها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه للأصنام ونحوها. وقيل: هي الأصنام تنصب فتعبد من دون اللَّه، فالنصب: صنمٌ أو حجر، وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده.
- : تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه : -
كما حرم اللَّه تعالى ما أهل به لغير اللَّه، حرم ما لم يذكر اسم اللَّه عليه، وجعل ذكر اسمه وحده على الذبيحة شرطًا في حل أكلها سواء أكان الذابح مسلمًا أم كتابيًا، لقول اللَّه تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق [الأنعام: 121]، فنهى عن الأكل من متروك التسمية، وعن تركها، وأخبر بأنه فسق، وهو ظاهر في حالة ترك التسمية عمدًا، لا سهوًا، لأن الناسي لا تلحقه سمة الفسق. وإلى ذلك ذهب الحنفية وأحمد والثوري والحسن.
وذهب داود والشعبي وهو مروي عن مالك وأبي ثور، إلى أن التسمية شرط مطلق لعدم فصل الأدلة بين حالتي العمد والسهو وإليه ذهب ابن حزم في المحلى.
وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاووس والشافعي وهو مروي أيضًا عن مالك وأحمد إلى أن التسمية ليست شرطًا لحل الأكل بل هي سنة.
والتسمية الواجبة هي ذكر اللَّه، والأفضل أن يقول: باسم اللَّه والله أكبر.
ويشترط في التسمية أن تكون من الذابح حتى لو سمى غيره وهو ساكت ذاكرًا غير ناسٍ، ولا يحل عند من أوجب التسمية. [البدائع للكاساني: 5/48]
2- أن يريد بها التسمية على الذبيحة، فإن أراد بها التسمية لافتتاح العمل لا يحل.
3- أن يُعينها؛ لأن ذكر اسم اللَّه عليها لا يتحقق إلا بذلك. [المرجع السابق: 5/49، 50]
ذبيحة الكتابي:
أما الكتابي فقد قال الإمام مالك: لا تشترط في حقه التسمية؛ لأن اللَّه تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب وهو يعلم أن منهم من يترك التسمية.
واشترطها الجمهور في الكتابي:
قال تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم [المائدة: 5].
طعام الذين أوتوا الكتاب: المراد به ذبائحهم عند الجمهور، وهو الراجح، لا الخبز والفاكهة والمطعومات، فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب، وبعد أن تكون لهم، فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب.
«أهل الكتاب»: المقصود بهم في باب الذبائح اليهودي والنصراني ذميًا كان كل منهما أو حربيًا، ذكرًا أو أنثى، حرًا أو رقيقًا، لا المجوس. [البدائع 5/45]
وخص هذا الحكم بأهل الكتاب لان المجوس لا يحل أكل ذبائحهم ولا التزوج بنسائهم، وكذلك فإن الوثنيين لا يحل أكل ذبائحهم ولا التزوج بنسائهم لقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، أما أهل الكتاب، فلهم حكم خاص من حيث الذبائح والنكاح.
ولذلك فإن أطعمتهم التي فيها نجاسة كالخمر والخنزير يجب اجتنابها، فقد ذهب ابن عباس وغيره إلى أن الطعام الذي أحل لنا ذبائحهم.
فعلى هذا تحل ذبيحة أهل الكتاب لأنه كتابي قد ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن وأحلها اللَّه في كتابه.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/302) برقم (715):
أهل الكتاب هم اليهود والنصارى مع شركهم، وقد كان هذا الشرك موجودًا فيهم وقت نزول القرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم .(/1)
فقد أخبر سبحانه عن تأليه النصارى المسيح عليه السلام وجعلهم إياه إلهًا مع اللَّه يعبدونه معه، فقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [المائدة: 17]، كما أخبر عن اليهود أنهم قالوا عزير ابن اللَّه، وأخبر سبحانه عن أهل الكتاب جميعًا أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله... [التوبة: 30، 31].
وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
[آل عمران: 64].
وأخبرنا سبحانه عن قولهم بالتثليث ونهاهم عنه. يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [النساء: 171]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على شركهم وكفرهم وقت نزول الوحي، وقد سماهم أهل كتاب في غير موضع من القرآن. اهـ.
وفي الفتوى رقم (6991 ص299) أباح اللَّه للمسلمين أن يأكلوا من طعام الذين أوتوا الكتاب وهو ذبائحهم بقوله في سورة المائدة: طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [المائدة: 5]، مع أن اللَّه تعالى أخبر عن اليهود والنصارى في نفس السورة بأنهم كفار، قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [المائدة: 17].
وجاء في فتاوى سماحة الشيخ ابن باز رحمه اللَّه في «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (5/396): يجوز أكل ذبائحهم ما لم يعلم أنها ذبحت بغير الوجه الشرعي؛ لأن الأصل حِلّها كذبيحة المسلم. اهـ.
ومذهب الجمهور على أن حل ذبائح أهل الكتاب في آية المائدة، مشروط بالإهلال عليها باسم اللَّه وحده. فإذا أهلَّ باسمه تعالى وحده، حلت ذبيحته كالمسلم سواء، وإذا أهل بغيره تعالى حرمت كالمسلم سواء، وإذا لم يعلم هل سمى اللَّه وحده أو سمى اللَّه مع غيره، أو سمى غير اللَّه فقط، فقد حلت ذبيحته.
إذا ذبح اليهودي أو النصراني وذكر غير اللَّه تعالى وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل اللَّه ذلك لك، روى البخاري عن الزهري، لا بأس بذبيحة نصارى العرب، ومن إن سمعته يُسمى لغير اللَّه فلا تأكل، فإن لم تسمعه فقد أحله اللَّه وعلم كفرهم. [الفتح 9/552]، وعن النخعي: إذا توارى عنك فكل، وعن حماد: كُلْ ما لم تسمعه أهلَّ به لغير اللَّه.
وجاء في البدائع (5/46): وتؤكل ذبيحة الكتابي لقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، والمراد ذبائحهم، وإنما تؤكل ذبيحته إذا لم يشهد ذبحه، ولم يسمع منه شيئًا، أو سمع وشهد تسمية اللَّه تعالى وحده، لأنه إذا لم يسمع منه شيء يُحمل، على أنه سمى اللَّه تعالى، وجرّد التسمية تحسينًا للظن به كما بالمسلم، فأما إذا سمع منه أنه سمى المسيح وحده أو مع اللَّه، فإنه لا تؤكل ذبيحته لقوله تعالى: وما أهل به لغير الله. اهـ. ملخصًا.
وفي المغني لابن قدامة (8/497): فإن لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير اللَّه أم لا، فذبيحته حلال، لأن اللَّه تعالى أباح لنا أكل ذبيحة المسلم والكتابي، وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح. اهـ.
وفي المحلى لابن حزم (9/457، 458): وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق، أو جاهل، أو كتابي فحلال أكله، لما أخرجه البخاري عن عائشة: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم اللَّه عليه أم لا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «سموا اللَّه أنتم وكلوا». قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر».
حيث أباح لهم أكله بدون اهتمام بالسؤال عنه، وجملة القول في ذبيحة الكتابي: أنها تحل عند الجمهور إذا لم يُسمع وهو يهل بها لغير اللَّه، بخلاف ما إذا سمع فإنها تحرم، فما يذبحه إذا لم يعلم أنه ذكر اسم اللَّه عليه، أو لم يذكره حلال باتفاق، والله أعلم.(/2)
من أحكام الذبائح
إعداد/ سعيد عامر
> الذبائح: جمع ذبيحة، وهي الحيوان المذبوح، الذي يتقرب به المسلم إلى الله عز وجل لأنها عبادة من العبادات.
قال تعالى: وفديناه بذبح عظيم [الصافات: 107]، وقال سبحانه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [البقرة: 67].
والذبح يكون في البقر والغنم، أما الإبل فلها النحر خاصة.
شرائط الذبح
ثلاثة أنواع: شرائط في المذبوح، وشرائط في الذابح، وشرائط في الآلة.
شرائط المذبوح:
1- أن يكون حيًا وقت الذبح.
2- أن يكون زُهوق روحه بمحض الذبح.
3- ألا يكون صيدًا حرميًا، لأن التعرض لصيد الحرم بالقتل والدلالة عليه والإشارة إليه محرم.
شرائط الذابح:
1- أن يكون عاقلاً.
2- أن يكون مسلمًا أو كتابيًا- على تفصيل في ذلك.
3- أن يكون حلالاً (غير محرم بحج أو عمرة).
4- أن يسمي الله تعالى على الذبيحة.
5- ألا يهل بالذبح لغير الله.
6- أن يقطع من مقدمة العنق.
7- ألا يرفع يده قبل تمام التذكية.
8- أن ينوي التذكية.
شرائط آلة الذبح:
1- أن تكون قاطعة.
2- ألا تكون سنًا أو ظفرًا قائمين.
ويستحب في الذبح:
1- أن يكون بآلة حديد حادة كالسكين والسيف الحادين؛ لحديث مسلم: «وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».
2- الإسراع في القتل.
3- أن يكون الذابح مستقبل القبلة، والذبيحة موجهة إلى القبلة بمذبحها لا بوجهها، إذ هي جهة الرغبة إلى طاعة الله.
4- إحداد الشفرة قبل إضجاع الشاة ونحوها.
5- أن تضجع الذبيحة على شقها الأيسر برفق.
6- عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها.
7- الذبح باليد اليمنى.
8- عدم المبالغة في القطع حتى يبلغ الذابح النخاع.
والذبائح التي يتقرب بها المسلم إلى الله عز وجل: الهدي والفدية، الأضحية، العقيقة، والنذر.
أولاً: الهدي
خاص بالحاج، وهو واجب على المتمتع، الذي أدى العمرة قبل الحج، قال تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [البقرة:196].
وواجب كذلك على القارن، الذي أدخل العمرة في الحج، وهذا في حق من ساق الهدي من بلده، فإذا لم يسق الهدي؛ فالأفضل أن يدخل مكة معتمرًا، ثم يحج وعليه هدي.
وقد أمر الله ضيوفه في البلد الأمين أن يكثروا من الذكر في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لينحروها وليأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير: ذلك ومن يعظم شعائر الله ويختاره من أحسن الأنعام وأسمنها: فإنها من تقوى القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33) ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [الحج:32-34]، والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير [الحج: 36، 37]، وللهدي ميقات زماني وآخر مكاني.
الميقات الزماني: بعد الوقوف بعرفة بدءًا من يوم العيد «النحر» وحتى آخر أيام التشريق.
الميقات المكاني: وذلك في منى، أو في مكة.
روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم».
ولا تجزئ الذبيحة من الغنم إلا عن حاج واحد، أما البقر والإبل، فتجزئ الواحدة منها عن سبعة أشخاص.
والهدي: يؤكل كله أو بعضه، ويحسن أن يجمع بين الأكل والصدقة.
وقد قامت الحكومة السعودية- مشكورة- بجهود عظيمة في ذلك، ومنها: المسالخ الفنية، والبرادات الضخمة التي تستوعب معظم ما يذبح للهدي والأضحية وغيرها في أيام التشريق، وتوزيع كميات كبيرة إلى المتضررين والمستحقين من المسلمين في أنحاء العالم، فجزى الله المحسنين خيرًا.
ثانيًا: الأضحية
اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق تقربًا إلى الله تعالى.
وفي هذه العبادة: مشاركة الحجاج في ذبح هداياهم، والاقتداء بالخليل إبراهيم عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
مشروعيتها:
قال الله تعالى: فصل لربك وانحر، قال قتادة وعطاء وعكرمة وغيرهم: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، مَن فعله فقد أصاب سنَّتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء». متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وفي الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: ضحى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين.
وفي رواية البخاري: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده.
حكمها: قال الإمام النووي: اختلف العلماء في وجوب الأضحية على الموسر، فقال جمهورهم: هي سنة في حقه، إن تركها بلا عذر لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وقد ترجم البخاري في صحيحه «باب سنة الأضحية» إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها، وعن محمد بن الحسن: هي سنة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها، فالأضحية سنة مؤكدة على كل قادر عليها من المسلمين.
ثالثًا: الفدية(/1)
تعريفها لغة: مال ونحوه يستنقذ به الأسير، أو نحوه فيخلص مما هو فيه، قال تعالى: وفديناه بذبح عظيم [الصافات: 107].
اصطلاحًا: هي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، وتكون عند ارتكاب أحد محظورات الإحرام، كحلق الرأس وغيره، وتكون عند ترك واجب من واجبات الحج، وتكون عند الإحصار، وهو منع الحاج أو المعتمر من المضي إلى بيت الله الحرام، قال تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [البقرة: 196]، وتكون عند الوقوع في الأسر.
الفدية في الحج:
إذا كان الإسلام قد شرع للحاج أن يعيش مدة إحرامه دون أن يقص أو يحلق شعره، قليل العناية بزينة الدنيا، فليس معنى ذلك أن يكلفه شططًا، أو ما لا يحتمل من أذى، فكما أمره بأشياء وحرم عليه أخرى في الحج فإنه جعل له منها بدائل؛ كصيام، أو نفع للفقراء والمساكين بالفدية والكفارات.
والكفارة أخص من الفدية، وهي ما يغطي الإثم. قال تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [البقرة:196]، والثلاثة المذكورة في الآية على سبيل التخيير بينها، لأن لفظة «أو» حرف تخيير، والصيام المذكور: ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، ففي حديث كعب بن عجرة: «صم ثلاثة أيام، أو تصدق بِفَرَقٍ بين ستة مساكين، أو انسك ما تيسر». والفدية في الحج تكون عند: ترك واجب من واجبات الحج.
وقد اتفق الفقهاء على أنه تجب فدية في ترك واجب من واجبات الحج والعمرة، والواجب: ما لا يفسد الحج بتركه، ولكن يجبر تركه بدم؛ أي بذبح شاة.
مثال: ترك الإحرام من الميقات، وترك الوقوف بالمزدلفة، وترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وترك الرمي للجمرات، وترك طواف الوداع، ويستثنى المرأة الحائض أو النفساء، إذا طافت طواف الإفاضة من مكة، ولا طواف عليها ولا فدية بتركها طواف الوداع، وهذا قول عامة الفقهاء، إلى غير ذلك من المأمورات التي لا يفوت الحج بفواتها.
الفدية عند فعل محظور من محظورات الإحرام:
ومحظورات الإحرام نوعان:
الأول: يوجب فساد الحج، وهو الجماع.
إذا فسد الحج بالجماع، فإن حكمه وجوب الفدية- الكفارة- والمضي في أفعال الحج حتى يتم، وقضاء الحج، سواء أكانت الحجة التي أفسدها واجبة عليه، أو كانت تطوعًا، لأنها بالدخول فيها والتلبس بها، صارت عليه واجبة.
والفدية لا خلاف في وجوبها، وإنما الخلاف في نوعها، فهي عند الجمهور: بدنة من الإبل، فإن عجز عنها فبقرة، وإن عجز عن البقرة فسبع شياه.
وعند الحنفية: ذبح شاة.
وتكون واجبة على الزوج والزوجة في حالة طاعة المرأة لزوجها في ذلك الجماع حال الإحرام.
وفي حالة إكراه المرأة على الجماع فلا فدية عليها، وتجب هنا على الزوج وحده، وهذا مذهب الحنابلة.
الثاني: محظورات لا توجب فساد الحج، وهي أنواع منها:
1- ما يرجع إلى اللباس.
لا خلاف في وجوب الفدية على المحرم إذا لبس عامدًا ما هو محظور عليه في إحرامه.
2- ما يرجع إلى الطيب:
الاستعمال المحظور للطيب في حق المحرم، هو أن يلصق الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد، فيحرم على المحرم بعد إحرامه تطييب بدنه أو ثوبه أو شيء منهما، وإذا استعمل المحرم أو المحرمة الطيب وجبت عليه الفدية.
3- حلق الشعر أو تقصيره:
لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر؛ لقول الله تعالى: ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [البقرة: 196].
ولحديث كعب بن عُجرة عند مسلم قال: فيّ أنزلت هذه الآية: فمن كان منكم مريضا وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «أيؤذيك هَوامُّك؟» قال ابن عون: وأظنه قال نعم. قال: فأمرني بفدية من صيام أو صدقةٍ، أو نسك ما تيسر.
4- تقليم الأظفار: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثر أهل العلم.
5- الصيد:
أجمعت الأمة على تحريم الصيد في الإحرام، فلا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول، وغير المأكول، وهو الحيوان المباح المتوحش، الممتنع من الناس في أصل الخلقة.
ولا بأس بقتل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والغراب، لإباحة الرسول صلى الله عليه وسلم قتلها في الحل والحرم.
فأجمع أهل العلم على وجوب الجزاء- الفدية- على المحرم إذا قتل الصيد لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [المائدة:95].
والصيد الذي يجب بقتله الفدية على قاتله هو ما جمع ثلاثة أوصاف هي:
- أن يكون مباحًا أكله، لا مالك له، وحشيًا ممتنعًا.
والفدية: إذا كان الصيد دابة، هو مثل ما قتل من النعم.
وإذا كان الصيد طائرًا فالجزاء فيه يكون بقيمته في موضعه الذي قتله فيه وما لا مثل له من الصيد يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعامًا فيطعمه للمساكين، وبين أن يصوم.(/2)
6- عقد النكاح ممنوع على المحرم والمحرمة لم يجب بذلك فدية، وبهذا صرح الحنابلة.
وقد حرم الله تعالى على من فرض الحج في أشهره الرفث والفسوق والجدال في الحج.
ومع بقية الذبائح في العدد القادم إن شاء الله تعالى.(/3)
من أرضى الله بسخط الناس ... ...
محمد سعد ...
...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- حديث يأمر بالتماس رضا الله فحسب. 2- موقف العلماء الربانيين من المنكرات. 3- موقف علماء السوء من المنكرات. 4-الضغط على بعض الدعاة قد يؤدي بهم إلى المداهنة. 5- مواقف في الثبات وأخرى في المداهنة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
أيها الأخوة الأحباب: هيا لنقضي بعضا من الوقت في الحديقة الزهراء والجنة الغناء، في رياض السنة المشرفة وبين حدائقها المكرمة، نسير في ربوعها ونستريح في ظلالها نستنشق عبير أزهارها ونقطف من ثمارها ونصلي ونسلم على صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم.
أخرج الترمذي في الزهد عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فبعثت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام الله عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) والسلام عليك [والحديث إسناده صحيح]. وفي رواية لإبن حبان: ((من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس)) [وسنده صحيح أيضا، والحديث ذكره الشيخ الألباني في حديث الجامع الصغير السيوطي وقال عنه الشيخان شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيقهما لزاد المعاد: إسناده صحيح]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من التمس رضا الناس)) التمس يعني: طلب، وقوله عليه الصلاة والسلام (كفاه الله مؤونة الناس) المؤونة التبعية والمقصود كفاه الله تعالى شر الناس وأذاهم.
أيها الأخوة الكرام: ها هو ذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيرا إلا دلنا عليه، ولا شرا إلا حذرنا منه، ها هو ذا عليه الصلاة والسلام في كلمات بسيطة الأسلوب بليغة التركيب وجيزة المبنى عظيمة المعنى يعطينا في هذا الحديث الشريف مبدءا هاما في معاملة الناس ومعايشتهم، فذكر عليه الصلاة والسلام طريقين لا ثالث لهما.
الطريق الأول: طريق من التمس رضا الله تعالى ولو سخط عليه الناس، وهو طريق ينبع من توحيد العبد لربه عز وجل، إذ ليس للإنسان أن يتوجه إلا لله، فلا يخاف إلا إياه، ولا يرجو سواه، ولا ينطلق في حياته إلا طلبا لرضاه في كل حركاته وسكناته في كل معاشراته ومعاملاته، فينفذ ما أمر الله تعالى به لا يلتفت في ذلك لمدح مادح أو ذم ذام، ولا يضع في نفسه وهو يرضي الله عز وجل أدنى حساب لسخط أحد من الخلق أو رضاه مهما كلفه ذلك من مشاق.
والطريق الآخر: هو طريق من لم تخلص نفسه لله عز وجل، طريق ضعاف الإيمان ومن اهتزت عقيدتهم فهو يبحث عما يرضي الناس ويفعله، وعما يعرضه لسخطهم فيتركه، ولو كان ذلك على حساب دينه، ولو كان في ذلك ما يسخط ربه عز وجل، لأن المهم عنده ألا يخسر الناس وألا يكون في موضع نقمتهم وغضبهم.
إنها لقضية خطيرة حقا، ذلك أن الإنسان لابد له أن يتعامل مع الناس ويعيش بينهم، ويجب عليه في نفس الوقت أن يعيش بمنهج الإسلام موحدا لله عز وجل مطبقا لحدوده، ولكن كثيرا من الناس حوله ينحرفون ويفجرون ويظلمون ويتعدون حدود الله تعالى، ومن هنا كان على المسلم أن ينكر ذلك وأن يغيره ويحارب تلك المنكرات والمخالفات وأن يظهر دين الله عز وجل، عندئذ يطلب منه هؤلاء المنحرفون أن يسكت أو يوافقهم على انحرافهم، ويضغطون عليه بشتى الوسائل كما هو الواقع الذي نعيشه فالمسلم المتمسك بدينه اليوم يعيش في هذه المجتمعات المنحرفة وبين الحكومات الضالة الظالمة والأسر الغافلة، فيسعى بينهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحيي الإسلام ويجاهد لإقامته في الحياة فينزعج الناس الغافلون والمنحرفون منه ويتضايقون.
يتضايقون من هذا الذي يخالفهم في سلوكه ومظهره، وينكر عليهم ما اعتادوه من المنكرات، وينزعج منه الطغاة من الحكام، فيواجه المسلم الملتزم بدينه حربا ضروسا وهجوما عنيفا بشتى الوسائل لإسكاته أو لإبعاده عن منهجه، ولكيلا يستجيب لدعوته الناس فيواجه الاستهزاء والتهديد أو التعذيب أو السجن أو المحاربة في الرزق، ويقف المسلم ممتحنا أمام الطريقين اللذين لا ثالث لهما إما أن يرضي الله عز وجل ولا يبالي بسخط الناس وأذاهم، فيسير مستقيما لا يميد ولا يحيد، وإما أن يرضي الناس فيوافقهم على انحرافهم وضلالهم ويتميع معهم ليتجنب بطشهم أو سخطهم، فيسخط الله عز وجل.(/1)
وكثيرا ما يتعرض المسلم الملتزم بدينه وهو ينطلق في الحياة يتعامل مع الناس لمثل هذا الموقف ليتخير أحد الطريقين. ولنستعرض على ذلك أمثلة فمن أهم هذه الأمثلة والصور ما يقع للعلماء عندما تظهر المنكرات ويعم الفساد ويطغى الحكام ويصبح واجبا عليهم الإنكار والتغيير وبيان الحق للناس قبل غيرهم، فمن العلماء من لا يفكر إلا فيما يرضي الله عز وجل فيحارب الباطل ويفضح الظالم، وأقل درجات إنكار المنكر الإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان.
ومن العلماء وهم علماء السوء الذين يسيرون في ركاب الحكام وضالة الناس فيرضيهم طمعا بما عندهم أو خوفا من بطشهم ونقمتهم، فلا يأمر ولا ينهى بل يبيعون ذممهم ودينهم بحفنة أموال أو بمنصب عال، ويسرعون إلى عتبات السلاطين بالفتاوى المعلبة الجاهزة، وكم رأينا فتاوى لعلماء السوء في وسائل الإعلام من صحف ومجلات وإذاعات عندما يسألون عن أمور قد تخفى على كثير من الناس كحكم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار أو حكم بناء المساجد على القبور أو تلك القوانين الوضعية التي يكبل بها المسلمون أو تلك الموالاة الصريحة لليهود والنصارى، فتجدهم يدورون في فتواهم حول الحق ويداهنون السلاطين.
والذي يفضح لك علماء السوء ويبين أنهم يسعون لرضا سلاطينهم لا إلى رضا الله عز وجل أنك تجد الفتوى الواحدة في المسألة الواحدة تتغير وتتبدل كلما تغير رأي الحاكم أو تبدل اتجاهه أو كلما تغير حاكم وجاء آخر، وكم شاهدنا وقرأنا لمن يكتب في تحريم الربا كله عاما ثم يكتب في حله كذلك عاما آخر، ورأينا من بارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس حتى لا يقال عنه متخلف أو متحجر، وحتى لا يتهمه أرباب الصحف في مقالاتهم بأنه يعيش بعقلية القرون الوسطى.
وأقرب الأمثلة على ذلك أنه حدث كلام في لجنة الشؤون الدينية بمجلس الشعب حول استصدار قرار بإلغاء مهرجانات السينما لما فيها من عري وفساد وما لها من تأثير على دين الناس، فاستنكر ذلك صاحب أخبار الناس بجريدة الأخبار، ويبدو أن استنكاره كان موجها لرئيس اللجنة، فسارع رئيس لجنة الشؤون الدينية الذي يحمل درجة الدكتوراه لينفي اللوم عنه وعن جميع أعضاء اللجنة، ولو مجرد التفكير في هذا القرار فقال ردا على المقال: عزيزي محرر صفحة أخبار الناس، بخصوص مقالتك الخاصة بإلغاء مهرجانات السينما في مصر إن الأمر لم يتعد رأيا من الضيوف الذين يحضرون اجتماعات اللجنة، ولم يؤيده أحد من الأعضاء، وبالتالي لم يصدر به قرار.
ومن الصور الخطيرة التي يقف الإنسان فيها ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل، وإما أن يرضي الناس ما يحدث لبعض الدعاة عندما يتعرضون للضغوط، فيحاول أعداء الدعوة أن يساوموا الدعاة للتنازل عن بعض الأمور أو السكوت عنها أو إيجاد خط مودة بينهم في مقابل السماح للدعاة ببعض الحرية.
وكثيرا ما تضعف نفوس وتزل أقدام أمام تلك الضغوط والإغراءات، أضف على ذلك ما يدب في قلوبهم من ملل بسبب طول العداء وكثرة الأذى، فيميل البعض إلى المصالحة والمداهنة في أمور الدعوة، فيقدمون رضا الناس على رضا الله عز وجل، ويخطئون الطريق، فالله عز وجل لا يرضى بالمداهنة في دينه، ولا يرضى بأنصاف الحلول أو أن يتصافح الحق مع الباطل أبداً.
ولعل من الصور التي يقف فيها المرء ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل أو يرضي الناس ما يحدث للشباب عندما يضغط الوالدان الغافلان على أولادهم، فيأمران مثلا بما فيه معصية الله أو عندما يطلب الأصدقاء من صديقهم ألا ينكر عليهم بعض المخالفات التي يرتكبونها وألا يزعجهم بنصائحه وألا قاطعوه وخسرهم.
إن تلك الصور وغيرها كثير لو تأملناها لوجدنا الناس أمامها ينقسمون على العموم إلى قسمين: قسم لا يفكر إلا في رضا الله عز وجل، وقسم تضعف نفسه أمام الضغوط.
ولقد بين عليه الصلاة والسلام لنا عاقبة كل طريق ونهايته.
أما الطريق الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس)) فبين أن الله تعالى تكفل وتعهد بحفظ من يطلب رضاه ويقدمه على رضا الناس كما قال تعالى في كتابه الكريم: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام .
أليس الله بكاف عبده وقرأ بعضهم: أليس الله بكاف عباده يعني أنه سبحانه وتعالى يكفي من عبده وتوكل عليه ويخوفونك بالذين من دونه يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا، ولهذا قال عز وجل: ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام يعني أليس الله منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه، فإنه سبحانه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد انتقاما منه.(/2)
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكل من أرضى الله بسخط الناس كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل الحرام وصبر على عداوتهم – أي عداوة المنحرفين والظالمين من الناس – ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت الرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار، ومن ابتلي من العلماء وصالحي الولاة والتجار وغيرهم.
لقد كان علماء السلف الصالح رحمهم الله يضربون الأمثلة الرائعة في الثبات أمام طغاة الناس من الحكام وغيرهم، وكان نتيجة هذا الثبات أن أكرمهم الله عز وجل بالنصر أو بالشهادة
استدعى عمر بن هبيرة والي العراق الحسن البصري والإمام الشعبي ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم هل ينفذها أم لا فسأل عمر الشعبي في هذا الموقف أولا، فقال كلاما يرضي الوالي والخليفة، والحسن البصري ساكت، فلما انتهى الشعبي من كلامه التفت عمر بن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد، فوعظه الحسن البصري موعظة قوية أمره فيها بالمعروف ونهاه فيها عن المنكر، ولم يداهن أو يواري فقال فيما قال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد في الدنيا والآخرة، وإن تك مع يزيد في معصيته فإن الله يكلك إلى يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنا من كان في معصية الخالق عز وجل، فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، وأكرم الحسن البصري إكراما شديدا، ولم يلتفت إلى الشعبي فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد، واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسا هاما تعلم ألا يرضي أحدا دون الله تعالى بعد ذلك قال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولاً لا أجهله – يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن – ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قال وجه الله.
ولو تأملنا موقف الدعاة أمام بطش الطواغيت واغراءاتهم لوجدنا إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم قد تعرض لضغوط ومساومات عديدة ليتنازل عن بعض أمور الدعوة كما قال سبحانه: ودوا لو تدهن فيدهنون أي ود الكفار لو تدخل معهم يا محمد في مجال المساومة على الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسما في موقفه حتى وهو في أحرج الأوقات وأشد الأزمات وهو محاصر بدعوته وأصحابه يعذبون ويتعرضون للأذى لم يحاول أن يرضي الكفار قط ولو بكلمة واحدة تسخط الله عز وجل، بل فضح عليه الصلاة والسلام الشرك والمشركين فماذا كانت النتيجة فتح الله عليه ونصره وأيده وآواه إلى المدينة وأعره وأعز المسلمين، ولو مال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكفار قليلا أو أرضاهم وهذا مجرد افتراض فقد قال الله عز وجل: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لأتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ً إن الله عز وجل يصون ويرضي من يقدم رضاه على رضا الناس وليس شرطا أن لا يؤذى أو يعذب فقد يؤذى المسلم لحكمة يعلمها الله عز وجل كأن يكون تكفيرا لسيئاته أو رفعا لدرجته أو لينال الشهادة وما أعظمها منزلة كما في الحديث الحسن: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)).
أما عاقبة من يقدم رضا الناس على رضا الله عز وجل فهي الخيبة والخسران يقول عليه الصلاة والسلام: ((ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) ومن وكله الله تعالى للناس وقع في المهالك وتخطفته الخلائق وأصابه الخذلان وتجرأ عليه كل إنسان بل أكثر من ذلك قد ينقب الذي كان يسعى لإرضائه فيصير له عدو كما جاء في قول للسيدة عائشة رضي الله عنها: من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما.
وكما ضرب الإمام ابن القيم في ذلك مثلا برجل متدين تقي حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم إلا بموافقته لهم أو سكوتهم عنه فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى وأضعاف ما كان يخاف لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلابد وأن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم كما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية.(/3)
أيها الأخوة الكرام: وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله. ... ...
... ...
... ...
... ...(/4)
من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم التربوية
محمد الدويش
1 - التربية بالقصة:
إن القصة أمر محبب للناس، وتترك أثرها في النفوس، ومن هنا جاءت القصة كثيراً في القرآن، وأخبر تبارك وتعالى عن شأن كتابه فقال:{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن } {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى } وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : { واقصص القصص لعلهم يتفكرون } ولهذا فقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج واستخدم هذا الأسلوب .
شاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خباب بن الأرت رضي الله عنه ـ يبلغ به الأذى والشدة كل مبلغ فيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم شاكياً له ما أصابه فيقول رضي الله عنه :أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت :ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: " لقد كان كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أوعصب، مايصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله " [رواه البخاري (3852]
وحفظت لنا السنة النبوية العديد من المواقف التي يحكي فيها النبي صلى الله عليه وسلم قصة من القصص، فمن ذلك: قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وقصة الذي قتل مائة نفس، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع، وقصة أصحاب الأخدود... وغيرها كثير.
2 - التربية بالموعظة:
للموعظة أثرها البالغ في النفوس، لذا فلم يكن المربي الأول صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يغيب عنه هذا الأمر أو يهمله فقد كان كما وصفه أحد أصحابه وهو ابن مسعود -رضي الله عنه-:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا" [رواه البخاري ( 68 ]
ويحكي أحد أصحابه وهو العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن موعظة وعظها إياهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " [رواه الترمذي (2676) وابن ماجه (42)] وحتى تترك الموعظة أثرها ينبغي أن تكون تخولاً ، وألا تكون بصفة دائمة .
عن أبي وائل قال كان عبدالله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا [رواه البخاري (70) ومسلم (2821) ]
3 - الجمع بين الترغيب والترهيب:
النفس البشرية فيها إقبال وإدبار، وفيها شرّة وفترة، ومن ثم كان المنهج التربوي الإسلامي يتعامل مع هذه النفس بكل هذه الاعتبارات، ومن ذلك الجمع بين الترغيب والترهيب، والرجاء والخوف.
عن أنس -رضي الله عنه- قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط:"قال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين [رواه البخاري (4621) ومسلم () ].
ومن أحاديث الرجاء والترغيب ما حدث به أبو ذر -رضي الله عنه- قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال:"ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:"وإن زنى وإن سرق" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:"وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر [رواه البخاري (5827) ومسلم (94) ].(/1)
وعن هريرة -رضي الله عنه- قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة -والربيع الجدول- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أبو هريرة؟" فقلت: نعم يارسول الله، قال:"ما شأنك؟" قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال:"يا أبا هريرة" -وأعطاني نعليه- قال:"اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة"…الحدي ث. [رواه مسلم (31) ] والمتأمل في الواقع يلحظ أننا كثيراً ما نعتني بالترهيب ونركز عليه، وهو أمر مطلوب والنفوس تحتاج إليه، لكن لابد أن يضاف لذلك الترغيب، من خلال الترغيب في نعيم الجنة وثوابها، وسعادة الدنيا لمن استقام على طاعة الله، وذكر محاسن الإسلام وأثر تطبيقه على الناس، وقد استخدم القرآن الكريم هذا المسلك فقال تعالى:{ ولو أن أهل القرى …} {ولو أنهم أقاموا التوراة … } .
4 - الإقناع العقلي:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: "ادنه" فدنا منه قريباً قال: فجلس قال : " أتحبه لأمك ؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم" قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم" قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم" قال:"أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم" قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم" قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه" فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء [رواه أحمد ( )] .
إن هذا الشاب قد جاء والغريزة تتوقد في نفسه، مما يدفعه إلى أن يكسر حاجز الحياء، ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم علناً أمام أصحابه، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم المربي المعلم لديه جانباً لم يدركه فيه أصحابه فما هو؟
لقد جاء هذا الشاب يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان قليل الورع عديم الديانة لم ير أنه بحاجة للاستئذان بل كان يمارس ما يريد سراً، فأدرك صلى الله عليه وسلم هذا الجانب الخير فيه، فما ذا كانت النتيجة : "فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"
5 - استخدام الحوار والنقاش:
وخير مثال على ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في غزوة حنين بعد قسمته للغنائم، فقد أعطى صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، فبلغه أنهم وجدوا في أنفسهم، فدعاهم صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهم وبينه هذا الحوار الذي يرويه عبدالله بن زيد -رضي الله عنه- فيقول: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟" كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟" قال كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال:" لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" [رواه البخاري (4330) ومسلم (1061) ] ففي هذا الموقف استخدم النبي صلى الله عليه وسلم الحوار معهم، فوجه لهم سؤالاً وانتظر منهم الإجابة، بل حين لم يجيبوا لقنهم الإجابة قائلاً : (ولو شئتم لقلتم ولصدقتم وصُدقتم … ) .
6 - الإغلاظ والعقوبة:
وقد يُغلظ صلى الله عليه وسلم على من وقع في خطأ أو يعاقبه:
فعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال:" أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة" [رواه البخاري (90) ومسلم (466) ].(/2)
وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة فقال:"اعرف وكاءها -أو قال: وعاءها وعفاصها- ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه" قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه -أو قال احمر وجهه- فقال:" وما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها" قال: فضالة الغنم؟ قال:" لك أو لأخيك أو للذئب" [رواه البخاري (90) ومسلم (1722) ].
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه على هذين الحديثين " باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى مايكره".
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال:"يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . [رواه مسلم (2090) ]
عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت ما منعه إلا الكبر قال فما رفعها إلى فيه [رواه مسلم (2021)]
إلا أن ذلك لم يكن هديه الراتب صلى الله عليه وسلم فقد كان الرفق هو الهدي الراتب له صلى الله عليه وسلم ، لكن حين يقتضي المقام الإغلاظ يغلظ صلى الله عليه وسلم ، ومن الأدلة على ذلك:
1- أن الله سبحانه وتعالى وصفه بالرفق واللين أو بما يؤدي إلى ذلك قال تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } فوصفه باللين وقال تعالى : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } ولا أدل على وصفه عليه الصلاة والسلام من وصف الله له فهو العليم به سبحانه .
2- وصف أصحابه له :
فقد وصفه معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- بقوله :فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني [رواه مسلم (537) ].
3- أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالرفق فهو القدوة في ذلك وهو الذي نزل عليه {لم تقولون مالاتفعلون } فهو أقرب الناس الى تطبيقه وامتثاله، وحينما أرسل معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال لهما : "يسرا ولاتعسرا وبشرا ولاتنفر ا" [رواه البخاري (3038) ومسلم (1733) ] .
4- ثناؤه صلى الله عليه وسلم على الرفق، ومن ذلك في قوله:"ماكان الرفق في شيئ إلا زانه ولانزع من شيئ إلا شانه" وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة :"إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " رواه البخاري (6024) ومسلم (2165) ] وفي رواية:"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" [رواه مسلم (2593) ].
وفي حديث جرير -رضي الله عنه- "من يحرم الرفق يحرم الخير" [رواه مسلم (2592) ] ويعطي على الرفق مالايعطي على العنف ) .
5- سيرته العملية في التعامل مع أصحابه فقد كان متمثلاً الرفق في كل شيئ ومن ذلك :
أ) قصة الأعرابي الذي بال في المسجد والقصة مشهورة.
ب) قصة عباد بن شرحبيل - رضي الله عنه - يرويها فيقول: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل:" ما أطعمته إذ كان جائعا -أو ساغبا- ولا علمته إذ كان جاهلا" فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق [رواه أحمد (16067) وأبو داود (2620) وابن ماجه (2298)].(/3)
ج)قصة سلمة بن صخر الأنصاري -رضي الله عنه- قال: كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب منها في ليلتي فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك، قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال:" أنت بذاك؟ " قلت: أنا بذاك، قال:" أنت بذاك؟ " قلت: أنا بذاك، قال:" أنت بذاك؟ " قلت: أنا بذاك، وها أنا ذا فأمض في حكم الله فإني صابر لذلك، قال:" أعتق رقبة" قال: فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، قال:" صم شهرين" قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال:" فأطعم ستين مسكينا" قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء، قال:" اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي، فدفعوها إلي [رواه أحمد (23188) وأبو داود (2213) والترمذي () وابن ماجه (2062].
7 - الهجر:
واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الهجر في موقف مشهور في السيرة، حين تخلف كعب بن مالك -رضي الله عنه- وأصحابه عن غزوة تبوك، فهجرهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لايكلمهم أحد أكثر من شهر حتى تاب الله تبارك وتعالى عليهم.
إلا أن استخدام هذا الأسلوب لم يكن هدياً دائماً له صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أن رجلاً كان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم … والمناط في ذلك هو تحقيقه للمصلحة، فمتى كان الهجر مصلحة وردع للمهجور شرع ذلك وإن كان فيه مفسدة وصد له حرم هجره .
8 - استخدام التوجيه غير المباشر:
ويتمثل التوجيه غير المباشر في أمور منها:
أ - كونه صلى الله عليه وسلم يقول مابال أقوام، دون أن يخصص أحداً بعينه، ومن ذلك قوله في قصة بريرة فعن عائشة -رضي الله عنها- فقالت أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله صلى اللهم عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى اللهم عليه وسلم ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ثم قام رسول الله صلى اللهم عليه وسلم على المنبر فقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط [رواه البخاري (2735) ومسلم () ]
وحديث أنس -رضي الله عنه- أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فحمد الله وأثنى عليه فقال :"ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" [رواه البخاري (1401)].
ب - وأحياناً يثني على صفة في الشخص ويحثه على عمل بطريقة غير مباشرة، ومن ذلك مارواه عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي بالليل" قال سالم: فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً [رواه البخاري (3738-3739].
ج - وأحياناً يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، عن أنس بن مالك أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه فلما خرج قال:" لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه" [رواه أبو داود (4182)](/4)
د - وأحياناً يخاطب غيره وهو يسمع، عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني لست بمجنون [رواه البخاري (6115) ومسلم (2610)]
9 - استثمار المواقف والفرص:
عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه يوماً وإذا بامرأة من السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته ضمته فقال صلى الله عليه وسلم :"أترون هذه طارحة ولدها في النار" قالوا: لا، قال:"والله لايلقي حبيبه في النار؟" [رواه البخاري ( 5999) ومسلم ( 2754 ).].
فلا يستوي أثر المعاني حين تربط بصور محسوسة، مع عرضها في صورة مجردة جافة.
إن المواقف تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقف يقع التعليم موقعه المناسب، ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة في الذاكرة، تستعصي على النسيان.
والمواقف متنوعة فقد يكون الموقف موقف حزن وخوف فيستخدم في الوعظ، كما في وعظه صلى الله عليه وسلم أصحابه عند القبر.
عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا… ثم ذكر الحديث الطويل في وصف عذاب القبر وقتنته. [رواه ابو داوود (4753)]
ب ـ وقد يكون وقد يكون موقف مصيبة إذا أمر حل بالإنسان، فيستثمر ذلك في ربطه بالله تبارك وتعالى.
عن زيد بن أرقم قال أصابني رمد فعادني النبي صلى الله عليه وسلم ، قال فلما برأت خرجت، قال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟" قال: قلت: لو كانتا عيناي لما بهما صبرت واحتسبت، قال:"لو كانت عيناك لما بهما ثم صبرت واحتسبت للقيت الله عز وجل ولا ذنب لك" [رواه أحمد]
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم مثل هذا الموقف لتقرير قضية مهمة لها شأنها وأثرها كما فعل حين دعائه للمريض بهذا الدعاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جاء الرجل يعود مريضا قال: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا ويمشي لك إلى الصلاة" [رواه أحمد (6564)]
إنه يوصي المسلم بعظم مهمته وشأنه وعلو دوره في الحياة، فهو بين أن يتقدم بعبادة خالصة لله ، أو يساهم في نصرة دين الله والذب عنه .
ج ـ وقد يكون الموقف ظاهرة كونية مجردة، لكنه صلى الله عليه وسلم يستثمره ليربطه بهذا المعنى عن جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال:"إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [رواه البخاري (554) ومسلم]
دـ وقد يكون الموقف مثيراً، يستثير العاطفة والمشاعر كما في حديث أنس السابق في قصة المرأة .
10 - التشجيع والثناء:
سأله أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ يوماً :من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لقد ظننت أن لايسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث" [رواه البخاري ( 99 ) ]. فتخيل معي أخي القاريء موقف أبي هريرة، وهو يسمع هذا الثناء، وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ صلى الله عليه وسلم .بحرصه على العلم، بل وتفوقه على الكثير من أقرانه. وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص والاجتهاد والعناية.
وحين سأل أبيَ بن كعب: "أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟" فقال أبي:آية الكرسي. قال له صلى الله عليه وسلم "ليهنك العلم أبا المنذر" [رواه مسلم ( 810 ) وأحمد ( 5/142 )] ".
إن الأمر قد لايعدو كلمة ثناء، أو عبارة تشجيع، تنقل الطالب مواقع ومراتب في سلم الحرص والاجتهاد. والنفس أياً كان شأنها تميل إلى الرغبة في الشعور بالإنجاز. ويدفعها ثناء الناس -المنضبط- خطوات أكثر.
والتشجيع والثناء حث للآخرين، ودعوة غير مباشرة لهم لأن يسلكوا هذا الرجل الذي توجه الثناء له.
موقع الدويش
http://www.dweesh.net/arb/daweyat.asp?order=3&num=567(/5)
محاضرة
من أسعد الناس
لفضيلة الشيخ
www.almosleh.com
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد ..
فهذا هو اللقاء الثاني من اللقاءات التي نتناول فيها دروساً من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -أيها الإخوة الكرام .. قرأتم ما اختاره إخوانكم عنواناً لهذا اللقاء وهو: من أسعد الناس ؟ إن هذا العنوان اشتمل إشارة إلى ما يسعى إليه الجميع وما يتسابق إليه الناس جميعاً على اختلاف أصولهم وأجناسهم وجهاتهم وألوانهم و ألسنتهم، فالكل يسعى حثيثاً ويسير سيراً حاثاً لإدراك هذه الغاية وهي السعادة. السعادة التي يحصل بها للإنسان نعيم الدنيا، هذا هو حال كثير من الناس في سعيهم وراء هذا الأمر ، فإن كثيراً من الناس يقصرون في طلب السعادة على هذه البرهة القصيرة والفترة الوجيزة من مراحل العمر ومن منازل الإنسان وهي منزلته في هذه الدنيا ، وهذه الدنيا وصفها الله جل وعلا فقلل شأنها في كتابه وبين أنها متاع قليل ، فمهما كانت من الكمال والصفاء والجودة والجمال فإنها مؤذنة بالزوال ، وهي راحلة ومنتقلة ، ينتقل منها الناس ويصيرون إلى دار يستقرون فيها هي التي ينبغي لهم أن يسعوا إلى تحقيق السعادة فيها .
إن الناس أيها الإخوة في هذه الدنيا يفسرون السعادة بتفسيرات عديدة ، فمنهم من يرى السعادة جمع المال ، ومنهم من يرى السعادة جمال المنظر ، ومنهم من يرى السعادة جمال المركب ، ومنهم من يرى السعادة في الجاه والمنصب ، وكل هؤلاء أصابوا شيئاً وأخطؤوا أشياء ، فإن هذه الأمور وإن كانت من أسباب السعادة في هذه الدنيا لكنها ليست هي السعادة الحقيقية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى لها وأن يحث الخطى في تحصيلها و في إدراكها ولذلك تجد أن كثيرين ممن لم يمكنوا من هذه الأمور أو من أكثرها يلتذون ويجدون من الانشراح والطمأنينة وسعة الصدر والابتهاج والسرور مالا يجده من ملك هذه الأشياء جميعاً أو ملك أكثرها . وذلك يبرهن ويبين أن السعادة ليست في هذه الأشياء ، إنما هذه وسائل وآلات ووسائط قد يدرك بها الإنسان بعض مقصوده ، لكنها لا تكون مقصوداً وغرضاً على أي حال من الأحوال .
أيها الإخوة الكرام .. إن أسعد الناس هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاشك في هذا ، فإن الله جل وعلا قد بين عظيم ما من به على رسوله من السعادة والكمال في انشراح الصدر فقال في سورة من كتابه الكريم : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك صدق الله العظيم وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ صدق الله العظيم الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ } (1). وبهذه الأمور الثلاثة كمل الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أسباب السعادة ؛ شرح له صدره ، فكان من أشرح الناس صدراً وأوسعهم قلباً وأقرهم عيناً وأكملهم حياة - صلى الله عليه وسلم - ثم إن هذه السعادة لم تكن مقتصرة على انشراح الصدر بل هي سعادة موطئة لسعادة عظيمة في الآخرة، فقال جل وعلا: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك صدق الله العظيم وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ صدق الله العظيم الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ صدق الله العظيم وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } (2) فخفف الله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الآثام والأوزار فوضعها عنه - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن محملاً بما يحمله كثير من الناس من الأوزار التي هي من أعظم أسباب ضيق الصدر ، من أعظم أسباب قلة السعادة ، بل آكد أسباب زوالها ، فإن السعادات تذهب وتهرب عند مقارفة السيئات ، ولذلك ذكر الله جل وعلا بعد شرح الصدر تخفيف الوزر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ذكر ثالث ما من به سبحانه وتعالى على رسوله فقال سبحانه وتعالى: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } ولاشك أن رفع الذكر من سعادة المرء ولذلك خصه الله جل وعلا بالذكر .
__________
(1) الشرح : 1-3.
(2) الشرح : 1-4.(/1)
أيها الإخوة إذا كان أكمل الناس سعادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو - صلى الله عليه وسلم - قد حاز من ذلك السبق وحصّل على أعلى درجات الكمال ، فلننظر ما الذي كان يتمتع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسباب السعادة لتحصل لنا ؟ فإن السعادة التي حصلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن لذاته يعني لم يكن أمراً مقترناً بذلك الشخص دون أسباب تؤهل لتحصيله وأسباب تؤدي إلى تلك النتيجة ، إن الله عز وجل قد ذكر في هذه السورة الكريمة السبب الذي حصل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعادة ، فبعد أن ذكر تلك المنن الثلاث التي افتتح بها السورة ، قال جل وعلا في آخرها : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ صدق الله العظيم وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } (1) هذا هو سبب السعادة وسر ذلك الشرح وسبب ذلك التخفيف وسبب رفع الذكر الذي أدركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك من أراد أن يأخذ من السعادة التي نالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا نصيباً فليحرص على سلوك هديه فإنه بقدر التزام الإنسان بهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقدر ما يكون معه من انشراح الصدر وتخفيف الوزر ورفع الذكر ، واستمع إلى ما قال ابن القيم رحمه الله في هذا ، يقول رحمه الله : (( شرح الله صدر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم الشرح ، ووضع عنه وزره كل الوضع ، ورفع ذكره كل الرفع ، وجعل لأتباعه - أي لمن اقتفى أثره وآمن به واهتدى بسنته - حظاً من ذلك - يعني من الشرح و من وضع الوزر و من رفع الذكر - إذ كل متبوع فلأتباعه حظ ونصيب من حظ متبوعيهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له فأتبع الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرحهم صدراً و أوضعهم وزراً وأرفعهم ذكراً )) وهذا فضل من الله الذي منّ به على الأمة، أن جعل ما من به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تلك المنن ومن تلك المنح ومن تلك الفضائل يمكن للعبد أن يدركها بسلوك سبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يفعل كما فعل وأن يعتقد كما اعتقد ، وأن يعمل كما عمل ، فبقدر متابعة الإنسان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً ، حالاً واجتهاداً ، بقدر ما يكون له من ذلك نصيب من السعادة التي نالها - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: (( وكلما قويت متابعة العبد علماً وعملاً وحالاً واجتهاداً، قويت هذه الثلاث - التي هي شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر - حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدراً وأرفعهم في العالمين ذكراً)) نسأل الله عز وجل من فضله.
أيها الإخوة الكرام ، إن الله جل وعلا قد أمرنا باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبان لنا في كتابه الحكيم فوائد ذلك حثاً لنا على المسابقة إلى هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن جملة مابينه سبحانه وتعالى لنا من فضائل اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره في قوله آمراً عموم الناس: ? فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ? ثم قال: ? وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ?(2).
__________
(1) الشرح : 7-8.
(2) الأعراف : 158.(/2)
أيها الإخوة إن الهداية أعظم مطلوب يطلبه الناس في هذه الدنيا ، ولما كانت الهداية إلى الصراط المستقيم أعظم مطلوب ، كان سؤالها في أعظم سورة ، سورة لم يقرأ مثلها في التوراة والإنجيل ظن في سورة تتكرر في صلاتك مرات في اليوم إما قراءة أو تأميناً في قوله تعالى: ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صدق الله العظيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } (1). هذه الهداية التي نسألها الله عز وجل في كل ركعة من صلاتنا ، لفظاً أو تأميناً سبيل تحصيلها اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال الله جل وعلا: { وَاتَّبِعُوهُ } أي واتبعوا هذا النبي الأمي ?لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ? أي رجاء أن تحصل لكم الهداية ، ومما حث الله سبحانه به هذه الأمة على اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن جعل اتباعه والاستجابة لندائه - صلى الله عليه وسلم - سبباً للحياة الكاملة والحياة الطيبة فقال الله جل وعلا مخاطباً المؤمنين ومنادياً أهل الإيمان: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } (2) أمر الله جل وعلا في هذه الآية بالمسارعة إلى الاستجابة إلى الله ورسوله ، ثم بين ما الذي يدعونا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره ونهيه وفي قوله وتركه وفي فعله في كل ما دعانا إليه قولاً وفعلاً ، ما الذي يريده - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ؟ انه يريد لنا الحياة الكاملة ، يريد لنا الحياة الكاملة في هذه الدنيا والحياة الكاملة في الآخرة ، أما الحياة الكاملة في الدنيا فإن أسعد الناس وأكملهم حياة هم أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالحياة الكاملة إنما تحصل بالاستجابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أما الآخرة فأتباعه لهم الجنة ، التي قال جل وعلا في وصفها: { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } (3) انظر كيف قال: ?الْحَيَوَانُ? ، أتى بصيغة فَعَلان التي هي تدل على امتلاء الحياة أي الحياة الكاملة التامة التي يتمتع بها الإنسان وينال فيها كمال مبتغياته هي الدار الآخرة وذلك في الجنة نسأل الله أن نكون من أهلها فإذا كان هذا شأن الإنسان في هذه الدنيا إذا اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا شأنه إذا اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة أي أن الله يجزيه الحيوان وهي الجنة التي أعد الله فيها لعباده المتقين الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، كان هذا حافزاً لأولي الألباب وأصحاب البصائر والعقول الذين تنفذ بصائرهم وأبصارهم من هذه الدنيا إلى الآخرة ، كان حافزاً إلى مزيد من عمل صالح واقتفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر والباطن ، واعلم أن كل هدي ، وكل سنة صغيرة أو كبيرة ظاهرة أو باطنة ، دقيقة أو جليلة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من أسباب الحياة فبقدر أخذك من سننه وهديه وعمله - صلى الله عليه وسلم - بقدر ما تأخذ من أسباب الحياة الدنيا ومن أسباب الحياة في الآخرة ، إن مما حث الله سبحانه وتعالى به أهل الإسلام وحث به من قرأ القرآن أن رتب على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الفلاح فقال: ? فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? (4) أي الذين أدركوا الفلاح الكامل ، والفلاح هو من أتم ومن أبلغ كلمات العرب في حصول المقصود ( المرغوب ) والأمن من المرهوب، لأن من أفلح فقد أدرك رغبته وحصل طلبته وأمن مما يخاف ويحذر ، ولذلك إذا اخبر الله بالفلاح للعبد فإنه قد بلغ الغاية في النعيم وقد بلغ الغاية في تحصيل مطلوباته والأمن مما يكره ، أولئك هم المفلحون لماذا لأنهم آمنوا بالله عز وجل آمنوا برسوله - صلى الله عليه وسلم - وعزروه ونصروه وأتبعوا النور الذي أنزل معه والنور الذي أنزل معه هو كتاب الله عز وجل وهو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - السنة التي جاء بها - صلى الله عليه وسلم -. إن مما حث به ربنا سبحانه وتعالى الناس من إتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جعل إتباعه - صلى الله عليه وسلم - سبباً لمحبته جل وعلا فقال سبحانه وتعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (5) فبقدر ما معك من إتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدر ما يكون معك من محبة الله والإنسان يسعى لأن يكون محبوباً لله عز وجل إذا كنت ممن يسعى لذلك فاحرص على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) الفاتحة:6-7.
(2) الأنفال : 24.
(3) العنكبوت: 64.
(4) الأعراف : 157.
(5) آل عمران : 31.(/3)
أيها الأخوة إن النصوص التي حث الله عز وجل فيها هذه الأمة على إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جداً ولا نستطيع على أن نأتي على أكثر مما ذكرنا لقصر الوقت . إلا أن في سيرة الصحابة وفيما عملوه وفيما حفظته دواوين السنة لنا من هديهم في إتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جنوا به من البركات والخيرات شاهد على ذلك فإن جيل الصحابة أكمل الأجيال وهو خير القرون كما قال - صلى الله عليه وسلم - (( خير أمتي قرني ثم اللذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))(1) خيريتهم لم تكن لأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وفلان من الصحابة إنما خيريتهم بما كانوا عليه من العمل بالمسابقة باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة لهم تمام انقياد لما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة فما كان من الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن خلعوا نعالهم تأسياً واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس الخاتم فلبسوه ، خلع الخاتم فخلعوه ، وهكذا هم في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي لشدة تأسيهم به ونظرهم إلى أفعاله ، ليقتدوا بها ويتأسوا ، ومن عجيب ما حفظوه لنا أن حفظوا لنا عدد ما في لحيته ورأسه من الشيب فحفظوا أن ما في لحيته ورأسه سبع شعرات من الشيب فقط لا غير ، وهذا دليل على أن الصحابة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت المجهر عندهم يرقبون فعله وينظرون إلى ما يفعل ويبادرون ، ليس نظر ترفه وتفكه وحب استطلاع إنما نظر إتباع واهتداء ، فكانوا يقتدون به ويهتدون به في دقيق الأمر وجليله.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات برقم 2458.(/4)
أيها الأخوة الكرام إن سؤالا يتبادر إلى الأذهان ولابد له من جواب ، لماذا إذا كان الوضع كذلك وإذا كانت هذه النصوص واضحة في إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسعد الناس وأنه - صلى الله عليه وسلم - حصل الكمال في انشراح الصدر - صلى الله عليه وسلم - وأن طريق السعادة هي الطريق التي سلكها - صلى الله عليه وسلم - . لماذا يتخلف كثير من الناس عن سلوك هذا الطريق ؟ إن الجواب على هذا السؤال هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في صحيحه : (( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ))(1) إن الطريق فيه نوع صعوبة لاسيما في مباديه ، لما كان الطريق أيها الأخوة الطريق في تحصيل هذه السعادة فيه عسر وصعوبة ، يحتاج إلى مجاهدة النفس ، يحتاج إلى أن يتخلى الإنسان عن مألوفة وما اعتاده وما شب عليه وربى إلى النظر في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيامه وقعوده وفي ذهابه ومجيئه في دخوله وخروجه في نومه واستيقاظه في معاملته لربه ومعاملته للخلق في جميع شأنه إذا نظر إلى ذلك فإنه يحتاج إلى عزم أكيد ورغبة صادقة وجهد متواصل لإدراك ذلك الذي قرأه واطلع عليه ولما كان الأمر يعسر على كثير من الناس كان أكثر الناس في تخلف عن سلوك هذا الطريق لكن يا أخي اسلك هذا الطريق واستعن بالله عز وجل ، فإن الله سبحانه وتعالى إذا علم من عبده الصدق يسر له سبل الهدى ويسر له سبيل الخير وأعانه وجعله يجني من ثمرات وبركات إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً كثيراً في الدنيا يعينه ذلك على مواصلة الإتباع والاهتداء بهديه - صلى الله عليه وسلم - فأحثكم يا أخواني على قراءة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ سنته ومطالعة هديه فإن السلف الصالح كانوا يمضون أوقات طويلة ويمضون أعمار مديدة في حفظ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي العمل بها وفي طلبها وكان أحدهم إذا بلغه الحديث عمل به لكونه سمعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان في نفسه شيء من معناه حتى أن الإمام أحمد رحمه الله عمل بسنة قال: لم أعمل بها إلا مرة واحدة لما بلغني الحديث وكان رأيه رحمه الله خلافاً لما دل عليه الحديث لأحاديث أخرى لكنه لم تطب نفسه أن يترك تلك السنة وقد بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها نص أو عنه - صلى الله عليه وسلم - حديث ينبغي لنا أيها الإخوة أن نحرص على الاهتداء بهديه - صلى الله عليه وسلم - وأن نحتسب الأجر في ذلك عند الله سبحانه وتعالى والطريق ولله الحمد ميسر وسهل لكن يحتاج إلى عزيمة وجد وصدق رغبة والإنسان إذا استعان الله أعانه ، فليقرأ مثلاً من الكتب الميسرة في عرض سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه كتاباً لابن القيم رحمه الله زاد المعاد في هدي خير العباد فإنه من أنفع الكتب التي جمعت لنا هديه - صلى الله عليه وسلم - وسيرته ، من ذلك أيضاًَ الكتب التي حفظت لنا نصوص أفعاله وأقواله - صلى الله عليه وسلم - كرياض الصالحين وبلوغ المرام ، وما أشبه ذلك من الكتب التي ملئت بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يعين الإنسان على اقتفاء هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحضر مجالس العلم وأن يسمع أشرطة العلم فإن فيها من بيان هديه - صلى الله عليه وسلم - وسنته ما يعين الإنسان على اقتفاء هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -واعلم يا أخي أنك لن تحصل بركة اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل سنة أو سنتين مرة أو مرتين بل داوم واستمر وجاهد فإنك إذا استمررت على ذلك وصبرت وجدت بركة ذلك بعد حين ، فأسأل الله عز وجل أن يبلغنا وإياكم هدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يعيننا على التزام سنته وأن يسلك بنا سبيله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها برقم 5049.(/5)
من أمثال القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإن "التمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم"1 «ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المِثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد».2
لحكم بالغة فقد أكثر سبحانه وتعالى من ضرب الأمثال في القرآن ، لما لها من قدرة على الكشف والبيان، وتقريب المعاني بصورة المحسوسات، لأن الأفكار والمعاني ، قد لا تفهم بالمقال أو الخطاب المجرد، بينما إذا مثلت بصورة مشابهة لشيء محسوس مرئي أو مسموع، فإن العقول تتقبل ذلك المعنى وتستحضره، لميل النفوس إلى المحسوس، ولأن صورة المحسوس والمشاهد تبقى في الذهن وتنطبع فيه، في حين تضمحل فيه الألفاظ والكلمات المجردة..
وقد ذكر الله -عز وجل- كثيراً من الأمثال؛ سناء "لا يخفى ونوراً لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد..."3 إضافة إلى بلاغتها وفصاحتها.
وسوف نذكر بعض تلك الأمثال-إن شاء الله- مع بيان معانيها من كلام أئمة التفسير عليهم رحمة الله.
المثل الأول:
قال الله –تعالى- عن المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} (17) سورة البقرة.
قال ابن كثير -رحمه الله-: (وتقدير هذا المثل أن الله –سبحانه- شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها، فبينا هو كذلك إذا طفأت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد)4
ويدلنا هذا على خطورة الانتكاس عن الحق والرجوع إلى الباطل، وأن هؤلاء المنافقين كانوا على الإسلام ولكنهم استبدلوه بنفاق؛ كما قال -تعالى-: ((وكفروا بعد إسلامهم)) في سياق ذكر المنافقين.
قال ابن مسعود وغيره من الصحابة في قول الله: (( فلما أضاءت ما حوله)) أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله من قذىً أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفأت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: (أما النور فهو إيمانهم الذين كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك).5
فاتضح -من خلال كلام علماء التفسير- أن هذا مثل ضربه الله للمنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى، وكانوا في بادئ الأمر قد دخلوا في الإسلام، ثم كفروا بعد إسلامهم وارتدوا على أعقابهم..
وقد ذهب ابن جرير إلى أنهم أصلاً لم يؤمنوا وإنما دخلوا في الإسلام نفاقاً من أول الأمر، واستدل بقوله –تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (8) سورة البقرة، فبين الله أنهم يزعمون الإيمان، وهم في الحقيقة لم يؤمنوا، وقد قال ابن كثير: والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية هاهنا وهي قوله –تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (3) سورة المنافقون6
المثل الثاني:
قوله-تعالى- في المنافقين أيضاً: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (19-20) سورة البقرة.(/1)
وهذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وقوله: (كصيِّب): الكاف للتشبيه أي: مثل صيب، والصَّيِّب هو المطر، كما قاله جمع من علماء السلف والخلف، وقيل السحاب، والأول أصح وهو قول الجماهير..
قوله: (فيه ظلمات): أي ظلمات الشكوك والكفر والنفاق، وقوله: (ورعد) وهو ما يزعج قلوب المنافقين من الخوف؛ لأن المنافقين (يحسبون كل صحية عليهم) فكل خبر ونبأ يتوهمون أنه واقع بهم، وأن كل مصيبة تحل بهم؛ فلهذا هم في خوف دائم، وقلق مستمر؛ بسبب عدم الصراحة، فلا إيمان صادق.. ولا كفر واضح! لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وقوله: (وبرق) وهو نور القرآن العظيم والوحي الشريف، الذي يلمع أحياناً في قلوبهم، ولكن سرعان ما يذهب بسبب عدم قابلية المكان..
قال ابن القيم -رحمه الله-: ( ثم ضرب الله -سبحانه- لهم مثلاً آخر مائياً فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} فشبه نصيبهم مما بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفأت عنه أحوج ما كان إليها، فذهب نوره، وبقي في الظلمات حائراً تائهاً، لا يهتدي سبيلاً، ولا يعرف طريقاً، وبنصيب أصحاب الصيب، وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من علو إلى أسفل، فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب؛ لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب، من حياة البلاد والعباد، والشجر والدواب، فإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب، فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق، ولوازم ذلك: من برد شديد، وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، هكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب، وهذه حال أكثر الخلق إلا من صفت بصيرته).7
قال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-: (وشبه الله –تعالى- في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.. فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به، وقيل: مثَّل الله -تعالى- القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تبهرهم هو البرق، والصواعق مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل، وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما).8
وقوله -تعالى-: (حذر الموت) حَذَرَ: منصوب؛ لأنه مفعول لأجله، أي: سبب جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق؛ لأجل خوفهم من الموت.
وقوله-تعالى-: (والله محيط بالكافرين) أي لا يجدي عنهم حذرهم ذلك، فإنهم لن يفوتوه ولن يفلتوا من قبضته وقهره –سبحانه-، وكما قال –تعالى- في الآية الأخرى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ}(19-20) سورة البروج، فلا ملجأ منه إلا إليه تبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره.
قوله-تعالى-: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) أي يقارب البرق من قوة لمعانه وشدة إضاءته أن يخطف أبصارهم، والخطف: الأخذ بسرعة.. والمقصود أن حجج القرآن وبراهينه الساطعة تكاد تبهرهم.. ومن جعل البرق مثلاً للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم.9
وقوله: ( كلما أضاء لهم مشوا فيه) أي كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزلت من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه (قاموا) أي ثبتوا على نفاقهم، قاله ابن مسعود وقتادة -رضي الله عنهم- قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (11) سورة الحج.
وقوله -تعالى-: ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم) أي ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام، بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم.10
حكم عظيمة:
اشتمل المثالان السابقان على حكم عظيمة:
الأولى: أن المستضيء بالنار مستضيء بالنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة.. وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه وتصديق جازم كان ما معه من النور كالمستعار.(/2)
الثانية: أن دوام ضياء النار يحتاج إلى مادة تحمله كالزيت والغاز وو..، وتلك المادة بمنزلة الغذاء للحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع، والعمل الصالح، يقوم الإيمان بها ويدوم بدوامها، فإذا لم توجد مادة الإيمان طفئ كم تطفأ النار بفراغ مادتها.
الثالثة: أن الظلمة نوعان: ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور، وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه، فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة، فمثلت حاله بحال مستوقد النار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط.
الرابعة: في هذا المثل تنبيه إلى حال المنافقين في الآخرة، وأنهم يعطون نوراً ظاهراً كما كان نورهم في الدنيا ظاهراً، ثم يطفأ ذلك أحوج ما يكونون إليه، إذ لم تكن له مادة باقية تحمله، وهي الإيمان والعمل والعلم، وبقوا في الظلمة على جسر جهنم لا يستطيعون العبور.11
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين، اللهم أصلح قلوبنا، ونقها من الذنوب والمعاصي واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
________________________________________
1 -تفسير ابن عاشور
2 -«الكشاف» نقلا عن تفسير ابن عاشور
3 -«روح المعاني» للألوسي
4- تفسير ابن كثير 1/56. ط/ دار المعرفة.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.
7- التفسير القيم (118-119) ط: دار الفكر 1408هـ.
8- الجامع لأحكام القرآن (1/219-220).
9- المصدر السابق.
10- المصدر السابق.
11- هذه الحكم ذكرها ابن القيم في( التفسير القيم ص120-121).(/3)
من الإعجاز العلمي في الطب النبوي التداوي بألبان الإبل وأبوالها
إعداد/ زكريا حسيني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه. وبعد:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم ناس من عُكْلٍ أو عُرَيْنَةَ، فاجتوَوُوا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلِقَاحٍ، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واسْتَاقُوا النَّعَم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهارُ جيء بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِّرَتْ أعْيُنُهم وأُلْقُوا في الحرَّة، يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَوْنَ.
قال أبو قِلابَةَ: فهؤلاء سَرقُوا، وقتلُوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا اللَّه ورسوله.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بالأرقام: [233، 1501، 3018، 4192، 4193، 4610، 5685، 5686، 5757، 6802، 6803، 6804، 6805، 6899]. كما أخرجه الإمام مسلم في كتاب الحدود من صحيحه برقم [1671/9 - 14]، وأخرجه الإمام أبو داود برقم (4364)، والإمام الترمذي في الطب برقم (2042)، والإمام النسائي في المحاربة بالأرقام (4029 - 4048)، والإمام ابن ماجه في الطب برقم (3503)، والإمام أحمد في المسند [1/192، 3/107، 161، 177، 198، 205، 287، 290، 370].
شرح الحديث
قول أنس رضي الله عنه: «قدم أناس» أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله: «من عُكْلٍ أو عُرَيْنة» قال الحافظ في الفتح: الشك من حماد، ثم ساق الروايات التي بها شك، والروايات التي اقتصرت على إحداهما، ثم قال: وفي المغازي: «من عكل وعرينة» بالواو العاطفة، وهو الصواب، ويؤيده ما رواه أبو عَوَانة والطبري من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، ولا يخالف هذا ما عند المصنف في الجهاد، وفي الديات عن أبي قلابة عن أنس: «أن رهطًا من عكل ثمانية» لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين وكان من أتباعهم فلم ينسب، وزعم ابن التين تبعًا للداودي أن عرينة هي عكل، وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، عكل من عدنان وعرينة من قحطان، وقد روي أن قدومهم كان في سنة ست من الهجرة بعد غزوة (ذي قَرَدٍ) أو بعد الحديبية، والله أعلم. انتهى من الفتح باختصار.
قوله: «فاجْتَووُا المدينة». قال ابن فاس: يقال: اجتويت البلاد إذا كرهتها وإن كنت في نعمة، قال: ومن هذا الجَوَى وهو داء القلب. وقال ابن الأثير في النهاية: اجْتَوَوا أي أصابهم الجَوَى، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول. ونقل ابن حجر عن ابن العربي: الجوى داء يأخذ من الوباء، قال ابن حجر: وفي رواية أخرى هي رواية أبي رجاء: «استوخموا المدينة». وهو بمعنى «اجتووا»، وللمصنف في كتاب الطب: «إن ناسًا كان بهم سقم قالوا: يا رسول اللَّه، آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة».
والظاهر أنهم قدموا سِقَامًا فلما صَحُّوا من السَّقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، فأما السقم الذي كان بهم فهو الهزال الشديد والجهد، فعند أبي عوانة: «كان بهم هزال شديد»، وعنده أيضًا: «مصفرة ألوانهم»، وأما الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حمى المدينة كما عند أحمد من حديث أنس، ووقع عند مسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس: «وقع بالمدينة المُوْمُ» أي البِرْسَام (وهو سريان معرب) أطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس، وعلى ورم الصدر، والمراد هنا الأخير، فعند أبي عوانة في هذه القصة: «فعظمت بطونهم».
قوله: «فأمرهم بلِقَاحٍ»، وللبخاري في رواية قتادة: «فأمرهم أن يلحقوا براعية»، وله عن حماد: «فأمر لهم بلِقَاح». وفي رواية أيوب أنهم قالوا: «يا رسول اللَّه أَبْغِنِا رِسْلاً» أي اطلب لنا لبنًا، قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود».
واللِّقَاحُ: جمع لِقْحَةٍ؛ وهي النوق ذات الألبان، قال الحافظ: قال أبو عمرو: يُقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون. وظاهر ما مضى أن اللقاح كانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وصرح بذلك في كتاب المحاربين: «إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم »، وللبخاري في رواية أخرى في كتاب المحاربين: «فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة والجمع بينهما: أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه فخرجوا معه ففعلوا ما فعلوا».
قوله: «وأن يشربوا»: أي وأمرهم أن يشربوا، وللبخاري في رواية أبي رجاء: «فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها» بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة عن قتادة: «فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا». فأما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل، وأما شربهم لبن لِقاحِ النبي صلى الله عليه وسلم فبإذنه المذكور.(/1)
قال الحافظ في الفتح: وأما شربهم البول فاحتج به من قال بطهارته، أما من الإبل، فبهذا الحديث، وأما من مأكول اللحم فبالقياس عليه. اهـ.
قوله: «فلما صحوا» في السياق حذف تقديره: «فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا».
قوله: «واستاقوا النَّعَم» من السَّوْقِ وهو السير العنيف.
قوله: «فجاء الخبر»، وفي رواية وهيب عن أيوب «الصَّريخُ» وهو فعيل بمعنى الفاعل أي أنه صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ أحد الراعيين كما ثبت في صحيح أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة عن أنس: «فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد جزع فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل».
قوله: «فبعث في آثارهم». زاد في رواية الأوزاعي «الطلب»، وفي حديث سلمة بن الأكوع: «خيلاً من المسلمين أميرهم كرز بن جابر الفهري»، وفي رواية النسائي: «فبعث في طلبهم قافة» جمع قائف وهو الذي يقفو الأثر ويقتصه.
قوله: «فلما ارتفع» فيه حذف تقديره فأُدْركوا في ذلك اليوم فأخُذوا، فلما ارتفع النهار جيء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسارَى.
قوله: «فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم»، وفي معظم الروايات فقطع أيديهم وأرجلهم، وللبخاري: ولم يحسمهم، أي يكون قطع منهم بالنار ليقطع الدم بل تركه ينزف.
قوله: «وسُمِّرتْ أعينهم» بتشديد الميم، وفي رواية أبي رجاء: «وسَمَرَ» بتخفيف الميم، وروايات البخاري كلها بالراء، وأما مسلم ففي رواية عبد العزيز عنده: «سَمَلَ» باللام، قال الخطابي: والسَّمْلَ فقءُ العين بأي شيء كان.
قوله: «وألقوا بالحرة» هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة، وقد ألقوا فيها لأنها بالقرب من المكان الذي فعلوا فيه فَعْلتهم.
قوله: «يَسْتَسقُون فلا يُسْقَوْن». زاد ابن وهب: «حتى ماتوا»، وفي رواية أبي رجاء: «ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا»، وفي رواية شعبة عن قتادة: «يَعَضُّون الحجارة»، وفي الطب قال أنس: «فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت».
ثم ساق ابن حجر أقوال القائلين بنسخ المثلة والنهي عنها، وأقوال القائلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل بهم ذلك لأنهم كذلك فعلوا بالراعي أو الرِّعاءِ.
قوله: «قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا» لأنهم أخذوا اللقاح من حرز مثلها.
قوله: «وقتلوا» أي الرعاء أو الراعي.
قوله: «وحاربوا اللَّه ورسوله»، ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس في أصل الحديث: «وهربوا محاربين».
قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث غير ما تقدم:
1- قدوم الوفود على الإمام.
2- نظره في مصالحهم.
3- مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها.
4- وأن كل جسد يُطَبُّ بما اعتاده.
5- قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة.
6- المماثلة في القصاص وليس ذلك من المثلة المنهي عنها.
7- جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وغيره.
8- العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة.
التداوي بألبان الإبل
هذا، وقد عنون الإمام ابن القيم في زاد المعاد لهذا الحديث بقوله: «فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في داء الاستسقاء وعلاجه، ثم ساق الحديث برواية الصحيحين، ثم قال: والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء ما رواه مسلم في صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا: إنا اجتوينا المدينة، فعظمت بطوننا، وارتهشت أعضاؤنا، وذكر تمام الحديث. ولقد بحثت في صحيح مسلم فلم أجد هذا اللفظ، وإنما لفظ: «اصفرت ألوانهم وعظمت بطونهم» كما سبق بيانه في رواية النسائي وعند أبي عوانة كما وضحه الحافظ في الفتح.
ونقل ابن القيم عن الرازي قوله: لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد، وفساد المزاج، ونقل عن الإسرائيلي قوله: «لبن اللِّقاح أرقُّ الألبان، وأكثرها مائية وحدَّةً، وأقلها غذاءً، فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول وإطلاق البطن، وتفتيح السدود، ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع، ولذلك صار أحض الألبان بتطرية الكبد، وتفتيح سددها، وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثًا، والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع، مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحته، وتقطيعه الفضول وإطلاق البطن.
ثم نقل عن صاحب القانون (ابن سينا): ولا يلتفت إلى ما يقال، من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الاستسقاء. قال: واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق، وما فيه من خاصية، وأن هذا اللبن شديد المنفعة، فلو أن إنسانًا أقام عليه بدل الماء والطعام شُفِيَ به، وقد جرب هذا في قوم دُفِعوا إلى بلاد العرب، فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعوفوا، وأنفع الأبوال: بول الجمل الأعرابي، وهو النجيب. اهـ.
«من الأبحاث الطبية الحديثة»(/2)
في مقال بجريدة الاتحاد في عددها 9515 بتاريخ 24/7/2006 تتناول دراسة الدكتور محمد مراد في مجال الطب والصحة إلى أنه في الماضي استخدم العرب حليب الإبل في معالجة الكثير من الأمراض ومنها: أمراض المعدة، والأمعاء، والاستسقاء، وأمراض الكبد، وخاصة اليرقان، وتليف الكبد، وأمراض الربو وضيق التنفس، ومرض السكرى، كما استخدم لمعالجة الضعف الجنسي، كما أنه يساعد على نمو العظام عند الأطفال، ويقوي عضلة القلب، وجاء في دراسته أن أبوال الإبل استخدمت - كمادة مطهرة للجروح والقروح، ولنمو الشعر ولتقويته، وتكاثره ومنع تساقطه، وكذا لمعالجة مرض القرع والقشرة. إلخ.
وأشارت دراسات أخرى للباحث «محمد أوهاج» أنه توصل إلى أن بول الإبل يشفي من طائفة من أمراض الجهاز الهضمي، وعلى رأسها التهاب الكبد.ويقول الباحث «محمد أوهاج»: إن التحاليل المخبرية تدل على أن بول الجمل يحتوي على تركيز عالٍ من البوتاسيوم والبولينا والبروتينات الزلالية، والأزمولارتي وكميات قليلة من حمض البوريك والصوديوم والكرياتين، وأوضح الباحث أن الذي دعاه إلى تقصي خصائص بول الإبل العلاجية هو أنه رأى أفراد قبيلة يشربون ذلك البول حينما يصابون باضطرابات هضمية، واستعان ببعض الأطباء لدراسة البول الإبلي فأتوا بمجموعة من المرضى وسقوهم ذلك البول لمدة شهرين وكانت النتيجة أن معظهم تخلصوا من الأمراض التي كانوا يعانون منها، أي أنه ثبت علميا أن بول الإبل مفيد إذا شُرِبَ على الريق، كما توصل «أوهاج» إلى أن بول الإبل يمنع تساقط الشعر.
وهناك دراسات للدكتور عبد العاطي كامل رئيس بحوث الأبقار بمركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة أثبت فيها أن ألبان الإبل تحتوي على كمية فائقة من فيتامين «ج» وهو الأمر الذي يجعل لألبان الإبل أهمية عظيمة لسكان المناطق الصحراوية التي لا توجد فيها الخضروات الورقية الطازجة والفواكه، كما أشار الدكتور عبد العاطي كامل إلى أن معدلات الفيتامينات والمعادن في ألبان الإبل تتفوق على مثيلاتها في ألبان البقر والغنم حتى تصل إلى ثلاثة أضعاف ما في البقر والغنم، بل وتصل إلى ضعف ونصف ما في ألبان الأمهات من النساء.
وثَمَّ دراسة لعميد كلية المختبرات الطبية بجامعة الجزيرة السودانية البروفيسور أحمد عبد الله أحمداني كشف فيها عن تجربة علمية باستخدام (بول الإبل) لعلاج أمراض الاستسقاء وأورام الكبد أثبتت نجاحها لعلاج المرضى المصابين بتلك الأمراض.
وهناك دراسات كثيرة في كثير من البلاد منها في السعودية حتى توصلت الدكتورة أحلام العوضي إلى استخدام بول الإبل في علاج الأمراض الجلدية، وفي اكتشاف آخر توصلت إلى علاج يكافح الأمراض وهو عبارة عن سلالات بكتيرية معزولة من بول الإبل، وهناك مجموعة من الباحثات السعوديات بكلية البنات بجدة تشرف عليهن الدكتورة أحلام العوضي، وأثبتت دراسة لإحدى الباحثات التي تشرف عليها الدكتورة العوضي: أن بول الإبل يحتوي على عدد من العوامل العلاجية كمضادات حيوية (البكتريا الموجودة به، والملوحة واليوريا).
وفي دراسة مصرية أشارت إلى أن ألبان الإبل هي أفضل غذاء للمخ والأعصاب وللوقاية من السكر والكوليسترول.
وأوضح باحثون في كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة أن حليب النوق يحتوي على بروتينات تشبه في عملها هرمون الأنسولين المنظم لسكر الدم إلى جانب العديد من الأملاح المعدنية المفيدة كالفسفور والمنجنيز والحديد والبوتاسيوم، ونبه الباحثون إلى أن لحليب الإبل خصائص طبية كثيرة تجعله مناسبًا لعلاج أمراض الاستسقاء واليرقان ومشكلات الطحال والسل والربو والأنيميا والبواسير، وتحسين وظائف الكبد وأمراض الربو ومرض السكري وعلاج نزلات البرد والنزلات الشعبية إضافة إلى قرحة المعدة والسرطان وأمراض الكبد والتهاباته.
موقف بعض المسلمين من الطب النبوي(/3)
لقد اعتاد كثير من المسلمين وخاصة منهم من تربى تربية غربية أو شرقية ـ اعتادوا على التنكر لما ينسب إلى دين الإسلام ونبي الإسلام ولا سيما في المجالات الطبية وغيرها، ومع وجود هذه الأبحاث والدراسات، فإن بعض المسلمين لا يزالون يعيشون بمنأى عنها وعن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكتب بعضهم يقول: النبي لم يبعث طبيبا وإنما بعث هاديا، وهذه بلا شك كلمة حق ولكن أريد بها باطل، أريد بها رد ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من كلام في الطب، وأيد الكاتب كلامه بقوله: يكفينا قول الرسول: «أنتم أعلم بشئون دنياكم». وهنا يتضح ما رمى إليه هذا الكاتب وقد صرح بأن الذين يذهبون إلى التداوي بألبان الإبل وأبوالها أناس خرافيون، يلجأون إلى الخرافة، والكاتب ليس وحده في ذلك وإنما نسمع ونقرأ بين الحين والحين من يردد هذا الكلام ويحاول أن ينتصر له، وينضم إلى أولئك بعض الأطباء؛ ومن يتكلم في ذلك من الأطباء؛ فهو أحد صنفين: إما مشفق على نفسه من انقطاع الرزق بانصراف المرضى عنه، وإما حرصًا على المهنة وعدم تكديرها بشيء خارج عنها فيما يزعم، ولقد رأيت عددًا من الأطباء يذهبون للتداوي بألبان الإبل وأبوالها، فبعضهم يذهب على استحياء، ويتكتم على الخبر لا يريد أن يعرف زملاؤه عنه شيئا، فأحدهم قال لي: إن زميله أشار عليه بعد أن اكتشف ورمًا في الكبد أن يذهب ليبحث عن التداوي بالألبان والأبوال، ولكنه كان متحرجا في أن يشير عليه بذلك ولقد رأيت في رحلتي الأخيرة إلى منطقة مطروح أكثر من مائة وعشرين مريضا يترددون على صاحب مزرعة الإبل التي نشرب فيها اللبن والبول، وهم من جميع فئات الشعب منهم ثلاثة أطباء أحدهم مدير مستشفى مركزي بإحدى محافظات مصر، ومنهم لواءات شرطة ولواءات جيش ومهندسون ومن كل الفئات.
ولكن من تربوا على المكابرة، ورَدِّ كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يصفونهم بأنهم مخرفون ويستنكرون هذا الدواء، بل إنهم ينكرون أن يكون القرآن شفاءً للأبدان، قائلين إن القرآن نزل هداية، والمراد بالشفاء فيه الهداية من الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى... إلخ، وهؤلاء الذين ينكرون شفاء القرآن للأبدان، وينكرون ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطب ويزعمون أن القرآن ما أنزل إلا للهداية وكذلك النبي ما أرسل إلا لهداية الناس، نقول لهم ليتكم اهتديتم في حياتكم بهدي القرآن وبهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم في وادٍ والقرآن والسنة في وادٍ آخر، وأما أن القرآن فيه شفاء للأبدان فهذا ثابت بالقرآن والسنة، وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأدوية وأشفية فهذا ثابت في الصحيحين وكتب السنن والمسانيد ودواوين الإسلام، كالتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وبالحبة السوداء، وبالتلبينة، وبالحجامة، والكحل والإثمد، والمنِّ، والقسط الهندي، وإطفاء الحمى بالماء، إلى غير ذلك.
لكن قومنا اعتادوا ألا يصدقوا شيئا إلا إذا جاء من الغرب أو الشرق أي من الإفرنج، فيثقون فيه ويعملون به، وكأن رسولنا صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نصدقه إلا إذا صدقه الغرب، فلو علمنا وفهمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى، ولكن غيره إنما يتكلم بالتجارب والظنون، ثم إننا لو علمنا أن الغرب إنما أخذ عنا هذه العلوم وعمل على تطويرها، وأن الأصل عندنا لوثقنا فيما عندنا وعلمنا أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل، وأفدنا منه، بدلا من البدائل الكيماوية التي تدمر حياتنا وأجسامنا وأصبح ضررها أكثر من نفعها، إن ديننا هو الحق وكلام ربنا حق وسنة نبينا حق، وماذا بعد الحق إلا الضلال!!
نسأل الله تعالى أن يوفقنا والمسلمين لما يحب ويرضى وأن يردنا إلى دينه ردًا جميلا، وأن يهدي ضال المسلمين إلى صراطه المستقيم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(/4)
من الإعجاز العلمي في الطب النبوي«الحبة السوداء شفاء من كل داء»
إعداد/ زكريا حسيني
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام
على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر
الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
عن أبي هريرة رضي
الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الحَبَّةِ السوْدَاءِ
شِفَاءٌ من كل دَاءٍ إلاَّ السَّام». قال ابن شهاب: والسام الموت، والحبة
السوداء الشونيز.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الطب باب
«الحبة السوداء» برقم (5688)، كما أخرجه من حديث عائشة رضي اللَّه عنها برقم
(5687)، وأخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة في كتاب السلام باب التداوي بالحبة
السوداء برقم (2215)، وأخرجه الإمام الترمذي عن أبي هريرة أيضًا في كتاب الطب
باب ما جاء في الحبة السوداء برقم (2215)، وأخرجه الإمام الترمذي عن أبي هريرة
أيضًا في كتاب الطب باب ما جاء في الحبة السوداء برقم (2041) وقال: وفي الباب
عن بريدة وابن عمر وعائشة، وابن عمر بالأرقام (3447- 3449- 3448)، وأخرجه
الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة برقم (7287)، قال محقق المسند: وأخرجه
الحميدي (1107)، كما أخرجه الإمام أحمد من حديث بريدة الأسلمي رضي اللَّه عنه،
ومن حديث عائشة رضي اللَّه عنها.
شرح الحديث
قوله: «في الحبة السوداء»، وفي رواية مسلم: «إن في الحبة السوداء شفاء». وفي رواية أحمد في
المسند: «عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء».
وقد فسر الحبة
السوداء ابن شهاب «بالشونيز». قال ابن حجر: وتفسير الحبة السوداء بالشونيز
لشهرة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، والحبة السوداء أشهر عند
أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر والأشهر. قال ابن
حجر: ونقل إبراهيم الحربي في «غريب الحديث» عن الحسن البصري أنها الخردل، وحكى
أبو عبيد الهروي في «الغريبين» أنها البطم، واسم شجرتها «الضرو»، وقال
الجوهري: هو صمغ شجرة تدعى الكمكما تجلب من اليمن، ورائحتها طيبة وتستعمل في
البخور، قال الحافظ: قلت: وليست المراد هنا جزما، ونقل عن القرطبي قوله:
تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين: الأول أنه قول الأكثر، والثاني: كثرة منافعها
بخلاف الخردل والبطم.
قوله: «من كل داء»: هذا أوسع من أن تستعمل على وجه
واحد، وكيفية واحدة، بل تستعمل مفردة أي وحدها بلا إضافة، ومركبة بإضافتها إلى
غيرها من المواد، ومسحوقة، وقد تستعمل أكلا، وشربا، وسعوطا، وضمادا، وغير
ذلك.
قال الحافظ في الفتح: وقيل إن قوله «كل داء» تقديره: يقبل العلاج بها،
فإنها تنفع من الأمراض الباردة، وأما الحارة فلا، نعم قد تدخل في بعض الأمراض
الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة
تنفيذها. ثم قال: قال أهل العلم بالطب: إن طبع الحبة السوداء حار يابس، وهي
مذهبة للنفخ، نافعة من حمى الربع، والبلغم، مفتحة للسدد والريح، مجففة لبلة
المعدة، وإذا دقت وعجنت بالعسل وشربت بالماء الحار أذابت الحصاة وأدرت البول
والطمث واللبن، وفيها جلاء وتقطيع، وإذا شرب منها وزن مثقال بماء أفاد من ضيق
النفس، والضماد بها ينفع من الصداع البارد، وإذا طبخت بخل وتمضمض بها نفعت من
وجع الأسنان، وقد ذكر ابن البيطار وغيره ممن صنف في المفردات هذا الذي ذكرته في
منافعها وأكثر منه.
وقال الخطابي في أعلام الحديث: وهذا من عموم اللفظ الذي
يراد به الخصوص [يعني قوله: «من كل داء» إذ ليس يجتمع في شيء من النبات والشجر
جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء على اختلافها وتباين
طبائعها، وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة. اهـ.
وقال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة
السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان
المراد بقوله في العسل: «فيه شفاء للناس» الأكثر الأغلب، فحمل الحبة
السوداء على ذلك أولى.
وقال غيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء
بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه
بارد، فيكون معنى قوله: «شفاء من كل داء». أي من هذا الجنس الذي وقع القول
فيه، والتخصيص بالحيثية شائع كثير والله أعلم. ثم قال الحافظ: وقال الشيخ أبو
محمد بن أبي جمرة: تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه، وردوه إلى قول أهل
الطب والتجربة، ولا خفاء بغلط قائل هذا، لأنا إذا صدقنا أهل الطب- ووافق علمهم
غالبا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب- فتصديق من لا ينطق عن
الهوى أولى، وكلامه أولى بالقبول من كلامهم. انتهى.
وقد تقدم توجيه حمله على
عمومه بأن يكون المراد بذلك ما هو أعم من الإفراد والتركيب، ولا محذور في ذلك(/1)
ولا خروج عن ظاهر الحديث، والله أعلم. اهـ. من الفتح.
وقال صاحب تحفة الأحوذي
بعد أن ساق قول الخطابي، وساق بعده كلاما للطيبي هو قوله: ونظيره قوله تعالى
في حق بلقيس: وأوتيت من كل شيء[النمل: 23]. وقوله تعالى:
تدمر كل شيء بأمر ربها[الأحقاف: 25] في إطلاق العموم
وإرادة الخصوص. انتهى. وقيل: هي باقية على عمومها، وأجيب عن قول الخطابي بقول
الشاعر:
ليس على اللَّه بمستنكر
أن يجمع العالم في واحدٍ
وأما قول الطيبي، ففيه
أن الآيتين يمنع حملهما على العموم عند كل أحد على ما هو معلوم، وأما أحاديث
الباب فحملها على العموم متعين لقوله صلى الله عليه وسلم فيها: «إلا السَّام».
كقوله: إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات[العصر: 2، 3]. اهـ.
ولقد سبق هؤلاء العلماء ابن
القيم رحمه اللَّه تعالى، فذكر في زاد المعاد - الجزء الرابع- الحبة السوداء
والحديث الوارد فيها، وعدد منافعها وكيفيات استعمالها، فذكر الذي نقلناه عن فتح
الباري وزيادة، وكأن الحافظ نقل عنه بعض ما كتبه بشأن الحبة السوداء والأمراض
التي تعالجها وتداويها ويُبْرأ منها بإذن اللَّه تعالى.
الحبة السوداء عند الأطباء القدامى والمحدثين
أولا: عند القدامى:في بحث أعداه الدكتور/ حسام
عرفة تحت الحبة السوداء ذات الأيادي البيضاء يقول: حين أزاح اللورد «كارتر»
الستار عن كشفه الأثري المهم، وهو مقبرة الملك الفرعوني «توت عنخ آمون»، لم يكن
يعلم ماهية الزيت الأسود اللون الذي وجد ضمن مقتنيات هذا الملك الشاب، والذي
عرف فيما بعد بزيت «حبة البركة» أو «الحبة السوداء».
عرف المصريون القدماء نبات
حبة البركة، ولكن لم يعرف على وجه التحديد كيف استخدموه في حياتهم اليومية،
وكانوا يعرفونها باسم «شنتت»، إلا أن اكتشاف زيت هذا النبات ضمن مقتنيات أحد
ملوكهم يدل بصورة قاطعة على مدى أهمية هذا النبات في هذه الفترة.
ويشير العهد
القديم في سفر «أشعياء» إلى أهمية حبة البركة والطرق المتبعة حينئذ للحصول على
الزيت، وقد عرف العبرانيون النبات الذي كان ينمو بصورة واسعة في مصر وسوريا،
باسم «كيتساه».
وكتب «ديسكوريدس» وهو طبيب يوناني شهير عاش في القرن الأول
الميلادي - أن «بذور» حبة البركة كانت تستخدم في علاج الصداع واحتقان الأنف
وآلام الأسنان، بالإضافة إلى استخدامها لطرد الديدان، كذلك استخدمت كمدر للبول
واللبن.
أما في التراث الإسلامي فقد ورد حديث في صحيح البخاري عن عائشة رضي
الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الحبة
السوداء شفاء من كل داء إلا السام». قلت: وما السام؟ قال: الموت.
وقد كتب
البيروني وهو من علماء المسلمين (1048م - 973هـ) عن الأصل الهندي لهذا النبات
ومدى قيمته الغذائية والصحية، وتحتل حبة البركة في الطب اليوناني - العربي -
الذي وضع أسسه «هيبوقراتس» و«جالن» و«ابن سينا» مكانة كبيرة؛ حيث كانت لها
أهمية كبيرة في علاج أمراض الكبد والجهاز الهضمي، وفي كتابه الشهير «القانون في
الطب»، يرى ابن سينا أن حبة البركة يمكن أن تحفز الطاقة وتساعد على التغلب على
الإرهاق والإجهاد.
ما هي حبة البركة ؟
هي عشب نباتي ينمو سنويا في منطقة البحر
الأبيض المتوسط، ولكنه يزرع في مناطق عديدة أخرى في شمال أفريقيا وآسيا
والجزيرة العربية.
ثانيا: في الدراسات الحديثة:
لقد ظهر حديثا من خلال
الدراسات والأبحاث التي أجريت على الحبة السوداء أنها تلعب دورا هاما في
تقوية الجهاز المناعي في جسم الإنسان، ولما كانت قدرة الجسم على مجابهة الأمراض
مرتبطة بقوة الجهاز المناعي، فإن الحبة السوداء بتقويتها للجهاز المناعي تشكل
شقاء لكل الأدواء، وهي تفيد في علاج الأمراض بما فيها السرطانات والإيدز
والأمراض المستعصية التي تصيب الإنسان.
الفوائد العلاجية للحبة السوداء
كانت للأسباب الآتية
- الزيت الطيار الموجود في الحبة السوداء يحتوي على
مادة (النيجلون) وهي مضادة للهستامين، ومنها يظهر فائدة الحبة السوداء في علاج
الربو بتوسيع الشعب، وفي علاج ارتفاع ضغط الدم بتوسيع الأوعية الدموية، وفي
علاج بعض الأمراض الهضمية بإزالة التشنجات المعدية والمعوية.
- تحتوي الحبة
السوداء على مواد لها صفة الصادات؛ توقف نمو الجراثيم، ولا تسمح بالنمو في
وسط غذائي يحتوي على الحبة السوداء.
- استخلص من الحبة السوداء صبغة لها خواص
مسكنة ومنومة لطيفة، ومن هنا ظهرت فائدة الحبة السوداء كدواء مسكن؛ خاصة في
تسكين آلام الأسنان بالغرغرة، وفائدتها كمنوم خفيف يمكن استخدامه للأطفال.
-
تحتوي الحبة السوداء على زيت إيتيري يجعلها تفيد في حالات المغص المعوي كطارد
للغازات.
- أثبتت الدارسات الحديثة أن الحبة السوداء تنشط جهاز المناعة في جسم
الإنسان بزيادة نسبة التائيات المناعية مقارنة مع التائيات المثبطة، ومن هنا
كانت فائدة الحبة السوداء في مكافحة الأمراض بشكل عام، والأمراض الفيروسية بشكل
خاص.(/2)
الأمراض التي تعالجها حبة البركة (الحبة السوداء)
تساقط الشعر - الصداع - الأرق- للقمل وبيضه- للدوخة وآلام الأذن- للقراع والثعلبة- للقوباء- لأمراض
النساء والولادة- للأسنان وآلام اللوز والحنجرة- لحب الشباب- للأمراض الجلدية-
للثآليل- للبهاق والبرص- لسرعة التئام الكسور- للكدمات والرضوض- لمرض السكر-
لارتفاع ضغط الدم- لإذابة الكوليسترول في الدم- للالتهابات الكلوية- لتفتيت
الحصوة وطردها- لعسر التبول- لمنع التبول اللاإرادي- للاستسقاء- لالتهابات
الكبد- للحمى الشوكية- للمرارة وحصوتها- للطحال- لأمراض الصدر والبرد- للقلب
والدورة الدموية- للمغص المعوي- للإسهال- للقيء والغثيان- للغازات والتقلصات-
للحموضة- للقولون- لأمراض العيون- للأميبا- للبلهارسيا- لطرد الديدان- للعقم-
للبروستاتا- للقرحة- للسرطان- للضعف الجنسي- للضعف العام- لفتح الشهية للطعام-
لعلاج الخمول والكسل- للتنشيط الذهني وسرعة الحفظ- لعلاج الإيدز.
هذا، وكيفية
استعمال الحبة السوداء موجودة في الكتب الخاصة بالأعشاب، والله تعالى هو
الشافي.
ويذكر الدكتور / حسام عرفة أن أكثر من 150 بحثا، تم نشره مؤخرا في
الدوريات العلمية المختلفة عن فوائد استخدام حبة البركة، والتي تؤكد على
الفوائد العديدة التي ذكرها القدماء عن هذا النبات، ويأتي معظم هذه الأبحاث من
أوربا وتحديدا النمسا وألمانيا، والتي تأتي في مقدمة الدول الداعية لإحياء طب
الأعشاب كطب بديل، وهكذا ظهرت حبة البركة في مستحضرات طبية متنوعة بين أقراص
وكبسولات وأشربة وزيوت في العديد من الدول الأوربية، وكذلك الولايات المتحدة،
هذا بالإضافة إلى بلدان العالم العربي والإسلامي.
طريقة عملها:
عكف العلماء منذ
زمن على معرفة كيفية عمل الحبة السوداء وخاصة دورها في عملية التئام الجروح،
والذي استدعى معرفة مكونات البذور، والتي وجد أنها تحتوي على العديد من
الفيتامينات والمعادن والبروتينيات النباتية، بالإضافة إلى بعض الأحماض الدهنية
غير المشبعة.
الجدير بالذكر، أن كثيرا من الزيوت النباتية ومنها زيت حبة
البركة تحتوي على العديد من الأحماض الدهنية الأساسية والمهمة لصحة الجلد
والشعر والأغشية المخاطية، وكذلك عملية ضبط مستوى الدم وإنتاج الهرمونات بالجسم
وغيرها من الوظائف الحيوية المهمة.
كما تحتوي حبة البركة على مادة «النيجيللون،
وهي مادة بلورية تم استخلاصها لأول مرة في عام 1929، ويعد النيجيللون هو أحد
مضادات الأكسدة الطبيعية مثل فتيامين «ج» و«أ»، وكذلك الجلوتاثيون، والتي تلعب
دورا أساسيا في حماية الجسم ضد مخاطر ما يسمى بالشوارد الحرة free radicals
وهناك العديد من الأبحاث التي نشرت مؤخرا عن دور الحماية الذي يلعبه
النيجيللون في حماية الجسم من مخاطر العديد من المواد الغربية xenobiotics.
استخدامات الحبة السوداء
1- مصدر للطاقة: حيث وجد أن حبة البركة تساعد
على الاحتفاظ بحرارة الجسم الطبيعية، خاصة وأن طبيعة الغذاء الغربية والمسيطرة
الآن على العادات الغذائية في بلدان العالم المختلفة، مثل: تناول الأيس كريم
والزبادي والبيتزا والجبن والهامبرجر وغيرها، تستهلك الكثير من طاقتنا الحيوية،
مما يؤدي لظهور الكثير من الأمراض.
2- الرضاعة: تساعد حبة البركة على إدرار
اللبن، كذلك تعد مصدرا غذائيا مهما للأم والطفل على السواء.
3- المناعة:
أثبتت بعض الدراسات التأثير المحفز لحبة البركة على جهاز المناعة؛ مما يفسر
معنى «شفاء من كل داء».
4- الطفل: تحتوي بذور حبة البركة على حمض الأرجينين،
وهو حمض مهم وضروري لنمو الطفل.
5- الشيخوخة: تعد الحبة السوداء غذاء صحيا
مهما ومفيدا لكبار السن؛ نظر لاحتوائها على مواد غذائية متعددة
ومتنوعة.
وبعد: فإنه مع وجود الدراسات والبحوث الطبية الحديثة التي تجرى حول
ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، هذه البحوث تجرى في الشرق تارة وفي
الغرب أخرى، ويبحث فيها المتخصصون في الطب والعلوم الكيميائية والحيوية،
والعالم يبهر بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: مع وجود تلك البحوث
إلا أن هناك من المسلمين من لا تزال عقولهم - التي يعبدونها - من دون الله
تملي عليهم أن كل قديم إنما هو خرافة وجري وراء الخرافة، بل لا يستحي من وصف ما
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بالقذارة، ولم يستح من وصف حجاب المرأة بل وصف
دعاء الله تعالى بالطقوس الشكلية، ووصف من يتمسكون بدينهم أنهم يتمسكون
بالنفاق وعدم الإتقان والبلطجة اللفظية والسلوكية.
إن الخلط بين ما ثبت عن رسول
الهدى صلى الله عليه وسلم وبين الأباطيل التي أحدثها الجهلة والمبتدعة من
التبرك بالقبور وأصحابها وترابها، وزيت القنديل، هذا الخلط دليل على قلة العلم
وعدم المعرفة، كما أن الخلط بين ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما
يدعيه من يتخصص في المعالجة بالأعشاب، هذا الخلط أيضا دليل على البعد عن معرفة(/3)
الصحيح من السقيم ومعرفة الحق من الباطل، وكون بعض الناس يوهم أنه يعالج بالطب
النبوي ويفتح عيادة للنصب وينسب هذا للطب النبوي، لا يعيب الطب النبوي ولا
يلغيه من قاموس الطب، بل الإعجاز العلمي في الطب النبوي يقوم به باحثون في الطب
الحديث ويستخرجون منه المواد العلمية والمواد الفعالة.
ولقد اعترف من يعيب الطب
النبوي ويصفه بأنه من اختراع النصابين المحدثين، بأن بعض الأطباء المعاصرين
حولوا مهنة الطب إلى نصب لابتزاز أموال الناس، وهو ليس من اختراع أحد، إنما
سجله من سجل أحاديث الإيمان والإسلام والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج
والنكاح والطلاق، والمعاملات، إنه باسم الطب في دواوين السنة، وليس مهنة
يمتهنها النصابون، أما النصابون فإنهم في كل واد يهيمون، منهم الأطباء الذين
يأكلون أموال الناس بالباطل، ومنهم المهندسون والمحامون والمدرسون والمحاسبون
والصناع والتجار وفي كل مهنة تجدهم يا من تشفق على الأمة من النصب فتنكر ما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهل أنكر أحد ما وصل إليه الطب الحديث؟ وهل قارن
أحد بين طب رسول الله صلى الله عليه وسلم وطب غيره، إن الناس يلجأون إلى الطب
القديم فيما لم يجدوا له علاجا عند الأطباء المحدثين، أو تعجزهم النفقات
لإجراء جراحة عند الأطباء المحدثين، وهل طلب أحد إغلاق المستشفيات والصيدليات
وشركات الأدوية ليحل محلها التداوي بالأعشاب؟! إن هذا لشيء عجاب!! إن شركات
الأدوية تنتج الآن مجموعة من العلاجات النباتية والعشبية وتفخر الشركة بأن تكتب
على منتجها أنه نبات طبيعي، وتفخر بأن تعلن أن منتجاتها من الأعشاب الطبية!!
فمتى يفيق قومنا ويستيقظون؟ الظاهر أنهم لن يستيقظوا إلا إذا جاءتهم التعليمات
من أوربا أو أمريكا بتغيير ما هم عليه، ويومئذ يسمونه طبا حديثا ويلهثون
وراءه لأنه جاءهم من الغرب.
يا من تدعي الإصلاح!! اتق الله تعالى في نفسك ولا
تخلط الأمور بعضها ببعض، ولا تقل على الله ورسوله بغير علم، وماذا صنع لك أهل
النقاب والحجاب والجلباب والأدعية والبكاء، هل ترى أن هؤلاء هم سبب التخلف الذي
نحن فيه، إن التخلف جاءنا من ترك ديننا وجهلنا به، والدليل على ذلك أن السابقين
من المسلمين لما تمسكوا بدينهم وعرفوه حق المعرفة سادوا الدنيا وعلموا أهل
الأرض وكانوا أساتذة العالم، فلما تركوا الدين وعملوا بالبدع والخرافات أصابنا
ما أصابنا. فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، ونسأل الله الهداية للجميع، والحمد لله أولا وآخرا..والحمد لله رب
العالمين.(/4)
من بدع الأذان زيادة حي على خير العمل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن زيادة لفظة "حي على خير العمل" في الأذان هي من بدع الرافضة، الذين ابتدعوا في الدين وزادوا فيه، وزمن ابتداع هذه اللفظة في الأذان يرجع إلى سنة ستين وثلاثمائة (360هـ)، حيث أذن فيها بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل.
قال الحافظ "ابن عساكر" في ترجمة جعفر بن فلاح نائب دمشق أول من تأمر بها عن الفاطميين وهو الذي أمر بذلك نيابة عن المعز الفاطمي صاحب القاهرة, أخبرنا أبو محمد بن الألهاني قال: قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام : "وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر سنة ستين وثلاثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد، ومآذن المساجد بحي على خير العمل، بعد حي على الفلاح، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح، ولم يقدروا على مخالفته، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بدا.
وفي يوم الجمعة، الثامن من جمادى الآخرة منها أمر المؤذنون أن يثنوا الأذان والتكبير في الإقامة مثنى مثنى، وأن يقولوا في الإقامة: حي على خير العمل. فاستعظم الناس ذلك، وصبروا على حكم الله-تبارك وتعالى-والله أعلم(1).
فالزيادة هذه إذن لا تثبت في أي حديث صحيح عن النبي-صلى الله عليه وسلم-ولا عن مؤذنيه، وكل ما روي في ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم-فهو ضعيف بل أكثره موضوع ومنكر(2).
ثم إن هناك بعض من يقول بثبوتها عن الرسول، وعن ابن عمر والحسين بن علي زين العابدين وقد سئل علماؤنا الفضلاء عن هذه الزيادة وعن من نسبت إليه من الصحابة، فأجابوا بما يلي:
1- إجابة اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية الفتوى رقم (220)،قال السائل: ما حكم قول المؤذن في أذانه حي على خير العمل؟
الجواب: الأذان عبادة من العبادات والأصل في العبادات التوقيف وأنه لا يقال: إن هذا العمل مشروع، إلا بدليل من كتاب, أو سنة, أو إجماع، والقول بأن هذه العبادة مشروعة بغير دليل شرعي قول على الله بغير علم، وقد قال-تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}(لأعراف:33)، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36)، وقال النبي: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(3) وفي رواية "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(4).
إذا علم ذلك فالأذان الشرعي الثابت عن رسول الله-هو خمس عشرة جملة هي:-الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. هذا هو الثابت أن رسول الله-أمر بلالاً أن يؤذن به كما ذكر ذلك أهل السنن والمسانيد. إلا في أذان الصبح فإنه ثبت أن مؤذن النبي–صلى الله عليه وسلم-كان يزيد فيه بعد الحيعلة (الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم) واتفق الأئمة الأربعة على مشروعية ذلك؛ لأن إقرار الرسول-لهذه الكلمة من بلال يدل على مشروعية الإتيان بها، وأما قول المؤذن في أذان الصبح: حي على خير العمل5 فليس بثابت، ولا عمل عليه عند أهل السنة، وهذا من مبتدعات الرافضة، فمن فعله ينكر عليه بقدر ما يكفي للامتناع عن الإتيان بهذه الزيادة في الأذان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
رئيس لجنة هيئة كبار العلماء: عبد الرزاق عفيفي.
وسئل سماحة الشيخ/عبد العزيز بن باز-رحمه الله -المفتي العام للمملكة العربية السعودية سابقاً السؤال الآتي: ما حكم الله ورسوله–عليه السلام-في قوم يفعلون الأشياء التالية: يقولون في الأذان (أشهد أن علياً ولي الله) و (حي على خير العمل) و (عترة محمد وعلي خير العتر) إلى آخر السؤال؟
الجواب:قد بين الله-سبحانه وتعالى-على لسان نبيه محمد–صلى الله عليه وسلم-ألفاظ الأذان والإقامة، وقد رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري–رضي الله عنه-في النوم الأذان فعرضه على النبي–صلى الله عليه وسلم–فقال له النبي–صلى الله عليه وسلم–: "إنها رؤيا حق" وأمره أن يلقيه على بلال لكونه أندى صوتاً منه ليؤذن به، فكان بلال يؤذن بذلك بين يدي رسول الله–صلى الله عليه وسلم –حتى توفاه الله–عز وجل–انظر ما رواه الترمذي (189)، وأبو داود (499)، وابن ماجة (706) ولم يكن في أذانه شيء من الألفاظ المذكورة في السؤال.(/1)
وهذا عبد الله ابن أم مكتوم–رضي الله عنه-كان يؤذن للنبي–صلى الله عليه وسلم– في بعض الأوقات ولم يكن في أذانه شيء من هذه الألفاظ، انظر ما رواه البخاري، رقم(617)، ومسلم رقم(380) من حديث عبد الله بن عمر–رضي الله عنهما-وأحاديث أذان بلال–رضي الله عنه-بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم–ثابتة في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة، وهكذا أذان أبي محذورة – رضي الله عنه-بمكة ليس فيه شيء من هذه الألفاظ، وقد علمه النبي–صلى الله عليه وسلم– ألفاظه، ولم يعلمه شيئاً من هذه الألفاظ، وألفاظ أذانه ثابتة في صحيح مسلم (379)وغيره من كتب أهل السنة.
وبذلك يعلم أن ذكر هذه الألفاظ في الأذان بدعة يجب تركها؛ لقول النبي–صلى الله عليه وسلم –: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته عند البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة–رضي الله عنها-وفي رواية أخرى: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" خرجه مسلم في صحيحه (1718)، وثبت عنه–صلى الله عليه وسلم–أنه كان يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد–صلى الله عليه وسلم–وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" رواه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- وقد درج خلفاؤه الراشدون ومنهم علي–رضي الله عنه – وهكذا بقية الصحابة–رضي الله عنهم أجمعين على ما درج عليه رسول الله–صلى الله عليه وسلم – في صفة الأذان ولم يحدثوا هذه الألفاظ.
وقد أقام علي–رضي الله عنه–في الكوفة–وهو أمير المؤمنين قريباً من خمس سنين، وكان يؤذن بين يديه بأذان بلال–رضي الله عنه–ولو كانت هذه الألفاظ المذكورة في السؤال موجودة في الأذان لم يخف عليه ذلك؛ لكونه–رضي الله عنه –من أعلم الصحابة–رضي الله عنهم-بسنة رسول الله–صلى الله عليه وسلم–وسيرته، وأما ما يرويه بعض الناس عن علي–رضي الله عنه–أنه كان يقول في الأذان: (حي على خير العمل) فلا أساس له من الصحة.
وأما ما روي عن ابن عمر–رضي الله عنهما– وعن علي بن الحسين زين العابدين–رضي الله عنه– وعن أبيه أنهما كانا يقولان في الأذان: (حي على خير العمل) فهذا في صحته عنهما نظر، وإن صححه بعض أهل العلم عنهما، لكن ما قد علم من علمهما وفقههما في الدين يوجب التوقف عن القول بصحة ذلك عنهما؛ لأن مثلهما لا يخفى عليه أذان بلال–رضي الله عنه-ولا أذان أبي محذورة–رضي الله عنه-، وابن عمر–رضي الله عنهما–قد سمع ذلك وحضره، وعلي بن الحسين-رحمه الله-من أفقه الناس، فلا ينبغي أن يظن بهما أن يخالفا سنة رسول الله–صلى الله عليه وسلم– المعلومة المستفيضة في الأذان، ولو فرضنا صحة ذلك عنهما فهو موقوف عليهما، ولا يجوز أن تعارض السنة الصحيحة بأقوالهما ولا أقوال غيرهما؛ لأن السنة هي الحاكمة مع كتاب الله العزيز على جميع الناس، كما قال الله–عز وجل - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}النساء:59، وقد رددنا هذا اللفظ المنقول عنهما وهو عبارة (حي على خير العمل) في الأذان إلى السنة فلم نجدها فيما صح عن رسول الله–صلى الله عليه وسلم – من ألفاظ الأذان.
وأما قول علي بن الحسين–رضي الله عنه–فيما يروى عنه أنها في الأذان الأول، فهذا يحتمل أنه أراد به الأذان بين يدي الرسول–صلى الله عليه وسلم– أول ما شرع، فإن كان أراد ذلك فقد نسخ بما استقر عليه الأمر في حياة النبي–صلى الله عليه وسلم–وبعدها من ألفاظ أذان بلال, وابن أم مكتوم, وأبي محذورة–رضي الله عنهم-وليس فيها هذا اللفظ ولا غيره من الألفاظ المذكورة في السؤال، ثم يقال: إن القول بأن هذه الجملة موجودة في الأذان الأول إذا حملناه على الأذان بين يدي رسول الله–صلى الله عليه وسلم–غير مسلم به؛ لأن ألفاظ الأذان من حين شرع محفوظة في الأحاديث الصحيحة وليس فيها هذه الجملة، فعلم بطلانها وأنها بدعة.
ثم يقال أيضاً: علي بن الحسين–رضي الله عنه–من جملة التابعين، فخبره هذا لو صرح فيه بالرفع فهو في حكم المرسل، والمرسل ليس بحجة عند جماهير أهل العلم، كما نقل ذلك عنهم الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد، وهذا لو لم يوجد في السنة الصحيحة ما يخالفه، فكيف وقد وجد في الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة الأذان ما يدل على بطلان هذا المرسل وعدم اعتباره، والله الموفق(6).(/2)
قال الشيخ سلمان بن فهد العودة (في محاضرة له بعنوان "سلوكيات خاطئة في الأذان" : "و مما زاده الناس في الأذان وليس منه (حي على خير العمل) وهذه زيادة وجدت عند الرافضة في كافة طوائفهم من الإمامية, والزيدية, وغيرها يضيفون في أذانهم بعد حي على الفلاح "حي على خير العمل" حي على خير العمل" وهذه الزيادة أيضاً لا تثبت في حديث مرفوع إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-بحال من الأحوال، والأحاديث الواردة في "حي على خير العمل" والآثار تنقسم إلى ثلاثة أقسام:-
القسم الأول: منها أحاديث صريحة، لكنها مكذوبة ملفقة لا أصل لها، وذلك كالحديث الذي رُوي عن أبي محذورة أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال له: {إذا أذنت فاجعل في آخر الأذان حي على خير العمل حي على خير العمل} وهذا الحديث في سنده أبو بكر أحمد بن محمد بن السري ، قال فيه الذهبي: رافضي كذاب غير ثقة، ونقل عنه جماعة من العلماء من الكفر والفجور ما يدل على أنه لا خير فيه قبحه الله، قالوا: إن هذا الرجل كان يقول في تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}الحاقة:9 أنه يفسر هذه بعمر-رضي الله عنه-قال: وجاء فرعون فذكر أمير المؤمنين, ومن قبله فذكر الخليفة الراشد الأول، والمؤتفكات فذكر أمهات المؤمنين عائشة, وحفصة فلعنة الله عليه وجزاه الله-تعالى-بما يستحق على هذا البهت والفجور والإفك العظيم.
ومن النصوص والآثار: الواردة في "حي على خير العمل" نصوص صريحة، وقد لا تكون ضعيفة جداً؛ ولكنها ليست بحجة؛ لأن الحجة كما سلف في كلام الله-تعالى-أو كلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، واختلف الأصوليون في كلام الصحابة إذا لم يعارض نصاً هل يكون حجة أو لا؟.
على قولين، لكنهم لم يختلفوا أبداً في أن قول الصحابي إذا عارض قول النبي-صلى الله عليه وسلم-فإنه ليس بحجة، كما أنهم لم يختلفوا أبداً في أن أقوال التابعين ليست بحجة في الدين، إنما يحتج بقال الله قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقط:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
أما قال فلان قال علان، خاصة إذا كان مخالفاً لما جاء عن الرسول-صلى الله عليه وسلم-فلا حجة فيه.
فالنوع الثاني: آثار موقوفة على بعض التابعين، أو قد تكون مقطوعة إلى بعض التابعين، أو قد تكون موقوفة على بعض الصحابة، وأشهرها أثران:
أولهما: أثر مروي عن علي بن الحسين بن علي المعروف بزين العابدين، وهذا الأثر فيه أن علي بن الحسين: حي على خير العمل، يقول: هذا هو الأذان الأول، والأثر رواه البيهقي في سننه وفي سنده ضعف.
ولكن على فرض أنه حسن فقد حسنه بعض أهل العلم فإنه مقطوع من علي بن الحسين، فبين علي بن الحسين وبين رسول الله-صلى الله عليه وسلم-مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، فلا حجة في قوله.
الأثر الثاني: ما رواه البيهقي وعبد الرازق وغيرهما أيضاً عن ابن عمر-رضي الله عنه-أنه كان يُؤذن بها في السفر، وسندها إلى ابن عمر لا بأس به جيد، والجواب على ما نقل عن ابن عمر من وجوه:
الوجه الأول: ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في مجموع الفتاوى ، قال: " إن بعض الصحابة كانوا ينادون بها في حال معينة، لتحريض الناس على الصلاة، وليست من الأذان" أي: ليس يدخلها في الأذان إنما ينادي بها هكذا من عند نفسه، ليست داخلة في صلب الآذان.
الجواب الثاني: أن يقال: إنه من الثابت أن ابن عمر-رضي الله عنه-كان لا يرى الأذان في السفر، وهذا رأي خاص له، ذكره عنه البيهقي بأسانيد جيدة, وهو رأي مرجوح على كل حال، والصحيح خلافه، لكن هذا رأيه-رضي الله عنه-كان لا يرى الأذان في السفر إنما يشرع للمقيم فحسب، وإذا لم يكن ابن عمر أصلاً يؤذن في السفر إنما كان ينادي، فإذا جاء وقت الصلاة، قد يقول: حي على الصلاة وقد يقول: حي على الفلاح وقد يقول: حي على خير العمل وقد يقول: حي على عمود الإسلام، وقد يقول أي كلمة يقصد فيها دعوة الناس إلى الصلاة، إلا في صلاة الفجر، فإنه كان يؤذن لها؛ لأن الناس يحتاجون إلى الأذان، ولو كان في سفر، فهذا هو الجواب عما نقل عن ابن عمر-رضي الله عنه-.
النوع الثالث: الذي يستدل بها بعضهم على لفظة "حي على خير العمل" نصوص صحيحة، لكنها لا تتعلق بالأذان لا من قريب ولا من بعيد، تذكر أن الصلاة هي خير العمل، لكن لم تقل قولوا في الأذان هذا الكلام، كلا! مثل حديث ابن مسعود ، وهو في الصحيحين : "أن النبي-صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها"(7).(/3)
فالحديث نص على أن الصلاة على وقتها أفضل الأعمال، لكن هل قال الرسول-صلى الله عليه وسلم- اجعلوا هذا في الأذان؟ كلا! وهل كلما صح شيء نجعله في الأذان؟ كلا، فالصلاة خير العمل هذا لا شك فيه، خير العمل بعد الشهادتين، بل ورد في حديث ثوبان والذي رواه أحمد, وابن ماجة, والحاكم, وصححه البيهقي وهو حديث صحيح أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
فالحديث نص على أن الصلاة هي خير الأعمال، والمقصود لا شك خير الأعمال البدنية، وإلا فإن الشهادتين هما أفضل الأعمال مطلقاً.
فالصلاة أفضل الأعمال وآكد الأركان بعد الشهادتين، فلا شك أن الصلاة هي خير الأعمال؛ لكن قول هذا في الأذان بدعة لم ترد عن النبي-صلى الله عليه وسلم-ولا عن أحد من أصحابه، ولذلك نص العلماء على منعها، قال الإمام البيهقي بعدما عقد الباب في النداء للصلاة بحي على خير العمل، قال: " ولا يثبت ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم-، ونحن نكره الزيادة على ما ثبت عنه" وبالله تعالى التوفيق ".
ومثله قال الإمام النووي في المجموع: " يكره النداء بحي على خير العمل" وأقول(أي الشيخ سلمان)ما قاله النووي ومن قبله البيهقي من كراهية ذلك والله تعالى أعلم، ليس مقصودهم فيه أنه يكره كراهية تنزيه، بل مقصودهم أنه يكره تحريماً، أي: يحرم، وهذا هو الصحيح بلا شك أنه يحرم أن ينادي أحدهم بحي على خير العمل؛ لأن هذه اللفظة لم ترد والآذان توقيفي لم تنقل لا عن الرسول-عليه الصلاة والسلام-، ولا عن أبي بكر, ولا عمر, ولا عثمان, ولا علي, ولا عن غيرهم من الصحابة، إلا أن ابن عمر كان يقولها في غير الأذان، ولا حجة في فعل أحد دون رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، إذاً هذه أيضاً من البدع التي أحدثها الرافضة في دين الله وما أكثر ما أحدثوا!.(8).
أسأل الله جل جلاله أن يوفق أبناء المسلمين إلى السنة الصحيحة الثابتة عن رسوله الكريم.
والله الموفق.
________________________________________
1 - راجع: البداية والنهاية المجلد الحادي عشر.
2 - الأذان لأسامة القوصى ص(301).
3 - متفق عليه.
4 - رواه مسلم.
5- هذه اللفظة في بعض البلدان عند الشيعة يقولونها في كل أذان وليس في الصبح فحسب.
6 - مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (10/352).
7 - متفق عليه.
8 - نقلاً من محاضرة للشيخ سلمان بن فهد العودة"حفظه الله".(/4)
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الإيمانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق على حين فترة من الرسل، فأخرج الله به الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، فتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.. أما بعد:
فإن من أعظم حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته أن يؤمنوا بأنه خاتم الأنبياء، ولا نبي بعده، كما قال الله-تعالى-: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} سورة الأحزاب:40.
وقد وردت قراءتان في الآية: قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتَم والطابَع لهم.. وقرأ جمهور القراء بكسر التاء (خاتِم) بمعنى أنه ختمهم؛ أي جاء آخرهم، وقيل: الخاتَم والخاتِم لغتان؛ مثل طابَع وطابِع، وطابِق من اللحم وطابَق.
معنى خاتم الأنبياء:
أ ) معنى الختم في اللغة: ورد الختم في اللغة لعدة معان هي:
1. الطبع: قال صاحب المحكم: "ختمه يختمه ختماً: طبعه".
وفي تاج العروس: "معنى ختم وطبع واحد في اللغة".
وذكر ذلك صاحب لسان العرب (ابن منظور) والقاموس المحيط (الفيروز آبادي) -رحمهم الله-..
2. إحكام الشيء وتغطيته بحيث لا يدخل عليه شيء:
قال ابن سيده: (والختم على القلب ألا يفهم شيئاً، ولا يخرج منه شيء كأنه طبع، ومعنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء، والاستيثاق من ألا يدخله شيء، كما قال الله عز وجل: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ1}
وذكر ذلك الفيروز آبادي وابن منظور في قاموسيهما.
3. آخر الشيء ونهايته: ومن هذا قوله –تعالى-: {خِتَامُه مِسْكٌ} آخر الشراب الذي يشربه أهل الجنة، وختام القوم وخاتمهم أي آخرهم.
ب ) معنى ختم النبوة: مما سبق من المعاني اللغوية للختم، يتضح لنا معنى الختم وأنه الطبع وإحكام الشيء والاستيثاق منه وآخر الشيء ونهايته، فإذا ما جمع اللفظان (خاتم النبوة) أو الأنبياء، فالمعنى: انقطاع وحي الله وإنبائه للناس بعد موت محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الأدلة من القرآن على أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء:
1. قوله –تعالى-:{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } سورة الأحزاب:40. هذه الآية نص صريح في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ختم الله به النبوة، وختم به النبوة كذلك؛ لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسول.. قال ابن كثير -رحمه الله-: (فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه سلم من حديث جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-.. ثم قال: فمن رحمة الله بالعباد إرسال محمد -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- في كتابه ورسوله في السنة المتواترة أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من أدعى هذا المقام بعده فهو كذَّاب أفَّاك دجَّال ضال مضل، ولو تَحرَّق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى الله -سبحانه وتعالى- على يد الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله، وكذلك كل مدَّعٍ لذلك إلى يوم القيامة، حتى يختموا بالمسيح الدجال...)2
2. الآيات التي تدل على ختم النبوة (ضمناً):(/1)
في القرآن آيات تدل في مضمونها على ختم النبوة بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وذلك ما فهمه المسلمون من الآيات التي تتحدث عن عموم رسالته إلى العالمين، ويشترك في ذلك المكان والزمان، أما المكان فإنها تشمل الأرض كلها لقوله –تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} سورة سبأ: 28، فهذه الآية تشمل الناس كلهم، بل هي دالة أيضاً على عموم بعثته زمانياً إلى يوم القيامة .. وذلك يظهر من خلال معرفة الآيات التي تتحدث عن ختم الرسالة، وإكمال الدين، ورضا الله الإسلام للناس ديناً، فإذا كان الله قد أكمل الدين ورضي الإسلام ديناً فالمعنى أنه لا حاجة بنا أو بغيرنا إلى نبي جديد.. بل جعل الله -تعالى- المبلغين عن الرسول بشراً من أمته من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء في العلم.. لهذا يقول الله -جل وعلا- في محكم آياته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} سورة المائدة: 3.
تدل الآية على أن الله قد أكمل الدين، فلهذا لا حاجة للعالم إلى نبي جديد؛ لأن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أتى بالشريعة الكاملة الشاملة الصالحة لجميع الأمكنة والأزمنة مهما ردها ورفضها المجرمون..
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية:
(هذه أكبر نعم الله –تعالى- على هذه الأمة حيث أكمل لهم –تعالى- دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن...)
الأدلة من السنة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين:
دلت الأحاديث المتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا الأمر... منه ما ورد تصريحاً بأنه خاتم الأنبياء ومنها ما ورد ضمناً...
أولاً: الأحاديث الصريحة:
1. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (أُتِي النبي -صلى الله عليه وسلم- بلحم، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس3 منها نهسة ثم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟) ثم ذكر يوم القيامة وما يحدث فيه من استشفاع الناس بالأنبياء للحساب، حتى يصلوا إليه، فذكر -صلى الله عليه وسلم- أنهم يقولون: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك..) الحديث رواه البخاري ومسلم.
2. وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) رواه مسلم مختصراً ورواه بطوله أبو داود وأحمد وابن ماجه.
والشاهد قوله: ( وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي).
3. وعن جابر -أيضاً- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة) متفق عليه، وفي مسلم زيادة: (فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء).
4. وعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون) قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: (فُوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم) رواه البخاري ومسلم.. وغيرها من الأحاديث.
ثانياً: ذكر بعض الأحاديث التي ذكر فيها تحذيره من أدعياء النبوة:
1- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله) رواه البخاري ومسلم.. وهذا لفظ البخاري، وقد أورده في موضع آخر مطولاً.
2- عن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم) رواه مسلم..
ثالثاً: دلالة بعض أسمائه على أنه خاتم الأنبياء:
عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عَقِبي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي) رواه البخاري ومسلم.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، أوردنا منها ما اتضح به المقصود، والله المستعان.
الإجماع: أجمعت الأمة على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء وخاتمهم، ولا نبي بعده، ومن خالف ذلك كفر..(/2)
قال القاضي عياض -رحمه الله-: (وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- أو بعده، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخُرامية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي وبعده، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة، وكالبزيعية والبيانية منهم القائلين بنبوة بزيع وبيان، وأشباه هؤلاء، أو من ادعى النبوة لنفسه أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها؛ كالفلاسفة، وغلاة المتصوفة، وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدَّعِ النبوة، أو أنه يصعد إلى السماء ويدخل إلى الجنة، ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور العين؛ فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أخبر النبي أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله -تعالى- أنه خاتم النبيين وأنه أرسل كافة للناس.. وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص؛ فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً وسمعاً) انظر: (الشفا 2/1070-1071).
وحكى الإجماع أيضاً على تكفير من ادعى النبوة أو صدق من ادعاها غير واحد من أهل العلم ومنهم الألوسي في تفسيره.. فتبين من خلال ما تقدم ذكره من الأدلة القرآنية والنبوية والإجماع على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده وأن شريعته كاملة تامة.. وهذا ما قد رضيه الله –تعالى- لهذه الأمة...
الكذابون الدجالون:
لقد حصل ما أخبر عنه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من ظهور أدعياء النبوة، ومنهم: مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهم كثير إلى زماننا هذا .. ومن المضحك جداً أن نسمع في أيامنا هذه من تدعي أنها نبية، بل والأعجب من ذلك أنها عضو في حزب اشتراكي ...
أسأل الله أن يتم النعمة، ويحفظ عباده الصالحين، وأن يهدي الضالين عن سبيله.. ويعجل بهلاك المجرمين الكاذبين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...
________________________________________
1 - المحكم 5/26.
2 - تفسير ابن كثير 3/474-475.
3 - النهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان، والنهش الأخذ بجميعها..(/3)
من حكم العيد
محمد البشير الإبراهيمي
الجزائر
10/12/1939
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بعض حِكَم صلاة العيد 2- الترغيب في الأضحية 3- شروط الأضحية ومصرفها 4- رأس مال الدين تصحيح العقائد وتصحيح العبادات وتصحيح الأخلاق واتباع السّنة ونبذ البدع 5- الأمر بإخلاص العبادة لله وحده
الخطبة الأولى
الله أكبر! الله أكبر! عباد الله: إن هذا العيد من شعائر الإسلام العظيمة، وسنن الدين القويمة، شرع الله فيه هذه الصلاة لنجتمع بقلوبنا وأجسادنا، ونتعاطف ونتراحم ونتسامح ونتصافح، وتظهر الأخوة الإسلامية على حقيقتها، وشرع فيه الأضحية لنوسع فيها على العيال، وندخل الفرح على النساء والأطفال، ونتصدق منها على الفقراء والسُّؤّال، وبهذا يشترك المسلمون كلهم في هذا اليوم في السرور، ويتقارب الأغنياء والفقراء بالرحمة، وتتواصل أرواحهم وأجسادهم بالأخوّة والمحبّة، ويتذكرون جميعاً ما أتى به الدين الحنيف من خير وصلاح ومعروف وإحسان.
الله أكبر! عباد الله: إن سنة الأضحية مرغب فيها من نبينا من كل قادر عليها لا تجحف بحاله، ولما كانت قربة إلى الله فإنه يشترط فيها أن تكون كاملة الأجزاء، سليمة من العيوب لقوله تعالى في مقام الكمال: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، ولقوله تعالى في مقام الذم: ويجعلون لله ما يكرهون ، وقد كان نبينا يرغّب في التصدق من الحمها على الفقراء في أعوام المجاعة والفقر كعامنا هذا، وينهى عن الادخار في مثل هذه الأحوال، فاجمعوا أيها الناس – على سنة رسول الله – بين الأكل والصدقة على الفقراء، فإن الوقت وقت عسير، وإن عدد الفقراء – وهم إخوانكم – كثير..
عباد الله: إن هذه الشعيرة الدينية وأمثالها من الشعائر هي كالربح في التجارة، لا ينتظره التاجر إذا كان رأس المال سالماً، أما رأس المال في الدين فهو تصحيح العقائد، وتصحيح العبادات، وتصحيح الأخلاق الصالحة، واتباع سنة نبينا في كل ما فعل وترك، والمحافظة عليها والانتصار لها، ونبذ البدع المخالفة لها، ثم صرف الوقت الزائد على ذلك في الأعمال النافعة في الدنيا، فإن الله لا يرضى لعبده المؤمن أن يكون ذليلاً حقيراً، وإنما يرضى له بعد الإيمان الصحيح أن يكون عزيزاً شريفاً عاملاً لدينه ودنياه، معيناً لإخوانه على الخير، ناصحاً لهم، آخذاً بيد ضعيفهم، محسناً له بيده ولسانه وبجاهه وماله.
فصحّحوا عقائدكم في الله، واعلموا أنه واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، هو المتفرد بالخلق والرزق والإعطاء والمنع والضر والنفع.
فأخصلوا له الدعاء والعبادة، ولا تدعوا معه أحدا ولا من دونه أحداً، وطهّروا أنفسكم وعقولكم من هذه العقائد الباطلة الرائجة بين المسلمين اليوم، فإنها أهلكتهم وأضلّتهم عن سواء السبيل، وإياكم والبدع في الدين فإنها مفسدة له، وكل ما خالف السنة الثابتة عن نبينا فهو بدعة.
وصحّحوا عباداتكم بمعرفة أحكامها وشروطها ومعرفة ما هو مشروع وما هو غير مشروع، فإن الله تعالى لا يقبل منكم إلا ما شرعه لكم على لسان نبيه .(/1)
من حِكَم الحج وأسراره
الحمد لله الذي جعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، وأكرمه بالنسبة إلى نفسه تشريفاً وتحصيناً ومناً، فرض علينا حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الظمآن ويألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من بين خلقه ُسماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا موقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وكتب علينا وفادته. والصلاة و السلام على نبي الرحمة، وسيد الأمة محمد بن عبد الله ورسوله وصفيه وخليله.
أما بعد:
إن الله تعالى لم يشرع أي عبادة من العبادات إلا ولها حِكَم بالغة، وفوائد جمة، والحج من العبادات العظيمة التي يستفيد منها المسلم شتى الفوائد، فالناس ما زالوا مذ أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج يفدون إلى بيت الله الحرام، في كل عام من أصقاع الأرض كلها، وأرجاء المعمورة جميعها، مختلفة ألسنتهم، متباينة بلدانهم، متمايزة ألوانهم يفدون إليه، وأفئدتهم ترف إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر والفقير المعدم، ومئات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ سنين عديدة.
إن الحجاج إذ يستبدلون بزيهم الوطني، زيَّ الحج الموحد، ويُصبحون جميعاً بمظهر واحد لايتميز شرقيهم من غربيهم، ولا عربيهم من عجميهم، كلهم لبسوا لباساً واحداً، وتوجهوا إلى رب واحد بدعاء واحد: ((لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)(1). وتراهم قد نسوا كل الهتافات الوطنية، وخلفوا وراءهم كل الشعارات القومية ونكسوا الرايات العصبية، ورفعوا راية واحدة هي: راية لا إله إلا الله محمد رسول الله يطوفون حول بيت واحد، مختلطة أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، يؤدون نسكاً واحداً إن الإسلام يوم شرع الحج للناس، أراد فيما أراد من الحكم، أن يكونوا أمة واحدة متعاونة متناصرة متآلفة متكاتفة، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
إن من حِكَم الحج أن الله جعله سبباً لمغفرة الذنوب، وإزالة الخطايا إلا حقوق الآدميين فإنها تتعلق بالذمة، حتى يجمع الله أصحاب الحقوق، ليأخذ كلٌ حقه، ومن الجائز أن الله تعالى يتكرم، فيرضي صاحب الحق بما أعد له من النعيم وحسن الجزاء، فيسامح المدين تفضلاً وتكرماً، فلا بد من أداء حقوق الآدميين، أما حقوق الله فمبنية على تسامح الكريم الغفور الرحيم. والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفا والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى.
ومن حِكَم الحج أنه يُقوِّي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر ويهيج العواطف.
ومن حكم الحج أنه يذكر المؤمن بما في الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
والحج كغيره من الأسفار يُعوِّد الإنسان الصبر وتحمل المتاعب، ويعلم الانضباط والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل إرضاء الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار. وبالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ويغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الصادق الأكيد لشرع الله ودينه.
قال الكاساني: في الحج إظهار العبودية وشكر النعمة، أما إظهار العبودية فهو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج كذلك، لأن الحاج في حال إحرامه يُظهر الشعث ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبد سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه، وأما شكر النعمة فلأن العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلا استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
ومن فوائد وحِكَم الحج أنه يؤدي إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم.2(/1)
إن إدراك العبد لحقيقة الحج، والحكم والأسرار التي شرعت الشعائر من أجلها؛ يهيئه ليكون حجه مبروراً، إذ القيام بذلك بمثابة الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها أكثر خشوعاً كانت صلاته أكثر قبولاً، وكذلك الحج: كلما استوعب المرء حقيقة الحج وروحه والحكم والغايات التي شُرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح عقيدته وسلوكه، كان حجه أكثر قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه ،ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج وحكمه، أما من لم يكن كذلك فيخشى أن يكون عمله مزيجاً من السياحة والمتاعب لا غير. ومن الحِكَم: تحقيق التقوى. فالغاية من الحج تحقيق التقوى ولذا نجد ارتباط التقوى بالحج في آيات الحج بشكل واضح جلي قال تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}(196) سورة البقرة.{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}(197) سورة البقرة.
ومن حِكَم الحج: تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها: فالحج يرتكز على تجريد النية لله تعالى وإرادته بالعمل دون سواه قال تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}(196) سورة البقرة. وقال -عز وجل- في ثنايا آيات الحج:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}(30-31) سورة الحج. وفي التلبية جاء إفراد الله صريحاً: (( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))(3) كما أن الحج يرتكز على توحيد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الوقوع في شرك الطاعة؛ إذ لا مجال للتمسك في الشعيرة بالأهواء والعوائد، بل لا بد من التأسي به صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه.
ومن أبرز غايات الحج وحكمه: تربية العبد على استحسان شعائر الله وحرماته، وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها، أو هتكها، قال تعالى في ثنايا آيات الحج:{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(32) سورة الحج.
ومن حِكَم الحج التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، ومن ذلك:
أ - العفة. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(197) سورة البقرة.والرفث هو الجماع، ودواعيه من القول والفعل.
ب_ كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة، قال الله عز وجل:{وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(197) سورة البقرة.
قال عطاء: والجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك، والأظهر أن المراد بنفي الجدال في الآية نفي الجنس المراد به المبالغة في النهي عن الجدال المذموم فقط، وهو النزاع والمخاصمة في غير فائدة شرعية.
ج- الرفق واللين والسكينة: قال صلى الله عليه وسلم عندما سمع زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل في الدفع من مزدلفة: (أيها الناس: عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع)(4) (يعني الإسراع).
د- إنكار الذات والاندماج في المجموع: ففي الحج ينكر العبد ذاته، ويتجرد عما يستطيع أن يخص نفسه به، ويندمج مع إخوانه في الحجيج في اللباس والهتاف والتنقل والعمل.
هـ- التربية على تحمل تبعة الخطأ: ويظهر ذلك جلياً في الفدية الواجبة على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عمداً، وعلى من أخطأ الوقوف بعرفات،أو دفع إلى مزدلفة قبل غروب الشمس.. الخ.
و- التربية على التواضع: ويظهر ذلك جلياً في الوحدة بين جميع الحجيج في الشعائر والمشاعر، وإلغاء أثر الفوارق المادية بينهم من لغة ودم مال... الخ .
ح- البذل والسخاء: وهذا واضح في تحمل العبد من بلده ومفارقته لأهله، يذكر بمفارقته لهم حال خروجه من الدنيا إلى الآخرة. ومن حكم الحج أن الحاج عندما يتجرد من المخيط ومن الزينة يتذكر الكفن وخروج العباد من قبورهم يوم القيامة حفاةً عراة غرلاً.
والترحال والتعب يذكران الحاج بالضيق والضنك في عرصات القيامة، حتى إن من العباد من يلجمه العرق يومئذ إلجاماً.
ومن حكم الحج التربية على الاستسلام والخضوع لله تعالى وحده فيتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والطاعة المطلقة لله رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها من: التجرد من المخيط والخروج من الزينة، والطواف والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت والحلق، أو التقصير ونحو ذلك من الأمور التي قد لا تكون جلية المعنى، بل قد تكون إلى الأمر المجرد الذي ليس فيه لنفس العبد حظ ورغبة ظاهرة، أو فيما تحمله تلك الأعمال في طياتها من ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام،وما تلاه من استسلام وخضوع وإيثار لمحاب الله تعالى ومرضاته على شهوات النفس وأهوائها.(/2)
ومن حِكَم الحج: تعميق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية. فالحجاج يجتمعون على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأوطانهم وأعراقهم في مكان واحد وزمان، بمظهر واحد وهتاف واحد هو: الإيمان بالله تعالى، والامتثال لأمره والاجتناب لمعصيته، فتتعمق بذلك المحبة بينهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف والتعاون والتفكير، والتناصح، وتبادل الخبرات والتجارب، ومشجعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم، والعمل على الرفع من شأنه.
ومن حكم الحج: ربط الحجيج بأسلافهم فإن أعمال الحج تحمل في طياتها ذكريات قديمة: من هجرة إبراهيم عليه السلام وزوجه وابنه الرضيع إلى الحجاز، وقصته حين أُمر بذبح ابنه، وبنائه للبيت، وأذانه في الناس بالحج حتى مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتذكير بحجة الوداع معه صلى الله عليه وسلم حيث حج معه، ما يربو على مائة ألف صحابي وقال لهم صلى الله عليه وسلم: خذوا عني مناسككم، ثم توالت العصور الإسلامية إلى وقتنا الحاضر حيث تربو أعداد الحجيج على أكثر من ألفي ألف من المسلمين مما يجعل الحاج يتذكر تلك القرون ممن شهد أرض المشاعر قبله، ويتأمل الصراع العقدي الذي جرى بين الموحدين والمشركين فيها، وما بذله الموحدون من تضحية بالأنفس ومتاع الحياة من أهل ومال وجاه، وما قام به المشركون من بغي ودفاع عن مصالح أنفسهم وشهواتها، ليدرك أسباب هلاك من هلك ونجاة من نجا، فيحرص على الأخذ بأسباب النجاة، ويعد نفسه امتداداً للناجين من الأنبياء والصالحين، ويحذر من أسباب الهلاك، ويعد نفسه عدواً للمجرمين، ويستيقن أن العاقبة للمتقين، ويرى بمضي من حج من تلك الأقوام إلى ربهم أن مصير الجميع واحد، وأنهم كما رحلوا فسيرحل هو فيعتصم لكي ينجو ويسلم بين يدي الله بالتقوى.
ومن حكم الحج وفوائده: الإكثار من ذكر الله تعالى فالمتأمل في شعائر الحج من تلبية وتكبير وتهليل ودعاء... إلخ وفي نصوص الوحيين التي تتحدث عنه، يجد أن الإكثار من ذكر الله تعالى من أبرز حكم الحج وغاياته، ولعل من تلك النصوص قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}(198) سورة البقرة.
ومن حكم الحج التعود على النظام والتربية على الانضباط: ففي الحج قيود وحدود والتزام وهيئات لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوده حب النظام والمحافظة عليه، وتربيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي. والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جلية.
وأخيراً من حكم الحج: تلك المنافع الأخرى الدنيوية والأخروية فردية وجماعية، تجل عن الحصر، يدل عليها تنكير المنافع وإبهامها في قوله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}(27) سورة الحج.(5)
________________________________________
1-أخرجه البخاري كتاب الحج باب التلبية برقم (1474).
2- الفقه الإسلامي وأدلته وهبة الزحيلي (3/12-13).
3- سبق تخريجه.
4- أخرجه البخاري كتاب الحج باب أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالسكينة عند الإفاضة وإشارته برقم(1587).
5- نقلاً عن مقال في مجلة البيان بنوع من التصرف (99/11-14).(/3)
من خصائص الأمة المحمدية ... ... ...
عادل بن أحمد باناعمة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- خيرية هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم. 2- بعض خصائص هذه الأمة. 3- بعض التشريعات الشاقة التي كانت عل الأمم السابقة. 4- واقع المسلمين اليوم. 5- شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
يا أمة يبس الزمان وعودها ريان من نبع النبوة أملدُ
تسري بأعماق السنين جذوره وتشد أذرعه النجوم فيصعد
يا أمة القرآن لم يذبل على شفتيك هذا اللؤلؤ المتوقد
إنها أمة القرآن، أمة الإسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه الأمة التي فضلها الله عزوجل على سائر الأمم واختصها بكرامات كثيرة في الدنيا ليست لغيرها، وإنما نالت من ذلك مانالته باتباعها لرسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
إنها خير الأمم وأكرمها، وحسبنا شهادة الله في كتابه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) [الترمذي:3001، وقال حديث حسن].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي))، وفيه: ((وجعلت أمتي خير الأمم)) [البزار بإسناد جيد].
وهذه الأمة المحمدية العظيمة التي حازت شهادة الخيرية جعل الله لها جملة من الخصائص امتازت بها على غيرها من الأمم.
فمن خصائصها: حل الغنائم.
فقد كانت الأمم قبلنا على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له في الجهاد فكانوا يغزون ويجاهدون ويأخذون أموال أعدائهم ولكن لا يتصرفون فيها بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم أن تنزل نار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم القبول ألا تنزل.
وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنائم فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً [الأنفال:69]. وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)) وذكر منها: ((وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي)) [البخاري ومسلم].
ومن خصائص الأمة المحمدية أن جعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماء ولا مسجدا فعنده طهوره ومسجده فيتيمم ويصلي بخلاف الأمم من قبلنا فإن الصلاة أبيحت لهم في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع.
وعن عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عام غزوة تبوك ـ قام يصلي فاجتمع وراءه رجال يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم وقال: ((أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي))، وفيه: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظِّمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)) [أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله وضع عنها الأغلال والأثقال والآصار التي كانت على الأمم قبلها فأحل لها كثيراً مما حرم على غيرها، ولم يجعل عليها في أحكامها عنتاً وشدة كما قال الله: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. فكانت شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكمل الشرائع وأيسرها وأسهلها، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((إني أرسلت بحنيفية سمحة)) [أحمد].
وفي الحديث الذي رواه أحمد عن حذيفة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا من حرج)).
وحسبك حتى تدرك رحمة الله بهذه الأمة وتيسيره عليها أن تعلم ما يلي:
1ـ كان بنوإسرائيل إذا أصاب أحدهم البول قرضه بالمقراض، فلا يطهر إلا بذلك، ونحن نكتفي بغسله. [أحمد].
2ـ كان اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيت. [أي لم يجلسوا وإياها تحت سقف واحد]. ونحن أحل لنا الاستمتاع بالحائض فيما دون الفرج. [مسلم:302].
3ـ كان في بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم تكن فيهم الدية فخفف الله عنا بتشريع الدية فذلك قوله تعالى: فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:178].
4ـ كانت بنوإسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح مكتوباً على بابه ذنبه وكفارة ذلك الذنب. [أثر عن ابن مسعود رواه ابن جرير].
5ـ كان صوم من قبلنا من الأمم إمساك عن الكلام مع الطعام والشراب فكانوا في حرج، ورخص الله لنا بحذف الإمساك عن الكلام. [قال ابن العربي وأورد ابن كثير أثراً عن مالك بمعناه].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله هداها ليوم الجمعة سيد الأيام وخير يوم طلعت فيه الشمس.(/1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوت والكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)) [البخاري ومسلم:855].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله تجاوز عنها الخطأ والنسيان وحديث النفس ما لم تعمل أو تتكلم.
روىأبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أ ويعملوا به)) [البخاري ومسلم:127].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها محفوظة من الهلاك والاستئصال فلا تهلك بالسنين ولا بجوع ولا بغرق ولا يسلط عليها عد ومن غيرها فيستبيح بيضتها ويستأصلها. فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض (أي كسرى وفارس)، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة (أي قحط) وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ول واجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضا)) [مسلم:2889].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها لا تجتمع على ضلالة فهي معصومة من الخطأ عند اجتماعها على أمر، كما أنها لا تخل ومن وجود طائفة قائمة بالحق في كل زمان لا يضرها من خالفها.
عن كعب بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة)) [ابن أبي عاصم وقال الألباني: الحديث بمجموع طرقه حسن].
وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) [البخاري ومسلم:1920].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله قبل شهادتها وجعل أهلها شهداءه في أرضه، فقد جاء في حديث أنس بن مالك أن جنازة مرت فأثني عليه خيراً فقال النبي: ((وجبت وجبت)) ثم مرت أخرى فأثني عليها شراً فقال النبي: ((وجبت وجبت)) فلما سأله عمر عن ذلك قال: ((من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) [البخاري:1367، ومسلم:949].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة، ولم يكن هذا لأمة قبلها، فقد جاء في الحديث الذي رواه حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلنا على الناس بثلاث))، وذكر منها: ((جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة)) [مسلم:522]. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
ومن تمام شرف هذه الأمة أن الله اختصها بخصائص في الآخرة كما اختصها بخصائص في الدنيا.
فمن هذه الخصائص الأخروية أن الأمة المحمدية تأتي يوم القيامة غراء محجلة من آثار الوضوء وبهذه الصفة يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أمته من غيرهم عندما يكون منتظرهم على الحوض، قال ابن حجر رحمه الله: ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية. [11/458].
وحين قال عليه الصلاة والسلام: ((وددت أنا قد رأينا إخواننا)) قال له أصحابه: ((أولسنا إخوانك يا رسول الله؟)) قال: ((أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((إنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء)) [مسلم:249].
ومن خصائص الأمة المحمدية الأخروية أنها تشهد لكل نبي أنكر قومه أنه قد بلغ، تشهد له بأداء الرسالة وتبليغها فيقبل الله شهادتها.
روى أبوسعيد عن النبي قال: ((يجيء النبي ومعه الرجلان ويجيء النبي ومعه الثلاثة وأكثر من ذلك وأقل. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم ؟ فيقولون: لا. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتدعى أمة محمد فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه. قال: فذلك قوله تعالى: وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143])) [أحمد وابن ماجه وصححه الألباني].
ومن خصائصها أنها أول من يجتاز الصراط، وأول من يدخل الجنة وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)) ـ يعني الصراط ـ [البخاري:6573]. وفي الحديث الآخر عند البخاري [876] يقول عليه الصلاة والسلام: ((نحن أول من يدخل الجنة)).(/2)
ومن خصائصها أنها أقل عملا من الأمم قبلها وأكثر ثواباً وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((…إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذي يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت)) [البخاري:3459]. قال ابن حجر رحمه الله: فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته.
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها أكثر أهل الجنة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)) قال: فكبرنا. ثم قال: ((أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟)) قال: فكبرنا. ثم قال: ((إني لأرج وأن تكونوا شطر أهل الجنة)) [البخاري:6528].
بل جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وقال عنه حديث حسن وصححه الألباني: ((أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم)).
وهكذا تتألق هذه الأمة المباركة، ويترادف عليها فضل الله وكرمه، وتتقلب في إنعامه وإحسانه.
فيا فوزنا ويا سعدنا أن كنا من أمة هذا النبي الكريم العظيم.
ولكن مهلاً … هل شكرنا الله حق شكره أن جعلنا من هذه الأمة؟ هل كنا على مستوى هذا التكريم؟ هل أعطينا العالم صورة حسنة عن هذه الأمة المحمدية؟
يا شباب العالم المحمدي ينقص الكون شباب مهتدي
فأروه دينكم ليهتدي دين عزم وضمير ويد
أليس من المأساة أن يقول بعض من أسلم من الغربيين: أحمد الله أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين وإلا لما أسلمت!!! يريد أنه قرأ عن الإسلام فسره ما فيه فاعتنقه، فلما رأى المسلمين هاله البون الشاسع بين المقروء والمشاهد، وظن أنه لورأى المسلمين وحالهم قبل أن يقرأ عن الإسلام لما فكر في اعتناقه!!!
لا بد أن نحقق في أرض الواقع هذه الخيرية ونحمل هذا الإسلام فنبشر به العالمين ونحيي به موات الدنيا فإن الأرض عطشى إلى مطر المسلمين، مشتاقة إلى وقع أقدامهم وهتاف تكبيرهم. ... ... ...
... ... ...
موقع المنبر ... ... ...(/3)
من دلائل النبوة
إعداد- أسامة سليمان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ثانيًا: دعوة الرسل
إن المتأمل في دعوة الرسل، يجد أن ما جاءوا به يدل على صدقهم، فقد جاءوا بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان، ولإصلاح المجتمع الإنساني، ولا يتعارض مع فطرة الإنسان وسنن الكون فضلاً عن القيم التي ينادون بها والمقاصد التي يدعون إليها، يقول سبحانه وتعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا {النساء: 82}، ويقول جل شأنه: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
ولقد أودع الله عز وجل في العقل البشري خاصية إدراك الحسن والقبح، ومع هذا فإن رحمته سبحانه اقتضت ألا يعذب أحدًا ما لم يقم عليه الحجة بإرسال الرسل، يقول سبحانه: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وعندما سُئل أعرابي: بم عرفت أن محمدًا رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به.
والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يجد أن صدقه صلى الله عليه وسلم بيّن واضح لا ينكره إلا مكابر، يقول سبحانه: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون {العنكبوت: 48}، فالنبي الأمي الذي لم يمسك القلم بيده قبل البعثة ولم يقرأ قبل ذلك قط، يتحول إلى معلم للبشرية، يعلمهم الكتاب والحكمة ويقوَّم علوم السابقين وما فيها من تحريف وتبديل، يقول سبحانه: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون {الأنعام: 33}، إن سفاهتهم دفعتهم إلى القول أن حدادًا روميًا كان بمكة علمه ولقنه، يقول سبحانه ردًا على هذه الفرية المضحكة: لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين {النحل: 103}.
ثالثًا: تأييد الله لرسله ونصرته لهم:
ومما يبين صدق الأنبياء والرسل نصرة الله لهم وتأييده إيَّاهم، فإنه من المحال أن يدعي بشر أنه مرسل من عند الله عز وجل وهو يكذب في دعواه، ثم يؤيده الله وينصره ويرسل الملائكة لنصره وتثبيته وحمايته، ولا يعذبه ويوقع به أشد العقاب ويهتك ستره ويفضح أمره ويجعله عبرة لغيره، كما كان في حال مسليمة الكذاب والأسود العنسي والدجال، وفي هذا يقول سبحانه: إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون {النحل: 116}، ويقول سبحانه: ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين {الحاقة: 44- 46}.
رابعًا: النظر في حال الأنبياء
إن الرسل والأنبياء كانوا يخالطون أقوامهم ويجالسونهم ويباشرونهم، وبذلك كان من اليسير عليهم أن يحكموا على شخصياتهم بالصدق أو الكذب لأن المرء لا يستطيع أن يخدع الناس كل الوقت، لا سيما من يعيش معه ويخالطه ويتسنى له الحكم عليه، لقد كان المشركون يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قبل بعثته، بل كانت ودائعهم عنده لأمانته، وقالوا له: ما جربنا عليك كذبًا عندما سألهم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ وفي هذا الشأن يقول الله سبحانه: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون {يوسف: 16}، ونجد ذلك في إسلام الصديق وخديجة رضي الله عنهما؛ لأن صدقه لا يحتاج إلى دليل بالنسبة لهما فسيرته وحياته هي أعظم دليل على ذلك، وتبين خديجة رضي الله عنها مقومات تلك الشخصية قبل البعثة فتقول له: "إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".
وإعمال العقل والفكر في بيان صفات الرسل وفي بيان كمالهم الخلقي يتضح من موقف هرقل ملك الروم، ولكنه ضن بملكه مع قوله في حق النبي صلى الله عليه وسلم : إنه سيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدمه.
{البخاري في بدء الوحي}
وزهد الرسل في متاع الحياة الدنيا وعرضها الزائل، دليل على صدقهم فهم لا يسألون الناس أجرًا: يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله {هود: 29}، ويقول سبحانه: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا {الفرقان: 57}، ويقول جل شأنه: وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
خامسًا: بشارات الأمم السابقة(/1)
فمن الآيات الواضحات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم أنه في زبر الأولين، يقول سبحانه: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، ويقول جل شأنه: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل {الشعراء: 187}، ولقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء السابقين لئن بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حياتهم ليؤمنن به ولينصرنه ومفهوم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عند السابقين في كتبهم بقوله سبحانه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين {آل عمران: 81}.
ولقد دعى خليل الرحمن إبراهيم ربه وهو يرفع قواعد البيت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله لدعائه، ولا تزال التوارة رغم تحريفها تحمل تلك الإجابة، ففي سفر التكوين الأصحاح السابع عشر فقرة (20): "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًا، اثنى عشر رئيسًا يلد، واجعله أمة عظيمة كثيرة".
والأمة العظيمة هي الأمة الإسلامية التي وجدت من نسل إسماعيل عليه السلام، وقوله: اثنى عشر رئيسًا يلد هذا يوافق إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وفي سفر التكوين الاصحاح (18) فقرة (18- 19): قال الله لموسى: أقيم لهم- أي لبني إسرائيل نبيًا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوحيه به فيكون أن الإنسان الذي لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالب.
ونبينا صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل إخوة بني إسرائيل بعدهم إسحاق ثم هو من أوسط العرب نسبًا، وكلامه في فمه يعني أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب وهو مبعوث إلى الناس كافة.
وحول هذا المعنى يقول سبحانه: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أحمد، ففي حديث مسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". وعيسى عليه السلام بشر قومه برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، يقول سبحانه: وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
والحمد لله رب العالمين(/2)
من دلائل النبوة
إعداد- أسامة سليمان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ثانيًا: دعوة الرسل
إن المتأمل في دعوة الرسل، يجد أن ما جاءوا به يدل على صدقهم، فقد جاءوا بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان، ولإصلاح المجتمع الإنساني، ولا يتعارض مع فطرة الإنسان وسنن الكون فضلاً عن القيم التي ينادون بها والمقاصد التي يدعون إليها، يقول سبحانه وتعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا {النساء: 82}، ويقول جل شأنه: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
ولقد أودع الله عز وجل في العقل البشري خاصية إدراك الحسن والقبح، ومع هذا فإن رحمته سبحانه اقتضت ألا يعذب أحدًا ما لم يقم عليه الحجة بإرسال الرسل، يقول سبحانه: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وعندما سُئل أعرابي: بم عرفت أن محمدًا رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به.
والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يجد أن صدقه صلى الله عليه وسلم بيّن واضح لا ينكره إلا مكابر، يقول سبحانه: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون {العنكبوت: 48}، فالنبي الأمي الذي لم يمسك القلم بيده قبل البعثة ولم يقرأ قبل ذلك قط، يتحول إلى معلم للبشرية، يعلمهم الكتاب والحكمة ويقوَّم علوم السابقين وما فيها من تحريف وتبديل، يقول سبحانه: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون {الأنعام: 33}، إن سفاهتهم دفعتهم إلى القول أن حدادًا روميًا كان بمكة علمه ولقنه، يقول سبحانه ردًا على هذه الفرية المضحكة: لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين {النحل: 103}.
ثالثًا: تأييد الله لرسله ونصرته لهم:
ومما يبين صدق الأنبياء والرسل نصرة الله لهم وتأييده إيَّاهم، فإنه من المحال أن يدعي بشر أنه مرسل من عند الله عز وجل وهو يكذب في دعواه، ثم يؤيده الله وينصره ويرسل الملائكة لنصره وتثبيته وحمايته، ولا يعذبه ويوقع به أشد العقاب ويهتك ستره ويفضح أمره ويجعله عبرة لغيره، كما كان في حال مسليمة الكذاب والأسود العنسي والدجال، وفي هذا يقول سبحانه: إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون {النحل: 116}، ويقول سبحانه: ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين {الحاقة: 44- 46}.
رابعًا: النظر في حال الأنبياء
إن الرسل والأنبياء كانوا يخالطون أقوامهم ويجالسونهم ويباشرونهم، وبذلك كان من اليسير عليهم أن يحكموا على شخصياتهم بالصدق أو الكذب لأن المرء لا يستطيع أن يخدع الناس كل الوقت، لا سيما من يعيش معه ويخالطه ويتسنى له الحكم عليه، لقد كان المشركون يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قبل بعثته، بل كانت ودائعهم عنده لأمانته، وقالوا له: ما جربنا عليك كذبًا عندما سألهم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ وفي هذا الشأن يقول الله سبحانه: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون {يوسف: 16}، ونجد ذلك في إسلام الصديق وخديجة رضي الله عنهما؛ لأن صدقه لا يحتاج إلى دليل بالنسبة لهما فسيرته وحياته هي أعظم دليل على ذلك، وتبين خديجة رضي الله عنها مقومات تلك الشخصية قبل البعثة فتقول له: "إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".
وإعمال العقل والفكر في بيان صفات الرسل وفي بيان كمالهم الخلقي يتضح من موقف هرقل ملك الروم، ولكنه ضن بملكه مع قوله في حق النبي صلى الله عليه وسلم : إنه سيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدمه.
{البخاري في بدء الوحي}
وزهد الرسل في متاع الحياة الدنيا وعرضها الزائل، دليل على صدقهم فهم لا يسألون الناس أجرًا: يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله {هود: 29}، ويقول سبحانه: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا {الفرقان: 57}، ويقول جل شأنه: وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
خامسًا: بشارات الأمم السابقة(/1)
فمن الآيات الواضحات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم أنه في زبر الأولين، يقول سبحانه: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، ويقول جل شأنه: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل {الشعراء: 187}، ولقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء السابقين لئن بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حياتهم ليؤمنن به ولينصرنه ومفهوم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عند السابقين في كتبهم بقوله سبحانه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين {آل عمران: 81}.
ولقد دعى خليل الرحمن إبراهيم ربه وهو يرفع قواعد البيت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله لدعائه، ولا تزال التوارة رغم تحريفها تحمل تلك الإجابة، ففي سفر التكوين الأصحاح السابع عشر فقرة (20): "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًا، اثنى عشر رئيسًا يلد، واجعله أمة عظيمة كثيرة".
والأمة العظيمة هي الأمة الإسلامية التي وجدت من نسل إسماعيل عليه السلام، وقوله: اثنى عشر رئيسًا يلد هذا يوافق إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وفي سفر التكوين الاصحاح (18) فقرة (18- 19): قال الله لموسى: أقيم لهم- أي لبني إسرائيل نبيًا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوحيه به فيكون أن الإنسان الذي لا يسمع كلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالب.
ونبينا صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل إخوة بني إسرائيل بعدهم إسحاق ثم هو من أوسط العرب نسبًا، وكلامه في فمه يعني أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب وهو مبعوث إلى الناس كافة.
وحول هذا المعنى يقول سبحانه: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أحمد، ففي حديث مسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". وعيسى عليه السلام بشر قومه برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، يقول سبحانه: وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
والحمد لله رب العالمين(/2)
من سَمّعَ سَمّعَ اللهُ بِهِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
نص الحديث:
عن ابن عباس –رضي الله عنهما-قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:" مَنْ سَمّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ"1.
المعنى العام:
إن أضرّ شيء على العبد، أن يعمل عملاً، أو يقول قولاً، لا يريد به وجه الله، جميل ظاهره، قبيح باطنه، يسرّ غير ما يعلن، ويظهر خلاف ما يبطن، يسبح ويهلل، ويقرأ القرآن، ويخطب، ويعلم، ويدعو إلى الله بلسانه، وقلبه غافل وذاهل، وبغير الله مشغول، وعلى سواه معوّل ومتكل، وحسبه من الخير ثناء الجاهلين عليه، واستمالة قلوبهم إليه، إذا قرأ جوَّد، وإذا وعظ بكى، وإذا خطب أو درس لم يلحن، وجاء بالعجب العجاب، ولو أخلص في قلبه لكان الزعيم المطاع، والمصلح الحكيم، والمرشد العظيم، ولكنه الخادع المنافق، والكذاب المكار المزور، يقول بفيه ما ليس في قلبه, ويرائي الناس بما يعمله لربه، وفيه يقول الله-تعالى-:{ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} الماعون:4-7 ، ويحذر الله عباده المؤمنين من الرياء بقوله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } البقرة:264.
وفي آية أخرى يقول الله-تعالى-: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً } النساء:38.
وبهذا الحديث وأمثاله يحذرنا النبي-صلى الله عليه وسلم- من الرياء والسمعة وأن يعمل المسلم عملاً يبتغي به الشهرة وثناء الناس عليه؛ لأنه لا يصنع الخير حباً فيه، ولا يترك الشر كراهة له، بل ربما إذا خلا بنفسه ارتكب العظائم، واقترف الجرائم، وقصر في الواجبات والمندوبات، ومن أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه-تبارك وتعالى-، واتصف فيها بصفة المنافقين.
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } النساء:142-143.
شرح الحديث:
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"من سمّعَ سمّعَ الله به" " سمَّعَ" بتشديد الميم، ومعناه: أظْهَرَ عمَلَهُ للنَّاس ريَاءً." سمَّعَ الله به" أي : فضَحه يومَ القيامة.
قال التهانوي:"السمعة: تكون في القول2، وقال ابن عبد السلام: السمعة أن يخفى عمله ثم يحدث به الناس3.
قال ابن حجر: قال الخطَّابي: المعنى مَنْ عمل عملاً على غير إخلاص، يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزِيَ على ذلك بأن يُشهِّر اللهُ به ويفضحه ويُظهر ما كان يُبطنه، وقيل : مَنْ قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإنَّ اللهَ يجعله حديثاً عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة، وقيل: المراد: مَنْ قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليُعَظِّموه وتعلو منزلته عندهم، حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاؤه على عمله، ولا يُثاب عليه في الآخرة، وقيل: المعنى: مَنْ سَمَّع بعيوب الناس وأذاعها أظهر اللهُ عيوبه وسمَّعَه المكروه.وقيل معنى سمَّع الله به شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة4.
قال الإمام النووي:"قال العلماء معناه من رآء بعمله وسمعه الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمع الله به يوم القيامة الناس وفضحه. وقيل معناه من سمع بعيوبه وأذاعها أظهر الله عيوبه, وقيل أسمعه المكروه, وقيل أراه الله ثواب ذلك من غير أن يعطيه إياه ليكون حسرة عليه وقيل معناه من أراد بعمله الناس أسمعه الله الناس وكان ذلك حظه منه"5(/1)
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-عند قوله-"من سمَّعَ سمَّعَ الله به" يعني من قال قولاً يتعبد به الله، ورفع صوته بذلك حتى يسمعه الناس ويقولون فلان كثير الذكر، كثير القراءة وما أشبه ذلك،فإن هذا قد سمَّع عباد الله يرائي بذلك سمّع الله به أي فضحه وكشف أمره وبين عيبه للناس وتبين لهم أنه مرائي، والحديث لم يقيد هل هو في الدنيا أو في الآخرة، فيمكن أن يسمع الله به في الدنيا فيكشف عيبه عند الناس، ويمكن أن يكون ذلك في الآخرة وهو أشد والعياذ بالله وأخزى، كما قال الله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} فصلت:16.
ويدخل في قوله-صلى الله عليه وسلم-:" من سمَّع سمَّع الله به" الذين يشققون الخطب، وينمقون الألفاظ، ويتقعرون في الكلمات، ويمططون أصواتهم بالتلاوة والآذان، ليقال أصواتهم حسنة، وألسنتهم فصيحة، ومالهم من بلاغة القول إلا ما تستحسنه الآذان، ولا ينفذ منها إلى القلوب، وإنما يؤثر في النفوس القول البليغ الذي يتوصل به السامع إلى قصد المتكلم، ويبلغ به المنفعة المرجوة له ولقائله، وكذلك يدخل فيه الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، والذين يتتبعون عثرات الناس، ويتكشفون عوراتهم، من أجل أن يفضحوهم، وإذا سمعوا منهم الكلمة طاروا بها في الآفاق. وملئوا بها القلوب والآذان، لا لشيء سوى الإنكار على قائلها والتسميع به، والله لا يحب كل أفاك أثيم6.
وقوله-صلى الله عليه وسلم-:"وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ"
الرياء مصدر قولهم: راءه يرائيه رياءً ومراءةً، وهو مأخوذ من مادَّةِ رأى التي تدل- كما يقول ابن فارس-على نظر وإبصار بعين أو بصيرة، يقال من ذلك: راءى فلان، وفعل ذلك رئاء الناس ورياء الناس، وهو أن يفعل شيئاً ليراه الناس7.
قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آل عمران:105.
أما في الاصطلاح: فقد قال الجرجاني: الرياء: ترك الإخلاص في العمل بمراعاة غير الله فيه8 .
وقال ابن حجر الهيتمي:" حد الرياء المذموم: إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى، كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وكماله، فيحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء9.
وقال ابن حجر العسقلاني: الرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبه10.
وكل عمل فيه رياء معدود من السيئات، وإن كان صالحاً في ظاهره، وما يلبث صاحبه أن يظهر سره، ويتضح أمره، فيحيق به مكره، وعلى الإخلاص وعدمه، يترتب حسن الخاتمة وسوءها، كما جاء في الحديث الشريف:" إنَّ أَحدُكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"11.
فالآيات والأحاديث في الرياء كثيرة فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} البقرة:264، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} النساء:38.
أما الأحاديث فقد جاءت أحاديث كثيرة منها حديث ابن عباس الذي بين أيدينا، وكذلك حديث أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-"أن رجلاً أعرابياً أتى النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله ، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:" من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله"12.
وعن محمود بن لبيد-رضي الله عنه- قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: " الرياء إن الله تبارك وتعالى، يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟"13.
قال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-:"للمرائي ثلاث علامات، يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم14.
وقال الفضيل بن عياض: "كانوا يراءون بما يعلمون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعلمون"15.
وعن عاصم قال: كان أبو وائل_شقيق ابن سلمة- إذا صلى في بيته ينشج نشيجاً، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وواحدٌ يراه، ما فعله"16.(/2)
الفرق بين الرياء والشرك الأكبر:
قال ابن حجر الهيتمي-رحمه الله-: يتضح الفرق بين الرياء" وهو الشر الأصغر وبين الشرك الأكبر بمثال هو أن المصلي مراءاة يكون رياؤه سبباً باعثاً له على العمل، وهو تارة يقصد بعمله تعظيم الله تعالى، وتارة لا يقصد شيئاً، وفي كل منهما لا يصدر عنه مكفر، بخلاف الشرك الأكبر الذي لا يحدث إلا إذا قصد تعظيم غير الله تعالى، وعلم بذلك أن المرائي إنما حدث له هذا النوع من الشرك بتعظيمه قدر المخلوق عنده حتى حمله ذلك على الركوع والسجود، فكأن المخلوق هو المعظم بالسجود من وجه، وذلك غاية الجهل17.
أقسام الرياء:
ذكر الغزالي: أن الرياء بحسب ما يراءى به خمسة أقسام:
1- الرياء في الدين بالبدن، وذلك بإظهار النُحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة. أما رياء أهل الدنيا فيكون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة، وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء
2- الرياء بالهيئة والزي، وذلك بتشعيث شعر الرأس، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب وتقصير الأكمام, وترك تنظيف الثوب, وتركه مخرقاً، كل ذلك لإظهار أنه متبع للسنة. أما مراءاةُ أهل الدنيا فبالثياب النفيسة، والمراكب الرفيعة, وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن.
3- الرياء بالقول، ويكون من أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة, وحفظ الأخبار والآثار لإظهار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمامهم. وأما أهل الدنيا فيكون رياؤهم بحفظ الأشعار والأمثال، والتفاصح بالعبارات، وحفظ الغريب من النحو واللغة للإغراب على أهل الفضل.
4- الرياء بالعمل، وذلك كمراءة المصلي بطول القيام والركوع والسجود ونحو ذلك. أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وغيرهما مما يدل على الجاه والحشمة.
5- المراءاة بالأصحاب والزائرين، كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، ومن ذلك كثرة ذكر الشيوخ. قال الغزالي : فهذه الخمسة هي مجامع ما يرائي به المراءون، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد18.
درجات الرياء:
للرياء بحسب قصد المرائي أربع درجات:
الأولى: وهي أغلظها ألا يكون مراده الثواب أصلاً، كالذي يصلي أمام الناس، ولو انفرد فإنه لا يصلي، وربما دفعه الرياء إلى الصلاة من غير طهر.
الثانية: أن قصده للثواب أقل من قصده لإظهار عمله. وهذا النوع قريب مما قبله في الأثم.
الثالثة: أن يتساوى قصد الثواب وقصد الرياء، بحيث أن أحدهما وحده لا يبعثه على العمل، ولكن لما اجتمع القصدان انبعثت فيه الرغبة في العمل، وهذا قد أفسد بمقدار ما أصلح، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم من العقاب.
الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن ذلك ما ترك العبادة، وهذا النوع لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب صاحبه على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب"19.
حكم الرياء:
ذكر الذهبي الرياء ضمن الكبائر، وذكر أدلة ذلك من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح20، وعده ابن حجر الكبيرة الثانية بعد الشرك بالله، وقال : شهد بتحريمه الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة، وبعد أن أشبع القول في ذكر أدلة تحريمه قال: المعنى في تحريمه وكونه كبيرة وشركاً مقتضياً للعن أن في استهزاء بالحق تعالى، ومن ثم كان الرياء من كبائر الكبائر المهلكة ولذلك سماه الرسول-صلى الله عليه وسلم-:" الشرك الأصغر"21، وفي الرياء أيضاً تلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنه مخلص مطيع لله تعالى وهو بخلاف ذلك22.
وقال ابن حجر أيضاً: إذا أطلق لفظ الرياء-شرعاً- فالمراد الرياءُ المذموم- وهو العبادة التي يراد بها غير وجه الله-تعالى-، وقد يطلق الرياء على أمر مباح وهو طلب نحو الجاه والتوقير بغير عبادة، كأن يقصد بزينة لباسه الثناء عليه بالنظافة والجمال ونحو ذلك، ووجه عدم حرمة هذا النوع أنه ليس فيه ما في الرياء المحرم من التلبيس بالدين والاستهزاء برب العالمين.
وأقبح أنواع الرياء ما تعلق بأصل الإيمان وهو شأن المنافقين، يلي ذلك المراءاة بأصول العبادات الواجبة، كأن يعتاد تركها في الخلوة، ويفعلها في الملأ خوف المذمة، وهذا يؤدي إلى أعلى أنواع المقت، يلي ذلك المراءاة بالنوافل التي يفعلها المرائي باعتيادٍ أمام الناس ويرغب عنها في الخلوة، ويلي ذلك في القبح المراءاة بأوصاف العبادات كتحسنها وإظهار الخشوع فيها في الملأ والاقتصار في الخلوة على أدنى درجاته23.
معالجة الرياء:
لا يستطيع أحد أن يقمع الرياء إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات ويكون ذلك بأمرين:
الأول: قلع عروقه واستئصال أصوله وهي : لذة المحمدة والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس، وهذا الثلاثة راجعة إلى حب المنزلة والجاه.(/3)
الثاني: أن يشمر الإنسان عن ساعد الجد لدفع ما يعرض من خاطر الرياء، وخواطره ثلاثة أيضاً هي: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم، ثم هيجان الرغبة من النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم، ويعقب ذلك هيجان الرغبة في قبول النفس لهأي الحمد والمنزلة والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه، والخاطر الأول يسمى معرفة، والثاني رغبة وشهوة, والثالث هو العزم وكمال القوة في دفع الخاطر الأول قبل أن يعقبه الثاني، فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: مالي وللخلق علموا أو لم يعلموا، والله عالم بحالي فأي فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد فعليه أن يذكر تعرض المرائي للمقت عند الله يوم القيامة وخيبته- في أحوج أوقاته-إلى أعماله، وعندئذ تثور عنده كراهة للرياء تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم، الشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع–لا محالة- أواهماً ويتضح من ذلك أنه لا بد في رد الرياء الذي خطر أثناء العبادة من المعرفة والكراهة والإباء.
أما من الناحية العملية فإن دفع الرياء يستلزم من المرء أن يعود نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله ولا تنازعه نفسه بطلب علم غيره الله به، وهذا وإن كان يشق في البداية إلا أنه يهون بالصبر عليه وبتواصل ألطاف الله –عزوجل-وما يمد به عباده من التأييد والتشديد24
مضار الرياء:
1- الرياء محبط للأعمال مضيع لثوابها.
2- الرياء سبب للمقت عند الله، والمرائي ملعون ومطرود في رحمة الله تعالى.
3- الرياء من كبائر المهلكات25.
4- الرياء دليل على غاية جهل المرائي.
5- الرياء غصن من شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والغم وضيق الصدر وظلمة القلب وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم26.
6- الرياء يجلب الفقر ويعرض صاحبه للفتن .
7- الرياء يفضح أصحابه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
8- يضاعف الله عذاب المرائين من القراء فيجعلهم في وادي الحزن في جهنم وساءت مصيرا.
9- الرياء يحول العمل الصالح إلى نقيضه فيحمل صاحبه به وزراً بدلاً من أن يكون له أجراً أو يكون عليه ستراً.
10- لا يسلم المرائي من أن يفتضح أمره في الدنيا فيسقط من أعين الناس وتذهب هيبته، ناهيك عن حسرته يوم القيامة.
11- يظهر الله عيوب المرائي ويسمعه المكروه جزاء ما قدمت يداه27.
عافانا الله من السمعة والرياء إنه على كل شيء قدير ، والحمد لله رب العالمين،
________________________________________
1 - رواه البخاري(6134)، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة. ومسلم(4/2289)(2986)،كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله.
2 - كشاف اصطلاحات الفنون(3/607).
3 - فتح الباري(11/344).
4 - فتح الباري(11/344-345)
5 - راجع: شرح النووي على صحيح مسلم(18/116).
6 - راجع: إصلاح المجتمع ص(15).
7 - مقاييس اللغة لابن فارس(2/472-473).
8 - التعريفات ص119.
9 - الزواجر(1/43).
10 - فتح الباري(11/344).
11 - متفق عليه.
12 - متفق عليه.
13 - أحمد في المسند(5/429)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(1555).
14 - راجع الإحياء (3/296).
15 - المصدر السابق(3/296-297).
16 - نزهة الفضلاء(1/357).
17 - راجع: الزواجر لابن حجر(1/44).
18 - إحياء علوم الدين(3/297).
19 - إحياء علوم الدين(3/301-302).
20 - الكبائر ص (154).
21 - أحمد في المسند(5/429)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(1555).
22 - راجع الزواجر(2/44).
23 - راجع: الزواجر لابن حجر(1/43-46).
24 - راجع: إحياء علوم الدين(3/310-314).
25 - ذكر هذه المذام الثلاثة ابن حجر في الزواجر(1/47).
26 - راجع: ابن القيم الفوائد (226).
27 - راجع: نضرة النعيم (10/4567).(/4)
من صفات المؤمنين
عبد العظيم بدوي الخلفي
ملخص المادة العلمية
1- أن الميزان الذي يزن الله به الناس هو ميزان التقوى. 2- فضل الصدق وذم الكذب. 3- فضل القلب على سائر الأعضاء وفضيلة الاعتناء به والحذر من إصابته بالأدواء الخبيثة كالحسد والبغي ونحو ذلك. 4- فضل الزهد في الدنيا وحب الآخرة. 5- فضل حسن الخلق.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق))، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: ((هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد))، قيل: فمن على أثره؟ قال: ((الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة))، قيل: فمن على أثره؟ قال: ((مؤمن في خلق حسن)).
قال الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
فقد أشار الله سبحانه في هذه الآية إلى أن الشعوب والقبائل والأحساب والأنساب والأموال ونحوها من قيم الناس لا تزن عند الله جناح بعوضة، وإنما الميزان الذي يزن الله به الناس ويرفعهم به في الدنيا والآخرة هو ميزان التقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
وهذا الحديث يؤكد هذا المعنى، ويبين باختصار شديد أن الخيرية مردّها إلى تقوى الله وحسن الخلق، وأنه على قدر حظ العبد منهما يكون حظه من الخيرية، فكلما زاد حظه من التقوى وحسن الخلق زاد حظه من الخيرية، وكلما نقص حظه منهما نقص حظه منها.
فالرسول يقول: ((خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق)).
واللسان والصادق معروف ولذا لم يسألوا عنه. والصدق فضيلة عظيمة، ومنقبة جليلة، جعله الله من صفات المتقين فقال في حقهم: الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار [آل عمران:17].
وأمرنا أن نكون مع أهله فقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119].
وقال النبي : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)). والصديقية درجة فوق درجة الشهادة ودون درجة النبوة، قال تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء:69].
وكما مدح الله الصدق وأهله ذم الكذب وأهله، وجعل الكذب من صفات المنافقين والكافرين، فقال تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون [البقرة:10].
وقال تعالى: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [النحل:105].
وقد نعى الله تعالى على أقوام جريهم وراء الظنون التي ملأت عقولهم بالخرافات وأفسدت عليهم حاضرهم ومستقبلهم، فقال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى [النجم:23].
أي: فأعرضوا عنه. وقال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [النجم:28].
وقال النبي : ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)).
وقال : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)). وقال : ((وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا)).
فعلى المسلمين أن يعظموا الصدق ويتحرّوه في كل أقوالهم، وأن يحذروا الكذب ويجتنبوه على كل حال، فإن الله وعد الصادقين بالجنة، وتوعد الكاذبين بالنار، قال تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله وكذّب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [الزمر:32-35].
وأما القلب المخموم فقد سأل عنه الصحابة رسول الله فقال: ((هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد)). وإنما وصف القلب بالتقوى لأنه محلها، كما قال تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32].
كما قال النبي : ((التقوى هاهنا)) وأشار إلى صدره.
ولذا كان القلب محل نظر الله تعالى، كما قال النبي : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). وكان صلاح الجسد متوقفا على صلاح القلب، كما قال النبي : ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
فإذا امتلأ القلب بالتقوى فقد صلح وصلح بصلاحه الجسد كله، وإذا خلا القلب من التقوى فقد فسد وفسد بفساده الجسد كله.
فاتقوا الله عباد الله، وجمِّلوا قلوبكم بتقوى الله، فإنها لباسها، كما أن الثياب لباس البدن قال الله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير [الأعراف:26].(/1)
ومما يفسد القلب دنايا الأخلاق وقبيح الصفات، وأعظمها: الإثم، والبغي، والحسد، ولذا حرّم الإسلام هذه الأخلاق، قال الله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33].
وقال النبي : ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً)).
وقد أخبر النبي أن هذه الأخلاق الدنيئة ستصيب الأمة، وتحدث فيها البغي العدوان، فقال : ((سيصيب أمتي داء الأمم)). قالوا: وما داء الأمم؟ قال: ((الأشر والبطر والتكاثر والتشاحن في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي)).
فالله الله عباد الله، إياكم وهذه الأخلاق الدنيئة، والصفات القبيحة، فإنها تنافي الإيمان، لأن الحسد من صفات الكفرة الفجرة، قال تعالى عنهم: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [النساء:54].
واعلموا – عباد الله – أن سلامة الصدر من هذه الأخلاق الدنيئة هي سبب دخول الجنة.
عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا مع رسول الله فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة))، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلّق نعليه في يده الشمال. فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثال حاله الأولى. فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدّث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعارّ (أي استيقظ) وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبّر حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا. فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرار: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت. قال: فلما ولّيت ناداني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
هذا هو ((خير الناس، ذو القلب المخموم واللسان الصادق)). قيل: فمن على أثره؟ قال: ((الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة)) ومعناه الذي يكره الدنيا ويحب الآخرة.
وقد ذمّ الله تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة، فقال تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [الأعلى:16-17].
وقال تعالى: كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة [القيامة:20-21].
وقال تعالى: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا [الإنسان:27].
فإذا ذم الله تعالى من أحب الدنيا فقد دل ذلك على مدح من لا يحبها.
وقال بعضهم: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لآثرت العقول ما يبقى على ما يفنى، فكيف والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
وقال النبي : ((من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيّته جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)).
وقال بعضهم: الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان، ما ترجح إحداهما حتى تخفّ الأخرى.
وقال آخر: إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى.
والأحاديث في ذم الدنيا وتحقيرها كثيرة جدا، ومنها:
عن جابر عن النبي : أنه مر بالسوق والناس كنفيه فمر بجدى أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه فقال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حيا لما رغبنا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((والله! للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)).
وعنه أنه قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ، فلينظر بماذا يرجع؟)).
وقال : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)).
ثم ((قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن)).
إن حسن الخلق عنوان كمال الإيمان، وسوء الخلق دليل النقصان، ولذا قال النبي : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)).
ولقد كانت تزكية النفس من دنيا الأخلاق وقبيح الصفات غاية من غايات بعثته . قال الله تعالى: لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [آل عمران:164].(/2)
وقال النبي : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
الناظر في أصول العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج يجدها كلها تجتمع على تهذيب النفس وتنمية الأخلاق الحميدة فيها:
قال تعالى عن الصلاة: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [العنكبوت:45].
وقال عن الصيام: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183].
وقال عن الزكاة: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [التوبة:103].
وقال عن الحج: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [البقرة:197].
فلا غرابة بعد ذلك إذا رأينا النبي يشيد بالأخلاق الحميدة ويرفع من شأنها وشأن أهلها: يقول النبي : ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).
ويقول : ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق)).
ويقول : ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟
فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).
بل بلغ من عنايته بحسن الخلق أن جعل حسن الخلق يدخل الإنسان الجنة وإن قلّ عمله، وجعل سوء الخلق يدخل الإنسان النار وإن كثر عمله.
عن النبي أن رجلا قال له: يا رسول الله! إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها.
فقال: ((هي في النار)). ثم قال: يا رسول الله! فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها.
قال: ((هي في الجنة)).
فالله الله عباد الله!
زكوا أنفسكم، وحسّنوا أخلاقكم، واسألوا الله من فضله أن يهديكم لأحسن الأخلاق، وألظوا بـ: ((اللهم كما حسّنت خلقنا حسّن أخلاقنا)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها(/3)
من ظلمات الوثنية إلى ضياء الإسلام
بقلم الطالب : محمد ضياء الرحمن الأعظمي
حينما كنت طالبا في كلية شبلي بمدينة أعظم كده منذ تسع سنوات تقريبا وقعت يدي على بعض الكتب التي تتعلق بقواعد الإسلام، فأقبلت على دراستها بكل رغبة واجتهاد، وأول كتاب قرأته هو ((الدين الحق)) المترجم باللغة الهندية لفضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي حفظه الله. وبدأ هذا الكتاب بقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وكنت جاهلا بمعاني القرآن الكريم ومع ذلك فقد أثّرت ترجمة الآية في نفسي تأثيرا شديدا؛ لأني كنت أعتقد دين آبائي اعتقادا جازما أنه الحق والعداوة للإسلام كانت راسخة في قلوبنا نتيجة الاتهامات الكاذبة الشائعة لملوك المسلمين من قبل المؤرخين الهندكييين الذين كنا ندرس كتبهم في المدارس الحكومية، ويزعم هؤلاء المؤرخون إن المسلمين قد حكموا البلاد بالظلم والعدوان.
وهذا يتركز في أذهان الطلاب الهندكيين لأجل ذلك يجد الطالب نفسه مضطرا لمعاداة المسلمين وبغضهم.. وازدادت تلك العداوة حتى عمَّت البلوى وكنت ممن يكن البغضاء للمسلمين، فجعلت أبحث في الكتب الإسلامية عن الإسلام ليلا ونهارا لعلي أستطيع بذلك الطعن فيه، ولكن الأمر قد انعكس حينما أثَّرَت هذه الكتب في نفسي تأثيرا ألجأني إلى هجر الكتب الدراسية التي كنت أدرس في ذلك الوقت.
ومن المعلوم أن الدين الهندكي كان منذ آلاف السنين هو المصدر الوحيد للحضارة الهندية وأساس قوانينها، لذلك كنت في قلق واضطراب من ((ويدك وهرم )) وقد بقيت بضع سنين في هذه العصبة الجاهلية.
والمؤرخون الهندكيين يكنون للمسلمين عداوة شديدة في صدورهم ويكشفون عنها الحجب في كتبهم التاريخية. أحيانا يطعنون في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الطاهرة بقولهم إنه كان راغبا في الحياة الدنيا ولذاتها وهذا الجهل المركب تركز في عقول الشباب الهندكيين.
ومهما يكن فإن عداوة الإسلام كانت من تراث آبائنا، فإذا نظرت إلى أحوال المسلمين لم أجد فيها ما يرغبني، فإنهم متخلفون من الوجهة الاقتصادية والوجهة الخلقية، لذلك كان معظم الناس يقولون أن الإنسان اليوم في أشد الحاجة إلى الهدى والرشاد ممن يهديه إليهما بعد أن ضل ضلالا بعيدا.
وبالجملة فإن جميع الأسباب لمعاداة المسلمين والإسلام كانت متوفرة لدى الطالب الهندكي، ولا يستطيع الطالب بمعلوماته القليلة الضيقة يبحث مباحث توصله إلى دين الحق، ويكشف عنه ظلمات اللبس وسحب الجهل إذ؛ ليس من المعقول أن تعتبر هذه المعلومات الضئيلة كافية لحل مسائل الحياة الإنسانية، فوجدت نفسي مضطرا للرجوع إلى (ويدك وهرم) ليطمئن قلبي بما أختار وأسير على الطرق القويم، لكن ما وجدت فيه إلا أساطير الأولين من عبادة النار والبحر والأشجار والأحجار وغيرها من الجمادات والبهائم التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف بغيرها.
وأحيانا يعلل خلق الكون بصورة شنيعة قبيحة فيها رائحة منتنة يفر منها الإنسان اللبيب وهاأنذا أسوق إليك أيها القارئ الكريم بعضها:
يقول الدكتور تاراجند الفيلسوف الهندكي في كتابه: (فكرة ويد): إن الأضحية (أي ذبح الحيوان) آية لصلاح العالم، وهي وسيلة القوة للخالق إذا تعب من الخلق وذهبت قوته فالملائكة يستردون هذه القوة بالأضحية فينزل بها المطر وتطلع بها الشمس ويأتي بها الطوفان لأن هذه هي السبب الوحيد الذي تتم به إرادة الخالق (ص30).
(وشو): هو الإله الثالث في اعتقادهم، وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء حفيظ، له أعين في جميع الجهات كلها، وله وجه في جميع الجهات، له أيد وأرجل كثيرة وهو وحده لا شريك له. (ريتي ويد 10-81-2-4)
و هو ذات واحدة يسمى برم برش - أفضل الناس - له آلاف الرؤوس وآلاف الأعين وآلاف الأرجل وهو محيط بجميع العالم ومنفصل عنه وكل ما كان وما يكون فهو صادر منه وهو مالك الحياة الأبدية ولا يعاقب على أي عمل يعمله لأن أعماله كلها خير.
(فكرة ويدانت ): يقول المفكر الهندوكي وويكانند في كتابه HINDUISM))
خرج هذا العالم من العدم إلى الوجود بإرادة الخالق، المادة والروح والخالق كل منها أزلي وقديم لا يجري عليها زمان ولا يأتي عليها حدوث تدوم الحياة كما يدوم الخالق وكذلك تدوم الفطرة ولكنها تتغير بتغير الزمن. أما الخالق فهو موجود في كل زمان ومكان عالم بكل شيء ليس له صورة حسية ولن يستطيع أحد أن يصل إلى رفعته إذا ادعى أحد لنفسه أنه الله فقد كفر به. ( ص64-61)
(فكرة منو السمرتي): إن هذا الكتاب هو المأخذ الأساسي لقانون الهنادك ودونك الباب الأول الذي يبحث فيه عن الخلق:(/1)
إن هذه الدنيا كانت غامضة لا توجد لها علامة ولا وسيلة يتوسل إليها ثم ظهر - برميشور - (إله الآلهة) بمادة التكوين وأراد أن يخلق خلقا من ذاته فخلق الماء وألقى فيه النطفة وأصبحت هذه النطفة بيضة فإذا - ببرهما - الخالق يخرج منها وكسر البيضة نصفين فخلق من أحدهما الجنة ومن الثاني الأرض والسماء وما بينهما والجنات الثمانية والبحور الهادئة، ثم خرج من فمه (براهمن) ومن عضده (جهري) ومن فخذه (ويسن) ومن رجله (شودر) فما دام براهما مستيقظا فالدنيا باقية وإذا أخذه النوم تقوم القيامة - من باب الأول إلى الخامس ثم العاشر -.
(فكرة بران) يعد بران عند الهندكيين من الكتب المقدسة أسفاره أكثر من أن تحصى ولكن كله ينسب إلى ويدوياسي فاختلف أصحاب بران في خلق العالم وجاءوا بالقصص الماجنة البذيئة ودونك بعضعها:
يقول صحاب بران ((ديوي بهكوت)) الخالق لهذا العالم هو امرأة من شرى بور اسمها - شرى - وهي التي خلقت الآلهة الثلاثة المعروفين لديهم ((برهما)) (خالق الحياة) ((وشنو)) ( الرازق) و((مهيش)) (قابض الأرواح).
لما أرادت هذه المرأة أن تخلق العالم وضعت إحدى يديها على الأخرى فإذا ببرهما خرج منها وأمرته أن يتزوجها فأبى لأنه اعتقد أنه ولدها فغضبت المرأة غضبا شديدا فأحرقته ثم أعادت عملها فخرج منها ((وشنو)) فأمرته أن يتزوج بها فأبى فأحرقته أيضا ثم أعادت العمل فخرج ((مهيش)) فأمرته أن يتزوجها فامتنع إلا بشرط وهو أن تغير صورتها وتأتي بصورة غيرها ففعلت ما طلب منها ثم طلب ((مهيش)) أن تحي أخويه اللذين أحرقتهما، فأحيتهما ثم طلب أن تخلق امرأتين يتزوج كل واحد منهما بواحدة ففعلت وتزوج كل واحد منهم بواحدة فهؤلاء الآلهة الثلاثة هم الذين خلقوا العالم ويديرونه (ستيسارتق بركاش الباب 11).
وفي هذه الكتب المقدسة عندهم أفعال ينسبونها إلى الخالق لا يرضى أحد من الناس أن ينسب إليه - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - فكان مثلي بعد الدراسة ((ويدك وهرم)) كمثل رجل فر من المطر خوفا من البلل ووقف تحت الميزاب أو كما قال الشاعر العربي:
المستجير بعمرو عند كربته
...
...
كالمستجير من الرمضاء بالنار
و بعد ذلك انشرح صدري للخروج من دين آبائي وطرح العقيدة الجاهلية والدخول في الإسلام وسجدت شكرا لله القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام}.
الأمور التي حملتني على الدخول في الإسلام:
1- أن الإسلام ليس دينا موروثا عن الآباء بل هو لكل من يفتح له صدره.
2- ليس في الإسلام فوارق جنسية ولا عصبيات جاهلية فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. (الحجرات)
3- أن الأخوة الإسلامية في الإسلام مقدم على جميع علاقات النسب والوطن كما بين الله تعالى في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. (سورة التوبة)
4- أن الحديث العهد بالإسلام يصبح كواحد من عشيرة المسلم المولود في الإسلام قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} وإن العالم الإسلامي يعبر له وطنا حقيقيا مصدقا لقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت)
5- أن الإسلام قانون لجميع شؤون الحياة الإنسانية وهو يقدم أحسن حل في المشاكل الفردية والاجتماعية وقد أخطأ الذين يحصرون الإسلام في المساجد والخانقاهات والأربطة.
هذه الأمور المهمة الثابتة التي أدركت حقيقتها قبل تسع سنوات في الأيام الجاهلية وكنت على دين آبائي فاهتديت بحمد الله لتركه واتجهت إلى الإسلام بكل وجودي وهو حق لا يرتاب فيه عاقل فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.
ولما دخلت في الإسلام أصابني مصائب شتى {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} وصدق الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.(/2)
المرحلة الأولى: أن والدي حرمني من التعليم العالي وأخرجني من ((مدينة أعظم كره)) وبعثني إلى ((كلكتا)) حيث صرت غريبا لا أجد فيها أحدا من المسلمين أعرفه ويعرفني ولكن الله يسر لي في غربتي من أرشدني وأعارني ما كنت في حاجة إليه من الكتب ولولا ذلك لكان إسلامي في خطر عظيم، والحقيقة أن هذه المرحلة كانت على أشد ما يتصور وبعد الوصول إلى كلكتا مباشرة بحثت عن مركز الجماعة الإسلامية فوجدته وحصلت على بعض الكتب الهندية المترجمة وبدأت أطالعها لأستعد للمرحلة الآتية. وقد اطمأنت نفسي بمصاحبة الشيخ عبد التواب حفظه الله في هذه المرحلة فأحمد الله الذي يسر لي الأمور إلى هذا الحد وأيضا أشكر المخلصين الذين ساعدوني كل المساعدة في اللحظات الخطيرة والله لا يضيع أجر المحسنين.
المرحلة الثانية: هذه المرحلة كانت مرحلة البحث والمناظرة مع النساك الهندكيين مع صغر سني وقلة علمي وبعدي عن المسلمين وكلما فكرة في البحث والمناظرة التي جرت بيني وبين النساك الهندكيين تعجبت كيف انتصرت عليهم وقد كانت القوى الكافرة متألبة على إسلامي على اختلاف مسالكها ومذاهبها.
لا أذكر من أسألتهم إلا سؤالا واحد وهو قولهم: "لم تختارون الإسلام مع أن المسلمين في شدة وضيق وتفرق وفقر وبعد عن الأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة ؟" فأجبتهم قائلا: "ما اخترت الإسلام إلا بعد مطالعة قواعد الإسلام لا بدراسة أحوال المسلمين اليوم وإن كنتم في ريب منه فأعرضوا علي ما أشكل عليكم من أصل الإسلام وعقيدته". ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح فبهتوا وسكتوا وانقلبوا خائبين يلومون أنفسهم كما هي عادة المعاندين عند المحاولة فصدق عليهم قول الله عز وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. فما كنت أرجع إلى بيتي إلا وقلبي مطمئن بالإيمان واستمر هذا البحث والنقد خمسة عشر يوما متوالية.
المرحلة الثالثة: ثم جاءت مرحلة الأذى والتعذيب التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر فمن أذاهم حبسهم الماء والطعام عني وانقضوا علي ضربا بالعصا والنعال فاستمروا بجهودهم شهرين متتابعين وبعد ما يئسوا من رجوعي إلى دينهم تآمروا على قتلي ولولا أن الله أنجاني منهم بلطفه الخفي لقتلوني شر قتلة، فيسر الله لي طريق الهجرة وهاجرت إلى مكان هادئ تاركا والدي والرفقاء والأصدقاء والكثير من العشيرة الأقربين لأحافظ على ديني وإيماني كل المحافظة بفرح وسرور، كما هاجر أبونا إبراهيم عليه السلام قائلا: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
المرحلة الرابعة: فلما خرجت من وطني مهاجرا إلى ربي ووصلت إلى بعد 400 كيلومتر غربا إلى بلدة بدايون أردت أن أقرأ القرآن وأتعلم اللغة الأردية فعينت مدرسا للغة الهندية والإنجليزية والتاريخ والرياضيات في مدرسة إسلامية صغيرة، وفي أوقات الفراغ كنت أتعلم القرآن. ولكن الهندكيين علموا بذلك سنتين ولم يرضوا بهذا فجاءت المؤامرات الأخرى. ووجدت نفسي مضطرا إلى الخروج من هذه الناحية إلى ناحية أخرى بعيدة عنها وهي مدارس في جنوب الهند وتبعد عنها بدالون ألفي ميل.
و لما وصلت إلى مدارس التحقت بمدرسة دينية معروفة تسمى (( بجامعة دار السلام)) وهي محاطة بالجبال والأشجار ذات بهجة ومنظر ممتع يسر الناظرين، ثم أصبحت طالبا رسميا في تلك المدرسة وهذه المدرسة تهتم بالتعليم والتربية متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فبذلك حفظني الله من التعصب للمذاهب واتباع الأهواء والفرق المبتدعة والطرائق الخرافية.
فطفقت أتعلم اللغة العربية وآدابها وعلومها والعلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه، وتعلمت شيئا من المنطق والفلسفة. واستمرت دراستي ست سنين، ثم بعد التخرج في المدرسة قدّمت طلبا للالتحاق بالجامعة الإسلامية إلى صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كي أنهل العلوم الشرعية من مناهلها الصافية فقبل الشيخ طلبي فسافرت من بلاد الهند إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سائلا الله تعالى أن يجعلني من الحنفاء المخلصين له الدين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
الحرية
حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا كاملا وحقيقيا من العبودية للبشر.
و لا حرية في الحقيقة ولا كرامة للإنسان في مجتمع بعضه أرباب يشرعون وبعضه عبيد.
المعالم / سيد قطب(/3)
من علامات الساعة (5)
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ من علامات الساعة ضياع الأمانة. 2 ـ من علامات الساعة فشو الكتاب كتاب وقلة العلم 3 ـ من علامات الساعة قلة الأخيار والعلماء والصالحين. 4 ـ تحقق هذه العلامات.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فلقد سبق الحديث في خطب ماضية عن بعض علامات الساعة وأشراطها وأعود الآن لأذكر بعضها أيضاً لأن الحديث شيق عنها، وكيف لا يكون اشتياق المؤمنين الصادقين لذلك وهم يجدون أخبار الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأمور غيبية من قبل مئات السنين يرون ذلك ويعيشونه واقعاً مشاهداً أمام أعينهم! إنهم يزدادون مع إيمانهم إيماناً ويقيناً على يقينهم وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله عز وجل فيما بقي من أعمارهم، ويدحضون حجج وشكوك المبطلين الملحدين من أعداء هذا الدين لكي يبلغ الإسلام جميع أقطار الأرض وتقوم الحجة على الخلق أجمعين بإذن الله عز وجل.
ومن تلك العلامات التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقوعها في آخر الزمان وهي دلالة واضحة على قرب قيام الساعة ضياع الأمانة. والأمانة ضد الخيانة حتى إن الناس ينعكس مفهومهم وينكرون على الأمين أمانته ويعتبرونه درويشاً مغفلاً وأيضاً يقلبون عليه الأمور أمام الناس ويصفونه بالخيانة وعلى العكس من ذلك، الخائن هو الأمين في نظرهم ويقلبون الحقائق ليبرئوا ساحته ليظهر أنه أمين لا ضير عليه. وهذا مصداق لما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض حديثه: ((ويخوّن الأمين ويؤتمن الخائن)). ومن يختلط بالناس عموماً ويحتك بهم ويأخذ ويعطي هو بنفسه معهم يجد أموراً غريبة لا يكاد يصدِّق وجودها بين المسلمين فضلاً عن غيرهم لو لا الأحاديث الواردة في ذلك التي تورد الطمأنينة على نفسه وتزيد إيمانه ويقينه، أما البعيدون عن الاحتكاك بالناس أو الذين يعيشون في بروج عاجية بعيداً عن أمر العامة فيظنون أن الأمور في أحسن الأحوال، وينطبق عليهم إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.
فمن مظاهر تضييع الأمانة إسناد أمور الناس أياً كانت تلك الأمور إلى غير أهلها، ومعلوم أن أهلها هم أهل الأمانة والصدق والتعفف عن الحرام والإخلاص والوفاء وأداء الأمانة كما ينبغي بعد الخوف من الله عز وجل. فإذا أسندت مصالح الناس إلى غير أهلها ضاعت الحقوق وحصل الاستخفاف بمصالح العباد وإيغار الصدور وإثارة الفتن وإشاعة الفوضى في المجتمع وهذا هو حال المجتمعات اليوم، وبهذا يتبين صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على قرب وقوع القيامة، فحيناً يفكر المؤمن ويمعن النظر في واقع البشر اليوم يجد ذلك الخبر واقعاً ومشاهداً لا يملك إلا أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون وهو حسبنا ونعم الوكيل.
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: ((أين أُراه السائل عن الساعة؟)). قال: ها أنا يا رسول الله. قال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)). قال: كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)). وفي حديث آخر بيّن الرسول صلى الله عليه سلم كيف ترفع الأمانة من القلوب وأنه لا يبقى منها في القلب إلا أثرها حتى يصير الرجل خائناً بعد أن كان أميناً لمخالطته أهل الخيانة فيقتدي بهم ويفعل فعلهم.(/1)
جاء في صحيح البخاري رحمه الله من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: ((أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)). وحدثنا عن رفعها قال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت)) _ أي كالنقطة في الشيء من غير لونه ((ثم ينام النومة فتقبض ويبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت ،لئن كان مسلماً رده علي الإسلام، وإن كان نصرانياً رده علي ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً)). وورد أيضاً: ((أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخرها الصلاة)). وهاهو التهاون والاستخفاف بالصلاة وشأنها نعيشه الآن حيث تمتلئ المساجد في الجمع والعيدين وتخلو من كثير من المسلمين في الفروض، فأين أولئك الرجال من ناحية الحضور وأين إقامة الصلاة والخشوع وثمرة الصلاة في حياة الناس بالانتهاء عما يغضب الله عز وجلّ مع أن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. وهناك خطبة مستقلة عن الأمانة وما يتعلق بها، والكلام هنا هو عن إضاعتها وانتشار الخيانة، وكل لديه الشيء الكثير من المعلومات ولا داعي لضرب الأمثلة، ومن أشراط الساعة كثرة الكتابة وانتشارها وفي نفس الوقت يرفع العلم ويقبض العلماء ويثبت الجهل ويفشو وينزل في أوساط الناس، وقد يظن ظان بأن في الأحاديث تناقضاً، وليس الأمر كذلك وإنما هو الواقع اليوم كما أخبر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث انتشرت الكتابة وفشت حتى صارت دول العالم بأكملها تحارب الأمية كما يقولون فترى الرجال والنساء الذين فاتهم قطار التعليم والتعلم في الصغر يسارعون إلى الالتحاق بها حتى تفشو الكتابة وتنتشر ويحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن ذلك التعلم والتعليم لهم ولغيرهم يكون فيه الجهل أيضاً، علم العلوم الدنيوية وتعلمها يكون كثيراً فنحن نرى ونسمع عن تقدم العلوم، ولكن في أي مجال؟ إنها تعلّم علوم الحياة الدنيوية، والجهل بالعلوم الشرعية، لذلك ترى كثيراً من الناس لا يعرفون كثيراً مما تدعو إليه الضرورة في دينهم فضلاً عن الأمور الأخرى، وهذا يدل على جهل أكثر المسلمين بدينهم بالرغم من تقدم العلوم في جميع المجالات ومنها ما يسمونه بالثقافة وأن أكثر أفراد المجتمع مثقفون، نعم إنهم مثقفون في أمور الدنيا ولكن الجهل محيط بهم ومخيم عليهم في أمور دينهم، وأول تلك العلوم الشرعية التي لا يتقنونها مع أنهم معظمهم من العرب ويتكلمون بلسان عربي أولها: القرآن الكريم.(/2)
فمعظم من يعيش في مجتمع المسلمين من العرب لا يعرفون كيف يتلون كتاب الله كما أنزل، فهذا من الجهل. كذلك علم الفرائض التي ورد فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما)). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ويرفع العلم)). وقال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج)). أي القتل. وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يزال إلى أن تقوم الساعة حتى يُسْرى بالقرآن لا يبقى منه في الصدور ولا في السطور آية من كتاب الله. فتقارب الزمان حاصل حيث أن السنة تمر علينا كالشهر والشهر كالأسبوع والأسبوع كاليوم واليوم كالساعة والساعة كالدقيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة)). ولم يعد في الأوقات بركة، وهاهي السنون تطوينا طياً، وعلم الدين الصحيح في طريقه من سنوات مضت وذلك بقبض العلماء المتقين لله الذين هم ورثة الأنبياء ويحيون السنة ويميتون البدع ويحذرون منها فيظهر على العكس من يميت السنة ويحيي البدعة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء حنى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)). فتبين من هذا الحديث المتفق على صحته أن العلم المراد بالجهل فيه علم الدين، وجهل الناس هو الجهل بأمور الإسلام حتى إنهم يتخذون الجهال مفتين لهم فتكون الفتوى بغير علم فيضل السائل والمسؤول عياذاَ بالله من ذلك.
وأما عن كثرة الكتابة وانتشارها فيقول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((إن بين يدي الساعة.. ظهور القلم)). وفي حديث آخر: ((إن من أشراط الساعة.. أن يكثر التجار ويظهر العلم)). وقد كثرت الكتابة وانتشرت حتى بتوفر آلات الطباعة والتصوير التي سهلت انتشار الكتابة في أسرع وقت وأصبحنا نشاهد طباعة الجرائد والمجلات وغيرها من الأوراق الأخرى وتبادل المعلومات على بعد آلاف الكيلو مترات في المخترعات الحديثة التي سهلت نشر الكتابة وانتشارها خلال دقائق بل ثوانٍ مع الحاسبات الآلية والشبكة العنكبوتية، شبكة المعلومات المسماة بالإنترنت وغيرها. فمن أخبر رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم وأعطاه جوامع الكلم ليتحدث بها عن أمور غيبية تقع بعده بمئات السنين؟ إنه الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فتبارك الله رب العالمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدْرَى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى منه في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس. الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة يقولون: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)). وهذا والله أعلم في آخر الزمان عند قرب القيامة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((لينزعن القرآن من بين أظهركم يُسْرَى عليه ليلاً فيذهب من أجواف الرجال فلا يبقى في الأرض منه شيء)).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ما كثين فيه أبداً [الكهف:1-3]. أحمده تعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:(/3)
فإن من علامات الساعة وأماراتها التماس العلم عند الأصاغر أي أهل البدع والأهواء، وعندها يتفرق الناس وتتعدد المذاهب وتكثر الأحزاب الأهواء ويعجب كل ذي رأي برأيه ويتشبث به ويناصره ويبغض ويعادي من أجل الانتصار لرأيه وما هو عليه ويبغض ويعادي مخالفيه ويعتقد أنه على الحق وغيره على الباطل وعندها تكون الهلكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة ثلاثاً، إحداهن: أن يلتمس العلم عند الأصاغر)). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا. وسئل عبد الله بن المبارك رحمه الله عن الأصاغر؟ فقال: الذين يقولون برأيهم، فأما صغير يروي عنه كبير فليس بصغير، وقال أيضاً: إنهم أهل البدع وقد يقال كما هو مشاهد الآن وكما هو ظاهر في الوسائل الإعلامية المختلفة بأن المبتدئين في طلب العلم والذين يحبون الشهرة والمتحمسين للدعوة أيضاً وغيرهم ممن يظهر على الشاشات وأمام اللاقطات وعلى صفحات الجرائد والمجلات ويفتون الناس بعلم وبغير علم ويُترك العلماء والراسخون في العلم ويبعدون عن الظهور لأي سبب من الأسباب فيؤخذ العلم من الأصاغر ويترك الأكابر والله أعلم.
ومن العلامات ذهاب الصالحين وقلة الأخيار والمتقين وكثرة الأشرار وازديادهم حتى تقوم الساعة على شرار الخلق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأخذ شريطته _ أي أهل الخير والصلاح من أهل الدين _ من أهل الأرض فيبقى فيها عجاجة _ الغوغاء والأراذل ومن لا خير فيه _ لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان يغربلون فيه غربلة يبقى منهم حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا)) وشبك بين أصابعه.
ومنها ارتفاع أسافل الناس على خيارهم فتكون أمور الناس ومصالحهم بين سفهائهم وأراذلهم ويكونون هم أسعد الناس. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)). قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((السفيه يتكلم في أمر العامة)). وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع)).
ومنها صدق رؤيا المؤمن في آخر الزمان فهي تقع كما رآها في المنام، ولا تحتاج إلى تعبير وتأويل تسلية للمؤمن الصادق وإكراماً له وإعانة وإيناساً له بالرؤيا الصادقة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزء(/4)
... ... ...
من فضائل بيت المقدس وفتحه ... ... ...
عبدالحميد الداغستاني ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- قدم المسجد الأقصى. 2- خصائص المسجد الأقصى. 3- أرض الأقصى أرض البركة والأنبياء. 4- واجب المسلمين نحو الأقصى. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد :
معاشر المسلمين فعظموا ما عظم الله وأحلوا ما أحل الله، فذلك من التقوى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32]، وقد ورد في شأن بيت المقدس – رده الله إلى المسلمين – نصوص كثيرة منها ما ورد عن أبي ذر قال: (( قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت:ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد ))(2)رواه البخاري ومسلم.
وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي قال: (( لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس. سأل ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه . فقال النبي : أما اثنتان فقد أعطيها، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة ))(3)، وما ذاك معاشر المؤمنين إلا بفضل هذا الموطن المبارك .
ومن فضله أن الرحال تشد إليه قال النبي : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ))(4).
(( فضلت الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة ))(1)أخرجه الطحاوي.
وقد ورد أن الصلاة فيه تضاعف وأن المسيح الدجال لا يدخله، عن مجاهد قال : كنا ست سنين علينا جنادة بن أبي أمية فقام فخطبنا فقال : أتينا رجلا ًمن الأنصار من أصحاب رسول الله فدخلنا عليه فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله ولا تحدثنا ما سمعت من الناس فشددنا عليه فقال: (( قام رسول الله فينا فقال: أنذرتكم المسيح وهو ممسوح العين، قال أحسبه قال: اليسرى، يسير معه جبال الخبز وأنهار الماء، علامته يمكث في الأرض ومسجد الرسول والمسجد الأقصى والطور. ومهما كان من ذلك فاعلموا أن الله عز وجل ليس بأعور))(2).
ويكفي شرفاً لبيت المقدس أن إليه أسري نبينا ، ومنه كان المعراج حيث صعد منه إلى السماء وقيل: إنه هو الذي تصعد منه الأرواح إلى السماء حيث ينظر إليه العبد إذا شخص بصره عند طلوع روحه.
وقد وردت آثار في فضل من اعتمر من بيت المقدس وفعل ذلك عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما وأرضاهما – .
وفي مسجدها الصخرة المشرفة، وفيه الحلقة التي ربط النبي بها البراق وبمسجدها صلى النبي إماما بالنبيين والمرسلين. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله : (( من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس ))، وقال عبد الله بن عمر: بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك.
وفي بيت المقدس بشر الله زكريا بيحيى عليهما السلام. وسخر الله لداود الجبال والطير في بيت المقدس. ويهلك الله يأجوج ومأجوج في بيت المقدس. وولد عيسى عليه السلام في المهد في بيت المقدس وأنزلت عليه المائدة فيها ورفعه الله إلى السماء منها وينزل من السماء فيها ليقتل المسيح الدجال. وصلى النبي إلى البيت المقدس قبل توجهه إلى الكعبة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً. وورد في آثار أن المحشر والمنشر في بيت المقدس . وغير هذا من الفضائل كثير.
(2) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ، باب يزفون النسلانفى المسجد 4/ 117وصحيح مسلم ومواضع الصلاة 5/2 .
(3) سنن ابن ماجه 1/ 451 ، سنن النسائي 2/ 34 بلفظ الصلاة 5/2 .
(4) أخرجه البخاري ومسلم صحيح البخاري : كتاب الصلاة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 2/56 . وصحيح مسلم: كتاب الحج، باب فضل المساجد الثلاثة 9/167.
(1) أخرجه الطحاوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه مشكل الآثار 1/ 248.
(2) أخرجه أحمد في المسند 5/ 365. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
مما تقدم من الفضائل العظيمة يتضح لنا ما لبيت المقدس من عظيم القيمة عند قوم موسى وقوم عيسى وقوم محمد أجمعين.
وعندما أقول قوم موسى وقوم عيسى فإنما أقصد الذين لم يحرفوا دينهم ولم يبدلوه والذين أدركوا النبي فآمنوا به فأولئك يؤتون أجرهم مرتين لأن المصطفى أخبر عمر رضي الله عنه أن موسى لو كان حيا ما وسعه غير اتباعي .
ولما ينزل عيسى في آخر الزمان يقتل المسيح الدجال، ويصلي مأموما وهو نبي خلف المهدي محمد بن عبد الله إكراماً من الله لهذه الأمة.
فالمسجد الأقصى للمسلمين لأن كل الأنبياء والمرسلين مسلمون: إن الدين عند الله الإسلام [سورة آل عمران:19].(/1)
وبنو الإسلام اليوم مطالبون أن يطهروا مصلى الأنبياء ومعراجهم إلى السماء من رجس اليهود والنصارى الذين سجل الله عز وجل عليهم سخطه في كل ركعة فالمغضوب عليهم هم اليهود. والضالون هم النصارى .
وهذا المسجد الأقصى ينادي، نساؤه وأطفاله يرمون بالحجارة، وشبابه يعتقلون من قبل اليهود المناكيد، ولسان الحال يقول: هذا المسجد الأقصى فتحه عمر وأعاده صلاح الدين، فمن له اليوم؟ قال رسول الله : (( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قال: يا رسول الله وأين هم ؟ قال : بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ))(2).
(2) المسند 5/260. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
من فضائل سورة البقرة وآل عمران
إعداد/ مصطفى البصراتي
الحلقة العاشرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،
وبعد:
فمازال الحديث متصلاً حول فضائل سورة البقرة، وآل عمران، فنقول مستعينين
بالله تعالى:
11- روى مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعتُ رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا
لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة
كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن
أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ولا يستطيعها
البطلة». قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
قال في «فتح المنعم»: وفي القرآن
سورة تفضل اللَّه بزيادة الأجر لقارئها، وحث عليها، لما فيها من عظات وآلاء
وتمجيد وتحميد فالبقرة وآل عمران لهما من أنوار التنزيل ما استحقا به أن يسميا
بالزهراوين أي الكوكبين النيرين، يأتيان يوم القيامة كالظلة لقارئهما من حر
الموقف وتدافعان عنه وتشفعان له يوم القيامة، نعم القرآن كله يشفع لقارئه لكن
البقرة وآل عمران تتقدمان القرآن كما يتقدم الوفد رؤساؤه، وفي آخر البقرة آيتان
فيهما اعتراف وإيمان وثناء ودعاء، من قرأهما أجيب دعاؤه، ومن بات عليهما بات
محصنًا لا يقربه شر الشيطان، قوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا الزهراوين:
البقرة وآل عمران». قالوا: سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما،
يقال: زهر السراج والقمر والوجه زهورًا تلألأ كالزهر و«البقرة وآل عمران» بدل
من الزهراوين، والبدل على نية تكرار العامل، والتعبير يفيد المبالغة في المدح
حيث جمع لهما الوصف العام أولاً ثم حصره فيهما. اهـ.
وقال القاضي عياض في إكمال
المعلم: قوله: «اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» حجة لمن أجاز أن يقال:
سورة البقرة وآل عمران، واختار بعضهم أن يقال: السورة التي تذكر فيها كذا،
ومعنى «الزهراوين» المنيرتان إما لهدايتهما قارئهما، أو لما يسبب له أجرهما من النور يوم القيامة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كأنهما غمامتان أو كأنهما
غيايتان» قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من
سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء
من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أو كأنهما فرقان من طير
صواف» الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما
كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أخذها بركة
وتركها حسرة» أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تستطيعها البطلة» فُسرت البطلة: بالسحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق
وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها
لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
12- وروى مسلم عن النَّواس بن سمعان الكِلابيِّ، قال:
سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين
كانوا يعملون به، تَقدمُهُ سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسولُ اللَّه صلى
الله عليه وسلم ثلاثة أمثال. ما تستهُن بَعدُ، قال: «كأنهما غمامتان أو ظلتان
سَوداوان بينهما شرقٌ، أو كأنهما حِزقان من طير صَوَافَّ، تُحاجَّانِ عن
صَاحِبهما».
قال القرطبي في المفهم (2/432): وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث
النَّواس: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سَوْدَاوان أو كأنهما حزقان»، هذا يدلُّ
على أن (أو) ليست للشك، لأنه مثَّل السورتين بالثلاثة الأمثال، فيحتمل أن يكون
«أو» بمعنى الواو، كما قال الكوفيُّ، وأنشدوا عليه:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا كما أتى ربَّهُ مُوسى على قدر
وأنشدوا أيضًا:وقد زعمت ليلى بأني
فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقالوه في قوله تعالى: أو كصيب من
السماء فيه[البقرة: 19].
والغمام: السَحابُ الملتف. وهي الغياية، إذا
كانت قريبًا من الرأس والظلة أيضًا وصفتا بالسواد لتكاتفهما وتراكم بعضها على
بعض وهو أنفع ما يكون من الظلال. و(الشرق): قال القاضي عياض: رويناه بكسر الراء
وفتحها، قيل: وهو الضياء والنور. قلتُ: والأشبه أن الشرق بالسكون بمعنى
المشرق.
يعني: أن بين تلك الظلتين السوداوين مشارق الأنوار، وبالفتح: هو الضياء
نفسه، وإنما نبَّه في هذا الحديث على هذا الضياء؛ لأنه لما قال: سوداوان، قد(/1)
يُتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله: «بينهما شرق» أي مشارق الأنوار أو
أنوار، حسب ما قررناه، ويعني بوصفهما بسوداوين: أي: من كثافتهما التي بسببها
حالتا بين من تحتهما، وبين حرارة الشمس وشدة اللهب، والله أعلم.
13- عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قرأ
البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا - يعني عظم -
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه غفورًا رحيمًا فيكتب عليمًا حكيمًا
فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئت. ويملي عليه
عليمًا حكيمًا. فيقول: اكتب سميعًا بصيرًا. فيقول: اكتب كيف شئت فارتد ذلك
الرجل عن الإسلام، فلحق بالمشركين. وقال: أنا أعلمكم بمحمد، إن كنت لأكتب ما
شئت. فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأرض لم تقبله». وقال أنس: فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجدوه منبوذًا،
فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل ؟ قالوا: قد دفناه مرارًا فلم تقبله الأرض».
أخرجه الإمام أحمد برقم (12215)].
والحديث أخرجه البخاري ومسلم بدون ذكر الشاهد، فأخرجه البخاري في كتاب المناقب ولفظه: «عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان رجل نصرانيًا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه
وسلم، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته اللَّه،
فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم
نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا
فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر فحفروا له
وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من
الناس، فألقوه». وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين.
في هذا الحديث الشريف
يبين الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أن من قرأ سورتي البقرة وآل
عمران كان له شأن عظيم بين الصحابة رضوان اللَّه عليهم، لما فيهما من علم كثير
وأحكام عظيمة، ولما لهما من مكانة عظيمة عند اللَّه تعالى، وهذا الرجل لما ارتد
عن الإسلام وكانت له هذه المنزلة العظيمة، فإن اللَّه تعالى عاقبه عقابًا
شديدًا، فأهلكه وقصم عنقه، وأمر الأرض فنبذته على ظهرها ليكون عبرة لغيره، وهذا من علامات النبوة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أن الأرض لن
تقبله.اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، واحشرنا في زمرة الصالحين.
وقد التبس فهم هذا الحديث على بعض الناس، بل على بعض أهل العلم ممن لم يكلفوا
أنفسهم بالبحث عن معانيه، ظنًا منهم أن الرجل كان من كتاب الوحي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه (غفور رحيمًا) فيكتب (عليمًا حكيمًا)، فيقول له
النبي صلى الله عليه وسلم أكتب ما شئت - إلى آخر الحديث - وبئس ما ظنوا وحاشاه أن يُغير أو يبدل شيئًا مما أوحاه اللَّه إليه من القرآن؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فعامة الروايات في هذا الحديث جاءت مطلقة غير
مقيدة، وليس فيها أنه كان يكتب الوحي، وقد ذهب الطحاوي إلى أنه كان يكتب
الرسائل يبعث بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في دعائه الناس إلى
الإسلام.
قال الطحاوي في «مشكل الآثار» (8/241): «والذي في هذا الحديث قد
يحتملُ أن يكون فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمليه على ذلك الكاتب
من كتبه إلى الناس في دعائه إيَّاهم إلى اللَّه عز وجل، وفي وصفهم له ما هو
جلَّ وعزَّ عليه من الأشياء التي كان يأمرُ ذلك الكاتب بها، ويكتب الكاتب
خلافها فما معناها، معناها (أي مما يقارب المعنى المقصود)، إذ كانت كلها من
صفات اللَّه عز وجل، فبان بحمد اللَّه وبنعمته أن لا تضاد في شيء من ذلك ولا
اختلاف». اهـ بتصرف.فيهما اسم اللَّه الأعظم:
14- عن أبي أمامة رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسم اللَّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب
في سور ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه، يعني: الحي القيوم». أخرجه الفريابي
وابن ماجه والحاكم والطحاوي في مشكل الآثار وأبو يعلى وابن مردويه بإسناد
حسن.ويشهد له هذا الحديث:
15- حديث أسماء بنت يزيد رضي اللَّه عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «اسم اللَّه الأعظم في هاتين الآيتين: وإلهكم
إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم[البقرة:
163]، وفاتحة آل عمران: الم (1) الله لا إله إلا هو الحي
القيوم <<. أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث
حسن صحيح.ومن قرأهما برئ من النفاق:
عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي، أن يزيد
بن الأسود الجرشي كان يحدث: أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما في ليلة برئ من النفاق حتى يصبح، فكان يقرؤهما في كل يوم وكل ليلة سوى جزئه. (أي سوى ورده الذي يقرؤه كل يوم). وللحديث بقية بإذن(/2)
الله.(/3)
( من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي )
عناصر الموضوع :
1. فوائد عامة من معرفة التاريخ
2. فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية
3. كشف التاريخ حقائق الفرق الباطنية
4. وقائع وأحداث عبر تاريخنا الإسلامي
5. تاريخنا تاريخ أحداث وعبر وعظات
من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي:
نحن أمة ذات عراقة في التاريخ، أمة تاريخها يبدأ منذ أن كان الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة، أمة لها تاريخ حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازات كبيرة. والحقيقة أن تاريخنا ممتلئ بالعبر والعظات، والأحداث والطرائف التي يجب أن نقف عندها وقفة المتأمل المستلهم؛ المستفيد مما حملته من أمور نحتاج إليها؛ لنربط بها حاضرنا بماضينا.
فوائد عامة من معرفة التاريخ:(/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأقول في مطلع حديثي في هذه الليلة: إن التاريخ الإسلامي تاريخٌ عظيمٌ جداً، بدأ منذ بداية هذه البشرية من آدم عليه السلام، ونحن أمة ذات عراقة في التاريخ، وجذورنا ضاربة فيه، وبدايتنا مبكرة جداً، وتاريخنا لا يبدأ في هذا القرن، ولا في هذا الزمان، بل إنه قديمٌ جداً، تاريخٌ مشرق.. تاريخٌ كان فيه الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة.. تاريخٌ عظيم حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازاتٍ كبيرة، وهدى الله بأفرادٍ من هذه الأمة خلقاً من خلقه لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وهذا التاريخ دراسته ذات فوائد جمة، والذي يحرم من فوائد دراسة التاريخ فإنه يخسر كثيراً. أيها الإخوة! هذا التاريخ الذي صنف فيه علماؤنا مصنفاتٍ كثيرة، وكتبوا الأحداث، وبينوا زمنها ومكانها حتى تكون الأجيال على وعيٍ، وحتى تتربى على بصيرة. أيها الإخوة: سوف يكون حديثنا في هذه الليلة مقدمة لهذا الموضوع الكبير، وسيكون العنوان: (من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي). 1- التاريخ الإسلامي دراسته ذات فوائد تربوية؛ لأن المسلم يعلم من خلال دراسة التاريخ أن الأمة كانت مناطة بهدفٍ عظيم؛ ألا وهو استعمار هذه الأرض.. عمارتها بمنهج الله عز وجل، والأنبياء في هذا التاريخ كانوا قدوات، ونستلهم منهم نحن اليوم طريقة الحياة، والقيم والموازين الربانية التي بعثوا بها، وكذلك كيفية تحقيق المنهج في الأرض. 2- من فوائد دراسة التاريخ: معرفة سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، والله له سننٌ لا تتخلف ولا تتبدل وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] هذه السنن بعضها خارقٌ يجريها على أيدي أنبيائه بالمعجزات، وعلى أيدي أوليائه بالكرامات، وبعضها سننٌ جارية وهي الأعم الأغلب، مثل: تنفيذ وعد الله لأوليائه بالنصر إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ [غافر:51] كما أن من هذه السنن إهلاك المكذبين. 3- وكذلك فإن دراسة التاريخ تحوي في طياتها فوائد، مثل: معرفة أن هلاك الأمم يكون بالترف والفساد. 4- ومن فوائد دراسة التاريخ: معرفة أن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس، فتكون تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ولا يدوم أحد، وكما قال أحدهم لخليفة: " لو دامت لغيرك ما وصلت إليك " وهذا دليلٌ على بقاء الله سبحانه وتعالى، وديمومة ملكه وانتهاء ملك الأمم والناس، فكم من دولة ظهرت، وكم من دولة سقطت، وكم من ملكٍ تولى ثم مات، وكم من خليفة استخلف ثم انتهت خلافته وانتزع ملكه، وهكذا يبقى ملك الله عز وجل هو الحي لا إله إلا هو، لا يموت سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. 5- نتعلم من دراسة التاريخ: مسألة ابتلاء الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وكيف يصبر المؤمنون على ذلك، كقصة أصحاب الأخدود وغيرها. 6- نتعلم من دراسة التاريخ: طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين الحق والباطل، وأن هذه الدنيا منذ أن خلق الله فيها البشر والمعركة بين الحق والباطل مستمرة وقائمة لا تنتهي، وأن الحق يكون له الدولة في أزمان، والباطل قد يعلو في أزمان، لكن يبقى أصحاب الحق مستعلين بالمنهج والعقيدة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) بالظهور الذي قد يكون ظهور السلاح والملك، ولكن يكون دائماً ظهور العقيدة والحق الذي معهم يظهرون به على سائر الملل والنحل. 7- وكذلك فإننا نتعلم من دراسة التاريخ -أيها الإخوة- معالم الحياة الإنسانية، وكيف بدأت البشرية، وأنها بدأت على التوحيد، وأن الفكرة التي تقول: " إن الديانة في الأرض تطورت من تعدد الآلهة إلى الإله الواحد " هي فكرة خاطئة ضالة، وأن الله أول ما خلق البشرية على التوحيد، وأن آدم وعشرة قرون بعده كانوا على التوحيد حتى ظهر الشرك في قوم نوح، فبعث الله سبحانه وتعالى نوحاً نبياً وهادياً. 8- ونتعلم من دراسة التاريخ: سير العلماء والمجاهدين، وعلى رأسهم حواريو الأنبياء، وصحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. 9- ونتعلم: أن الصبر على المشاق من لوازم حياة المؤمنين في هذه الأرض. ونتعلم أيضاً: الحصانة الفكرية التي لا تجعلنا نخطئ في التعامل مع الأفراد والأمم، وفي نظراتنا إلى الدول المختلفة، وإلى الحكومات المتعددة؛ لأن هذا التاريخ يضع لنا الحروف على النقاط، ودراسته من خلال القرآن والسنة وأقوال المؤرخين الإسلاميين الثقات لها فوائد كثيرة، ومنها: الفضائل الأخلاقية التي تتربى عليها الأجيال المختلفة عندما يتعلم الناس كيف صبر السالفون، وما هي طبائعهم الفاضلة، وكيف حصل بسبب الأخلاق انتشار لهذا الدين. 11- كما أن دراسة التاريخ تساعدنا على فهم الحاضر، لأن الحاضر هو جزءٌ من الماضي لا يمكن أن يقطع منه، والدليل على ذلك: أن(/2)
كثيراً من الأديان الموجودة -الآن- أصولها قديمة، وأن معرفة الأصول القديمة تساعد على فهم واقع الأديان الحاضرة، وعلى فهم الملل والنحل الموجودة الآن. زد على ذلك أن قولة: (التاريخ يعيد نفسه) قولة صحيحة ولا شك، وأن كثيراً من الأخطاء حصلت في الأزمان الماضية يمكن للأذكياء إذا درسوا التاريخ أن يتلافوا كثيراً منها، ولذلك كان من أكثر ما يؤدب به أولاد الخلفاء سير الماضيين، حتى يتعلموا أصول الحكم، وكيف يسوسون الرعية. وكذلك -أيها الإخوة- فإننا في هذا الواقع الموجود الآن؛ من جهة أننا أمة مضطهدة ومحاربة، وأن الدولة الآن للكفار، وأن أعداء الله قد ظهروا على الأرض بقواتهم المادية، وإمكانياتهم التي أعطاهم الله إياها فتنة لهم، نتعلم كيف نواجههم، وكيف نصبر على أذاهم، وما هي السنن الربانية التي يجب أن نسير عليها، وكيف نستعمل المنهج في مواجهة الكفر والإلحاد؟ نحن نعلم أن هذا الزمان بما فيه من هذا التسلط والجبروت من أعداء الله سوف سيعقبه دولة للإسلام ولا شك إن شاء الله، وسوف يقوم للإسلام قائمة عظيمة إذا حصل ظهور جيلٍ من المسلمين يطبق الإسلام في نفسه، ويطبق الإسلام في المجتمع، وعند ذلك ستقوم دولة الإسلام عالية على جميع أمم الكفر ومذاهب أهل الأرض، ونحن نستعرض الآن نماذج من الأمور التي حصلت في التاريخ الماضي وكيف نأخذ منها عبراً ودروساً. إن دراسة تاريخ الأنبياء ودعوات الأنبياء مسألة مهمة جداً، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] سِر على ذاك النهج، واختط نفس الطريق.
فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية:(/3)
نحن الآن لسنا بصدد دراسة تاريخ الأنبياء والدعوات؛ ولكن نريد أن نذكرها في البداية لنؤكد عليها، وعلى رأس ذلك سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده والخلفاء الراشدين، وسير العلماء الذين كانوا يبينون للناس الأحكام الشرعية، عندما تقوم المحن يظهر دور العلماء.. عندما يعم الجهل يقوم المخلصون من أهل العلم بالبيان والصدع بالحق، مثلما قام الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت المبتدعة على أهل السنة بالقول بخلق القرآن. ومثلما ظهر شيخ الإسلام رحمه الله لما تكالب المبتدعة من كل جانب، فصنف المصنفات للرد عليهم، سواء الباطنية، أو المنحرفة في باب الأسماء والصفات، أو المبتدعة ومجيزي التوسل وأصحاب الموالد، أو الذين كانوا يحاربون الدين من النصارى؛ فرد على النصارى واليهود، وبيَّن بياناً مهماً باطل التتر، لأن الناس عندما هجم التتر واكتسحوا بلاد العالم الإسلامي بعد فترة ادعى بعض التتر الإسلام، ولكنهم استمروا في هجومهم الكاسح، حتى وصلوا إلى قريب من دمشق ، وعند ذلك خرج المسلمون لملاقاتهم، ولكن طرأت شبهة على المسلمين وهي: كيف نقاتل التتر وقد ادعوا الإسلام ونحن لنا الظاهر وهم ليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يدخلوا في طاعته أصلاً؟ وقد انطلت هذه المسألة على كثيرٍ من الناس، واحتاروا كيف يقاتلون التتر، وهذا قائد التتر قد جاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، فكيف يقاتلوه؛ فظهر شيخ الإسلام رحمه الله علماً بارزاً وسراجاً منيراً، فقال للناس: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي و معاوية ، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسين به من المعاصي والظلم وأكثر من ذلك، فتفطن العلماء والناس، وكان يقول شيخ الإسلام: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -أي: إذا رأيتموني من جانب التتر وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -ابدءوا بي أنا- ثم حمس الناس على القتال، وكان انتصاراً عظيماً للمسلمين في معركة شقحب بالقيادة الحقيقية لأهل العلم، وعلى رأسهم شيخ العلم ابن تيمية رحمه الله تعالى. فلولا هذا البيان لحصل للناس ذعرٌ، وحصلت انشقاقات واختلافٌ كبير كان سيؤدي بهم إلى الهزيمة. ثم قَعَّد شيخ الإسلام في بيان حقيقة التتار قواعد كبيرة، وبيَّن بأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وأنه لا بد من تصور حال التتار ومعرفة ما هم عليه، ولهذا فقد بيَّن أهل العلم أن معهم كتاب الياسق ، وكتاب الياسق هو عبارة عن تشريعات مجمَّعة من ملة الإسلام و اليهودية و النصرانية وأشياء من المذاهب المنحرفة الأخرى، جمَّعها لهم ملكهم وأمرهم أن يسيروا عليها. فبيَّن لهم ابن تيمية أن خلط الحق بالباطل كفر، وأن هؤلاء يريدون استئصال شأفة المسلمين ولو كانوا على الحق، لماذا يغيرون على المسلمين؟ ولماذا يخربون مدن المسلمين؟ ولماذا يقتلون المسلمين إذاً؟ يقول شيخ الإسلام للناس: ليسوا أحق بالإسلام منا؛ ولذلك فقد كان بسبب هذا البيان خيرٌ عظيم. ومن الأمثلة كذلك ما استعان به أهل الجرح والتعديل في كشف كذب الرواة، حيث استعانوا بالتاريخ في معرفة من لقي من الرواة البعض الآخر ومن لم يلقه، وكشفوا الانقطاع في الأسانيد من خلال التاريخ، بل ودرسوا من دخل المدينة الفلانية ومن لم يدخلها، ومن الذي يمكن أن يكون قد اجتمع بالراوي الفلاني. ومن الذي لا يمكن أن يجتمع به، فكشفوا أموراً كثيرة من التدليس، وبينوا بناءً على ذلك صحة الأحاديث من ضعفها. ومن الأمثلة الطريفة في استعمال التاريخ في كشف الأشياء المزورة، ما فعله الخطيب البغدادي رحمه الله، فإن بعض اليهود الخيابرة -من أهل خيبر - أظهروا كتاباً، قالوا: هذا كتاب من عهد النبوة، مكتوب في هذا الكتاب إسقاط الجزية عنهم، فلما عرض الكتاب على أمير المسلمين في ذلك المكان اطلع عليه الخطيب البغدادي رحمه الله، فقال الخطيب: هذا الكتاب كذب لا يمكن أن يكون صحيحاً. فقالوا له: وما الدليل على كذبه؟ قال: لأنه موجود -لاحظ الذكاء والفطنة- من الشهود على الكتاب في الأسفل معاوية بن أبي سفيان و سعد بن معاذ، فأما معاوية فإنه أسلم عام الفتح، و خيبر كانت قبل الفتح، وأما سعد بن معاذ فقد قتل بعد الخندق بعد بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت قبل فتح خيبر، فكيف تدَّعون أنه شهد على الكتاب بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، فمعاوية أسلم بعد خيبر و سعد مات قبل خيبر، فكشف زورهم وبهتانهم.
كشف التاريخ حقائق الفرق الباطنية:(/4)
إن دراسة التاريخ تكشف لنا أعداءنا، وتبين الخطورة التي هم عليها. فعلى سبيل المثال: الباطنية بجميع فرقهم من ألد أعداء الإسلام؛ لأن عندهم عقائد كفرية كثيرة، وهؤلاء الباطنية بفرقهم المختلفة، مثل: القرامطة، و الحشاشين، و النصيرية، و الرافضة، و الدروز.. وغيرهم لهم امتدادات موجودة إلى هذا الزمان، وهؤلاء كان لهم وجودٌ في الحقب الماضية، فكيف واجههم المسلمون؟ وكيف تكلموا على عقائدهم، وما زالت عقائدهم موجودة إلى الآن؟ ينبغي أن يُدرس تاريخ هؤلاء الباطنية بعناية شديدة، لأننا سنكتشف بعد دراسة تاريخ الباطنية أنهم من ألد أعداء الإسلام، فنحذر منهم في هذا الزمان، وربما نضطر أن نحذر منهم أكثر من اليهود والنصارى، ولذلك فلو درست تاريخ الباطنية وأخذت مثالاً على ذلك: حادثة القرامطة وما فعلوه في مكة سنة [317هـ] لاكتشفت أشياء عجيبة جداً، وإليك مثال على ذلك: خرج القرامطة جهة المشرق، وجهة المشرق كانت ولا زالت مصدراً للفتن منذ فجر الإسلام؛ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الفتنة من قبل المشرق، وأشار بيده إلى جهة المشرق) وأكثر الدجالين و الباطنية والجيوش التي اجتاحت العالم الإسلامي قدمت من المشرق، ولا زالت الفتنة قائمة إلى الآن، وآتية من جهة المشرق كما تدل عليها الحوادث الموجودة، وهذا لا يعني أنه ليس هناك فتنٌ من جهة المغرب؛ بل قد حدث للباطنية أنفسهم كما حدث في دولة ابن تومرت الذي ظهر وادعى أنه المهدي ، وعمل أشياء عجيبة، وقتل في المسلمين خلق كثير، وظهر من جهة المغرب.
أفعال القرامطة في بيت الله وحجاجه:
هؤلاء القرامطة الذين ترأسهم يوماً من الأيام أبو طاهر الجنابي جاءوا إلى مكة، ودخلوا يوم التروية فانتهبوا أموال الحجاج، واستباحوا دماءهم، وقتل في رحاب مكة وفي شعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة خلقٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، وجلس قائدهم أبو طاهر الجنابي -لعنه الله كما يقول ابن كثير في تاريخه- على باب الكعبة والمسلمون يقتلون حوله، وسيوف القرامطة تعمل في الناس في المسجد الحرام.. في الشهر الحرام.. يوم التروية، وهو يقول:
أنا الله وبالله أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا!!!
فكان الناس يفرون منه ويتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي عنهم ذلك شيئاً، بل يُقتلون وهم متعلقون بأستار الكعبة، ويطوف هؤلاء القرامطة حول الكعبة فيقتلون الطائفين، وكان بعض أهل الحديث يطوف يومئذٍ، فلما قضى طوافه أخذته السيوف فأنشد وهو كذلك:
ترى المحبين صرعاً في ديارهمُ كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ولما انتهى هذا القرمطي من قتل الحجاج حول الكعبة وفعل ما فعل أمر بإلقاء الجثث في بئر زمزم، ودُفن كثيرٌ من الناس في أماكنهم في صحن الحرم، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة في ذلك المكان وذلك الزمان، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا؛ لأنهم شهداء قتلوا في إحرامهم في الحرم. ثم أخذ الكسوة وفرقها على أصحابه، وأصعد رجلاً إلى الميزاب لكي يقتلعه، ثم أمر بأن يقتلع الحجر الأسود، فاقتلع الحجر الأسود من مكانه، وجعل أصحابه يطوفون ويقولون: أين الطير الأبابيل؟ وأين الحجارة من سجيل؟ يستهزئون بالمسلمين، ورجعوا بالحجر الأسود إلى بلادهم، ومكث عندهم الحجر الأسود [22سنة] والناس يطوفون بالكعبة من غير الحجر الأسود. ولذلك لا تستغرب إذا وجدت في كتب بعض الفقهاء عندما يصف الطواف حول الكعبة، يقول: ويستلم الحجر [إن وجد] والذي لا يعرف هذه الخلفية إذا مر بعبارة الفقيه يقول: كيف يقول: [إن وجد] أي: ممكن لا يوجد؟!! نقول: نعم لقد مرت فترة طاف فيها المسلمون بالكعبة ولم يكن يوجد فيها الحجر الأسود، ثم رده الله من عندهم، هؤلاء الذين ألحدوا في المسجد الحرام إلحاداً عظيماً، هؤلاء الذين كان لهم اتصال بالفاطميين الذين ملكوا مصر بعد ذلك وهم من الباطنية ، وكان بين فرق الباطنية تعاونٌ كبير، وهؤلاء لا زالت آثارهم ممتدة إلى الآن، ولا زالت محاولاتهم للإلحاد في البيت الحرام ممتدة إلى هذا الزمن.
فوائد من تربية كل من أهل السنة والباطنية لأتباعهم:(/5)
لا بد أن نقرأ ولا بد أن نعي تاريخ هؤلاء الباطنية ، ثم نأخذ من التاريخ فوائد كثيرة في الفرق بين تربية أهل السنة لمن كان معهم وتربية الباطنية لمن كان معهم. أهل السنة وعلماء السنة كانوا يربون من معهم على الدليل الصحيح، وعلى اتباع الحق، وعلى التضحية في سبيل الله، وعلى محبة الله ورسوله.. كانوا يربون من معهم على عمل الطاعات، وعلى الأخلاق الحسنة، وكان العالم في الحلقة يعلم الناس الخلق قبل أن يعلمهم العلم، لكن قل لي: كيف كانت تربية الباطنيين لأتباعهم؟! لما ظهرت فرق الحشاشين وغيرهم من الذين كانوا ينتقون الأفراد ويأخذونهم إلى بستان كبير جداً فيه نساء وخمور وأنواع الثمار والفواكه ثم يقنعون الشخص أن هذه هي الجنة، ويجلسونه في ذلك المكان فترة من الزمن، ثم يقولون له بعد ذلك: تذهب وتقتل القائد المسلم الفلاني، أو تقتل الخليفة الفلاني، أو تقتل العالم الفلاني، فإذا قتلوك ستدخل هذه الجنة. وكذلك فإن من طريقة تربيتهم لأتباعهم: ما ذكره ابن كثير رحمه الله سنة [494هـ] تقريباً عندما قام أحد دعاتهم، واسمه: الحسن بن صباح ، وتعلم الزندقة ثم صار ينتقي من الناس من كان غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز حتى يعكر مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار آل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم، ثم يقول له: قم وقاتل لنصرة الإمام علي بن أبي طالب ، ولا يزال يسقيه العسل حتى يستجيب له، ويصير هذا الشخص أتبع له من أبيه وأمه وأطوع، ويظهر له أشياء من الحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف مع الحسن بن صباح هذا الباطني خلقٌ كثير. وبعد ذلك حصل أن سلطان المسلمين أرسل له رسالة يتهدده ويتوعده وينذره، فأتى الباطني برسول المسلمين الذي معه الخطاب يريد أن يبين له حال أتباعه، ثم قال له: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولى هذا الرسول الذي أتى من عند المسلمين، فاشرأبت وجوه الحاضرين، فقال الحسن بن صباح الباطني لأحد أتباعه أمام رسول المسلمين: اقتل نفسك. فأخرج سكيناً فضرب بها غرصمته فسقط ميتاً -انظر إلى أي درجة وصلت الطاعة العمياء- وقال لآخر منهم: القِ نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفلها فتقطع. ثم قال لرسول المسلمين: هذا هو الجواب، فرجع. إذاً: هكذا يربون أتباعهم، فالتاريخ حلقات متواصلة، وتربية الباطنيين لأتباعهم ما زالت مستمرة إلى هذا العصر؛ لذلك لا تستغربوا إذا رأيتم أتباع الباطنيين يلقون أنفسهم في المهالك مثل الجراد.. يتقاطرون ويلقون أنفسهم في خضم المعارك؛ لأنهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة بطاعة الإمام، أو آية الله الفلاني.. ونحو ذلك، هذه التربية ما زالت موجودة عند فرق الباطنية إلى الآن، والذي يفشي أسرار الطائفة يعدم، ولا يطلع على أسرار الطائفة إلا من بلغ [40سنة] وأكثر، وهكذا طريقتهم موجودة إلى الآن في تربية أتباعهم.
مؤامرات الباطنية على أهل السنة:(/6)
إن من فوائد دراسة التاريخ: معرفة المؤامرات التي يدبرها الباطنيون لأهل السنة في كل زمانٍ ومكان، ولذلك فإن الباطنية وفرق الحشاشين -بالذات- اغتالوا عدداً من قادة المسلمين وعلمائهم، فمن ذلك: أنهم قتلوا مودود قائد المسلمين ضد الصليبين، واغتالوا ابن إمام الحرمين، واغتالوا وزير السلطان السلجوقي، واغتالوا الإمام أبو سعد الهروي القاضي، واغتالوا الخليفة المسترشد وقاموا بعدة محاولات لاغتيال صلاح الدين الأيوبي رحمه الله. ومن طرقهم الخبيثة في الاغتيال: ما حصل في قتل فخر الملك أبو المظفر ، هذا الرجل كان فيه جوانب من العدل والإحسان، خرج يوماً في آخر النهار، فرأى شاباً يتظلم، كأنه مسكين يشتكي وفي يده رقعة، فقال: ما شأنك، فناوله الرقعة، فبينما هو يقرأها، انتهز الفرصة، فأخرج خنجره فضربه به حتى قتله، هذه من الطرق. ونفس القصة حصلت مع القائد الإسلامي مودود رحمه الله الذي كان يقاتل الصليبين، فقد جاءه أحدهم في هيئة سائل واقترب منه يسأله، فلما همَّ بأن يعطيه شيئاً أخرج خنجره فطعنه به.. وهكذا. ومن نتائج ذلك: شماتة النصارى بأمة الإسلام؛ لأن الباطنيين محسوبون على المسلمين، كثير منهم يحسب الكفار أنهم مسلمون، وهم ليسوا من الإسلام في شيء، فحصل أن ملك النصارى أرسل رسالة إلى المسلمين يقول لهم بعد مقتل هذا القائد فيهم: "إن أمةً قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيقٌ على الله أن يبيدها ". حتى النصارى صاروا يشمتون أفعال الباطنيين وما فعلوه في المسلمين، ويعتبرون أن هذه انشقاقات في صفوف المسلمين، ويعتبرون أن هذه هي أخلاق المسلمين، ولا زال الكفار إلى الآن إذا رأوا في وسائلهم المقروءة والمسموعة والمرئية بعض المناظر الملتقطة من بلدان فيها أناس من الباطنيين يظنون أن هذا هو الإسلام فيشمتون بالمسلمين، ويقولون: انظروا إلى الإسلام، هذا هو الإسلام، لا زالوا إلى الآن، ومؤامراتهم في اغتيال علماء المسلمين وزعمائهم موجودة إلى الآن، ومقتل الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله ومعه نفرٌ من العلماء في اجتماعٍ لأهل الحديث بواسطة مزهرية مفخخة؛ شاهدٌ على أن الباطنيين مؤامراتهم مستمرة لعلماء الإسلام حتى في العصر الحاضر، والذي لا يعرف يقرأ التاريخ.
حال الباطنية لما حكموا المسلمين في مصر:(/7)
من فوائد دراسة التاريخ: معرفة هؤلاء الباطنيين لما حكموا المسلمين مثل الدولة الفاطمية التي قامت في مصر ماذا فعلوا بالمسلمين؟ لقد فعلوا أفعالاً عجيبة جداً، وقد حصل في سنة [411هـ] أن قتل حاكم مصر ملك الفاطميين، واسمه ابن المعز الفاطمي.. كيف كانت سيرته؟ انظر إلى الحاكم عندما يسوس الناس بمزاجيته الفاسدة، ويسن فيهم أشياء عجيبة، يريد أن يتوصل من ذلك إلى هدفٍ خبيث، هذا الحاكم ابن المعز الفاطمي ماذا فعل؟ أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره أن يخروا له سجداً، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع من لا يصلي الجمعة أصلاً، وكانوا يتركون السجود لله يوم الجمعة ويسجدون للحاكم. وهذا الرجل من مزاجياته: أنه ابتنى المدارس وخربها، ورتب المشايخ وقتلهم، وألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً، فامتثلوا لذلك دهراً طويلاً، حتى إنه مرة من المرات خرج بنفسه ليتفقد تطبيق القرار، فمر برجل قد فتح دكانه في النهار، فلما أخذ به ليبطشه قال: سهران يا مولاي سهران، يعني أنه سهران في النهار. وكان يدور على الأسواق على حمارٍ ومعه أتباعه ومعه عبدٌ أسود، فإذا اكتشف رجلاً يغش في المعاملة أمر العبد الأسود أن يفعل به الفاحشة، وهذه عقوبة شنيعة ليست موجودة في دين الله، وكثيرٌ من العقوبات الأرضية الدنيوية فيها ظلمٌ لا توجد في شرع الله. وكانت العامة تكرهه جداً، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة في صورة قصص؛ فإذا قرأها ازداد غيظاً عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق مخفية بهذا الجلباب، وفي يدها قصة من الشتم واللعن، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فغضب جداً، فأمر بقتل المرأة، فلما تبين أنها من ورق ازداد غيظاً. ثم بعد ذلك أنزل مماليكه وعبيده وجنوده إلى مصر ليحرقوها وينهبوا ما فيها من أموال أهل السنة ومتاعهم وحريمهم، فقاتل أهل مصر دون أنفسهم ثلاثة أيام، والنار تعمل في دورهم وحريمهم، وهو يخرج فيقف من بعيد وينظر إلى المعركة ويبكي، ويقول: من أمر بهذا، كل هذا ويقول: من أمر بهذا!!! وهذا مثال من الأمثلة التي طبقت فيها مزاجيات هذا الرجل ليتوصل في النهاية إلى ادعاء الألوهية وادعى أنه الله، وصار الحاكم بأمره، وكان الذي يسمى الحاكم بأمر الله، صار حاكماً بأمره هو، لأنه هو الله بزعمه. بعض الناس يظنون أن النهي عن طبخ الملوخية وغلق الدكاكين في النهار وفتحها في الليل عبث، لكن الرجل كما ذكر أهل العلم كان يريد اختبار العامة، فإذا رآهم أطاعوه عند ذلك ادعى الألوهية، وهذا ما حصل، وهذا من خبث الباطنية وفعلهم.
وقائع وأحداث عبر تاريخنا الإسلامي:
عندما نقرأ التاريخ فإننا نجد أن هذه الأمة قد أصيبت بمصائب عديدة، فمن أهم المصائب بعد حروب الردة وخروج الخوارج والفرق التي حصلت بالمسلمين، و القرامطة و الباطنية والحملات الصليبية، واجتياح التتر، بالإضافة إلى ذلك سلَّط الله على هذه الأمة لما ضعفت وابتعدت عن الهدي من سامهم سوء العذاب من الكفار أو من ظلمة المسلمين.
معرفة مصدر مصائبنا:(/8)
إن ما حصل للأمة الإسلامية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم لما دعا ربه ألا يجعل أمته بأسهم بينهم، ولكنه لم يعطه هذه؛ فجعل الله بأس هذه الأمة بينها في كثيرٍ من المواطن لما ابتعدت عن تحكيم الشريعة، ولما حصلت البغضاء والشحناء والفرقة بينهم، سلط الله عليهم من داخلهم ومن خارجهم من يسومهم سوء العذاب. ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة، جُعل عذابها في دنياها تكفيراً لكثير من ذنوبها، ومن ذلك ما نقرأه في التاريخ من المصائب الكبيرة التي حلت بالمسلمين، ومن ذلك المصائب التي هي نوازل من الريح والخسف والزلازل والطوفان والأمراض والطواعين والجوع والفقر الذي سلط عليها، والذي لا تزال الأمة في كثيرٍ من البلدان تعيش فيه حتى الآن، نتيجة عدم تطبيق الشريعة. إذا طبقت الشريعة في عهد عيسى بن مريم سيستظل الناس بقحف الرمانة -بقشرتها من كبرها- وستخرج الأرض كنوزاً من الذهب والفضة، وستكفي اللِّقْحَةُ الفئام من الناس تحلب في إناء، وسيطاف بالمال فلا يوجد أحد يقبله، عندما تطبق الشريعة تحل البركة في الأرض حتى يصبح الذئب على الغنم كأنه كلبها، وحتى يدخل الولد يده في الحية فلا تضره. بسبب تطبيق الشريعة في الأرض يعم السلام والأمن في الأرض في عهد عيسى بن مريم. لكن انظر ماذا حل بالمسلمين عندما ابتعدوا عن تطبيق الشريعة، فإن الله عز وجل قد أرسل عليهم جوعاً عظيماً في الماضي والحاضر، وابتلاءات بنهب الأموال وقتل بعضهم لبعض، وإليكم شيئاً مما حصل من المصائب في الجوع. في عام [462هـ] حصل في مصر غلاءٌ شديد حتى أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وكان يباع الكلب بخمسة دنانير ليأكل، وماتت الفيلة، فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب، وكان الوزير له خيول كثيرة جداً فلم يبق منها إلا ثلاث؛ لأن الناس كانوا يتخطفونها ليأكلونها، واكتشف رجلٌ يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، فقتل وأكل الناس من شدة الجوع لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه بظاهر البلد؛ لأنهم يخافون أن يخطف منهم إذا دخلوا البلد، وكان لا يجسر أن يدفن الميت بالنهار إنما يدفن في الليل خفية؛ لئلا يُنبش فيؤكل. وحدث أن الناس من كثرة الموت لم يستطيعوا دفن بعضهم بعضاً، ودفن العشرون والثلاثون في قبرٍ واحد، وبعضهم ماتوا من الدفن فصاروا يرمون في البحر، وحصل كذلك أن أكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلبٍ قد اخضر، وشوى رجلٌ صبية في فرنٍ فأكلهم، وسقط طائرٌ ميتاً من حائطٍ فاحتوشه خمسة من الناس فاقتسموه وأكلوه. وأحصي من مات من الوباء في بخارى وتلك البلاد بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، ووحشة وعدم أنس، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويشوون الموتى فيأكلونهم، وليس للناس شغلٌ في الليل والنهار إلا غسل الأموات، فكانت تحفر الحفر فيُدفن فيها العشرون والثلاثون. وتاب كثيرٌ من الناس، وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبلها؛ لأن الناس لا ينتفعون بالأموال إنما يريدون أكلا،ً وكان الفقير تعرض عليه الثياب والدنانير الكثيرة، فيقول: أريد كسرة خبز أسد بها جوعي. وأراق الناس الخمور، وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلَّ دارٌ يكون فيها خمرٌ إلا مات أهله كلهم. ودخل على مريضٍ له سبعة أيام في النزع ينازع ليموت ولم يمت، فأشار بيده إلى مكان، فوجدوا فيه خابية خمر فأراقوها، فمات من وقته بسهولة. ومات رجلٌ في مسجد فوجدوا معه (50000درهم) فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فدخل أربعة ليأخذوها بعد ذلك فماتوا عليها، ولم يخرج من المسجد منهم أحدٌ وهو حي. والمشكلة أن المصيبة إذا نزلت تعم الناس جميعاً، وحصل موت في العلماء والفقهاء وطلبة العلم، حتى إن فقيهاً كان يدرس عليه في الفقه (700) نفس فلم يبق منهم أحياء إلا (12) نفساً. وحصل طوفانٌ شديد في بعض الأزمنة، كما حصل في بغداد سنة (775هـ) حتى صارت السفن تنقل الناس من مكان إلى مكان، ومن تل إلى تل، ثم يصل الماء إليهم فيغرقهم لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:43]. وإذا نظرت اليوم إلى حال المسلمين في الأرض تجد أن كثيراً من البلدان قد حصل فيها من أنواع الطوفان والمجاعات والحروب والأمراض والطواعين ما لا يعلمه إلا الله، وهذه المصائب -أيها الإخوة- لا تحدث في الأرض إلا بسبب، فعدم تطبيق الشريعة، سببٌ لنزع البركة، ونزول المصائب، وحصول الآفات، وحصول الاعتداءات من الكفار على المسلمين، هذا كله نتيجة عدم تطبيق الشريعة. وقد حصل أيضاً تسلط لأعداء الله من التتر كما ذكرنا في درسٍ سابق، ومن النصارى الذين دخلوا بيت المقدس عام (492هـ) يوم الجمعة، وكان عددهم مليون مقاتل تقريباً، فعاثوا في المسجد فساداً، وأخذوا قناديل المسجد، وما فيه من الحلي، وقتلوا الناس في ذلك(/9)
المكان، حتى بلغ عدد القتلى (60 ألفاً) فأكثر، وصار الناس يهربون، وفزعوا إلى إخوانهم المسلمين في أماكن أخرى ليقولون لهم: أنجدونا فلم ينجدهم أحد. ومع الأسف! أن الخطباء قاموا على المنابر وندبوا الناس إلى الجهاد، وخرج أعيان الفقهاء إلى الناس يحرضوهم على الجهاد فلم يخرج أحد، حتى قال أحد شعراء المسلمين:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق فينا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمعٌ يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فيا بني الإسلام إن وراءكم وقائع ملحقن الذرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملئ جفونها على هفواتٍ أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ
تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض ذيل المسالم
النصارى دخلوا واحتلوا البلاد، ثم قال:
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم
وهكذا بقيت الأمور حتى قيض الله لهذه الأمة عماد الدين زنكي و صلاح الدين الأيوبي ومن بعدهم من المماليك الذين طردوا النصارى من بلدان المسلمين: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
محمود بن سبكتكين ومحاربته للشرك:
إذا قرأنا التاريخ نجد فيه ما فعل قادة المسلمين من إزالة الشرك وأنواعه من الأرض، فنعلم أن من الأوليات التي يجب أن يسعى إليها المسلم إزالة الشرك وقتال المشركين: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]. هذا ما ينبغي أن تفعله أمة الإسلام.. أن تقاتل المشركين حتى يزول الشرك، فإذا قام بعضهم بالواجب من سد الثغور، وغزو من يُستطاع غزوه من المشركين، وإلا أثم المسلمون كلهم. ولقد سجل التاريخ مواقف مشرفة لبعض قادة المسلمين، ومنهم: السلطان العظيم محمود بن سبكتكين الذي دخل بلاد الهند فاتحاً، ووصل فيها إلى أماكن لم يصلها أحدٌ بعده، ومن ذلك: أنه كسَّر الصنم الأعظم المسمى بـ(سومناة)، وكان أهل الهند يفدون إليه من كل فجٍ عميق أعظم مما يفد الناس إلى الكعبة والبيت الحرام، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، كل هذه الغلات للصنم ولمن يزور ويحج للصنم، وقد امتلأت خزائن الصنم أموالاً وعنده ألف رجلٍ يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس الحجاج الذين يأتون إلى الصنم، وثلاثمائة رجلٍ يغنون ويرقصون على بابه، وكان عند الصنم من المجاورين الذين يأكلون من أوقاف الصنم آلافاً مؤلفة، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم. ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم، وكثرة عبادة هذا الصنم من الهنود، فتجشم المشاق، وجهَّز الجيش، وقطع الأهوال، وانتدب معه ثلاثين ألفاً من المسلمين حتى وصلوا إلى ذلك المكان وسلمهم الله، فدخلوا البلاد التي فيها الوثن، ونزلوا بساحة عَبَّادِه فقتلوا من أهله خمسين ألفاً، وقلعوا الوثن، وأحرقوه بالنار. وكان أهل الهند قد بذلوا لمحمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم، وأشار عليه بعض الأمراء بأن يترك الصنم ويأخذ الأموال، فقال: أستخير الله، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسَّر الصنم، أحب إلي من أن يُقال: أين الذي ترك الصنم لأجل ما ينال من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، ووجد فيه من الجواهر واللآلئ والذهب أضعاف أضعاف ما عرضه عليه الكفار ليستنقذوا صنمهم. إذاً: هذا نموذج من النماذج التي يعرضها التاريخ الإسلامي للقادة المسلمين الذين سعوا في الأرض ليطهروها من الشرك وكيف نصرهم الله عز وجل.
نماذج مشرفة لقضاة المسلمين:(/10)
إن دراسة التاريخ تعطينا نماذج مشرفة من قضاة المسلمين في ذكائهم وعدلهم وجرأتهم، فمن ذلك: القاضي إياس رحمه الله تعالى، الذي ناقشه رجلٌ مرةً في الخمر -النبيذ- هل هو حرام أم لا؟ فقال القاضي: إنه حرام. فقال الرجل: أخبرني عن الماء هل هو حلال أم لا؟ قال: نعم. قال: فالكسور -هذه المادة التي يصنع منها النبيذ- قال: حلال. قال: فالتمر. قال: حلال. قال: فما باله إذا اجتمع وخلط صار حراماً؟ انظر الشبهة! فقال له إياس رحمه الله: أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك. قال: لا. قال: فبهذه الحفنة من التبن أتوجعك؟ قال: لا. قال: لو رميتك بهذه الغرفة من الماء أتوجعك؟ قال: لا. قال: أرأيت لو خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طيناً ثم تركته حتى تحجر ثم رميتك به أيوجعك؟ قال: إي والله وتقتلني. قال: فكذلك تلك الأشياء إذا اجتمعت. وبلغ من ذكائه وهو صغير أنه كان يهب إلى الكُتَّاب -مكان يتعلم فيه الصبيان القراءة والكتابة. فكان فيه نصارى وكان -مع الأسف- الأستاذ نصراني- قال: فكان صبيان النصارى يستهزئون بالمسلمين، ويقولون: إن المسلمين يزعمون أن أهل الجنة طعامهم لا فضلة له -أي: أهل الجنة إذا أكلوا لا يخرج منهم مخلفات- فالنصارى يقولون: هذا مستحيل ولا يمكن، ويستهزئون بالمسلمين على هذا، وهذا ثابت عندنا أن أهل الجنة تخرج الفضلات منهم على هيئة رشح رائحة المسك ثم تضمر بطونهم، فيأكلون ويخرج رشح كالمسك، فتضمر بطونهم، فيأكلون ولا يمتخطون ولا يتبولون، هذه الفكرة صارت عند صبيان النصارى شيء يستهزئون به على المسلمين. فقال القاضي إياس رحمه الله -وكان صغيراً- للمعلم النصراني: ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن قال: بلى. قال: فهل هو بعيدٌ على الله أن يجعل طعام أهل الجنة كله غذاءً لأبدانهم ولا يخرج منه شيء، فقال المعلم: أنت شيطان. أي: مثلما يقول المعلم: أنت ذكي.. أنت عفريت، فهذا أيضاً ما حصل منه. كان القاضي إياس رحمه الله ذكياً جداً، وذكاؤه في القصص ليس هذا موضعه، ولكن المقصود أن نُري كيف كان قضاة وعلماء المسلمين يردون على أهل البدع ويفحمونهم، ولا نقول: إنهم كلهم على الحق، وكلهم لم يأخذوا الرشوة ولكن يوجد نماذج ممتازة جداً يجب أن تعرض، ولعل أن تكون هناك فرصة أخرى لنعرض تلك النماذج.
نموذج رائع لبعض الملوك الذين لم تغيرهم المناصب:
عندما نقرأ التاريخ الإسلامي أيضاً نجد الموقف الصحيح لصاحب المنصب، يوجد بعض الناس استغلوا مناصبهم في السوء، ولكن بعض الناس استغلوا مناصبهم في الأشياء التي هي من الطاعات، فاستغلوا المناصب في نشر العلم، واستغلوا المناصب في بناء المدارس، وفي وضع رواتب للعلماء وأهل الخير وعمل الأوقاف عليها.. استغلوا المناصب في قمع أهل البدع وإظهار السنة وهكذا، وهذا تتبعه مهم حتى يتبين لأهل المناصب في زماننا ما يجب أن يكونوا عليه. فهذا مثلاً نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق رحمه الله تعالى: مع أنه كان وزيراً فإنه نشأ في طلب العلم، فلما أصبح وزيراً استعمل إمكانياته المادية والمعنوية ووجاهته في نشر العلم، وبنى المدرسة النظامية ببغداد ، وسميت النظامية نسبة إليه؛ لأنه يعرف بنظام الملك ، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، وكان يقضي غالب نهاره معهم، وهكذا ينبغي أن يكون حال أهل المناصب اليوم، يقربون الصالحين، ويباعدون الطالحين. وكان إذا سئل وقيل له: إن هؤلاء يشغلونك؟ قال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك، وإذا دخل عليه أبو القاسم القشيري و أبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما في المقعد، وإذا دخل عليه أبو علي الفرندي قام وأجلسه مكانه وجلس بين يديه، هذا الوزير يجلس بين يدي الشيخ، فعوتب، فقال: إنه إذا دخل علي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر وأرجع عن كثيرٍ من الذي أنا فيه. وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها لا يشغله بعد الأذان شغلٌ عنها. تأمل الآن في حال أصحاب المناصب والوظائف، يجلسون في اجتماعات العمل والمؤذن يؤذن والناس يذهبون للصلاة وهم جالسون في اجتماعات العمل، وربما يخرج وقت الصلاة وهم لا يزالون في اجتماعات العمل، فتباً لهذه الاجتماعات، ولا بارك الله فيها ما دامت تشغل عن الصلاة، فلينتبه أهل المناصب من المسلمين لذلك.
بعض القدوات في أغنياء المسلمين:(/11)
نقرأ التاريخ فنجد قدوات من الأغنياء من المسلمين كيف كانت معاملتهم للفقراء؛ فهذا أبو شجاع الوزير : كان غنياً جداً، ومع ذلك فإنه أنفق أمواله في الخيرات وأكثر الإنعام على الأيتام والأرامل. وقد حصل أنه ذات مرةٍ أوتي بأنواعٍ من الحلويات -قطايف عليها السكر- فتذكر أن هناك فقراء في البلد لا يذوقون هذا الطعام، لأنه طعام لا يجلب إلا لخاصة الناس -تأملوا! وزير يُؤتى له بطعام لا يؤتى إلا لخاصة الناس- فذهب به كله إلى الفقراء فقسمه عليهم ولم يأكل شيئاً منه. وجلس مرة للطعام، فقيل له: إن هناك أربعة أيتام وأرملة في مكانٍ ما في البلد، فرفع يده عن الطعام فذهب به إليهم ومعه نفقة، وكان الوقت شتاء، فخلع رداءه في البرد، وقال: لا ألبسه حتى أخبر أن الطعام والنفقة قد وصلت إليهم. فأين أغنياء المسلمين عن الفقراء اليوم؛ الذين ينفقون أموالهم في كثير من التراهات والمفاسد، ويستفيد الكفار من الأموال المودعة في الخارج، وفقراء المسلمين يئنون في أطراف آسيا و أفريقيا من الجوع فلا يغيثهم أحد، ولا يتفطن لحالهم أحد، وهؤلاء الذين يبطرون النعمة، لا بد أن يأتيهم من الله عذابٌ في الدنيا أو في الآخرة! وسوف نورد أمثلة وإلا فالتاريخ فيه الصالح والطالح، هذا أحمد بن علي أبو بكر العلوي رحمه الله كان يعمل في تجصيص الحيطان ولكنه كان لا ينقش صورة، لأن نقش الصور لا يجوز، وكان يتكسب من عمل يده، ونجد كذلك أن هناك بلدان في التاريخ الإسلامي كانوا أهل سنة وأهل طاعة، ومن ذلك: بلدة كيلان التي ينتسب إليها الكيلانيون، هذه البلدة وقعت بينها وبين التتر حروب، فطلب ملك التتر منهم أن يجعلوا له طريقاً داخل بلادهم، فامتنعوا، فأرسل جيشاً كثيفاً فأمهلهم أهل كيلان حتى دخلوا البلد، ثم أرسلوا عليهم خليجاً من البحر كان محبوساً بأشياء، أرسلوا السدود على الجيش، ورموهم بالنفط وهو يحترق، فغرق كثيرٌ منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، وقتلوا أميرهم فلم ينج من التتر إلا قلة. يقول ابن كثير رحمه الله: وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة لا يستطيع مبتدعٌ أن يسكن بين أظهرهم -الله أكبر- لما يظهرون في البلد من الطاعات، فأين مدن المسلمين اليوم التي يعيش فيها كل من هب ودب من الكفرة والمجرمين وأهل البدع وغيرهم، أين هي البلاد التي يتمسك أهلها بالسنة فيكونون مجاهدين في سبيل الله؟!
مواقف العامة تجاه من اعتدى على الإسلام:(/12)
ينبغي أن لا ننسى -أيضاً- أنه مرت في التاريخ الإسلامي أحداثاً جيدة تعبر عن حمية العامة للإسلام، ففي إحدى السنوات قام أربعة من الرهبان ودعوا فقهاء المسلمين لمناظرتهم، فلما اجتمعوا جهر هؤلاء الرهبان بالسوء من القول وصرحوا بذم الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر كذاب، فثار الناس عليهم فقتلوهم وأحرقوهم، فأين العامة الذين توجد في نفوسهم حمية للإسلام؛ بحيث إنه إذا صار شيء وأهين الإسلام قام العامة على من أهان الإسلام فأذاقوه صنوف العذاب، بل على العكس قد يهان الإسلام في المجالس.. قد يهان الإسلام في بعض الشوارع والمحلات والعامة ساكتون، لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً. ونجد كذلك في دراسة التاريخ وأحداثه أمثلة من تغيير أماكن الفسق إلى أماكن العبادة: فيذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه التاريخ المشهور يقول: كان هناك دارٌ عرفت بدار الفاسقين في بولاق خارج القاهرة؛ لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرمات، فاشتراها الأمير عز الدين الخطيري رحمه الله، استغل أمواله بماذا؟ اشترى مكان فسق فيه خمور وزنا وفواحش، مرقص وملهى، اشتراه بنقوده وهدمه، وبنى مكانه الجامع في عام (737هـ) وسماه جامع التوبة. لاحظ العلاقة بين المبنى السابق واسم المبنى الجديد (جامع التوبة) وكان الخطيري بالغ في عمارته حتى كان من أحسن الجوامع، وهذا الجامع موجود إلى الآن، وقد يعرف الآن باسم (جامع الخطيري) وهو في ناحية بولاق في شارع (فؤاد الأول قرب النيل)، وفيه صحن سمائي وتحيط به أروقة ومئذنة، وقد تهدَّم جزءً منه ثم عمر بعد ذلك، وربما الذين يعرفون مصر جيداً يعرفون هذا المسجد، فإذا مروا به وتذكروه فإنهم يتذكرون رجلاً عظيماً من المسلمين اشترى مكان فسق فهدمه وبنى بدلاً منه مسجداً يذكر الله فيه، فكم عظم الأجر؟ أول شيء درأ المفسدة، ثم جلب المصلحة. ولا زال هناك بقية من أهل الخير في هذا الزمان ولله الحمد، فهلَّا قام أغنياء المسلمين بشراء الملاهي وأماكن الفسق ليبنوا فيها مساجد أو أماكن للطاعات؟! وقد حصل قبل سنواتٍ في بلدة من بلاد الشام أنه كان فيها ملهى معروف يسمى بـ(المونتانا) اجتمع بعض أهل الخير وجمعوا التبرعات واشتروا الملهى، وبنوا فيه جامعاً وهو موجود الآن يسمى (جامع الفرقان) فرقان بين الحق والباطل، فهلا كثرت هذه الأمور أيضاً؟ وكذلك فإننا إذا استعرضنا التاريخ أيضاً سنجد فيه أموراً من الفقه والأحكام الشرعية وطرائف فقهية وهي كثيرةٌ جداً، ونضرب مثالاً واحداً: عبد الملك بن إبراهيم أبو الفضل الهمداني رحمه الله تعالى، كان رجلاً قد درس العلم الشرعي وكان ظريفاً لطيفاً، كان يقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده -وكانت مسألة الجهر بالنية مشهورة- ويقول: نويت أن أضرب ولدي تأديباً كما أمر الله. قال: وإلى أن ينوي ويتم النية أكون قد هربت. فهذه مسألة الجهر بالنية من البدع الشائعة، وهي إلى الآن لازالت موجودة شائعة، ترى الواحد إذا قام يصلي قال: نويت أن أصلي لله فرض الظهر الحاضر جماعة وراء الإمام مستقبل القبلة أربع ركعات ... إلخ وهذه البدعة عبارة عن استحسان استحسنه بعض الناس والله: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] فلا حاجة للتلفظ بالنية. فمثل هذه الطرف ترد في ضمن كتب التاريخ، وكتب التاريخ الإسلامي تحوي أحكاماً فقهية، ومناظرات علمية في غاية الجودة والروعة.
التاريخ ومعرفة السنن الكونية في انتقام الله من الناس:(/13)
عندما ندرس التاريخ الإسلامي نجد مصداقاً للسنة الكونية في انتقام الله من الناس، عندما يترفون وينفقون الأموال ويسرفون فيها ويبذرون، فإليكم مثالاً واحداً في المرحلة الزمنية التي هي وقت اجتياح النصارى لبلاد المسلمين، والتشرذم الذي حصل في بلاد المسلمين وقيام بعضهم بقتل بعض، وقيام الدولة الفاطمية في مصر التي أزيل ذكر الخلافة العباسية من على المنابر وصار يذكر الحاكم الفاطمي على المنبر ويدعى له بدلاً من الخليفة العباسي، وما صار الأمر إلى ما صار إليه إلا بانتشار مثل هذه الحوادث التي سأذكر واحدة منها الآن: في سنة (480هـ) نقل جهاز ابنة السلطان إلى دار الخلافة -انظر الزواجات في القديم والحديث، فأهل السوء لا يزالون يبذرون الأموال- على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي غالبها من أواني الذهب والفضة، وعلى أربعٍ وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأحلاسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من الفضة فيها أنواع الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر، ومهدٌ عظيمٌ مجللٌ بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب ومرصعٌ بالجوهر. وبعث الخليفة بالوزير لتلقيهم وبين يديه نحو ثلاثمائة مويكبة غير المشاعل لخدمة الست فلانة امرأة السلطان، وحضر الوزير وأعيان الأمراء وبين أيديهم الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت الأميرات مع كل واحدة منهن جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت زوجة الخليفة بعد الجميع في محفة مجللة وعليها من الذهب والجواهر مالا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية بالمراكب المزينة العجيبة تبهر الأبصار، ودخلت دار الخلافة وقد زينت حرمه وأشعلت فيها الشموع ... إلخ. بمثل تضييع أموال المسلمين هكذا حصل ما حصل من المصائب العظيمة التي نكبت المسلمين.
التاريخ .. وخداع المشعوذين:
عندما نقرأ التاريخ نجد فيه أخبار المشعوذين والدجاجلة وكيف كانوا يخدعون الناس، والأشياء الموجودة الآن في أماكن مختلفة من البلدان كانت موجودة في السابق. ومن ذلك مثلاً: ما حصل أن رجلاً من الصوفية -و الصوفية لا زالوا يخدعون الناس في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي- خدع الملك الظاهر برقوق وأوهمه أنه من أولياء الله، فاعتقد هذا السلطان بهذا الشيخ وهذا الولي -كما يزعمون- وكان إذا دخل الشيخ شفع عند الملك، ثم وصل الأمر إلى درحة أن هذا المشعوذ كان يحضر مجلس السلطان العام ويجلس معه بجانبه على المقعد الذي هو عليه، ويسبه بحضرة الأمراء، وربما يبصق في وجهه ولا يفعل السلطان له شيئاً، لماذا؟ من أثر هذا المشعوذ على السلطان، وكان يدخل المشعوذ على حريم السلطان فلا يحتجبن منه ... وهكذا. وكذلك من الأشياء المشابهة لهذا: أنه أشيع أن امرأة عام (796هـ) -انظروا كيف تشيع الخرافات بين الناس- طال رمدها، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فأمرها أن تأخذ من حصى أبيض في سفح جبل المقطم وتكتحل به بعد سحقه، ففعلت فعوفيت، فانتشر هذا بين الناس فماذا فعل العامة؟ تكاثروا على استعماله حتى أن حصى جبل المقطم انتهى وهم يلتقطونه ويسحقون منه للشفاء والعلاج والبركة، لماذا؟ لأن امرأة رأت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وقال كذا، وانتشرت الرؤية المكذوبة، والآن الرؤى الكاذبة على الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزال موجودة ومنتشرة، ومنها الرؤيا المنسوبة إلى (أحمد) خادم الحرم المدني قبل مائتي سنة، وربما الرؤيا لا زالت تروج إلى الآن في مواسم وتهدأ وتظهر وتهدأ، مفادها: أن هذا الخادم نام مرة بجانب المسجد، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبره عن حوادث كثيرة وكذا وكذا... وفي النهاية ومن لم يطبع الورقة فإنه سيخسر، وإذا كذَّب بها فإنه سيموت أو كذا ويصاب المصائب ... والمغفلون من المسلمين يطبعون هذه الأوراق ويوزعونها. وكذلك فمن الأشياء التي حصلت: أن في أوائل رجب شاع بين الناس أن شخصاً كان يتكلم من وراء حائط؛ فافتتن الناس به، حتى قال قائلهم: (يا رب سَلِّم، الحيطة بتتكلم) وحتى قال أحد الشعراء مستهزئاً:
يا ناطقاً من جدارٍ وهو ليس يرى اظهر وإلا فهذا الفعل فتانُ
لم تسمع الناس للحيطان ألسنة وإنما قيل للحيطان آذنُ(/14)
هذه اللعبة التي لعب فيها بعض المشعوذين على الناس، عملوا من جهةٍ من الجهات نقض في الحائط وله مثل الماسورة أو قرن وينفخ فيه بشكل يتغير الصوت عند النفخ فيه، والناس يأتون ويسمعون الصوت ويعتقدون أن ولياً من أولياء الله هنا.. ونحو ذلك، وعظم ذلك المكان بسبب لعبة لعبها بعض المشعوذين. إن الموالد كانت تقام وتفعل فيها الرذائل، ومن ذلك أنه عُمِلَ المولد النبوي -بزعمهم- واجتمع فيه من الخلق مالا يحصى عددهم، ووجد في صبيحته (150) جرة من جرار الخمر فارغة، غير ما كان في تلك الليلة من الفساد والزنا واللواط، هذا في أي شيء؟ في حفلة المولد النبوي، وهي بدعة زائفة. هذا الاحتفال يُفعل إلى الآن -أيها الإخوة- في كثير من البلدان، يعملون مولد نبوي رجالاً ونساء ... إلخ، وأنت تسمع وتقرأ في الوسائل المرئية والمسموعة إلى الآن عندما يأتي (12ربيع الأول) حفلة مولد نبوي، غناء وموسيقى وطبل ونساء يغنين ويرقصن، في ماذا؟ في المولد النبوي.
التاريخ.. ومساوئ الرياضة:
كذلك فإننا إذا قرأنا التاريخ سنجد مساوئ للرياضة كانت موجودة في ذلك الزمان.. انظر مثلاً في يوم السبت (12 من ذي القعدة) عمل السلطان حفلاً مهماً عظيماً بالميدان تحت القلعة، وسببه أن السلطان لعب بالكرة مع أحد الأمراء فغلبه، فقال: لا بد ما دام أني غلبتك أن تعمل وليمة عظيمة، قال من كرمه: أنا أتولى عنك النفقات، فعملت الوليمة العظيمة؛ فنصبت الخيم بالميدان، وكان فيها من اللحم عشرون ألف رطلٍ، ومائة زوج أوز، وألف طائرٍ من الدجاج، وثلاثون قنطاراً من السكر استعملت في صنع الحلويات، وثلاثون قنطاراً من الزبيب، وستون إردباً دقيقاً، وعملت المسكرات في جنان من الفخار، ونزل السلطان سحر يوم السبت وأمرهم بأن يعاقروا الشراب، ثم سمح للعامة في انتهاب الأكل بعدما أكل هو ومقربوه. قال المؤرخ: فكان يوماً في غاية القبح والشناعة؛ أبيحت فيه المسكرات، وتجاهر الناس بالفواحش بما لم يعلم مثله قط، ومن يومئذٍ انتهكت الحرمات بتلك الديار، عقب انتصارٍ في مباراة كرة حصلت، وكانوا في القديم يلعبون الكرة على الفرس يضربونها بشيء. المهم انظر الآن ما يحصل أيضاً بعد حصول المباريات الرياضية أو الانتصارات بزعمهم. إذاً يوجد كثيرٌ من هذه المفاسد ولا زالت موجودة في القديم والحديث، ونحن لا بد أن نتعظ ونعلم تماماً بأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى عن هذه الأمور.
التاريخ.. ولطائف قدر الله على عباده:
أيضاً في التاريخ عجائب لقدرة الله عز وجل في المخلوقات، فيقول المؤرخ: وجد مخلوق كذا وصفته كذا وكذا من العجائب، وأمطرت السماء في يوم كذا وكذا مطراً كان فيه سمك، وأمطرت مرة حجارة، وحصل أشياء من العجائب حتى وصفوا النيازك وسقوط بعض الأجرام السماوية على الأرض وما حصل فيها. ومن الأشياء اللطيفة التي تذكر في هذه المناسبة: ما يحصل من جريان قدر الله عز وجل في بعض المساكين فمن ذلك: قال ابن كثير رحمه الله: نقل عن ابن الساعي : كان رجلاً ببغداد على رأسه زبادي فزلق فتكسرت، ووقف يبكي، فتألم الناس لحاله وفقره، ولأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجلٌ من الحاضرين ديناراً، فلما أخذه نظر فيه طويلاً، ثم قال: والله إني لأعرف هذا الدينار، لقد ضاع مني مرة في جملة دنانير، فقال له الرجل الذي أعطاه إياه: ما علامة الدنانير؟ قال: وزنها كذا، وكان معه (23) ديناراً، فوزنوها فوجدوها كما قال: فأعطاه. وذات مرة كان رجل بمكة، فنزع ثيابه ليغتسل بماء زمزم، وأخرج دملجاً زنته (50) مثقالاً ووضعها في الثياب، فلما فرغ من الاغتسال لبس الثياب ونسي الدملج ومضى، ورجع إلى بغداد وبقي سنتين حتى افتقر ولم يبق معه إلا شيء يسير، فاشترى بهذا الشيء اليسير زجاجاً وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف ذات مرة إذ زلق فسقطت القوارير وتكسرت، فوقف يبكي فاجتمع الناس عليه يتألمون له، فقال للناس من جملة الشكوى: والله لقد ذهب مني منذ سنتين دملج من ذهب زنته (50) ديناراً ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير؛ لأنها كل ما أملك الآن، فقال له رجل من الناس: أنا والله لقيت الدملج وأخرجه وأعطاه إياه. تصور أنه فقده في مكة وذهب إلى بغداد وبعد سنتين يأتي في وسط الجمع وهو يتألم لفقره، فيقول رجل: أنا وجدته ولم أعرف صاحبه، فدفعه إليه. فالشاهد -أيها الإخوة- أننا نرى عجائب وغرائب من قدر الله سبحانه وتعالى سواء في مثل هذه الأشياء، أو في وفاة الأشخاص. مثل: ثلاثة إخوة افترقوا فلم يجتمعوا إلا في قبرٍ واحد، ماتوا وما اجتمعوا في الحياة إلا في القبر بعدما ماتوا عرف أن هؤلاء إخوة هذا فلان فدفن، ثم فلان، ثم فلان وهكذا.
تاريخنا تاريخ أحداث وعبر وعظات:(/15)
الشاهد: أن تاريخنا غنيٌ جداً بالأحداث وبالعبر والعظات، ولا بد أن نقرأ ونحن لسنا أمة مبتوتة ولا منقطعة، والحقيقة أن هناك أحداث كبيرة يجب أن نقف عندها، مثل: غزو النصارى لبلاد الإسلام، وغزو التتر، وقيام الدول الباطنية في السابق، والمؤامرات على الإسلام، والأسباب التي أدت إلى انهيار المجتمعات. أقول: لا بد من دراسة هذه الأشياء؛ لأننا نحتاج في هذا الزمان إلى ربط حاضرنا بماضينا، وإلى أن نعود إلى طريقة أسلافنا. وإنني أقول لكم أيها الإخوة: إن في التاريخ عبرة ومنهاجا، وإن هذه الأمة لن تقوم على أقدامها إلا إذا استلهمت الماضي وعملت به. إن كثيراً من الكفار متشرذمون لا ماضي لهم ولا حضارة، دولٌ كاملة قامت وسكانها قطاع طرق، كانوا منفيون في جزيرة فتكاثروا حتى أسسوا دولة، وحكموا أجزاء كثيرة من العالم إلى الآن، وليس لهم حضارة، لو تسأل مثلاً: ما هو أصل الشعب الأمريكي والشعب الأسترالي؟ أصلهم قطاع طرق، لصوص، طلاب دنيا، قاموا وقامت لهم حضارات -أقصد الآن دولٌ وهيمنات- فنحن أمة الإسلام ماضينا قديم جداً، وتاريخنا مليء بالثروات الضخمة التي يجب أن نتمعن فيها ونهتم بها. ونقول أيها الإخوة: لا بد من تربية الناس على الإسلام، وتربية العامة حتى يتهيئوا للجهاد في سبيل الله، لا يمكن أن الأمة تجاهد وهي بهذا الوضع من الانشغال بالدنيا، لو ارتفع سعر الخبز في بلد من بلاد المسلمين لأقاموا الدنيا وما أقعدوها، ولكن لو أهين القرآن والسنة والشريعة ما تحرك أحدٌ تقريباً. خذ هذا المثال: قيل للطبيب: ما هي أمنيتك؟ فقال: نحن الأطباء أمنياتنا بحرف العين: عيادة .. عربية .. وعروسة .. وعمارة. هذا مثال نقصد به أن الناس علاقتهم بالدنيا وليست بالله عز وجل، فلا بد من إرجاعهم إلى الله، وتربيتهم على هذه المبادئ، وأشير إلى أن بعض الناس يظنون أن انتهاء المشكلة الحاضرة بظهور قائد للمسلمين يجمع كل المسلمين، نقول: ليس حل المشكلة في القائد كما يظن بعض الناس فقط، القائد صحيح أنه مهم، لكن ليس العلاج فقط في القائد، مثال: موسى عليه السلام أليس قائداً عظيماً، ونبياً كريماً؟ نعم. لكن كيف كانت سيرة شعبه معه؟ كيف كانت سيرة بني إسرائيل؟ اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138].. أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153].. لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61].. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21].. إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] وجد القائد لكن الشعب إذا لم يترب على الإسلام فلا فائدة، الأمة إذا ما تربت على الإسلام فلا ينفع القائد، فالناس الذين يقولون: نحن ننتظر قائداً ربانياً لا يميناً ولا يساراً! نقول: على هونكم، ليس القائد كل شيء، لا بد أن يتربى الناس على الإسلام ثم يقومون في سبيل الله عز وجل. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يوفقنا لنصرة شريعته وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(/16)
من لي بشارون … فإنه آذى الله ورسوله ؟؟
إن الله عز وجل لا يحب الفساد في الأرض.
وهو سبحانه لا يحب الظلم وقد حرمه على نفسه وجعله بين عباده محرما.
وإنه جل وعلا لا يحب المستكبرين الطغاة المتجبرين في الأرض بغير الحق.
أما البغي والعدوان فهي من الأمور التي يبغضها الله تعالى أشد البغض.
لذلك لما آذى كعب بن الأشرف المسلمين بعد انتصارهم في بدر، حيث حرض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويشبب في أشعاره بنساء المؤمنين، وذهب بعد وقعة بدر إلى مكة وألب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام (معلنا استباحة دمه):
من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله
فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل أنا لك يا رسول الله أنا أقتله، قال فافعل إن قدرت على ذلك. فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له:
- لم تركت الطعام والشراب؟
- قال: قلت لك يا رسول الله قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا؟
- فقال: إنما عليك بالجهد.
- قال: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول؟
- قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك.
فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة وعباد بن بشر أحد بني عبد الأشهل وأبو عبس بن جبر أحد بني حارثة. فجاء أبو نائلة وقال لكعب ابن الأشرف: إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني.
قال: أفعل .
قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقلعت عنا، ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا.
قال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول.
فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك.
فقال: أترهنوني أبناءكم.
قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي وقد أردت أن آيتك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك في الحلقة ما فيه وفاء، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها.
قال: إن في الحلقة لوفاء.
قال فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم.
وانتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته فأخذت امرأته بناحيتها وقال إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون الساعة قال إنه أبو نائلة لو وجدني نائما لما أيقظني. فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: لو يدعى الفتى لطعنه لأجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، وخرجوا يتماشون فمشوا ساعة ثم إن ابا نائلة شام يده فود رأسه ثم شم يده فقال ما رأيت كالليلة أعطر قط، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه ثم قال اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا، قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار قال فوضعته في ثنته ثم تحاملت حتى بلغت عانته فوقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا. فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله وتفل على جرح صاحبنا ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
أيها المسلمون …
إن شارون وجنده قد آذوا الله ورسوله والمؤمنين، ولقد علا في الأرض بغير الحق وظلم واستكبر، وأفسد وبغى وتجبر. وإن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتف فينا اليوم … من لي بشارون فإنه قد آذى الله ورسوله والمؤمنين.
وإن روح محمد بن مسلمة وأصحابه المجاهدين لتتطلع شوقا لمن يلبي نداء النبي صلى الله عليه وسلم أنا لك يا رسول الله أنا أكفيك شارون. ليلحق بركب السابقين الأولين الذين استجابوا لله ورسوله.
واستبقوا الخيرات …
إن الخزرج لما رأوا أن الأوس قد سبقوهم بهذا الفضل أرادوا أن يلحقوا بهم، لذلك لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق (وكان يؤذي رسول الله ويبغي عليه، وكان ممن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) سارع الخزرج للاستجابة، وكان أميرهم عبدالله بن عتيك.(/1)
وكان أبو رافع في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال لهم عبدالله بن عتيك اجلسوا مكانكم فإني للبواب لعلي أدخل، حتى إذا دنا من الباب تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به: عبدالله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، قال فدخلت وكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأقاليد على وتد، قال فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب وكان أبو رافع يسمر عنده في علالي فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقه من داخل فانتهيت إليه في بيت مظلم وسط عياله لا أدري من في البيت، قلت أبا رافع، قال من هذا؟ قال فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنى شيئا وصاح فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت ما هذا أبا رافع؟ قال لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف. قال فأضربه فأثخنه ولم أقتله، قال ثم وضعت ضبيب السيف فيه حتى أخرجته من ظهره فعرفت أني قد قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي قال فعصبتها بعمامتي ثم إني جلست عند الباب فقلت والله لا أبرح الليلة حتىأعلم أقتلته أم لا؟
قال فلما صاح الديك قام الناعي عليه على السور قال أنعى ابارافع رباح أهل الحجاز قال فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء قد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطتها فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
أيها المسلمون …
هكذا لبى الأصحاب نداء المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن يلبي نداءه اليوم، وإن المجاهدين في فلسطين المحتلة يبذلون غاية جهدهم لإرضاء الله ورسوله، فيوقعون في شارون وجنده ما يستحقون قدر وسعهم وطاقتهم، آملين الدعم والعون من إخوانهم المسلمين في العالم.
أيها القادة…
وأنتم على مشارف قمتكم، تذكروا أن شارون آذى الله ورسوله والمؤمنين، وأنه لا عهد لليهود ولا ميثاق، فاحفظوا وصية نبيكم وكونوا يدا واحدة، ولنردد معا …
أنا أكفيك شارون يا رسول الله
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/2)
من مظاهر الغلو في الدين
إعداد- أسامة سليمان
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن الغلو في الدين من الأمور التي نهى الله عنها في كتابه فقال سبحانه: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق.
وحذر منها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلك المتنطعون". رواه مسلم.
والغلو هو مجاوزة الحد، فالغالي يوصف بالتشدد في أخذه للدين وبالعنف في معاملته للآخرين وبالتنطع في القيام بالأعمال الشرعية، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". رواه أحمد والنسائي.
وهذا المرض الخطير الذي تعاني منه بعض المجتمعات المسلمة له ظواهر عديدة. منها:
1- الغلو في مفهوم الجماعة والتعصب لها وجعلها مصدر الحق والغلو في علمائها.
2- الغلو في وصف المجتمعات المسلمة بأنها مجتمعات جاهلية.
3- الغلو في التكفير بالمعصية وتكفير الحاكم والمحكومين والخارج عن الجماعة عند هؤلاء.
4- الغلو في التشديد على النفس وعلى الناس وتحريم الطيبات.
5- الغلو في تحريم الصلاة في مساجد المسلمين وتعطيل صلاة الجمعة واعتزال المجتمعات والهجرة منها.
6- الغلو في تحريم العمل في الوظائف الحكومية مطلقا.
ونظرًا لخطورة هذا الأمر نقف عند بعض ظواهره التي عمت بها البلوى في مجتمعنا، والتي تتمثل في التعصب الأعمى لها وجعلها مصدر الحق، والغلو في علمائها وقادتها.
إن المتأمل في النصوص الشرعية يجد أن الله عز وجل أمرنا بالاجتماع ونهى عن التفرق والاختلاف، فقال سبحانه: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وقال سبحانه: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء، وجاءت الأحاديث النبوية تحض على الجماعة وتأمر بها، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم : "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". رواه الترمذي.
فما المقصود بالجماعة في تلك النصوص؟؟
إن تحديد المقصود بالجماعة من الأمور الهامة جدًا حيث تحزَّب أقوام، وبايعوا واحدًا منهم، وزعموا أنهم الجماعة المرادة في تلك النصوص فأتوا من قبل فهمهم السقيم.
إن للعلماء في مفهوم الجماعة في تلك النصوص خمسة آراء هي:
1- الجماعة هي السواد الأعظم من المسلمين، وبهذا قال أبو مسعود الأنصاري، وهو قول الشاطبي في الاعتصام حيث قال: "يدخل في الجماعة علماء الأمة وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم". {الاعتصام: ج2 ص261}.
2- المراد بهم أهل الحل والعقد في كل العصور. قاله ابن بطال والكرماني، فهم أئمة العلماء المجتهدين أهل الفقه والحديث، ولهذا قال البخاري: باب: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم}، فعلماء الأمة لا يجتمعون على ضلالة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وإلى هذا القول ذهب ابن المبارك وإسحاق بن راهويه وجماعة من السلف.
3- الجماعة هم الصحابة على وجه الخصوص دون من بعدهم، لأنهم هم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده.
4- الجماعة هي جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، وهذا اختيار الإمام الطبري رحمه الله.
5- الجماعة هي أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر وجب على غيرهم اتباعهم.
هذه هي أقوال العلماء في مفهوم الجماعة، فهل ترى فيها أخي غير أن المسلمين إذا اتفقوا على إمام شرعي صاروا جماعة وجب لزومها وعدم مفارقتها، فما شأن الذين تحزبوا وبايعوا دون إجماع من الأمة على حزبهم ولا بيعتهم، والجماعة في النصوص مجموعة أركان وليست مجرد كيان، فقد يكون الإنسان الجماعة إذا كان هو الملتزم الوحيد بأوصافها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك". فإذا جاء الأمر بالجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه.
ويقول الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة: علامة من أراد الله به خيرًا سلك طريق الكتاب والسنة وسنة الصحابة ومن تبعهم بإحسان وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد كالأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وابن حنبل والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقتهم.
والغلو في مفهوم الجماعة وقع في العصر الحاضر من بعض الجماعات التي اعتقدت أن جماعتهم هي جماعة المسلمين الواجب التزامها دون غيرها.
وأنزلوا الأحاديث الواردة في الجماعة على جماعتهم، وتلك هي الفتنة العظمى في بلاد المسلمين.
ترتب على هذا الفهم السقيم لمفهوم الجماعة الغلو والتعصب للجماعات، فالانتساب الذي يفضي إلى بدعة أو معصية فهذا محرمٌ، بعكس الانتساب الذي لا يفضي إلى التعصب كانتساب الرجل إلى قبيلة مع الالتزام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.(/1)
وترتب على هذا الفهم أيضًا أن هؤلاء يعتبرون جماعتهم مصدر الحق فهم يحبون ويبغضون لأجل جماعتهم إذ قبول الحق عندهم طريقه الجماعة والحزبية لا طريق الكتاب والسنة.
كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم وفرق كبير بين الإمامة العامة التي يجب على كل مسلم طاعة الخليفة أو الإمام فيها وفي ذلك يقول إمام الحرمين رحمه الله (الإمامة رياسة تامة وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا) أما الإمام للجماعة الخاصة فليس إلا قائدًا لطائفة قيادة مؤقتة فلا يرقى إلى مرتبة إمام المسلمين ولو ادعى ذلك أو بايعه أصحابه على ذلك. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: "الإمامة ملك وسلطان ولا يعتبر الملك ملكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تتعدى موافقة غيرهم".
وبناءًا على ذلك فإن قائد الجماعة ليس بالإمام الأعظم وليس له من الحقوق مثل ما لهم ولا تجوز مبايعته على إمامته للمسلمين فيا ليت الذين يتحدثون عن البيعة يعرفون تلك الحقائق إذ البيعة تعني عقدًا بين الإمام والأمة لا تصح لإمام الجماعة الخاصة لعدم توافر شروط صحة البيعة فيه لأن من شروطها:
1 أن تتوفر شروط الإمامة في الشخص المأخوذ له البيعة.
2 أن يكون المتولي لعقد البيعة أهل الحل والعقد فلا عبرة ببيعة غير أهل الحل والعقد، وفي ذلك يقول عمر رضي الله عنه من بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فلا يتابع هو ومن بايعه.
3 أن يتحد المعقود له بحيث لا تنعقد البيعة لأكثر من واحد وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "فوا ببيعة الأول فالأول" رواه البخاري.
وهذا معناه أن الذين يتحدثون عن البيعة العامة في وجود ولي أمر للبلاد لا يعرفون ما يقولون، وإذا قال قائل منهم: نحن لم نبايع ولي أمر البلاد، قلنا: وهل ما بايعتم عليه من اجتماع من أهل الحل والعقد؟ وما معنى من وجود بيعتين في آن واحد؟ وهل تعرفون الفرق بين البيعة العامة والخاصة؟ فالبيعة الخاصة تنطوي تحت البيعة العامة عند تعارض البيعتين، فإن الكبرى هي المعتبرة، وإذا ظلم ولي الأمر أو طغى فلا سمع له ولا طاعة فيما فيه معصية، مع عدم جواز خلعه إذا أدى ذلك إلى مفسدة؛ فمراعاة المصالح والمفاسد من أصول الشريعة.
ومن هنا يتضح لنا عدم خلع السلف الحجاج ابن يوسف رغم ظلمه.
والله من وراء القصد.(/2)
من مظاهر ضعف التوكل
الخطبة الأولى:
أما بعد. . .
أيها المؤمنون عباد الله اتقوا الله واعبدوه وحده لا شريك له وأفردوه سبحانه وتعالى بالرغبة والرهبة والخوف والرجاء والسؤال والتوكل فإن التوكل جماع الإيمان فإنه لا إيمان لمن لا توكل معه قال الله تعالى: ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?(1) وقال عز جنابه: ?وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ?(2) فاتقوا الله عباد الله وحققوا إيمانكم بصدق الاعتماد عليه جل شأنه في جلب كل خير واعلموا أيها المؤمنون أنه لا يستقيم لكم إيمان إلا بالتوكل على الله قال الله تعالى: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ?(3) أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون حوائجهم إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً.
أيها المؤمنون إن من أكبر الآفات وأعظم الآثام التي بلي بها كثير من الناس ضعف التوكل على الله، والتعلق بغيره، والاعتماد على سواه، أيها المؤمنون إن علامات ضعف التوكل على الله تعالى كثيرة في حياة الناس اليوم فمن تلك المظاهر أن كثيراً من الناس إذا نزلت بهم الأمراض أو أصابتهم الأسقام تعلقت قلوبهم بالأسباب الحسيّة وغفلوا عن قوله عز وجل: ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ?(4) فتجد فريقاً ممن أصيبوا بالأمراض علقوا قلوبهم بالأطباء أو الأدوية ورجوا منهم الشفاء وزوال الداء، ومنهم فريق جاب الفيافي والقفار وقطع الصحاري والبحار، وشرَّق وغرَّب في الأمصار، يلاحق السحرة والمشعوذين يرجو منهم رفع البلاء، وكشف الضراء، فخربوا قلوبهم لإصلاح أبدانهم، ففسدت قلوبهم، ووهنت أبدانهم ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً?(5). فاتقوا الله عباد الله فإن من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف يا عبد الله تطلب الشفاء من السحرة والكفرة الذين لا حول لهم ولا قوة وتغفل عن الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء كيف تيأس من روحه ورحمته وقد وسعت رحمته كل شيء أما سمعت نبي الله أيوب عليه السلام ?وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ?(6) ألم تر كيف أجابه الكريم المنان ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ?(7) فاتقوا الله عباد الله وإياكم إياكم إياكم أن تأتوا هؤلاء الكهنة والمشعوذين تحت أي ظرف، فلأن تموت يا عبد الله مريضاً موحداً مؤمناً خير لك من أن تموت صحيحاً معافىً مشركاً، فـ? إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ?(8).
أيها المؤمنون إن من مظاهر ضعف التوكل أنهم إذا نزلت بهم المصائب وأصابتهم النوائب فزعوا إلى غير مفزع، وفروا إلى غير مهرب، فتجد الواحد من هؤلاء إذا نالته نائلة توجه إلى مخلوق مثله يطلب شفاعته وغوثه وتحقيق طلبه، ولو أن هؤلاء صدقوا الله لكان خيراً لهم، طرقوا كل باب وسلكوا كل سبيل إلا أنهم غفلوا عن الله الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون فإنه سبحانه قد قال: ?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?(9). أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه ما أهمه وأقلقه فاتقوا الله عباد الله وأنزلوا حاجاتكم بالذي ينادي كل ليلة فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ . جاء رجل إلى الربيع بن عبد الرحمن يسأله أن يكلم الأمير في حاجة له فبكى الربيع رحمه الله ثم قال: أي أخي اقصد إلى الله عز وجل في أمرك تجده سريعاً قريباً فإني ما طلبت المعونة من أحد في أمرٍ أريده إلا الله فأجده كريماً قريباً لمن قصده وتوكل عليه.
__________
(1) المائدة : 23 ...
(2) آل عمران : 122 ...
(3) الأنفال : 2 ...
(4) الشعراء : 80 ...
(5) الجن:6. ...
(6) الأنبياء : 83 . ...
(7) الأنبياء :84. ...
(8) المائدة: 72. ...
(9) الطلاق: 3. ...(/1)
عباد الله إن من مظاهر ضعف التوكل عند بعض الناس التشاؤم والتطير ببعض الأسماء أو الأشخاص أو الأرقام أو الألوان أو الأيام أو الشهور وغير ذلك فإن ذلك من الشرك المحرم قال - صلى الله عليه وسلم -: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك) (1). فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله جل وعلا ولا يدفع السيئات إلا الله سبحانه، فعلقوا قلوبكم بالله يا عباد الله واعتقدوا قوله جل وعلا: ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ?(2).
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا إله إلا هو عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، أحمده جل وعلا كاف من يتوكل عليه وأشهد. . . .
فاتقوا الله عباد الله، أيها المؤمنون أنتم أحق من يتوكل على الله فإن أهل السماوات وأهل الأرض إنسهم وجنهم محتاجون إلى التوكل على الله تعالى في تحصيل مراداهم وتحقيق مبتغياتهم على اختلافها وتنوعها.
فتوكلوا أيها المؤمنون على من بيده الأمر وله الحكم فإن التوكل على الله جل وعلا من أعظم أسباب حصول المطلوب والأمن من المرهوب قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً -أي تذهب في الصباح جائعة- وتروح بطاناً -أي ترجع في المساء شبعى-)(3).
أيها المؤمنون إن من فضائل التوكل أن أهله هم أقوى الخلق إيماناً وأصلبهم ثباتاً وأرسخهم يقيناً وهم أحباء الله وأهل نصرته وتأييده، إن الله يحب المتوكلين ومن يكن الله تعالى حسبه وكافيه ومراعيه فقد فاز الفوز الكبير فإن المحبوب لا يُعذب ولا يُبعد ولا يُحجب.
__________
(1) أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما برقم 7005. ...
(2) يونس:107.
(3) أخرجه أحمد من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه برقم 205.(/2)
من معاني النصر
ناصر الأحمد
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على رسول العالمين أما بعد :
من معتقد أهل السنة والجماعة في معاني أسماء الله وصفاته أن الله لا يُخذل من توجّه إليه بصدق وتوكل واعتمد عليه . فإنه لم يحصل في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله هذه الأرض أن نبياً من الأنبياء أو عالماً أو داعيةً أو مجاهداً أو مجتمعاً أو دولةً أو غيرهم توكلوا على الله وصدقوا الله واعتمدوا على الله وتركوا جميع الناس من أجل الله ثم خذلهم الله ، هذا لا يعرف في التاريخ أبداً ، بل من فهمنا لمعاني أسماء الله وصفاته أن كل من توكل على الله واعتمد عليه وترك من سواه من الخلق فإن الله لا يخذله بل سينصره كما قال سبحانه : (وَكَانَ حَقًّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) . فإن هذا من معاني أسمائه وصفاته . فالله عز وجل بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين وهذه سنة لا تتخلف إلاّ إذا تخلفت أسبابها (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَحْوِيلاً) .
لكن لهذا النصر صور عديدة وليس النصر محصوراً في انتصار المعارك فحسب بل قد يقتل النبيّ أو يطرد العالم أو يسجن الداعية أو يموت المجاهد أو تسقط الدولة والمؤمنون منهم من يسام العذاب ومنهم من يلقى في الأخدود ومنهم من يَستشهد ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد ومع ذلك يكون كل هؤلاء قد انتصروا بل وحققوا نصراً مؤزراً وتحقق فيهم قول الله تعالى (وَكَانَ حَقًّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) . ومن قَصَرَ معنى النصر على صورة واحدة وهي الانتصار في المعارك فحسب لم يدرك معنى النصر في الإسلام .
إليكم بعض صور النصر في الإسلام :
النوع الأول من أنواع النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين : نصر العزة والتمكين في الأرض وجعل الدولة والجولة للإسلام كما نصر الله عز وجل داود وسليمان عليهما السلام كما قال سبحانه : (وقَتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة) وقال عز وجل: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) فجمع الله عز وجل لهذين النبيين الكريمين بين النبوة والحكم والملك العظيم . وكذلك موسى عليه السلام نصره الله على فرعونَ وقومه وأظهر الدين في حياته كما قال سبحانه : (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) . أما نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقد نصره الله نصراً مؤزراً فما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى أقرّ الله عز وجل عينه بالنصر المبين، والعز والتمكين، بل جعل الله عز وجل النصر ودخول الناس في دين الله أفواجا علامة قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى حكم الإسلام جزيرة العرب، ثم فتح تلامذته من بعده البلاد شرقاً وغربا وشمالاً وجنوبا، حتى استنارَ أكثرُ الأرض بدعوة الإسلام، وسالت دماء الصحابة في الأقطار والأمصار، يرفعون راية الإسلام، وينشرون دين الله عز وجل حتى وقف عقبة بن عامر على شاطئ بحر الاطلنطي وقال : "والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرض تفتح في سبيل الله لخضتك بفرسي هذا" وما كان يعلم رضي الله عنه أن وراء ذلكم البحر الأمريكتان ولو كتب الله وخاض البحر ودخل المسلمون تلك البلاد لكان التاريخ شيئاً آخر ، فشاء الله تعالى أن تقف خيول عقبة بن عامر على شاطئ الاطلنطي لحكمة يعلمها سبحانه لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون . وهذا الخليفة المسلم هارون الرشيد نظر إلى السحابة في السماء وقال لها : "أمطري حيث تشائين فسوف يأتيني خراجك" لقد انتصر الإسلام لما وجد الرجال الذين يقومون به ويضحون من أجله والله عز وجل يقول : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) .
النوع الثاني من أنواع النصر : أن يُهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وينجي رسله وعباده المؤمنين قال عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) وكما نصر الله عز وجل هوداً وصالحاً ولوطاًً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام أهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وأنجى رسله وعباده المؤمنين .(/1)
النوع الثالث من أنواع النصر: وهو انتصار العقيدة والإيمان وهو أن يثبت المؤمنون على إيمانهم وأن يضحوا بأبدانهم حماية لأديانهم وأن يؤثروا أن تخرج أرواحهم ولا يخرج الإيمان من قلوبهم فهذا نصر للعقيدة وانتصار للإيمان . فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار مع أن الذين ألقوه في النار يرون أنفسهم أنهم قد هزموه ، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب !
وهذا خبر الغلام في قصة أصحاب الأخدود حين عجز الملك عن قتله فقال له : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، وانظر إلى عزة الإسلام وهو يقول للملك "ما آمرك به" قال : ما هو ؟ قال : تجمعُ الناس في صعيد واحد وتصلُبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : باسم اللهِ ربِّ الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم فمات . فقال الناس : آمنا بربِّ الغلام، آمنا بربِّ الغلام، فأُتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك قد آمن الناس . فانظروا كيف ضحى هذا الغلام بحياته من أجل الدعوة، وهذا ما يجب على الدعاة إلى الله عز وجل أن لا يبخلوا بشيء في سبيل نشر دعوتهم، ولو أنفقوا حياتهم ثمناً لإيمان الناس، فقد مضى الغلام إلى ربه، إلى رحمته وجنته وآمن الناس بدعوته، عند ذلك أمر الملك بحفر الأخاديد في أفواه السكك وأضرم فيها النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق، وسجل الله عز وجل لنا في كتابه الخالد خاتمة القصة، وعاقبة الفريقين في الآخرة فقال عز وجل (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) .
في النظرة القريبة قد يُظن أن هؤلاء قد انهزموا لكنهم في الحقيقة أنهم انتصروا وأيّ انتصار وإن كانت نهايتهم الحرق بالنار .
وقافلة الإيمان تسير يتقدمها الأنبياء الكرام والصديقون والشهداء (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) ما جفت الأرض من دماء الشهداء في عصر من العصور ولا خلت الأرض من مخلص يقدم للأمة نموذجاً فيموت هو وينتشر الخير بعده بسببه ، فهذا صاحب الظلال رحمه الله كان قتله انتصاراً لمنهجه الذي عاش من أجله ومات في سبيله بذل حياته كلها من أجل أن يبين في وقته أن الحكم من أمور العقيدة والتحاكم إلى غير شرع الله والحكم بغير حكمه كفر بالله عز وجل (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) وقال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وبعد أن حكم عليه بالإعدام وقبل أن ينفذ فيه الحكم الظالم كتب هذه الأبيات وكتب الله عز وجل لها الحياة وخرجت من وراء القضبان تقول للعالم .
أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
أخي إن مت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إن ذرفت عليّ الدموع وبللت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تليد
فرحمة الله على صاحب الظلال . قال عنه أحد الشيوعيين وهو في سجنه : إنني أتمنى أن أقتل كما قتل وينشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتبه .(/2)
نعم لقد وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتبه بعدما قتل من أجلها ، وهذا ما قصده رحمه الله عندما قال : إن كلماتَنا وأقوالَنا تظل جثثاً هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بدمائنا عاشت وانتفضت بين الأحياء . إنه نصر وأيّ نصر ، إنه أعظم وأجل من انتصارات كثير من المعارك والتي سرعان ما تنتهي بانتهائها أما هذا النصر فإنه يبقى ما شاء الله أن يبقى .
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده ويظن أعداؤه أنهم قد انتصروا عليه ، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه ، فتبقى حافزاً ومحركاً للأبناء والأحفاد وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال .
النوع الرابع من أنواع انتصار المؤمنين : وهو أن يحمي الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين كما قال تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وكما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : (والله يعصمك من الناس) وجاء في السيرة المباركة كيف عصمه الله عز وجل من الرجل الذي رفع عليه السيف وقال : من يعصمك مني ؟ فقال الله( فارتجف الرجل وسقط السيف من يده . وقصة الشاه المسمومة التي انطقها الله عز وجل وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة . وقصة إجلاء بني النضير، ونزول جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم . كل هذا وغيره يعد صوراً من حماية الله لأوليائه وهو نصر لهم .
وهل سمعتم عن يوم الرجيع ؟ هل تعرفون عاصم بن ثابت رضي الله عنه ؟ بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً وأمّر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيّ من هذيل يقال لهم : بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا : هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتُهي إلى عاصم وأصحابه لجأوا إلى مكان مرتفع وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا لا نقتل منكم رجلا . فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيك، فقاتَلوهم حتى قَتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء . وكان عاصم بن ثابت قد عاهد الله أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبدا، فكان عمر يقول لما بلغه خبره : يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته. فكان عاصم رضي الله عنه مدافعاً أول النهار عن دين الله، ودافع الله عز وجل عن جسده آخر النهار، فلم يمسه مشرك . فإن قال قائل : لماذا لم يمنعهم الله عز وجل من قتله كما منعهم من الوصول إلى جسده بعد قتله ؟ فالجواب : أن الله عز وجل يحب أن يرى صدق الصادقين ويحب أن يرى عباده المؤمنين وهم يبذلون أنفسهم لله عز وجل فيبوئهم منازل الكرامة، ويزيدُهم من فضله، فالله عز وجل أراد أن يشرّفه بدرجة الشهادة فلم يمنعهم من قتله ثم حمى الله عز وجل جسده من أن يمسه مشرك . فهذه صورة من صور النصر ولو انتهت بموت وقتل صاحبه .
النوع الخامس من النصر الذي ينصر الله عز وجل به عباده المؤمنين : وهو نصر الحجة كما قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) والرفع هو الانتصار ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" . فهذا الظهور أدناه أنه ظهور حجة وبيان، وقد يكون معه ظهور دولة وسلطان .(/3)
هذه أنواع من النصر كلها تدخل في وعد الله سبحانه وتعالى (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ولكن النصر الذي بشرنا الله عز وجل به، وبشرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم هو النصر الأول وهو نصر التمكين والظهور قال الله تعالىهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر" وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوي لي منها". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أوالشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" . ونقرأ هذه الأحاديث تحقيقاً لوعد الله ووعد نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن بانتظار الشمس أن تشرق وهذا الليل أن ينجلي وذلكم الصبح أن يتنفس ..
صبح تنفس بالضياء وأشرقا وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق فى ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
وقوافل الإيمان تتخذ المدى ضرباً وتصنع للمحيط الزورقا
وما أمرهذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
هي نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع طويل فى التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة فى جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحبِس نوره ؟! أرني يداً سدت علينا المشرقا
إن الثقة بنصر الله ، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله ، هي زاد الطريق ، ومفتاح الأمل ، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة وتبقى لحظة النصر وبشارة التمكين حية شاخصة في رؤى المجاهدين ومشاعرهم وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره ، فقد خسر خسراناً مبيناً ، ومن تشكك فيها لحظة ، فقد تأخر عليه النصر على قدرها (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آياتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ) .
من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قول الله تعالى : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قوله سبحانه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قوله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) .
إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يستحقونه وهم المؤمنون الذين يثبتون حتى النهاية ، الذين يثبتون على البأساء والضراء ، الذين يصمدون للزلزلة الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة ، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله ، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله ، ولا نصر إلا من عند الله ومع ذلك فإن من سنن الله تعالى أن النصر قد يتأخر ولو كان أهله مسلمون وأعدائهم كفار وذلك لأسباب :
منها : أن البنية للأمة لم تنضج بعد ولم يتم بعد تمامها ولم تُحشد بعد طاقاتها ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلا . لأن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه لأنه رخيص الثمن لم تُبذل فيه تضحيات عزيزة .(/4)
ومن الأسباب أيضاً : أنه قد يتأخر النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله وهي تعاني وتتألم وتتأذى وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا ملجأً إلا إليه ، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج الصحيح بعد النصر عندما يتأذن به الله ، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به .
وقد يتأخر النصر أيضاً : لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه أو تقاتل حمية لذاتها أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيها في سبيل الله ؟ فقال :( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق عليه .
وقد يتأخر النصر أيضاً : لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد الباطل له أنصاراً من المخدوعين فيه لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة فيشاء الله أن يبقى الباطل مدة من الزمن حتى يتكشف عارياً للناس وإذا ما ذهب فإنه يذهب غير مأسوف عليه .
وقد يتأخر النصر أيضاً : لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصر حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة حولها لا يستقر معها قرار ، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه .
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن قد يتأخر نصر الله فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام وتتضاعف معها الأجور وفي كل ذلك خير مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) .
موقع صيد الفوائد(/5)
من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم استجابة دعائه
عبد العظيم بدوي الخلفي
1104
ملخص المادة العلمية
1- وقائع وحوادث استجاب الله تعالى فيها لرسوله ليكون آية على صدقه .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى النبي الخلاء، فوضعت له وضوءا، فلما خرج قال: ((من وضع هذا؟)) فأخبر، فقال: ((اللهم فقهه في الدين)).
فكان بعد يدعى حبر الأمة، وترجمان القرآن، ببركة دعوة النبي ، وإجابة دعائه لجماعة بما دعا لهم أو عليهم متواتر بالجملة، معلوم بالضرورة.
ومنه:
عن عبد الله بن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، فلو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله ، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت – وهي جويرية – فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم. وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: ((اللهم عليك بقريش-ثلاث مرات-)) فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط)).
وذكر السابع ولم أحفظه، قال: فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.
وعنه : ((أن النبي لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصدت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد! إنك تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا لهم، فسقوا الغيث)).
وعن البراء بن عازب عن أبيه أنه قال لأبي بكر: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما حين سريت مع رسول الله ، قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، وسوّيت للنبي مكانا بيدي ينام فيه عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، فاذ أنا براع مقبل، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت: أفتحلب؟ قال: نعم، فأخذ شاة فحلب في قعب كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي يرتوي منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي فكرهت أن أوقظه، فوقفت حتى استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى يرد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ((ألم يأن الرحيل؟)) قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعد ما مالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله! قال: ((لا تحزن إن الله معنا))، فدعا عليه النبي فارتطمت به فرسه إلى بطنها في جلد من الأرض، فقال: إني أراكما دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتم ما ههنا، فلا يلقى أحدا إلا رده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي قال وهو في قبّة يوم بدر. ((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم)) فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك! فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي خرج يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر قال: ((اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم))، ففتح الله عليه فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسبوا وشبعوا.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزوت رسول الله وأنا على ناضح، قد أعيى فلا يكاد يسير، فتلاحق بي النبي فقال: ((ما لبعيرك؟)) قلت: قد أعيى، فتخلف رسول الله فزجره، فدعا له، فما زال بين يدي الإبل، قدّامها يسير، فقال لي: ((كيف ترى بعيرك؟)) قلت: بخير، قد أصابته بركتك، قال: ((أفتبعنيه بأوقية؟)) فبعته على أن لي فقار ظهره إلى المدينة، فلما قدم رسول الله المدينة غدوة عليه بالبعير فأعطاني ثمنه ورده علي.
وعنه قال: ((كان ليهودي على أبي تمر، فقتل يوم أحد وترك حديقتين، وتمر اليهودي يستوعب ما في الحديقتين، فقال النبي لليهودي: ((هل لك أن تأخذ للعام نصفه وتؤخر نصفه؟)) فأبى اليهودي، قال النبي : ((هل لك أن تأخذ الجداد؟)) فأبى، قال: ((فآذني)). فآذنته فجاء هو وأبو بكر، فجعل يجد ويكال من أسفل النخل، ورسول الله يدعو بالبركة، حتى وفينا جميع حقه من أصغر الحديقتين ثم أتيتهم برطب وماء، فأكلوا وشربوا، ثم قال: ((هذا من النعيم الذي تسألون عنه)).(/1)
الله أكبر!! الرطب والماء من النعيم الذي تسألون عنه !! فماذا أنتم فاعلون بهذه النعم التي أنتم فيها اليوم تتقلبون؟ تصبحون في ألوان من الطعام والشراب، وتمسون في ألوان! فيا إخوتاه اشكروا الله يزدكم، وإياكم وكفر النعمة فتذهب عنكم: وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون [النحل:112-114].
وعن أنس : أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله قائم يخطب، فاستقبل رسول الله قائما، فقال: يا رسول الله! هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله يديه فقال: ((اللهم اسقنا – ثلاثا –))، قال أنس: لا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس.
فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر))، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه: قالت عائشة: فخرج حين بدا حاجب الشمس، فصعد على المنبر، فكبّر وحمد الله ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم))، ثم قال: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل فيما أنزلت لنا قوة وبلاغا، إلى حين))، ثم رفع يديه فلم يترك الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوّل إلى الناس ظهره، وقلب أو حوّل رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)).
وعن أنس قال: ((كان رجل نصراني أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب الوحي للنبي ، فعاد نصرانيا، وكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فقال : (اللهم اجعله آية)، فأماته الله، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصحبوا وقد لفظته الأرض فقالوا مثل الأول: فحفروا له وأعمقوا، فلفظته الثالثة، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه بين جبلين ورضخوا عليه الحجارة)).
وعن سلمة بن الأكوع : أن رجلا أكل عند رسول الله بشماله، فقال: ((كل بيمينك))، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت))، ما منعه إلا الكبر ، فما رفعها إلى فيه.
وعن السائب بن يزيد قال: (ذهبت بي خالتي إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، فتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة، قال الجعيد: رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين جلدا معتدلا، فقال: قد علمت ما متعت به من سمعي وبصري إلا بدعاء رسول الله ).
وعن أنس قال: دخل النبي على أم سليم فأتته بتمر وسمن فقال: ((أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم))، ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله! إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس.
قال: فما ترك لي خير دنيا ولا آخرة إلا دعا لي به: ((اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له))، قال أنس: فإني لمن أكثر الأنصار مالا، ولقد دفنت لصلبي إلى مقدم الحجاج البصرة بضعا وعشرين ومائة.(/2)
وعن أبي هريرة قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله : ((اللهم اهد أم أبي هريرة))، فخرجت مستبشرا بدعوة النبي ، فلما جئت فصرت إلى الباب وقربت منه فإذا هو حجاف فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله ، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وقال خيرا، قال: يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، فقال : ((اللهم حبب عبدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهما المؤمنين))، فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبن(/3)
من معجزاته صلى الله عليه وسلم زيادة الطعام والشراب
عبد العظيم بدوي الخلفي ... 1103
وقائع وأحداث حصل فيها تكثير الطعام والشراب آية من آيات الله تعالى تصديقاً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال: ((عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله بين يديه ركوة بتوضأ منها فقال له الناس: يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: فوضع رسول الله يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قال: فقلت: لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال لو كنا ألفا لكفانا، كنا خمس عشرة مائة)).
من معجزاته زيادة الطعام والشراب ببركته ، وهذا الحديث أحد الأحاديث المصرّحة بزيادة الماء ببركته ، وفي السنة أحاديث غيره تدل على ما دل عليه: عن عبد الله بن مسعود قال: ((كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله في سفر فقلّ الماء، فقال: اطلبوا لي فضلة من ماء)) فجاءوا بإناء فيه ماء قليل وأدخل يده في الإناء ثم قال: ((حي على الطهور المبارك، والبركة من الله تعالى))، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله .
وعن أنس بن مالك قال: ((رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه ، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم)).
وعن عمران بن حصين قال: ((كنا في سفر مع النبي ، وإنا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة، ولا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلا جليدا، كبّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ لصوته النبي ، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم فقال: ((لا ضير، ارتحلوا)) فارتحل فسار غير بعيد ثم نزل، ودعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذ هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: ((ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟)) قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)). ثم سار النبي فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا، ودعا عليا، فقال: ((اذهبا فأتيا بالماء))، فانطلقا فتلقّيا امرأة بين مزادتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوف، فقالا لها: انطلقي إذا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله ، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذين تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي بإناء، فأفرغ فيه من أفواه المزادتين وأوكأ أفواههما، وأطلق الغرالي، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: ((اذهب فأفرغه عليك)). وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيّل إلينا أنها أشد ملئة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي : ((اجمعوا لها))، فجمعوا لها من بين عجزة ودقيقة وسويقه، حتى جمعوا لها طعاما، فجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، وقال لها: ((تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا، ولكن الله هو الذي أسقانا)).
فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، فقالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الصابئ، ففعل كذا وكذا، والله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها السبابة والوسطى، فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض أو إنه لرسول الله حقا.
فكان المسلمون يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه.
فقالت يوما لقومها: ما أرى إلا أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا! فهل لكم في الإسلام؟.(/1)
وعن أبي قتادة الأنصاري قال: خطبنا رسول الله فقال: ((إنكم تسيروا من عشّيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدا)) فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، قال أبو قتادة: فبينما رسول الله يسير حتى أبهار الليل وإني إلى جنبه، قال: فنعس رسول الله فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار، حتى إذا تهور الليل مال عن راحلته، قال: فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته. ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين، حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: ((من هذا؟)) قال: أبو قتادة. قال: ((متى كان هذا سيرك مني؟)) قلت: ما زال هذا سيري منذ الليلة. قال: ((حفظك الله بما حفظت به نبيه))، ثم قال: ((هل ترانا نخفى على الناس؟)) ثم قال: ((هل ترى من أحد؟)) قلت: هذا راكب، ثم قلت: هذا راكب آخر، حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب، قال: فمال رسول الله عن الطريق فوضع رأسه، ثم قال: ((احفظ علينا صلاتنا))، فكان أول من استيقظ رسول الله والشمس في ظهره، قال: فقمنا فزعين، ثم قال: ((اركبوا)). فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء قال: فتوضأنا منها وضوءا دون وضوء، وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: ((احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ))، ثم أذّن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم. قال: وركب رسول الله وركبنا معه. قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: ((أما لكم فيّ أسوة حسنة؟)) ثم قال: ((أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها)). ثم قال: ((ما ترون الناس صنعوا؟))، قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر: رسول الله بعدكم، لم يكن ليخلّفكم، وقال الناس: إن رسول الله بين أيديكم، فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا، قال: فانتهينا إلى الناس حين اشتد النهار وحمى كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا عطشا، قال: ((لا هلك عليكم))، ثم قال: ((أطلقوا لي غمري))، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله : ((أحسنوا الملأ، كلكم سيروى)). قال: ففعلوا، فجعل رسول الله يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله . قال: ثم صب رسول الله فقال لي: ((اشرب))، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، قال: ((إن ساقي القوم آخرهم)) قال: فشربت، وشرب رسول الله . قال: فأتى الناس جامّين رواء.
وعن البراء بن عازب قال: ((كنا مع النبي أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فترحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي ، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، فمضمض ودعا، ثم صبّه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا)).
وعن أبي هريرة قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال : ((افعلوا)) فجاء عمر فقال: يا رسول الله! إن فعلنا قلّ الظهر، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال : ((نعم))، قال: فدعا بنطع فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجئ بكفّ ذرة، ويجئ الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير.
قال: فدعا رسول الله بالبركة، ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم)).
قال: فأخذوا في أوعيتم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة، فقال رسول الله : ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
لما حُفر الخندق رأيت برسول الله خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله خمصا شديدا، فأخرجت إلي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطّعتها في برمتها، ثم ولّيت إلى رسول الله ، فقالت: لا تفضحني برسول الله ومن معه! فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله! ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك.
فصاح النبي وقال: ((يا أهل الخندق! إن جابرا قد صنع سؤرا، فحيهلا بكم)).(/2)
فقال رسول الله : ((لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينتكم حتى أجئ)) فجئت، وجاء رسول الله يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك، وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا، فبصق وبارك ثم قال: ((ادعو لي خابزة فلتخبز معك، واقدحي، من برمتكم، ولا تنزلوها))، وهم ألف، فأقسم بالله! لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
وعن أبي هريرة قال: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله؟ ما سألته إلا ليستتبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر عمر، فسألته عن آية من كتاب الله؟ ما سألته إلا ليستتبعني فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم ، فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: ((يا أبا هر؟)) قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ((إلحق)). ومضى فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة.
قال: ((أبا هر!)) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((إلحق إلى أهل الصفّة فادعهم لي)).
قال: وأهل الصفّة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا إلى أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُدٌ. فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: ((يا أبا هر!)) قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ((خذ فأعطهم ))، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي ، وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: ((يا أبا هر!))، قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ((بقيت أنا وأنت)). قلت: صدقت يا رسول الله. قال: ((فاقعد فاشرب))، فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)). فشربت، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكا، قال: ((فأرني))، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمّى، وشرب الفضلة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله جاءه رجل يستطعمه فأطمعه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله ففني، فأتى النبي فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم)).
وعنه : أن امرأة كانت تهدي للنبي في عكة لها سمنا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى العكة التي كانت تهدي منها للنبي فتجد فيها سمنا، فما زالت تقيم لها أدم بيتها حتى عصرتها، فأتت النبي فقال: ((عصرتيها؟)) قالت: نعم، قال: ((لو تركتيها ما زال قائما)).
وعن سلمة بن الأكوع قال: ((خرجنا مع رسول الله في غزوة فأصابنا جهد، حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمرنا نبي الله فجمعنا مزاودنا، فبسطنا له نطعا، فجمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحزره كم هو؟ قال: حزرته، فإذا هو كربضة العنز، ونحن أربعة عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعا، ثم حشونا جربنا، فقال نبي الله : ((فهل من وضوء؟))، قال: فجاء رجل بإداوة فيها نطفة، فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة، أربع عشرة مائة، قال: ثم جاء بعد ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله : ((فرغ الوضوء)).(/3)
من نور كتاب الله
إعداد/ علاء خضر
جالس الصالحين واهجر المفسدين !
قال الله تعالى:" واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف: 28].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
دعاء استفتاح الصلاة
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت بين التكبير والقراءة فقلت له بأبي
أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة أخبرني ما تقول؟ قال: اللهم باعد
بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى
الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد. [متفق
عليه]
من دلائل النبوة
بكاء النخلة التي كان يخطب عندها النبي صلى الله عليه وسلم
عن جابر بْن عبد الله رضى الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة،
فقالت امرأةٌ من الأنْصار - أو رجل - يا رسول الله أَلا نجعل لك منبرا؟ قال «
إِن شئْتم ». فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت
النّخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمها إليه تئِنُّ أَنِين الصبي الذي
يسكَّنُ، قال « كانَت تَبكى على ما كانت تسمعُ من الذّكر عندها». [صحيح البخاري]
ملعون مَنْ سب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد الخدري قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم:
«لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم (مكيال لأهل
المدينة) ولا نصيفه ( نصفه )» [متفق عليه] وعن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله
من سب أصحابي».
[صحيح الجامع للألباني]
حكم ومواعظ
عن مطر الوراق قال: خصلتان
إذا كانا في عبد كان سائر عمله تبعاً لهما حسن الصلاة و صدق الحديث.
و عن يحيى
بن أبي كثير قال: رأس التواضع ثلاث، أن ترضى بالدون من شرف المجلس، وأن تبدأ من
لقيته بالسلام، وأن تكره من المدحة والسمعة والريا. [شعب الإيمان]
و قال أبو
سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، و إذا كانت
الدنيا في القلب، لم تزاحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة، و الدنيا لئيمة. [تسلية
أهل المصاب]
من فضل العلم !
ينفع صاحبه عند الموت
عن أبي جعفر، قال: لما حضر أبا زرعة الموت، و عنده أبو حاتم، و محمد بن مسلم، و المنذر بن شاذان، و جماعة
من العلماء، هابوا أن يلقنوه الشهادة، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نذكر الحديث،
فقال محمد بن مسلم: حدثنا الضحاك، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، و لم يجاوز،
و قال أبو حاتم: حدثنا بندار، عن أبي عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، و
لم يجاوز. و الباقون سكوت، فقال أبو زرعة: " ثنا بندار، عن أبي عاصم، عن عبد
الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل ـ
رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل
الجنة» ثم توفي من ساعته رحمة الله عليه. [تسلية أهل المصاب]
الرقية الشرعية
من السنة النبوية
عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد
اشتكيت ؟ فقال: "نعم ". قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو
عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك [صحيح مسلم]
من آثار المعاصي
نزول البلاء
وزوال النعم من عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم وتُحل النقم، فما زالت عن العبد
نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة، وقد قال تعالى: وما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن
كثير وقال تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة
أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. [الجواب
الكافي]
من مصا ئد الشيطان
يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه
فلا يجهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان وقد
أخبرنا الله تعالى عنه بهذا قال: إنما ذلكم الشيطان يخوف
أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [آل
عمران: 175)) المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه قال قتادة: يعظمهم في
صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين، فكلما قوي إيمان العبد
زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.
[إغاثة اللهفان]
من الطب النبوي
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أمثل ما تداويتم
به الحجامة والقسط البحري».
[متفق عليه]
القسط البحري هو: العود الهندي وهو
الأبيض منه، وهو حلوه وفيه منافع عديدة
مخالفات تقع فيها النساء
منها: طلب الطلاق من الزوج من غير بأس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من(/1)
غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة) [أبو داود] - منها نشر ما يدور بين الزوجين
من أحاديث وخلافات وأسرار، خصوصا المتعلقة بالمعاشرة. - منها صيام التطوع دون
إذن الزوج، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، أو
أن تأذن في بيته إلا بإذنه) [البخاري]
من أخلاق السلف
الجود وقضاء الحوائج
عن عبيد بن الوسيم الجمال، قال: أتينا عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله نسأله
في دَيْنٍ على رجل من أصحابنا فأمر بالموائد فنصبت، ثم قال: لا حتى تصيب من
طعامنا فيجب علينا حقكم وذمامكم. قال: فأصبنا من طعامه فأمر لنا بعشرة آلاف
درهم في قضاء دينه وخمسة آلاف درهم نفقة لعياله. [مكارم الأخلاق]
كيف ننصر سنة
المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟
إن نصرة المصطفى تأتى بالتمسك بالسنة ومحاربة البدع وتجنب الأقوال
والاعتقادات الباطلة وإن من الأقوال الباطلة في التوسل غير مشروع قولهم «بحق طه
وآل البيت» أخطأ من ظن أن "طه" اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس اسمًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك اعتقاد أنه يجوز التوسل بحق المخلوقين.فلا يجوز التوسل بحق المخلوقين لأن
الله لا يجب عليه حق لأحد وإنما هو الذي يتفضل سبحانه على خلقه بذلك كما أخبر
سبحانه وتعالى في قوله: وكان حقا علينا نصر المؤمنين
[الروم: 74]، وأن هذا الحق الذي تفضل الله به على عبده هو حق خاص به فإذا توسل
به غير مستحقه كان متوسلا بأمر لا يشمله لا علاقة له به ولا يجديه بشيء
وأما
حديث (وأسألك بحق السائلين عليك) فهو حديث لا يصح. [كتاب التوحيد للفوزان
بتصرف](/2)
من نور كتاب الله
إعداد/ علاء خضر
من نور كتاب الله
زوال الظلم وهلاك الظالمين عبرة للأمم
قال الله تعالى: أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق [غافر: 21]
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
حرمة الذبح عند المقامات والأضرحة
عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم».
[سنن أبى داود]
من دلائل النبوة
الملائكة تقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاركه
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل. [متفق عليه]
من فضائل الصحابة
شهادة علي بن أبى طالب رضي اللَّه عنه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وُضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: يرحمك الله؛ إني لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، ودخلت وأبو بكر وعمر، وخرجت وأبو بكر وعمر. فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [متفق عليه]
حِكَم ومواعظ
عن بشر بن الحارث قال: ما من الناس أحدٌ إلا و هو مبتلى، إما ابتلاء بنعمة لِيُنظر كيف شكره، و إما ببلاء لينظر كيف صبره.
وعن حفص بن حميد قال: إذا عرفت الرجل بالمودة فسيئاته كلها مغفورة، و إذا عرفته بالعداوة فحسناته كلها مردودة عليه.
وعن أحمد بن إسحاق بن منصور قال: سمعت أبي يقول لأحمد بن حنبل: ما حسن الخلق ؟ قال: هو أن تحتمل ما يكون من الناس.
وعن بشرٍ قال: قال الفضيل: لا تخالط إلا حَسَنَ الخلق فإنه لا يأتي إلا بخير، و لا تخالط سيء الخلق فإنه لا يأتي إلا بشر. [شعب الإيمان]
من سير السلف
عن مصعب بن سعد قال: قالت حفصة لعمر رضي الله عنه: لو لبست ثياباً ألين من ثيابك، وأكلت طعاماً أطيب من طعامك، فقال لها عمر: ألم تعلمي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر كذا وكذا فقالت: بلى، فقال: أريد أن أشاركهما في عيشهما الشديد لعلي أشاركهما الرخي. [شعب الإيمان]
من جوامع الدعاء
عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم".[سنن النسائي]
من آثار المعاصي
المعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمطيع ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمفسد والزاني والسارق والقاتل والكاذب وأمثالها، فهذه أسماء الفسوق، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناه عنها، ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل أمر بها.
[بتصرف من الجواب الشافي]
من مكائد الشيطان
الشيطان يشيم (يقدر ويحزر) النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة، فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به، وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده أهمية المأمور به ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة، فيقصر الأول ويتجاوز الثاني كما قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر. [إغاثة اللهفان]
علاج الوجع بالرقية
وعن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر». قال: ففعلت فأذهب الله ما كان بي. [رواه مسلم]
من الطب النبوي
العسل شفاء للبطن(/1)
عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي استطلق بطنه وفي روايه يشتكي بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلاً» فسقاه، ثم جاء فقال: «سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال له ثلاث مرات. ثم جاء الرابعة فقال (أي المصطفى صلى الله عليه وسلم): «اسقه عسلا ً». فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك. فسقاه فبرأ». [متفق عليه]
كيف ننصر المصطفى صلى الله عليه وسلم
إن نصرة المصطفى تأتي بالتمسك بالسنة ومحاربة البدع وتجنب الأقوال والاعتقادات الباطلة، ومن الاعتقادات الباطلة في المصطفي صلى الله عليه وسلم «أن الله خلق الدنيا من أجل محمدٍ صلى الله عليه وسلم» فإنه لا دليل علي ذلك، وقد خلق الله الدنيا قبل خلق محمد صلى الله عليه وسلم بل خلق الخلق كلهم لعبادته قال تعالي: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56]، وخلق الله محمد صلى الله عليه وسلم لعبادته.(/2)
من نور كتاب الله حرمة الأشهر الحرم
إعداد/ علاء خضر
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [التوبة:35].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضاء حوائج المسلمين
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأَن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل». [حسن: صحيح الجامع]
فضل شهر المحرم
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم». [صحيح مسلم]
فضل صيام عاشوراء
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء؟ فقال: «يكفر السنة الماضية». [صحيح مسلم]
سبب صيام عاشوراء
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً. فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فنحن أحق وأولى بموسى منكم». فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصيامه. [صحيح مسلم]
من فضائل الصحابة
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما أنت يا جعفر فأشبهت خَلْقي وخُلُقِي، وأما أنت يا علي فمني وأنا منك، وأما أنت يا زيد فأخونا ومولانا. [مسند أحمد برقم 770]
من دعائه صلى الله عليه وسلم
عن أبي اليَسَر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم والتردي والهدم والغم والحرق والغرق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأن أقتل في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا». [سنن النسائي]
حكم ومواعظ
عن أبي حازم قال: كل نعمة لا تقرب من الله جل و عز فهي بلية.
عن ابن السماك قال:أصبحت الخليقة على ثلاثة أصناف: صنف من الذنب تائب موطّنٌ لنفسه على هجران ذنبه، لا يريد أن يرجع إلى شيء من سيآته هذا المبرِّزُ، وصنف يذنب ثم يندم ويذنب ويحزن ويذنب ويبكي هذا يرجى له ويخاف عليه، وصنف يذنب ولا يندم ويذنب ولا يحزن ويذنب ولا يبكي فهذا الحائد عن طريق الجنة إلى النار.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا تنظروا إلى صلاة أحد و لا إلى صيامه و لكن انظروا إلى من إذا حدَّث صدق و إذا ائتُمن أدى…
وعن أبي العالية قال: أنتم أكثر صياماً و صلاة ممن كان قبلكم و لكن الكذب قد جرى على ألسنتكم. [شعب الإيمان]
علامات التاجر الأمين
عن ذي النون قال: ثلاثة من أعلام الخير في التاجر: ترك الذم إذا اشترى والمدح إذا باع خوفاً من الكذب، وبذل النصيحة للمسلمين حذراً من الخيانة، والوفاء في الوزن إشفاقاً من التطفيف، وثلاثة من أعلام الخير في المكاسب: حفظ اللسان، وصدق الوعد، وإحكام العمل. [شعب الإيمان]
نصائح للنساء
احرصي على عدم تعليق التمائم من الخرز الأزرق أو حدوة الحصان أو الودع أو الكف (خمسة وخميسة) أو قرن الفلفل أو الحذاء القديم أو الأحجبة علي باب المنزل أو داخله أو في السيارة اعتقاداً منك أن ذلك يمنع الحسد فاعلمي أن ذلك من الشرك، أعاذنا الله منه.
من آثار المعاصي
خلو القلب من تعظيم الله عز وجل
لو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه، وربما اغتر المغتر وقال: إنما يحملنى على المعاصى حسن الرجاء وطمعي فى عفوه لا ضعف عظمته في قلبي، وهذا من مغالطة النفس، فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه أو يكبره أو يرجو وقاره ويجله من يهون عليه أمره ونهيه!، هذا من أمحل المحال وأبين الباطل وكفى بالعاصى عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه. [الجواب الكافي]
احذر مصائد الشيطان
إن الشيطان يجلب على القارىء بخيله وَرَجِله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم سبحانه وتعالي فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القارىء به، فأُمر (أي القارئ للقرآن) عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه. [إغاثة اللهفان]
من الطب النبوي(/1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي». [صحيح البخاري]
متناقضات في الحياة
عجيب هذا العصر الذي نعيش فيه، أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفا، يرفع من ذكر أهل الجهل والباطل باسم حرية الفكر و العقيدة، ويحط من قدر العلم والعلماء، فالذي يشكك الناس في السنة ويرد الحديث الصحيح ليس إلا لأنه يخالف عقله أو هواه نراه متصدرا للصحافة والإعلام متحدثا في المنتديات، يقول هذا تنوير! أمَّا المتمسك بالسنة الذاب عنها فلا يفسح له المجال ولا يبرز في المحافل والمناسبات وإن تحدث قالوا: متطرف، رجعي، منغلق. وصدق المصطفي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يَُصدَّق فيها الكاذب ويُكَذَّب فيها الصادق ويُؤَْتمن فيها الخائن ويُخَوَّن فيها الأمين ويَنْطِق فيها الرويبضة». قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». [مسند أحمد]
من بلاغة العرب
عن الأصمعي قال: قيل لأعرابي ما أحسن ثناء الناس عليك؟ قال: بلاء الله عندي أحسن من مدح المادحين و إن أحسنوا، و ذنوبي أكثر من ذم الذامين وإن أكثروا، فيا أسفى فيما فرطت، ويا سوأتي فيما قدمت. [شعب الإيمان(/2)
من نور كتاب الله حرمة الأشهر الحرم
إعداد/ علاء خضر
إ ن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في
كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة
حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم
[التوبة :36]
رجب من الأشهر الحرم
عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
خطب في حجته فقال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض،
السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة
والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. [متفق عليه]
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فضل العالم على العابد
عن الحسن قال: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة ثم
يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم
الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم».
[رواه
الدار مي وحسنه الألباني في المشكاة]
من دلائل النبوة عن يزيد بن أبي عبيد
قال رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟
فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة. فأتيت النبي صلى الله
عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
[رواه البخاري]
من
فضائل الصحابة
وعن ابن عمر قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل
بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا
نفاضل بينهم . وفي رواية لأبي داود قال كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم
حي أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله
عنهم.
[رواه البخاري]
حكم ومواعظ
عن إبراهيم بن بشار الرمادي قال: قلت لسفيان
بن عيينة: أيسرك أن يهدى إليك عيبك؟ قال: أما من صديق فنعم، و أما من موبخ أو
شامت فلا.
عن هشام بن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة: فليكن وجهك بسطاً
وكلمتك طيبة تكن أحب إلى الناس من الذي يعطيهم العطاء.
عن يحيى بن معاذ الرازي
قال: هيبة الناس من المؤمن على قدر هيبته من الله، وحياؤهم منه على قدر حيائه
من الله، وحبهم له على قدر حبه لله عز و جل. [شعب الإيمان]
من جوامع الدعاء
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أصلح لي ديني
الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها
معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر».
[رواه مسلم]
لا عتاب على الصديق!
عن وكيع بن الجراح قال : اعتل سفيان الثوري
فتأخرت عن عيادته، ثم عدته فاعتذرت إليه فقال لي : يا أخي لا تعتذر، فقلَّ من
اعتذر إلا كذب، و اعلم أن الصديق لا يحاسب على شيء، و العدو لا يحسب له شيء.
[شعب الأيمان]
من آثار المعاصي
دنو الشيطان من العاصي وبعد المَلَك عنه
ومن
عقوباتها أنها تباعد عن العبد وليه وأنصح الخلق له وأنفعهم له وهو المَلَكِ
الموكل به، وتدني منه عدوه وأغشّ الخلق له وأعظمهم ضررا له وهو الشيطان، فليس
أحد أنفع للعبد من صحبة المَلَكِ له وهو وليه في يقظته ومنامه وحياته وعند موته
وفي قبره ومؤنسه في وحشته فهو يحارب عنه عدوه ويدافع عنه ويعينه عليه ويعده
بالخير ويبشره به ويحثه على التصديق بالحق، وإذا اشتد قربُ الملَكِ من العبد
تكلم على لسانه وألقى على لسانه القول السديد، وإذا أبعد منه وقرب الشيطان من
العبد تكلم على لسانه قول الزور والفحش.
[الجواب الشافي بتصرف]
من أخلاق السلف كظم الغيظ
عن عبد الرزاق قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء
فتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه
إليها، فقالت الجارية: إن الله عز و جل يقول : «و الكاظمين الغيظ»، فقال لها:
قد كظمت غيظي . قالت : «والعافين عن الناس» فقال لها: قد عفا الله عنك . قالت :
«والله يحب المحسنين» قال اذهبي فأنت حرة. [شعب الإيمان]
من مصائد الشيطان
يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رباط أو زاوية و يقول له : متى خرجت
تبذلت للناس وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم وربما ترى في طريقك منكرا،
وللشيطان في ذلك مقاصد خفية يريدها منه : منها الكبر واحتقار الناس وقيام
الرياسة، فهو يريد أن يُزار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح بمجيء
الأمراء إليه واجتماع الناس عنده وتقبيل يده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يخرج إلى السوق وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه، وكان أبو بكر رضي الله
عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب فيبيع ويشتري.
[إغاثة اللهفان بتصرف]
من الطب النبوي
التحصين بالعجوة ضد السُّمّ والسّحْر
عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تَصَبَّح كل يوم سبع تمرات عجوة، لم يضره في(/1)
ذلك اليوم سم ولا سحر». [صحيح البخاري]
من البدع التي استحدثت في رجب
صلاة الرغائب وهي التي يصلونها في ليلة أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء -
صلاة النصف من رجب، صيام أول أيام من رجب - تخصيصه بالصيام والاعتمار فيه خاصة
ليلة السابع والعشرين ـ الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أساس أنها ليلة الإسراء
والمعراج ـ العتيرة وهي ذبيحة تذبح في رجب . كل هذه من البدع المحدثة التي حذر
منها العلماء و التي لم تثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفيها تعظيم لشهر
رجب وتخصيصه دون غيره من الشهور، والمخصصون له استندوا إلى أحاديث بعضها ضعيف
وكثير منها موضوع.
ولفضل الأشهر الحرم يشرع الاجتهاد في هذه الأشهر من صيام
وصلاة وفعل الخير والكف عن المعاصي والمنكرات.
والأشهر الحرم هي: المحرم، ورجب،
وذو القعدة، وذو الحجة.(/2)
من نور كتاب الله حرمة الأشهر الحرم
إعداد - علاء خضر
قال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم {التوبة ص 35}.
من درر التفاسير
في قوله تعالي" فلا تظلموا فيهن أنفسكم"، قيل: قوله "فيهن" ينصرف إلى جميع شهور السنة، أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة. وقيل: "فيهن" أي: في الأشهر الحرم. قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيما. {تفسير البغوي}
فضل شهر المحرم
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل و أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم. {صحيح مسلم}
فضل صيام عاشوراء
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء؟ فقال: يكفر السنة الماضية. {صحيح مسلم}
سبب صيام عاشوراء؟
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً. فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصيامه. {صحيح مسلم}
من دلائل نبوته #
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. {صحيح البخاري}
من قطوف الحكمة
عن سيار أبي الحكم، قال: الدنيا والآخرة يجتمعان في قلب العبد فأيهما غلب كان الآخر تبعاً له.
قال عبد الله: لا تعجلوا بحمد الناس وبذمهم، فإن الرجل يعجبك اليوم ويسوءك غداً، ويسوءك اليوم ويعجبك غداً
عن مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن وقال له شاب: أعياني قيام الليل. فقال: قيدتك خطاياك.
نور الوجه من سلامة الصدر!
عن زيد بن أبي أسلم قال: دخل على أبي دجانة و هو مريض، و كان وجهه يتهلل. فقيل: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما إحداهما
فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، و أما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليماً. {سنن الدارمي}
من كلمات العرب
في تقسيم الحُسن
الصباحة: في الوجه. البهاء: في الجبين. الوضاءة: في البشرة. الجمال: في الأنف. الحلاوة: في العينين. الملاحة: في الفم. الظرف: في اللسان. اللباقة: في العقل. {فقه اللغة الثعالبي}
تثبت أولا..!
عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره بالعداوة و قطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، و لكن ألقه و قل له: بلغني عنك كذا و كذا و احذر أن تسمي له المُبلغ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق و أبر لا تزيدن على ذلك شيئاً و إن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً لعذر فاقبل منه، و إن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه، و إن لم تر لذلك وجهاً لعذر و ضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار: إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة و إن شئت عفوت عنه و العفو أقرب للتقوى و أبلغ في الكرم لقوله الله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله " فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم أبدر له إحساناً بهذه السيئة، و لا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة فإن ذلك الظلم بعينه يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به فإن اتخاذ الصديق صعب و مفارقته سهل. {صفة الصفوة}
كن لله اقرب وللشيطان ابعد
عن مطرف قال: إني وجدت ابن أدم كالشيء ملقى بين الله تعالى و بين الشيطان، فإن أراد الله أن ينعشه اجتره إليه، و إن أراد به غير ذلك خَلَّى بينه و بين عدوه. {صفة الصفوة}
من فضائل الصحابة
عن أنس بن مالك: أن أبا بكر الصديق حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: "يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
{صحيح مسلم}
من درر العلماء
قال الآجري: من أراد الله عز وجل به خيراً لزم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم في كل عصر، وتعلم العلم لنفسه، لينتفي عنه الجهل، وكان مراده أن يتعلمه لله عز وجل، ولم يكن مراده، أن يتعلمه للمراء والجدال والخصومات، ولا لدنيا.
ومن كان هذا مراده سلم إن شاء الله تعالى من الأهواء والبدع والضلالة، واتبع ما كان عليه من تقدم من أئمة المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وسأل الله تعالى أن يوفقه لذلك.(/1)
فإن قال قائل: وإن كان رجل قد علمه الله عز وجل علماً، فجاءه رجل يسأله عن مسألة في الدين، ينازعه ويخاصمه، ترى له أن يناظره حتى تثبت عليه الحجة، ويرد على قوله؟
قيل له: هذا الذي نهينا عنه، وهو الذي حذرناه من تقدم من أئمة المسلمين.
فإن قال قائل: فماذا نصنع؟.
قيل له: إن كان الذي يسألك مسألته، مسألة مسترشد إلى طريق الحق لا مناظرة، فأرشده بأرشد ما يكون من البيان بالعلم من الكتاب والسنة، وقول الصحابة، وقول أئمة المسلمين. وإن كان يريد مناظرتك ومجادلتك، فهذا الذي كره لك العلماء، فلا تناظره، واحذره على دينك، كما قال من تقدم من أنمة المسلمين إن كنت لهم متبعاً.
فإن قال: ندعهم يتكلمون بالباطل، ونسكت عنهم؟
قيل له: سكوتك عنهم وهجرتك لما تكلموا به أشد عليهم من مناظرتك لهم، كذا قال من تقدم من السلف الصالح من علماء المسلمين. {الشريعة}(/2)
من نور كتاب الله عيسى عبد الله ورسوله
إعداد/ علاء خضر
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ü لقد جئتم شيئا إدا ü تكاد
السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
هدا ü أن دعوا للرحمن ولدا ü وما ينبغي للرحمن
أن يتخذ ولدا ü إن كل من في السموات والأرض إلا
آتي الرحمن عبدا ü لقد أحصاهم وعدهم عدا ü
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [مريم:88-95]
من هدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم
ذكره لله سبحانه وتعالى
عن جويرية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من
عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة،
فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ
قُلْتُُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِما
قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنَتهُنَّ؛ سُبحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ
خَلْقِهِ، وَرَضِا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ». [سنن
الترمذي]
من فضائل الصحابة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ
أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى يَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنهم كَما
تَرَوْنَ الكَوْكَبَ الطَّالِعَ في أُفُقِ السَّماءِ، وإنَّ أبا بكرٍ وعمرَ
منهمْ وأنعِمَا». [مسند أحمد]
من أقوال السلف
«في أن الله في السماء على عرشه
بائن من خلقه»
قال البخاري في تاريخه: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض
رسول صلى الله عليه وسلم الله دخل أبو بكر رضي الله عنه عليه أي (على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فأكب عليه
وقبل جبهته، وقال: بأبي أنت وأمي، طبتَ حيًا وميتًا.
وقال: من كان يعبد محمدًا
فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت.
وقال
ابن أبي خيثمة في تاريخه: عن سليمان التيمي قال: لو سئلت: «أين الله» ؟ لقلت:
في السماء.
وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى الأوزاعي، قال: كنا والتابعون
متوافرون نقول: إن الله تعالى جل ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت السنة به من
صفاته.
حِكَم ومواعظ
عن سفيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قال: قيل للزهري: ما الزهد ؟
قال: من لم يغلب الحرامُ صبرَه، ولم يمنع الحلالُ شكرهَ. قال أبو سعيد: معناه
الصبر عن الحرام والشكر على الحلال. قال: والشكر على الحلال؛ الاعتراف لله به
واستعمال النعمة في الطاعة.
و عن الحسن قال: المؤمن في الدنيا كالغريب؛ لا
ينافِس في عزها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال , الناس منه في راحة؛
ونفسه منه في شغل.
وعن ابن المبارك قال: اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت
فارغاً مستريحًا، و إذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعل مكانه تسبيحًا، فاغتنام
السكوت أفضل من خوضٍ وإن كنت في الحديث فصيحاً. [شعب الإيمان]
من دعائه صلى الله عليه وسلم
عن
عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاته: اللهم إني أعوذ بك من
عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات،
اللهم اني أعوذ بك من المأثم والمغرم، وهو ( الدَّيْنُ )، فقال له قائل: ما
أكثر ما تستعيذ من المغرم؛ فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف. [سنن
أبى داود]
من عظمة الإسلام
عن ميمون بن مِهران قال: ثلاثةٌ المسلم والكافر فيهن
سواء؛ من عاهدته وَفِّ بعهده مسلمًا كان أو كافرًا فإنما العهد لله عز و جل.
ومن كانت بينك و بينه رحم فصِلْها مسلماً كان أو كافراً. و من ائتمنك على أمانة
فَأَدِّها إليه مسلماً كان أو كافراً. [شعب الإيمان]
من أخلاق السلف الصدق
عن
زياد بن الربيع اليحمدي، عن أبيه قال: رأيت محمد بن واسع يبيع حماراً له بسوق
مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الله؛ أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه. [شعب
الإيمان]
مخالفات تقع فيها النساء
تجاوز مدة الحداد على الميت أكثر من ثلاث
ليال ما لم يكن المتوفى هو زوجها، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا»
[متفق عليه]
من آثار المعصية
ومن عقوبتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله
والدار الآخرة، أو تعوقه وتوقفه وتقطعه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة،
هذا إن لم تردَّه عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس
الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة
التي تسيره، فإن زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعًا يبعد تداركه. [الجواب
الكافي]
من مصائد الشيطان
ومن كيده للإنسان: أنه يورده الموارد التي يخيل إليه
أن فيها منفعته، ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويُسلمه، ويقف
يشمت به ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنا والقتل ويدل عليه ويفضحه، قال تعالى:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم
اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان(/1)
نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا
ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب [الأنفال: 48]
(إغاثة اللهفان)
من الطب النبوي
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «عليكم بالحبة السوداء فإن فيها شفاءً من كل داء إلا السام»، قال ابن
شهاب: السام: الموت. [متفق عليه] الحبة السوداء: هي الشونيز بلغة فارس، وهى
الكمون الأسود في السودان، وتسمى الكمون الهندي. وتعرف في مصر وبلاد الشام باسم
حبة البركة، أو الحبة السوداء.
من معاني الأحاديث
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه
الترمذي: «…والإثم ما حاك في نفسك»، أي: أثّر فيها ورَسخ. يقال: ما يَحِيك
كلامك في فلان، أي: ما يؤثر. [النهاية في غريب الحديث بتصرف]
كيف ننصر المصطفى
صلى الله عليه وسلم
نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست بالخطب الحماسية ولا بالمظاهرات الحاشدة، بل بالاقتداء به
صلى الله عليه وسلم والامتثال لأمره ونهيه وإن من السنة النبوية للنبي صلى الله عليه وسلم تحذيره صلى الله عليه وسلم من اتخاذ
القبور مساجد كما روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري
وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وإن من اتخذوا
القبور مساجد فقد خالفوا صريح نهي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله أسوة حسنة.(/2)
من نور كتاب الله
إعداد/ علاء خضر
الحج مع القدرة والاستطاعة
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [آل عمران:96-97].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فضل الحج
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ».
[سنن الترمذي]
من درر التفاسير
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [البقرة:197].
«فلا رفث» قال ابن عباس و مجاهد و مالك: الرفث الجماع، وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدي. "ولا فسوق" يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس و عطاء والحسن. وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج، قلت:الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه ولا بعده. "و لاجدال " قال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم. ويقول الآخر مثل ذلك.وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء، والله أعلم.
[تفسير ابن كثير بتصرف]
صفة تلبية الحجيج
عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". وكان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك والرغباء إليك والعمل.
[صحيح مسلم]
التجارة في الحج!
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج فخافوا البيع وهم حُرُم فأنزل الله سبحانه: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم أي في مواسم الحج. [سنن أبي داود]
الحج عن الغير
عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن أي (السفر) قال: «حج عن أبيك واعتمر». [جامع الترمذي]
من أحكام الحج للنساء
قالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسَرَف أو قريبًا من سَرَف حضتُّ، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: «ما لك أنفست؟» (وهو الحيض) قلت: نعم، قال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي المناسك كلها غير أن لا تطوفي بالبيت». [سنن ابن ماجة]
الحج عرفة
عن عبد الرحمن بن يعمر. قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفات، الحج عرفات، الحج عرفات. أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، ومن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج».
[الترمذي]
البيت الحرام أول المساجد
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام» قال: قلت: ثم أي؟ قال: «ثم المسجد الأقصى». قال: قلت كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، فأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد». [البخاري]
حرمة مكة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد أي (لايقطع) شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه أي (لايقطع نباتها) قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر (وهو نبات معروف طيب الرائحة). [النسائي]
دعاء يوم عرفة!
عن طلحة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا و النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له». [الترمذي]
فضل العشر من ذي الحجة
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه». قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء». [البخاري]
من أراد الذبح..!
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة و أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره و أظفاره.
[صحيح مسلم]
فضل صيام يوم عرفة !
عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية و مستقبلة».
[صحيح مسلم]
التحذير من بيع جلد الأضحية
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع جلد أضحيته فلا أضحية له». [مستدرك الحاكم]
من آداب الطواف(/1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير». [الترمذي]
من سنن العيد!
عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يخرج إلى العيدين ماشيًا ويصلي بغير أذان ولا إقامة ثم يرجع ماشيا في طريق آخر. [صحيح الجامع]
التكبير في جميع الأحوال!
كان عمر رضي الله عنه يكبر في قُبتَّه بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج تكبيرًا. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جميعًا. وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان و عمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد. [صحيح البخاري](/2)
من نور كتاب اللَّه الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
إعداد/ علاء خضر
قال اللَّه عز وجل: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [الأعراف: 156، 157].
أخلاقه صلى الله عليه وسلم
عن سعد بن هشام أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين أخبريني عن خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألست تقرأ القرآن ؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان القرآن. [صحيح مسلم]
صفته صلى الله عليه وسلم
عن البراء قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسنه خلقا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير» [صحيح البخاري]
وعن أنس بن مالك قال: ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا شيئًا ألين من كف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من ريح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. [صحيح البخاري]
جهاده صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن سعد رضي اللَّه عنه أنه سئل عن جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة _ رضي اللَّه عنها بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تغسله وعليُّ يسكب الماء بالمجنَّ. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم. وكُسرت رباعيته يومئذ، وجُرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه. [صحيح البخاري]
شجاعته صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس, أجود الناس. ولقد فزع أهل المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم سبقهم على فرس، وقال: «وجدناه بحرا».
[صحيح البخاري]
خاتم النبوة
عن ابن السائب قال: ذهبت بي خالتي إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه ! إن ابن أختي وَجِع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلي خاتمه بين كتفيه، مثل زر الحجلة.
[صحيح البخاري]
أسماؤه صلى الله عليه وسلم
عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، الذي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر الناس علي قدمي، وأنا العاقب، الذي ليس بعدى نبي.
[صحيح البخاري]
حب الصحابة له صلى الله عليه وسلم
سئل علي بن أبى طالب رضي اللَّه عنه كيف كان حبكم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. [الشفا
للقاضي عياض]
جزاء من نال منه صلى الله عليه وسلم
عن المهاجر بن أبي أمية، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها - أن امرأتين مغنيتين غنت إحداهما بشتم النبى صلى الله عليه وسلم فقطع يدها، ونزع ثنيتها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها، ونزع ثنيتها، فكتب أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمَّرت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر. [الصارم المسلول]
علامة محبته صلى الله عليه وسلم
قال القاضي عياض: اعلم أن من أحب شيء آثره وآثر موافقته و إلا لم يكن صادقاً في حبه وكان مدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه وأولها: الإقتداء به واستعمال سنته وإتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31] وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه وموافقة شهواته. [الشفا للقاضي عياض]
تعظيم سنته صلى الله عليه وسلم
عن المقدام بن معدي كرب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما حرم اللَّه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا أكل ذي ناب من السبع. الحديث. [رواه أبو داود]
ذم من لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم(/1)
عن أبى هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذُكرتُ عنده فلم يصل عليَّ، ورغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة». [رواه البخاري]
توقير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته
قال القاضى عياض: واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته.
[الشفا القاضى عياض]
حب الصحابة دليل لحب النبي صلى الله عليه وسلم
عن أيوب السختاني قال: من أحب ابا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور اللَّه، ومن أحب علي فقد أخذ بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق، ومن انتقص أحدًا منهم فهو مبتدع مخالف للسنة.
[الشفا: القاضى عياض]
من درر العلماء هذا هو المنهج!
قال ابن تيمية: في قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون قال وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول لله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون اللَّه ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذى اللَّه ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. [الصارم المسلول ص 413/2]
دعوة الأمة إلى نبذ الفرقة
إن الغضب العارم الذي اجتاح العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها علي الذين استهزءوا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم يجعلنا نتساءل: أين نحن من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لقد تفرقت الأمة إلى فرق وجماعات، كل حزب بما لديهم فرحون، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من الفرقة، كما أخرج ابن ماجه: عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار».
قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: «الجماعة». فإن التوحد الذي حدث للأمة الإسلامية أمام أعدائها دفاعًا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يجعلنا ندعو جميع المسلمين في جميع البلدان الإسلامية إلي نبذ الفرقة والخلافات، والاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم، وأن نلتف حول العلماء الرافعين لواء التوحيد والسنة.(/2)
( من هم أولياء الله؟ )
عناصر الموضوع :
1. تعريف بأولياء الله
2. أولياء الله على قسمين
3. وجوب محبة أولياء الله
4. طريقة تحبيب الله إلى الناس
5. كثرة قراءة القرآن
6. مقتضيات ولاية الله
7. من ثمرات الولاية تسديد الله لوليه
8. ولاية الله لها جانبان
9. البشرى لأولياء الله
10. وقفة مع كرامات الأولياء
11. الأسئلة
من هم أولياء الله؟
تجد في هذا الدرس تعريفاً بأولياء الله، مع ذكر بعض صفاتهم، فولاية الله لها مقتضيات وثمرات. كما تحدث الشيخ عن الكرامات التي تحدث لأولياء الله سواء في الكتاب والسنة، أو من واقعنا المعاش، كما بين الفرق بين الكرامة التي تحدث لولي الله وبين الخوارق التي تحدث للسحرة والمشعوذين، وذَكَرَ الضابط في ذلك.
تعريف بأولياء الله:
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الله جل وعلا في تعريف أوليائه: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] وقد ورد حديث عظيم القدر، شريف المنزلة، قال العلماء: إنه أجل حديث في الأولياء، قالوا: إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء وهو حديث رواه الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري رحمه الله تعالى. وفي رواية: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته). هذا الحديث العظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ومعنى: (آذنته بالحرب) أي: أعلنت أني محارب له؛ لأنه يحارب أوليائي فأنا أحاربه، وأنا خصمه، وويل لمن كان الله تعالى خصمه، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة، والله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا؛ لهوانهم على الناس، ولم يعرفوا؛ لأنهم ليسوا بأصحاب سمعة ولا شهرة، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة أنقياء أتقياء؛ لأن قلوبهم منيرة بذكر الله تعالى، فإذا دخلوا في الفتن خرجوا منها أحسن من الذهب الأحمر. أرأيت الخام إذا أريد استخلاص الذهب منه، فإنه يدخل في الفرن ويحمى عليه، وينفخ لتتطاير هذه الشوائب وما غطاه من الخلائف، ثم يصبح ذهباً أحمر نقياً لا شيء فيه، فكذلك أولياء الله، إذا فتنوا خرجوا من الفتنة وهم أقوياء أنقياء، فأولياء الله عز وجل تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، كما أنه يجب معاداة أعداء الله وتحرم موالاة أعداء الله، فكذلك تجب موالاة أولياء الله. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] .. وقال عز وجل: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56] فهم الغالبون باللسان والبيان والحجة، وهم الغالبون بالسيف والسنان ولو بعد حين، والله تعالى وصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه، بأنهم أذلة على المؤمنين، إذا قال قائلهم أولياء الله، نقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. من هم أولياء الله؟ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]. من هم أولياء الله؟ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] هؤلاء أولياء الله تعالى، هؤلاء الذين من أهانهم أو أخافهم فقد بارز الله بالمحاربة، وبدأه بالمحاربة، وعرض نفسه لسخط الرب وانتقامه، والله أسرع شيء إلى نصرة أوليائه، أفيظن الذي يحارب الله أن يقوم له ويقاومه؟ أويظن الذي يحارب أولياء الله أن يعجز الله تعالى؟ أويظن الذي يبارز الله أن يفلته ويفوته؟!! كيف والله يثأر له في الدنيا والآخرة، ولذلك لا يكل الله نصرة أوليائه إلى غيره، بل هو الذي ينصرهم عز وجل.
معاداة أولياء الله محاربة لله:(/1)
لنعلم -أيها الإخوة- أن جميع المعاصي محاربة لله تعالى، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [ابن آدم! هل بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب أقبح كان أشد محاربة لله] ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله ولرسوله؛ لعظيم ظلمهم للعباد، وسعيهم بالفساد في البلاد. وكذلك معاداة أولياء الله تعالى، قيل: إن آكل الربا يعطى يوم القيامة سيفاً أو رمحاً ويقال له: حارب ودافع، والله تعالى يحاربه، فكيف وأنّى تكون له الغلبة؟! ولذلك قال الله في أكلة الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] فإن لم تتركوا أكل الربا. فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] حرب الله عليهم ما يصيبهم به من الآفات وأنواع الانتقام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) أي: يصبح في النهاية قليلاً منزوع البركة، تذهب الأموال من حيث لا يدري صاحبها، وآكل الربا لا يبارك له في ماله، فسرعان ما يذهب ويضمحل، والحرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بما يقام عليه من التعزير والتنكيل، ومن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأهل الصلاح من الحكام الذين يحاربون أكلة الربا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]. والذي يعادي الله تعالى يحاربه الله أيضاً، ولذلك فإن أشد الناس محاربة من الله هم الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم رأس الأولياء، هم قمة الأولياء، فهم أشد خلق الله بعد الأنبياء ولاءً لله تعالى، والله تعالى يحبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يؤذي أصحابه: (أن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وقال عليه الصلاة والسلام: (الله الله في أصحابي) حذرنا من الوقوع فيهم، وقال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) لا تتكلموا فيهم، لا تتخذوهم غرضاً، من يؤذيهم يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يؤذيهم يوشك أن يأخذه الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولذلك فإن من أعظم الناس جرماً الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ارتدوا، ويقولون: إنهم سفكوا الدماء بالباطل، وإنهم غصبوا علياً حقه، وإنهم كفروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم ظلمة وفسقة، ونحو ذلك من الألفاظ البذيئة، والشتائم العجيبة التي يلحقونها بالصحابة، فلا شك أن الذي يسب الصحابة أول واحد ينطبق عليه هذا الحديث وهو قوله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ولذلك ترى الذين يحاربون الصحابة يحاربهم الله في الدنيا بأن يوقع بأسهم بينهم، وأن يجعل أمورهم فتنة واختلاطاً، وأن يجعل فيهم القتل والحرب، فلا يزال أمرهم في اضطراب ونظمهم في اختلال، وأمرهم إلى زوال، فلا تقوم لهم قائمة، ولذلك لا يستقر لهم حال أبداً؛ لأنهم سبوا أولياء الله تعالى، وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) لما ذكر الله تعالى أن معاداة أوليائه هي معاداة ومحاربة له، ذكر صفات هؤلاء الأولياء الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم، والموالاة هي النصرة والقرب، الولاية هي النصرة والقيام بالحق والدفاع والذب.
أولياء الله على قسمين:
أولياء الله عز وجل على قسمين: منهم من تقرب إليه بأداء الفرائض، وهذا يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات، ومنهم من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، فلذلك ارتقى منزلة أخرى بعد منزلته الأولى بأداء الفرائض، ثم صار في هذه المنزلة العظيمة، فإذاً هم على درجتين.
أصحاب اليمين:(/2)
الأولى: المتقربون إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، ولا شك أن أداء الفرائض أفضل الأعمال عند الله كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أفضل الأعمال أداء ما افترضه الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل]. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم، وذلك لأن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته]. ولا شك أن هذه الفرائض أنواع، فمنها بدني كالصلاة: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، (إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت). وكذلك عدل الراعي في الرعية، سواء كانت رعية عامة أو خاصة، ومنها الرعية الخاصة: عدل آحاد الناس في أهله وولده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) والعدل بين الأولاد، وكان السلف يحرصون عليه حتى في القُبَل، إذا قبل هذا الولد يقبل الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى) فأيدي البشر تتفاوت بالقوة والعطاء، وتجد أن كثيراً من الناس يمينهم أقوى من شمالهم، وبعضهم شماله أقوى من يمينه، ويعطي بيمينه، والله تعالى كلتا يديه في القوة سواء، وهما سواء في العطاء، والخير كله في يديه، سحاء الليل والنهار؛ والسحاء هو المهطال الذي يهطل ويتواصل في النزول والانصباب، يعطي سبحانه وتعالى، يعطي والخير في يديه، ومنذ أن خلق السموات والأرض وهو ينفق على عباده، منذ أن خلق العباد ينفق عليهم، ومع ذلك لم ينفذ مما عنده شيء، لأن خزائن السموات والأرض بيديه، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له: كن، فيكون، هؤلاء المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم بين أهليهم وما ولوا من أنواع الولايات؛ سواء كان في وظيفة، أو كان في أسرة، أو كان في تجارة، فإنه إذا تولى ولاية صار هناك أناس تحته يعدل بينهم، فاتصف بصفة من صفات أولياء الله تعالى.
السابقون المقربون:
والدرجة الثانية من أولياء الله: وهي درجة السابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات والالتفات عن دقائق المكروهات من خلال الورع الذي يحجبهم عن الشبهات، ولا يظنن الظان أن القيام بالواجبات والامتناع عن المحرمات أمر سهل، فمن هو الذي يفعل هذا الآن؟ من الذي لا يرتكب محرماً من المحرمات؟ ولذلك فإنه لا يمكن الوصول إلى رتبة الأولياء إلا بالإكثار من التوبة، بحيث لو أن الإنسان عمل معصية يسرع إلى التوبة منها، وهذا أمر في غاية الأهمية.
وجوب محبة أولياء الله:(/3)
ثم إن من صفاتهم كما تقدم: أنهم أذلة للمؤمنين، يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكفرة بالغلظة والشدة والعزة؛ وذلك لأن أولئك المؤمنين يحبون الله، فهم يحبونهم لأجله، لا يحبون الشخص لشخصه، ولا لشكله، وإنما يحبونه لأجل محبته لله، ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قاعدة مهمة في الجمال في كتاب الاستقامة ، لعلنا سنأتي إلى تفصيلها إن شاء الله، قال ما معناه: لو أن الشخص يحب لجماله لكان يوسف أفضل من كل الأنبياء، ولكن لا يحب الشخص لشكله ولا لجماله ولا لماله، ولكن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فمن صفات هؤلاء الأولياء الذين يدافع الله عنهم، وينصرهم وينتصر لهم، من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. ولذلك فإن هؤلاء لا يغلظون للمؤمنين، ومن الصفات السيئة أن تجد الشخص يقع في أهل الإيمان والتوحيد، ويقع في أعراض الدعاة إلى الله، يقع في أعراض أهل العلم؛ يسب ويشتم، ويرمي بأنواع السباب والمعايب أهلَ التوحيد والدين، والذين قاموا بواجب الدعوة والأمر والنهي، فهذا لا يمكن أن يكون من أولياء الله بحال، بل سرعان ما يخبو أمره وينطفئ، ويحدث انتقام الله منه، ويرى ذلك بأم العين في الدنيا قبل الآخرة. والمتأمل في الواقع يعرف أن هذا أمر حاصل؛ لأن سنة الله تعالى في الحياة ماضية، وقد تكفل الله بالدفاع عن أوليائه، ولذلك فإنك لا تكاد ترى من يقع في أهل الإيمان والدين ونصرة الشريعة إلا والله منتقم منه ولو بعد حين. قال الله عز وجل في صفات الأولياء: وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] ما داموا قد أحبوا حبيبهم وهو الله عز وجل فلا يخافون في سبيله شيئاً، فيعملون بمرضاته، رضي من رضي وسخط من سخط، ولذلك فمن الأمور المهمة أن الإنسان يحب أولياء الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني ربي عز وجل -في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك) هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله و الترمذي وقال: حسن صحيح. وقال: سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح. إذاً إذا كان الإنسان عنده إيمان ويقين ودين، ويريد أن يتصف بصفات الولاية، فعليه أن يسأل الله محبة أوليائه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك) لأن هناك أناساً محبتهم تضر عند الله، وأناساً محبتهم تنفع عند الله، ولذلك يقول: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب -الإنسان يحب المال، يحب الزوجة، يحب الشهوات- اللهم ما زويت عني مما أحب -ما حرمتني من النعم- فاجعله فراغاً لي فيما تحب) وهذا الحديث رواه ابن المبارك رحمه الله في كتابه الزهد ، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي رحمه الله تعالى. وهذه الدرجة التي ليس لأصحابها همٌّ إلا ما يقربهم من محبوبات الله تعالى، ومن الأشخاص الذين يحبهم الله عز وجل، قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور. وهذه عبارة بالغة بليغة، (العمل على المخافة) إذا عملت من أجل الخوف فقط، فقد يعتريك الفتور إذا حصل لك رجاء، فالإنسان الذي يعمل فقط خوفاً من العذاب، هذا إذا جاء يوم من الأيام وتأمل فحصل له شيء من الرجاء أو مر به شيء مما فيه ذكر رجاء الله تعالى وثوابه؛ حصل له شيء من الفتور؛ لأن الدافع للعمل هو الخوف، فإذا حصل شيء من الرجاء خفّ للخوف فإذا كان الدافع للعمل هو الخوف الذي قد خف خفَّ العمل أيضاً لكن إذا كان الدافع للعمل هو محبة الله، فأي شيء يخففها؟ لا شيء، ولذلك كان الدافع للعمل إذا صار فيه محبة أقوى منه إذا صار من الخوف، ولذلك المحبة هي الرأس والخوف والرجاء الجناحان، وإذا قطع الرأس لا يطير الطائر أصلاً ولا يمشي ولا يتحرك. من الناس من يعبد الله خوفاً، ومن الناس من يعبد الله رجاءً، ومن الناس من يعبد الله محبة، والمؤمن ينبغي أن تجتمع فيه هذه الثلاثة بدون أن ينتفي شيء منها، لو انتفى شيء منها معنى ذلك أنه قد وقع في خطر عظيم، فإذا صار الدافع للعمل محبة الله، فلا تخف، فيستمر العمل، إذا كان الدافع هو الخوف، يمكن أن يخف إذا عرض عارض رجاء في الفكر أو السماع، أو قراءة شيء مما فيه سعة الرحمة والتوبة، حصل للخوف نقص، ففتر العمل. وكذلك قال بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك. فالبطالون الذين يسعون في الدنيا بالبطالة يسأمون ولا بد، فإما أن يحصل عندهم شيء من الملل من كثرة ما يفعلونه ومن تشابه ما يفعلونه؛ لأن هذه الأشياء التي في الدنيا من الملهيات والألعاب والنعيم، لا بد فيها من آفات، فالأكل إذا أكثر منه مرض، والشهوة إذا أكثر الوقوع فيها مرض واضمحلت قوته، وهذه الألعاب(/4)
الموجودة لو أكثر منها لأصابه الملل، ولكن مناجاة الله تعالى وذكره لا يحصل فيها ذلك إذا كانت موافقةً للسنة، ومن ذلك قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى). ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل؛ يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه، وهذه الصفة مهمة جداً؛ أعني تحبيب الله إلى الخلق.
طريقة تحبيب الله إلى الناس:
ليست المسألة فقط أن الإنسان يحب الله، وإنما أيضاً إتقان الصنعة وإتقان العبادة وإتقان الولاية أن يحبب الله إلى الخلق، قد يسهل على الإنسان أن يحب الله، فإذا تأمل في نعم الله أحب الله، لكن أن يحبب الله إلى الخلق فهذه مسألة لا يقوم بها إلا الدعاة إلى الله، وليس كل الدعاة إلى الله، بعض الدعاة إلى الله ينجحون في تحبيب الرب إلى الخلق، ولذلك فالداعية إلى الله عز وجل يمارس هذه الوظيفة فيعمل جاهداً لأجل تحبيب الله إلى خلقه، فإذا أوصلتهم إلى محبة الخالق فاتركهم وهم سيكملون الطريق، فإذاً التحبيب إلى الخلق بالمشي بالنصائح بين العباد، كما قال بعض السلف: يحببونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه. وقبل ذلك فهم في تعب ووصب في مرضاة الله، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]. وكيف نحبب الناس إلى الله؟ بأشياء كثيرة: منها: شرح أسمائه وصفاته وربط ذلك بالواقع. ومنها: تعداد نعم الله تعالى وذكر آلائه، فإن الناس قد جبلوا على محبة من أحسن إليهم، وذلك إذا توالت النعم وتفطن الإنسان لها. إن النعم متوالية لكن التفطن للنعم هو الذي يغيب عن البال، فإذا تفطن الإنسان أن نعم الله عليه متوالية فإنه يحبه، أرأيت لو أن شخصاً أعطاك اليوم مائة، وأعطاك غداً ألفاً، وأعطاك بعده عشرة آلاف، وأعطاك بعده مائة ألف، وأعطاك بعده سيارة، وأعطاك بعده بيتاً، وأعطاك وظيفة، أي شعور يكون له في قلبك وقد ازداد إحسانه معروفه إليك، ولا تزال أياديه متوالية في مصلحتك؟ لا شك أن محبته تعظم، إن الناس إذا أحسن إليهم ولو بشربة ماء أحبوا من أحسن إليهم، فكيف إذا تفطن العبد لنعم الله المتوالية؟ الصحة نعمة متوالية حتى يمرض، المال نعمة متوالية حتى يفتقر، الشباب نعمة متوالية حتى يشيخ ويهرم، وهكذا نعمه متوالية، وحتى لو حرم من نعمة فإنها تأتي بدلها نعمة أخرى، فلو حرم من نعمة الصحة فإن نعمة الابتلاء في تكفير السيئات ورفع الدرجات حاصلة، ولذلك فالعبد لا يزال يتقلب في أطباق نعمة الرب عليه ولكن قليل هم المتفطنون لذلك. المحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين؛ لأن غاية مناه أن يجد لذة العبادة، غاية ما يرجو أن يحس بحلاوة الاتصال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بالصلاة يا بلال) وقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) قرة العين وراحة البال وهدوء النفس جعلت في الصلاة، لأنها كانت صلة بينه وبين ربه صلى الله عليه وسلم، فكان يقوم ويناجيه، وكلما أحس العبد باللذة ازداد في العبادة وازداد في القيام، وازداد في الركوع والسجود وازداد في الصيام، وهكذا. وقال بعض السلف: لا يكاد يمل القرب إلى الله تعالى محب لله عز وجل، ولا يكاد يسأم من ذلك. وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دوماً دوما وشوقاً شوقاً.
كثرة قراءة القرآن:(/5)
ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى، لمن يريد الوصول إلى مرتبة الولاية: كثرة تلاوة كلامه، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، قال خباب رضي الله عنه لرجل: [تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لم تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه] ألا ترى أن الرجل إذا وصله خطاب ممن يحبه حباً جماً قرأه مرات كثيرة، واحتفظ به، ولا يزال يخرجه بين آونة وأخرى يقرأ فيه لأنه كلام الحبيب، ولذلك فهو إليه باشتياق مستمر، فكيف بكلام الرب إذا كان الإنسان محباً له؟! فإنه لا يزال يقرأ كلام الرب، ويتصفحه ويطالع فيه، ويسمعه ويعرف معناه، وهكذا يبقى القرآن هو لذة قلوب العارفين، وهو محرك ألسنتهم بالتلاوة، ولذلك كان بعض السلف ينعى على من لم يحفظ القرآن، ويقول لصاحب له: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. فقال: واغوثاه بالله، مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟! أي: الذي يريد الله تعالى لا يحفظ كلامه فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه عز وجل؟ وإذا واطأ اللسان القلب كان ذلك أفضل الأعمال؛ لأن موافقة اللسان للقلب هي حقيقة التدبر والتفكر، قال الله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6] قيل: أشد مواطأة من القلب للسان. وإذا ذكر العبد الله تعالى ولو بغير القرآن، فإنه أيضاً مما يوصله ذلك إلى الولاية، لذلك يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) وقال الله عز وجل أيضاً: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد ، وصححه ابن حبان و الحاكم ووافقه الذهبي ، هذا معنى قوله الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
مقتضيات ولاية الله:
أيها الإخوة! ولاية الله هي المنزلة العظيمة التي يدافع الله عن أصحابها، ولا شك أن لها مقتضيات، فمن مقتضيات الولاية كما قلنا: محبة الله ومحبة أوليائه، والذي يعاديهم ليس من أولياء الله قطعاً، وقد قال بعض السلف: إن الذين يتحابون في الله تعالى يجتمعون على غير أرحام بينهم، ولا على أموال يتعاطونها فيما بينهم، وإنما يجتمعون على طاعة الله، ولذلك ربما يلتقي الواحد بالآخر بمكان في الحرم عند الكعبة أو في المسجد أو في غيره، يحس بانجذاب خاص لهذا الشخص؛ ذلك لأن الصلة بالله تقرب بينهم، ولذلك سرعان ما يتداخلون، والأرواح جنود مجندة، وتجد الشخص إذا أراد أن يتداخل مع آخر ربما يحتاج إلى وقت طويل، من حصول سلام وكلام وموعد ولقاء واستئناس ودعوة على طعام ومشاركة وسفر حتى تحصل الخلطة المؤدية إلى المحبة، أما إذا كان من أولياء الله بمجرد أن يرى الواحد الآخر ما هي إلا كلمات ومجالسة حتى يحس أنه صاحب له منذ زمن بعيد، وهؤلاء لا شك أنهم يكونون يوم القيامة في مجالس عن يمين الرحمن يغبطهم من يغبطهم بقربهم من الرب عز وجل.
من ثمرات الولاية تسديد الله لوليه:
ومن ثمرات الولاية: أن الله عز وجل يسدد الولي للحق والصواب، وهذا معنى قوله في الحديث: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) لا شك أنه إذا وصل إلى هذه المرتبة فإن الله تعالى يسدده في جميع حواسه، فلا ينظر إلا إلى ما يحب الله، ولا يستمع إلا إلى ما يحب الله، ولا يمشي إلا إلى ما يحب الله، من جلسة ذكر، أو حلقة علم، أو مكان وعظ، أو صلة رحم، أو حج أو عمرة، ونحو ذلك من أنواع المماشي التي هي في طاعة الله عز وجل، وكذلك لا يبطش إلا في مرضاة الله؛ من جهاد، أو إزالة منكر، أو نصرة مظلوم ونحو ذلك، وكذلك يستمع إلى ما يحب الله؛ من كتابه وذكره، وسنة رسوله، وعلم شريعته ونحو ذلك، والنظر في المصحف من العبادات، وكذلك النظر في الأمانات لتمييزها لأصحابها، والنظر في كتب العلم والفقه ونحو ذلك من أنواع النظر الذي هو من العبادات. ولا شك أيضاً أن من أعظم ما تؤدي إليه الولاية: أن يستجيب الله دعاء الولي، وهذا ما سوف نخصص له الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وهو: إجابة دعوة الأولياء وكرامات الأولياء عند رب العالمين. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا سبيل الولاية وأن ينعم علينا بهذه الرتبة الشريفة، وأن يجعلنا ممن دافع عنهم وناصرهم، وأن يجعلنا من المتحابين فيه، والذين يلتقون ويجتمعون على نصرة شريعته.
ولاية الله لها جانبان:(/6)
فولاية الله سبحانه وتعالى مرتبة في الدين عظيمة، لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً، ولهذه الولاية -أيها الإخوة- جانبان: جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراتب العبودية بالنوافل. وجانب يتعلق بالرب سبحانه وتعالى: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة. وأما ما يظهر على يدي هذا العبد من عجائب الأمور، فهذا شيء إضافي وليس من شروط الولاية، ولذلك يسأل بعض الناس فيقول: هل يشترط أن يظهر على يدي الولي كرامات؟ فالجواب: أنه لا يشترط، فقد يكون ولياً من أولياء الله تعالى ومع ذلك لا يظهر على يديه شيء من الكرامات، ولذلك فإن القرآن قد اشتمل على تعريف الولي في قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] هذا من جهة الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:63-64] هذا من جانب الرب، فالعبد الذي آمن بالله عز وجل وصدق به وبما جاء من عنده، والتزم بالشرع باطناً وظاهراً، وداوم على ذلك هو ولي الله عز وجل الذي يحبه وينصره ويبشره برضوانه، وعند فراقه للدنيا، يرتفع عنه الخوف والحزن، والعبد عليه أن يحفظ الله عز وجل بحفظ حقوقه والقيام بأوامره، واجتناب نواهيه، والرب سبحانه وتعالى يحبه على ذلك وينصره ويؤيده ويرعاه، والله سبحانه وتعالى يتولى من تولاه، ولا يتخلى عز وجل عمن نصره ووالاه.
البشرى لأولياء الله:
والآية تقول إن لأولياء الله بشرى: لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] فما هي هذه البشرى؟ أولاً البشرى في الحياة الدنيا تكون بأشياء: منها أولاً: إعلام الولي بأن الله معه في نصره وتأييده كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. ثانياً: إعلام الولي بما أعده الله عز وجل له في الآخرة من النعيم والرضوان، كما قال تعالى: وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:25]. ثالثاً: رعاية الله عز وجل لوليه بتوفيقه وحفظ جوارحه عن المعاصي كما جاء في الحديث: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ....) الحديث. رابعاً: تبشير الملائكة له عند النزع الأخير وخروج الروح، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. خامساً من البشارات للولي في الدنيا: ما يراه المؤمن في النوم، أو يرى له من الخير، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري رحمه الله. وقال عليه الصلاة والسلام في تفسير البشرى: (الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) هذا تفسير البشرى، رواه الترمذي وهو حديث حسن. سادساً مما أعد الله للولي في الدنيا: استجابة الدعوة، وهذا الذي تضمنه الحديث الذي سبق شرحه: (ولئن سألني لأعطينه). سابعاً: ما يجريه الله عز وجل على يدي الولي من العجائب مما هو فوق قدرة البشر، كما وقع لمريم عليها السلام، وأصحاب الكهف، والغلام مع الساحر، والصبي الذي خاطب أمه في قصة الأخدود ... إلى غير ذلك، وكما قلنا هذا الأخير لا يشترط للولي بمعنى: ولياً إلا إذا وقع له ذلك، فقد يقع وقد لا يقع. والبشرى للولي في الدنيا بتبشير الملائكة له عند خروج نفسه برحمة الله تعالى قد وردت به آيات، فهذا من معنى قول الله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64].
وقفة مع كرامات الأولياء:(/7)
وبالنسبة للكرامات التي قد تقطع لبعض أولياء الله تعالى في الدنيا، فإنه لا بد من الحديث عنها؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يفرق بينما يقع من الخوارق على يد الساحر والكاهن والدجال، وبينما يقع من هذه الخوارق على يدي أولياء الله تعالى. والكرامة يعرفها أهل السنة : بأنها أمر خارق للعادة، يظهره الله عز وجل على أيدي أوليائه، ليست مقرونة بدعوى النبوة، وهي ولا شك خارقة للعادة، وقد ذهب فيها الناس إلى ثلاثة مذاهب: فمنهم من أجاز وقوعها بدون حد، حتى قال قائلهم: كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي. وهذا مذهب الأشاعرة وغيرهم، وهذا مذهب باطل، إذ كيف تستوي معجزات الأنبياء مع كرامات الأولياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل وأعلى وأزكى وأرفع عند الله تعالى، ثم إن النبي يحتاج للمعجزة لأجل إظهار الحق وإثباته للكفرة والمعاندين. ومن الناس من ذهب إلى إنكار الكرامات بالكلية. وهذا مذهب المعتزلة وآخرين وافقوهم، ولا شك أن هؤلاء الذين احتكموا إلى عقولهم وأنكروا الكرامات، لا شك أنهم من المصادمين لمذهب أهل السنة وهو القول الثالث الوسط، وهو إثبات وقوع الكرامات للصالحين وجواز وقوعها، لكنها لا تصل إلى درجة معجزة الأنبياء. قال ابن تيمية رحمه الله: ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم. وقال رحمه الله: فإن آيات الأنبياء التي دلت على نبوتهم أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم، مثل: الإتيان بالقرآن، ومثل: إخراج الناقة من الأرض، ومثل: قلب العصا حية، وشق البحر ....، إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى. فالخلاصة: إثبات كرامات الأولياء وجواز وقوعها، ولكنها لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء. ولا يعني إثبات الكرامات المبالغة في قبولها والأخذ بها من كل طريق أتت، أو إثباتها للفسقة والمجرمين، ولذلك فلا بد أن نعرف من هم الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق، ومتى تسمى كرامات ومتى لا تسمى، فلا بد من ملاحظة عدة أمور بالنسبة لكرامات الأولياء؛ لأنه ليس كل من ظهر على يده فعل عجيب يدل على أنه ولي. فإذاً الأولياء الذين قد يجري الله على أيديهم بعض الكرامات؛ هم أناس صالحون ملتزمون بالشريعة ظاهراً وباطناً، آمنوا بالله عز وجل وبما أمرهم أن يؤمنوا به، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد الأمة، ولا يزكون أنفسهم، فلا يقولون: نحن أفضل الناس، ونحو ذلك، وهؤلاء يخفون الكرامات ولا يظهرونها ولا يقولون للناس: حصلت على أيدينا كذا، وحصل على أيدينا كذا، ولا يتفاخرون بها. ومن الناس من يظهر على أيديهم أشياء من العجائب، لكنهم قوم فسقة استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، إما عن طريق السحر أو غير ذلك، ولذلك فإن الله عز وجل عندما وصف المؤمنين بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] لا شك أن هؤلاء لا يدخل فيهم السحرة، ولا الكهنة، ولا الكفرة، ولا المشعوذون ولا المشركون، لا يدخلون في المؤمنين ولا في الولاية، ولذلك فإن أهل العلم بينوا أنه ليس كل من طار في الهواء أو مشى على الماء يكون ولياً من أولياء الله تعالى، وبعض الصوفية -كما تقدم- ادعوا الكرامات، وألصقوا بأنفسهم أشياء كثيرة من هذا المقام، وكان بعضهم يقول: إن طائراً يحملني في كل ليلة ويدخلني الجنة، ومنهم من كان يدعي علم الغيب، ومنهم من يدعي أنه يذهب ويطوف بالكعبة ويرجع في ليلته، ومنهم من يدعي أنه سقطت عنه التكاليف، ومنهم من يأتي المزابل والنجاسات ويتمرغ بها، ويدعي أشياء من الأحكام الخاصة لنفسه، وقد زعموا للخضر أشياء كثيرة في مقابلاتهم له، وفي عصرنا بالغ بعض الناس الذين لا يحسنون معرفة الأسانيد ولا نقل الأخبار الصحيحة في إثبات قصص في بعض ميادين الجهاد للشهداء ليست بصحيحة بسبب اندفاعهم العاطفي، وعدم معرفتهم لمبدأ التثبت ونقل الأخبار، والتصديق بالشائعات والزيادة عليها، ولا ينكر أن لبعض الشهداء كرامات عند الله ولا شك، وأن بعض الشهداء من أولياء الله تعالى، ولكن فرق بين إمكان حصول شيء وبين وقوعه فعلاً. وكذلك فإنه لا بد أن يعاد القول في ضوابط الكرامات
الضابط في أصحاب الكرامات:(/8)
أولاً: أن يكون صاحبها مؤمناً وتقياً. وثانياً: ألا يدعي صاحبها الولاية، لا يقول: أنا ولي. وكذلك أن يكون عالماً بالدين وبأحكام الشريعة، عارفاً بالله تعالى وليس جاهلاً، وأن يلازمه الخوف على نفسه، وألا يترك واجبات، ولا يفعل محرمات، وألا تكون الكرامة مخالفة لأمر من أمور الدين، فلو رأى في المنام شخصاً في صورة نبي أو ملك يقول له: قد أبحت لك الخمر، أو أسقطت عنك التكاليف ونحو ذلك فليعلم أنه شيطان. وكذلك فإن منهم من يقول: إنني رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في الحقيقة، وصافحته وأخرج يده لي من القبر، ونحو ذلك، فلا شك أن مثل هذا مخرف من المخرفين. لقد وقعت حكايات لبعض السلف والعلماء تدل على وعيهم وفقههم، وعدم انطلاء حيلة الشيطان عليهم، فحكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة في محرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر يقول له: تملأ من وجهي -يا أبا ميسرة - فأنا ربك الأعلى، فبصق فيه وقال: اذهب يا لعين، عليك لعنة الله؛ لأنه يعلم أن الله لا يرى في الدنيا، وأن هذا لا بد أن يكون شيطاناً من الشياطين. وكذلك ما يحكى عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت ونودي: يا فلان! أنا ربك أحللت لك المحرمات، فقال: اذهب يا لعين، فاضمحلت السحابة، فقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: قد أحللت لك المحرمات، فبذلك يعلم أن الكرامة التي تدعى وتكون مصادمة للشريعة ليست بكرامة.
كرامات من الكتاب والسنة:(/9)
لكن هل وقعت كرامات صحيحة في الكتاب والسنة وأخبار الصالحين؟ الجواب: نعم. فمن ذلك ما أخبر الله تعالى عنه في القرآن الكريم، في سارة زوجة إبراهيم الخليل، قال الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:71-73]. فهذه المرأة سارة لا شك أنها من أولياء الله قد أكرمها الله بكرامة، وهي أنها حاضت وهي عجوز وولدت، مع أن بعلها شيخ كبير. وكذلك الذي عنده علم من الكتاب في قصة سليمان عليه السلام وكان رجلاً مسلماً عالماً من الصالحين: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40] قيل: إنه كاتب لسليمان كان عابداً عالماً من أولياء الله تعالى، وقيل: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم، سأل الله به، فبصلاحه وبسؤاله أعطاه الله مطلوبه، ونقل ذلك العرش من اليمن إلى الشام بطرفة عين. وكذلك من الكرمات التي وقعت: ما جاء عن مريم عليها السلام كما قال قتادة في قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37] قال: [حدثنا أنه كان تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فعجب من ذلك زكريا] وعلى أية حال كان عندها رزق في المحراب، وجود الرزق في المحراب: أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هذه كرامة بحد ذاتها ولا شك. كذلك ما حصل للثلاثة (أصحاب الغار) لما دعوا الله تعالى بأعمالهم، فخرجت الصخرة من موضعها التي انطبقت عليهم فهي كذلك من كراماتهم. وقصة الرجل الذي سمع صوتاً في سحابة، يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فالرجل تتبع السحاب ونظر أين نزل المطر في بستان، فجاء إلى صاحب البستان وسأله عن اسمه؟ فأخبره باسمه، فتطابق عنده الاسم الذي سمعه منه مع الاسم الذي سمعه من السحاب، فسأله عن قصته، فأخبره بأن هذه الأرض يأخذ ثلث ما يخرج منها فيتصدق به، ويأكل هو وعياله الثلث، ويرد الثلث زرعاً وإصلاحاً وبذراً ونحو ذلك. كذلك من الكرامات الثابتة في السنة: الكرامة لجريج العابد الزاهد الذي كان يعبد الله في صومعة، فتسلطت عليه زانية فلما أبى أن يستجيب لها أتت راعياً فأمكنته من نفسها، فلما حملت ووضعت اتهمت جريجاً أنه الذي فجر بها، فجاء بنو إسرائيل في عهده فكسروا صومعته بالفئوس والمساحي، ثم لما رأى ذلك مسح رأس الصبي وقال: من أبوك؟ فقال: أبي راعي الضأن، فبهتوا عند ذلك وأرادوا أن يبنوها له ذهباً أو فضة، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت. وكذلك سارة حصل لها موقف آخر -زوجة إبراهيم الخليل- لما أخذها الجبار، وأرد أن يؤذيها ويأخذها بالحرام، فأصابه الله بالشلل، فقال: سلِ الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فانطلقت يده، فعاد فقبضت يده، ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، وأعطاها هاجر خادمة لها، وخلَّى سبيلها. وكذلك ما حصل من الرجل صاحب الخشبة الذي أعيته الأمور في الرجوع إلى صاحبه لرد الدين في الوقت المحدد، فأخذ خشبة ونقرها فجعل فيها المال، وألقاها في الماء، ثم جاء إلى صاحبه بعد ذلك، فقال له صاحبه: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بمالك راشداً. هذا بعض ما حصل لمن قبلنا.
كرامات حدثت للصحابة:(/10)
أما ما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد كان لأصحابه كرامات، فمثل أسيد بن حضير و عباد بن بشر كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس؛ -يعني: شديدة الظلمة- فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرقا أضاءت عصا الآخر. وهذا الحديث صحيح. جاء عن أنس (أن أسيد بن حضير الأنصاري ورجل آخر من الأنصار تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة، وليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلبان؛ أي: يرجعان إلى البيت وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت لهما الطريق، كل واحد إلى بيته، أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله). وفي رواية عن أنس: (أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فتفرق النور معهما). فهذه الأحاديث الصحيحة في كرامة بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، و أسيد بن حضير نفسه هو صاحب كرامة نزول الملائكة: (لما كان يقرأ سورة البقرة وفرس له مربوطة في زاوية البيت، و يحيى ولده مضطجع بجانبها، فجال الفرس جولة حتى خشي على ولده يحيى ، فأمسك عن القراءة، ثم قرأ فجالت الفرس فرفع رأسه فإذا بشيء كهيئة الظلة فيها مصابيح، تقبل من السماء فهالني فسكت، قال أسيد : فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اقرأ أبا يحيى ، وهكذا ثلاث مرات، ثم قال عليه الصلاة والسلام: تلك الملائكة دنوا لصوتك، ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم). وكذلك خبيب بن عدي لما أسروه بمكة ، رأت امرأة من المشركين بين يديه قطفاً من عنب وما بمكة ثمرة، وإنه لموثق في الحديد. وهذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله، فمن كرامات خبيب بن عدي أن الله عز وجل رزقه بهذا الرزق وهو موثق اليدين سجين في مكة ولا يوجد في مكة ثمرة من هذا العنب. وكذلك قصة أويس القرني وما كان من كرامته في إجابة دعوته. وكذلك كان لبعض السلف رحمهم الله تعالى كرامات من جهة إجابات دعوتهم. وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه له كرامات في فراسته وصدق ظنه، ومن الكرامات المشهورة لعمر رضي الله عنه، أن عمرو بن العاص لما فتح مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل، شهر الأشهر العجم، قالوا: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان اثنتي عشر خلون من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها أي: أعطيناهم المال وأرضيناهم وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، هذا لكي يفيض النيل، وإلا لا يفيض، فقال لهم عمرو : إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا (بؤنة وأبين ومسرى) وهي أشهر كانت عندهم، والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيراً، حتى هموا بالجلاء والذهاب من هذه الأرض، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب ، فكتب عمر جواباً إلى عمرو بن العاص يقول فيه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله، وإني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، قال: فألقى البطاقة، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم السبت وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع الله تعالى تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم، فلم يعودوا أبداً لإلقاء جارية في النيل، وهذه القصة سندها رجاله ثقات، وقد ذكرها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة. ومن كرامات عثمان رضي الله عنه الخليفة المقتول ظلماً أن جهجاه الغفاري أخذ عصا عثمان التي يتخصر بها فكسرها على ركبته، فوقعت في ركبته الآكلة؛ الآكلة مثل الدود، أكلت ركبته محل الموضع الذي كسر عصا عثمان عليه. وهذا سنده رجاله ثقات أيضاً. وكذلك سعد رضي الله عنه، فإنه كان مجاب الدعوة، ولذلك لما اتهمه رجل قال: أنه لا يعدل في الرعية، ولا يقسم بالسوية، ولا يغزو في السرية -أي: لا يخرج للجهاد- قال سعد : [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وعجل فقره، وأطل عمره، وعرضه للفتن]، قال الراوي: فما مات حتى عمي، قال: فكان يلتمس الجدران، وافتقر حتى سأل الناس، وأدرك فتنة المختار الكذاب فقتل فيها. والقصة وردت في الصحيح، كيف أنه كان يغمز الجواري في الطرقات، ويتعرض للنساء في الشوارع، ويقول: مفتون أصابتني دعوة سعد. وكذلك لما ظلمته امرأة في ادعاء أرض دعا عليها أن الله يعمي بصرها ويقتلها في أرضها، فأعمى الله بصرها ووقعت في بئر في أرضها فماتت. وأما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإن من كراماته أنه لما كان في(/11)
الحيرة ، أتي له بسم فقال: ما هذا؟ فقالوا: سم ساعة، تأخذه من هنا وتموت، قال: باسم الله ثم ازدرده. وسنده حسن. وهذه القصة قيل: إنها وردت في تحدٍ حصل بين خالد وأحد المشركين، أو أحد الكفار النصارى، وأن خالداً قد شربه توكلاً على الله تعالى لإظهار اليقين لهم، ولم يضره ذلك. و عمران بن حصين جاء في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة كانت تسلم عليه) ثبت ذلك في صحيح مسلم ، أن الملائكة كانت تسلم على عمران بن حصين . وأما حجر بن عدي فإنه عبر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نهر دجلة بلا سفينة بعد فتح القادسية حتى أن الفرس لما رأوهم يعبرون النهر من غير سفينة قالوا: دبوان، دبوان، أي: شياطين، شياطين، وهربوا، قال: فدخلنا عسكرهم، فوجدنا من الصفراء والبيضاء -يعني: من الذهب والفضة- وأصبنا أمثال الجبال من الكافور، وأصبنا بقراً فذبحناها فجعلناها في القدور، وأخذنا من ذلك الكافور ونحن نحسبه أنه ملح وطرحناه في اللحم، فلما أكلنا وجدناه مراً، فقلنا: ما أمر ملح الأعاجم. فلم يدروا أنه كان كافوراً، لما رأوا هذه الكمية الكبيرة الهائلة، لم يتوقعوا ذلك. ومن كرامات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة قصة سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، لما ركب في البحر -سمي سفينة لأنه كان يحمل الأمتعة في الأسفار- فركب مرة في البحر فانكسرت، فركب لوحاً منها فطرحه في أجمة فيها أسد -ألقاه في غابة فيها أسد- فقال سفينة رضي الله عنه: يا أبا الحارث -وهي كنية الأسد عند العرب- يا أبا الحارث! أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكتفه حتى وضعني على الطريق، فلما وضعني على الطريق، همهم فظننت أنه يودعني. رجاله ثقات. وممن أثبته الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء . وكذلك فإن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لما جيء لها بمال، أمرت أن يصب ويطرح عليه ثوب، ثم قالت للجارية: أدخلي يديك فاقبضي منه قبضة فادفعي بها إلى فلان، وإلى فلان، من أبنائها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة : غفر الله لكِ، والله لقد كان لنا في هذا حظ، أي: لو تركت لنا شيئاً، قالت: ولكم ما تحت الثوب، قالت: فرفعنا الثوب فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهماً، وهذا مع أن المال كان أقل مما أنفقت لما طرح في البداية.
كرامات حدثت للتابعين:
وكذلك فإن السلف رحمهم الله تعالى كانت لهم كرامات مثل أبي مسلم الخولاني رحمه الله، كان إذا استسقى سقي، كان معروفاً بإجابة الدعاء في الاستسقاء، ولذلك فإنهم كانوا يخرجون به فيستسقي لهم، فيسقون. وذكر كذلك من كرامات بعض جيوش المسلمين التي غزت القسطنطينية ، كسرت بعض مراكبهم وألقاهم الموج على خشبة في البحر وكانوا خمسة أو ستة، قال: فأنبت الله لنا بعددنا ورقة لكل رجل منها، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أفنينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب فحملنا. ولا شك أن هذه الكرامات تدل على أن هناك من أولياء الله تعالى من يكرمه الله عز وجل بأن يخرق العادة له، ويكون في هذا كرامة له في الدنيا قبل الآخرة، وإلا فما عند الله لا شك أنه أبقى وأعلى، وقد ساق ابن رجب رحمه الله جزءاً من أخبار الكرامات التي حصلت لبعض السلف مما يدل على أن الكرامات ثابتة. ومنها: أن أبا مسلم الخولاني رحمه الله مر به صبيان يطاردون ظبياً، فقالوا: ادعُ الله لنا أن يحبس لنا هذا الظبي، فيدعو الله حتى يمسكوه بأيديهم. ودعا على امرأة أفسدت عشرة امرأة بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال، فجاءته فجعلت تناشده الله وتطلب إليه، فرحمها ودعا الله فرد عليها بصرها. وكذلك وقع رجل في أبي هريرة رضي الله عنه، فنزلت حية من السقف -وهذه القصة التي قالها الحافظ الذهبي رحمه الله إسنادها كالشمس- تطرد وراءه كرامة لأبي هريرة بعد وفاته رضي الله عنه لما وقع فيه هذا الرجل بالسوء. وهذه القصص الكثيرة والكثيرة جداً يؤخذ منها أيها الإخوة: أن الله تعالى يبشر أولياءه في الدنيا قبل الآخرة، والمهم أن الإنسان يسلك سبيل الولاية والصراط المستقيم، ومن الكتب المهمة في هذا الموضوع كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الموجود في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى ، وأيضاً هو مطبوع مستقلاً. ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. والله تعالى أعلم.
الأسئلة:
الصوفية وإنشاء الأضرحة:(/12)
السؤال: الجهل يملأ قريتنا بسبب تغلغل الصوفية فيها لدرجة أنه في خلال ثلاث سنوات تم إنشاء أربعة أضرحة لمشايخهم كما يزعمون، وعندما ننصح أهل البلد يكون الرد: لا تحاربوا أولياء الله، ويستدلوا بالآية، وعندما نقف لهم بالمرصاد يهددوننا. فما هو الحل مع هؤلاء المبتدعة ؟ الجواب: طبعاً هؤلاء الصوفية درجات، أما نسبتهم فقيل إلى نسبة الصوف ؛ لأنه كان شعار المتزهدين في ذلك الوقت، وقيل: إنه نسبة إلى الصحراء كما قال ذلك الشاعر:
فتى تصافى فصوفي حتى سمي الصوف:(/13)
وقيل غير ذلك، ومهما كان الأمر فإن هذه الطريقة طريقة بدعية، فلم يكن صلى الله عليه وسلم صوفياً ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء الأربعة ولا الصحابة وما كانوا متصوفة ولا صوفية ، ولا كان عند الصحابة طريقة قادرية ، ولا جيلانية ، ولا طريقة عيدروسية ، ولا طريقة بدوية ولا رافعية ولا شاذلية ، فكل هذه الطرق التي ابتدعها هؤلاء المبتدعة، وأما الصوفية طبعاً درجات في الانحراف، فمنهم: الذين يكون بدعتهم في الأذكار، كأن يقيدوا أذكاراً بعدد معين ما ورد في السنة، أو بمكان معين أو بكيفية معينة ما وردت في الشريعة، فبدعتهم تقف عند حدود الأذكار، مثل: بعض الصلوات، يقولون: هذه الصلاة النارية، ويبتدعون في الصلوات أذكاراً معينة، أو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يبتدعون في كيفيات معينة في الأذكار، ويتبعون أذكاراً معينة ويواصلون عليها وهذه الصمدية، ونحو ذلك مما يسمونه، أو مثلاً يذكرون الله بالاسم المفرد كأن يقولون: (الله، الله) (حي، حي، حي) أو (هو، هو، هو) ....... فهؤلاء قوم لا يعقلون، ولذلك فإن الذكر بالاسم المفرد بدعة من البدع، لا يوجد شيء اسمه ذكر باسم مفرد، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال (الله، الله، الله) يذكر الله هكذا، كما يقول بعضهم حتى المسجد يقول: الله، والجدار يقول: الله، وكل شيء يقول: الله، والأشجار تقول: الله، ويقول: ما ترى بعينك، يقول: الأشجار تقول: الله، والسماء والأرض تقولان: الله، ويسمع كل شيء، وربما يكون الشيطان فعلاً يسمعهم من هذا حتى يصدق فعلاً أن هذه طريقة ..، وربما يكون إحياءً نفسياً، وبعضهم يقول: جرب هذا الذكر، ويكتبوا: يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين مرة، ويقول: اذكر هذا ويقول: هذه وصفة وهذا .... وكان بعض أهل الدعوة والعلم في عصرنا وهو الشيخ محمد المصري رحمه الله قد سمع بأن أحد الصوفية يزعم أنه يوصل من يريد إلى الله عز وجل مباشرة، يجعله يتصل بالله، فذهب إليه، فقال: أنا سمعت أنك توصل من يريد بالله عز وجل؟ قال: طبعاً هذا أكيد، قال: وما هو المطلوب؟ قال: لا بد أن تجلس عندي أربعين يوماً، قال: أنا مستعجل وعلى سفر ولا يمكن، أنا أكثر شيء أستطيع أن أجلس عندك ثلاثة أيام، فالمهم في الأخير حتى لا يكون هذا ما عنده علاج، وافق له على ثلاثة أيام ثم أعطاه أشياء معينة، أذكاراً معينة، كتب له كتابة فيها البدعي وغير البدعي، وقال: هذه في ثلاثة أيام تواظب عليها في الأوقات الفلانية، وفي الظلمة وفي كذا، وتحت السنة لازم تحت السنة، قال: اكتب لي توقيعك عليها حتى لا يعارضني أحد في أن هذه الأذكار هي من عندك أنت شخصياً، فكتب له توقيعاً عليها، ثم جاءه بعد ثلاثة أيام فقال: ما حصل لي شيء، ما وصلت ولا أحد كلمني ولا .. فقال: أنت يمكن عندك قسوة قلب، أو أنك ما طبقت الوصفة كما ينبغي ونحو ذلك. فقال: أشهد لله العظيم أنك كذاب، ومثل هؤلاء المقصود كان إثبات عجز هذا الرجل وغيره الذين يقولون أنه يوصل إلى الله تعالى مباشرة، أي: تكلم الله مباشرة، نعطيك أوصافاً وأوراداً .. وبعضهم كان يدعي الكرامات، واحد منهم كان يلقب بالحاروني كان يزعم أنه يتصل بالله، بذكر ... يرفع السماعة ويكلم فيه، وبعضهم يقول: أن الشيخ الفلاني ضرب الشيخ الفلاني من دمشق إلى بغداد بالحذاء، بينهم ثأر فضربه من هناك. وبعضهم طبعاً يزعم أنه من أهل الخطوة، وأنه ينتقل من بلد إلى بلد، المسافات الشاسعة، لكن فعلاً قد ثبت لدى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن بعض هؤلاء فعلاً يذهبون إلى مكة بالاستعانة بالجن، يذهبون في ليلة من بلد بعيد ويرجعون، وربما حكوا قالوا: رأينا كذا ورأينا كذا، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن منكراتهم: أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، الجني لا ينزل في الميقات يحرم، فيأخذه مباشرة. فهؤلاء كما قلنا بدعهم في الأذكار، وبعضهم بدعهم تصل إلى الشرك وادعاء الكرامات والكفر، ووحدة الوجود، وكان بعضهم يقول: كل ما ترى بعينك فهو الله، ليس في الجبة إلا الله، فرعون كان محقاً لما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] لكن موسى ما فطن لها؛ لأن كل شيء في هذه الدنيا جزء من الله، تعالى الله عن قولهم. المهم هؤلاء الذين يعملون الأضرحة، هؤلاء طبعاً يؤلهون أصحاب الأضرحة، أي: يثبتون لهم أشياء من التوحيد التي لا تجوز إلا لله، مثل: طلب شفاء المريض، مثل: طلب الزرق، طلب نزول المطر، إذا قحطوا قالوا: عليكم بقبر البدوي ، قبر أبي العباس المرسي يعني: مجرب ونافع، وقبر فلان لكذا، وهذه المرأة التي لا تحمل تحمل إذا جاءت عنده، وبعض هؤلاء المشركين كان لهم بدعاً قبيحة، وبعض هؤلاء الذين في الأضرحة على ثلاثة أقسام: إما أناس من أهل التوحيد الذين لا يرضون هذا المنكر أبداً كما عبدت النصارى المسيح والمسيح منهم براء، ومن هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، وهذا من أئمة أهل السنة. وذكر فضله شيخ الإسلام(/14)
رحمه الله وأثنى عليه، فعبد القادر من أئمة أهل السنة لكن الناس غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً بعد موته يطلبون منه شفاء المرض، ويطلبون منه المغفرة، ويطلبون منه الشفاعة عند الله، وغير ذلك. وكما فعل الغلاة بالحسين ، وكما فعلوا بزينب ، وكما فعلوا بكذا، وحتى ما يفعله كثير من المشركين عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المقبورين: من يكون من المشركين الكفار، ولكنهم ألهوهم وجعلوهم أولياء، مثل البدوي الذي كان تاركاً للصلاة، متعاطياً للخمور متعاطياً للمحرمات، وكان أيضاً والغاً في النجاسات؛ لأن بعض هؤلاء الرءوس كانوا لا يتنزهون من النجاسات، وربما لا يغتسلون، طبعاً اتصال برهبنة في النصارى، مسألة الصوفية اتصال بين النصارى و الصوفية وموجودة، وصلة بين التصوف المنتشر كذلك قائمة وحقيقية، فبعض هؤلاء كانوا لا يصلون كالبدوي وربما فعل الأشياء السخيفة كما حدث أنه مرة وقف على جدار فبال على الناس وهم يمشون في الطريق، فهموا به وأخذوه، قال: أنا مالكي، ونحن المالكية نقول: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر، قال: الناس يغتابوني، أي: يأكلون لحمي، إذاً بولي طاهر. ولذلك فإن مثل هذا الرجل الذي يطاف عند قبره بالملايين في السنة، وربما يذبحون، يطوفون بالقبر ويحلقون الشعر ويذبحون الذبيحة، ويأتون من القرية ببقرة يذبحونها عنده، فهؤلاء الذين ذكرهم يبنون المساجد على هذه الأضرحة ويجعلون لها سدنة. النوع الثالث من الذين في القبور: من الدواب، حمار أو كلب أو تيس، يدفنونه مثلما يفعل بعضهم في فتح باب رزق بالنسبة له، كما حصل لأحدهم أنه دفن حماراً ثم هب إلى القرية يقول: الولي فلان مات وأوصاني بقبره، وقد دفنته، وجاءوا إلى القبر وجعلوه هو المسئول عن هذا القبر وما يأتي إليه من أموال. إذاً هؤلاء الناس ماذا يفعل الإنسان بهم؟ إن كان له سلطة أنكر المنكر بيده، وإن لم يكن له سلطة فليس إلا المناصحة وإقامة الحجة والبيان، فإن لم يستطع أنكر بقلبه، وشكى أمره إلى الله تعالى، وحاول أنه يدعو من الناس من يرجى فيهم التقبل؛ لأن بعضهم إذا دعاهم كادوه وضيقوا عليه، يدعو من يرجو فيهم التقبل، حتى إذا زادوا كان هناك تياراً يحارب هذه الشركيات.
حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه زكاة:
السؤال: ما حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه من الزكاة؟ الجواب: هذا لا يجوز، وليس بصحيح أنه يدفعه؛ لأنه لم يدفعه إلى أحد من الأصناف الثمانية، فإن الله قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] أسلوب حصر: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] فإذا جعلت للمكوس فلا يكون قد أدى الزكاة إلى أهلها، وكذلك لا يجوز أن يستفيد من الربا لدفع المكوس أو الضريبة؛ لأن الربا لا يجوز الاستفادة منه ولو في دفع الشر عن نفسه.
جعل الدين زكاة على المدين:
السؤال: له دين عند فقير ولا يستطيع أن يرد الدائن عليه. فهل يجوز اعتبار ذلك من الزكاة ...؟ الجواب: لا يجوز إسقاط الدين للزكاة، واحتساب الزكاة من الدين المعدوم؛ لأن هذا مال لا يرجى عودته، فيفتدي نفسه وماله بالزكاة ويقول: أسقطه عنك مقابل الزكاة، لا يجوز فإنه مال رديء، قال الله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] لا تأخذ تمراً رديئاً، تمراً فيه سوس إلا على كراهية وعلى إغماض منك إذا أخذته، فكيف تجعل هذا المال الرديء الشبه معدوم زكاة؟ ثم أنت لما أعطيته المال، أعطيته بأي نية؟ أعطيته بنية قرض، فكيف الآن تجعلها زكاة؟! ولا بد للزكاة من نية عند الإعطاء، ثم إن الله قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فهي صدقة تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/15)
من هو اليتيم ؟
من هو اليتيم ؟ هل هو الذي فقد أباه فقط ؟ وماذا عن اللقيط ومجهول النسب ، ألا يدخل هذان في مسمى اليتيم ؟.
لماذا كرر القرآن لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة ؟ .
كيف قدم الإسلام اليتامى ومجهولي النسب إلى المجتمع ؟ هل قدمهم على أنهم ضحايا القدر وبقايا المجتمع ، أم على أنهم فئة من صميم أبنائه ؟ .
من الذي جلب الإهمال والإذلال لليتيم ، هل هو اليتم نفسه أم ظلم المجتمع له ؟ .
كيف طرح القرآن مسألة اليتم ، وكيف تقاطعت في آياته أوامر الشريعة ودلالات اللغة وإرادة المكلف ، على تأسيس كفالة رحيمة وعلاقة صادقة بين اليتيم والمجتمع ؟ .
ما هو موقف القرآن الصريح ممن يدعُّ اليتيم ويمنعه من حقوقه الشرعية ؟ .
هذه الأسئلة الملحة نجاوب عليها خلال الكلمة التالية :
كثيرا ما نسمع عن الآباء الذين فلذ أكبادهم فقد أطفالهم ، وفطر نفوسهم موت أولادهم . يتناقل الناس أخبارهم في المجالس والتجمعات ، ويقدمون لهم التعزيات . ولكن قلما نسمع عن أطفال فجعوا بفقد آبائهم وذاقوا ألم اليتم في ساعات مبكرة من حياتهم .
عن هؤلاء اليتامى ومن هم في مثل ظروفهم ، يتغافل كثير من الناس ، شغلتهم أموالهم وبنوهم ، في الوقت الذي أمر به القرآن الكريم بإكرامهم وتخفيف معاناتهم وتعريف الناس بمصيبتهم ، وبالظروف العابسة التي أحاطت بهم وأطفأت الابتسامة من على هذه الوجوه الصغيرة .
نحن في هذه الكلمة عن اليتيم لا نقصد من فقد أباه فقط ، ولا نقتصر على المعنى الشائع لدى عامة الناس وحسب ، ولكن نتعداه إلى كل لقيط وكل من فقد العلم بنسبه ، لأن اليتم لديهما آكد ، والمصيبة عليهما أشد . وهذا ما يؤكده العرف الاجتماعي واللغوي ، ويدعمه النظر الفقهي الذي يرى إن إلحاق اللقيط ومجهول النسب باليتيم ، من باب الأولى لأن الحرمان عند كليهما ظاهر لا يخفى . كما في الفتوى التي أكدت أن مجهولي النسب ، هم في حكم اليتيم لفقدهم والديهم .
ويؤيد هذا المذهب من الفتوى ، قوله تعالى في الآية الكريمة : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } الأحزاب- 5 . ووجه دلالتها على أن اللقطاء مجهولي النسب هم أحوج من غيرهم إلى الرعاية ، نكتشفه في ثلاثة مواضع :
الأول : عند حديث القرآن عن اليتامى قال تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } البقرة- 220. لأن الأخوة الإيمانية مما تصلح به المخالطة ، بل هي غاية ما تتطلبه المعاملة . وفي الحديث : [ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ] البخاري .
وعندما تحدث عن مجهولي النسب قال تعالى : {فإخوانكم في الدين ومواليكم } . تأكيدا لحقهم الشرعي ، وتذكيرا بأن الاعتناء بهم هو من صميم الدين ، وليس فقط واجبا أو التزاما اجتماعيا .
الثاني : اشتملت الآية على معنى خفي يقربك - لو أدركته – مما ينبغي أن تكون عليه العلاقة الصادقة بين المجتمع من جهة ، وهؤلاء الأيتام القاعدين في سفح الهرم الاجتماعي من جهة أخرى . وهذا المعنى الخفي هو : أن الأخوة والولاية الدينيتين تسدان مسد الأبوة إذا فقدت . وهو عين ما دفع بالألوسي رحمه الله تعالى إلى القول في تفسير الآية { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } يقول [ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ] كما في تفسيره روح المعاني . لقد أبدل القرآن الكريم مجهولي النسب - عوضا عن هذا الحرمان - ، نسبا عقيديا جديدا ، ورحما دينية هي وحدها القادرة على جبر هذا الكسر المضاعف في نفوسهم . ولهذا اعتُبر مكذبا بالدين من يدعُّ اليتيم . فتأمل .
الثالث : قوله عز وجل : { فإن لم تعلموا آباءهم } أبلغ في المعنى من القول مثلا : فإن فقدوا آباءهم . لأن الفقد عدم . وحينئذ يكون الخطاب منصرفا إلى اليتامى بوفاة الآباء فقط لأن فقد الآباء متحقق عندهم بالموت .
أما عدم العلم بالشيء فلا ينفي وجوده ، فالأب قد يكون موجودا ولكنه غير معروف ولهذا قال تعالى { فإن لم تعلموا } وهذا آلم في النفس لدى مجهول الأبوين الذي لا يعلم عنهما شيئا، مما يحتاج معه إلى مزيد عناية واهتمام . وفي نفس السياق، تأتي إنْ الشرطية التي تفيد احتمال الوقوع ، لتفتح الباب واسعا أمام الاحتمالات الواردة التي قد تقف وراء عدم العلم بهؤلاء الآباء . ( كالاحتمالات التي أشير إلى بعضها في محور من هم )
هناك سؤال نعتبر الجواب عليه هو المدخل الوحيد لكيفية التعاطي مع هذه الفئة ، وهو الذي يرسم بوضوح نقطة البداية في التعامل مع اليتامى . هذا السؤال هو: كيف قدم الإسلام هذه الفئة إلى المجتمع ؟ . سؤال عميق تتقاطع في الجواب عليه أوامر الشرع وألفاظ اللغة وإرادة المجتمع المكلف . وحتى تتضح معالم هذا الجواب وما يحمله من المفاهيم المؤسسة للعلاقة الصادقة بين اليتيم والمجتمع ، نقدمه مفصلا من خلال عدة وجوه :
الوجه الأول : مع اللفظ ومعناه .(/1)
يبدأ القرآن الكريم كعادته دائما بتسمية الشيء باسمه ليبني على هذا الشيء مقتضاه . فعندما أطلق القرآن وصف اليتم بصيغة الإفراد والتثنية والجمع ، وكرر لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة في الكتاب العزيز ، كان المقصود من ذلك بيان أن صفة اليتم ليس فيها عيب ولا تهمة ، وأن فقد الآباء والأقرباء ليس سخرية من القدر أوجبت احتقارا من البشر . فاليتيم شخص كامل في شخصيته ، تام في إنسانيته . وبالتالي فلا مكان للشعور بالدونية أو الإحساس بالنقص لدى اليتيم .
كان وراء إطلاق هذا الوصف ، إفهام الناس أن اليتيم شخص وحيد منقطع مهمل ... على ما تؤديه هذه الكلمة من معان في اللغة ، كلها من لوازم اليتم ، وكلها تنطبق على اليتيم . وكان القصد منها طبعا لفت الانتباه إليه لسد حاجته وإصلاح شأنه .
الوجه الثاني : كيف قدم الإسلام اليتيم إلى المجتمع ؟ .
في أروع صورة إنسانية شهدتها المجتمعات الحضارية قدم الإسلام هذه الفئة إلى المجتمع .لم يقدمهم على أنهم ضحايا القدر أو بقايا المجتمع كما هو شائع في مجتمعات أخرى ،بل كانوا موضوعا لآية قرآنية كريمة رسمت عنهم صورة إيمانية تسمو على كل الارتباطات المادية والدنيوية . يقول تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } البقرة- 220. وهذا في اليتامى . ويقول تعالى في موضع آخر : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } الأحزاب- 5 وهذا في مجهول النسب ممن فقد والديه . ففقد العلم بالنسب يثبت للشخص بدلالة الآية الكريمة أخوة دينية وولاية خاصة تجلب له – عند تطبيق مقتضياتها – مصالح جمة وخدمات لا تحصى .
أخوة دينية . من منا يقول لليتيم : أخي ، ويقول لليتيمة أختي ؟ . ولئن كانت هذه التسمية هي الحقيقة ، إلا أن فيها كذلك أدبا قرآنيا جما في الخطاب ، وتطييبا لقلوب هؤلاء المخاطبين المنكسرة نفوسهم .
إنهم إخواننا في الدين . ومن هنا ينبغي أن تبدأ علاقتنا بهم وسط مجتمع مسلم أدبه الإسلام ووصفه القرآن بأنه لا يدع اليتيم ولا يقهره ولا يأكل ماله ... ولما كان من معاني اليتم في اللغة الانفراد والهم والغفلة والضعف والحاجة ... كانت الدعوة إلى مخالطتهم والمبادرة بذلك من أفضل أساليب التطبيع الاجتماعي والدمج من داخل المؤسسة الاجتماعية ، بدءا بالمصافحة باليد كأبسط مظهر للمخالطة ، وانتهاء بالتزويج كأقصى مظهر لها ، مرورا بمنافع أخرى كالمؤاكلة والمشاربة والمساكنة وحسن المعاشرة ... فالكل داخل في مطلق المخالطة ، والجميع متحد في كسر الغربة النفسية التي قد يشعرون بها هؤلاء وهم داخل المجتمع . يقول الألوسي في تفسيره على الآية السابقة : [ المقصود : الحث على المخالطة المشروطة بالإصلاح مطلقا ، أي : إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة ، تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم ، أي : في الدين ] .
الوجه الثالث : إلام يحتاج اليتيم بداية ؟.
لو طرحت هذا السؤال على كل من عرف ظروف هؤلاء الأيتام وواكب معاناتهم ، لكان جوابه : إن أول ما يتطلعون إليه هو : المأوى . وهذا عين ما ذكره القرآن في التفاتة رحيمة بهذه الفئة . قال تعالى مخاطبا قدوة الأيتام r : { ألم يجدك يتيما فآوى ؟ } الضحى- 6. هذا أفضل ما عولجت به ظاهرة اليتم في شتى المجتمعات : توفير المأوى والملاذ الآمن لكل يتيم ، وبسرعة كبيرة على مايفيده العطف بالفاء . فكأن الآية خطاب إلى الأمة بالنيابة مؤداه : أيتها الأمة أمني لكل يتيم مأوى .
في الآية أيضا معنى لطيف لا يخفى على المتأمل وهو : لما امتن الله تعالى على نبيه r بإيوائه ، دل هذا على أن هذه نعمة تستحق الذكر . والذي ينظر في من آوى محمدا r يجد أنه جده عبد المطلب ومن بعده عمه أبوطالب ، مما يُفهِم أن من تمام نعمة الإيواء أن يوضع اليتيم في كنف أسرة وضمن عائلة ، إما قريبة وهذا هو الأصل ، يشهد لذلك الآية الكريمة :{ يتيما ذا مقربة }. وإلا فبعيدة .
وإن كنت أيها القارئ اللبيب ممن يعولون في فهم القرآن على معنى الألفاظ وعلاقاتها المنطقية فيما بينها ، فإليك هذه المعلومة اللغوية تأكيدا لما سبق . إذا كان اليتم هو : انقطاع الصبي عن أبيه ، فإن الإيواء هو : ضم الشيء إلى آخر . ولك أن تتخيل مدى التكامل في الآية التي نزلت دستورا للمجتمع . قطع هنا باليتم ، ووصل هناك بالإيواء ، يعني : لا مشكلة أبدا .
وإليك من كلام النبي r حول ذات الموضوع هذه النكتة . يقول r : [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلا لِلَّه ،ِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ] أحمد .(/2)
يتيم وشعر وحسنات . ما هو الرابط المعنوي بينها يا ترى ؟. إنه النمو ! . فاليتيم ينمو والشعر ينمو والحسنات تنمو وتزيد . وكما يخشى على الحسنات من السيئات ، وعلى نمو الشعر من الأوساخ والآفات ، كذلك يجب أن يخشى على اليتيم من الإهمال والضياع . فرجل أشعث أغبر قبيح المنظر ، مقراف للذنوب سيئ الخلق ، حاله هذه من حال المجتمع الذي لا يهتم باليتيم . إن كلمات الحديث نفسها تقطر خوفا وجزعا على مصير اليتيم .
قل لي بربك : أين تجد مثل هذه الصورة الحية في غير كلام النبي r الحريص على الأيتام والغيور على حقوقهم ؟ . من غيره r أوتي جوامع الكلم وأسرار العبارة يخاطبنا ، حتى نستولد نحن المعاني من ألفاظها حية نابضة ، تزعج عقولنا فتلهب نفوسنا إلى تطبيق الأمر الشرعي ؟. ومن غير المسلم وفقه الله تعالى إلى أن يطوي كل هذه المعاني العظيمة ، بمسحة واحدة من يده ؟! .
الوجه الرابع : كيف تفوز بجوار النبي r ؟.
لقد كانت نظرة الإسلام إلى مجتمع اليتامى نظرة إيجابية واقعية فاعلة ، لعب فيها عنصر الإيمان وحافز الثواب دورا أساسيا . فهم في المجتمع المسلم ليسوا عالة على المجتمع ولا عبئا على أفراده ، وإنما هم من المنظور الشرعي حسنات مزروعة تنتظر من يحصدها ليفوز بجوار النبي r ورفقته يوم القيامة . يقول النبي r : [ أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ ـ السفعة : أثر تغير لون البشرة من المشقة ـ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ يَزِيدُ ـ الراوي ـ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَة .ِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ـ توفي زوجها فأصبحت أيما لا زوج لها ـ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا ـ كبروا وتفرقوا ـ أَوْ مَاتُوا ] أبو داود.
حافز الأجر هذا هو الذي جعل الأم الصابرة تتعلق بأطفالها بعد وفاة زوجها في صورة مشرقة من عطف الأمومة على الطفولة . فهجرت الزينة والتبرج ، ونزعت الراحة من نهارها والنوم من ليلها تحوطهم بأنفاسها وتغذيهم بدمها قبل حليبها حتى ذهبت نضارتها لم يهزمها الموت بل اعتبرته جزءا من استمرار الحياة ، فالآن يبدأ دورها .
لم تكتف هذه الأم الطيبة بدور الأمومة ، وقرنت إليه كفالة الأيتام أيضا ، فمنحت ليتاماها بصمودها هذا أمتن عروة يستمسكون بها تغنيهم عن البحث خارجا عمن يأويهم ، ثم شكر النبي r لها ومدحها فجاءت جائزتها مجزية وثوابها مضاعفا . مشهد بليغ يصوره هذا الحديث الشريف ، في رسالة واضحة إلى المجتمع مضمونها :
1- أن الأم أولى باليتامى من أنفسهم .
2- أن الأمومة هي الملاذ الثاني لليتيم بعد الأبوة . فليس بعدها إلا الضياع أو يد محسن . ( أمومة بديلة)
3- إن كان هذا ممكنا في أم مع أولادها لأنهم قطعة منها ، فهو ممكن أيضا مع كل امرأة صالحة تريد القيام بهذه المهمة الشريفة مع أطفال ليسوا منها . مع أجر أكبر وثواب مضاعف حتما .
الوجه الخامس : هل نؤمن بالقرآن ؟ .
مكمن الداء أن البعض منا إذا تناول هذه المعضلة الاجتماعية ، فإنه يتناولها من ناحية نظرية ، وإن تحدث عنها فمن زاوية وعظية ، ولما يستوعب خطورة هذا الشأن . فالقرآن الكريم اعتبر من يدعُّ اليتيم مكذّبا بالإسلام . يقول تعالى : { أرأيت الذي يكذّب بالدين . فذلك الذي يدعُّ اليتيم } الماعون- 1/2 . تُسمى هذه السورة أيضا بسورة التكذيب . وفي بدايتها استفهام فيه تشنيع وفضح وتعجيب من هذا المذكور ، وبيان أنه يقف في دائرة بعيدة عن حقيقة الدين كما يفهم من اسم الإشارة للبعيد : فذلك .
وفي الآيتين السابقتين اتهام مباشر لا التواء فيه ، فكذلك ينبغي أن نعامل كل مقصر في هذا المجال . وقد سعت السورة للدلالة على خطورة دعِّ اليتيم ، أنْ ربطته بالعقيدة . وارجع – وفقك الله – إلى سورة البلد لتجد كيف سبق إطعام اليتيم فيها ، الكينونة مع الذين آمنوا . قال تعالى : { فلا اقتحم العقبة . وما أدراك ما العقبة ؟ . فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة . يتيما ذا مقربة . أو مسكينا ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالمرحمة } البلد – 11/17.
ومعنى يدع اليتيم : يدفعه بعنف عن استيفاء حقوقه . وليس الدَّعُّ إلا كلمة عجيبة اشتملت – بالإضافة إلى التشديد الكائن في مادة الكلمة – على كل معاني الإقصاء والإهمال والشدة والعنف وسائر مظاهر الظلم التي تلحق باليتيم . ومثلها كلمة القهر في سورة الضحى ، بل هي أعجب لما انطوت عليه من ممارسات الضغط النفسي والبدني التي تفترض شخصا فاعلا وآخر مفعولا به ، وهي حبلى بكل المعاني التي تورث الإهانة ونقص الكرامة والشعور بالضعف والنقص ... يدل على هذا أصل الكلمة اللغوي وهو : الأخذ من فوق كما في لسان العرب لابن منظور .(/3)
وقد ذكر القرآن الكريم أن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون نارا في بطونهم. ووجه المناسبة أن الذي يأكل مال اليتيم ظلما ، فإنه يعرض اليتيم بذلك لنار الجوع والفقر ، ولفح الحاجة والمرض ... فما يأكله هو نار ، لأن الحصاد من جنس الزرع .
الوجه السادس : من المسؤول عن دعِّ اليتيم وقهره ؟ نريد في هذا السياق أن نصحح مفهوما خاطئا عن اليتم ، وهو ارتباطه في الأذهان بالظلم والقهر والحرمان النفسي ... فلا نكاد نسمع عن يتيم إلا وتقفز أمامنا صورة طفل ذليل تتقاذفه الأبواب والطرقات . والواقع أن هذه صورة صحيحة ، ولكن ما ليس بصحيح هو عزو سبب ذلك إلى اليتم والحال أنه ليس شرا في ذاته وليس هو المسئول عن هذا الواقع ، وإنما المسئول هو المجتمع ثم المجتمع . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِي ِّ r قَالَ : [ خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْه .ِ وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ ] ابن ماجة .
إن مظاهر الظلم والقهر والإهمال وكل الاضطرابات النفسية التي تحتل نفوس معظم الأيتام ، لا علاقة لها باليتم أو بفقد النسب ، بل هي من صناعة المجتمع الذي يهمل يتاماه . ولهذا لم يخاطب القرآن الكريم اليتيم لأنه لا دور له في ما حصل له ، بل اليتم قدر من الله تعالى لحكمة يريدها . وإنما انصرف بخطابه إلى المجتمع مباشرة يحمله وزر التفريط في فئة من أبنائه كما في الآيتين السالفتين ، لأن ضمير الخطاب فيهما عائد على الجماعة المسلمة ، كل من موقعه . ونظير ذلك قوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط} النساء – 127. وقوله تعالى : {كلا بل لا تكرمون اليتيم } الفجر- 17. وقوله تعالى : {وأما اليتيم فلا تقهر } الضحى- 9... إلخ . واضعا بذلك أسس المعاملات التي تحمي اليتيم من كل أشكال الظلم الاجتماعي والقهر النفسي .
ولفت الشرع الانتباه إلى ظاهرة اليتم أن جعلها الله تعالى محلا لعدة أعمال صالحة . وسببا من أسباب المغفرة ودخول الجنة بإذن الله تعالى . قال r: [ مَنْ قَبَضَ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لَه ] الترمذي . ولن نكون مبالغين إذا قلنا : إنه مصدر (دواء) نافع في علاج مرض نفسي يشكو منه كثير من الناس وهو: قسوة القلب . ولو صح من الناس العزم على الشفاء من هذا الداء بهذه الوسيلة ، لما بقي على الأرض من يتيم . [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّه rِ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَه:ُ إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيم ] أحمد .
نتمنى أن نكون قد توصلنا بهذه الكلمات إلى المسح على هذه الرؤوس الصغيرة التي تشابهت ظروفها كزهور متعانقة في مغرس واحد تنتظر الماء والغذاء . كما نرجو أن تكون رسالة إلى المجتمع واضحة لأنه المسؤول الأول عن يتاماه . لقد خلق الله تعالى الأيتام للحياة ، فكيف يحل لنا وأدهم بالإذلال والإهمال ؟ . وإذا كان سبحانه قد جعل هذه الأغصان الخضراء للثمر ، فكيف نقطعها نحن ونجعلها للحطب ؟ .
إنه لايصح شرعا ولا طبعا ولا وضعا أن يحرم هؤلاء مرتين . مرة من حنان الأمومة وعطف الأبوة ، وأخرى من رحمة المجتمع ورعايته . نقول هذا ونحن نعلم أن في مجتمعاتنا المسلمة نفوسا رحيمة وقلوبا عطوفة تتلهف لخدمة اليتيم بأن تمسح شعرة على رأسه أو دمعة على خده . ولئن كان التقصير فرديا في هذا الباب ، إلا أنه لن يكون عاما بحال من الأحوال . فالخير باق في الناس إلى يوم القيامة .
ختاما نقول : مهما قلنا أو فعلنا ، فلن ندرك أبدا كيف هو شعور من يكتشف في لحظة أنه بدون أب أو أم ؟ . ولن نعيش أبدا إحساس من أدرك في غفلة من المجتمع ، أنه مجهول الوالدين ؟. ولن نحصي مطلقا كم من الأطفال كتب عليهم ألا يروا آباءهم ؟ . ولكننا قد ننجح إذا صحت منا النية واشتدت الإرادة ، في أن نكون ممن يمسحون دموع هؤلاء الصغار ، ويبلسم جروح الكبار منهم ؟ .
فريق العمل في موقع أيتام ...(/4)
من يدخل الجنة
إعداد / د. جمال المراكبي الرئيس العام
عرضت شاشة إحدى الفضائيات حوارًا بين ممثلي الملل والنحل والأديان والفرق أسمته «حوار بلا أسوار» ولقد استوقفني في هذا الحوار سؤال وجّهه المذيع إلى المتحاورين جميعًا هو: من يدخل الجنة؟ وقد حاول بعض المتحاورين أن يجيب جوابًا عامًا فضفاضًا وحاول البعض الآخر أن يكون أكثر تحديدًا ووضوحًا وصراحة.
قال أحد ممثلي الكنيسة: من جاء بالمحبة لله وللناس دخل الجنة، مهما كانت عقيدته في الإله.
فقال له المذيع: وإن كان ملحدًا لا دين له؟
فقال: وإن كان ملحدًا أو لا دين له، وضرب المثل على ذلك بالزعيم الهندي المعروف غاندي فقال له المذيع: فلم تبذلون جهدكم في التبشير بالنصرانية إذا كنتم تعتقدون أن من جاء بالمحبة دخل الجنة سواء أكان مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا أو حتى من لا دين له؟ فلم يذكر جوابا مقنعًا.
أما الممثل الآخر للكنيسة فكان أكثر صراحة ووضوحًا فقال: من آمن بالمسيح المخلص دخل الجنة، ومن لم يؤمن بألوهية المسيح لم يدخل الجنة.
فقال له: هل عندكم نص في كتابكم يدل على هذا؟ فقال: إن الكنيسة قررت هذا، وما قررته الكنيسة فهو نص محكم.
فقال له المذيع، ولكن الكنيسة من قبل أعطت صكوك الغفران، ومنحت الملوك الحكم بمقتضى الحق الإلهي المقدس، حتى كفر أكثر النصارى بتسلط الكنيسة وفصلوا الدين عن الدولة فيما عرف بعد ذلك بالعلمانية.
فلم يقدم جوابًا شافيًا.
أما أحد المتحاورين من المسلمين فقال: لقد ذكر القرآن عن المسيح عيسى بن مريم أنه لن يدخل الجنة مشرك فقال: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة: 72].
ولم يذكر المحاور صدر الآية ربما استحيى من ممثل الكنيسة أن يلمزه بالكفر، لأن مطلع هذه الآية لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وفيها ردٌ صريح على ممثل الكنيسة الذي زعم أنه لن يدخل الجنة إلا من آمن بألوهية المسيح المخلص، وبيان أن ما يعتقده هؤلاء في المسيح إنما هو كفر صريح لن يدخل صاحبه الجنة أبدًا، بل كل من كفر بالله أو أشرك فمأواه النار، لأن الله عز وجل حرم عليه الجنة وقد حفزني هذا الحوار لأكتبه في هذه القضية.
من يدخل الجنة؟
الذي لا شك فيه أن أتباع كل دين أو ملة أو نحلة يزعمون أنهم أولى بالحق من غيرهم، وأنهم وحدهم المستحقون للجنة، وأن من عداهم فمن أهل النار لكن تبقى دعوى كل منهم مجرد أماني وأحلام كاذبة حتى يقيم الدليل عليها.
وقد قرر القرآن هذه الحقيقة في آيات بينات فقال المولى سبحانه: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [البقرة: 111-311].
فاليهود قوم متعصبون لعنصرهم يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم وحدهم أهل الجنة، ويكفرون بالمسيح عيسى بن مريم ويفخرون بتكذيبهم إياه وسعيهم في قتله وصلبه، ويرون أن النصارى ليسوا على شيء من الحق والنصارى في المقابل يرون اليهود أعداء المسيح الذين كذبوه وصلبوه وكفروا به فهم ليسوا على شيء من الحق بحال، وكل فرقة منهم تزعم أنها الأولى والأحق بالجنة، فاليهود قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، والنصارى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا.
والمولى سبحانه وتعالى يُسَفِّه أقوالهم ويدحض دعواهم ويتحداهم أن يأتوا بدليل واحد على ما يقولون فيقول تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فالجنة لا تنال بالأماني الكاذبة والدعاوي الباطلة وإنما يدخلها بفضل الله المؤمنون المتقون بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولهذا يخاطب المولى تبارك وتعالى المؤمنين أن يقولوا في دعوتهم قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
[البقرة: 631-731]
ولكن اليهود والنصارى كما أنكر بعضهم على بعض فقد اتفقوا على جحود ما أنزل الله على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم وكفروا به، رغم البشارات التي يحملونها في كتبهم وسعيهم في تحريفها وتبديلها، وحاولوا رد المؤمنين عن إيمانهم ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [البقرة: 901].(/1)
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون [آل عمران: 96].
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون [المائدة: 95].
القضية ليست بالدعاوي ولا بالأماني وإنما بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وعدم التفرقة بين رسل الله عز وجل، بل الإيمان بهم جميعًا دون تفرقة بين أحد منهم، والإيمان بأن الله يجازي بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عقوبة وخذلانًا فهو الحكم العدل الحكيم العليم، ولهذا حذر المسلمين من الأماني الكاذبة، فقال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء: 321-521].
فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولاشك أن العمل الصالح من الإيمان، فالإيمان عند أهل الحق قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ولا يدخل الجنة إلا من وفقه الله وهداه للإيمان.
هل الأعمال في مقابل الجنة؟
الجنة هي دار الكرامة ومحل الرحمة، قال المولى تبارك وتعالى للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» ولا يدخل أحد الجنة بمجرد العمل، بل يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله ورحمته، فهو سبحانه الذي هداهم للإيمان ووفقهم للأعمال الصالحة وقبلها منهم، وأدخلهم الجنة برحمته فهو سبحانه المتفضل أولاً وآخرًا له المنة وله الفضل وله الثناء الحسن.
وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل أحدًا عمله الجنة ـ قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمته، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا، وإن أحب الأعمال أدومها إلى الله عز وجل وإن قل»، وهذه روايات متعددة للخباري جمعتُ بعضها إلى بعض راجع أحاديث 93 ـ 3765 4646 ـ 7646 في الصحيح ولا تتعارض هذه الأحاديث مع قول الله عز وجل تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف: 34].
لأن العمل هذا ليس ثمنًا للجنة وإنما هو سبب للجنة والعمل والجزاء من فضل الله ورحمته، فلولا فضل الله ورحمته ما كان الإيمان وما كانت الهداية وما كان العمل وما كانت الجنة.
ولقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح على ما بينا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أم مات في أرضه التي ولد فيها قالوا: أفلا نبشر الناس؟
قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة فوقه عرش الرحمن منه تفجر أنهار الجنة». [رواه البخاري]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل». [متفق عليه]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من الشرق أو الغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». [البخاري ح6103]
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة
ومن فضل الله ورحمته أن وفق الله هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلها أكثر أهل الجنة كما جعله صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي وهذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب».
[متفق عليه واللفظ لمسلم]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة». [رواه مسلم]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع في الجنة لم يُصدق نبيٌ من الأنبياء ما صُدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد». [رواه مسلم]
ويقول الله عز وجل لجبريل: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».(/2)
[رواه مسلم]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة». [متفق عليه]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم». [رواه الترمذي وابن ماجه وسنده صحيح]
أقسام ودرجات للناس في الجنة
الجنة درجات يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري في أفق السماء وأهل الجنة يتفاوتون في الدرجات على حسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح، ويتفاوتون أيضا في الدخول إلى الجنة بغير حساب، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة ـ من أمته سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب، وأكثرهم من الجيل الأول كما قال المولى تبارك وتعالى: والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين
[الواقعة: 01-41]
وهم الذين وصفهم ربهم بقوله: «ومنهم سابق بالخيرات».
ويدخل هؤلاء الجنة متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، كما في رواية مسلم عن سهل بن سعد ويأتي بعد هؤلاء أصحاب اليمين المقتصدون، لم يسبقوا غيرهم ولكنهم يلحقونهم في الأجر والخير وهم كثيرون «ثلة من الأولين وثلة من الآخرين» وهؤلاء هم الذين تعرض عليهم الأعمال في الموقف ويحاسبون حسابًا يسيرًا، فيغفر الله لهم الذنوب ويبارك لهم في ثواب أعمالهم.
منهم من يقول الله عز وجل لملائكته: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرضونها عليه وهو مقر بها مشفق من كبارها، فيقول الله عز وجل لملائكته: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول العبد: ما لي لا أرى ذنوبًا قد ذكرت ها هنا، وذلك من فرحه بفضل الله، ومنهم من يستره ربه عن الخلق، ثم يعرض عليه ذنوبه حتى إذا كاد يذوب حياءً من ربه قال الله عز وجل: إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيأخذ صحيفة حسناته بيضاء.
ومنهم من يقف عند الميزان فتنشر له سجلات الذنوب حتى إذا أيقن أنه هلك، جاءت بطاقة فيها لا إله إلا الله فطاشت سجلات الذنوب.
ومنهم من يُخدش على الصراط ثم ينجو بفضل الله ورحمته فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [آل عمران: 581].
ثم يكون بعد هؤلاء قوم مؤمنون أوبقتهم أعمالهم فدخلوا نار جهنم يهذبون فيها وينقون، ثم يأمر الله تعالى بإخراجهم من النار فيقول: أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة.
فإذا دخل أهل الجنة الجنة زال عنهم كل بؤس وشقاء تعرضوا له في الدنيا أو في القبر أو في الوقف، حتى إنه ليؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا فيصبح في الجنة صبغة ويغمس فيها غمسة فيقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
وينادي الله على أهل الجنة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين.
فيقول: فإني أعطيكم أفضل من ذلك: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا».
ويؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت.
ويتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى ويكشف الحجاب ينظرون إلى وجه ذي الجلال والإكرام.
وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-32]
فاللهم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بوجهك الكريم أن تدخلنا الجنة بغير سابقة عذاب فنعوذ بوجهك أن نكون من أصحاب النار... اللهم آمين.(/3)
مناسك الحج وأخطاء الحجيج
إعداد : معاوية محمد هيكل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فإن الحج من أفضل العبادات وأجل الطاعات لأنه أحد أركان الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم والتي لا يتم دين العبد إلا بها والعبادة لا تكون مقبولة إلا بأمرين:
أحدهما: الإخلاص لله- عز وجل- بأن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، لا يقصد بها رياءً ولا سمعة ولا حظاً من حظوظ الدنيا.
الثاني: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها قولاً وعملاً، واتباع النبي لا يمكن تحقيقه إلا بمعرفة سنته صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المقال نوضح مناسك الحج وأخطاء بعض الحجيج فيه ليكون المسلم على بينة من أداء نسكه فنقول مستعينين بالله عز وجل.
أعمال الحج :
أولا: الإحرام
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. {رواه أبو داود والنسائي}
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم حدود شرعية توقيفية لا يحل لاحد تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة، فإن هذا من تعدي حدود الله وقد قال الله تعالي: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون {البقرة:229}، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن" {متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما} وهذا خبر بمعني الأمر.
والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، ولا يكون إلا بعد عقد الإحرام، فالإحرام من هذه المواقيت واجب على من أراد الحج أو العمرة إذا مر بها أو حاذاها سواء أتى من طريق البر أو البحر أو الجو.
أخطاء تقع في الإحرام من بعض الحجيج
1 بعض الناس يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو ما يحاذيه ويؤخرون الإحرام حتى ينزلوا جدة، وهذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتعد لحدود الله تعالي.
فإذا وقع الإنسان في هذا الخطأ فنزل جدة قبل أن يحرم فعليه أن يرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فيحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويوزعها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها ولا يهدي منها لغني لأنها بمنزله الكفارة.
2 بعض الرجال إذا أحرموا كشفوا عن أكتافهم على هيئة الاضطباع وهذا غير مشروع إلا في حالة "طواف القدوم أو طواف العمرة" وما عدا ذلك يكون الكتف مستورًا بالرداء في كل الحالات.
3 بعض النساء يعتقدن أن الإحرام يتخذ له لون خاص، كالأخضر أو الأبيض مثلا وهذا خطأ لأنه لا يتعين لون خاص للثوب الذي تلبسه المرأة في الإحرام وإنما تحرم بثيابها العادية إلا ثياب الزينة أو الثياب الضيقة أو الشفافة فلا يجوز لها لبسها لا في الإحرام ولا في غيره.
4 بعض النساء إذا مرت بالميقات تريد الحج أو العمرة وأصابها الحيض قد لا تحرم ظنًا منها أو من وليها أن الإحرام تشترط له الطهارة من الحيض فتتجاوز الميقات بدون إحرام والصواب أن تحرم وتفعل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت فإنها تؤخره إلى أن تطهر، كما وردت به السنة وإذا أخرت الإحرام وتجاوزت الميقات بدونه فإنها إن رجعت إلى الميقات وأحرمت منه فلا شيء عليها وإن لم ترجع فعليها دم لتركها واجبًا.
5 يظن بعض الناس أن المخيط الذي منع منه المحرم هو كل ما كان فيه خيوط وهذا فهم خاطئ بل المراد بالمخيط ما كان مفصلا على حجم العضو من رأس وذراع وقد وغيره.
ثانيًا: الطواف
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابتدأ الطواف من الحَجَر الأسود في الركن الشرقي الجنوبي من البيت، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحِجْر.
وأنه رمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أول ما قدم مكة.
وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويقبله واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه وقبَّل المحجن وهو راكب على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يشير إلى الركن يعني الحجر كلما مر به. وثبت عنه أنه كان يستلم الركن اليماني.
الأخطاء الفعلية التي تقع في الطواف
1- ابتداء الطواف من قبل الحجر أي فيما بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
2- طوافهم عند الزحام من داخل باب الحِجْر، وهذا خطأ عظيم لا يصح الطواف بفعله لأن الحقيقة أنه لم يطف بالبيت وإنما طاف ببعضه. حيث إن الحجر جزء من الكعبة.
3- الرمل في جميع الأشواط السبعة.(/1)
4- المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحَجَر لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المقاتلة والمشاتمة، فيحصل من الأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا البيت العتيق، وهذه المزاحمة تذهب الخشوع وتنسي ذكر الله تعالى، وهما من أعظم المقصود في الطواف.
5- اعتقادهم أن الحَجَر نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مسحوا بأيديهم على أجسامهم أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم، وكل هذا جهل وضلال، فالنفع والضر من الله وحده، وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر ويقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
6- استلامهم- أعني بعض الحجاج- لجميع أركان الكعبة وربما استلموا جميع جدران الكعبة وتمسحوا بها، وهذا جهل وضلال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من البيت سوى الركن اليماني والحجر الأسود.
الأخطاء القولية في الطواف
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر الله تعالي كلما أتى على الحجر الأسود. وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار {البقرة:201} وقال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله".
{رواه الترمذي كتاب الحج 902}
1- بعض الطائفين يخصص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء مخصوص لكل شوط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس فيه- يعني الطواف- ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له.
2 - ومما يفعله بعض الطائفين أن يجتمع جماعة علي قائد يطوف بهم ويلقنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه الجماعة بصوت واحد فتعلو الأصوات وتحصل الفوضى والتشويش على الطائفين.
ركعتا الطواف وأخطاء الحجيج فيهما
- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ:
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى {البقرة:125} فصلى ركعتين والمقام بينه وبين الكعبة، وقرأ في الركعة الأولي الفاتحة و قل يا أيها الكافرون وفي الثانية سورة الفاتحة و قل هو الله أحد.
والخطأ هنا إيذاء الطائفين بالإصرار على الصلاة عند المقام وفي هذا عسرٌ شديدٌ على الناس والركعتان تجزئان في أي مكان من المسجد الحرام.
ثالثًا: السعي بين الصفا والمروة
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين دنا من الصفا قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله، ثم رقي عليه حتى رأى الكعبة فاستقبل القبلة ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو، فوحد الله وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل ماشياً، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروه كما فعل على الصفا.
الأخطاء التي ترتكب في السعي
1- بعض الساعين إذا صعدوا الصفا والمروة كبروا ثلاث تكبيرات يرفعون أيديهم ويُومِئون بها كما يفعلون في الصلاة عند تكبيرة الإحرام ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- بعض الساعين يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي ما بين العلمين فقط والمشي في بقية المسعى، وأكثر ما يقع من ذلك إما جهلاً من فاعله أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي والله المستعان.
رابعًا: الوقوف بعرفة
ثبت عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكث يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم نزل فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم باذان واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتي موقفه ووقف وقال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف" {رواه مسلم كتاب الحج 1218} فلم يزل واقفاً مستقبل القبلة رافعاً يديه يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس وغاب قرصها فدفع إلى مزدلفة.
والأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج هي:
1- أنهم ينزلون خارج حدود عرفة ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك". {رواه أبو داود 1949}
2 أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية.(/2)
3- أنهم يستقبلون جبل عرفة عند الدعاء ولو كانت القبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلاف السنة فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
خامسا المبيت بمزدلفة وما يقع فيها من أخطاء
المطلوب من الحاج إذا وصل إلى مزدلفة أن يصلي المغرب والعشاء جمعًا ويبيت فيها فيصلي بها الفجر ويدعو إلى قُبيل طلوع الشمس. ثم ينصرف إلى منى، ويجوز لأهل الأعذار خاصة النساء وكبار السن والأطفال ومن يقوم بتولي شؤونهم الانصراف بعد منتصف الليل، ولكن يحصل من بعض الحجاج أخطاء في هذا النسك.
- فبعضهم لا يتأكد من حدود مزدلفة ويبيت خارجها.
- وبعضهم يخرج منها قبل منتصف الليل ولا يبيت فيها ومن لم يبت بمزدلفة من غير عذر فقد ترك واجبًا من واجبات الحج يلزمه به دم جبران مع التوبة والاستغفار.
سادسًا: رمي الجمرات
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات ضحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة. كل حصاة منها مثل حصى الخذف أو فوق الحمص، وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو واقف على راحلته: "هات، القط لي". قال: فلقطت له حصيات هن حصا الخذف فوضعهن في يده فقال: "بأمثال هؤلاء" مرتين وقال بيده، وأشار يحيي أنه رفعها وقال "وإياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسْهِل فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وروى أحمد وأبو دادود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله".
الأخطاء التي يفعلها بعض الحجاج عند الرمي هي:
1- اعتقادهم أنه لا بد من اخذ الحصى من مزدلفة، فيرهقون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها معهم في أيام منى وقد علم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- اعتقادهم أنهم برميهم الجمار إنما يرمون الشياطين ولهذا يطلقون اسم الشياطين على الجمار فيقولون: رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا ابا الشياطين يعنون بها الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر، ولذلك نرى ونسمع من حماقات الرماة الشيء المؤسف فنراهم يرمون بالحجارة الكبيرة والأحذية والأخشاب مصحوبًا ذلك بالسب والشتم وما لا يليق بالمناسك.
3 - ومن الناس من يرمي في غير وقت الرمي بأن يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق قبل زوال الشمس وهذا الرمي لا يجْزئ لأنه في غير الوقت الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم.
4 - رميهم الجمرات في غير محل الرمي وهو حوض الجمرة وذلك بأن يرمي الحصى من مكان بعيد فلا تقع في الحوض أو يضرب بها الشاخص فتطير بعيدًا وهذا الرمي لا يجْزئ لأنه لم يقع في الحوض والسبب في ذلك الجهل والعجلة وعدم المبالاة بالعبادة.
5- تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولي والثانية في أيام التشريق.
6- رميهم الحصى جميعاً دفعة واحدة، وهذا خطأ فاحش وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكف واحدة أكثر من حصاة لم يحسب له سوى حصاة واحدة.
7- تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على الرمي ليسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام ومشقه العمل، وهذا مخالف لما أمر الله تعالي به من إتمام الحج حيث يقول سبحانه: وأتموا الحج والعمرة لله {البقرة: 196} فالواجب على القادر أن يباشر الرمي بنفسه ويصبر على المشقة، فليتق الحاج ربه وليتم نسكه كما أمره الله تعالي به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
سابعًا: طواف الوداع
ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِفَ عن الحائض " وفي لفظ لمسلم عنه قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون أخر عهده بالبيت" ورواه أبو داود بلفظ: "حتى يكون أخر عهده الطواف بالبيت".
والخطأ الذي يقع من بعض الناس هنا:
1- نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات فيطوفون الوداع ويرجعون إلى منى فيرمون الجمرات، ثم يسافرون إلى بلادهم من هناك، وهذا لا يجوز لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر عهد الحجاج بالبيت، فإن رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميع مناسك الحج، وقد قال: "خذوا عني مناسككم".
{رواه مسلم 1297}(/3)
2- مكثهم بمكة بعد طواف الوداع فلا يكون آخر عهدهم بالبيت، وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبينه لأمته بفعله، ولكن رخص أهل العلم في الإقامة بعد طواف الوداع للحاجة إذا كانت عارضة كما لو أقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها أو حَضرت جنازة فصلى عليها، أو كان له حاجة تتعلق بسفره كشراء متاع وانتظار رفقة ونحو ذلك، فمن أقام بعد طواف الوداع إقامة غير مرخص فيها وجبت عليه إعادته.
3- خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع مولين وجوههم للكعبة وأظهرهم للطريق يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلاف السنة بل هو من البدع التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكون في عباداته متبعاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته كما قال تعالي: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم {آل عمران: 31}.
واتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما يكون في أفعاله يكون كذلك في متروكاته. فمتي وجد مقتضي الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه، فلا يجوز إحداثه في دين الله تعالي ولو أحبه الإنسان وهواه. والحمد لله رب العالمين(/4)
مناسك الحج وأخطاء الحجيج
إعداد : معاوية محمد هيكل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فإن الحج من أفضل العبادات وأجل الطاعات لأنه أحد أركان الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم والتي لا يتم دين العبد إلا بها والعبادة لا تكون مقبولة إلا بأمرين:
أحدهما: الإخلاص لله- عز وجل- بأن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، لا يقصد بها رياءً ولا سمعة ولا حظاً من حظوظ الدنيا.
الثاني: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها قولاً وعملاً، واتباع النبي لا يمكن تحقيقه إلا بمعرفة سنته صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المقال نوضح مناسك الحج وأخطاء بعض الحجيج فيه ليكون المسلم على بينة من أداء نسكه فنقول مستعينين بالله عز وجل.
أعمال الحج :
أولا: الإحرام
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. {رواه أبو داود والنسائي}
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم حدود شرعية توقيفية لا يحل لاحد تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة، فإن هذا من تعدي حدود الله وقد قال الله تعالي: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون {البقرة:229}، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن" {متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما} وهذا خبر بمعني الأمر.
والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، ولا يكون إلا بعد عقد الإحرام، فالإحرام من هذه المواقيت واجب على من أراد الحج أو العمرة إذا مر بها أو حاذاها سواء أتى من طريق البر أو البحر أو الجو.
أخطاء تقع في الإحرام من بعض الحجيج
1 بعض الناس يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو ما يحاذيه ويؤخرون الإحرام حتى ينزلوا جدة، وهذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتعد لحدود الله تعالي.
فإذا وقع الإنسان في هذا الخطأ فنزل جدة قبل أن يحرم فعليه أن يرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فيحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويوزعها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها ولا يهدي منها لغني لأنها بمنزله الكفارة.
2 بعض الرجال إذا أحرموا كشفوا عن أكتافهم على هيئة الاضطباع وهذا غير مشروع إلا في حالة "طواف القدوم أو طواف العمرة" وما عدا ذلك يكون الكتف مستورًا بالرداء في كل الحالات.
3 بعض النساء يعتقدن أن الإحرام يتخذ له لون خاص، كالأخضر أو الأبيض مثلا وهذا خطأ لأنه لا يتعين لون خاص للثوب الذي تلبسه المرأة في الإحرام وإنما تحرم بثيابها العادية إلا ثياب الزينة أو الثياب الضيقة أو الشفافة فلا يجوز لها لبسها لا في الإحرام ولا في غيره.
4 بعض النساء إذا مرت بالميقات تريد الحج أو العمرة وأصابها الحيض قد لا تحرم ظنًا منها أو من وليها أن الإحرام تشترط له الطهارة من الحيض فتتجاوز الميقات بدون إحرام والصواب أن تحرم وتفعل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت فإنها تؤخره إلى أن تطهر، كما وردت به السنة وإذا أخرت الإحرام وتجاوزت الميقات بدونه فإنها إن رجعت إلى الميقات وأحرمت منه فلا شيء عليها وإن لم ترجع فعليها دم لتركها واجبًا.
5 يظن بعض الناس أن المخيط الذي منع منه المحرم هو كل ما كان فيه خيوط وهذا فهم خاطئ بل المراد بالمخيط ما كان مفصلا على حجم العضو من رأس وذراع وقد وغيره.
ثانيًا: الطواف
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابتدأ الطواف من الحَجَر الأسود في الركن الشرقي الجنوبي من البيت، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحِجْر.
وأنه رمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أول ما قدم مكة.
وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويقبله واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه وقبَّل المحجن وهو راكب على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يشير إلى الركن يعني الحجر كلما مر به. وثبت عنه أنه كان يستلم الركن اليماني.
الأخطاء الفعلية التي تقع في الطواف
1- ابتداء الطواف من قبل الحجر أي فيما بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
2- طوافهم عند الزحام من داخل باب الحِجْر، وهذا خطأ عظيم لا يصح الطواف بفعله لأن الحقيقة أنه لم يطف بالبيت وإنما طاف ببعضه. حيث إن الحجر جزء من الكعبة.
3- الرمل في جميع الأشواط السبعة.(/1)
4- المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحَجَر لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المقاتلة والمشاتمة، فيحصل من الأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا البيت العتيق، وهذه المزاحمة تذهب الخشوع وتنسي ذكر الله تعالى، وهما من أعظم المقصود في الطواف.
5- اعتقادهم أن الحَجَر نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مسحوا بأيديهم على أجسامهم أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم، وكل هذا جهل وضلال، فالنفع والضر من الله وحده، وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر ويقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
6- استلامهم- أعني بعض الحجاج- لجميع أركان الكعبة وربما استلموا جميع جدران الكعبة وتمسحوا بها، وهذا جهل وضلال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من البيت سوى الركن اليماني والحجر الأسود.
الأخطاء القولية في الطواف
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر الله تعالي كلما أتى على الحجر الأسود. وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار {البقرة:201} وقال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله".
{رواه الترمذي كتاب الحج 902}
1- بعض الطائفين يخصص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء مخصوص لكل شوط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس فيه- يعني الطواف- ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له.
2 - ومما يفعله بعض الطائفين أن يجتمع جماعة علي قائد يطوف بهم ويلقنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه الجماعة بصوت واحد فتعلو الأصوات وتحصل الفوضى والتشويش على الطائفين.
ركعتا الطواف وأخطاء الحجيج فيهما
- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ:
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى {البقرة:125} فصلى ركعتين والمقام بينه وبين الكعبة، وقرأ في الركعة الأولي الفاتحة و قل يا أيها الكافرون وفي الثانية سورة الفاتحة و قل هو الله أحد.
والخطأ هنا إيذاء الطائفين بالإصرار على الصلاة عند المقام وفي هذا عسرٌ شديدٌ على الناس والركعتان تجزئان في أي مكان من المسجد الحرام.
ثالثًا: السعي بين الصفا والمروة
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين دنا من الصفا قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله، ثم رقي عليه حتى رأى الكعبة فاستقبل القبلة ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو، فوحد الله وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل ماشياً، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروه كما فعل على الصفا.
الأخطاء التي ترتكب في السعي
1- بعض الساعين إذا صعدوا الصفا والمروة كبروا ثلاث تكبيرات يرفعون أيديهم ويُومِئون بها كما يفعلون في الصلاة عند تكبيرة الإحرام ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- بعض الساعين يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي ما بين العلمين فقط والمشي في بقية المسعى، وأكثر ما يقع من ذلك إما جهلاً من فاعله أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي والله المستعان.
رابعًا: الوقوف بعرفة
ثبت عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكث يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم نزل فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم باذان واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتي موقفه ووقف وقال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف" {رواه مسلم كتاب الحج 1218} فلم يزل واقفاً مستقبل القبلة رافعاً يديه يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس وغاب قرصها فدفع إلى مزدلفة.
والأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج هي:
1- أنهم ينزلون خارج حدود عرفة ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك". {رواه أبو داود 1949}
2 أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية.(/2)
3- أنهم يستقبلون جبل عرفة عند الدعاء ولو كانت القبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلاف السنة فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
خامسا المبيت بمزدلفة وما يقع فيها من أخطاء
المطلوب من الحاج إذا وصل إلى مزدلفة أن يصلي المغرب والعشاء جمعًا ويبيت فيها فيصلي بها الفجر ويدعو إلى قُبيل طلوع الشمس. ثم ينصرف إلى منى، ويجوز لأهل الأعذار خاصة النساء وكبار السن والأطفال ومن يقوم بتولي شؤونهم الانصراف بعد منتصف الليل، ولكن يحصل من بعض الحجاج أخطاء في هذا النسك.
- فبعضهم لا يتأكد من حدود مزدلفة ويبيت خارجها.
- وبعضهم يخرج منها قبل منتصف الليل ولا يبيت فيها ومن لم يبت بمزدلفة من غير عذر فقد ترك واجبًا من واجبات الحج يلزمه به دم جبران مع التوبة والاستغفار.
سادسًا: رمي الجمرات
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات ضحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة. كل حصاة منها مثل حصى الخذف أو فوق الحمص، وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو واقف على راحلته: "هات، القط لي". قال: فلقطت له حصيات هن حصا الخذف فوضعهن في يده فقال: "بأمثال هؤلاء" مرتين وقال بيده، وأشار يحيي أنه رفعها وقال "وإياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسْهِل فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وروى أحمد وأبو دادود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله".
الأخطاء التي يفعلها بعض الحجاج عند الرمي هي:
1- اعتقادهم أنه لا بد من اخذ الحصى من مزدلفة، فيرهقون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها معهم في أيام منى وقد علم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- اعتقادهم أنهم برميهم الجمار إنما يرمون الشياطين ولهذا يطلقون اسم الشياطين على الجمار فيقولون: رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا ابا الشياطين يعنون بها الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر، ولذلك نرى ونسمع من حماقات الرماة الشيء المؤسف فنراهم يرمون بالحجارة الكبيرة والأحذية والأخشاب مصحوبًا ذلك بالسب والشتم وما لا يليق بالمناسك.
3 - ومن الناس من يرمي في غير وقت الرمي بأن يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق قبل زوال الشمس وهذا الرمي لا يجْزئ لأنه في غير الوقت الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم.
4 - رميهم الجمرات في غير محل الرمي وهو حوض الجمرة وذلك بأن يرمي الحصى من مكان بعيد فلا تقع في الحوض أو يضرب بها الشاخص فتطير بعيدًا وهذا الرمي لا يجْزئ لأنه لم يقع في الحوض والسبب في ذلك الجهل والعجلة وعدم المبالاة بالعبادة.
5- تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولي والثانية في أيام التشريق.
6- رميهم الحصى جميعاً دفعة واحدة، وهذا خطأ فاحش وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكف واحدة أكثر من حصاة لم يحسب له سوى حصاة واحدة.
7- تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على الرمي ليسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام ومشقه العمل، وهذا مخالف لما أمر الله تعالي به من إتمام الحج حيث يقول سبحانه: وأتموا الحج والعمرة لله {البقرة: 196} فالواجب على القادر أن يباشر الرمي بنفسه ويصبر على المشقة، فليتق الحاج ربه وليتم نسكه كما أمره الله تعالي به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
سابعًا: طواف الوداع
ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِفَ عن الحائض " وفي لفظ لمسلم عنه قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون أخر عهده بالبيت" ورواه أبو داود بلفظ: "حتى يكون أخر عهده الطواف بالبيت".
والخطأ الذي يقع من بعض الناس هنا:
1- نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات فيطوفون الوداع ويرجعون إلى منى فيرمون الجمرات، ثم يسافرون إلى بلادهم من هناك، وهذا لا يجوز لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر عهد الحجاج بالبيت، فإن رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميع مناسك الحج، وقد قال: "خذوا عني مناسككم".
{رواه مسلم 1297}(/3)
2- مكثهم بمكة بعد طواف الوداع فلا يكون آخر عهدهم بالبيت، وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبينه لأمته بفعله، ولكن رخص أهل العلم في الإقامة بعد طواف الوداع للحاجة إذا كانت عارضة كما لو أقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها أو حَضرت جنازة فصلى عليها، أو كان له حاجة تتعلق بسفره كشراء متاع وانتظار رفقة ونحو ذلك، فمن أقام بعد طواف الوداع إقامة غير مرخص فيها وجبت عليه إعادته.
3- خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع مولين وجوههم للكعبة وأظهرهم للطريق يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلاف السنة بل هو من البدع التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكون في عباداته متبعاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته كما قال تعالي: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم {آل عمران: 31}.
واتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما يكون في أفعاله يكون كذلك في متروكاته. فمتي وجد مقتضي الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه، فلا يجوز إحداثه في دين الله تعالي ولو أحبه الإنسان وهواه. والحمد لله رب العالمين(/4)
مناقشة ابن عباس للخوارج
دروس وعبر
معن عبد القادر
أصيبت الأمة الإسلامية في القرون المتأخرة في أعز ما تملك وهو عقيدتها الصافية النقية التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله عز وجل، وسار عليها صحابته رضوان الله عليهم، وتبعهم في ذلك ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، ولا تزال طائفة من الأمة سائرة عليها كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه المصيبة العظيمة لها جذور تاريخية ترجع إلى القرون الأولى. فقد بدأت هذه المصيبة بمقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- على يد مجوسي حاقد، ثم قتل ذي النورين عثمان بن عفان --رضي الله عنه-، بمؤامرة دنيئة، ثم ظهر القول بنفي القدر، ثم أوقدت الفتنة بين المسلمين، ودار القتال بينهم، ثم خرجت الخوارج بمقولة شنيعة، ثم ظهر التشيع، وازداد أهله غلواً وبعداً عن الدين، وانتشر الرفض في بقاع شتى من العالم الإسلامي.
وفي كل مرة كانت هذه الانحرافات تجد من يتصدى لها من الرجال الأفذاذ الذين جمعوا بين العلم والعمل، والجهاد في سبيل الله، وكان هؤلاء يعملون على تنقية الأجواء
الإسلامية من كل انحراف ومن كل دخيل.
وفي الأسطر التالية أثر يتحدث عن نموذج لانحراف خطير ظهر في هذه الأمة، وكيف تصدى لهذا الانحراف رجل تخرج من مدرسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي تخرج منها أعظم الرجال.
وهذا الأثر فيه فوائد شتى، لم يكن المقصود استخراجها جميعاً، بل ترك ذلك للقارئ الكريم، وإنما حسن التنبيه على بعض فوائده على وجه الاختصار.
وطريقة عرض هذا الأثر هي: عرض جميع رواياته التي وقفت عليها ومن ثم إدراج الزيادات على السياق الأصلي، وقد أسوق نصًا غير النص الأصلي - في بعض المواطن - لأن في ألفاظه زيادة فائدة.
وسياق الرواية الأصلي هو لمتقدم المخرجين لهذا الأثر من أصحاب مصنفات الحديث.
وهذا نص الأثر:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار - على حدتهم - وهم ستة آلاف وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون. فلما كان ذات يوم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين: أبرد عن الصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك. قلت: كلا إن شاء الله تعالى وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا. قال: فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا. قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. قال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن (*) الإبل، وجوههم معلمة من آثار السجود، عليهم قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر. قال: فدخلت. فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس! ما جاء بك؟ وما هذه الحلة، قال: قلت ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من هذه الحلل، ونزلت ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق)) قالوا: فما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، وليس فيكم منهم أحد، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله تعالى يقول: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))، وقال رجلان أو ثلاثة لو كلمتهم.
قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.
قال: وما هنّ؟
قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: ((إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ))، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: وقاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون [ ينقض قولكم ] أترجعون؟
قالوا: نعم.
قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ))، إلى قوله: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)). وقال في المرأة وزوجها: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا)). أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بضع امرأة. وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.(/1)
قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.
قال: أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ))، فأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه؛ فنظر بعضهم إلى بعض.
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشًا يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم كتابًا فكاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان. فقال: اكتب يا علي هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله حقًا وإن كذبتموني، اكتب يا على: محمد بن عبد الله ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أفضل من علي -رضي الله عنه- وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه. أخرجت من هذه؛ قالوا: اللهم نعم. فرجع منهم ألفان، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا على ضلالة.
هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف ، باب ذكر رفع السلام 10/157 رقم 18678) ومن طريقه - بنفس اللفظ تقريبًا -أخرجه أبو نعيم في (الحلية 1/318)، وأخرجه البيهقي في(السنن الكبرى 8/179)، وابن عبد البر القرطبي في (جامع بيان العلم وفضله 2 / 103 طبعة المنيرية)، ويعقوب بن سفيان البسوي في (المعرفة والتاريخ 1/522)، والحاكم في (المستدرك 2/150-152)، وأخرج بعضه الإمام أحمد في(المسند 1/342،5/67 رقم 3187، طبعة شاكر) كلهم أخرجوه من طريق عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل الحنفي ثنا ابن عباس به، ولكل منهم لفظ مختلف وزيادات أثبتنا منها ما كان فيه زيادة معنى.
وهذا الأثر نسبه الهيثمي في (مجمع الزوائد) إلى الطبراني وأحمد في المسند، وقال: رجالهما رجال الصحيح، وأشار إليه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 7 / 282)، وابن الأثير في (الكامل) وابن العماد الحنبلي في (الشذرات)، وذكر غيرهم سياقات أخر لهذه القصة ولكنها عن غير ابن عباس من غير هذا الطريق، وإنما مقصودنا رواية ابن عباس فقط..
وقال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند 5 / 7 6 رقم 3187): إسناده صحيح. اهـ
أصول ودروس مستفادة من الأثر:
أولاً: لقد أتى الخوارج من قبل فهمهم السقيم لنصوص الشرع، ويرجع ضلالهم إلى أسباب أهمها:
1- فهم النصوص ببادئ الرأي، وسطحية ساذجة، دون التأمل والتثبت من مقصد الشارع من النصوص، فوقعوا في تحريف النصوص وتأويلها عن معناها الصحيح.
2-أخذهم ببعض الأدلة دون بعض، فيأخذون بالنص الواحد، ويحكمون على أساس فهمهم له دون أن يتعرفوا على باقي النصوص الشرعية في المسألة نفسها، فضربوا بعض النصوص ببعض (وبهذا أسكتهم ابن عباس -رضي الله عنه-، فقد كان يأتيهم بباقي الأدلة في الموضوع نفسه، فلا يجدون لذلك جواباً).
وسبب ضلال الخوارج هو سبب ضلال طوائف عديدة من المسلمين. يقول الشاطبي رحمه الله أن أصل الضلال راجع إلي (الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم)(1).
ثانياً: الحرص على وحدة المسلمين وجماعتهم، وتوحد صفهم، وهذا ظاهر من موقف على -رضي الله تعالى عنه- ابتداء حين (جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين: إن القوم خارجون عليك فيقول: دعهم حتى يخرجوا، فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوا وسوف يفعلون) فكان -رضي الله عنه- حريصًا على أن لا يأتي إلى الخوارج بشيء من القتال ونحوه يفرق به المسلمين، ويضعف شوكتهم، ما لم يخرجوا هم عليه، أو يؤذوا المسلمين ببدعتهم.
وهذا الأصل متمثل أيضًا في موقف ابن عباس -رضي الله عنهما- في حرصه على الخروج إليهم وانتدابه نفسه للتفاهم معهم، وتفنيد شبهتهم وإرجاعهم إلى الحق.
فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الامتناع عما يضعف شوكتهم، ومن بذل الجهد في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ولابد أن نُتْبِع هذا الأصل بأصل آخر وهو:
ثالثًا: ولعله من أصل الأصول وأعظمها لكثرة ما تشتد إليه حاجة المسلمين ألا وهو (السبيل إلى وحدة المسلمين وجمع صفهم).
إن وحدة المسلمين أصبحت مقولة يقولها كل مسلم، وكل جماعة، فالكل ينادي بالوحدة والكل يزعم أنه ساعٍ إليها حريص عليها، ولكن ما هو السبيل الحق إلى تحقيق هذه الوحدة، هنا موضع الخلاف، وهنا تزل الأقدام، وتضل الأفهام، وتنحرف الأقلام.(/2)
إن وحدة المسلمين مطلب شرعي ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه شرعية. إن وحدة المسلمين يجب أن تكون عبادة نتقرب بها إلى الله عز وجل، والله لا يعبد إلا بما شرع، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو رد كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
إن وحدة المسلمين بمعناها الشرعي الصحيح، تعني أن يعودوا جميعًا إلى الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على فهم السلف الصالح، هكذا وهكذا - فقط - يمكن أن نتحد، وهذا هو السبيل الوحيد لوحدة الصف، وهذا الذي سلكه ابن عباس وأقره عليه على -رضي الله تعالى عنهما-.
ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى الخوارج حتى يعيدهم إلى الصف الإسلامي، فبين لهم أولاً وقبل أن يناظرهم المنهج الصحيح، فقال: (أرأيت إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- مالا تنكرون ...) إذن هو الكتاب والسنة والعودة إليهما، وقد كان صرح لهم قبل ذلك بالفهم الذي ينبغي أن نفيء إليه إذا اختلفت أفهامنا فقال: (جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهره، عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله) الله أكبر! ما أنصع هذا المنهج وما أشد وضوحه، الرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
وبعد أن بين لهم المنهج شرع يدحض حجتهم، ويفند شبهتهم، ويوضح فساد منهجهم فمن عاد منهم وتنازل عن معتقداته وآرائه، واعتقد اعتقاد جماعة المسلمين فقد عاد إلى الصف، ومن أبى وأصر على معتقده فهو خارج على الصف ولا سبيل للوحدة معه، بل عندما آثار بقية الخوارج الفتنة، قام إليهم علي -رضي الله عنه- فقاتلهم ولم يتحرج في ذلك.
إن السبيل إلى وحدة المسلمين هو الاتحاد على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة وكل سبيل آخر للوحدة لا تقره الشريعة، ولا يجوز لنا - ونحن عباد الله سلمنا أمرنا إليه - أن نجعل منها صنمًا نستجيز من أجله كل وسيلة غير مشروعة.
إن الوحدة التي تنشأ عن ضم الطوائف المختلفة في الأصول في دائرة واحدة، وإعطائها مسمى واحد على اختلاف عقائدها، هي وحدة غير شرعية، وإن الصف الذي ينشأ عنها ليس مرصوصًا.
ولنتأمل في قول الله عز وجل: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً))، ثم قال: ((وَلاَ تَفَرَّقُوا))، يقول الشاطبي رحمه الله تعليقًا على الآية: (تبين أن التأليف إنما يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلابد من التفرق وهو معنى قول الله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)) (2).
إذن فتضييع الأصول من أجل الوحدة سبيل غير شرعي ، بل هو فوق ذلك عمل لا يقره العقل، وإليكم التوضيح.
إن التفرق بين المسلمين حاصل ولابد، فكلام الله حق ((وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) وكلام رسوله حق (تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) ... وقال:(سألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) فإذن فإنه يستحيل في الواقع أن يزول الاختلاف تمامًا وأي مسلم يوقن بمعاني هذه النصوص، ليس عنده طمع في ذلك فهذا أمرٌ قضى الله به، ولكنه ستبقى طائفة على الحق.
فإن كان الأمر كذلك فهل يعقل أن نفرط في أصولنا-ونحن معاقبون إن فرطنا - من أجل السعي في حصول أمر مستحيل.
إن كل مسلم مخلص صادق غيور يحزن على حال المسلمين، ويغتم له ويتأسف عليه أسفًا شديدًا، ولكن ليس الحل أبدًا أن نفرط في الأصول من أجل تحقيق أمر قد قرر الشارع أنه لا يكون، كيف وقد أمرنا الله بقتال طائفة من المسلمين إن بغت وهل يكون القتال إلا تفرقة؟ بل وفيه ما هو أشد من ذلك، ولكنه أمر الله ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)).
وعذرًا أخي القارئ إن أطلنا في هذا الأصل، فلقد فحش فيه الخطأ والانحراف.
رابعًا: الحكم في تقييم الرجال: إن أحوال الخوارج من كثرة العبادة والاجتهاد فيها غير خافية على أحد، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم.. ) وقال ابن عباس في وصفهم كما في هذا الأثر: (...لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود...) ومع كل هذا فلقد أتوا ببدعة خطيرة، ووضعوا بذور الخلاف بين المسلمين، وليس من مسلم سليم العقيدة إلا ويذكرهم في معرض الذم، ولم يذكرهم العلماء في مصنفاتهم إلا للتحذير من بدعتهم وبيان فساد معتقدهم دون أدنى فخر واعتزاز بعبادتهم.(/3)
إن المنهج الإسلامي الواضح، يدلنا على أنه يجب تقييم الرجال أولاً من منطلق معتقداتهم وتصوراتهم، وجميع السمات الأخرى - إذا أقرها الشرع - تأتي بعد ذلك لا قبله. فلو انطلقنا في الحكم على الخوارج من خلال شدة اجتهادهم في العبادة، وجعلنا ذلك هو المقياس الأول في الحكم عليهم، لكان ينبغي أن نجلهم ونحترمهم، فنرفع درجتهم حتى فوق درجة الصحابة، إذ يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، لصحابته في شأن الخوارج: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم) فكم يكون هذا التقييم سخيفًا ؟
ولكن الأمر يختلف تمامًا، ويعود إلى نصابه الصحيح، عندما يحكم عليهم من خلال معتقداتهم وتصوراتهم فنرى أنهم قد ابتدعوا في دين الله بدعة خطيرة فاحشة، فوضعوا بذور الخلاف والفتنة.
إن الاعتقاد الصحيح، يليه العمل الصالح، هو الذي يميز المسلم الحق المنتمي إلى أهل السنة والجماعة، أما كل الاعتبارات الأخرى فإنه يشترك فيها المسلم الحق مع غيره من أهل البدع والضلال. فلا ينبغي أن تكون معيارًا أساسيًا.
ونتيجة لانحراف هذا الأصل عند كثير من الإسلاميين -فضلاً عن عامة المسلمين -وجدنا من غالى في الثناء على جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وذلك أنه حكم عليهم من منطلق ظنه بأن لهم جهدًا مشكورًا في نشر الإسلام والدفاع عنه، ولم يضع للاعتبار الأساسي وزنًا، فلم يضع في حسابه أن الأول كان شيعيًا، وأنه كان عضوًا بارزًا في الماسونية ومؤسسًا لبعض فروعها في البلاد العربية، وأن الثاني - مع إخلاصه في الدفاع عن الإسلام - قد أوَّل المعجزات وقدم العقل على النقل، وكانت له علاقة مشبوهة مع المستشرقين.
لقد شاع تعظيم بعض الرجال وتقديسهم على ما هو أقل من ذلك، مثل قدمه في مجال الدعوة، أو كثرة الأفراد الذين اهتدوا على يديه، أو شدة التعذيب الذي لاقاه من الطغاة، أو طول فترة السجن في زنزاناتهم. ولا نعني بكلامنا أبداً أن مثل تلك الأعمال لا وزن لها، بل لها فضل عظيم إن صح الأصل الأول، وحتى لو لم يصح فنحن نعترف بالحق، ونثبت الفضل لكل صاحب فضل، ولكن المحظور هو الانسياق وراء العواطف، فنعظم الرجال ونتحمس لهم، ونشهد بعدلهم وصدقهم ونزاهتهم، بل وكثيًرا ما نسمع من يشهد لهم بالجنة !! لأجل اعتبار من تلك الاعتبارات.
خامسًا: إن تبني الخوارج لموقفهم ابتداء لم يكن عن تثبت وتمحيص ونظر ولذلك فقد زالت شبهتهم، ودحضت حجتهم بعد دقائق معدودة من بداية المناظرة، وإن كان القسم من الخوارج الذي فاؤوا إلى الحق يمدحون على ذلك لتجردهم وإخلاصهم، وعودتهم إلى الجادة الصحيحة حينما تبين لهم ذلك دون مماراة ولا مماطلة، وإن كانوا يمدحون على ذلك فإنهم ينتقدون على سرعة تبنيهم للفكرة ابتداء دون تثبت وتمحيص.
إن الذين لا يعتنقون الفكرة عن اقتناع عميق بالفكرة ذاتها، وبعد تثبت من أدلتها الشرعية الصحيحة بمنهج سليم، يكثرون التنقل.
إن الدعوة المعاصرة تواجه تحديات ضخمة، ومشاكل عدة، من الداخل والخارج، فما لم يكن أصحابها على قناعة شرعية قوية بأفكارهم، وبأدلتها فإنه لا يؤمن عليهم التذبذب بين الصف والصف إن بقي عندهم الحماس للإسلام، أو الانتكاس إن فقدوا حماسهم لدينهم.
وإنه لمن المؤسف حقًا أن نرى كثيًرا من أتباع الدعوات، أذهانهم خواء من كل فكرة أصيلة، مليئة بتاريخ دعوتهم وسيرة عظمائهم فقط هي زادهم في الطريق، ودافعهم إلى العمل، فنصيحتنا إلى كل مسلم مخلص، أن يستوثق من أصوله، ويطلب عليها الأدلة الشرعية وأن يفهمها بالمنهج الصحيح، وأن يفتش بتجرد عن قناعته بالأفكار التي يؤمن بها ويدعو إليها، وينظر هل هي أصيلة أم أنها موجودة بوجود المؤثر والمرغب، فإن زال المؤثر زال التأثير، ولنأخذ درسًا عظيمًا من الصحابي الجليل كعب بن مالك- أحد
المخلفين الثلاثة-وقد هجرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك المسلمون السلام عليهم، ثم جاءته الدعوة للجوء إلى من يعززه ويكرمه(3) فلم يتذبذب أو يتردد، بل قذف رسالة ملك غسان إلى التنور لشدة إيمانه بأنه على الحق، ونصيحة لإخواننا الدعاة: إن الذي يتبنى فكرة بسرعة ولظروف معينة عرضة لأن يتخلى عنها بنفس السرعة، لظروف أخرى.
سادسًا: إن مخالفة ابن عباس التامة للخوارج في جميع الأفكار والتصورات لم تمنعه من العدل في القول، فقد كان بمقدوره السكوت لكن العدل مع المخالفين جعله يصفهم بما وجد فيهم -وإن كان في هذا الوصف مدح لهم -قال:(فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم في العبادة...) فعلى العاملين في حقول الدعوة إلى الله الاتصاف بالعدل مع مخالفيهم، وعدم الامتناع من ذكر محاسنهم، بل ويحرصوا على أن يستفيدوا منها(4)
سابعًا: وما كان هذا الدرس بحاجة إلى أن يذكر لظهوره ووضوحه وكثرة الأدلة عليه، لولا أن التفريط فيه قد وقع من كثير من العاملين للإسلام فضلاً عن عامة الناس، ألا وهو الحرص على صلاة الجماعة.(/4)
ولقد سمعنا حوادث عديدة عمن يفرطون في حضور الصلاة جماعة مع المسلمين في المساجد بحجة انشغالهم بطلب العلم، أو ببعض البحوث الهامة، أو أنه وإخوانه يتداولون أمرًا يهم المسلمين، فيعتذرون بذلك عن تفويتهم الجماعة.
فعلى هؤلاء وغيرهم، أن يتأملوا في حال ابن عباس، وقد انتدب نفسه لمهمة عظيمة، لا شك في أن فيها مصلحة للمسلمين، ومع ذلك فحرصه على صلاة الجماعة شديد إذ يقول لعلي -رضي الله عنه-: (أبرد عن الصلاة، فلا تفتني حتى آتي القوم فأكلمهم...).
فهل نفقه هذا الأمر، ونعلم أن التمسك بأحكام الدين جميعها واجب على كل فرد، وهو من أبرز سمات المسلم، وهو من تعظيم حرمات الله، فلم نتهاون ونتساهل في أوامر الله يا عباد الله؟
ثامنًا: ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل، من أصحاب المنهج الصحيح ألا ييأسوا من عودة الطوائف المنحرفة إلى المنهج القويم ممن أمعنوا في الضلال، فهاهم الخوارج على شدة بدعتهم وتمسكهم بها (حتى أن عبد الرحمن بن ملجم -أحدهم - قد قتل عليًا تقربًا إلى الله بقتله) ومع ذلك فقد عاد منهم كثير إلى الحق بعد أن تبين لهم، فلا ينبغي أن نيأس من عودة تلك الطوائف المنحرفة إلى الحق، خاصة وأن كثيرًا من المنتسبين إليها هم من الأتباع حجبهم مشايخهم ومتبوعوهم عن الاستماع للمخلصين خوف تذبذب موقفهم وتخليهم عنهم، فلم يصل الحق إلى كثير من الأتباع حتى تحصل لهم المقارنة بينه وبين ما هم عليه.
فعلى الدعاة إلى الله أن يحرصوا على الوصول إلى الأتباع بعيدًا عن الملأ والمشايخ والقادة.
هذا، ولا يزال في القصة دروس عظيمة، منها أسلوب المناظرة والجدل مع أهل البدع ولعلنا نفرد هذا في مقال خاص، ونشير في الختام إلى بعض الدروس الأخرى الهامة، التي لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولعل في الإشارة إليها كفاية لأولي الألباب.
ففيها أن ينتدب الكفء نفسه للمهام وأن الإخلاص وحده لا يكفي في صحة العمل، وأن على الداعية أن يغشى الناس في مجالسهم، وعليه أن لا يستثار لانتقاد ذاته، وفيها أيضًا استئذان الفرد قائده إذا هم بفعل ما.
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب.
الهوامش:
* ثَفِن: مفردها ( ثفنة) بكسر الفاء: وهي ما ولى الأرض من كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، ويحصل فيه غلظ من آثار البروك، وتجمع أيضًا على ثفنات. (النهاية 1/215).
1- الاعتصام للشاطبي 2/182.
2- الاعتصام للشاطبي 2/192.
3- اقرأ القصة كاملة في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك 8/113 رقم 4418 الطبعة السلفية الأولى.
4- اقراً مقال: (وإذا قلتم فاعدلوا) من هذه المجلة أعداد رقم 5،6.
Cd مجلة البيان(/5)
منزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إعداد : زكريا حسيني
الحمد لله وحده، حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أرسله الله رحمة للعالمين وهاديا إلى صراط الله المستقيم وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادَةُ أحدِهم يمينَهُ، ويمينُه شهادَتَه".
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع من صحيحه في كتاب الشهادات وكتاب المناقب وكتاب الرقائق وكتاب الأيمان، كما أخرجه الإمام مسلم في المناقب وكذا أخرجه الإمام الترمذي في المناقب والنسائي في السنن الكبرى وابن ماجه في الأحكام والإمام أحمد في المسند.
أحاديث أخرى في الموضوع نفسه:
1 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَهُ". أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
2 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمُرَه". أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.
3 عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". رواه الطبراني وحسنه الألباني، ورواه الخطيب البغدادي عن أنس رضي الله عنه.
4 عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القَدَرُ فأمسكوا" رواه الطبراني، ورواه ابن عدي في الكامل عن ابن مسعود وابن عمرو وثوبان.
5 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم، فَيُفْتَحُ لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم، فَيُفْتَحُ لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم، فَيُفْتَح لهم". أخرجه البخاري ومسلم.
6 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهَبْتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". أخرجه مسلم في صحيحه.
7 عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أَذَكَرَ بعد قرنه قرنين أو ثلاثًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن بعدكم قومًا يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السمن" (أي تسمن أجسادهم) متفق عليه. وفي رواية "خيركم قرني" وفي رواية لمسلم "إن خيركم قرني".
شرح الحديث
تعريف الصحابي:
اختلفت عبارات العلماء في تعريف الصحابي اختلافًا كبيرًا، ولكن من أجمع التعاريف ما ذكره ابن حجر في الإصابة قال: أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي هو كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه؛ من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى.
ثم قال ابن حجر رحمه الله تعالى: وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين، كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل وغيرهما. اه.
{نقله صاحب الباعث الحثيث عن الإصابة}
قال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين، قال: وكأن المراد بهذا إن صح عنه راجع إلى المحكي عن الأصوليين. {علوم الحديث}
بم يعرف الصحابي؟
قال ابن الصلاح: ثم إن كون الواحد منهم صحابيًا تارة يعرف بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يُرْوَى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه بعد ثبوت عدالته أنه صحابي. {علوم الحديث}
وأضاف ابن حجر في الإصابة قوله: ويشترط لقبول هذا أن يكون في المدة الممكنة، وأقصاها مائة سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا أضاف قوله: أن يروى عن أحد التابعين أن فلانا له صحبة.
عدالة الصحابة:(/1)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث": والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، لما أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل. اه
أما ما جاء في كتاب الله عز وجل في شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والثناء عليهم فهو كثير إجمالا وتفصيلا وتصريحا وتلميحًا فمن ذلك:
1 قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس {آل عمران:110} قال أبو عمرو بن الصلاح: قيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2 وقال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس {البقرة:143} قال ابن الصلاح: وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ.
3 وقال سبحانه وتعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار {الفتح:29}.
4 وقال تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم {الأنفال:74}.
5 وقال عز وجل: لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم {التوبة:88-89}.
6 وقال سبحانه وتعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم {التوبة:100}.
7 وقال تعالى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم {التوبة:117}.
8 وقال سبحانه: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا {الفتح:18}.
9 وقال تعالى: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما {الفتح:26}.
10 وقال تعالى: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون {الحجرات:7}.
11 وقال تعالى: ... لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير {الحديد:10}.
12 وقال تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم {الحشر:8-10}.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عقب الآية الثالثة من هذه الآيات (10): وما أحسن ما استنبطه الإمام مالك من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له نصيب في مال الفيء لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم .
وأما ثبوت عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في السنة والثناء عليهم فهو كثير وكثير جدًا وقد أوردنا في أول الموضوع سبعة أحاديث فيها التحذير من تنقص الصحابة أو سبهم، ونضيف هنا بعض أقوال الصحابة أنفسهم في هذا الشأن، فمن ذلك:
1 ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء" {ح رقم 3600}.
2 ما رواه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون ويحدثون". {ح رقم 17411}.(/2)