ولهذا ينبغي أن يتعاون المسلم مع أخيه المسلم في الدعوة إلى الله ، ليشدّ أزره ويتقوى به كما قال الله تعالى لموسى عليه السلام : " سنشد عضدك بأخيك " ( القصص : 35 ) ، وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : " وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا " أي أعاونك وأؤيدك في نشر دعوتك ، وقال جَابِرٍ رضي الله عنه مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي ؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ رواه الإمام أحمد في مسنده 13934
ومن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين : جهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله عز وجل ، ومشاركة أهل الدعوة الإسلامية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال ، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله ؛ وقد تعاون الصحابة في الجهاد في مشاهد كثيرة ومواقف متنوعة ومن ذلك حفر الخندق وأصابهم في ذلك ما أصابهم فصبروا ، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال : " لما حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع " أخرجه البخاري برقم 4101 .
ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم : التعاون على قتل مدعي النبوة ، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم .
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ، فقام محمد بن سلمة ، فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم ، قال : فأذن لي أن أقول شيئا ، قال : قل ، فأتاه محمد بن مسلمة فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنّانا وإني قد أتيتك أستسلفك ، قال : والله لتملّنّه ( ليزيد ضجركم منه ) قال : إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، فقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين ، فقال : نعم ارهنوني ، قالوا : أيّ شيء تريد ؟ قال : ارهنوني نساءكم ، قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب . قال : فارهنوني أبناءكم ؟ قالوا : كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم ، فيقال : رُهن بوسق أو وسقين ، هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة ( يعني السلاح ) ، فواعده أن يأتيه ، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة ؟ فقال : إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة ، إن الكريم لو دعي لطعنة بليل لأجاب ، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب ، فقال : ما رأيت كاليوم ريحا - أي أطيب - .. أتأذن لي أن أشم رأسك ، قال : نعم ، فشمه ، ثم أشم أصحابه ، ثم قال : أتأذن لي ، قال : نعم ، فلما استمكن منه ، قال : دونكم ، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . ( أخرجه البخاري برقم 4037 ) .
وقال ابن عبد البر في ترجمة زياد بن حنظلة التميمي : له صحبة ، وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ليتعاونوا على مسيلمة وطليحة والأسود . ( بغية الطلب في تاريخ حلب 9/3916 ) .
ثانيا : التعاون على إقامة العبادات :
جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في خطبة خطبها في قوم : ( فانظروا رحمكم الله واعقلوا وأحكموا الصلاة واتقوا الله فيها وتعاونوا عليها وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان فإن الله عز وجل قد أمركم أن تعاونوا على البر والتقوى والصلاة أفضل البر ) ( طبقات الحنابلة 1/ 354 ) .
ومن أمثلة ذلك :
التعاون على قيام الليل
كان أهل البيت الواحد من أوائل هذه الأمة يتوزعون الليل أثلاثا يصلي هذا ثلثا ثم يوقظ الثاني فيصلي ثلثا ثم يوقظ الثالث فيصلي الثلث الأخير .
عن أبي عثمان النهدي قال تضيفت أبا هريرة سبعا فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يوقظ هذا ( سير أعلام النبلاء 2/609 )
وكان الحسن بن صالح وأخوه عليّ وأمهما يتعاونون على العبادة بالليل وبالنهار قياما وصياما فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما وكان يقال للحسن حية الوادي يعني لا ينام بالليل . ( أنظر حلية الأولياء 7/ 328 )
ثالثا : التعاون في بناء المساجد :(/4)
قال الله تعالى : " مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ " التوبة :18
وقد أورد البخاري في صحيحه بابا في التعاون في بناء المساجد ، وسطر فيه أحاديثا تبين بوضوح مدى التعاون بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء المسجد النبوي فعن أَبِي سَعِيدٍ في ذِكْر بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ ( رواه البخاري 428 )
وقام المسلمون يعمرون المساجد في البلاد التي فتحوها ، قال بعض الشعراء في وصف مسجد الكوفة لما بُني على أربعة أساطين ضخمة لم يحدث فيها خلل ولا عيب :
بنى زياد لذكر الله مصنعة ...... من الحجارة لم تعمل من الطين
لولا تعاون أيدي الإنس ترفعها ..... إذا لقلنا من اعمال الشياطين
( فتوح البلدان 1/342 )
رابعا : التعاون في مجال طلب العلم :
وهذا باب من التعاون يكفي في معرفته مطالعة كتب السير الغاصّة بالقصص التي بلغت من التعاون أوجه ، فهذا عمر رضي الله عنه يقول : كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ .. الحديث رواه البخاري 4792
" وَكَانَ عُمَر مُؤَاخِيًا أَوْس بْن خَوْلِيّ لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ وَلا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ , وقَوْله ( جِئْته بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَر ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ الْوَحْي أَوْ غَيْره ) أَيْ مِنْ الْحَوَادِث الْكَائِنَة عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وفِي رِوَايَة " إِذَا غَابَ وَشَهِدْت أَتَيْته بِمَا يَكُون مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيِّ " يَحْضُر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غِبْت وَأَحْضُرهُ إِذَا غَابَ وَيُخْبِرنِي وَأُخْبِرهُ " . وَفِي رِوَايَة " لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ وَلَا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ " ( باختصار من فتح الباري : شرح الحديث السابق : كتاب النكاح )
وقد تعرض لطالب العلم ضائقة خلال طلبه فيهبّ إخوانه لمعاونته : قال عمر بن حفص الأشقر : كنا مع محمد بن إسماعيل ( وهو البخاري ) بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه أياما فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفذ ماعنده ولم يبق معه شيء ، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث . ( تاريخ بغداد 2 / 13) .
وقد يعين العالم من ليس من أهل العلم ويحتسب بالإنفاق عليه أجر تفريغ العالم وطالب العلم للتدريس والطّلب : قال هياج بن عبيد كان لرافع قدم في الزهد وإنما تفقه الشيخ أبو إسحاق وأبو يعلى بن الفراء بمعاونة رافع لهما لأنه كان يحمل وينفق عليهما . ( سير أعلام النبلاء 18/52 )
ويدخل في التعاون العلمي : التعاون في تأليف الكتب ، فقد جاء في ترجمة الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمه الله أنه " ولع بتخريج أحاديث الإحياء ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونان . " ( طبقات الشافعية ج: 4 ص: 30 ) فاستفدنا من ذلك تخريج ثلاثة كتب صارت من أهم المراجع لطلاب الحديث .
ومن هذا الباب أيضا شرح المواد الدراسية من الخبير بها للقاصر عن فهمها ، وكان بعض نبلاء المسلمين يشتري المصاحف والألواح ويوزعها على أطفال الكتاتيب معونة لهم على حفظ القرآن الكريم .
خامسا : التعاون في الدعوة والتعليم وإنكار المنكر
فهذ يقترح فكرة لموضوع وهذا يجمع قصصا واقعية عنه وهذا يعمل بحثا ميدانيا أو استبيانا حول الموضوع وآخر يجمع الأدلة الشرعية وكلام العلماء بشأنه وهذا يحشد الشواهد والأبيات الشعرية المتعلقة به وآخر أوتي موهبة في التحدّث يلقيه في محاضرة تسير بها الركبان . أو كاتب مجيد يخطّ بأسلوبه ذلك المحتوى من العمل المشترك في رسالة أو كتاب يؤثّر في نفوس القراء .(/5)
وعالم أو طالب علم لديه - مما فتح الله به عليه - ما يقدّمه في دورة علمية ، وآخر يملك خبرة إدارية يسيّر بها أعمالها وثالث عنده مال يبذله لإسكان الطلاب الفقراء وإعاشتهم فترة الدورة ، وهكذا وعصرنا الذي نعيش فيه يحتاج كثيرا إلى الأعمال المشتركة والبركة مع الجماعة .
وفي مجال إنكار المنكر المنكر تعاون عظيم أيضا : فهذا يجمع معلومات عن المنكر ويستقصي خبره في المجتمع وهذا يبحث حكمه شرعا وثالث يعين على إيصاله إلى من ينكره ويغيّره ، وآخر يخطب عنه ويحذّر منه .
وهذا الاشتراك في العمل الصالح له اجر عظيم وقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةً الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ وَالْمُمِدَّ بِهِ
رواه الترمذي 1561 وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
فلا بد أن تكون هناك أدوار تكاملية إذا أنّ كثيرا من المشروعات وأمور الدّين لا يمكن القيام بها فرديا ، وإتاحة المجال للتخصصات المختلفة أن تعمل بتعاون سيثمر نتائج باهرة .
سادسا : المعاونة في إقامة الأنشطة الخيرية والأعمال الإسلامية
والمشاركة فيها بالنفس والمال ، والجود عليها بالوقت ، والحثّ على الحضور ، وتكثير السّواد فيها ، وحسن استقبال روّادها ، وإتقان وضع برامجها وترتيب جداولها ، وشحذ الهمم لتنفيذ مهامّها ، والعمل على تحقيق مقاصدها ، ونشر فكرتها ، وتصحيح مسيرتها ، والذبّ عنها ، وحراسة أهلها ، ومقاومة محاولات هدمها وإعاقتها .
سابعا : التعاون في القيام بحقوق المسلمين :
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ( مسند الإمام أحمد 15147 )
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ ( رواه مسلم 3258 ) .
ففِي هَذَا الْحَدِيث : الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْجُود وَالْمُوَاسَاة وَالإِحْسَان إِلَى الرُّفْقَة وَالأَصْحَاب , وَالاعْتِنَاء بِمَصَالِح الأَصْحَاب , وَأَمْر كَبِير الْقَوْم أَصْحَابه بِمُوَاسَاتِ الْمُحْتَاج , وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَة الْمُحْتَاج بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ , وَتَعْرِيضه مِنْ غَيْر سُؤَال , وَهَذَا مَعْنَى قَوْله ( فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره ) أَيْ : مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَع بِهِ حَاجَته . وَفِيهِ : مُوَاسَاة اِبْن السَّبِيل , وَالصَّدَقَة عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا , وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَة , وَعَلَيْهِ ثِيَاب , أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنه , وَلِهَذَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْحَال . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع ، ويدخل ضمنه مجالات متعدده ، منها :
إعانة الملهوف
عن يزيد بن الأسود قال لقد أدركت أقواما من سلف هذه الأمة قد كان الرجل إذا وقع في هوي أو دجلة نادى يا لعباد الله فيتواثبون إليه فيستخرجونه ودابته مما هو فيه ولقد وقع رجل ذات يوم في دجلة فنادى يا لعباد الله فتواثب الناس إليه فما أدركت إلا مقاصّه في الطين فلأن أكون أدركت من متاعه شيئا فأخرجه من تلك الوحلة أحب إلي من دنياكم التي ترغبون فيها . ( شعب الإيمان 6/ 107 )
فانظر اخي المسلم كيف كان السلف الصالح يتفانون في إغاثة الملهوف وإعانته على نازلته وضرورته .
إعانة الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من الاعتداءات
عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل - وفي رواية أي العمل أفضل - قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قال قلت أي الرقاب أفضل قال أنفَسها عند أهلها وأكثرها ثمنا - وفي رواية وأغلاها ثمنا - قال قلت أرأيت إن لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لأخرق .. الحديث رواه مسلم 84 وهو في صحيح البخاري بلفظ تعين ضايعا .
وعند قوله أن تعين صانعا ( ضايعا ) أو تصنع لأخرق نتذكّر القصة العظيمة التي قصّها علينا ربنا تبارك وتعالى في سورة الكهف :(/6)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85) ..
آتيناه من كل شيء سببا أي من أسباب التمكين من الجنود وآلات الحرب وأعطيناه الأسباب والوسائل ، وهذا يعني أنّ صاحب الإمكانات تكون التبعة التي عليه أكثر من غيره بسبب ما أعطاه الله .
ثم قال عزّ وجلّ
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا(93)قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98) سورة الكهف ، ففي هذه الآيات صورة من صور التعاون على الخير ودفع الشر وصدّ حملات المفسدين .
وفي تاريخنا أمثلة عظيمة في هذا المقام ، ففي ترجمة محسن بن محمد بن على فايع الصنعانى أنه : كان حسن الأخلاق واسع المروءة رفيع السيادة والفتوة كريم الطباع مفضالا بَذَل نفسه في معاونة الفقراء والمساكين والوافدين إلى الخلفاء وأتعب خاطره في الطلب لهم وتفقد أحوالهم والسعى في قضاء حوايجهم وعلاج مرضاهم والقيام بمؤونتهم وجعلت بنظره صدقات وصلات فبالغ في التحرى عليها وإنفاقها في وجوه الخير وعمّر المساجد العجيبة وزاد في بعضها زيادة محتاج إليها واعتنى بدَرَسة القرآن وأهل المنازل وجعل لهم راتبا معلوما خصوصا في شهر رمضان .. وله الزيادة الواسعة النافعة في مسجد الفليحى بصنعاء وكان يضيق بالمصلين فأنفق عليه جل ماله وبنى لله مسجدا في ساحة سمرة معمر بصنعاء عمره في آخر أيامه ووقف له .. وكان كثير العوارض والأمراض متلقيا لها بالقبول . ( البدر الطالع 2 /192 )
وكان بعض النبلاء المسلمين يعطي فقراء الفلاحين البذور ، والتقاوي إعانه لهم على زرع محاصيل يستفيدون منها . ومن صور التعاون العامة ؛ ما جاء في آداب الطريق وقد جمعها الحافظ ابن حجر رحمه الله في قوله :
جَمَعْت آدَاب مَنْ رَامَ الْجُلُوس عَلَى ....... الطَّرِيق مِنْ قَوْل خَيْر الْخَلْق إِنْسَانَا
اُفْشِ السَّلام وَأَحْسِنْ فِي الْكَلام ........... وَشَمِّتْ عَاطِسًا وَسَلامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْل عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ ........... وَأَغِثْ لَهْفَان اِهْدِ سَبِيلا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكُر وَكُفَّ .......... أَذَى وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْر مَوْلانَا
التعاون في مواجهة شدائد العَيْش
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل بعض الناس أغنياء ، والبعض الآخر فقراء ، ؛ ليساعد بعضهم بعضا ، خاصة في أمور معاشهم ، ومعاونتهم على شظف الدنيا ، ومواساتهم فيها ، ويشهد لذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى أنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ( صحيح البخاري 2306 )
قَوْلُهُ : ( إِذَا أَرْمَلُوا ) أَيْ فَنِيَ زَادهمْ , وَأَصْله مِنْ الرَّمْلِ كَأَنَّهُمْ لَصِقُوا بِالرَّمْلِ مِنْ الْقِلَّةِ ، وفي الحديث : فَضِيلَة الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ , وَاسْتِحْبَاب خَلْطَ الزَّاد فِي السَّفَرِ وَفِي الإِقَامَةِ أَيْضًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
تعاون أصحاب المسئوليات فيما بينهم
لعل من أهم صور التعاون ؛ تعاون كل من تجمعهم مهمة واحدة لإنجاز هذه المهمة على الوجه الذي يرضي الله تعالى ، وهذا هو مفهوم توجيه النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ حيث قَالَ يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا ( رواه البخاري 2811 )(/7)
وتلك الوصية النبوية جاءت لتؤصِّل عند جميع المسلمين دور التعاون في إنجاح جميع الأعمال والمهامّ حتى العظيم منها ، ولهذا كان من أوائل ما اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عقد أسباب التعاون ، وكان ذلك بأن آخى بين المهاجرين والأنصار ليحصل بذلك مؤازرة ومعاونة لهؤلاء بهؤلاء ( سير أعلام النبلاء 1/ 143 ) ؛ وذلك لأن المعاونة تورث المحبة والترابط .
وقد قيل لسعيد بن عامر بن حذيم : إن أهل الشام يحبونك ؟ قال : لأني أعاونهم وأواسيهم .
هذا وصور التعاون على البرّ والتقوى كثيرة جدا لا يُمكن حصرها ومجال الاستدلال بتلك الآية الجامعة الفاذّة واسع جدا وهذا الذهبي رحمه الله لم يستدل من القرآن على مشروعية التعزية إلا بها فقال : رحمه الله : " واعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير وذكْر ما يسلّي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهوِّن مصيبته وهي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضا داخلة في قول الله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ، وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية واعلم أن التعزية - وهي الأمر بالصبر - مستحب قبل الدفن وبعده قال أصحاب الشافعي من حين يموت الميت . ( الكبائر 1/188 ) .
وللتعاون أصول وضوابط حتى ذكر بعض المصنفين علما يسمى " بالسياسة المدنية " بعد ذكره علم تدبير المنزل فقال في أبجد العلوم :
أ - علم التدبير المنزلي والحكمة المنزلية : وهي العلم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملوك ونحو ذلك ، وفائدة هذا العلم ان تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود .
ب - علم السياسة المدنية : وهو علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة وفائدته أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الابدان ومصالح بقاء نوع الإنسان . ( أبجد العلوم 2 /246 )
وهذا من أهم مقاصد المدنية ؛ ألا وهو التعاون على أمور المعيشة ، ومصالح الأبدان والنفوس ، فكيف إذن إذا كان التعاون من أجل مصلحة الدين ؟
التعاون على الشيطان
ورد في بعض الآثار في صفة المؤمن أخو المؤمن يتعاونان على الفتّان : أي الشيطان
والتعاون على الشيطان : أن يتناهيا عن اتباعه والافتتان بخُدَعه ( الفائق 3 /102 )
ولا يجوز لمسلم أن يعاون الشيطان على أخيه المسلم .. كما دلّ عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ . رواه البخاري 6777
قال ابن حجر رحمه الله :
وَوَجْهُ عَوْنِهِمْ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَان يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُل لَهُ الْخِزْيُ فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ . وَوَقَعَ عِنْد أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق اِبْن وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْن شُرَيْح وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَابْن لَهِيعَةَ ثَلَاثَتهمْ عَنْ يَزِيد بْن الْهَاد نَحْوه وَزَادَ فِي آخِره " وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ " زَادَ فِيهِ أَيْضًا بَعْد الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ " وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّبْكِيتِ وَهُوَ مُوَاجَهَتُهُ بِقَبِيحِ فِعْلِهِ , وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَر بِقَوْلِهِ " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ مَا اِتَّقَيْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , مَا خَشِيت اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , مَا اِسْتَحْيَيْت مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ " وَفِي حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَزْهَر عِنْد الشَّافِعِيّ بَعْد ذِكْر الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلام : بَكِّتُوهُ فَبَكَّتُوهُ , ثُمَّ أَرْسَلَهُ " وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَاصِي بِالإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّه كَاللَّعْنِ . انتهى
الضرب الثاني من ضروب التعاون : التعاون على الإثم والعدوان
وقد جاء النهي الصريح في كتاب الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان ، قال تعالى : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، وكما تتعدد صور التعاون على البر والتقوى فكذلك تتعدد ضروب التعاون على الإثم ، وحيث أن المقصود الأساس في هذه الرسالة الحثّ على التعاون على الخير فأكتفي بهذه الصور للعكس ومن ذلك :
- التعاون على إقامة الشرك والكفر(/8)
وهذا له ضروب كثيرة ومن أمثلته المعاونة في بناء المساجد والأضرحة والقباب على القبور وجعل السّدنة الذين يأخذون النذور والقرابين وجمع التبرعات لصيانتها وترميمها ، ومن هذا الباب أيضا المعاونة على بناء كنائس النصارى
ومن القصص الجيدة في إنكار ذلك أبيات أرسلت لا بن شهاب لما عاون عرب طور سيناء على بناء البيعة بعكبرا ، يقول الشاعر المسلم يحثّ على رفض ذلك ومعاقبة من فعله :
أردتكم حصنا حصينا لتدفعوا نبال العدى عني فكنتم نصالَها
فيا ليت إذا لم تحفظوا لي مودتي وقفتم ، فكنتم لا عليها ولا لها
فيا سيف دين الله لا تنبُ عن هدى ودولة آل هاشم وكمالها
أعيذك بالرحمن أن تنصر الهوى فتلك لعمري عثرة لن تُقالَها
أفي حكم حق الشكر إنشاء بيعة النـ صارى لتتلو كفرها وضلالها
يَشيد موذينا الدمشقيُّ بيعة بأرضك تبنيها له لينالها
وينفق فيها مال حران والرُّها وتفتيحها قسرا وتُسبى رجالُها
وترغم أنف المسلمين بأسرهم وتلزمهم شنآنَها ووبالَها
أبى ذاك ما تتلوه في كل سورة فتعرف منها حرامها وحلالها
ويركب في أسواقنا متبخترا بأعلاج روم قد أطالت سبالها
فخذ ماله واقتله واستصف حاله بذا أمر الله الكريم وقالها
ولا تسمعن قول الشهود فإنهم طغاة بغاة يكذبون مقالها
ويوفون دنياهم بإتلاف دينهم ليرضوك حتى يحفظوا منك مالها
بل من شروط أهل الذمة التي ذكرها العلماء : " أن لا يحدثوا كنيسة وأن يعاونوا المسلمين ويرشدوهم ويصلحوا الجسور فإن تركوا شيئا من ذلك فلا ذمة لهم . " معجم البلدان ج: 1 ص: 57
ولذلك كان من البلية والفساد العظيم فتح مجالات التعاون مع النصارى وغيرهم من أعداء الإسلام ؛ لما يترتب على ذلك من هدم القيم الإسلامية والمثل العليا للأمة ... يقول السلطان عبد الحميد :
" إن طراز التفكير عند الأوربيين وعند النصارى طراز غريب ملىء بالتناقضات فلا يستطيع الإنسان أن يحدد رأيه فيهم فيوما تراهم عريقين صادقين ويوما سفلة ظالمين ، .. إنهم أناس لا يؤمنون بمبدأ ولا يدينون بدين يستصغرون رب العالمين تعالى الله عما يقولون ، لقد جاءنا أناس منهم بصفة أساتذة أفاضل فأصابتنا الدهشة عندما عرفناهم وعرفنا دناءتهم ، إن مفاهيم الحياة عندهم تغاير مفاهيمنا والبون بيننا شاسع والهوة سحيقة كيف يمكننا أن نفكر في التعاون معهم في مثل هذه الظروف " ( مذكراتي السياسية 1/196 )
- الاستعانة بالشياطين على السحر والاعتداء وإيذاء المسلمين وكذلك الاستعانة بهم على سائر الحرام ، قال ابن القيم رحمه الله في كلامه عن العشق : فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم الى الشرك والظلم كفر السحر ، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده ؛ وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان . انتهى ( الجواب الكافي 1/154 )
- التعاون على إحياء البدع وإقامتها
ومن ذلك المشاركة في مجالس الذكر المبتدعة والإنفاق عليها والدعوة إليها والتشجيع على غشيانها وفتح مجالات البدع المختلفة ولا يفعل هذا إلا أعداء السنة والجهلة بها وما أُحييت بدعة إلا وأميتت سنة .
- أن يعاون الظلمة بأخذ المكوس ويكون في زمرة العمال الظلمة المترصدين في الطرق وغيرها . ( أنظر أبجد العلوم 2/58 )
- أن يدل رجلا على مطلوب ليقتل ظلما أو يحضر له سكينا وهذا يحرم لقوله : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ( شعب الإيمان 1/ 268 )
- المعاونة في الأغاني نظما وتلحينا وتنظيما لحفلاتها وتسجيلها ونشرها ، قال في شعب الإيمان 4/281 ويحرم كذلك تجهيز الشِّعْر للمغنين .
- المعاونة على المنكر عموما
وشرّ المراتب في المنكر بعد ارتكابه المعاونة عليه ثم الرضا ثم المداهنة ثم السكوت عن الإنكار .
وعلى المسلم أن يصبر على أذى من يخالفهم لأجل منكرهم
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وذلك ان كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم ، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختار أهلها ويؤثرون من يشاركهم في أمورهم وشهواتهم إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطّاع الطريق ونحو ذلك واما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلا فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدا له على ذلك وإما لئلا يعلو عليهم بذلك ويُحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك اليهم ولئلا يكونوا تحت منّته وخطره ونحو ذلك من الأسباب .. . انتهى ( الاستقامة 2/256 )
وفي رفض التعاون على الإثم والعدوان يقول ابن القيم رحمه الله :
" الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات(/9)
فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر ؛ فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتّب على موافقتهم ، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى ، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرَّ منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد ، فألم يسير يُعقِب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تُعقِب ألما عظيما دائما والتوفيق بيد الله . انتهى ( إغاثة اللهفان 2/193 ) .
نسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى المحاربين للإثم والعدوان وأن يرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه
محمد صالح المنجد
الخبر ص . ب 2999(/10)
كيف تحفظ القرآن
الشيخ: علي بن عمر بادحدح
الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. نحمده هو أهل الحمد و الثناء فله الحمد في الأولى و الآخرة و له الحمد على كل حال و في كل آن، نصلي و نسلم على خاتم الرسل و الأنبياء نبينا محمد بن عبد الله و على آله و صحابته و من اتبع هداه و اقتفى أثره إلى يوم الدين و عنا معه بعفوك و رحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، أيها الأخوة الكرام و الأحبة سلام الله عليكم و رحمته و بركاته، ابتداءً أقول انه ليس في هذا الدرس وصفة سحريه يمكن بتطبيقها أن تحفظ القرآن بصورة لم تكن تتخيلها أو تتوقعها، و لكن هذا الدرس فيه خلاصة تجارب عمليه وهو في الحقيقة يركز على مضمون هذا العنوان أي كيف تحفظ القرآن الكريم بصورة عامه لجميع الناس مع التفاوت الذي قد يكون يختلف فيه بعضهم عن بعض. نريد في هذا المجلس أن نركز على الإجابة على هذا السؤال، كيف تحفظ القرآن؟
و سنعرض فيه إلى خمسة جوانب:
أولا: الأسس العامة
ثانيا: الحفظ
ثالثا: المراجعة
رابعا: الروابط و الضوابط
خامسا: اختلافات و فروق
--------------------------------------------------------------------------------
أولا: الأسس العامة
أولا الأسس العامة التي لا غنى لك عنها و لا مجال لتطبيق ما بعدها إلا بها، و في غالب الظن أنه لا نجاح إلا بتأملها و تحقيقها، و هي أمور كثيرا ما نتذكرها و نذكر بها، و هي أسس ينبغي ألا نغفل عنها في هذا الموضوع و في غيره.
أولا: النية الخالصة
فنحن نعلم أن مفتاح القبول و التيسير إخلاص القصد لله عز و جل، و أن كل عمل يفتقر إلى الإخلاص لا يؤتي ثمرته و إن آتى بعض ثماره فإن عاقبته في غالب الأحوال تكون فجة و ثماره تكون مرة أضف إلى أنه يحرم من أعظم ما يتأمله المرء و هو القبول عند الله عز و جل و حصول الأجر و الثواب. فلذلك الإسلام في كل عمل لكي يسهل ويعان المرء عليه هو أن يخلص لله عز و جل.
ثانيا: السيرة الصالحة
يقول جل و علا ?وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ? البقرة 282- ونعلم جميعا ما يؤثر عن الشافعي من قوله " شكوت الى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي و أخبرني بأن النور علم و نور الله لا يؤتاه عاصي " و نعلم ما أثر لابن مسعود رضي الله عنه " إن الرجل ليحرم العلم بالذنب يصيبه "، فنحن نعلم أن الحفظ على وجه الخصوص يحتاج إلى إشراقة قلب و إلى توقد ذهن و المعصية تطفئ نور القلب و يحصل بها التبلد بالعقل و يحرم بها العبد من التوفيق أيضا. فإذاً لا بد أن نستعين على طاعة الله بطاعة الله و أن نجعل طريقنا إلى نيل بعض هذه الأمور من الطاعات و المندوبات و المسنونات و أمور الخير أن نجعل طريقنا إليها طاعة لله سبحانه و تعالى ?وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ? البقرة 282- نتيجة عملية تلقائية لأن القلب يشرق حينئذٍ بنور الإيمان، و النفس تطمئن إلى ما حباها الله عز و جل من السكينة و الطمأنينة فيتهيأ الإنسان حينئذٍ لهذا العمل العظيم حفظ القرآن الكريم.
ثالثا: العزيمة الصادقة
فإن المرء الذي يعتريه الوهن و يعترضه الخور و يغلب على حياته الهزل و يميل في كثير من أموره إلى الكسل فإنه لا يمكن أن يُعول عليه. و لا يُظن أنه يصل إلى النتيجة المرجوة في حفظ كتاب الله عز و جل. فهذا أمر يحتاج أن يشمر عن ساعد العزم و لا بد له أن يقلل من أمور الراحة فيخفف من نومه و يزيد من عمله و يكثر من قراءته و غير ذلك من الأمور التي لا بد لها من همه و عزيمة صادقه قوية ماضية لا تستسلم عند أول عارض من العوارض، و لا تقف عند أول عقبة من العقبات.
رابعا: الطريقة الصائبة(/1)
و هي جزء مما سيأتي حديثنا عنه، غير أني أريد أن أشير إلى أن بعض الأخوة عندما يسمع حسا على حفظ القرآن أو يتشوق إلى ذلك يبدأ بحماسة مندفعة بداية غير صحيحة غالبا ما تُسلمه إلى العجز و الكسل أو تصدمه بعدم القدرة على الاستمرار. كمن يبدأ مخلطا سورة من هنا و سورة من هنا، و جزءا منفرداً. أو مقاطع متقطعة و هو يرغب بعد ذلك أن يصل بينها و أن يصل بها إلى حفظ القرآن الكريم كاملا، فغالبا ما يتشوش مثل هذا العمل، و غالبا ما ينقطع عنه، و كثيرا ما يفتقد ما حفظ منه، و ذلك لأن الجزء الواحد أو القطعة الواحدة لا تغري المرء إذا كانت منفصلة بأن يحافظ عليها، لأنها وحدها وليس لها ارتباط بما قبلها و لا بعدها، و إن كان في ذلك خير و لا شك، و ليس في هذا الكلام ما نريد به أن نصرف أحدا أن يحفظ سورة بعينها أو بعض السور بعينها أو الأجزاء بعينها كاملة. و لكننا نتحدث عن من يريد أن يحفظ حفظاً كاملا على طريقة صائبة، و من ذلك أيضا أن بعض الناس يبدأ و يشرع دون أن يستشير و أن يسأل من حفظ قبله أو من هو مشتغل بالتحفيظ و التدريس في هذا الميدان فكما أنك تحتاج إلى المشورة في أي عمل من أعمال الدنيا أو إلى مدخل من مداخل العلوم و الدراسة التي يدرسها كثير من الناس فأنت بحاجة إلى هذا في هذا الأمر أيضا.
و من ذلك أيضا البرنامج الواضح عندما نقول أن هناك طريقة صائبة فإنها هي التي تحفظ بإذن الله تلك العزيمة التي تستمر و تمشي وتمضي عندما يكون هناك برامج و مراحل نقطة بعد نقطة، مرحله بعد مرحله. أما خطة عشواء أما أجزاء متقطعة، أما مراحل منفصلة، فإن ذلك في غالب الأمر لا يصل إلى مبتغاه
خامسا: الاستمرارية المنتجة
فهذا أمر قد يطول أمده و زمانه و قد يعظم جهده و البذل لأجل الوصول إليه، فإن كنت قصير النفس فإنك في غالب الأمر لا تبلغ الغاية، تحتاج إلى استمرار يثمر و ينتج بإذن الله عز وجل. وحديث النبي عليه الصلاة و السلام يحضرنا في هذا المقام عندما { سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال أدومها وإن قل وقال اكلفوا من الأعمال ما تطيقون – رواه البخاري } . فقليل دائم خير من كثير منقطع. لا تبدأ البداية الكبيرة التي قلنا عنها ثم تنقطع أو لا تبدأ ولو بداية يسيره ثم تتوقف، و كما أثر أيضا عن الأجر و الفضل الذي يكون للحال المرتحل كما سئلوا عن الحال للمرتحل قيل هو الذي يختم القرآن ثم يشرع فيبدأ به من جديد، فهنالك استمرارية و اتصال و دوام، استمرار هو الذي تحصل به نتيجة بإذن الله عز و جل.
فإذاً لابد من نية و سيرة وعزيمة و طريقة واستمرارية، هذه أسس لا بد منها قبل أن نبدأ أو أن نشرع فيما يتعلق بالتفصيل و التفريغ.
--------------------------------------------------------------------------------
ثانيا: الحفظ
الأمر الثاني الحفظ، وهو جوهر هذا الموضوع، و الحديث فيه عن الطريقة وعن الشروط اللازمة، و العوامل المساعدة، و نبدأ بالطريقة.
أولا: الطريقة
من خلال التجربة ومن خلال ما نرى من عمل كثير من طلاب التحفيظ و الحافظين يمكن أن نرى أو نلقي الضوء على طريقتين اثنتين.
الطريقة الأولى
إحداهما طريقة الصفحة، نعني بذلك أن يقرأ مريد الحفظ الصفحة كاملة من أولها إلى آخرها قراءة متأنية، صحيحة، ثلاث أو خمس مرات بحسب ذاكرة الإنسان وقدرته على الحفظ، فإذا قراها هذه المرات الثلاث أو الخمس قراءة فيها استحضار قلب وتركيز الذهن و العقل و ليس مجرد قراءة لسان فقط كلا، إنما قد جمع قلبه وفكره لأنه يريد من هذه القراءة أن يحفظ.
فإذا أتم الثلاث أو الخمس أغلق مصحفه، و بدأ يسمع صفحته، و قد يرى بعضكم أن هذا لن يتم أو لن يستطيع حفظها بقراءة الثلاث أو الخمس، أقول نعم. سيكون قد حفظ من أولها و مضى ثم سيقف وقفة، أن يفتح مصحفه و ينظر حيث وقف فيستعين، و يمضى مغلقا مصحفه، ثم سيقف ربما وقفة ثانية، أو ثالثة، ثم ليعد تسميع الصفحة.
ما الذي سيحصل !، الموضع الذي وقف به أولا لن يقف فيه ثانيه، لأنه سيكون قد نقش في ذاكرته و حفر في عقله، فستقل الوقفات. و غالبا من خلال التجربة سيسمع المرة الأولى ثم الثانية و في الغالب أنه في الثالثة يأتي بالصفحة محفوظة كاملة بعد أن يقوم بمجموع ما قرأه ثمان مرات، ثلاث أو خمس في القراءة الأولية المركزة، ثم يبدأ بالخطوة الثانية بتسميع هذه الصفحة و سيقف كما قلت بعض الوقفات في أول مرة و في المرة الثانية و في الغالب أنه في الثالثة لا يقف.
ماذا يصنع في الخطوة الثالثة، أن يكرر التسميع الصحيح الذي أتمه في المرة الأخيرة ثلاث مرات تقريبا. فحينئذ يكون مجموع ما قرأ به هذه الصفحة في ذلك الوقت تسع مرات أو أحد عشر مرة.
إذاً يقرأ الصفحة قراءة مركزة صحيحه ثلاث أو خمس مرات ، ثم يسمعها في ثلاث تجارب أو ثلاث محاولات. ثم يضبطها في ثلاث تسميعات. و بذلك سوف تكون الصفحة محفوظة حفظا جيدا متينا مكينا إن شاء الله.(/2)
ما مزية هذا الحفظ أو هذه الطريقة، مزيتها أنك لا تتتعتع أو تتوقف عندما تصل الصفحات بعضها ببعض بعد ذلك. لأن بعض الاخوة يحفظ آنفا آية منفصل بعضها عن بعض، ما الذي يحصل ؟ عند كل آخر آية يقف حمار الشيخ في العقبة، و يحتاج إلى دفعة فتعطيه أول كلمة من الآية التي بعدها فينطلق كالسهم حتى يبلغ آخر الآية التي بعدها ثم يحتاج إلى توصيلة أخرى و هكذا. أما الصفحة فهي كاللوح أو كالقالب يحفظها في قلبه و يرسمها في مخيلته، و يتصورها أمامه من مبدئها إلى منتهاها ويعرف غالبا عدد آياتها، آية كاملة صفحة كاملة بعض الصفحات آيتين وبعضها ثلاث و بعضها آيات كثيرة ليس بالضرورة تصورها و لكن هذه الطريقة تجعله ، أولا يأخذ الصفحة كاملة بلا توقف يستحضرها تصورا فيعينه ذلك على حفظها ثم يتصورها كما قلت هل هي في الصفحة اليمنى أو اليسرى، بأي شيء تبتدئ و بأي شيء تنتهي وتحكم بإذن الله عز وجل إحكاما جيداً.
الطريقة الثانية
طريقة الآيات أو الآية، لا بأس بها و إن كنت أرى الأولى أفضل منها. ما هي هذه الطريقة، أن يقرأ الآية مفردة قراءة صحيحه مرتين أو ثلاث مرات، نفس الطريقة، لكن بآية واحده و طبعا لما كانت آية لا نحتاج أن نعيدها من ثلاث إلى خمس، مرتين فقط أو ثلاث ثم يسمع هذه الآية، ثم يمضى إلى الآية الثانية فيصنع بها صنيعه بالأولى، لكنه بعد ذلك يسمع الأولى و الثانية، ثم يحفظ الثالثة بالطريقة نفسها، يقرأها ثم يسمعها منفردة ثم يسمع الثلاث من أولها الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، ثم يمضي إلى الرابعة إلى آخر الصفحة.
ثم يكرر تسميع الصفحة ثلاث مرات. وحذار في هذه الطريقة أن ترى أن الآية الأولى قد أكثرت من ذكرها فلا عازة لتكرارها، بعضهم إذا بلغ نصف الصفحة قال النصف الأول مضبوط فلا يحتاج إذا حفظ الآية في النصف الثاني أن يعيد النصف الأول إلى الأخير. هنا لا يقف حمار الشيخ في العقبة في منتصف الصفحة و ثق من هذا تماما وجربه تراه شاهدا على كلامي. لا بد كل آية تحفظ في الصفحة أن تعاد من الأول إلى حيث بلغ، حتى يتم الصفحة ثم يأتي بها ثلاث مرات تسميعا كاملا.
تختلف هذه الطريقة عن الأولى أنها أبطأ في الغالب. أبطأ في الوقت فالصفحة في الطريقة الأولى تستغرق بالمعدل نحو عشرة دقائق، قد يقول قائل العشر قليلة، أقول عشر دقائق إذا كان يريد أن يحفظ أما إذا كان ينظر في الغادين و الرائحين و المتشاكلين و المتضاربين و يسمع هنا و.. هذا ولا مئة دقيقة و لا عشرة أيام يحفظ فيها شيء. أما الثانية فهي أبطأ و الغالب أنها تستغرق نحو خمس عشرة دقيقة لأنه سيكرر كثيرا.
أما من حيث التطابق فآخر الأمر أنه سيحفظ الصفحة كاملة و لكن هذه الطريقة أضعف إذا لم يصل الآية بالآية سيكون هناك ذلك التوقف الذي أشرت إليه، إذا هذه الطريقة من حيث الأصل حفظ الصفحة أو حفظ الآية و في آخر الأمر ستعود النتيجة إلى حفظ الصفحة.
أنتقل إلى النقطة الثانية وهي نقطة مهمة مكملة و هي الشروط اللازمة.
ثانيا الشروط اللازمة
الشروط اللازمة لكي تكون هذه الطريقة صحيحة سواء اخترت الطريقة الأولى أو الثانية لابد من هذه الشروط.
الشرط الأول: القراءة الصحيحة
من الأخطاء الكثيرة أن كثيرا ممن يعتزمون الحفظ أو يشرعون فيه يحفظون حفظا خاطئا. لابد قبل أن تحفظ أن يكون ما تحفظه صحيحا، و هناك أمورا كثيرة في هذا الباب منها على سبيل المثال لا الحصر؛
أولا تصحيح المخارج: إن كنت تنطق ثم "سم" أو الذين "الزين" فقوم لسانك قبل أن تحفظ. لأنك إذا حفظت و أدمنت الحفظ بهذه الطريقة و واضبت ستكون جيدا في الحفظ لكنك مخطئا فيه. فلا بد أولا من تصحيح المخارج وتصحيح الحروف لا بد منه.(/3)
ثانيا ضبط الحركات: بعض الأخوة إما لضعف قراءته، أو لعجلته يخلط في الحركات، و هذا الخلط لا شك أنه خطأ و أنه قد يترتب عليه خلل في المعنى. و ذلك ليس من موضع حديثنا و لكن لا بد أن يتنبه المرء له و أن يحذر منه، و من ذلك أن اللغة العربية فيها تقديم و تأخير، وفيها إضمار و حذف وتقدير، وفيها إعرابات مختلفة، فأحيانا بعض الناس لا يتنبه، أحيانا مثلا تقديم المفعول على الفاعل ? وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات? البقرة 124- بعضهم يحفظها ? إبراهيمُ ? و ربُهُ أو ربَهُ بالنسبة له أحيانا قد لا تفرق، و ما حفظته خطئا فثق تماما أنه يثبت هذا الخطأ وبعد ذلك تصعب إزالته، يحتاج إلى عملية استئصال، مثل الذي يبني بناء ثم يتبين له أن هذا البناء خطأ لابد له أن يكسر و أن يصحح البناء، لابد أن يزيل الخطأ ثم بعد ذلك يصحح من جديد. لماذا تكرر الجهد مرتين و تعيد العمل مرتين، ابدأ بداية صحيحة. و هناك أمثلة كثيرة في مسألة ضبط الحركات، فإن هناك كثيرا من الأمثلة التي تقع في هذا الجانب كما في الضمائر أيضا. الضمائر عندما يقع الخلط فيها أيضاً يقع خلط في الحفظ غير مقبول مطلقا، كما يكون الضمير بالضم فيكون للمتكلم، أو يكون بالفتح للمخاطب كما في قوله تعالى ?وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ? المائدة 116- التاء في الضميرين الأولين مضمومة و في الضميرين الثانيين مفتوحة فأي تغيير بالحركة يغير المعنى.
كما يقرأ البعض (و كنتُ أنت الرقيب عليهم ) ما يمكن أن تستقيم أبدا وهكذا الكثير من الكلمات و الحركات تحتاج إلى الضبط ابتداء قبل أن يخطىء فيها.
أيضا هناك ضبط الكلمات و هو أشد و أخطر، الحركات منظوره يمكن أن يراها الإنسان و لكن بعض الكلمات إما لصعوبتها أو لأن هذا الحافظ لم يأخذ الأسلوب الذي سأذكره لاحقا، أو ليس متمرسا في تلاوة القرآن فإنه يحفظ الكلمة خطأ و من هذا قول الله عز وجل ? وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ? -القلم 51 - سمعت مرة من يقرؤها " ليزقلونك "، السبق بين الحروف يحصل وعندما يراها رؤية سريعة وهو لا يعرفها تثبت على هذه الطريقة، أحيانا بعض الكلمات ? أَنُلْزِمُكُمُوهَا ? هود 28- قد يستثقلها و يقرأها قراءة خاطئة و تختلف الحروف بهذه الطريقة. كذلك بعض الكلمات التي ربما ليس في القرآن إلا مثال واحد منها ? أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ ? يونس 35 - يقرأها "أم من لا يَهْدِي" لأنها كلها في القرآن يَهْدِى وما فيها يَهِدي فينتبه إلى مثل هذه الكلمات.
كذلك ما يتعلق في الرسم كما في البقرة (52) ? فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ? و في المائدة (3) ? فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ? ليس فيها ياء وإنما كسرة، هذه أيضا مواطن مما قد يحفظه ابتداء حفظا خاطئا و يقع في هذا في أخطاء. و كذلك بعض الكلمات التي هي في مواضع بضبط معين و في مواضع أخرى بضبط آخر مثل ? سِخريا ? و ? سُخريا ? قد يحفظها تمر عليه الآية الأولى فتقرأ سُخريا فكلما مرت قال سُخرياً و لم يفرق بين سُخريا و سِخريا و غيرها من المواضع التي فيها مثل هذه الأمثلة، كما أيضا في الجمع و التثنية مثل قول الله سبحانه و تعالى ? رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ? فصلت 29 - و ليس الَّذِين، بعض الناس يقول الذين متعود، نادرا أو قليل ضمير التثنية فيقول ? الَّذِينَ ? و لا ينتبه لمثل هذا إذا كان غير متمرس أو كان متعجلا، و غير ذلك كثير أيضا كما أشرت في الأمثلة إنما هي للتقرير كما في قوله عز وجل ? فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ? الحشر 17- و ليس خالدِين فيها، خالدَيْن بالتثنية و ليس بالجمع فإذا لا بد أيضا من ضبط الكلمات حتى لا يحفظها حفظا خاطئا. و الأمثلة في ذلك كما قلت كثيرة جدا.(/4)
أيضا هنالك ضبط خواتيم الآيات، مع السرعة و العجلة قد لا ينتبه فيحفظ حفظا خاطئا ? وهو العزيز الرحيم ? ما قرأها بنظره قرأها ? و هو العزيز الحكيم ? وهكذا مضى عليها فحفظها، هذه واضحة لكن أحيانا كما هو في التجارب أن الذي يحفظ يستشهد و يظن أحيانا أن هذه الآية في ذهنه قد سمعها أو قد أدمن قراءتها وهي في ذهنه أنها ? و هو العزيز الحكيم ? فيقولها هكذا و يظن أنه قرأها و هو ما قرأها و ما مر ببصره عليها بل ربما يمر ببصره عليها وقد سبق في ذهنه أنها كذا و لا يقرأ المكتوب بل يُثبت ما في الذاكرة عنده أو ما يسمعه أو ما يظنه أو يتوهمه، فينبغي أن يضبط ذلك حتى تكون القراءة صحيحة قبل أن يحفظ شيئا خاطئا، و كما قلت هنا التنبيه أن الحفظ الذي فيه خطأٌ، خطأ. يعنى هذا الحفظ الذي فيه أخطاء هو حفظ فيه خطأ لأن طريقته خطأ لأنه يبقى و يستمر ويصعب تغييره في كثير من الأحوال.
كيف نحقق هذه القراءة الصحيحة، الأصل أيه الأخوة الأحبة أن القارىء و الحافظ لابد أن يقرأ على شيخ متقن، تلقى القرآن تلقيا بالمشافهة، وهذا هو الأصل في تلقي القرآن لقنه النبي عليه الصلاة و السلام صحابته و الصحابة من بعدهم، فليس القرآن كتاب يقرأ مثل غيره من الكتب، ففيه رسم و فيه بعض الأمور التي ذكرتها الآن من تقديم و تأخير و كذا وفيه قراءات و فيه بعض الكلمات التي ترسم بطريقة و تكتب بطريقة، وفيه أحيانا آيات أو كلمات تقرأ بوجهين، هذا كله لا يتيسر لك بمجرد القراءة، الأصل أن تكون متلقيا عن شيخ قد أتقن وتعلم فتكون قراءتك صحيحة فهو الذي يقرأ لك الصفحة أولا ويصححها لك ثم تمضي بعد ذلك و تطبق الطريقة التي قلناها، ممكن هذى خطوة ثانيه إذا كنت تلقيت التجويد و تلقيت القراءة و أحسنتها بمعنى أنك من ناحية القراءة النظرية جيد، و تحسن القراءة و لا تسقط فلا بأس بأن تبدأ بتطبيق هذه الطرق الأولى أو الثانيه لكن لابد أن تكون قد أتقنت القراءة وعرفتها و قرأت إما ختمه كاملة أو قرأت معظم القرآن و ذلك مما يضبط لك هذا الجانب، هذا أول الشروط التي لا بد منها لتَكمُل لك طريقة الحفظ الصحيح.
الشرط الثاني: الحفظ المتين
الحفظ الجديد لا بد أن يكون حفظا متينا، لا يقبل فيه خطأ ولا أقل من الخطأ و لا وقفه و لا تعتعه، الحفظ الجديد أعني، إذا أردت أن تحفظ صفحة جديده إن لم يكن حفظك لها أقوى – مبالغة – من حفظك للفاتحة فلا تعد نفسك قد حفظتها، لماذا ؟ لأن الحفظ الجديد هو مثل الأساس، الآن إذا جئت بأساس البناء و تعجلت حيثما اتفق سوف ينهد البناء فوق رأسك يوما ما. و الحفظ الجديد إذا قبلت فيه بالخطأ و الخطأين، أو التعتعة أو الوقفة فإنك ثق تماما أنك كالذي يبني الرجاء على شفير الهاوية، يعنى كأنك متأرجح، فإذا كنت في البداية متأرجح كيف ستبني على ما بعده، كيف تريد أن تكون هذه الصفحة بعدها صفحات و صفحات، لا يمكن. لا ينبغي الترخص مطلقا في ضبط الحفظ الجديد ولو أخذت بدل الدقائق العشر التي ذكرناها عشرين أو ثلاثين أو أربعين، المهم لا تنتقل من حفظك الأول حتى تتقنه اتقانا كما قلت مبالغةً أكثر من إتقانك للفاتحة، لو قلت لأحدكم الآن سمع الفاتحة فسَمَّعها بكل سهولة و يسر، بل لو كان نائما و حلم و قرأ الفاتحة لن يخطِأ فيها، لماذا ! لأن الفاتحة قد أدمن قراءتها و حفظها أكثر من حفظه أسمه، لابد أن يكون الحفظ الأول مثل ذلك كما قلت دون أخطاء و دون عجلة.
الشرط الثالث: التسميع للغير
وهذا الذي سيكتشف لك الأخطاء التي ذكرتها، بعض الناس الصفحة الأولى للمرة الثالثة يسمع الصفحة خرج مطمئنا منشرح الصدر مسرورا وهو قد حفظ و هناك بعض الأخطاء مما أشرت إليه، كيف يكتشفها، لا يكتشفها، يعيد مرة ثانيه في اليوم التالي صفحته ويسمعها في خطئها و المصحف أمامه، لماذا ؟ لأنه تصور أنه حفظ حفظا صحيحا. الذي يكتشف لك ذلك أن تسمع الصفحة لغيرك مهما أنت بالغا الحد بالذكاء، و حدة الذهن و سرعة الحفظ فلابد أن تسمع لغيرك، أن تعطي المصحف غيرك ليستمع لك، وهذا أمر لا بد منه. لا بأس قد لا تجد من يسمع لك الصفحة إذا حفظتها أو الصفحتين أو الثلاث لا بأس، لكن لو جمعت خمسا من الصفحات أو عشرا من الصفحات سمعها لغيرك، هنا لازال هناك مجال للاستدراك، أما بعد أن تحفظ عشرة أجزاء تأتي و تسمع و عندك من الأخطاء ما الله به عليم هذا لا يمكن أن يكون مقبولا.
الشرط الرابع التكرار القريب
الحفظ بالحفظ، لو أنك صوبته وصححته، و لو أنك متنته و قويته و لو أنك سمعته و قرأته، لا يكفي فيه ذلك حتى تكرره في وقت قريب، ما معنى الوقت قريب، في يومك الذي حفظت به الصفحة لو حفظتها بعد الفجر، إذا تركتها إلى فجر اليوم التالي ستأتي إليها وقد أصابتها هينات واعتراها بعض الوقفات و دخلت فيها بعض المتشابهات مما قد حفظته قبلها من الآيات، لابد أن تكرره في الوقت نفسه.(/5)
في ذلك اليوم الصفحة الجديدة، بعد التسميع الذي ذكرته ثلاث مرات، على أقل تقدير أن تسمع الصفحة خمس مرات في ذلك اليوم، و سأذكر كيف يمكن تطبيق ذلك دون عناء و لا مشقه، لان بعض الأخوة يقول هذا يريد أن نجلس في المسجد من بعد الفجر إلى المغرب حتى نطبق هذه الطرق التي يقولها. أذكر مثال أن الحفظ الذي تتركه و لا تكرره يسرع في التفلت في ترجمة ابن أبي حاتم، الإمام ابن أبي حاتم رحمة الله عليه كان يقرأ كتابا يريد أن يحفظه فكان يقرأه بصوت عالي ويكرره و عنده عجوز بالبيت وهو يكرر الكتاب الأولى والثانية و الثالثة والعاشرة، فملت منه قالت: ما تصنع يا هذا، قال: إني أريد أن أحفظه، قالت: ويحك لو كنت تريد لقد فعلت فإني قد حفظته، فقال: هاتيه، فسمعت له الكتاب من حفظها سماعا فحفظته، قال و لكني لا أحفظه حتى أكرره سبعين مره. يقول فجئتها بعد عام فقلت لها هاتي ما عندك من الكتاب فما أتت منه بشيء، أما أنا فما نسيت منه شيئا.
لا تنظر للوقت القريب انظر للمدى البعيد، أنت تريد أن تحفظ شيئا لا تنساه بإذن الله عز وجل.
الشرط الخامس: الربط بما سبق
فالصفحة مثل الغرفة بالشقة ومثل الشقة في العمارة، يعنى لا يمكن أن تكون هناك صفحة وحده، لا بد أن تربطها بما قبلها و أن تربطها بما بعدها و سيأتي لنا حديث عن الربط لاحقا.
إذا هذه هي الطريقة ثم هذه الشروط اللازمة .
ثالثا العوامل المساعدة
ننتقل إلى العوامل المساعدة. التي تساعدك على هذا و هذا .
أولا: القراءة في النوافل
النوافل الرواتب خمس في حد التقدير في الحد الأدنى لمن لا يزيد، ماذا نقرأ فيها غالبا ، كل واحد سيجيب إجابة واحدة سورة الإخلاص، الكافرون ، الكوثر . نريد الصفحة الجديدة أن تسمعها خمس مرات في هذه الصلوات الخمس أو في هذه الرواتب الخمس. الصفحة عندما تقسمها قسمين، سورة الضحى و ألم نشرح تقريبا في هذا الحديث، فلا تفصل صلواتك عن قراءاتك و حفظك، هذا من أهم العوامل المساعدة أن تغتنم النوافل بإخلاص في حفظ و مراجعة و تثبيت هذا الحفظ.
ثانيا: القراءة في كل آن
وخاصة في انتظار الصلوات، ما الفرق بين هذه و تلك؟ في كل آن عندما تذهب لموعد وغالبا تأتي و لا يأتي من واعدته إلا متأخرا فليكن ديدنك أن تكرر حفظك و أن يكون مصحفك في جيبك. الصلوات كثيرا ما نأتيها و قد كبر الإمام، لو قدمنا خمس دقائق قبل كل صلاة لكان عندنا خمس صلوات، خمس مجالس يمكن أن نكرر فيه صفحة الحفظ أو أن نربط بعض الصفحات، أو أن نراجع بعض ما سنذكره في شأن المراجعة. هذا لابد أن يكون لنا اهتمام به و أن نضعه في أذهاننا و تصوراتنا.
ثالثا: قراءة المحراب
القراءة الفاحصة التي تفحصك و تمحصك، هل حفظت حفظا صحيحا! هل حفظت حفظا متينا ! إنها قراءة المحراب. أن تتقدم إماما في الصلاة أو أن تؤم الناس إذا تيسر لك ذلك أو إذا وجدت لك الفرصة أو إذا قدمت، اقرأ في المحراب ما حفظته، فإن كنت مطمئنا مستطيعا للقراءة دون تلكأ و لا تخوف و لا توقف فهذا مما يعين لأن قراءتك في الناس غير، إذا أخطأت ركعت، و إذا أخطأت في الركعة الثانية انتقلت إلى سورة أخرى، أما المحراب فغالبا ما يمحصك و يفحصك فحصا جيدا فاحرص عليه إن كنت إماما أن تجعل من حفظك في صلاتك و قراءتك.
رابعا: سماع الأشرطة القرآنية المجودة
و هذه نعمة من نعم الله عز وجل علينا، أنك يمكن أن تسمع الحفظ الجديد و القديم في كل يوم في أثناء مسيرك في سيارتك أو قبل نومك في بيتك اجعل شريط القرآن دائم التكرار. و لا يكن ذلك عفوا و ليكن ذلك بطريقة منهجية، بمعنى أنك عندك في هذا الأسبوع سورة معينة للمراجعة تريد أن تجعله ديدنك خلال هذا الأسبوع. و أن تجعل أيضا شريط الحفظ الجديد أيضا ديدنك هذا الأسبوع، ليس كيفما اتفق و حسب الحاجة، لا، افعل ذلك ضمن البرنامج الذي تكمل فيه حفظك و مراجعتك فإن هذا من أعظم الأمور المعينة المساعدة، لأنك ستسمع القراءة الصحيحة و ستعيدها و تكررها، و ستسمعها بحسن التجويد و الترتيل فذلك من أهم العوامل المساعدة.
خامسا: الالتزام بمصحف واحد للحفظ(/6)
وهذا أيضا من الأمور التي يوصى بها و يحرص عليها كثيرا ، لابد أن تأخذ لك مصحفا واحدا تحفظ عليه قدر استطاعتك من أول المصحف إلى آخره، لأن التغيير تشويش، أنت عندما تلتزم المصحف الواحد غالبا ما ينقذح في ذهنك صورة الصفحة مبدأ السورة في الصفحة و مبدأ الجزء في تلك الصفحة وأين تنتهي و كم عدد الآيات فيها فذلك يثبت الحفظ عندك ويجعلك أقدر على أن تواصل و أن تربط و أن تمضي إن شاء الله مضيا جيدا سريعا وقويا. أما إذا حفظت يوما هنا فهذه الصفحة تبدأ بالسورة وفي مصحف آخر السورة بدايتها في مكان آخر ، لا تستفيد من هذه الفائدة التي هي إحدى الفوائد التي سنذكرها فيما يأتي من الحديث. إذن المصحف الواحد يعين و أجود المصاحف ما يسمى مصحف رأس الآية الذي يبدأ بآية و ينتهي بآية، ليس في صفحة جزء من الآية و تكملتها في الصفحة التي بعدها أو وراءها ، لأنك كما قلنا اجعل قدرك أو حفظك هو الصفحة، مقياسك صفحة ، إما أنك ستحفظ في اليوم صفحة أو أكثر، تلك الصفحة هي اللوح الذي يعينك بإذن الله عز و جل .
سادسا: استعمال أكبر قدر ممكن من الحواس
وهو من أهمها و آخرها، و هذه من الناحية العلمية معلوم أن استخدام حاسة واحدة يعطي نتيجة بنسبة معينة، فإذا استخدمت للحفظ أو في هذا العمل حاستين زاد استيعابك و فهمك و حفظك له، و إذا استعملت ثلاثة حواس زاد، إذا استخدمت أربع زاد.
كيف نستخدم الحواس ؟ بعض الأخوة يقرءون كما يقولون يقرأ بعينه، هذه تضعف حفظك. اقرأ بعينك و بلسانك، ارفع صوتك يتحرك اللسان وتسمع الآذان، ثم إذا استطعت و هذا لا شك أنه فيه صعوبة لكن فيه قوة و متانة وهو أمر الكتابة، إذا حفظت صفحتك فاكتبها ولو على غير الرسم، كتابة لتثبيت الحفظ ، فإن الكتابة من أقوى ما يثبت الحفظ تثبيتا راسخا لا ينسخ بإذن الله عز و جل. و نحن نعلم شأن الكتاتيب التي تسمى كتاتيب، و التي بعض الناس يقول زمن الكتاتيب و طريقة الكتاتيب، وكأنه أمر فيه تخلف و هو في حقيقة الأمر من أجود و أمتن و أحسن ما يمكن عليه الحفظ.
وأذكر لكم هذه التجارب تعرفونها خاصة في بلاد المغرب العربي وفي بلاد أفريقيا لازالوا في موريتانيا و غيرها لازالوا بهذه الطريقة. أنا ذهبت مرة إلى المغرب و ذهبت إلى بعض المساجد ووجدت الطلاب كل معه لوحه من الخشب يكتب عليه، فإذا كتب هذا اللوح يظل يردده حتى يحفظه، ثم عندهم هناك سطول من الماء يغمس فيها لوحه فيه ويكون قد ثبت في ذهنه، فإذا محي من لوحه فلا يخشى بإذن الله عز وجل من ذهاب حفظه. فالكتابة أيضا أمر مهم ، وهناك نماذج كما قلت عندما ترى أمثال هؤلاء الذين يحفظون في الكتاتيب تعجب كأن عندك مسجلا، يقول اقرأ من آية كذا ينطلق المسجل ما شاء الله دون أن يخطئ، بل في تركيا عندهم مدارس لتحفيظ القرآن على النظام الداخلي، يدخل فيها الطالب ما يظهر لأهله إلا في آخر الأسبوع لمدة سنتين كاملتين، لكن يحفظ حفظا عجيبا و إن شئت قل أعجب من العجيب أولا بأرقام الآيات بمواضيعها بترتيبها، يمكن إذا جئت بالآية لا يأتيك بالتي بعدها، بل يأتيك بالتي قبلها، و ممكن إذا جئته بالآية و قلت أنك تريد نظائرها قرأ لك هذا الموضع و أتمه ثم جاءك بموضع آخر من سورة أخرى و أتمه، يعنى حفظ في غاية القوة و المتانة .
هذا ما يتعلق بالحفظ.
--------------------------------------------------------------------------------
ثالثا: المراجعة
القسم الثالث المراجعة، وهي من تمام الحفظ، فلا حفظ بلا مراجعة، و ليس هناك مراجعة أصلا من غير حفظ. هناك أسس ثلاثة قبل أن ندخل في طريقة المراجعة.
الأسس
أولا : التعاهد الدائم
ولست كما قلت معنيا بأن نذكر النصوص في تفلت القرآن و ما أخبرنا به نبينا على الصلاة السلام ( تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها ) رواه مسلم ، وقال ( تعاهدوا هذه المصاحف وربما قال القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقله ) رواه أحمد ، تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصيا ، إلى غير ذلك من الأحاديث لكن أقول أن القرآن قال الله عز و جل في وصفه ? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? القمر 17- ، لكن جُعل من خصائصه أنه سريع التفلت، لماذا ؟
حكمة من الله عز وجل، من أراد أن يحفظ القرآن هكذا ليتباهى به، أو يحفظه ليأخذ به جائزة، فهذا لا بأس يحفظ ثم ينسى، أما من يريد أن يحفظ القرآن حفظا لله عز وجل ثم ينتفع به في عبادته و تعليمه و إلى آخره، فإنه لا بد أن يبقى معه و بقائه معه هو التأثير الإيجابي العملي السلوكي فإن الأمر ليس يتعلق فقط بالحفظ نحن اليوم نركز على هذه المعاني لأننا نهدف إلى هدف معين نريد طريقة الحفظ أما بقية الأمور فليست في معزل عن هذا.
ثانيا : لا بد من المقدار الكبير
المقدار الكبير، من يريد أن يراجع صفحة باليوم هذا لا تعد مراجعة و لا ينتفع بها إلا في دائرة محدودة جدا.
ثالثا: استغلال المواسم(/7)
مثل موسم رمضان هو موسم المراجعة الأكبر، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتقي جبريل في رمضان ويتدارسان القرآن معا في كل رمضان حتى إذا كان عام في العام الأخير تدارسه معه مرتين، فهذه النوافل تجمع و تفيد بإذن الله عز و جل.
أما الطريقة فأحب أن أشير إلى أمر مهم جدا إذا اعتبرنا المراجعة هي عبارة عن وقفات و محطات فأحسب أنها لا تفيد، يعنى أمضي لأحفظ خمسة أجزاء ثم أقف للمراجعة، هذه بالنسبة للتجربة أرى أنها كالذي يحرث في الماء، خاصة إذا كانت طريقته في الحفظ أيضا ليست محكمة وجيدة. لا بد أن تكون المراجعة جزءا لا يتجزأ من الحفظ، فكما تحفظ كل يوم تراجع كل يوم، لا تقل لي ليس عندي في هذه الأيام مراجعة أو المراجعة ستكون في الشهر القادم أو بعد شهرين، هذا لا سيما في البدايات لا يمكن أن يثمر ولا ينفع في غالب الأحوال، لا بد أن تكون المراجعة جزء قصير.
الطريقة
ويمكن أن نشير إلى أمرين مهمين في مسألة الطريقة.
أولا: تسميع أربعة صفحات من الحفظ الجديد
عند تسميع كل صفحة جديدة لا بد من تسميع أربعة صفحات من الحفظ الجديد قبلها. يعنى يسمع خمس صفحات، في اليوم التالي ماذا سيصنع، سيحفظ صفحة جديدة سيسمعها و معها أربعة صفحات من التي قبلها وستكون صفحة الأمس معها، صفحة الأمس ستكرر خمس مرات، فهذا أولا جزء المراجعة المبدئي الذي هو للحفظ الجديد، يحتاج إلى صيانة باستمرار، مثل أي شيء تترك صيانته يبدأ يتسرب إليه الخلل، إذا أولا مع كل صفحة جديدة يسمع أربع صفحات من الجديد قبلها، هذا سيجعل الصفحة الجديدة تسمع خمس مرات، قبل أن ينتقل قبل ذلك إلى صفحة سادسة وسيعيد قبلها أربع فلن تكون الأولى منها.
ثانيا: أن يسمع في كل يوم عشر صفحات من القديم
وكما قلت ليس هذا صعبا أو محالا إذا استغل مشيه بسيارته و صلاته في نوافله و قراءته في نوافله و غير ذلك مما أشرت إليه من سماعه لأشرطة، فيتحقق له ذلك بإذن الله دون عناء كبير المهم النية و العزيمة إلى آخر ما ذكرنا في الأسس العامة هذا يضبط لنا الأمر خاصة في البداية، ثم ماذا يحصل نتيجة لهذا، في البداية أيه الإخوة قد يكون مثل هذا الأمر فيه بعض الصعوبة أو يحتاج لبعض الوقت، لكن مالذي يحصل بعد هذا أيه الأخوة، الذي يحصل الست قد اشترطت عليكم أن تكون حفظ الصفحة الأولى مثل حفظ الفاتحة، فإن طبقتم ذلك ثم قرأتموها خمس مرات في نوافلكم ، ثم كانت ضمن الصفحات الخمس التي تسمع في الأيام التي بعدها، فماذا سيكون شأن هذه الصفحة، هل تراك عندما تراجعها ستحتاج إلى جهد أو إلى عناء، أنت ستتلوها كما تتلو فاتحة الكتاب ، و أنت تمشي و أنت تجلس و أنت تنتظر و أنت تقوم و في وقت من الأوقات، إذا ماذا يحصل، المراجعة إذا أتقناها بهذه الطريقة تصبح شيئا لا يشكل عبئا و لا يحتاج وقتا في الوقت نفسه.
فلو تصورت أنك بدأت الحفظ حديثا، فحفظت الصفحة الأولى، ثم جئت باليوم التالي و حفظت الصفحة الثانية، و بذلك تسمع الصفحتين معا حتى إذا جئت إلى اليوم الخامس سمعت الصفحات الخمس، ثم إذا جئت إلى اليوم العاشر سمعت العشر، و بذلك تمضى إلى نهاية الجزء عشرين صفحة، ماذا سيكون، ستكون الصفحة الأولى قد مرت بك نحوا من ثلاثين مره ، فإذا مشيت على هذه الطريقة، إذا جئت إلى الجزء الثاني و الثالث لن يكون الجزء صعبا عليك، و لن تحتاج أن تقول إذا لابد أن أتوقف الآن حتى أراجع ذلك الجزء، هذا التوقف و الوقفات الطويلة للمراجعة هي حفظ جديد. كثيرا ما يصنع ذلك طلبة التحفيظ، يمضى خمسة أجزاء ثم يقول أقف للمراجعة، ووقفته للمراجعة حفظ جديد يحفظها مرة ثانيه ثم لا يحكمها ويمضى خمسة أخرى ثم يقول أرجع و هو كما قلت إنما يحرث في الماء فلينتبه لذلك.
العوامل المساعدة
عوامل مساعدة للمراجعة كما قلت، بعضها مما ذكرت:
أولاً: الإمامة في الصلاة
الإمامة في الصلوات هذا أمر مهم كما ذكرت سابقا.
ثانيا: العمل بالتدريس في مجال التحفيظ
إذا حفظت و أتممت و ختمت لا شك أن هذا مهم جدا، يعينك كثيرا، إذا صرت مدرسا للتحفيظ بعد أن تحفظ، هذا يسمع لك الجزء الأول، و هذا في الخامس، وذاك في العاشر. إرتبط بالقرآن و تسميعه كثيرا.
ثالثا: الاشتراك في برامج التحفيظ
عندما تكون منفردا يختلف الوضع، و لكن عندما تكون مع اثنين أو ثلاثة، أو في حلقة هذا يُسمع و هذا يُسمع و هذا يَسمع لك و أنت تَسمع له سيكون هناك روح من الجد و قدرة على المواصلة في هذا الباب.
رابعا: قيام الليل و القراءة فيه
وهو من الأمور النافعة المفيدة التي قل من يأخذ بها إلا من رحم الله، قيام الليل و الإفاضة فيه. وقد أفاض النووي رحمة الله عليه في التبيان في هذا الباب و كما قلت لا أريد أن نتفرع إلى ذكر الفضائل أو المزايا فإن قراءة القرآن في الليل فيها الهدوء و السكينة و استحضار القلب و اجتماع الفكر إضافة إلى ما يفتح الله عز و جل به عليك و أنت تعبده و الناس نائمون إلى غير ذلك، هذا أمر واضح جدا.(/8)
هذا ما يتعلق بالمراجعة.
--------------------------------------------------------------------------------
رابعا: الروابط و الضوابط
القسم الرابع الروابط و الضوابط. كيف نربط بين الآيات و السور، بعض الناس كثيرا ما يشكون من هذه المشكلة ، خاصة الذين لم يأخذوا بهذه الطرق و لم ينتظموا و يستمروا ، يقول أنا أحفظ و عندي قدرة أن أحفظ في الليلة الواحدة ما شاء الله لي أن أحفظ، لكن المسألة فيها متشابهات و هناك أمور تختلط و السور بعضها البعض، و يسأل عن هذا الأمر. أقول، أولا قبل أن ندخل في التفصيلات، الحفظ لا يتعلق بالروابط و الضوابط و حفظ المتشابهات و غيرها. الحفظ يعتمد على ما ذكرت من حسن الطريقة الصحيحة و من دوام المراجعة المكثفة، لأنه ما المقصود بالحفظ؟ الحفظ أصلا هو عملية ذهنية يمكن فصلها نظريا عن أي شيء آخر، يمكن فصلها عن الفهم، فأنت تستطيع أن تحفظ مالا تفهم، و يمكن فصلها نظريا عن العمل فأنت تستطيع أن تحفظ مالا تعمل به، وهو عملية ذهنية آلية.
مما يذكر في ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر، أنه كان وقّاد الذهن سريع الحفظ، حتى إنه كان يحفظ أي شيء يسمعه، فقيل إنه اختلف روميان بينهما وتصايحا في أمر من الحقوق، فاختلفا إلى من يحكم بينهما، فقال لهما هذا الذي يحكم هل شهد أحد غيركما حواركما وخصامكما، قالوا لا لكن كان إلى جوارنا رجل أعمى - وهو أبو العلاء، الذي يسمى رهين المحبسين - فجيء به، قال إني لما لا أعرف رطنهما لكن الأول قال كذا و كذا و الثاني قال كذا و كذا، مثلا كأنهم اثنين يتكلمان باللغة الإنجليزية وهذا حفظ ما قال هذا و ما قال هذا، أما ما هذا الذي قاله ما معناه لا يدري، هو يحفظ.
إذا فلا تتعلم في الحفظ أنك تريد أن تنظر إلى الضوابط و المتشابهات، و يأخذ بعض الأخوة الكتب ما الفرق بين هذه الآية هذا نعم لا بأس لكن ليس هو الأساس، الأساس أن تحفظ ، الحفظ الذي هو التسميع الذي هو التكرار الذي هو إدمان القراءة و التلاوة و التسميع و المراجعة هذا الذي يتحقق به الفرد، هذه أمور أخرى لاحقه و تابعة و من باب النافلة و الزيادة ليست هي أصلا في هذا و لكنها في الوقت نفسه معينة ومفيدة و مكملة و متممة فلا تعتمد عليها و لكن استأنس بها.
وهذه متفرقات حقيقة حول الروابط و الضوابط، هناك متشابهات الله عز وجل يقول ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ? الزمر 23 - أي في بعض معاني التفسير أنه يشبه بعضه بعضا، و نحن نعلم أن هناك آيات مكرره وآيات متشابهة لا يختلف بعضها عن بعض في حرف واحد وهذا من إعجاز القرآن وسَعة و دِقة معانيه وفيه كلام طويل عند أهل العلم، لكن لنأخذ بعض الملامح في مسائل المتشابهات لعلها أن تعين، إضافة أريد أن أشير إلى أن هذه الروابط و الضوابط تعتمد على كل أحد في نفسه، فأنت قد تجعل لنفسك ضابطا ليس لي، فأنا قد أكون قد ضبطت هذه الصفحة أو هذه السورة في تصور معين وأنت ضبطتها في تصور آخر، أي في ضبط المعنى، أما الحفظ فكله واحد.
من ذلك على سبيل المثال.
أولا: المنفردات و الوحدات
وهنالك رسالة صغيره بهذا العنوان، أي هناك آيات متشابهة لكن واحدة منها كانت بصيغة معينة، تعرفها حتى تعرف أن ما سواها متطابق وهى الوحيدة التي انفردت بذلك، مثل كما في قوله عز وجل ? وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ? البقرة 173- هذه في البقرة لوحدها مع التقديم به لغير الله وفي باقي القرآن إما في المائدة 3 وفي الأنعام 145 و في النحل 115 ? وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ? ، فقط في البقرة ? وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ?. هذه لا تقل لي ستجعلني أحفظ. لا، هي بعد أن تحفظ خذ هذه العلامة فإذا جئت و أنت تقرأ في البقرة في الصلاة و غيرها القاعدة في ذهنك فإذا وصلت لها قدمت به و مضيت وأنت مطمئن، لا متشككا هل هذه كذا أو كذا.
من المنفردات أيضا، الآيات التي في بنو إسرائيل ? وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ? البقرة 61- إلى آخره قوله تعالى ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ? تجد النبيين في أكثرهم و تجدها الأنبياء في آل عمران 112 ? وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ ? وحدها، وهكذا تجد المنفردات يمكن أن تميزها حتى تضبط أو تتم الحفظ و تتقنه بعد حفظك له إن شاء الله.
هناك أيضا مواطن متشابهات كثيرة بعد أن تحفظ لك أن تصنع الروابط و الضوابط بنفسك، خذ الآيات التي فيها متشابهات و ضعها أمام عينيك و اجعل لها رابطا بحسب ما ترى.
أمر إبليس بالسجود ? إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ? البقرة 34، ? إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ? الأعراف 11 ، ضعها أمامك و ميز بينها بأي تمييز تراه يفيدك و يثبت في ذهنك وليس هناك من شرط في هذا. إذاً الأمر واسع.
ثانيا: مسألة المتشابهات و ضبطها في الكتب(/9)
هناك كتب قام بها العلماء في ضبط هذه المتشابهات، ما معنى في ضبطها يعنى أنهم جاءوا لك بالآية و شبيهها في موضع واحد، ونبهوا أن الفرق بين هذه و هذه هو هذا الحرف أو هذه الكلمة أو هذا التقديم أو هذا التأخير ، إذا في كونها جُمعت بين مكان واحد فهذا يساعدك على أن تستوعبها و أن تجعل هناك فرقا بينها، إضافة إلى أن العلماء صنف بعضهم في هذه المتشابهات معلقا على الاختلاف بينها في المعاني، فإذا عرفت المعنى لا شك أنه سيثبت لك الفرق بين هذه الآيات و هذه الآية، على سبيل المثال قد ذكرت ذلك بالمناسبة في درس " جولة في المصادر القرآنية" عندما تكلمنا على الكتب التي فيها بيان لاختلاف المعاني بالنسبة للآيات المتشابهة منها " فتح الرحمن في كشف ما يلتبس من القرآن" و منها " درة و التأويل و غرة التنزيل" إلى غير ذلك مما سأذكر منه الآن، أقول هذه الكتب عندما تعرف هذه الكلمة و أن هناك مشابها لها ولكن في اختلاف، وهذا الاختلاف جيء به لغرض هذا المعنى كذا و كذا، هذا يثبت في ذهنك الفرق بين هذا و هذا ، و هو أمر مهم جدا . أضرب مثال، في قصة زكريا عليه السلام وقصة مريم في سورة آل عمران، في الأولى قال ? قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ? آل عمران 40 - و في قصة مريم قال ? قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ? آل عمران 47 - لم قال هناك يفعل و لم قال هنا يخلق، هناك زكريا الزوج موجود و المر أه موجودة اللهم كبر السن فلأمر ليس مثل قصة مريم امرأة بلا زوج قال ? يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ? فهنا تستطيع أن تفرق بالمعنى بين هذه القصة و تلك القصة فيثبت في ذهنك أن قصة زكريا فيها ? كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ? و في قصة مريم (? كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ? وهكذا.
هناك كتب كما قلت منها " درة التنزيل و غرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات من كتاب الله العزيز " للخطيب الكافي، منها " أسرار التكرار في القرآن " للإمام محمود بن حمزة الكرماني ، و منها " متشابه القرآن" لأبي حسين ابن المنادى، و منها " منظومة هداية المرتاب وغاية الحفاظ و الطلاب " للإمام الشيخ أبى بطر فيها بعض هذه المتشابهات.
و لنأخذ أمثلة مما قد تضبطه بنفسك و تضع له قاعدة وحدك دون غيرك، المسألة واسعة.
مثلا في آل عمران في الآية 176 و 177، و 178 فيها ? وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?،? وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?،? وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ? اجمعها في كلمة عام، العين عظيم، و الألف أليم ، و الميم مهين، تنضبط معك، فإذا جئت إلى هذه الصفحة انطلقت و أنت مطمئن لا خوف عليك أن تخلط بين هذه و تلك.
مثال أيضا آخر، في المائدة، ? لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ -62 ? بعده مباشرة ? لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ -63? بعدها في الصفحة التي بعدها ? لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ -79? ، اجمعها في كلمة عصف، الأولى عين يعملون و الثانية طاء يصنعون و الثالثة فاء يفعلون، أيضا تنضبط معك و تبقى في ذهنك ولا إشكال فيها بإذن الله عز وجل.
ومثلا ? فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ? الصافات 98- و ? وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ? الأنبياء 70- ميز بينها الصافات فيها الفاء ، نفس كلمة الصافات فيها حرف الفاء فاجعل فيها "فأرادوا" ، و أيضا فيها فاء في "الأسفلين" فإذا الفاء في الصافات في هذا المعنى، و تبقى الأنبياء بالواو و بالأخسرين بدل الأسفلين.
وهكذا قس على هذا أمورا كثيرا تستطيع أن تجعلها على هذا النسق ، و مثل أيضا ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ? الإسراء 89- و قوله عز وجل ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ? الكهف54. الأولى في الإسراء فيها حرف السين فقدم ما فيه السين " الناس" و قل ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ ? ، و الثانية في الكهف فيها فاء فقدم ما فيه الفاء و قل ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ ?.
وهكذا ضوابط معينه ممكن أن تستفيد منها، أيضا تقديم اللهو و اللعب ?الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ? الأعراف 51، ?وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ? العنكبوت 64- قال أحدهم ضابطا لها "و قدم اللهو على اللعب في الأعراف قل و العنكبوت يرضى فيه" .
يعنى أي بيت أي كلمات تضبطها بعض الحروف أي شيء من هذا. هناك أيضا مثل " الرجفة مع الدار " و " الصيحة مع الديار" قاعدة عامه ( فأخذتهم الرجفة ) سيكون الكلام في دارهم، ( فأخذتهم الصيحة ) سيكون الكلام في ديارهم. وهكذا ستجد أنواعا كثيرة في هذا الجانب.
ثالثا: فهم المعاني و تأملها(/10)
مما يساعد على الربط و الضبط أيضا، كيف أيه الأخوة الأحبة، مثلا موضوع السورة، خاصة السور غير السور الطوال، موضوعها قد يساعدك على أن تتصور التدرج في هذا الموضوع. بدأ الله عز و جل مثلا في سورة الرعد في الآيات التي في السماوات من عظيم خلقه ثم الآيات التي فيها الأرض ثم بعد ذلك انتقل إلى موقف الكفار من هذه الآيات و أنهم كفروا بالله عز و جل ثم انتقل إلى إقرار آخر في علم الله عز وجل، يعني يمكن إذا قرأت ما يعرف بمقاصد السور أن تتصور هذه السورة بمقاطعها و أجزائها فتعينك على تصور تسلسلها.
بعض السور أيضا يعينك أنها القصص الطويلة، القصص الطويلة مثل قصة يوسف ، سورة كاملة إذا عرفت القصة و تسلسلها طبعا لن تقفز من حدث إلى حدث و تأتي بآيات قبل الحدث الأول، إذا كنت تعرف القصة و عرفت مضامينها. و قلت القصص الطويلة مثل قصة يوسف و قصة موسى في بعض المواقع يمكن تصور القصة أن يعين على الربط بين آياتها ويعين ذلك أيضا في مثل السور التي فيها قصص لعدد أو لكثير من الرسل و الأنبياء مثل قصة هود و قصة الأعراف و الأنبياء، حاول أن تعرف أو أن تكتب قصص الأنبياء مرتبة، نذكر مثلا في الأعراف قصة نوح ثم عاد ثم صالح ثم إلى آخره. فاعرفها حتى إذا انتهيت من قصة النبي الأول وأنت تقرأ عرفت أن بعده النبي الثاني فتبدأ بوقفة تحتاج إلى دفعه، فاجعل دفعتك ذاتية دون أن تحتاج إلى من يدفعك أو من يلقنك.
أيضا الأجزاء و الأرباع أيها الأخوة و السور، مبدأ السورة، مطلع الجزء، بداية الحزب أو الربع، مهم جدا و يوفيه. فأنت تجعل لكل ربع مضمونه، مثلا أن تقول الربع الأول في البقرة طبعا سيكون محفوظ، فيه قصة آدم و الملائكة، الربع الثاني قصة بني إسرائيل و فرعون، الربع الثالث قصة البقرة، تجعل لكل ربع مثلا تصورا معينا أو مضمونا معينا تجعله حاضرا في ذهنك هذا الربط بالمعنى و فيه صعوبة لكنه في الغالب مع المراس يتولد عندك شيئ من هذا الربط.
رابعا: الربط العام
الضبط المقصود، الرابع و الأخير الربط العام، أن نربط الآيات بطريقة الحفظ التي ذكرناها، و نربط السور و الأجزاء و نعرف ترتيب السور و ترتيب الأجزاء و مطالعها هذا يتم كذلك بالطريقة التي أشرنا إليها في الحفظ و في المراجعة
--------------------------------------------------------------------------------
خامسا: اختلافات و فروق
أخيرا النقطة الخامسة من نقاط الدرس وهي الفروقات و الاختلافات. لا شك أن الذي ذكرناه قواعد عامة و أن الناس يتفاوتون في السن و في الحفظ و في سعة الوقت و في القدرة على الاحتمال ونحو ذلك، هذا كله وارد في هذا الباب، لكنني قد ذكرت ما أحسب أنه يصلح للجميع، و لذلك كان بعض الأخوة يتصور أن الدرس سيكون عن حلقات التحفيظ و الطالب في التحفيظ و القدر الذي يأخذه في الحلقة و كذا، قد نجعل هذا جزءا من حديث الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
و قد أردت أن يكون التركيز في هذا على معنى الحس بحثا مجردا لأي أحد كبيرا كان أو صغيرا، موظفا أو طالبا بحلقة أو بغير حلقة، منفردا أو مع مجموعه، يمكن أن يفيده مما ذكرت من هذه المعلومات و الطرق و الملامح السريعة التي أشرت عليها. لكنني أيضا أقول لهذه الفروقات جوانب منها.
أولا: السن
الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، فاحفظ و أنت صغير إن استطعت، أما إذا كنت قد كبرت فلن تستطيع أن تصغر نفسك، لكن عوض ذلك في أبنائك، و انتفع بهم إن شاء الله، و الحفظ في الصغر كما قلت حفظ لذات الحفظ أو لمضمون الحفظ، لن أقول للصغير متشابهات لأنه لا يدرك هذا المعنى، لن أستطيع أن أشرح له معاني الآيات و تفسيرها هو سيحفظ حفظا و يرسم رسما، هذا الحفظ هو الحفظ القوي المتين، كما يحصل الآن مثلا في دراسات المعاهد الإسلامية على المناهج القديمة خاصة الأزهر و غيره، يحفظون في الأزهر في الابتدائية - هم عندهم على النظام القديم أربع سنوات ابتدائية ثم أربع سنوات متوسط - يحفظون في الابتدائية أربع سنوات ألفية ابن مالك، كل سنة يحفظون مئتين و خمسين بيت يحفظها الطالب لا يفهم منها شيئا و لا يعقل منها شيئا، فإذا دخل المتوسط كان المنهج المقرر شرح ألفية ابن مالك.
لا تقل لي في مسألة الحفظ ما يقوله لا أقول التربويون، لأن التربويون الحقيقيون لا يقولون هذا، أن الحفظ مسألة غير تربوية و بعض الناس يقول لماذا نرهق أبنائنا بالحفظ في المدارس الابتدائية، و أحدهم كتب في إحدى الجرائد قائلا من قال لكم إن السور القصيرة سهلة الحفظ، يقول بعض السور القصيرة من أصعب ما يمكن حفظه، طبعا هو يتحدث عن نفسه و الله أعلم، أما الله عز و جل قال ? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? القمر 17 .(/11)
فالحفظ هو الأساس في العلم، ليس وحده و لكن هو الأساس في المدخل، تريد أن تفهم، كيف تفهم مالا تحفظ!. تريد أن تستشهد، كيف تستشهد بما لا تحفظ ! تريد أن تدلل، كيف تدلل على مالا تحفظ !، إلى آخر ذلك الحفظ أمر أساسي و لا بد منه، إذا أول شيء في الفروق و الاختلافات مسألة السن فاحرص على هذا الشيء.
ثانيا: الأوقات و الشواغل
اختر الوقت الصافي، الذي فيه صفاء من وجهين،
أولا صفاء الكوادر و الشواغل، بمعنى أنك لا تنصرف به عن شيء.
ثانيا أن يكون صافيا خالصا لفترة الحفظ، لا تجمع معه شيء غيره، لا تحفظ و أنت تريد الحفظ، تحفظ و تأكل، تحفظ و تجيب على التلفون تحفظ و.... لا تفعل ذلك أبدا. اجعل حفظك صافيا في وقته للحفظ و بعيدا عن الشواغل في هذا الوقت، وهذه الأوقات تتفاوت بين الناس لكن أفضل وقتين فيما يرى و الله أعلم في الواقع في حياة الناس، قبل النوم و بعد الفجر.
قبل النوم لن يكون عندك أحد و لن يأتيك أحد، و إن كان الناس كثير منهم تعودوا على الإزعاج و غير ذلك، و لكنه أهدى الأوقات. و بعد الفجر أيضا أهدئها و أعونها على الحفظ.
ثالثا: البرمجة
الأمر الثالث الناس تكون في أشغالهم و وظائفهم و لكن هناك أمر لا بد منه البرمجة، ما يكون عندك من أمر له أهمية ضعه في برنامجك، كما أنه لا تتصور أن يمضي يومك دون أن تصلي الفرائض الخمس، أو أن يمضي يومك دون أن تنام، أو دون أن تأكل، أو عند بعض الناس دون أن يفعل شيئا من الأشياء التي تعودها، فاجعل أنه لا يمضي وقتك و يومك إلا و فيه في البرنامج جزء ووقت لهذا الأمر، يقل أو يكثر ليس مهما لكنه لا بد أن يثبت، يقل و يقصر نعم لكن لا يزول بل يثبت، و هكذا سنجد هذا واضحا بينا.
وأخيرا أذكر بعض الأمور الواقعية، فليس هذا الكلام نظريا، و لا خياليا بل هو واقعيٌ في أعظم سور الواقعية، و أذكر لكم بعض الأمثلة من المعاصرين و القدماء.
أما القدماء فقد ذكر الذهبي في معرفة القراء الكبار، ذكر عن أحد المتَرجمين من القراء أنه حفظ القرآن في سن سنين يعني في الخامسة، قال وجمع القراءات في العاشرة، قال و هذا قل في الزمان مثله، و هذا يحصل و يقع و تجد و الحمد لله هذه الأمور واضحة.
الشيخ الدوسري عليه رحمة الله، في ترجمته المطبوعة في كتاب ترجمة حياة الشيخ الدوسري، قال و حفظت القرآن في شهرين، اعتزلت فيها الناس و أغلقت علي مكتبي و لم أكن أخرج إلا للصلاة.
و أنا أذكر لكم قصة رجل أعرفه و هو لا يزال موجودا بيننا أختم به الدرس، هذا شاب أصله من السودان كان والده يدرس في أمريكا وولد هو في أمريكا، فصار مستحقا للجنسية الأمريكية، ودرس هناك المرحلة الأولى الجامعية و أخذ الماجستير في الهندسة و شرع أيضا في مرحلة الدكتوراه، و كان في المسجد أو المركز الإسلامي الذي هو فيه بعض إخواننا ممن يسكنون معنا في هذا الحي وهو ممن يحفظ أكثر القرآن و يجوده و قراءته جميلة، فكان يؤم فيهم بالصلاة، فلفت نظره، يقول ما كنت قد سمعت قراءه بمثل هذه الجودة و الحلاوة، ثم سألت فقيل أن هذا يحفظ عشرين أو خمسة و عشرين، ففكرت أنا مسلم و لا أحفظ القرآن و أحسن قراءة القرآن، فعزمت أن أحفظه، فماذا صنع، أوقف دراسته و أخذ إجازة، و جاء إلى المملكة متفرغا للحفظ، يقول يريد أن يحفظ و أن يتعلم بعض الأمور من الحديث و بعض العلوم الإسلامية، وجاء إلي مرسلا من هذا الأخ الذي هو جار لنا فوجدت عنده همة و عزيمة عالية، فذهب إلى مكة في الحرم متفرغا و للترتيب مع بعض المدرسين لعلهم أيضا أعانوه في ذلك، فأتم الحفظ في مئة يوم يعنى ثلاثة أشهر و عشرة أيام في الحرم، أغلب وقته متفرغا لهذه في الحرم و يمكث فيه الوقت الطويل، ثم جاء إلى هنا مرة أخرى فطلب أن يلتحق بمدرس أو محفظ حتى يراجع و يسمع الختمة عشر و عشرين مرة، فألحقته بأحد حلقات واحد من المدرسين الجيدين و بمدرس آخر للتجويد فهو الآن يسمع وهو مواظب و منتظم لا يغيب يوما واحدا، و ما جاء إلا لهذا و ما فرغ وقته إلا لهذا و ما قطع دراسته إلا لهذا. إذا المسألة إن شاء الله بالنية و العزيمة و الله يبارك ويوفق و يعين.(/12)
كيف ترق قلوبنا ؟
فضيلة الشيخ: محمد مختار الشنقيطي
..................................................
الحمد لله علام الغيوب.
الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز مطلوب وأشرف مرغوب.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا.
صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، وعلى جميع من سار على نهجه وأتبع سبيله إلى يوم الدين…….أما بعد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخواني في الله:
إن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن وعطية من الديان تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزا مكينا وحصنا حصينا مكينا من الغي والعصيان.
ما رق قلب لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقا إلى الخيرات مشمرا في الطاعات والمرضاة.
ما رق قلب لله عز وجل وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكّر إلا تذكر، ولا بُصّر إلا تبصر.
ما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئنا بذكر الله يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى.
وما رق قلب لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل، فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطش الله تبارك وتعالى.
ما انتزعه داعي الشيطان إلا وأنكسر خوفا وخشية للرحمن سبحانه وتعالى.
ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى.
القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صدّيق.
القلب الرقيق رفيق ونعم الرفيق.
ولكن من الذي يهب رقة القلوب وانكسارها؟
ومن الذي يتفضل بخشوعها وإنابتها إلى ربها ؟
من الذي إذا شاء قلَبَ هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عز وجل، وأخشع ما يكون لآياته وعظاته ؟
من هو ؟ سبحانه لا إله إلا هو، القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلب، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه.
حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب.
فلا إله إلا الله، من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة بعد أن كان فظا جافيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه.
إذا بذلك القلب الذي كان جريئا على حدود الله عز وجل وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة إذا به في لحظة واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصرا يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.
أحبتي في الله:
إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا أعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى.
وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودا بعذاب الله، قال سبحانه:
(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله).
ويل، عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله، ونعيم ورحمة وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى.
لذلك – أخواني في الله – ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقا؟
كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة ؟
فأكون حبيبا لله عز وجل، وليا من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه وتعالى، لأنه يعلم أنه لن يُحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئا كثيرا.
ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق قلوبهم فالقلوب شأنها عجيب وحاله غريب.
تارة تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل وداعي الله.
لو سُألت أن تنفق أموالها جميعا لمحبة الله لبذلت، ولو سألت أن تبذل النفس في سبيل الله لضّحت.
إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته.
وهناك لحظات يتمعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى، لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه ويتألم فيها فؤاده حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.
وللرقة أسباب، وللقسوة أسباب :
الله تبارك وتعالى تكرم وتفضل بالإشارة إلى بيانها في الكتاب.
فما رق القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى.
ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقا لله عز وجل، وكان وقّافا عند حدود الله.
لا تأتيه الآية من كتاب الله، ويأتيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال:
(سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).
فما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته إلى الخير سباق، وعن الشر محجام.
فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه.
أن يعرفه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب.
يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم.(/1)
وتذكره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم.
ويذكره الخير والشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى.
فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.
والعكس بالعكس فما وجدت قلبا قاسيا إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله، وعذاب الله وأجهلهم بنعيم الله عز وجل ورحمة الله.
حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله، وأيئس ما يكون من روح الله والعياذ بالله لمكان الجهل بالله.
فلما جهل الله جرأ على حدوده، وجرأ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلا ونهارا وفسوقا وفجورا، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفا في وجوده ومستقبله.
لذلك – أحبتي في الله – المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كل ما وجدت الإنسان يديم العبرة، يديم التفكر في ملكوت الله، كلما وجدت قلبه فيه رقة، وكلما وجدت قلبه في خشوع وانكسار إلى الله تبارك وتعالى.
السبب الثاني:
الذي يكسر القلوب ويرققها، ويعين العبد على رقة قلبه من خشية الله عز وجل النظر في آيات هذا الكتاب،
النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب.
النظر في كتاب وصفه الله بقوله:
(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير).
ما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قرأته حاضر القلب متفكرا متأملا إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع والنفس تتوهج إيمانا من أعماقها تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله عز وجل وطاعته.
ما قرأ عبد القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قرأتها والتأمل فيها رقيقا قد اقشعر قلبه واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى:
(كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد).
هذا القرآن عجيب، بعض الصحابة تُليت عليه بعض آيات القرآن فنقلته من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آيات يسيرة.
هذا القرآن موعظة رب العالمين وكلام إله الأولين والآخرين، ما قرأه عبد إلا تيسرت له الهداية عند قراءته، ولذلك قال الله في كتابه:
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).
هل هناك من يريد الذكرى ؟
هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية ؟… هذا كتابنا.
ولذلك – أحبتي في الله- ما أدمن قلب، ولا أدمن عبد على تلاوة القرآن، وجعل القرآن معه إذا لم يكن حافظا يتلوه آناء الليل وآناء النهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.
السبب الثالث:
ومن الأسباب التي تعين على رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى تذكر الآخرة، أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر.
أن يتذكر أن لكل بداية نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة وأن المتاع فان وأنها غرور حائل دعاه – والله – ذلك إلى أن يحتقر الدنيا ويقبل على ربها إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه.
ومن نظر إلى القبور ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور والعياذ بالله.
ولذلك لن تجد إنسان يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر، إذ يرى فيها الأباء والأمهات والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب، والإخوان والخلان.
يرى منازلهم ويتذكر أنه قريب سيكون بينهم وأنه جيران بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة.
وأنهم قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيما وجحيما.
ما تذكر عبد هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرها إلا رق قلبها من خشية الله تبارك وتعالى.
ولا وقف على شفير قبر فراءه محفورا فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، ولا وقف على شفير قبر فرى صاحبه يدلى فيه فسأل نفسه إلى ماذا يغلق ؟
وعى من يُغلق ؟
وعلى أي شيء يُغلق؟
أيغلق على مطيع أم عاصي ؟
أيغلق على جحيم أم على نعيم ؟
فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.
ما نظر عبد هذه النظرات ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات إلا اهتز القلب من خشية الله وانفطر هيبة لله تبارك وتعالى، وأقبل على الله إلى الله تبارك وتعالى إقبال صدق وإنابة وإخبات.
أحبتي في الله:
أعظم داء يصيب القلب داء القسوة والعياذ بالله، ومن أعظم أسباب القسوة بعد الجهل بالله تبارك وتعالى:
الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها، وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إذ اشتغل العبد بالأخذ والبيع، واشتغل أيضا بهذه الفتن الزائلة والمحن الحائلة، سرعان ما يقسو قلبه لأنه بعيد عن من يذكره بالله تبارك وتعالى.(/2)
فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال سبحانه وتعالى، ولم يحل بيننا وبين الطيبات.
ولكن رويداً رويدا فأقدار قد سبق بها القلم، وأرزاق قد قضيت يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر.
يأخذها برفق ورضاء عن الله تبارك وتعالى في يسير يأتيه وحمد وشكر لباريه سرعان ما توضع له البركة، ويكفى فتنة القسوة، نسأل الله العافية منها.
فلذلك من أعظم الأسباب التي تستوجب قسوة القلب الركون إلى الدنيا، وتجد أهل القسوة غالبا عندهم عناية بالدنيا، يضحون بكل شيء، يضحون بأوقاتهم.
يضحون بالصلوات
يضحون بارتكاب الفواحش والموبقات.
ولكن لا تأخذ هذه الدنيا عليهم، لا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو درهم منها، فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب.
والدنيا شُعب، الدنيا شُعب ولو عرف العبد حقيقة هذه الشُعب لأصبح وأمسى ولسانه ينهج إلى ربه:
ربي نجني من فتنة هذه الدنيا، فإن في الدنيا شُعب ما مال القلب إلى واحد منها إلا استهواه لما بعده ثم إلى ما بعده حتى يبعد عن الله عز وجل، وعنده تسقط مكانته عند الله ولا يبالي الله به في واد من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلا لها مكرما، فعظّم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال والتعظيم والتكريم سبحانه وتعالى، فلذلك كانت عاقبته والعياذ بالله من أسوء العواقب.
ومن أسباب قسوة القلوب، بل ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفساق ومعاشرة من لا خير في معاشرته.
ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في صحبتها إلا قسي قلبه من ذكر الله تبارك وتعالى، ولا طلب الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على مجالسهم إلا جاءته الرقة شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء قلبه فتخرجه عبدا صالحا مفلحا قد جعل الآخرة نصب عينيه.
لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تهب لنا قلوبا لينة تخشع لذكرك وشكرك.
اللهم إنا نسألك قلوبا تطمئن لذكرك.
اللهم إنا نسألك اللسنة تلهج بذكرك.
اللهم إنا نسألك إيمانا كاملا، ويقينا صادقا، وقلبا خاشعا، وعلما نافعا، وعملا صالحا مقبولا عندك يا كريم.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين.
والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
واحات الهداية / http://www.khayma.com/ante99/index.htm(/3)
كيف تصلان إلى بر الأمان الإلهي
FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT="
* فاطمة الصدر
إن أهمية الأسرة ودورها في المجتمع البشري يتضحان من خلال الإمعان في هذين البعدين. والأسرة وحدة اجتماعية اعتبر القرآن تشكيلها استهدافاً لتأمين السلامة النفسية لثلاثة أجيال هي الزوجان والآباء والأبناء وأقرباؤهم، واستعداداً للمواجهات الاجتماعية. ففي سورة الفرقان، تشير الآية 74 وهي (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً) إلى أهمية الأسرة كونها القدوة لتكوين المجتمع المثالي للإنسان. كما تعتبر الآية العلاقات العائلية السليمة النيرة مثالاً للمتقين ومبتغاهم.
والقرآن يعرف الأسرة أنها مدرسة الحب والمودة. ففي الآية 21 من سورة الروم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وهنا نلاحظ نقاط هامة عن الأسرة وهي:
1 ـ أزواج من أنفسكم: فأحد الجوانب الهامة في الأسرة هو العلاقة بين الزوج والزوجة. وكما نوهنا من قبل فإن الإنسان موجود اجتماعي لا ينمو ولا يتفتح ولا يرقى إلى الكمال البشري إلا من خلال الارتباط بالآخرين، والمعاناة الناجمة عن هذه العلاقة، والمسار نحو الكمال لا يتناهى.
وفي كل مرحلة من مراحل العمر والنمو ثمة حاجات داخلية خاصة تتجلى في حال ارتباط الإنسان بالآخر ويبين أثر انعكاس صورة الحاجة النفسية على وجه المراد والمطلوب، وعندئذ يمكن كذلك معرفة النفس. وما العلاقة بين الزوج والزوجة إلا علاقة حميمة لا يشوبها أي غرض. ففي الأسرة تظهر نقاط الضعف والقوة النفسية للإنسان دون أدنى تحف وتخوف أو أية اعتبارات اجتماعية أخرى، وحيث تتوفر بالطبع إمكانية معالجتها. إذ يمكن بالتحلي بالصبر والتؤدة والوفاء والثقة المتبادلة معرفة السلبيات ودراستها والتخلص منها في سبيل تزكية النفس وتصفيتها.
فالإسلام يرى إن شوائب الداخل هي أسوأ بكثير من قبح الخارج. والبيئة التي تتسم بإمكانية إبراز السلبيات النفسية دون الرهبة من العقاب تتميز كذلك بتوفير إمكانية التخلص من تلك المنغصات. وبقوة المحبة يمكن المبادرة إلى أصعب الأفعال.
2 ـ وجعل بينكم مودة: والنقطة المهمة الثانية في الأسرة هي المودة بين الزوجين فبالتعامل الودي بينهما وتعاضدهما في مسار معرفة النفس وبارئها، يظفر الإنسان بالطمأنينة ويصل وادي الأمان الإلهي. ومن هنا وردت عبارة (لتسكنوا إليها) في الآية الشريفة.
3 ـ لتسكنوا: السكنى هو التوصل إلى مقام السكينة، يدل بصورة رمزية على أن يحظى المرء بمكانته وموقعه في الوجود. ومن وجهة نظر القرآن، فإن من شأن الأسرة التمهيد لذلك سواء بالنسبة للزوجين أو بالنسبة للمثال الذي يحتذي حذوه الأبناء.
4 ـ الرحمة: إن تآلف الزوجين وتآزرهما بقوة المحبة والود على طريق الكمال يجلب الرحمة للأسرة وللآخرين، فالعلاقة السليمة هي الكفيلة بتوفير الأرضية المناسبة للارتباط المسؤول والمثابر. وهو ما يقتدي به الناشئة ويتخذونه مثالاً في علاقاتهم بالمجتمع في المستقبل.
إن المقصود من إقرار التنسيق والتوازن بين الزوجين لا يعني توافق الطرفين مع بعضهما البعض بقدر ما يعني بذل المجهود من أجل الاستكمال المتبادل، والقبول في الوقت نفسه بالفوارق الطبيعية والذاتية. فكما هناك فوارق فيسيولوجية بين الرجل والمرأة، ثمة اختلافات نفسية كبيرة بينهما.
ولكن فيما يتعلق بالنفسيات والخصائص، فإن اختلاف الأفراد من هذه الناحية غير واضح مثل الاختلافات الفيسيولوجية، ولا علاقة له بالأنوثة والرجولة. والبيئة والأسرة والثقافة هي العوامل المؤثرة في شخصية الإنسان. وتظهر هذه الفوارق في سلوك المرأة والرجل وتصرفاتهما. وهنا بالضبط تتحدد رسالة الأسرة الرئيسية، أي التفاهم والود المتبادل بهدف التأمل مع اختلاف الميول على اعتبارها عناصر متنوعة تشكل بمجموعها وحدة واحدة. ويتطلب ذلك لاصدق والثقة والتواضع والتقوى والتنزه عن محورية الذات. وهو ما يحدو بالأبناء إلى اتخاذه مثلاً أعلى في علاقاتهم مع الآخرين في المجتمع، بحيث يرون الفوارق الفردية والاجتماعية والثقافية لدى الآخرين عاملاً من عوامل التكامل. وهذا النوع من التعامل يمهد للتفاهم بين الشعوب والتوفيق بين المعتقدات المختلفة، ومن شأنه كذلك إحلال السلام.
ورغم الدلالات الواضحة في القرآن بشأن المساواة بين الرجل والمرأة، إن على مستوى الأسرة أو على صعيد المجتمع، فإن النساء في بعض البلدان الإسلامية ما زلن للأسف عرضة للظلم.(/1)
ولا يعني هذا ألبتة إن حالة المرأة في الدول الأوربية تتلاءم وموقعها الانساني، بل إنها تتعرض كذلك للظلم بصورة أخرى. وأحد أسباب ذلك هو البنية والمعتقدات الاجتماعية السائدة. والثاني هو أن المرأة لم تبادر بنفسها طوال التاريخ إلى مراجعة النصوص وفهمها وتفسيرها وبالتالي تقرير حقها، بل غالباً ما عهدت بذلك إلى الرجل أضف إلى ذلك وفي سياق البحث عن أسباب تخلف المرأة في المجتمعات الإسلامية الخلط بين البعدين الوجوديين للإنسان في تفهم حقوقها، أي: 1 ـ البعد الجنسي: المرأة، الرجل، و 2 ـ البعد المعنوي والإلهي. فالمرأة والرجل يختلفان فيسيولوجياً، لكنهما من الناحية النفسية والمعنوية من أبناء البشر، و (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). والرؤية الإسلامية هي إن الإنسان ماض في طريق الكمال ما دام قد تحلل من الرغبات والارتباطات المادية وبلغ النضج المعنوي. ومن المنطلق القرآني فإن إمكانية هذا النضج متاحة لكلا الجنسين وعليه فإن الارتكاز إلى مبدأ الجنس في حقوق الأسرة، والتي لا تتوقف فيها قيمة الترابط والتوحد عند حدود العلاقة الفيسيولوجية يؤدي فيما يؤدي إلى تخلف المرأة. واستناداً إلى حالة اللامساواة بين الرجل والمرأة في بعض الأسر الإسلامية، فقد زعم نفر من النقاد في الغرب والشرق مغرضين إن الحقوق الإنسانية للمرأة في الإسلام أقل من حقوق الرجل ورداً على هؤلاء ينبغي القول أن استقراءنا وتفهمنا للإسلام والقرآن يختلف عن ذلك، فنحن ننظر إلى القرآن ككل يرتبط بعضه ببعض بشكل وثيق ومتوائم. وقد ورد في القرآن ذاته إن فيه المحكمات والمتشابهات، ويتعين فهم وتفسير بعض الأجزاء منه بأجزاء أخرى. ولتنظيم حقوق الأسرة بصورة عادلة نستدل على النحو الآتي:
1 ـ يتساوى الرجل والمرأة في القرآن من حيث الخلق. جاء في الآية الأولى من سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ... ).
2 ـ تتكافأ فر بلوغ الرجل والمرأة مراحل التطور البشري. وفي ذلك تقول الآية 13 من سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
3 ـ تساوي الأجر والجزاء. الآية 35 من سورة الأزاب.
إن القرآن يدعو الناس كثيراً إلى التدبر والتفكر والتأمل في الشؤون الإنسانية والطبيعية، ويحثم على الفهم وسماع آيات الله والاعتبار بها. وقد أردف القرآن الإيمان بالعمل الصالح دائماً. فهل يمكن تجاهل عنصري الزمان والمكان في العمل الصالح المناسب؟
قبل بزوغ فجر الإسلام لم يكن للمرأة أدنى حق. فقد كانوا يئدون البنات، وكان بمستطاع الرجل الزواج من أي عدد من النساء شاء. وكانت تعاليم الإسلام في سبيل إقرار حقوق المرأة آنذاك حديثة ومتطورة جداً، ذلك إن نهج الدين الإسلامي جاء لتحول الإنسان والرقي به. وكان السبيل الأمثل هو التغيير خطوة فخطوة، إذ لم يكن من الأجدر والأجدى التحول بين عشية وضحاها وقلب التقاليد والعادات الاجتماعية بالمرة.
أما اليوم، وبأخذ موضوعات القرآن بعين الاعتبار، أي التأكيد على مساواة القيمة الوجودية الشاملة للمرأة والرجل، ودعوة الناس إلى التفكر والتأمل في آيات الله البينات، واستخلاص العبر والنتائج الحكيمة منها، فيمكن القول أن حقوق المرأة والرجل في الأسرة متساوية، وإن المعيار في إدارة أي منهما لشؤون الأسرة هو التقوى والجدارة.
وهنا لابد من إبداء ملاحظة أخرى وهي إن الرجل والمرأة إذا ما لم يتمكنا من التوصل إلى التفاهم والوحدة المتوخاة وأبعدتهم المشاحنات الناجمة عن نوعية علاقتهم عن بعضهم البعض، فإن الإسلام يجيز لهما الطلاق رغم اعتباره أبغض الحلال، ويضع هذا الحل أمامهما.(/2)
( كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ )
عناصر الموضوع :
أقسام المجالس
فلينظر أحدكم من يخالل
السلف وحرصهم على مجالسة الصالحين
ما يجب على من يجلس مجالس المنكرات
أسباب الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وحِكمه
كيف تكون مجالسنا إسلامية؟
إن المجالس التي يجلس فيها الناس تختلف وتتنوع، فبعضها مجالس دنيوية بحتة ليس فيها أي ذكر لله تعالى، ومجالس فيها معاصٍ ومنكرات ونحو ذلك، فموقف الداعية وطالب العلم من ذلك أن يبادر إلى الإنكار، فإن لم يستطع فليخرج وليفارق ذلك المجلس الذي يعصى الله تعالى فيه، أو يشغل الناس بقراءة كتاب أو تفسير آية... وغير ذلك من الأمور.
أقسام المجالس:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! تكلمنا في الأسبوع الماضي عن أنواع المجالس التي يجلس فيها الناس، وتكلمنا أيضاً عن أهمية هذه المجالس وأنها مرآة المجتمع، وأن أفكار الناس وتصوراتهم وآراءهم تطرح في مجالسهم في الغالب، وأن المجالس لها تأثير كبير على عقول الناس، وأن ما يحدث في المجلس ينعكس على داخل الأسرة بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن المجلس -أيها الإخوة- فرصة خير لمن أراد الله تعالى به خيراً، ومن أراد الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً، وهو فرصة للازدياد من الشر والسيئات، والوقوع في حبائل الشيطان لمن أغواه عدو الله إبليس وجعله من جنده وأعوانه.
مجالس دنيوية بحتة:
ولذلك -أيها الإخوة- ذكرنا في المرة الماضية أن غالب مجالس الناس: إما أن تكون حديثاً دنيوياً بحتاً من أول المجلس إلى آخره ليس فيه ذكر لله تعالى، ولا تسمع فيه آية ولا حديثاً واحداً، وذكرنا بأن هذه المجالس مذمومة، وأن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصف أهلها الذين لا يذكرون الله تعالى فيها أبداً، ولا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يتفرقون على مثل جيفة الحمار.
مجالس منكرات ومعاصٍ:
والنوع الثاني من المجالس في الغالب مجالس السوء والمعصية التي تمتلئ غيبة وبهتاناً في عباد الله تعالى، وتمتلئ استهزاءً وسخرية بآيات الله وأحكامه وشرعه، وهي كذلك -أيها الإخوة- تمتلئ بالملهيات التي تشغل عن ذكر الله، فمنهم من يقعد يلعب بالورق أو بالألعاب الأخرى حتى يطلع الفجر، أو ينام قبل الفجر بقليل، أو يسهر سهراً طويلاً يضر بحضوره في صلاة الفجر، فتفوته هذه الصلاة بالكلية، لا يصليها في بيته فضلاً عن أن يصليها مع الجماعة في المسجد. وكذلك -أيها الإخوة- فإنك ترى في المجالس من الاشتغال بأحاديث المنكر والاشتغال بالملهيات عن ذكر الله أمراً فظيعاً، أمراً لا تكاد تحتمله عقول المسلمين ولا فطرهم الصافية، إنك ترى الناس كثيراً ما يشتغلون بأحاديث الرياضة، والملهيات، وأخبار الكرة، ويوالون عليها ويعادون فيها، ويتقسم الناس أحزاباً وشيعاً بفعل انقسامهم بحسب ميولهم الرياضية ونحوها. ونحن أيها الإخوة نعلم جميعاً بأن الإسلام حث على تقوية البدن وعلى الاشتغال بما يفيده، ولكن منع أيما منع من الالتهاء بها حتى تكون هم الإنسان الشاغل، وحتى تكون معاداة الناس وموالاتهم على مثل هذه الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل. وبالجملة: فإن مجالس الناس في هذه الأيام لا يرضى الله عنها لما امتلأت به من أنواع المنكرات والفواحش. ونريد أن نوضح في هذا المقام كيف نجعل من مجالسنا مجالس إسلامية يرضى الله تعالى عنها وعن أهلها، ويثيب الله تعالى القاعدين عليها درجات.
فلينظر أحدكم من يخالل:(/1)
لا بد يا إخواني! بادئ ذي بدء لا بد لكل واحد فينا يجلس في مجلس، أو يدعو الناس إلى مجلسه، أو يجيب دعوة الناس أن ينظر في حال من يجالس، إن انتقاء الجليس من الأمور الأساسية المهمة، ولذلك أخبر الله تعالى بأن رجلاً من أهل النار قد وقع في سوء العذاب بسبب قرينه: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:27-28] لماذا؟ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29] لا نريد أن نأتي يوم القيامة -أيها الإخوة- ويتحسر الواحد منا، ويقول يوم لا تنفع الحسرة والندامة: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:27-28] يا ليتني ابتعدت عنه ونبذته، يا ليتني لم أقترب منه ولم أجلس معه لحظة واحدة، لقد كان سبباً في ضلالي وفي وقوعي في حبائل الشيطان، لقد كان يزين لي المنكر ويحثني عليه ويجعلني شريكاً معه في الإثم وعبادة الطاغوت. ومدح الله رجلاً من أهل الجنة، وأخبر أن سبب نجاته أنه تخلص من حبائل صديقه وجليسه وخليله الفاسق أو الكافر في اللحظات الأخيرة، فقال الله تعالى حاكياً عن رجل من أهل الجنة قعد يبحث عن جليسه وصديقه الذي كان يخالله في فترة من الدنيا، فوجده في النهاية: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55] اطلع هذا الرجل من الجنة فرأى صاحبه في سواء الجحيم؛ في وسط جهنم: قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56] لترديني معك فيها: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] في هذا الحساب والعذاب.
السلف وحرصهم على مجالسة الصالحين:
أيها الإخوة! إن الجليس له خطورة كبيرة على جليسه وتأثير بالغ، وبعض الناس قد أعطاهم الله قدرة في الإقناع وقدرة في الجذب، فقد يجذبك معه إلى سوء الضلالة والعياذ بالله، ويستطيع أن يتفنن في إغوائك وأن يضلك عن سبيل الله ومنهج الله، إن أناساً يستطيعون أن يجذبوا نفوس الناس، ويسحروا عقولهم ليردوهم في نار جهنم، إن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن، قل لي من تجالس؛ أقول لك من أنت. إذاً، كان الجليس عنوان جليسه، هذه هي النقطة الأولى، والشيء الثاني الذي يجعلنا على أن يكون جلساؤنا من أهل الخير والصلاح: حال السلف رحمهم الله تعالى عندما كانوا يبحثون عن جلساء الخير، وهذه القصة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تبين هذا المقصود: عن علقمة ؛ وكان من كبار التابعين وأجلائهم، قال: قدمت الشام فصليت ركعتين في المسجد ثم قلت -انظروا أيها الإخوة كيف كان السلف يدعون الله، وبماذا كانوا يدعون الله، ثم قلت -بعد أن فرغ من تحية المسجد-: اللهم يسر لي جليساً صالحاً. هذا كان دعاؤه، يذهب إلى المسجد إلى مظنة وجود الجلساء الصالحين، أين تجد الجلساء الصالحين؟ في الأسواق؟ في الدكاكين؟ في الشوارع وفي الطرقات؟ كلا. إنك تجدهم في المجالس، إنك تجدهم في المساجد أولاً، فلتكن نقطة الابتداء من المسجد. ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً من الناس -جالسين في المسجد- فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء الصحابي الجليل صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء ، فقلت -يقول علقمة - فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك لي .. إلى آخر الحديث. كانوا يدعون الله بشروط الدعاء المستجاب؛ فيستجيب الله لهم في الحال وييسر لهم جلساءً صالحين، فهذا الرجل التابعي رزقه الله بصحابي جليل ليجلس إليه ويستمع منه ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ويقول. الجليس -أيها الإخوة- له صفات كثيرة وله حقوق. قال سعيد بن العاص رحمه الله تعالى: لجليسي عليَّ ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به، وإذا جلس وسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.
لنا جلساء ما تمل حديثهم ألباء مؤملون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
هذه صفات جلساء الصلاح والتقوى. وفقنا الله وإياكم لأن نجلس معهم وأن نجدهم ونتأدب معهم بآداب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ما يجب على من يجلس مجالس المنكرات:
فإذا جلست يا أخي في مجلس من المجالس، فإنه يجب عليك لكي يكون هذا المجلس مجلس
خير أن تفعل أشياء كثيرة:
الذب والدفاع عن أعراض المسلمين:(/2)
منها: أولاً: سيقول كثير من الناس كلاماً منكراً، وزخرفاً من القول وزوراً، وستنطلق ألسنة السفهاء في غيبة عباد الله ونهش لحومهم، كثير من المسلمين يجلسون بلا مبالاة ولا ينكرون هذه المنكرات التي يسمعونها، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (من ذب عن عرض أخيه بالغيبة -عندما يكون أخوه غائباً- كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) ويقول في اللفظ الآخر الذي رواه أحمد بإسناد صحيح: (من رد عن عرض أخيه؛ رد الله عن وجهه النار يوم القيامة). المجالس اليوم مجالس غيبة كبيرة وكثيرة، لا بد أن ترد الغيبة عن أخيك، لا بد أن تنكر على هذا الذي يتكلم في عرض أخيك، وإلا فلا يجوز لك الجلوس ولا السكوت، لا بد أن تتكلم وتنكر ما يقولون، وتبين بالحق خطأ ما يفعلون.
الخروج من المجالس المستهزئة بكتاب الله وآياته:(/3)
وكذلك أيها الإخوة تتعرض مجالس المسلمين اليوم لغارات يشنها أعداء الله من داخل المجالس لا من خارجها، إنهم يستهزئون بشرع الله ودينه، إنهم يغيرون على أحكام الله تعالى بسهام القدح والاستهزاء والسخرية، حتى يجعلوا من نصوص الكتاب والسنة أضحوكة في عقول الناس، إنهم يريدون أن يميعوا قضايا التميز والولاء في عقول المسلمين، بعض هؤلاء الناس -أيها الإخوة- يفعلون هذه القضية بجهل، ولكن الله تعالى لا يعافي هؤلاء من هذا الجهل، إنه جهل مذموم لا يعذر الله تعالى صاحبه، وبعض الناس يتقصد آيات الكتاب وأحاديث رسول الله بسوء نية وخبث طوية، فيجعل منها أضحوكة وسخرية في المجالس، يستهزئ بالأحكام، وبالمظاهر الإسلامية، يستهزئ بثياب المسلمين وأشكالهم، وبالأحاديث التي تذم الغناء والملاهي والمنكرات. إنهم يستهزئون بأشياء كثيرة، ماذا يكون موقف المسلم الجاد الذي يريد أن يسلك طريق الله المستقيم، ويغير واقع المجالس الفاسدة، ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟ وأنى له معرفة الطريق السليمة في هذه الحالة؟ اسمع معي -أيها المسلم- لهذه الآية التي تهز كيان المؤمن هزاً عنيفاً، كأن قلبه سينخلع عندما يسمع وقع هذه الآية على قلبه، يقول الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا [النساء:140] ما هو التصرف؟ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140]حتى يغير الموضوع، ويقلع عن هذه المعصية، وهذا الكفر أعظم المعاصي، يقلع عن الكفر ويبدأ في موضوع آخر: حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140] تقوم من المجلس وتنكر عليهم إنكاراً شديداً وتقرأ عليهم هذه الآية توبخهم بها على هذا الفعل الشنيع: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:140] وتقول لهم: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140]. أيها الإخوة! المسألة خطيرة جداً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهناك أناس كثيرون اليوم من المسلمين يستهزئون في المجالس بأشياء كثيرة من أحكام الدين وشرائع الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما هو الحل؟ الحل موجود في هذه الآية، وكثير من المسلمين لم يسمع الآية من قبل مطلقاً: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140] ماذا نزل عليكم في الكتاب؟ نزل علينا أيها الإخوة آية أخرى تشبه هذه الآية، ومضمونها مضمون هذه الآية، الآية المذكورة في سورة النساء، والآية المشار إليها التي سنقرؤها الآن في سورة الأنعام، ما هي الآية الثانية؟ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] أعرض عنهم بالقول، وبترك المجلس، وبالتوبيخ والزجر، وأعرض عن الاشتراك معهم في هذه الجريمة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] فإذا نسيت وأنساك الشيطان أن تترك المجلس، نسيت الموضوع واسترسلت معهم في الكلام ما هو الحل؟ ليس هناك مشكلة في الإسلام ليس لها حل، قال تعالى في تمام السياق: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ [الأنعام:68] في حالة أن أنساك الشيطان الموقف الصحيح، فماذا تفعل؟ إذا تذكرت ورجعت إلى رشدك وانتبهت من غفلتك: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى [الأنعام:68] بعد التذكر مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]. إنها آيات مفاصلة، آيات شديدة أيها الإخوة، تعاليم الإسلام اليوم مضيعة بين الناس، لا يفهمون حدود الله تعالى، فليس في الإسلام تلاعب، ولا تمييع للعقيدة، ولا سماح لأي مغرض بأن يمس العقيدة بأدنى سوء، المسألة إذاً خطيرة فلذلك كان الجواب حاسماً: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:140] مثلهم في الكفر، إنها الخطورة أيها الإخوة، الإسلام لا يرضى أن تمس عقيدتك يا أخي المسلم بأي سوء. وكذلك مجالس أهل البدع، مجالس المنكرات والفسق والمعاصي، وكثير من الناس يجلس في مجلس فأهل المجلس يدخلون في أعراض الناس أو يتبادلون قصص المنكرات، يقول هذا: أنا فعلت(/4)
كذا وكذا، وأنا سافرت إلى مكان كذا وفعلت كذا، ويتبجحون، يسترهم الله تعالى وهم يكشفون ستر الله عليهم، يتبجحون بالمعصية، هؤلاء أيضاً لا يجوز لك أن تسكت عما يقولون مطلقاً، لا بد أن يكون لك موقف، يا أخي المسلم! لا بد أن تفهم أنك صاحب موقف، لا بد أن تفهم أنك صاحب رسالة، ما خلقك الله هملاً.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مع الأغنام والماشية، لا تمش بلا هدف، فالمؤمن صاحب رسالة وهدف وحق ومواقف إيمانية، أينما حل، وأينما ارتحل، وأينما جلس في أي مجلس يفصح عن عقيدته، ويلقن الناس الدروس الإيمانية فيما يحمله في طيات قلبه من مبادئ وأفكار أنزلها الله في القرآن والسنة. لا تكن يا أخي المسلم غير مبال، لا، هذا خطأ كبير، إن الله لم يخلقك لتجلس في هذه المجالس ثم تصمت على هذه المنكرات وتكون شيطاناً أخرس.
دعوة أهل الخير والصلاح إلى هذه المجالس لسد الفراغ:
كذلك يا إخواني! من المقترحات التي ينبغي الأخذ بها لتحسين أحوال مجالسنا، اليوم الناس غارقون في هذه المنكرات والمجالس، والتحسين يحتاج إلى وقت وإلى جهد، يحتاج إلى عمل دءوب، يحتاج إلى نوع من التمرس والمرونة في قلب هذه المجالس المنكرة إلى مجالس خيرة. فمن المقترحات أيها الإخوة: أن يدعى أهل الخير لحضور المجالس، كثيراً ما يقيم الناس ولائم للزفاف، أو يعمل الإنسان عقيقة فيذبح لولده ويدعو الناس، أو بعضهم يعمل مثلاً وليمة عند قدومه من سفر، أو عند نزوله في بيت جديد، أو يكون هناك دورية بين الناس، كل يوم في الأسبوع على واحد منهم، هذه المجالس -أيها الإخوة- هي الآن من شغل الناس الجالسين، تسأل عن فلان بعد صلاة العشاء غير موجود أين؟ عنده دعوة، عنده دورية، عنده ديوانية، عنده مجلس، عنده ضيوف، وهكذا. هذه الأوقات -أيها الإخوة- لا يصح بأي حال من الأحوال أن تذهب سدى، لا بد أن تستغل، ماذا نفعل؟ من الحلول أن ندعو وأهل الخير أهل العلم وطلبة العلم؛ لكي يجلسوا في هذه المجالس ويلقوا علينا وينصحونا ويعظونا ويذكرونا ويبينوا لنا شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يذكرون بالله وبأيام الله، وباليوم الآخر، وبعذاب القبر، وبأشياء كثيرة وأحكام فقهية، ويحيون واعظ الله في قلوبنا. إننا نحتاج إلى هذه النوعية أشد الحاجة، أن ندعو هؤلاء الناس إلى مجالسنا، هؤلاء الناس الذين نتوسم فيهم الخير، قد يكون لك قريب خيّر طيب ملتزم بأحكام الله ادعه إلى هذا المجلس، ألح عليه بالحضور، واطلب منه أن يفتح في ذلك المجلس حديثاً إسلامياً، يستفيد الجالسون منه، وإذا خاض الناس في إفكهم فقل لهم: لحظة يا جماعة! فلان موجود نريد منه أن يحدثنا عن كذا .. وكذا .. موجود فلان الذي عنده سؤال يطرح السؤال، لا بد أن ننتهز وجود هؤلاء الناس فنطرح عليهم هذه الإشكالات التي تواجهنا، والشبهات الممتلئة بها عقولنا، كثير من الناس عندهم شبهات، نجلس في بعض المجلس تجد أن بعض الناس عنده شبهات ضد الأنبياء، شخص يقول في مجلس: نبي الله يوسف كان شهوانياً، ويقول دليلاً على ذلك: وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] ولا يعرف ما معنى قول الله: وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] ولا يعرف ما الفرق بين قول الله: وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] ولا الفرق بين هم يوسف وهم امرأة العزيز. إذاً: أيها الإخوة إن عقول المسلمين اليوم نتيجة ابتعادهم عن دينهم، أصبحت ممتلئة بهذه الشكوك والشبهات، ممتلئة بالشبهات حتى أعلاها.
استغلال المجلس في قراءة كتاب أو تفسير آية:(/5)
كذلك أيها الإخوة ما المانع أن يكون في مجلس الواحد منا كتاب؛ تفسير قرآن، كتاب: رياض الصالحين فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب عن أحكام، خطب جمعة مكتوبة، أحاديث ترقيق وترغيب وترهيب، فإذا جاء جلساؤه قال: يا جماعة لحظة لا نريد أن يضيع المجلس، فيأخذ الكتاب ويفتح ويقرأ، يقرأ الأحاديث يا أخي، (رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ربما ينتفع من هذه الكلمة أناس يخرجون من المجلس فيغيرون من واقعهم، وأنت السبب ويعود لك مثل أجورهم، ما المانع أن يقول الإنسان لولده الطيب الصالح: تعال يا بني! أنا لا أقرأ أنت تقرأ، أنا تقدم بي السن وفاتني علم كثير وأنت فتح الله عليك، تعال يا ولدي اجلس في هذا المجلس حدثنا، ماذا سمعت من مدرس الشريعة؟ ماذا سمعت في خطبة الجمعة؟ ماذا سمعت في الدرس الفلاني في المحاضرة الفلانية؟ أعطني ملخصاً لشريط سمعته من خطيب أو عالم من علماء المسلمين. وبعض شيباننا ولله الحمد أيها الإخوة فيهم طيبة كبيرة، ولقد سمعنا ورأينا أناساً من كبار السن الذين أنعم الله عليهم بفطرة صافية، وخشية لله تعالى، يقول لولده: تعال يا ولدي لقد فاتني كثير وأنت عندك شيء كثير أعطني مما عندك، ويأتي به على أعين الناس في المجالس ويقول له: علمنا واقرأ علينا وحدثنا، هذه النوعية أيها الإخوة موجودة ولكنها تحتاج إلى تكثير وتحتاج إلى تشجيع. اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، اللهم إنك تقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من الجالسين على ذكرك، ومن المرافقين لأهل طاعتك، ووفقنا اللهم لذكرك وإحسانك، وصلى الله على نبينا محمد.
أسباب الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وحِكمه:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير. أيها الإخوة! ولا بد من الإكثار من ذكر الله تعالى في المجلس، وذكرنا بأن ذكر الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبة في كل مجلس من المجالس، ولهذا أسباب وحكم منها: إنه من الصعب على الإنسان أن يقول في المجلس: لا إله إلا الله .. اللهم صل على محمد .. فلان بخيل .. وفلان كذا وكذا، فإنه لا يحدث التوافق بين هذه الأمور، يريد الله منك أن تذكره في المجلس حتى تطرد الشيطان، ويريد أن تشغل لسانك بذكره حتى لا تنشغل بذكر الناس وعيوب الناس. كذلك في الوقت الذي نحث الناس فيه على إحياء مجالسهم بذكر الله تعالى وأهل الخير، نحث الدعاة إلى الله تعالى على انتهاز مثل هذه الفرص، ومجامع الناس ومجالسهم؛ ليعلموا الناس دين الله تعالى، واجب ومسئولية عظيمة وخطيرة على الدعاة إلى الله في الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يغشى الناس في مجامعهم فيعرض عليهم الدعوة إلى الله ويعلمهم العقيدة، المجالس -أيها الإخوة- فرصة مهمة جداً إذا فوتت فقد فات خير كبير، أين تجد هؤلاء الناس مجتمعين حتى تتكلم معهم؟ إذا لم أتكلم أنا ولم تتكلم أنت ولم يحضر المجلس فلان وفلان من أهل الخير من الذي يحضر؟ ومن الذي يتكلم؟ ومن الذي يعلم وينصح؟ إنها مسئوليتنا جميعاً أن تجلس مع الناس، انتهز كل فرصة لتطرح الخير الذي عندك، صحح تلك المفهومات الخاطئة في العقيدة والعمل، وفي التصورات التي امتلأت بها عقول الناس، إذا سمعت رجلاً في مجلس يقول: ودخلت على المدير الفلاني في المشكلة الفلانية وقلت له: مالي إلا الله وأنت، وأنا مشكلتي كذا .. قل له: يا أخي! هذه الكلمة التي تفوهت بها كبيرة عند الله، ما يجوز لك أن تقول: مالي إلا الله وأنت، هذا شرك بالله، تقول له: مالي إلا الله ثم أنت، أعتمد على الله ثم عليك، وهكذا، وأحياناً نسمع كلمات تخرج في المجالس عفوية من الناس لكن لها مدلولات خطيرة تقدح في العقيدة، أجلس مع واحد من الناس فأقول له: ما حال فلان وفلان؟ فيقول: أما فلان فهذا ربنا افتكره ومات، فهل الله عز وجل كان ناسياً هذا الرجل ثم تذكره وأخذ روحه؟!! هذه كلمات تنطلق على ألسنة الناس، أخطاء عظيمة تدل على أن هذا الرجل لا يعلم ولا يفهم ولا يعي أن الله يعلم كل خافية: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61] فالناس عندهم أخطاء إذا لم تصلح هذه الأخطاء فمن ذا الذي يصلحها؟! فإذاً أيها الإخوة القضية عظيمة والمسئولية مشتركة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للقيام بها حق القيام.(/6)
كيف تكون مجالسنا اسلامية
لفضيلة الشيح/ محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب)
أما بعد ، فان اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
أيها الإخوة إذا القينا نظرة سريعة على مجالس المسلمين اليوم لوجدنا أنها وبكل صراحة ووضوح هي عبارة عن اشتغال بالدنيا وما فيها فضلا عن الاشتغال بالمحرمات والآثام وكبار الذنوب.
أيها الإخوة لا بد من الاهتمام بالمجالس لأنها ذات اثر كبير فإذا ألقيت الضوء على أنواع مجالس اليوم لرأيت الجالسين فيها قد اشتغلوا بالدنيا بتفاصيلها فهم إن كانوا تجارا فانك ترى أخبار المقاولات والبضائع والأسعار والبيع والشراء والزبائن ومشاكل العمل هذا أمر طاغ على جلساتهم ، وإذا تأملت في مجالس الموظفين لوجدت أمر الدوام ومشاكل المراجعين وأخبار الصحف والأنظمة والترفيه والبدلات والتنقلات والعلاوات والانتدابات هي الشغل الشاغل للجالسين فيها ، وإذا تأملت في مجالس طلاب المدارس والجامعات لوجدتهم مشتغلون بتفاصيل الدراسة والأسئلة والامتحانات والدرجات والشهادات والتخرج والوظائف ، وإذا تأملت في مجالس النساء وجدتهن مشتغلين بالموضات والملابس والأكلات والزيجات والحفلات والأعراس وحال الأسواق والمحلات إلى آخر ذلك من أنواع المجالس اليوم .
هذه المجالس أيها الإخوة التي عم الاشتغال بالدنيا والحديث عنها عم في المجالس حتى قست قلوب المسلمين من ضمن أسباب قسوة قلوب المسلمين أحوال مجالسهم ومنتدياتهم. إن الله أيها الإخوة توعد الذين قست قلوبهم فقال – عز وجل – (.. فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ..) (الزمر:22)
فويل كلمة تهديد وتوعد عظيمة (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) لذلك كان لا بد للبحث عن أسباب قسوة القلوب لعلاجها وإزالتها.
هل كان هذا أيها الإخوة حال مجالس الصحابة ؟ هل كانت هذه الأشياء هي التي تشغل نفوسه الصحابة هي التي تشغل مجالس الصحابة والسلف الصالح ؟ كلا أيها الإخوة إننا لا نحرم ولا نتكلم عن تحريم هذه الأمور مطلقا فانه لا باس أن تتكلم النساء في مجالسهن عن أخبار الزيجات مثلا أو يتكلم الموظفون عن المشاكل التي تواجههم في وظائفهم أو يتكلم التجار عن المشاكل التي يواجهونها ويتبادلون الخبرات هذا أمر لا باس فيه يا إخواني، أن الإسلام لم يحرم هذا ولكن المذموم والمحظور الذي نتكلم عنه هو أن يكون شغل الجالسين الشاغل من أول المجلس إلى نهايته هو الكلام عن الدنيا هو الكلام عن هذه الأشياء لدرجة انك لا تسمع في هذه المجالس آية واحدة ولا حديثا واحد ولا حتى كفارة المجلس ولا ذكر لله بأي صورة من الصور.(/1)
هذه الحالة الخطير التي نتكلم عنها الآن الشغل الشاغل للناس في المجالس هو الدنيا ، هذا إذا كان الكلام مباحا فالاشتغال بهذا المباح من أول المجلس إلى نهايته مذموم شرعا ، فكيف أيها الإخوة إذا كان الكلام في المجالس عن الأمور المحرمة شرعا والوقوع في كبائر الذنوب ؟ كيف إذا كانت المجالس مجالس غيبة ونميمة ونهش أعراض الناس واكل لحومهم. قال الله تعالى(..وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ..) (الحجرات:12) كيف إذا كانت المجالس مجالس كذب وبهتان وسخرية وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( لا يعضه بعضكم بعضا ) والعضه هو الكذب والبهتان والنميمة كما ذكر العلماء . كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بعباد الله – عز وجل – وتنابز بالألقاب والله يقول (.. لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ..) (الحجرات:11) ويقول(.. ولا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ..) (الحجرات:11). كيف إذا كانت مجالسنا اليوم أيها الإخوة مليئة بالفسوق والتعيير والسباب والشتائم ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول ( المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ) حديث صحيح
كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس مدح ومجاملات ونفاق ومداهنة ورسول الله – عليه الصلاة والسلام – يصف مدح الرجل في وجه أخيه بأنه كقطع عنقه وقال الله تعالى قبل ذلك (.. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ .) (لنجم:32)
.وان كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بالدين واستهزاء بالمتمسكين به وانتقاص من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مظهرة و أخلاقه وآدابه . كيف إذا كانت المجالس اليوم مجالس استهزاء بشريعة الإسلام و أحكام الدين ، واحد يقول في مجلس :تريدون أن ترجعونا أن ترجعوا بنا إلى شريعة العين بالعين والسن بالسن ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
أيها الإخوة ما فتئت مجالس المسلمين اليوم تعج بالاستهزاء والانتقاص من دين الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا حول ولا قوة إلا بالله . مجالسنا أيها الإخوة فيها استهزاء بعباد الله بشتى الصور فتجد رجلا يقلد إنسانا في صوته أو عادة من عاداته فيقول هذا فلان كأنه كذا .. هذا فلان كان كلامه كذا .. كان مشيته كذا .. كان ثوبه كذا .. وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم لعائشة ( ما احب أنى حكيت إنسانا وان لي كذا وكذا ) لو أعطيت كذا وكذا من الدنيا لا احكي حال إنسان ، قال العلماء في شرحه يعني لا اذكر إنسانا أقلده بحركاته وهيئاته على سبيل التنقص وقصة هذا الحديث أن عائشة لما قالت للرسول – صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية أنها كذا وكذا ، تعني أنها قصيرة ، فقال – عليه السلام – ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) يعني خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها فكيف بالألفاظ اليوم التي تنطلق في مجالس المسلمين .
مجالسنا أيها الاخوة فيها كثير من المحرمات والمخالفات للشريعة فتجد مثلا اثنان يتناجيان وثالث موجود وقال – عليه الصلاة والسلام – ( إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث ) وعللها بقوله ( لأجل أن ذلك يحزنه ) وتجد اليوم المناجاة مرض واقع في مجالس المسلمين .
حتى في طريقة الجلوس في المجالس تجد فيها انكشاف للعورات فتجد بعض الرجال الذين لا يلبسون تحت ثيابهم لباسا سابغا يرفع إحدى رجليه على الأخرى ويجلس جلسة ينكشف منها فخذه والفخذ كما قال – عليه السلام – عورة ، ثم يأتي هذا الرجل ويجادل ويقول : متى كان الرجل له عورة ، هل نحن نساء حتى تنبهونا إلى هذه المسالة !! سبحان الله على جهل المسلمين بأحكام العورات والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول ( يا جرهد غط فخذك فان الفخذ عورة ) .
حتى في طريقة الآكل والشرب في المجالس مخالفات كثيرة من الأكل والشرب باليسرى مثلا إلى عدم التسمية إلى غير ذلك .
حتى في طريقة النقاش والحديث تخالف قواعد الإسلام وآدابه من رفع للصوت وحده وغلظة ومقاطعة في الحديث ويسبق الصغير الكبير في الحديث والرسول – صلى الله عليه وسلم - يقول ( كبر كبر ) أبدا بالأكبر هذه مقتطفات من بعض المنكرات التي تعج به مجالسنا اليوم .(/2)
إذا كان عدم ذكر الله – تعالى – والصلاة على رسوله – صلى الله عليه وسلم – في المجلس فيه وعيد عظيم ولو كان المجلس كله كلاما مباحا ولو كان كله كلاما مباحا لذلك يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح ( ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله ويصلوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا كان مجلسهم قرة عليهم يوم القيامة ) يعني حسرة و ندامة وفي رواية صحيحة ( وان دخلوا الجنة ) لما يرون من الثواب الذي فاتهم بعدم ذكر الله والصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجالسهم التي كانت في الدنيا بل قال – عليه الصلاة والسلام – ( ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة لحمار كان ذلك المجلس عليهم حسرة ) مثل جيفة الحمار نتنه منتنة مؤذية رائحة عفنه هكذا يتفرق الناس إذا لم يذكروا الله في مجالسهم فأعيدوا معي شريط الذكريات أيها الاخوة لتسترجعوا حال مجالسكم هل كان في أي منها ذكر لله وصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
كل مجلس يجب أن يكون فيه ذكر لله هل تسمع في مجالس اليوم آية أو حديثا أو وصية أو حكما شرعيا أو تذكرة إلا من رحم الله .إذا أيها الإخوة لابد من الانتباه إلى هذه السلبية الخطيرة اليوم بل انك تجد المسلمين يضحكون على أنفسهم في هذه الآيات والأحاديث التي يعلقونها في مجالسهم ، تجد لوحات مخطوطة بخط جيد مزخرفة معلقة في المجالس فيها أمر الله للمسلمين بالتقوى أو الإخبار بان الله مطلع ويعلم كل شيء بل إن بعضهم يعلق كفارة المجلس في مجلسه وإذا قام لا يذكر هذه الكفارة ويخالف صراحة هذه الآيات المعلقة على الجدار آية حال أيها الإخوة هي التي وصلنا إليها اليوم نعلق الآيات والأحاديث على الجدران ثم نخالفها بتصرفاتنا و أفعالنا و أقوالنا إذا ما هي فائدتها ومن هنا رأى بعض العلماء عدم جواز تعليقها إذا كانت هذه هي حال المجالس لان فيها استهزاء بما ذكر في هذه اللوحات والملصقات .
ومن اجل هذا صار بعض العقلاء من المسلمين اليوم ينفرون عن مجالسة الناس وعن الجلوس معهم والحديث معهم وترى أحدهم يقول : مالي وللناس لماذا اجلس معهم وهذه أحوالهم وهذه هي أحاديثهم هذا الرجل أيها الإخوة على صواب هذا على صواب فيما يفعل إذا لم يكن عنده قدرة على التغيير فانه لابد من هجر أماكن المعاصي والفسوق بدلا من أن تكون مجالسنا مجالس ذكر لله يتحقق فيها قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم قوموا مغفورا لكم ) وقال – عليه السلام – في الحديث الصحيح (ما جلس قوم يذكرون الله – تعالى – فيقومون – هذا الحديث أيها الاخوة ليس خاصا بحلق الذكر في المساجد و إنما في جميع الحلق والمجالس – حتى يقال لهم قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم وبدلت سيئاتكم حسنات ).
ولذلك يعجبك الرجل عندما تجلس في المجلس أن تقول لواحد من أهل الخير يقول : يا فلان حدثنا عن آية كذا .. حدثنا عن حديث كذا .. سمعت مرة حديثا ما هو هذا الحديث وما هو معناه ؟ ما هي قصة النبي الفلاني ؟ ما هو حكم الشيء الفلاني ؟ هؤلاء الناس الذين يصفهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنهم مفاتيح للخير مغاليق للشر هؤلاء الناس كثير منهم ليس عندهم علم شرعي لكنهم حريصون على التعلم حريصون على الاستزادة حريصون على صبغ مجالسهم بالخير والذكر والأشياء التي ترضي الله – عز وجل - .انك عندما تسمع هذه الندرة من المسلمين اليوم يسألون في هذه المجالس فان قلبك يهتز فرحا من بقية الخير الموجودة في الأمة نسأل الله أن يكثره .
أيها الإخوة مجالسنا فيها آفات تحتاج إلى إصلاح لابد من معرفة الآداب ولابد من معرفة طرق الإصلاح حتى نتمكن من الوصول بهذه المجالس إلى الجادة المستقيمة .
ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آدابا كثيرة للمجلس منها:
قوله – عليه الصلاة والسلام – ( لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ) فلا يجوز لك أن تدخل مجلسا فتجلس بين اثنين إلا بعد أن تستأذن منهما فان أذنا لك وإلا فاذهب واجلس حيث ينتهي بك المجلس .
وكذلك من السنة أن يجلس الإنسان حيث انتهى به المجلس ولا يأتي ويقيم إنسانا ويجلس مكانه أن هذا فيه نهي صريح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهي صريح ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس مكانه ) لذلك كان ابن عمر كما ورد في حديث البخاري كان إذا قام له إنسان من مجلسه لم يجلس فيه يرفض ويذهب إلى مكان آخر ليجلس فيه .
وقال – عليه الصلاة والسلام- موضحا أدبا آخر ( المجالس بالأمانة ) أحيانا يدعوك إنسان إلى مجلس عنده ويكون في هذا المجلس كلام خاص سر من أسرار هؤلاء القوم لا يجوز لك بأي حال من الأحوال أن تذهب وتفشي سر هذا الرجل و أهل بيته لان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول ( المجالس بالأمانة ) فيلزم فيها الستر على ما يقال مادام لا يضر المسلمين .(/3)
وكذلك أيها الاخوة يقول – عليه الصلاة والسلام – في الحديث الصحيح ( خير المجالس أوسعها ) فلذلك يستحب توسيع المجلس لأنه اكرم للضيف واصلح لحاله و أروح له في قيامه وقعوده وسيره ويختلف هذا باختلاف أحوال الناس وعلى غناهم وفقرهم فانه متى كان مستطيعا فيستحب له توسعة مجلسه .
و التفسح في المجالس أمر مطلوب ، التفسح بالمجلس إذا كان ضائقا بالرجال ليس فيه مكان لداخل أن يتفسح الناس يقول الله – تعالى – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ..) (المجادلة:11)
لا بد من إيجاد الفسحة في القلب قبل إيجاد الفسحة في المكان متى وجدت الفسحة في القلب لأخيك المسلم ومحبته فانك ستفسح له تلقائيا أما لو أبغضته و أبغضت أن يضايقك نوعا ما فانك لن تفسح ولو أفسحت لن يكون عن طيب نفس وخاطر منك .
وكذلك أيها الاخوة لابد من ذكر كفارة المجلس إذا قام الإنسان ويقول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث ( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه -حصلت منه أخطاء وزلات في الكلام – فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اشهد أن لا اله إلا أنت استغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ) ماذا تريدون أكثر من هذا ، هذا من رحمة الإسلام أيها الإخوة يعطيك مجال لتصحيح الأخطاء يعطيك مجال لغفران الذنوب التي حصلت منك هذه كلمات قليلة تقولها فتمحى الذنوب لعمر الله انه لغفران عظيم (.. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:4)
إن الله ذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، الله يتفضل علينا بهذه الكفارات البسيطة ونحن لا نابه به لها ولا نرعى ولا نهتم بها .
وفقنا الله وإياكم للقيام بحقة في المجالس وان يجعل من مجالسنا مجالس خير وذكر له – عز وجل – وصلى الله على نبينا محمد .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له مالك يوم الدين واشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم .
أيها الاخوة ومن آداب المجلس كذلك ما كان يفعله – صلى الله عليه وسلم - كما ورد عنه في الحديث الحسن كان إذا لقيه أحد من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه و إذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول أذنه ناوله إياها لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه ، رواه ابن سعد بإسناد عن انس وهو في صحيح الجامع .
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيها الاخوة مؤدبا غاية التأديب يحترم ضيوفه ويحترم جلساءه إذا قام إنسان من المجلس لينصرف يقوم الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليودعه ويؤخذ بيده ليصافحه لا يترك الرسول يد الضيف حتى ينصرف الضيف ويكون الضيف هو الذي ينزع يده من يد الرسول – صلى الله عليه وسلم – اذا كان الرسول جالس في المجلس فأراد رجل أن يسر إليه بحديث واتى ليأخذ بأذن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – كان رسول الله – عليه السلام – يعطيه أذنه وينصت حتى يفرغ الرجل لا يرجع الرسول – صلى الله عليه وسلم – رأسه ويبعد أذنه حتى يبعد ذلك الرجل فاه ويبعد رأسه .. الانتظار ، الأدب .
هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي تحب على الأمة كلها أن تتأدب معه يفعل هذه الأفعال ليعلمنا أيها الإخوة آداب المجالسة و آداب الحديث .
بقي في هذا الموضوع بقية هامة كيف ننتهز من مجالس لتكون مجالس خير ماذا يجب على الدعاة إلى الله وعلى الناس أن يفعلوا لكي يحولوا مجالسهم إلى مجالس خير ؟ ما هو موقف المسلم ما هو الموقف الصحيح للمسلم من المنكرات و الاستهزاءات وشتم الدين ونحو الذي يحدث في المجالس ؟ ما هو الموقف الصحيح عموما ؟ هذا أيها الإخوة ما سيكون بإذن الله – تعالى – موضوع خطبتنا القادمة لأنني أحس أيها الإخوة وربما تحسون معي أن الاهتمام بأمر المجالس له دور عظيم وله خطورة كبيرة إذا صلح مجلسك صلحت أنت وصلح جلساؤك وسترجع من المجلس إلى بيتك وأنت ممتلئٌ إيمانا وفائدة وعلما خرجت به من ذلك المجلس فينعكس هذا على اهلك لذلك كان لا بد من زيادة التوضيح والتعرض لمسائل هامة في هذا نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى ذلك
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ........
--------------------------------------------------------------------------------
موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامي
...(/4)
كيف تواجه الشهوة؟
1482
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, القصص
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
ملخص الخطبة
1- انتصار السلف على الشهوات. 2- وقوع الكثيرين في أتون الشهوات المحرمة. 3- خطر الوقوع في محارم الله. 4- عفة يوسف عليه السلام ، وقصته مع امرأة العزيز. 5- حماية الله لمن حفظ جوارحه عن الحرام. 6- قصة جريج الراهب.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون:
إن في كتاب الله وسنة رسوله عبر ودروس كفيلة بأن تنشأ جيلاً صالحاً ومجتمعاً فاضلاً، لا يعرف للرذيلة طريقاً ولا للخيانة سبيلاً، ولا للفاحشة داعياً، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أخبارهم وسيرهم وما ابتلوا به وكيف صبروا عليه، وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وكذلك ما أخبر به النبي من صبر الأنبياء والصالحين.
وما أحوجنا أيها الأخوة أن نعرف سير الأنبياء والصالحين وأن نستلهم دروسها ونعقل معناها وما يعقلها إلا العالمون.
ونعرف كيف صبروا في ذات الله، وتغلبوا على أنفسهم وعلى شهواتهم، وانتصروا عليها مع وجود دواعي المعصية، لكن رددوا بلسان حالهم ومقالهم: إني أخاف الله، ما أعظمها من كلمة، وما أوقعها في النفوس.
إني أخاف الله كلمة قالها أو يقولها رجل تدعوه امرأة ذات منصب وجمال، منصب فهي تحميه من الأذى وتحفظه من الفضيحة. وجمال: فالنفوس تتطلع إلى الجمال بحكم الجبليّة التي خلق الله عليها البشر، وليس هذا فحسب بل تدعوه هي ودون كلفة منه، فيصرخ في وجهها ويعلنها كلمة الحق، فيستحق بسببها أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
فيقول لها: إني أخاف الله.
((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منه: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله..)).
فما أحوج شبابنا اليوم لهذه الكلمة، وأن يتعلموها في حياتهم، ولكنها غلبة الشهوة، وفقدان الوازع الديني، وذاهب الخوف من الله، ونسيان الآخرة.
أيها الأخوة:: كم من شاب باع دينه من أجل شهوة عابرة، وكم من شاب دنس عرض عائلته وسمعتها من أجل لذة ساعة، وكم من شاب أرخى سترة بينه وبين الناس فحارب الله بالمعاصي.. وكأن الله أهون الناظرين إليه، قال: وهب بن منبه: جاء في الكتب المتقدمة يقول الله تعالى: "إذا أرخى العبد ستره وعاقر بالله بالمعاصي ناداه الله من فوق سبع سموات: يا عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك.
لئن غابت عنك عيون الناس فلن تغيب عنك عين الله.
روى ابن ماجه بإسناد جيد عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((يأتي أناس من أمتي بحسنات بيض كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً قالوا: يا رسول الله: ولم؟ فقال النبي : إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
وفي رواية قال النبي عن هؤلاء: ((يأخذون من القرآن ما تأخذون ولهم حظ من الليل، ولكنهم كانوا إذا خلو بمحارم الله انتهكوها)).
وإنها الشهوة التي من حفظها وحفظ لسانه معها فله الجنة التي عرضها السموات والأرض.
قال النبي : ((من ضمن لي ما بين لحييه (أي لسانه)، وما بين فخذيه (أي فرجه) ضمنت له الجنة)).
واعلم أيها المسلم أنك إذا حفظت الله في جميع أعمالك وتركت الحرام خوفاً من الله وعملت العمل الحسن رجاء ثواب الله، فإنه لن يضيعك الله وسوف يجعل لك رقيباً من نفسك ويصرفك عن كل سوء ويثبتك إذا ضاقت بك الضوائق أو عظمت عليك ظلمات الفتن.
فهذا يوسف عليه الصلاة والسلام شاب أوتي من الجمال ما تحار الألسن عن وصفه.
وقد جاء في الأثر: أن الله لما خلق الجمال، جعل نصفه في يوسف، والنصف الثاني فرقه بين بني آدم.
شاب قوي ذكي فتي، شاب في ريعان الشباب، يمتلئ جسمه حيوية وقوة. تدعوه امرأة العزيز بعد أن أغلقت الأبواب ووضعت الحراس على الأبواب وتزينت له وتعرضت بين يديه، وهو في حال غربة وعزبة، وأسباب الفاحشة ودواعيها متهيأة له. فالمرأة الداعية، وقد تزينت بكل ما تملك، والدعوة في بيت آمن حيث منزل عزيز مصر، والأبواب مغلقة، ولكن يبقى باب السماء مفتوحاً فيتذكر يوسف من خلاله عظمة الله ويتصور رقابته فيرى برهان ربه فيقال إنه رأى أباه يعقوب عاضاً على أصبعيه، وقيل: إنه رأى صورة الملك. وقيل: رأى مكتوباً في سقف الحجرة: لا تفعل.
وهكذا يرى برهان ربه فيلوذ بحماه وينتصر على الإغراء والشهوة، ويمتنع من مقارفة الفحشاء ويستحق أن يكون من عباد الله المخلصين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولما بلغ أشده واستوى....
وهكذا يكون المتهم يوسف عليه السلام فيحكم عليه بالسجن بعد أن دعا الله فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعوني إليه وإلا تصرف عني كيدهم أصب إليهن وأكن من الجاهلين.
فسجن عليه السلام وما جريمته إلا لأنه حصن فرجه عن الحرام وحمى نفسه عن الوقوع في وحل المعصية وفي سياج الرذيلة.(/1)
فأبدل يوسف عليه السلام من رغد العيش وطراوته في مقر العزيز إلى شظف العيش وضيقه في السجن، مع ما في السجن من غربة وعزلة ووحدة، فآلام السجين تشتد حين يكون السجن ظلماً وعدواناً، ومحنة السجين تتضاعف حين يكون الطهر والعفاف جريمة وتهمة يؤاخذ بها، وتزاد الحيرة حين نعلم أن الذين سجنوا يوسف عليه السلام قد تبين لهم من الآيات والبراهين القاطعة ما يبرى ساحته ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين. فقدّ القميص من دبر، وشهادة الشاهد.
وحزّ أيدي النساء، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف كلها أدلة للبراءة.
ومع ذلك يسجن يوسف عليه السلام حتى لا تنشر فضيحة امرأة العزيز بمرادوتها يوسف عن نفسه عند عامة الناس. وهكذا حين يغيب العدل بين الناس ويسود الظلم.
أرأيتم يا أخوة اليمان: يوسف عليه الصلاة والسلام يسجن ويترك في السجن سبع سنين لأنه تعفف عن الحرام وقال: معاذ الله". فإين هؤلاء الذين يبحثون عن الفاحشة بأنفسهم أو يهيئون أسبابها ومقدماتها دون وازع من دين أو رادع من خلق.
فسفر للخارج ومعاكسات في الأسواق ومكالمات بالهاتف يغررون بذلك السذج من نساء المسلمين.
نعم سجن يوسف سبع سنين لأنه قال معاذ بالله. من الذي ثبت يوسف في ذلك الموقف الرهيب؟ إنها عناية الله. حفظ الله في الرخاء فحفظه في الشدة.
أيها الأخوة: لكن الله أعقب هذا السجن وهذا الذل الذي يلوح للناظرن لأذى وهلة، لكنها أقدار الله تسير على الناس وتحكم عليهم من حيث يشاءون ولا يشاءون.
أجل إخوة الإيمان: لقد أصبح يوسف بعد ذلك وزير المالية على بلاد مصر، سبحان الله أيها الإخوة إن المسافة هائلة بين غياهب الجب التي ألقي فيها يوسف عليه السلام وبين علو الشأن في ملك مصر.
والفرق كبير في عرف الناس بين يوسف وهو في غياهب السجن، وبين كونه من خلصاء ومستشاري عزيز مصر، وليس أقل من الفرق بين يوسف وهو بمثابة السلعة تباع وتشترى بأزهد الأثمان ويتنقل في الرق من سيد إلى سيد، وهو لا يملك من أمره شيئاً وبين يوسف عليه السلام وهو على خزائن الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. يعطي الكيل لفئة ويمنعه أخرى، ويمنع الميرة والطعام عن وفد ويهبه لآخرين.
إنها عاقبة الصبر عن معصية الله، فيا أخي المسلم هل حفظت فرجك عن الحرام؟ وهل حفظت لسانك عن الحرام؟ وهل حفظت نظرك عن الحرام؟
إنها حماية الله وعنايته بعبده يوم أن يكون العبد ملتجأ إلى الله لم يخن الله في فرجه ولا في لسانه ولا في جوارحه. ((احفظ الله يحفظك)).
نعم، احفظ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، احفظ الله فلا يراك إلا حيث يحب ولا يراك حيث يكره، واعلم أنك بقدر ما تحفظ حق الله عليك، بقدر ما يحفظ الله عليك دينك ودنياك وسمعتك ومكانتك، ولا أدل من ذلك من قصة جاءت في الصحيحين من حديث أبي هريرة :
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا جرير عن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل، رجل يقال له: جريج كان يصلي فجاءته أمه فدعته فقال: أجيبها أو أصلي)) وفي رواية: ((فصادفته يصلي فوضعت يدها على حاجبها، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي))، وفي حديث عمران بن حصين ((أنها جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاثة مرات، فقالت أي أمه: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات))، أي وجوه الزانيات، فتعرضت له امرأة فكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها وفي رواية: عند الإمام أحمد: ((فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج فقالت بغي منهم: إن شئتم لأفتننه قالوا: قد شئنا فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأمكنت نفسها من راع كأن يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج فولدت غلاما فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه)). وفي رواية: ((فأقبلوا بفؤسهم ومساجهم إلى دير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره)). وفي رواية قال له الملك: ((ويحك يا جريج كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه، فلما أمروا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن فتبسم، فقال: لم يضحك حتى مر بالزواني: (وهو إنما يضحك تذكر دعوة أمه: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات).
فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين)).
وهكذا يكون حفظ الله لعبده فانطق الصبي الذي ما زال في المهد لتبرأة عبده وعدم فضيحته وانتشار التهمة عليه.
بارك الله لي ولكم. . .(/2)
كيف لمسلم يرى ما يحدث لإخوانه في فلسطين والعراق ولبنان!
تاريخ النشر : 08-02-2006 ...
كيف لمسلم يرى ما يحدث لإخوانه في فلسطين والعراق ولبنان من قتل وتدمير وتهجير ولا يتفطر قلبه ألماً ولا تدمع عينه حزناً ولا يثور ولا يغضب ولا يتحرك لنصرتهم أو الانتقام لهم ؟! والله تعالى يقول : {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }الشورى39
كيف لمسلم أن ينام ليله وإخوانه لا ينامون ليلاً ولا نهاراً والموت يحيط بهم من كل مكان ؟!
كيف لمسلم أن يرغد في عيشه وإخوانه لا يجدون ماءً ولا طعاماً ؟!
كيف لمسلم أن يفرح لمرأى أطفاله يلعبون ويركضون ، وأطفال إخوانه يروعون ويبكون ويختبئون ويموتون ؟! والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "
كيف لمسلم يقدر على القتال ويقرأ قول الله تعالى : {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }التوبة41 وقوله سبحانه : {.. وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ... }الأنفال72 ولا يهب ولا ينفر لنصرة إخوانه المستضعفين ؟!
كيف لمسلم أن يخذل إخوانه المسلمين الذين ينتظرون نصرته ؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يخذل امرئ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته ، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته " .
كيف لمسلم أعد الله له جنات تجري من تحتها الأنهار نعيمها مقيم ، يخلد إلى دنيا زائلة فانية لا تعدل عند الله جناح بعوضة ويترك إخوانه يواجهون الموت وحدهم ؟!
كيف لمسلم أن يموت على شعبة من النفاق ؟! عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق ".
كيف لمسلم يؤمن أن الموت والحياة والرزق بيد الله ويقبل أن يعيش ذليلاً خانعاً والله سبحانه يقول : {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }المنافقون8.
كيف لمسلم أن يسكت على حكام عملاء جبناء يحكمون بغير ما أنزل الله رضوا لأنفسهم أن يكونوا في صف أعداء الأمة وفي خندق الكفار؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى سلطاناًً جائراً مستحلاً لحرمات الله عاملاً في عباد الله بالأثم والعدوان ولم يغير عليه بقول أو فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله " .
كيف لمسلم أن يرى المنكر بأم عينه ولا يغيره بيده ولا ينكره بلسانه و لا بقلبه ؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .
كيف لمسلم يفعل ذلك أن يقف بين يدي الله يوم لا ينفع مال ولا بنون ، يوم يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي وتشهد الأرجل وتنطق الجلود ؟!
كيف سيصبح حال الأمة لو مرت أحداث غزة ولبنان كما مر غيرها من الأحداث المؤلمة الفظيعة ولم تحرك الأمة ساكناً ؟!
فلماذا لا تسارع الأمة أو أصحاب القوة من الأمة إلى أخذ زمام المبادرة وقلب الأمور رأساً على عقب ؟! فينصروا بذلك دين الله وينقذوا أنفسهم وأمتهم ، وبذلك يشف الله صدور قوم مؤمنين .
ألا يعلم أنصار اليوم ماذا وعدهم به الله وماذا أعد لهم ؟! قال تعالى : {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }التوبة72 ، وقال سبحانه : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور55 .
أفلا يستحق ذلك أن تقدم له المهج والأرواح ويبذل فيه الغالي والنفيس ؟! فتلك هي التجارة الرابحة .
فإلى متى تبقى الأسلحة مكدسة في المخازن والمستودعات ؟ إلى متى تبقى البنادق تزين بها الجدران ؟
ألم يحن الوقت لتوجيهها صوب أعداء الأمة لنريهم أي منقلب ينقلبون ؟!(/1)
فيا أصحاب القوة والمنعة احزموا أمركم وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ، فأنتم على نصرة دين الله ونصرة إخوانكم لقادرون ، ولا يمنعكم من القيام بواجبكم هؤلاء المارقون الذين فرضوا أنفسهم حكاماً فأوصلونا إلى ما أوصلونا إليه من ذل وهوان وتشتت وضياع قاتلهم الله أنى يؤفكون .
فكونوا مع الله يكن معكم {... وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }محمد35 .
كاتبه : أبو احمد(/2)
كيف مكَّن ليوسف في الأرض؟
أ.د ناصر بن سليمان العمر
16/2/1424
18/04/2003
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين :
بغداد ماذا أرى في حالك الظلم
نجماً يلوح لنا أم لفحة الحمم
أرى النواحي وضوء النار يلفحها
فكيف تجتمع النيران بالظلم
بغداد لاتسكتي ردِّي على طلبي
وامحي سؤال الذي أحكيه ملأفمي
بغداد أين زمان العز في بلدٍ
كان السلام به أسمى من العَلَم
دار السلام أيا بغداد هل بعدت
عنك الجحافل في يوم الوغى النهم
بغداد أين سحاب المزن إذ حكمت
يد الرشيد بعدل الله في الأمم
كتبت والحبر من نهر الفرات جرى
شعراً يترجم مجداً غاص في القدم
بالله قولي أيا بغداد مافتئت
يد المغول تزيد الجرح بالكلم
مرت قرون ثمان والجروح بنا
تغور من رجس ماصبُّوه من نقم
شمس الحضارة لم تشرق بساحتنا
من بعدهم وغدونا أمة الرخم
تباً لمستسلم لم يحم دولته
فاستهدفتها عبيد الرجس والصنم
تباً لمستسلم كانت بطانته
تزيغه عن طريق الحق والقيم
فهل يروم من الزنديق حكمته
والعلقمي جميل الرأي والحلم
تباً لمستسلم يلقاهمُ فرحاً
ويلتقي الناصح الصديق بالجهم
تباً لمستسلم أضحت بطانته
تدوس فيه كرام الشعب بالجزم
تباً لمستسلم أمست حواشيه
تشارك الناس في الأرزاق واللقم
تباً لمستسلم أدنى الحثالة من عرش
وأبعد أهل الفضل والكرم
تباً لمستسلم قد خان أمته
وسلَّم الحكم للأوباش والدهم
تباً لمستسلم أفنى خزينته
على الغواني وأهل الرقص والنغم
تباً لمستسلم يخشى رعيته
وآمنٌ بين أعداء على الحُرَمِ
تباً لمستسلم أهدى مدينته
إلى المغول وظن الأمن في السَلَمِ
تباً لمستسلم لايستحي أبداً
ينقاد ذلاً من الأعداء كالبَهَمِ
بالله قولي أيا بغداد لارقدت
عين الجبان إذا نامت عن الهمم
واستخلف الله في عَصر لقيتِ به
ذل المهانة بين العرب والعجم
حان الوداع أيا بغداد فانتحبي
فقد أصيب جميع القوم بالصمم
حان الوداع أيا بغداد قد نحرت
رجولة القوم في ميدان منتقم
حان الوداع وعذر القوم أنهمُ
لايقدرون على الأرماح والُحُسم
هذا الوداع فموتي خير عاصمة
مذبوحة ربما ماتت بلا ألم
ونقول إنها لم تمت وستحيا بإذن الله وستعود عاصمة كغيرها لبلاد المسلمين كما كانت في عهد العباسيين وستعود دمشق كما كانت في عهد الأمويين ستعود بلاد الإسلام عزيزة ظافرة منتصرة. فنسأل الله أن يقر أعيننا بعز الإسلام والمسلمين …
أيها الأحبة:
السؤال كيف انتصر يوسف عليه السلام ؟! وكيف مُكِّن له في الأرض؟
وكيف وصل إلى ماوصل إليه من العزّ والسؤدد؟
وكيف نصل إلى ذلك ؟! ويمكَّن لنا في الأرض كما مُكِّن ليوسف؟
الذي يتتبع سورة يوسف عليه السلام وسيرة يوسف يجد أنه مرَّ به من الآلام والمحن والكرب أعظم مما يمر بنا الآن مرَّ به وهو فرد من الغربة وذل العبودية وفتنة الشهوة والسجن وغير ذلك ماتتلاشى أمامه عزائم أقوى الرجال ومع ذلك فكانت هذه النهاية العجيبة ليوسف عليه السلام.
الذي يقرأ قصة يوسف في أولها هل يتصور أنه يصل إلى ماوصل إليه من عز وتمكين وسؤدد وقوة. وماأشبه الليلة بالبارحة. وقلت لكم عندما اخترت هذه السورة إنني اخترتها لأن الله قال فيها آيات للسائلين. وقال في آخرها(( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ماكان حديثاً يفترى )) أقف اليوم مع بعض عوامل النصر وأهم عوامل النصر التي أخذ بها يوسف عليه السلام وحصل على العز والمجد والسؤدد في الدنيا والآخرة فإذا أخذنا بها فإننا بإذن الله منتصرون وإننا بإذن الله غالبون لعدونا فلا يأس وكما قال يعقوب عليه السلام (( يابني اذهبوا فتحسَّسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله أنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) في وقت اشتدت الأزمات على يعقوب عليه السلام وكثرت عليه المصائب وبَعُد عنه أبناؤه فإذا هو عليه السلام يقول هذه المقولة لأبنائه التي لايقولها إلا من أعطاه الله علماً وفقهاً وفهماً كما قال : (( وأعلم من الله ما لا تعلمون )) فيقول لامكان لليأس حتى قالوا له (( تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين. قال إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون. يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ))
في هذه الأحوال التي نعيشها وعباد الصليب يغزون بلاد المسلمين وإخوان القردة والخنازير يفتكون في فلسطين ومن خلفهم ومن أمامهم أعوانهم من خونة هذه الأمة قد تشتد الخطوب وتصاب النفوس باليأس والقنوط. أقول لايأس لاقنوط. كما لم ييأس يعقوب عليه السلام ولم يقنط ولم ييأس من روح الله، فما أحوجنا إلى ذلك. فيوسف – عليه السلام – هذا الغلام الذي فقد أوفارق أبويه وأهله ومرت به هذه المحن وصل إلى ماوصل إليه.
أمتنا بحاجة إلى هذه الدروس على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة بهذا نحقِّق النصر بإذن الله وألخصها بما يلي :(/1)
من أعظم الدروس هو انتصار يوسف عليه السلام على نفسه، ويا أحبتي الكرام من هزمته نفسه لن يهزم عدوه وأقوى هزيمة تحل بالفرد والأمة أن يصاب الفرد من داخله أو أن تصاب الأمة بهزيمة من داخلها. يوسف عليه السلام انتصر على نفسه فتحقق له التمكين. كيف انتصر على نفسه ؟!
عندما انتصر على نفسه مع امرأة العزيز. استعصم ولم ينحني للشهوة مع توافر الدواعي وزوال الأسباب إلا أنه رأى برهان ربه وهذا البرهان مع كل واحد منا. هذا انتصار ليس بالأمر السهل، من السهل أن انظِّر إليه أو انظِّر له بكلمات ولكن نسأل الله أن يحمينا وإياكم إذا واجه الرجل الفتنة والشهوة مع توافر الدواعي والأسباب وزوال الموانع من يثبت كما ثبت يوسف عليه السلام ؟!
انتصر على نفسه بثباته في بيت العزيز انتصر على نفسه مع أخوته في عفة لسانه كما ذكرت لكم مراراً حتى لم يجرح مسامعهم بكلمة واحدة.
هل انتصرت على نفسك بسيطرتك على لسانك ؟! أمسك عليك لسانك كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم .
انتصر على نفسه بصدقه المتناهي اسمعوا إلى قوله تعالى (( قالوا ياأيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين )) (( قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون)) ماهو الصدق هنا ؟!
ماقال معاذ الله أن نأخذ إلاَّ من سرق. لا. ماقال من سرق لأنه يعرف أن أخاه لم يسرق. إنما قال معاذالله أن نأخذ إلاَّ من وجدنا متاعنا عنده. فلم يتهمه بالسرقة. دقة تعبير متناهية ويقول إن جزاء السارق كان أصل القصَّة أنه يؤخذ لم يقل هذا سارق فإذاً أخذناه . لا. سبحان الله فدقة التعبير انتصار على النفس والصدق انتصار على النفس .. صحيح هو وجد متاعه عنده لكن حقيقة لم يسرق ولم يتهمه بالسرقة أبداً هو صادق وجد متاعه عنده. ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله. من انتصاره على نفسه عفوه عن إخوانه مع كل ماجرى قال: (( لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)) بكلمة واحدة.
وأعجب من عفوه.. انتبهوا لها جيداً مع أن العفو (( ومايُلقَّاها إلاَّ الذين صبروا ومايُلقَّاها إلاَّ ذو حظٍ عظيم )) هذا قول الله جل وعلا العفو ليس بالأمر السهل ومع ذلك عفى وصفح لم يذكِّرهم بكلمة واحدة بعد أن عفى عنهم. فلما قال لأبيه ((ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً قال ياأبتي هذا تأويل رُؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي)) مع أن إخراجه من البئر أعظم من إخراجه من السجن.
لكنه عفى عنهم فلايريد يمر على البئر الذي وضعوه فيه. لأنه عفى عنهم. ولم يقل بعد أن نزغ الشيطان أخوتي. قال من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي. كم عفونا عن الناس هذا إن كنا عفونا ثم نجلس طول عمرنا نتحدث عن هذا الشخص ونقول أخطأ علينا وفعل.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( المتسابان ماقالا، فعلى الباديء مالم يعتدي المظلوم)) (يعني حتى لولم يعفو) يعني ممكن المظلوم يعتدي يسبب كدرا فيما يتحدث ممكن يكون أحد أخوانك أخطأ عليك خطأ ولكثرة ماتذكر أنت هذا الخطأ عند من لايعنيهم الأمر تكون وقعت في أضعاف الخطأ كيف إذا كنت سامحته وعفوت عنه. تسامحه وتعفو عنه وتبقى أحياناً سنوات وأنت تتحدث عن هذه القضية. أما تعلم ماذا يحل بك ماجنيته ……… يوسف أبداً عليه السلام لما قال لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم التزم بهذه الكلمة فلم يمسَّهم ولم يوميء إليهم ولم يشر إليهم. هذا انتصار على النفس. هذا الانتصار أولى مقدِّمات انتصاره العظيم. أيضاً .
ثانيا : من مقومات انتصار يوسف عليه السلام صبره العظيم بل صبره العجيب ولذلك قال في آخر المطاف لأخوانه (( إنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين)) صبر يوسف عليه السلام عجيب صبره عندما أخذه أخوانه وهو صغير لم ينطق ولم يذكر القرآن أنه تفوَّه بكلمة. صبره في بيت العزيز صبره على مراودة النساء (( رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه)).
صبره في السجن صبر أصبح مضرب المثل للأمم على مداد التاريخ صبر يوسف عليه السلام. صبره عندما تولَّى الرئاسة والملك كيف كان صبره في هذا الأمر ولذلك دائماً أوميء إلى موضوع الصبر (( إنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين)).
ثالثا: وآمل أن نذعن لأهمية هذا الدرس وكنت أردت أن اقتصر عليه فقط ولكن أدمجته مع بقية الدروس..
من أقوى عوامل نجاح يوسف عليه السلام التخطيط وبعد النظر وعدم الإستغراق في اللحظة الحاضرة.
أولاً … وهذا يتضح في مواضع من أبرزها ثلاثة مواضع وهو في السجن كان بعد نظره والتخطيط الذي سلكه عندما أتيحت له الفرصة بالخروج مع أن هذه حالة نفسية لايعرفها إلا من مارسها. رفض أن يخرج ((ارجع إلى ربك فاسأله مابال النسوة)) عنده بعد نظر تخطيط بعيد جداً.(/2)
حب الخروج ولذة الخروج والملك هو الذي يدعوه ويفرج عنه بلا شرط ولاقيد يقول.لا. يرمي إلى شيء بعيد فاسأله مابال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، حتى في هذه الكلمة انظروا إلى عفة يوسف عليه السلام. ما قال مابال امرأة العزيز. لم يشر إلى امرأة العزيز حتى لايحرج زوجها ولايحرجها . مابال النسوة. ولاقال مابال النسوة اللاتي راودنني. قال مابال النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
كان يرمي إلى هدف بعيد وتخطيط دقيق تحقَّق له.
أجرى الملك التحقيق ثم اعترفت امرأة العزيز وشهدت النسوة أنه ماعلمنا عليه من سوء فخرج بشهادة إلى الآن تدوي في التاريخ هذا تخطيط وعدم الإستغراق في اللحظة الحاضرة وصبر عجيب وبعد نظر، من السهل التنظير ولكن ما أحوجنا إلى البعد.
موضوع التخطيط. وهو ماحدث في الرؤيا وهذا صحيح رؤيا لكن لاشك أن يوسف له دور فيها عندما ذكر السبع الشداد وسبع الرخاء وكيف استغل يوسف سبع الرخاء للسبع الشداد كم مرَّت دول وشعوب بسنوات رخاء أضاعوا أموالهم فلما جاءت الشداد وإذا ليس لديهم شيء فازدادت ديونهم وزادت مصائبهم كم من الناس أورثه والده ملايين وماهي إلا سنوات معدودة فإذا هو يفرِّط في هذه الملايين ورؤي بعضهم يسأل الناس.
هذه قضية عجيبة أيها الأخوة بعد النظر والتخطيط ظاهر في قضية السبع الشداد والسبع السمان …. فهو وفر وأدار الأمور بحكمة عجيبة وسياسة عجيبة في سبع الرخاء والاستعداد للسبع الشداد فمرَّت الأمور بسلام . ولم يصب الأمة ما قد يتوقع ويحدث. ومن أعجب مارأيت في قصة يوسف عليه السلام ولايزال السؤال عندي في الحقيقة. عندما تولَّى الملك وتولَّى رياسة مصر وسياسة مصر كان يتوقع أن أول قرار يتخذه هو ماذا ؟! أن يرسل من يأتي بأبيه وأهله لأنه يعلم كيف يعيش أبوه وماهي المحنة التي هو فيها والعجيب من دلالة الآيات أنه مانقول انتظر سنة سنتين أوثلاث . لا. مرَّت السبع الرخاء ثم بدأت السبع الشداد لأن قصة الآيات تدل أنهم كانوا يعيشون في السبع الشداد، أن بضاعتهم مزجاة، أن أحوالهم رديئة، أحوالهم صعبة أي في السبع الشداد ((فأوفِ لنا الكيل وتصدَّق علينا إن الله يجزي المتصدقين)) ثم تأتي قصة أخيه.
وفي النهاية يأتي بأبيه وأهله لحكمة يعلمها الله جلَّ وعلا. هذا يحتاج صبر جبال ويحتاج تحمُّل مسئولية.
هل تتصورون أن يوسف عليه السلام مجرد من العاطفة. لاوالله لاوالله، ولكن انظروا كيف لجم عاطفته انصياعاً لأمر الله تعالى ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء بحكمة يوسف وبعد نظره وتخطيطه وفوق كل ذي علم عليم.
أي عاطفة أقوى من رجل فقد أباه وفقده أبوه منذقرابة ثلاثين سنة أو عشرين سنة الله أعلم، لكنها كثيرة وهو يعلم مايعيش أبوه ويأتي أخوانه فلايخبرهم عنه وتبدأ قصة أخيه وتطول القصة ثم يأتي بأبيه سبحان الله فلجم عاطفته ولم تستغرقه اللحظة الحاضرة وتصرَّف تصرف حكيم بهدوء وبعد نظر وحكمة حتى حصل ماحصل عليه حتى لما جاء بهم رفع أبويه على العرش وخرُّوا له سجداً.
عزة وقوة وملك لكنه عن تخطيط وبعد نظر وحكمة وعدم استعجال وعدم استغراق في اللحظة الحاضرة ماأحوجنا إلى هذا الدرس واستيعابه حتى نصل إلى هذا الأمر.
أحد الأخوة الآن أرسل لي سؤالاً … .
يطالب بالجهاد لمواجهة الأمريكان. نعم أنا أطالب بالجهاد لكن ليس بهذه الطريقة التي يفرضها الأخ وأقول لكم يقيناً لابد من مواجهة أعداء الله لكن ليس بالتصور الذي يتصوره بعض الأحبة الأمر يحتاج إلى بعد نظر، يحتاج إلى هدوء، يحتاج إلى تفويت الفرص على الأعداء، يحتاج إلى معركة شاملة في كل الميادين…
الجهاد في سبيل الله أعلاها. وكلها من الجهاد. جاهدوا المشركين بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدوهم في كل المجالات (( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم )) فالجهاد يكون بالنفس وبالمال وبالقول نحتاج الآن للجهاد في كل المجالات حتى لانتعجل. آمل من أحبتي الكرام ومن يستمع إلى هذه الكلمة أن يقرأ قصة يوسف وبخاصة هذين الموضوعين قصة عدم خروجه من السجن وثباته لهدف بعيد، وأعظم منه في رأيي هو ثباته بعد تولي الملك وصبره عن أبيه وعن أهله بهذه الخطة البعيدة جداً…
العجيب أيضاً أن مصيبة أبيه قد زادت ولم تنقص زادت بفقد أخيه حتى يتم أمر الله جلَّ وعلا وحتى لايستعجل شيء قبل أوانه مجرد المصيبة التي كان يعيش فيها أبوه من قبل كافية في رأي الكثير أن يتخذ القرار ويرسل لأبيه أو يذهب هو لأبيه. تتصورون أن يوسف عليه السلام ليس باراً بأبيه ؟! ليس عاطفياً ؟! لا والله حاشاه من ذلك لاوالله، لكنه التوفيق والسداد وبعد النظر والعقل والحكمة وعدم الاستعجال وعدم الإستغراق باللحظات العاطفية الحاضرة، ثم يأتي مجيء أخيه وتزيد مشكلة أبيه حتى ((قال بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم)).(/3)
((وتولَّى عنهم وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم )) يدرك يوسف أن هذا سيحدث لأبيه لكنها الحكمة وبعد النظر والتخطيط والالتزام بالشرع والخضوع لأمر الله حتى ولو كان على حساب النفس والهوى والعاطفة. وهذا الذي أوصي به الأخوان، يا أحبتي الكرام الأمر ليس بالأمر السهل لاتقاد الأمة بالعواطف مع أهمية العواطف، أمة بدون عاطفة لاخير فيها ونفس بلا عاطفة لاخير فيها ولكن العاطفة يجب أن تحكم بالعقل والعقل يُخضع للشرع فتمام الأمور عقل وعاطفة يخضعان لشرع الله جلَّ وعلا وأمره ونهيه حتى لانتقدم تقدماً في غير موضعه أو نؤخِّر شيئاً عن موضعه..
أيضاً … من العجب ومن دعائم نجاح يوسف عليه السلام إقدامه على المسئولية بشجاعة نادرة وعدم السلبية لمَّا رأى أنَّ الفرصة قد سنحت أقدم على المسئولية بشجاعة نادرة وبعضنا يظن يرى أن هذا ليس من الورع. لا. الورع أن تقدم على المسئولية وتتقي الله في المسئولية التي بين يديك وليس الورع أن تتخلى عن المسئولية والأمة بأمس الحاجة إليك، نعم إذا كنت تعلم أن هناك من سيختار لهذه المسئولية كفؤاً لك أو أفضل منك فمن الورع أن تتحاشاها لكن إذا كنت تعلم ويغلب على ظنك أنك إذا تخليت عن المسئولية سيختار من هو أقل منك كفاءة أو يختار من يسيء للأمة فيجب شرعاً كما ذكر شيخ الإسلام أن تتولى وتقدم حتى ولو ارتكبت بعض المفاسد من أجل أن تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى هذه شجاعة وإقدام (( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) هذا ليس طلباً للإمارة كما يرى البعض . بل هذه شجاعة وقوة نادرة أين الأمارة في بلد مقبلة على سبع شداد أين الراحة. هو يستطيع أن يطلب من الملك أن يبني له قصراً على الأنهار ويعطيه مايشاء ويأتي بأهله يستطيع أن يفعل ذلك، ولكنه لم يختر هذا الطريق إنما اختار تحمل المسئولية كما اختارها وكما قبلها بعبارة أدق عمر بن عبدالعزيز فسارت الأمة بالخير والعدل في خلال سنتين وأشهر ورضي الله عنه ورحمه في سنتين وأشهر ملأ الأرض عدلاً وفاضت الخيرات لما حكم بشريعة الله يأتيه أبناؤه ويطلبون منه …..
مالاً يسيراً ويرفض ويقول أنتم أحد رجلين إمَّا رجل صالح فسيغنيه الله وإما رجل آخر فوالله لا أساعده على معصية الله،يطلب من زوجته ابنة عمه فاطمة أن تخلع ما في يديها وتدخله بيت مال المسلمين ويخيِّرها إما بالبقاء معه أو أن تتخلى عن مافي يديها لأنه من بيت مال المسلمين مجرَّد ذهب في يديها.
يقسم أحد المؤرِّخين يقول والله لقد رأيت أبناء عمر بن عبدالعزيز وبضعهم يحمل في الجهاد على عشرات أو مئات من الخير والمال الذي عنده . ورأيت بعض أبناء الأمراء ممن سبقه أو بعده وهم يتكفَّفون الناس. سبحان الله. يوسف عليه السلام أقدم على المسئولية بنزاهة وعفة عجيبة جداً فحفظه الله جل وعلا ومكَّنه الله جل وعلا ((وكذلك مكَّنا ليوسف في الأرض )) أيضاً مما يمكن به حسن السياسة والعدل في الرعية . عدله وحسن سياسته. اقرؤا السورة تجدون العجب فيها وبهذا تستمر الدول وتستمر الممالك بالعدل كما قال شيخ الإسلام ( إن الله يعز ويبقي الدولة العادلة ولو كانت كافرة وإن الله يذل ويهزم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة).
أيضاً … اتصافه بالإحسان بمعناه الشامل المتكامل كما ذكرت لكم في الدرس الماضي. وليس الإحسان بمعناه القاصر وهو مجرد إحسان إلى فلان أوفلان حيث الإحسان الآن عندنا يفسر بجزء من معانيه. الإحسان أعظم من ذلك وأشمل كما بيَّنت في الدرس الماضي.. من أقوى علامات تمكَّنه وأسباب تمكَّنه وحصول مقصوده. قوة إيمانه بالله وتوحيده وحسن توكله على الله وإعادة الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى (( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لايشكرون))
توحيد يوسف إيمان يوسف إعادة الفضل لأهله وهو الله جل وعلا حسن ظنه بربه من أسباب حصول ما حصل له من عز وتمكين وسيادة وقيادة فإذا انتشر في بلاد المسلمين التوحيد ونشرت كلمة التوحيد فلتبشر الأمة بخير عظيم آت لامحالة بإذن الله.
كذلك دعوته لتحكيم شريعة الله، ونفي ماسواها ((إن الحكم إلا لله أمر ألاَّ تبعدوا إلاَّ إيَّاه)).
من أقوى مارأيت من أسباب تمكُّن يوسف عليه السلام
اطراده في منهجه وثباته عليه في جميع المراحل في المراحل في السراء والضراء عند أبيه وهو صغير وهو يباع مملوكاً وفي بيت العزيز وفي السجن وعند الملك وهو على الرياسة وفي آخر المطاف، اطراده على خط مستقيم واضح جلي بيِّن بهذا ينتصر الداعية … قلت لكم تمعنت انتصار بعض المباديء الأرضيه وهي مباديء أرضية ليست إسلامية وجدت أن من أسباب انتصارها إيمان أصحابها بها وثباتهم عليها فيحققون انتصاراً عجيباً في الدنيا .(/4)
فكيف إذا كان الإنسان مؤمناً ومطرداً ومؤمناً بالله جل وعلا . ماندلا في جنوب أفريقيا . قوة إيمانه بعدالة قضيته بتخليص بلاده من الإستعمار البريطاني وثباته على ذلك أكثر من سبع وعشرين سنة ماذا حدث له ؟! لاأعلم الآن زعيماً معاصراً من غير المسلمين له من الإحترام والتقدير في العالم أجمع مثل ماندلا لأن قضيته كانت عادلة مع أنه غير مؤمن ودعي إلى الإسلام نسأل الله له الهداية.
أخواننا لما ذهبوا إلى جنوب أفريقيا قبل أشهر لمؤتمر هناك دعوه فقال أنا لست على دين فإن اخترت ديناً فسأختار الإسلام. فثبات الرجل وصدق الرجل عجيبة جداً وسبق أن ذكرت لكم شيئاً من ذلك ومع ذلك انتصر وهو ليس بمسلم فكيف إذا كان الرجل مسلماً إذا ثبت واطرد على منهجه ولم يتقلب ولم يضطرب فإنه ينتصر بإذن الله، هكذا كان يوسف عليه السلام. أما إذا بدأ الإضطراب عند الإنسان والتأخر والتقدم في غير موضعه لايستطيع أن ينتصر لأنه لم ينتصر على نفسه فكيف ينتصر على الآخرين هذه مسألة آمل إن شاء الله أن أبيِّنها بالتفصيل في وقت قادم سواء في هذا الدرس أو في غيره في موضوع أهمية الاطراد في المنهج وخطورة الإضطراب والتغير والتبدل …
ومما وجدت من مقومات عزة يوسف عليه السلام وانتصاره عدم الاستعجال أو التنازل لاحظوا عدم الاستعجال أو التنازل أو اليأس أو القنوط. الآفات التي تصيب الأمة وتصيب الناس وتصيب الدعاة إما استعجال أو يأس وقنوط أو تنازل في غير موضعه لأنه إذا كان في موضعه لايسمى تنازلاً … يوسف عليه السلام لم يستعجل كما ذكرت لكم في قصته في السجن ولما تولَّى الملك ولم يتنازل لحظة واحدة أبداً أبداً ولم ييأس ولم يقنط وهكذا كان أبوه عليهما السلام. ضع هذه المعالم أمام عينيك الإستعجال التنازل اليأس القنوط التشاؤم فهي مهلكة ولذلك نبَّه إليها محمد صلى الله عليه وسلم في مواطن عدة وهو يقول لصحابته (( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لايخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون)) هذا يقال لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم الاستعجال آفة أنا أخشى أن نفرط في الثروة الضخمة من هذا الإقبال على هذا الدين والاستعداد للتضحية والفداء والبذل والله إني أخشى من الاستعجال الذي قام محمد صلى الله عليه وسلم يربِّي أمته على الحذرمنه خوفاً من أن يقعوا فيه فلذلك أيها الأخوة يجب أن نضع هذه المعالم أمام أعيننا إذا توافرت هذه المقومات – التي توافرت ليوسف عليه السلام – وتمكن في الأرض إذا توافرت هذه المقومات لأمة … تحقق الانتصار العظيم بإذن الله ووعد الله آت ونصره قادم والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لايفقهون، فالله الله بالتفاؤل وحسن الظن بالله لاتسيئوا الظن بالله جلَّ وعلا . يقول ابن القيم رحمه الله مامن امرؤ إلا وهو يسيء الظن بربه فبين مقل ومستكثر … وكل منكم يعرض نفسه بينه وبين ربه وهذه من أعمال القلوب هذا كلام شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله فما يخلو الإنسان من سوء ظن بالله جلَّ وعلا وأسبابه كثيرة سواء على المستوى الشخصي . بعض الناس يقول لماذا ربي لايرزقني، بعض الناس يقولون لماذا لاينصرنا الله جلَّ وعلا . ياأخي .. هل استحققنا النصر ؟! هل أخذنا بعوامل النصر ؟! هل زالت موانع النصر ؟! وعده لايتخلف سبحانه وتعالى أبداً، لكن إذا توافرت الأسباب وقامت الدواعي وزالت الموانع عندها يتحقق وعد الله لامحالة (( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)) (( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون )) الآيات متواترة في القرآن … المصيبة فينا وفي أنفسنا وفي ضعفنا فالله الله أحسنوا الظن بالله وكونوا أكثر تفاؤلاً بتحقق وعد الله ولكن علينا أن نأخذ بأسباب النصر وأن نصدق مع الله (( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) (( ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم)) .
أسأل الله أن يبرم لهذه الأمة إبرام رشد يعز في أهل الطاعة ويُهدى فيه أهل المعصية، وأن يمكِّن للإسلام والمسلمين وأن يعلي راية الدين. والحمد الله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/5)
كيف نتقي السحر ونداويه
صالح الجبري
الطائف
2/3/1419
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
أ- الوقاية من السحر عن طريق: 1- الاستعانة بالله خير وقاية من السحر. 2- عجوة المدينة تقي بأمر الله من السحر. 3- الوضوء يقي من السحر وكذلك صلاة الفجر في جماعة. 4- الأذكار. ب- علاج السحر عن طريق: 1- الطب القرآني وضرورة الصبر على العلاج. 2- استخراج السحر وإبطاله ودفنه. 3- أدوية مباحة. 4- الرقى الشرعية. ج-كيف يعرف الساحر. د- التفريق بين خوارق العادات بحسب أصحابها.
الخطبة الأولى
أما بعد:
كيف نتقي السحر ونداويه:
خير علاج للسحر أن يتقيه المرء قبل وقوعه وحدوثه، فالوقاية خير من العلاج. ولكي نحمي أنفسنا من هذا الشر وغيره، علينا أن نلجأ إلى الله أولاً وآخراً، كما قال سبحانه عن أيوب عليه السلام وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84]. إن علينا أن نتعلم التوحيد ونعمل به، وعلينا أن نعلم الشرك ونتجنبه. وكذلك علينا أداء فرائض الله سبحانه وتعالى. وعلينا أن نحول حياتنا إلى حياة إسلامية بحق وصدق وإخلاص لوجه الله الكريم فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ [يوسف:64]. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً [الأنعام:61]. فالله يحفظ كل عبد من عباده الصالحين لأنه يحبه، والمحب على من أحب حريص، فلن يضر العبد الصالح لا سحر ولا شيطان، وإن ابتلي مرة فرحمة الله سرعان ما تدركه بالسلامة والعافية، ولذا نجد أكثر من تمكن السحر منهم ويطول فيهم، هؤلاء الذين أعرضوا عن الله عز وجل، فتمكن الشيطان منهم، فأصبحوا فريسة للسحر مستسلمين له، أما أهل الإيمان عباد الرحمن فهم كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. فبذكر الله وتقوى الله يكون العبد في حفظ الله، ومحصناً من السحر إن شاء الله.
أيضاً من التحصينات من السحر قبل وقوعه أن نأكل 7 تمرات عجوة على الريق على أن يكون من تمر المدينة وإذا لم نجد فأي تمر عجوة تجده يكفيك إن شاء الله (من اصطبح بسبع ثمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) [البخاري 100/247].
ومنها المحافظة المستديمة على الوضوء، لأن المسلم المتوضئ محروس بملائكة الرحمن فأنى تصله الشياطين أو يصل له السحر قال : ((طهروا هذه الأجساد طهركم الله. فإنه ليس من عبد يبيت طاهراً إلا بات معه في شعابه ملك، لا يتغلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً)).
العلاج بالحجامة وقد ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد.
وزد على ذلك المحافظة على صلاة الجماعة وعلى الطاعات عموماً، والاستعاذة بالله دوماً من شر كل ذي شر، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وهذا شيء مهم جداً خاصة بعد صلاة الفجر، ويكفي من ذلك أن النبي يقول: ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)) وما دمت في ذمة الله فهل تظن أن أحداً سيسلط عليك.
أيضاً وحينما تستيقظ كل يوم لتصلي الفجر بعد أذكار الصلاة لا تنس أن تقول: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) لأن النبي قال: ((من قال ذلك ثلاث مرات حين يصبح لم يصبه بلاء حتى يمسي، ومن قال ذلك ثلاث مرات حين يمسي لم يصبه بلاء حتى يصبح)) وهكذا.(/1)
وهذه الطرق التي ذكرناها سابقاً تحمي الإنسان بإذن الله من السحر وغيره. أما إن وقع السحر فعلاً وتم التأكد من ذلك فهناك طرق أخرى: ونحن نقول أنه لابد من التأكد من السحر، فالبعض قد يفسر بعض الأعراض المرضية حتى الخاصة بالأمراض العضوية؟ قد يعتبرها بالسحر أو العين أو المس وغير ذلك. ونحن نقول: إن على المريض أن يعرض نفسه على الطب التجريبي أولاً: فإن عجز الأطباء عن معرفة سبب المرض أو علاجه، فلنبدأ بالطب القرآني:وإذا بدأ العلاج بهما معاً فلن يخسر الإنسان شيئاً. أما علاج السحر بعد وقوعه فهناك طرق مشروعة كثيرة لكن لابد للمريض أن يعلم أولاً: أن قوة إرادته وصموده وعدم تردده لابد منها حتى ينجح من العلاج، وإن حصل له بسبب ذلك الألم والمعاناة فليصبر وليحتسب الأجر عند الله فليصبر لأن الله سبحانه يقول: وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. وليحتسب الأجر عند الله لأن الرسول يقول: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه)) الذي يجب على المريض أن يعلمه: أنه ربما تطول فترة العلاج، لكن ليعلم أنه لا بأس على رحمة الله وأن الفرج لابد منه بإذن الله، فهذا يعقوب عليه السلام غاب عنه ولده الأول ثم الثاني ثم فقد بصره ولكنه وحتى آخر لحظة لم ييأس أبداً.
بل كان يخاطب بنيه ويقول كما حكى الله عنه يبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]. ونحن نعلم نهاية الأمر فقد رجع أولاده إليه وجمعه الله بهم بل وعاد مبصراً كما كان في السابق ولا نعني هنا دور المحيطين بالمريض بالسحر فدورهم ضروري جداً في رفع روحه المعنوية وفي فهم أنه قد يصاب بفتور وقد لا يستجيب بسهولة للعلاج بالقرآن والأذكار، إما نتيجة لتمكن السحر منه وإما لضعف وازعه الديني، وإما لضعف شخصيته أصلاً فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور.
أما الطرق المشروعة لإزالة السحر بعد وقوعه فمنها:
الاستعاذة عند دخول الخلاء.
أما إن وقع السحر فهناك طرق مشروعة لإزالته بعد وقوعه، ومنها:
1- استخراجه وإبطاله وحرقه ودفنه إن عرف مكانه، وهذا هو الذي حدث للنبيعندما سحر.
فعندما عرف أن سحر أخذ يدعو ويدعو واجتهد في الدعاء حتى جاءه الفرج من الله، فقال : ((أتاني رجلان (ملكان) فقعد أحدهم عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (مسحور) قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة نخلة ذكر قال: أين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) (المشاطة: الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند توجيهها). وجف طلع نخلة: الجف هو الغشاء الذي يكون على الطلع، والطلع: هو ما يطلع من النخلة ثم يصير تمراً إذا كانت أنثى، وإن كانت ذكراً لم يصر تمراً بل يؤكل طرياً ويترك على النخلة أياماً معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض كالدقيق وله رائحة زكية فيلقح به الأنثى. فأتاها رسول الله في ناس من أصحابه فجاءه وقال: ((يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحنا)) (حمراء مثل عصارة الحناء إذا وضعت في الماء) وكأن رؤوس نخلة كرؤوس الشياطين. ولما استخرج السحر أمر أن يدفنه وفي رواية يحرقه.
فإذا علم مكان السحر فليفعل به هكذا، وقد يقول قائل: كيف أعرف مكان السحر؟ والجواب هو أن يكثر المريض وأهله الصلاة.
اللهم ارفع لنا الدرجات واصرف عنا المعضلات وأصلح لنا النيات وثبتنا إلى الممات، ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واجعلنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكرات، اللهم ارحمنا في الحياة بالهداية للخير، وبعد الممات بدخول الجنات، اللهم اسلك بنا سسبيل النجاة واعصمنا من المهلكات.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
الخطبة الثانية
ومما يعين في علاج السحر الصوم والذكر وأفعال الخير خاصة قيام الليل ثم يدعو ربه أن يبين له هذه الحالة المرضية وكيفية علاجها، ولن يضيعه الله، أو يمكن له الاستدلال على ذلك عن طريق المعالج الذي يمكن له أن يستنطق الجني الموكل بالسحر.
وإياك يا عبد الله إياك ثم إياك أن تذهب إلى ساحر كي يفك السحر فهذا لا يجوز.وقد وجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
س: إذا اتضح لنا إن إنساناً سحراً نهاناً آخر فكيف نبطل مفعوله في الشرع؟
الجواب: تعاطي السحر حرام بل كفرأكيد فلا يجوز أن يستعمل السحر لإبطال السحر ولكن يعالج المبتلى بالسحر بالرقى والأدعية الشرعية الواردة في القرآن والسنة.[فتوى رقم 4228].(/2)
ومن الطرق المشروعة لإزالة السحر:استعمال الأدوية المباحة ومن ذلك مثلاً: تؤخذ سبع ورقات من شجرة السدر، ولابد أن يكون الورق أخضراً وتدق جميعها بين حجرين ثم تلقى في ماء قدر الغسل وتقرأ عليها آية الكرسي سبع مرات ثم يشرب المسحور منها قدر ثلاث حسوات بيديه ثم يغتسل ببقية الماء فإنه بإذن الله يفك السحر عنه.
ومن أعظم ما يزيل السحر بعد وقوعه الرقى: وأنفع أنواع الرقى ما كان بالقرآن الكريم كالفاتحة وآية الكرسي والمعوذات وبعض الآيات، ويشترط في هذه الرقى ثلاث شروط:
أولاً: أن لا يكون فيها شرك ولا معصية، كدعاء غير الله، والإقسام على الله بغير الله.
ثانياً: أن تكون بالعربية أو ما نفقه معناه، لا بهمهمات ولا بطلاسم.
ثالثاً: أن لا يعتقد الإنسان أنها مؤثرة بنفسها.
والرقى يا أخوة ليست مقصورة على إنسان بعينه، فإن المسلم يمكن أن يرقى نفسه، ويمكن أن يرقي غيره، وأن يرقيه غيره، ويمكن للرجل أن يرقي امرأته، ويمكن للمرأة أن ترقي زوجها ولاشك أن صلاح الإنسان له أثر في النفع، وكلما كان أكثر صلاحاً كان أكثر نفعاً لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وإذا أراد الإنسان أن يذهب إلى أحد القراء المعروفين بالصلاح والتقوى، وإذا ذهب إليه فإن عليه أن يكون صريحاً وواضحاً معه، خاصة أن المسحور أو المسحورة قد يشعر بأشياء حرجة ولكنه يخجل من التصريح فيها، وهذا الأمر لا يساعد المعالج في إعطاء العلاج الصحيح فينبغي التنبيه لذلك وكذا يقصد بالعلاج أهل الذكر الحسن من العلماء وطلبة العلم الجيدين، ولا يقصد مجهول الحال. ونحن نقول هذا الكلام لأن البعض يذهب إلى السحرة وهو يعلم أنهم سحرة؟والبعض يذهب إليهم لظنه أنهم من الأطباء والنفسيين كما يزعمون أو من الصالحين فيقع ضحية جهله بين يدي دعي كذاب دجال كاهن.
والذي يريد أن يعرف الفرق بين الساحر وبين المعالج بالطرق المشروعة، فنقول له إن الساحر يعرف بإحدى هذه الأمور:
1- قد يسأل عن اسم المريض واسم أمه.
2 - أو يطلب أثراً من آثار المريض كالثوب أو المنديل أو الملابس الداخلية.
3 - قد يطلب منك حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض أو يرمي به في مكان خرب.
4 - يكتب الطلاسم ويتلو العزائم والطلاسم الغير المفهومة.
5- إعطاء المريض (حجاباً) يحتوي على مربعات بداخلها حروف وأرقام. قد يأمر المريض بأن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسمونها (الحجبة).
6- أحياناً يطلب من المريض ألا يمس الماء لمدة معينة.
7 - يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض، أو يعطيه له أوراقاً يحرقها ويتبخر بها.
8- قد يتمتم بكلام غير مفهوم، ويخبر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها.
فإذا وجدت علامة واحدة من هذه العلامات في أحد المعالجين فهو ساحر وكاهن، فإياك والذهاب إليه وإلا انطبق عليك قول النبي : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)). فهل يتنبه الغافلون ويستيقظ النائمون.
قد يقال: ((كيف تقولون أن السحرة عباد الشيطان مع أننا نرى بعضهم يصلون ويقرءون القرآن ويكتبون في أوراقهم السحرية آيات من القرآن)).
والجواب: أن هؤلاء يظهرون مثل هذا تغريراً بالناس كي ينخدعوا بهم أما باطنهم فبعيد عن التقى والصلاح.
وقد أجرت إحدى الصحف العربية مقابلة مع ساحر تائب؟صرح فيها بأن الشياطين كانت ترشدهم إلى التظاهر بالتقوى أمام الناس، كما تأمرهم بالصلاة أمام الناس دون نطق بالآيات أي يؤدي حركات فقط. وترشدهم إلى عدم ارتكاب الآثام والفواحش أمام الناس. حتى يقول الناس إن فلاناً تقي، وسيد، ولي، فإذا خلى بنفسه أو كان مع أمثاله فليفعل ما يشاء.
وإذا أردتم مثالاً على ذلك. فثمة هناك كاهن مجرم يدعي أنه طبيب شعبي وأنه يعالج الناس، فكان إذا أتاه رجل بزوجته أو أخته أو إحدى قريباته قال لمحرميها: اخرج حتى أقرأ عليها، فبعض الأغبياء يخرجون، فيأتي هذا المشعوذ ويحاول بالمرأة ولا يزال بها حتى يزني بها بحجة أنها تحتاج إلى علاج سفلي. فيزني بها عدو الله ثم يهددها بعد ذلك أنها إن تكلمت فسوف يسلط عليها الجن. ويسقط في يدها ولا تتكلم. وعلى كل فقد قبض على هذا الخبيث وهو في السجن أسأل الله أن يهلكه ويهلك أمثاله من المجرمين.(/3)
وإذا كنا لا نعذر أمثال هذه المجرم فنحن لا نعذر أيضاً بعض المغفلين الذين لا يفرقون بين الساحر وبين المعالج بالطريقة الشرعية الصحيحة، وقد يرون من بعض الناس بعض خوارق العادات فيظنون أنهم أولياء لله دون أن يعرفوا عن سلوكهم وأخلاقهم شيئاً، لهذا يقول الإمام الشافعي: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به حتى تعرضوا أعماله على الكتاب والسنة ويقول الإمام ابن تيمية: وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة، والآثار والمتواترة عن الصحابة وغيرهم والتابعين لكن كثيراً ممن يدعونها أو تدعى له يكون كذاباً أو ملبوساً عليه.
وأيضاً فإنها لا تدل على عصمة صاحبها وعلى وجوب اتباعه في كل ما يقوله بل قد تصدر بعض الخوارق من الكفار والسحرة بمؤاخاتهم للشياطين كما ثبت عن الدجال أنه يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وأنه يقتل واحداً ثم يحييه، وأنه يخرج خلفه كنوز الذهب والفضة ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية ولا إسلام حتى ننظر وقوفه عند الأمر والنهي الذي بعث به رسوله .
إذن يجب أن نتحقق من دين من تظهر عليه بعض الخوارق، فإذا كان ملتزماً بالكتاب والسنة والشريعة اعتقدنا بكرامته، ولو أن ذلك لا يترتب عليه إثبات أو نفي الأحكام شرعية أو أن يكون ذلك باباً وسبباً لتحصيل المال والجاه بغير حق، وإلا فهو محتال أو ممن يتخذهم الشيطان طمعاً كالسذج من الناس ليصدهم عن الطريق السوي والشريعة السمحاء.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا من السحر والسحرة وحافظوا على عقيدتكم من الفساد أكثر ما تحفظون على صحة أبدانكم من الأمراض فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم، مريض العقيدة، فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً(/4)
كيف نحدثهم عن الإسلام؟ ... ...
سلمان بن فهد العودة ... ... 12/10/1424 ... ... ...
... ... 06/12/2003 ... ... ...
الشباب المسلم المبتعث في أمريكا وأوربا يواجه سيلاً من الأسئلة عن الإسلام، تنوعت أساليبها، واختلفت دوافعها، ومضمونها واحد:
لماذا يبيح دينكم تعدد الزوجات؟
ولماذا المرأة على النصف من الرجل في الشهادات والمواريث وغيرها؟
لماذا "يمتهن" الإسلام المرأة؟!
وهل الإسلام دين إرهاب حين شرع الجهاد؟
ومن نصدق: السنة أم الشيعة؟
وحول هذه القضايا وما يشابهها يدور تفكيرهم.
لقد شوهت أجهزة إعلامهم الموجهة صورة الإسلام، وصوّرته على أنه دين الشهوانية والدم فحسب، وحين يُغرق أولئك شبابَنا بهذه التساؤلات يشعر بالحرج أحياناً، ويحاول أن يلف ويدور.. وحتى يخرج من هذا المأزق.. تجده يقول:
تعدد الزوجات مشروط بالعدل، والعدل محال (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم..)[ النساء:129]، وما علق بالمحال فهو محال؛ إذاً فهو ممنوع، وقد يجد في بعض المسائل رأياً شاذاً فيعتمده! .. المهم عنده أن يلطّف الموضوع.
وخلال زيارتي لأمريكا وجدت هذا الإحراج يؤذي بعض الشباب المتدين، ممن لا يملك المعرفة الإسلامية الصافية، ولا يدري ما المخرج منه؛ فكنت أقول:
لماذا نكون مدافعين؟
لماذا لا نهاجم؟
وقد عرفنا أنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فإذا سألك محدثك سؤالاً فوجه إليه عشرة...
إذا سألك عن الجهاد في الإسلام فاسأله عن السياسة الأمريكية في مواقع كثيرة من أنحاء العالم، والتي تقوم على التدخل الصريح المكشوف، فضلاً عن التدخل الخفي.
وإذا سألك عن تعدد الزوجات فاسأله عن الإباحية الجنسية الصارخة والتي مزّقت المرأة تحت عجلاتها الفولاذية المدمرة .. حيث لا مسؤولية للرجل عن المرأة، ولا عن ما يحدثه الاتصال المحرم من آثار ونتائج..
وإذا سألك عن الميراث فاسأله عن النظام القائم عندهم، والذي يمنح المرأة 60% فقط من مرتب الرجل، الذي يعمل في الوظيفة نفسها، ويقضي الساعات نفسها في العمل، ولا يعني هذا التهرب، لكن يعني ألا تجيب وأنت في حالة ضعف وحرج؛ لئلا يجرك هذا الضعف إلى العبث بأحكام الله من أجل سواد أو زرقة عيونهم..!
ويمكن أن تنتقل مرحلة أخرى لتبين أن الإسلام بشرائعه هو الحل للمشكلات التي يعانونها، وعلى سبيل المثال: حسب بعض الإحصاءات؛ فإن نسبة النساء إلى الرجال في الولايات المتحدة الأمريكية هي 119 إلى 100، أي أن لكل مائة رجل مائة وتسع عشرة امرأة، وفي بعض الولايات تصل النسبة إلى 160 إلى 100، والتعدد هو الذي يحل تلك المشكلة، حيث يلتزم الرجال بالقيام على شؤون الزوجتين أو الزوجات، وتحقيق العدل الممكن بينهن، وتحمّل المسؤوليات المترتبة على الزواج...
ونظام الإسلام في المساواة بين الناس -لا فضل لأحد على أحد إلا بعمله إن كان صالحاً- هو الذي يقضي على التمييز العنصري القائم عندهم .
ونظام الإسلام في الجهاد هو الذي يجتث جذور الطغاة، ويتيح للناس مجال التفكير والاختيار الحر دون ضغط أو إكراه، فهو يسعى إلى تعبيدهم لرب العالمين، لا لفرد، ولا لقبيلة، ولا لشعب… إلخ.
وهناك أمور لابد من التنبه إليها:
أـ الحكم الشرعي الثابت بالكتاب والسنة المحكم القاطع، ليس من حق أحد ـ أياً كان ـ أن يحوّر فيه أو يزيد أو ينقص خجلاً أو لرغبة أو رهبة، والداعية حين يتدخل في الحكم نفسه فيخبر بخلاف الحق يكون خائناً للإسلام، وخائناً للمدعوين أيضاً، فليس من حقه أن يتدخل في شأن من شؤون الألوهية.. وهو موضوع الحكم والتشريع.
ب ـ المسائل الاجتهادية المترددة، فهذه يَعرضُها الداعية عرضاً معتدلاً متجرداً، حسبما يلائم الحال والموقف؛ فليس من الحكمة أن يختار أشد الأقوال وأحدها ليقدمه على أنه هو دين الإسلام، وهو يتحدث لأقوام في حال تأليف وتليين لقلوبهم واستمالة لمشاعرهم.
ج ـ العمل على إقناع المدعو بقبول الحكم، بأن يستخدم الداعية جميع إمكاناته العقلية والعلمية، ويوظف جميع معلوماته لإثبات صحة هذا الحكم وأنه الحق؛ ليستثمر مثلاً: مسألة الإعجاز العلمي، الإحصائيات، التجارب البشرية المختلفة، الأوضاع القائمة، الجدل العقلي... إلى آخر ما يستطيع أن يحشده لإقناع المدعو بالإسلام. هذا كله لا غبار عليه، بل هو جزء مهم من الدعوة ومن البلاغ.
دـ يجب أن نغرس في نفوس الشباب الثقة المطلقة بالإسلام: كلياته و جزئياته، عقائده وأحكامه، وأن نحول دون تسرّب أي شعور بالضعف أو النقص إلى نفوسهم من جرّاء الحصار الذي يحاول ضربه عليهم بعض المجادلين.
إننا لا نقدم شيئاً ذا قيمة للإسلام إذا أوهمناهم أن الإسلام شيء قريب مما يعيشونه، وأن الحياة الإسلامية لا تختلف كثيراً عن حياتهم، وأن نظام الإسلام يشبه نظامهم، إنهم بهذا يزهدون في الإسلام ويعرضون عنه، فهم هاربون من جحيم حياتهم!.(/1)
وحين يتساءلون عن الإسلام أو عن غيره؛ فإنما يبحثون عن (منقذ) أو (مخلِّص) ..، فلنَعرضْ لهم الإسلام بتميّزه ووضوحه واختلافه الواسع العميق عن جميع ما عرفوا ويعرفون، حتى ندعوهم إلى التفكير فيه. ولنقدم لهم الإسلام من خلال منطق قوي أخّاذ، وحجة ظاهرة، وفهم عميق.
إن مهمتنا تنتهي عند هذا الحد؛ بل مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام تنتهي عند هذا الحد: (إن عليك إلا البلاغ)الشورى:48]، (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب)[ الرعد:40]، (فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمصيطر) الغاشية:22،21].
ليس من الضروري أن نتصوّر أن الدنيا ستتحوّل على أيدينا إلى "دنيا إسلامية .. مية بالميّة!"؛ لكن من المهم أن نحرص على هدايتهم، وأن نتحايل عليها بكل ممكن مباح، وأن نتقن عرضنا لهذا الدين، ونتعرف على نفسياتهم أيًّا كان مستواهم العلمي أو مرحلتهم العمرية، وأن نقدم لهم القيم الإسلامية العليا كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي تثبت لهم أنه أرقى من كل ما عرفوا من هذه النظريات، وقبل هذا وبعده أن نكون في سلوكياتنا وأخلاقنا وأنماط حياتنا مثلاً أعلى لهم، والله المستعان!
إن الكثير من المسلمين يدعون بألسنتهم ويصدون عن سبيل الله بأفعالهم وتناقضاتهم وازدواجيتهم واهتماماتهم الصغيرة وتفكيرهم المحدود، فإلى الله المشتكى!.
.......................
وبتجربة عملية يظهر أن الشاب أو الفتاة الذي يعيش الإسلام واقعًا عمليًا بين ظهراني المشركين – و قد اضطر للإقامة بينهم – أجدى على الإسلام من مائة خطيب و متحدث.. يدعو إلى الإسلام بأقواله, ويحذر منه بأعماله.
في مدينة ( لورنس ) في الولايات المتحدة الأمريكية التقينا مسلمًا أمريكيًا أبيض, أسلم من سبع سنوات, و أثنى المسلمون خيرًا على خلقه وسلوكه ونشاطه في الدعوة إلى الله, وهو أستاذ في الجامعة.
سألنا عن سبب إسلامه.. ولقد كانت فرحتنا كبيرة حين وجدنا في قصته شاهدًا عمليًا ماثلاً للعيان لما كنا نقوله للدعاة من ضرورة الاعتزاز بالإسلام في تلك المجتمعات ( عقيدةً وسلوكًا وأحكامًا) و ألا نتنازل عن شيء من أجلهم؛ حتى يكون سلوكنا و منهج حياتنا "يصرخ" في وجوههم.. يدعوهم إلى التأمل والمراجعة وإعادة النظر.
كان هذا الرجل قد فقد الثقة بنصرانيته المحرفة الممسوخة المنسوخة, و بدأ رحلة شاقة في البحث عن الدين الحق..، و بحث في ديانات كثيرة فلم يجد فيها غناء, لكنه لم يفكر لحظة في دراسة الإسلام, فقد أسقطه من حسابه منذ البداية بسبب الصورة المشوهة التي رسمتها في عقله أجهزة الإعلام وشعوب الإسلام!.
ذات يوم رأى فتاة مسلمة تدرس في الجامعة ملتزمة بحجابها, تتحدى به أمواج التفسخ والتعري والانحلال .. ريحانة في وسط النتن!.
و سأل فعلم أنها مسلمة, و أن الإسلام يأمر بالتستر و التصون و حفظ الجسد عن العيون النهمة و النظرات الجائعة، فكان يقول: انطباعي السابق أن الإسلام يمتهن المرأة ويحتقر شخصيتها؛ لكنني أمام امرأة بلغ اعتزازها مداه حتى استطاعت أن تتميز بملابسها وهيئتها عن جميع أفراد ذلك المجتمع.. غير أنها تعيش في قلبه... إذًا فما تلقنتُه عن الإسلام و موقفه من المرأة غير صحيح!.
و هكذا كانت تلك " الصدمة " سببًا في إفاقته، ثم قادته أخيرًا إلى الإسلام.
و قد اقترن هذا المسلم بالفتاة نفسها التي رآها وأسلم بسببها!.
حتى المقصرون والمفرطون يستطيعون بالبقية الباقية لديهم من أخلاق الإسلام أن يدعوا الناس إليه.
و من طرائف هذا الباب أن فتاة عربية مسلمة غير ملتزمة تقيم في كندا, وتعرفت على شاب كندي نصراني, فطلب منها الزواج فرفضت لأنه غير مسلم.
فسأل عن الإسلام فأعطته معلومات يسيرة, ولم تكترث بالأمر – و الله أعلم – لكنه واصل, و ذهب إلى بعض المراكز الإسلامية و بدأ يقرأ بنهم حتى اقتنع بالإسلام وامتلأ قلبه به, و ظهر على جوارحه وسلوكه, فأعفى لحيته, و بدأ يحافظ على الجماعة, ويقوم الليل...، ثم جاء لصاحبته يطلب يدها؛ فرفضت وقالت: أنت أصبحت الآن متطرفًا!!.
لكنه لم يلتفت إليها.
لماذا نخجل من ديننا؟!.
بل لماذا نخجل حتى من عاداتنا التي لا خطأ فيها فنرغب عنها شعورًا بالهزيمة، وتفوق الآخرين؟!.
إن هزيمتنا في معركة عسكرية يمكن أن تستبدل بنصر مظفر في معركة تالية، لكن الهزيمة التي لا نصر بعدها هي الهزيمة الداخلية.. الهزيمة الروحية. ... ...
الاسلام اليوم(/2)
كيف نستثمر أوقاتنا ...
الوقتُ أنفسُ ما عنيتَ بحفظه *** وأراهُ أسهلَ ما عليكَ يضيعُ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وبعد :
فمن تتبع أخبار الناس وتأمل أحوالهم، وعرف كيف يقضون أوقاتهم، وكيف يمضون أعمارهم، عَلِمَ أن أكثر الخلق مضيِّعون لأوقاتهم، محرومون من نعمة استغلال العمر واغتنام الوقت، ولذا نراهم ينفقون أوقاتهم ويهدرون أعمارهم فيما لا يعود عليهم بالنفع .
وإن المرء ليعجب من فرح هؤلاء بمرور الأيام، وسرورهم بانقضائها، ناسين أن كل دقيقة بل كل لحظة تمضي من عمرهم تقربهم من القبر والآخرة، وتباعدهم عن الدنيا .
إنَّا لنفرحُ بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى جزءٌ من العمرِ
ولما كان الوقت هو الحياة وهو العمر الحقيقي للإنسان، وأن حفظه أصل كل خير، وضياعه منشأ كل شر، كان لابد من وقفة تبين قيمة الوقت في حياة المسلم، وما هو واجب المسلم نحو وقته، وما هي الأسباب التي تعين على حفظ الوقت، وبأي شيء يستثمر المسلم وقته .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم، وأن يرزقنا حسن الاستفادة من أوقاتنا، إنه خير مسئول .
قيمة الوقت وأهميته
إذا عرف الإنسان قيمة شيء ما وأهميته حرص عليه وعزَّ عليه ضياعه وفواته، وهذا شيء بديهي، فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته، كان أكثر حرصاً على حفظه واغتنامه فيما يقربه من ربه، وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يبين هذه الحقيقة بقوله : "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته... . فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته" .
ويقول ابن الجوزي : "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل " .
ولقد عني القرآن والسنة بالوقت من نواحٍ شتى وبصور عديدة، فقد أقسم الله به في مطالع سور عديدة بأجزاء منه مثل الليل، والنهار، والفجر، والضحى، والعصر، كما في قوله تعالى : ( واللَّيْلِ إِذَا يَغْشى والنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (، ( وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( ،( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ ..( ، ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِيْ خُسْر( . ومعروف أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه دلَّ ذلك على أهميته وعظمته، وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفعته .
وجاءت السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتقرر أن الإنسان مسئول عنه يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله ( قال : "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال : عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، و عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه" [ رواه الترمذي وحسنه الألباني ] . وأخبر النبي ( أن الوقت نعمة من نعم الله على خلقه ولابد للعبد من شكر النعمة وإلا سُلبت وذهبت . وشكر نعمة الوقت يكون باستعمالها في الطاعات، واستثمارها في الباقيات الصالحات،يقول ( : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة، والفراغ" [ رواه البخاري ] .
واجب المسلم نحو وقته
لما كان للوقت كل هذه الأهمية حتى إنه ليعد هو الحياة حقاً، كان على المسلم واجبات نحو وقته، ينبغي عليه أن يدركها، ويضعها نصب عينيه، ومن هذه الواجبات :
الحرص على الاستفادة من الوقت :
إذا كان الإنسان شديد الحرص على المال، شديد المحافظة عليه والاستفادة منه، وهو يعلم أن المال يأتي ويروح، فلابد أن يكون حرصه على وقته والاستفادة منه كله فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود عليه بالخير والسعادة أكبر، خاصة إذا علم أن ما يذهب منه لا يعود. ولقد كان السلف الصالح ( أحرص ما يكونون على أوقاتهم؛ لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها، وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم أو برهة من الزمان وإن قصرت دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح أو مجاهدة للنفس أو إسداء نفع إلى الغير، يقول الحسن : أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم .
تنظيم الوقت :
من الواجبات على المسلم نحو وقته تنظيمه بين الواجبات والأعمال المختلفة دينية كانت أو دنيوية بحيث لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى غير المهم على المهم .(/1)
يقول أحد الصالحين : "أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية . و لله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية : فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنَّة من الله عليه أن هداه لها ووفقه للقيام بها، ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر، ومن كان وقته المعصية فسبيله التوبة والاستغفار، ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا والصبر" .
اغتنام وقت فراغه :
الفراغ نعمة يغفل عنها كثير من الناس فنراهم لا يؤدون شكرها، ولا يقدرونها حق قدرها، فعن ابن عباس أن النبي ( قال : "نعمتان من نعم الله مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة، والفراغ" [ رواه البخاري ] . وقد حث النبي ( على اغتنامها فقال : "اغتنم خمساً قبل خمس ..." وذكر منها : "... وفراغك قبل شغلك" [ رواه الحاكم وصححه الألباني ] .
يقول أحد الصالحين : "فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرَّ في قِياد الشهوات، شوَّش الله عليه نعمة قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء قلبه" .
فلابد للعاقل أن يشغل وقت فراغه بالخير وإلا انقلبت نعمة الفراغ نقمة على صاحبها، ولهذا قيل : "الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غُلْمة" أي محرك للشهوة .
أسباب تعين على حفظ الوقت
محاسبة النفس : وهي من أعظم الوسائل التي تعين المسلم على اغتنام وقته في طاعة الله . وهي دأب الصالحين وطريق المتقين، فحاسب نفسك أخي المسلم واسألها ماذا عملت في يومها الذي انقضى؟ وأين أنفقت وقتك؟ وفي أي شيء أمضيت ساعات يومك؟ هل ازددت فيه من الحسنات أم ازددت فيه من السيئات؟ .
تربية النفس على علو الهمة : فمن ربَّى نفسه على التعلق بمعالي الأمور والتباعد عن سفسافها، كان أحرص على اغتنام وقته، ومن علت همته لم يقنع بالدون، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم :
إذا ما عَلا المرءُ رام العلا *** ويقنعُ بالدُّونِ من كان دُونَا
صحبة الأشخاص المحافظين على أوقاتهم : فإن صحبة هؤلاء ومخالطتهم، والحرص على القرب منهم والتأسي بهم، تعين على اغتنام الوقت، وتقوي النفس على استغلال ساعات العمر في طاعة الله، ورحم الله من قال :
إذا كنتَ في قومٍ فصاحِب خِيارَهم *** ولا تصحبِ الأردى فتردى مع الرَّدِي
عن المرءِ لا تَسَلْ وسَلْ عن قرينهِ *** فكلُّ قرينٍ بالمقارَن يقتدِي
معرفة حال السلف مع الوقت : فإن معرفة أحوالهم وقراءة سيرهم لَأكبر عون للمسلم على حسن استغلال وقته، فهم خير من أدرك قيمة الوقت وأهمية العمر، وهم أروع الأمثلة في اغتنام دقائق العمر واستغلال أنفاسه في طاعة الله .
تنويع ما يُستغل به الوقت : فإن النفس بطبيعتها سريعة الملل، وتنفر من الشيء المكرر . وتنويع الأعمال يساعد النفس على استغلال أكبر قدر ممكن من الوقت .
إدراك أن ما مضى من الوقت لا يعود ولا يُعوَّض : فكل يوم يمضي، وكل ساعة تنقضي، وكل لحظة تمر، ليس في الإمكان استعادتها، وبالتالي لا يمكن تعويضها . وهذا معنى ما قاله الحسن : "ما من يوم يمرُّ على ابن آدم إلا وهو يقول : يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدِّم ما شئت تجده بين يديك، وأخِّر ما شئت فلن يعود إليك أبداً" .
تذكُّر الموت وساعة الاحتضار : حين يستدبر الإنسان الدنيا، ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو مُنح مهلة من الزمن، ليصلح ما أفسد، ويتدارك ما فات، ولكن هيهات هيهات، فقد انتهى زمن العمل وحان زمن الحساب والجزاء . فتذكُّر الإنسان لهذا يجعله حريصاً على اغتنام وقته في مرضاة الله تعالى .
الابتعاد عن صحبة مضيعي الأوقات : فإن مصاحبة الكسالى ومخالطة مضيعي الأوقات، مهدرة لطاقات الإنسان، مضيعة لأوقاته، والمرء يقاس بجليسه وقرينه، ولهذا يقول عبد الله بن مسعود : "اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله" .
تذكُّر السؤال عن الوقت يوم القيامة : حين يقف الإنسان أمام ربه في ذلك اليوم العصيب فيسأله عن وقته وعمره، كيف قضاه؟ وأين أنفقه؟ وفيم استغله؟ وبأي شيء ملأه؟ يقول ( : "لن تزول قدما عبد حتى يُسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ ....." [ رواه الترمذي وحسنه الألباني ] . تذكرُ هذا يعين المسلم على حفظ وقته، واغتنامه في مرضاة الله .
من أحوال السلف مع الوقت
قال الحسن البصري : "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك". وقال : "يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلتك" . وقال : "الدنيا ثلاثة أيام : أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه" . وقال ابن مسعود : "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي" .(/2)
وقال ابن القيم : "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها" .
وقال السري بن المفلس : "إن اغتممت بما ينقص من مالك فابكِ على ما ينقص من عمرك" .
بم نستثمر أوقاتنا ؟
إن مجالات استثمار الوقت كثيرة، وللمسلم أن يختار منها ما هو أنسب له وأصلح، ومن هذه المجالات :
حفظ كتاب الله تعالى وتعلُّمه : وهذا خير ما يستغل به المسلم وقته، وقد حثَّ النبي ( على تعلم كتاب الله فقال : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" [ رواه البخاري ] .
طلب العلم : فقد كان السلف الصالح أكثر حرصاً على استثمار أوقاتهم في طلب العلم وتحصيله؛ وذلك لأنهم أدركوا أنهم في حاجة إليه أكبر من حاجتهم إلى الطعام والشراب . واغتنام الوقت في تحصيل العلم وطلبه له صور، منها : حضور الدروس المهمة، والاستماع إلى الأشرطة النافعة، وقراءة الكتب المفيدة وشراؤها .
ذكر الله تعالى : فليس في الأعمال شيء يسع الأوقات كلها مثل الذكر، وهو مجال خصب وسهل لا يكلف المسلم مالاً ولا جهداً، وقد أوصى النبي ( أحد أصحابه فقال له : "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله" [ رواه أحمد وصححه الألباني ] . فما أجمل أن يكون قلب المسلم معموراً بذكر مولاه، إن نطق فبذكره، وإن تحرك فبأمره .
الإكثار من النوافل : وهو مجال مهم لاغتنام أوقات العمر في طاعة الله، وعامل مهم في تربية النفس وتزكيتها، علاوة على أنه فرصة لتعويض النقص الذي يقع عند أداء الفرائض، وأكبر من ذلك كله أنه سبب لحصول محبة الله للعبد " ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" [ رواه البخاري ] .
الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين : كل هذه مجالات خصبة لاستثمار ساعات العمر . والدعوة إلى الله تعالى مهمة الرسل ورسالة الأنبياء، وقد قال الله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيْرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيْ ( [ يوسف : 108 ] . فاحرص - أخي المسلم - على اغتنام وقتك في الدعوة إما عن طريق إلقاء المحاضرات، أو توزيع الكتيبات والأشرطة، أو دعوة الأهل والأقارب والجيران .
زيارة الأقارب وصلة الأرحام : فهي سبب لدخول الجنة وحصول الرحمة وزيادة العمر وبسط الرزق، قال ( : "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه" [ رواه البخاري ] .
اغتنام الأوقات اليومية الفاضلة : مثل بعد الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وثلث الليل الأخير، وعند سماع النداء للصلاة، وبعد صلاة الفجر حتى تشرق الشمس . وكل هذه الأوقات مقرونة بعبادات فاضلة ندب الشرع إلى إيقاعها فيها فيحصل العبد على الأجر الكبير والثواب العظيم .
تعلُّم الأشياء النافعة : مثل الحاسوب واللغات والسباكة والكهرباء والنجارة وغيرها بهدف أن ينفع المسلم نفسه وإخوانه .
وبعد أخي المسلم فهذه فرص سانحة ووسائل متوفرة ومجالات متنوعة ذكرناها لك على سبيل المثال - فأوجه الخير لا تنحصر - لتستثمر بها وقتك بجانب الواجبات الأساسية المطلوبة منك .
آفات تقتل الوقت
هناك آفات وعوائق كثيرة تضيِّع على المسلم وقته، وتكاد تذهب بعمره كله إذا لم يفطن إليها ويحاول التخلص منها، ومن هذه العوائق الآفات :
الغفلة : وهي مرض خطير ابتلي به معظم المسلمين حتى أفقدهم الحسَّ الواعي بالأوقات، وقد حذَّر القرآن من الغفلة أشد التحذير حتى إنه ليجعل أهلها حطب جنهم، يقول تعالى : ( وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنمَ كَثِيرًا منَ الجِن وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم ءاذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنعام بَل هُم أَضَل أُولَئِكَ هُمُ الغاَفِلُونَ (179)( [ الأعراف : 179] .
التسويف : وهو آفة تدمر الوقت وتقتل العمر، وللأسف فقد أصبحت كلمة "سوف" شعاراً لكثير من المسلمين وطابعاً لهم، يقول الحسن : "إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك" فإياك - أخي المسلم - من التسويف فإنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد، وإن ضمنت حياتك إلى الغد فلا تأمن المعوِّقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل، واعلم أن لكل يوم عملاً، ولكل وقت واجباته، فليس هناك وقت فراغ في حياة المسلم، كما أن التسويف في فعل الطاعات يجعل النفس تعتاد تركها، وكن كما قال الشاعر:
تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري *** إن جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من سليمٍ مات من غير عِلَّةٍ *** وكم من سقيمٍ عاش حِيناً من الدهرِ
وكم من فتىً يمسي ويصبح آمناً *** وقد نُسجتْ أكفانُه وهو لا يدري
فبادر - أخي المسلم - باغتنام أوقات عمرك في طاعة الله، واحذر من التسويف والكسل، فكم في المقابر من قتيل سوف . والتسويف سيف يقطع المرء عن استغلال أنفاسه في طاعة ربه، فاحذر أن تكون من قتلاه وضحاياه .
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم . ...
موقع صيد الفوائد(/3)
كيفية الأذان ومعاني كلماته
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على البشير النذير،وعلى آله وأصحابه الغر الميامين.
أما بعد:
فقد اتفق الفقهاء على الصيغة الأصلية للأذان المعروف الوارد بكيفية متواترة من غير زيادة ولا نقصان,وهو مَثْنى مَثْنى،كَمَا اتفقوا على التَّثويب,أي الزيادة في أذان الفجر بعد الفلاح وهي:" الصلاة خير من النوم" مرتين،عملاً بما ثبت في السنة عن بلال(1)،ولقوله-صلى الله عليه وسلم- لأبي محذورة- :"... فإذا كان أذان الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين"(2).
واختلفوا في الترجيع؛وهو أن يأتي بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً،فأثبته المالكيةُ والشَّافعيةُ،وأنكره الحنفيةُ والحنابلةُ،لكن قال الحنابلةُ: لو أتى بالتَّرجيع لم يُكره.
قال الحنفية والحنابلة على المختار(3): الأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه، كما جاء في خبر عبد الله بن زيد(4)، وهي :" الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله،حي على الصلاة، حي على الصلاة،حي على الفلاح،حي على الفلاح،الله أكبر،الله أكبر،لا إله إلا الله"(5).
واتفقوا على أن الأذان مثنى,ما عدا الجملة الأخيرة منه، وهي قول" لا إله إلا الله" فهي مفردة. ودليلهم حديث أنس بن مالك قال:" أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة6 7
معاني كلمات الأذان
قال الإمام القرطبي-رحمه الله تعالى- وغيره: اعلم أن الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية،وهي تتضمّن وجود الله-تعالى- ووجوبه، وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك،ثم ثلّث برسالة رسوله-صلى الله عليه وسلم-،ثم ناداهم لما أراد من طاعته المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول،ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم,وفيه الإشارة إلى المعاد،ثم أعاد ما أعاد توكيداً(8).
فقوله:" الله أكبر" أي من كلِّ شيء،أو أكبر من أن يُنسَبَ إليه مالا يليق بجلالِهِ،أو هو بمعنى كبير.
وقوله:" أشهد" أي أعلم.وقوله:" حي على الصلاة" أي أقبلوا إليها،أو أسرعوا. والفلاح: الفوز والبقاء؛لأن المصلي يدخل الجنة إن شاء الله،فيبقى فيها ويُخلَّد. والدعوة إلى الفلاح معناها: هلموا إلى سبب ذلك. وختم بـ"لا إله إلا الله" ليختم بالتوحيد وباسم الله تعالى، كما ابتدأ به(9).
فالأذان تلخيصٌ لدعوة الإسلام ؛ لأنه متضمن للشهادتين ، والإسلام كله قام على أساسين عظيمين: أن يُعبد الله وحده،وتلك شهادة أن " لا إله إلا الله"، وأن يُعبد بما جاء به رسوله-صلى الله عليه وسلم- وتلك شهادة أن " محمداً رسول الله" ، فالإسلامُ بناءٌ يقوم على أركانٍ خمسةٍ,أولها الشهادتان".
وكما في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، ففيه: حي على الصلاة ، حي على الفلاح ،والصلاة من أولها إلى آخرها تصديق عملي بالشهادتين ؛ ففيها يقول المسلم في الفاتحة {إياك نعبد وإياك نستعين},وتلك شهادة "أن لا إله إلا الله" ، وفيها يقول :{اهدنا الصراط المستقيم} ،
وتلك شهادة "أن محمداً رسول الله". أشهد أن محمداً رسول الله حقّاً ، فهو من جهة ليس إلها، وليست فيه أي صفة من صفات الألوهية، ومن جهة ثانية: ليس كذاباً, ولا ساحِراً, ولا كاهناً, ولا مجنوناً، فالذي يشترك فيه مع الناس هو البشرية،والذي يتميز به عنهم هو الوحي والنبوة،كما قال سبحانه: {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ } (فصلت:6) .وقد قامت على صدق نبوته دلائل كثيرة: فمنها صفاته،ومنها معجزاته،ومنها نبوءاته،ومنها البشارات به في الكتب السابقة،ومنها ثمرات دعوته في الأرض ، إلا أن أعظم آية تشهد له بالنبوة هي القرآن الكريم،قال الله تعالى : {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ}الحاقة : 43 .
حي على الصلاة ، حي على الفلاح :(/1)
هاتان الجملتان تعقبان الشهادتين في الأذان،وذكر الصلاة عقب الشهادتين يُوافِقُ الترتيبَ الذي رتبت به أركان الإسلام,وحيثُ إنَّ الإنسان مجبولٌ على تقديم العاجلة على الآجلة،وتفضيل النقد على النسيئة،وبما أن الدنيا عَرَض حاضر،والآخرة وعد صادق،فالدُّنيا يراها والآخرة يسمع عنها،فالذي يحدثُ–غالباً-هُو انشغالُ الإنسان بما يَرَى عمَّا يسمعُ،والإقبال على العرض الحاضر,والغفلة عن الوعد الصادق،فيأتي في الأذان "حي على الصلاة، حي على الفلاح" ؛ لينادي على الناس في أسواقهم يبيعون ويشترون،أو في أعمالهم يصنعون ويعملون، أو في بيوتهم يأكلون ويشربون،أن يؤثروا الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمرهم الله.فنداء المؤذن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" عند كل صلاة إعلان عن وسطية الإسلام,وجمعه بين الدين والدنيا،فالمسلم في عبادة قبل الحضور إلى المسجد،وهو في عبادة عندما يحضر بعد سماع الأذان،وهو في عبادة عندما ينصرف بعد الصلاة إلى أشغاله وأعماله.
الله أكبر الله أكبر :
هذا النداء الذي افتتح به الأذان واختتم به، فيه تكبير الله عز وجل، فهو سبحانه{عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} الرعد : 9 وحيث إن الصلاة دعوة منه سبحانه ينقلها المؤذن عبر الأذان؛ ناسب افتتاحها بالتكبير ليعلم الناس أن الله تعالى أكبر من كل شيء يَصدّهم عن دعوته، أو يشغلهم عن إجابة ندائه {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}10 الجمعة:1
________________________________________
1 - رواه الطبراني وغيره.نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته (1/543).
2 - رواه أحمد أبي داود. وصححه الألباني في تمام المنة رقم(88).
3 - اللباب شرح الكتاب(1/62). وما بعدها، وفتح القدير(1/167). نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته(1/543).
4 - وهو حديث أذان المالك النازل من السماء، رواه أبو داود في سننه.
5 - راجع: الفقه الإسلامي وأدلته (1/543-544).
6 - البخاري- الفتح- (605). كتاب الأذان باب الأذن مثنى مثنى. وقوله (الإ الإقامة):أي قوله قد قامت الصلاة.
7 - أحكام الأذان والإقامة ص(65).
8 - المفهم (2/14)، نقلاً من حاشية أحكام الأذان والإقامة ص(64).
9 - كشاف القناع(1/273). نقلاً من حاشية الفقه الإسلامي وأدلته(1/544).
10 نقلاً عن مقال في عدد البيان 95 ص 32 وما بعدها بتصرف.(/2)
لأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل سورة البقرة والتعليق عليها
إعداد/ مصطفى البصراتي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
1 ـ قارئها أمير على غيره:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنًا، فقال: «ما معك يا فلان ؟» قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: «أمعك سورة البقرة؟» قال: نعم. قال: «فاذهب فأنت أميرهم»، فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول اللَّه ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية ألا أقوم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا القرآن فاقرأوه وأقرئوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكًا يفوح بريحه كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جرابٍ وكئ على مسك».
[أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن، وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه]
إعلاء لمكانة حافظ القرآن وخاصة سورة البقرة فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميرًا على قومه وهو أصغرهم سنًا، وذلك حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل جيشًا فطلب من كل واحد منهم أن يقرأ ما يحفظه من القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصغرهم سنًا: ما معك يا فلان ؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمعك سورة البقرة ؟» قال: نعم. قال: فاذهب فأنت أميرهم، وهذا تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أن نقتدي به.
2 ـ وهي سنام القرآن وطاردة للشيطان:
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل شيء سنامًا، وسنام القرآن سورة البقرة، وإن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». [أخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي فقال: صحيح، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب في تعظيم القرآن، والحديث ذكره الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (588) وقال: أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وهو عندي حسن]
قال العلامة المباركفوري في «تحفة الأحوذي» 8/146: قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء سنام» بفتح السين أي رفعة وعلو استعير من سنام الجمل ثم كثر استعماله فيها حتى صار مثلاً، ومنه سميت سورة البقرة سَنام القرآن قاله الطيبي. وقال ابن الأثير في النهاية: سَنَام كل شيء أعلاه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن سنام القرآن سورة البقرة» إما لطولها واحتوائها على أحكام كثيرة أو لما فيها من الأمر بالجهاد وبه الرفعة الكبيرة.
وفي رواية: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر». قال المباركفوري في «تحفة الأحوذي»: قوله: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر» أي خالية من الذكر والدعاء فتكون كالمقابر وتكونون كالموتى فيها، أو معناه لا تدفنوا موتاكم فيها، ويدل على المعنى الأول قوله: «وإن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان»، هذه رواية الترمذي، أما رواية مسلم الأولى ففيها: «إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة».
وفي حديث سهل بن سعد عند ابن حبان: «من قرأها - يعني سورة البقرة - ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهارًا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام»، وخص سورة البقرة بذلك لطولها وكثرة أسماء اللَّه تعالى والأحكام فيها.
وقد قيل فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. كذا في المرقاة.
وفي هذا الحديث ترغيب في تلاوة القرآن في البيوت وخصوصًا سورة البقرة.
وقد رويت كلمة «ينفر» و«يفر» في الروايتين السابقتين وكلاهما صحيح.
3 ـ نادى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بها:
عن كثير بن عباس عن أبيه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بغلته التي أهداها له الجذامي (فروة بن عمرو بن النافرة) فلما ولى المسلمون قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عباس ناد قل: يا أصحاب السَّمرة (هي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان) يا أصحاب سورة البقرة»، وكنت رجلاً صيتًا (شديد الصوت عاليه) فقلت: يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة، فرجعوا عطفةً كعطفة البقرة على أولادها، وارتفعت الأصوات وهم يقولون: معشر الأنصار، معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على ابن الحارث بن الخزرج قال: وتطاول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته فقال: «هذا حين حمى الوطيس» (كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب) وهو يقول: «قدمًا يا عباس»، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن ثم قال: «انهزموا ورب الكعبة». رواه الإمام أحمد واللفظ له ومسلم والبيهقي.(/1)
قال العلماء: ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه يكون معتمدًا يرجع إليه المسلمون وتطمئن قلوبهم به وبمكانه وإنما فعل هذا عمدًا، وإلا فقد كان له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة، وقد أخبر الصحابة رضي اللَّه عنهم بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن.
وكونه صلى الله عليه وسلم يأمر العباس أن ينادي على من فر يوم حنين ويذكر من حفظ منهم سورة البقرة بأنه لا ينبغي لمن حفظ منهم هذه السورة أن يفر ويترك ساحة القتال لعظم هذه السورة وما اشتملت عليه من الإيمان واليقين بالله والأمر بقتال أعداء اللَّه في قوله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [البقرة: 193]. فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العباس أن ينادي بها فهذا دليل على عظمة هذه السورة.
وفي هذا المعنى من المراسيل: عن طلحة بن مصرف اليامي قال: لما انهزم المسلمون يوم حنين نودوا: يا أصحاب سورة البقرة، فرجعوا ولهم خنين (يعني بكاء). مرسل رجاله ثقات.
وفي هذا المعنى من الموقوفات: «عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان شعار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم مسيلمة: يا أصحاب سورة البقرة». أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وإسناده صحيح.
4- تنزل الملائكة لقراءتها:
عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه في السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فأشفقت يا رسول اللَّه أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: «وتدري ما ذاك». قال: لا. قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم». أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان والحاكم.
وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شمَّاس رضي اللَّه عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد عن جرير بن يزيد - أن أشياخ أهل المدينة حدَّثوه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح. قال: «فلعله قرأ سورة البقرة». قال: (فسُئل ثابت) فقال: قرأت سورة البقرة».
قال ابن كثير: وهذا إسنادٌ جيدٌ إلا أن فيه إبهامًا، ثم هو مرسل، والله أعلم.
لكلام اللَّه تعالى فضيلة، ولتلاوته سكينة وطمأنينة ورهبة ولتدبره خشوع وخضوع ولذة، لقد قال كافرهم حين سمعه: والله إن له لحلاوة إن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وكل كلام يعاد ويتكرر يمل ويضعف إلا القرآن لا يَخْلَق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، يزيده حلاوة وطراوة صوت حسن، وتلاوة دقيقة رقيقة، وإذا كان هذا أثره في البشر فما بالنا بأثره في ملائكة اللَّه ؟
لقد كان أسيد بن حضير الصحابي الجليل ذو الصوت الحسن الرقيق يقرأ سورة البقرة في منزله في جوف الليل وقد ربط فرسه في مربطه بحبل مزدوج، لأنه فرس جموح ونام ابنه يحيى على الأرض قريبًا من الفرس، وجلس أسيد أو قام يصلي في مكان قريب من ابنه، في حائط صغير يتخذ مخزنًا للتمر يجفف فيه ويحفظ، وما كان لهم بيوت بحجرات ولا فرش وأسرة، وفي هدوء الليل وروعته تجلجل صوت أسيد بن حضير بالقرآن الكريم وسورة البقرة، وسمعت ملائكة اللَّه الصوت الرقيق يقرأ سورة البقرة، فتنزلت له من قرب، حتى دنت من الفرس، ورآها الفرس كأن سحابة تهبط عليه فنفر وأخذ يضرب الأرض بقوائمه ويشيح ذات اليمين وذات الشمال بعنقه ورأسه ويحاول الجري والفرار خوفًا ورعبًا، سكت أسيد عن القراءة فهدأ الفرس، وسكن كأن السحابة تلاشت حين سكت، فقرأ فنفر الفرس، وسكت فسكن الفرس فقرأ فهاجت، عجبًا يرى ظلة فيها مصابيح تدنو وتقرب والفرس يُحس بها ويراها وينفر، والولد قريب من الفرس، يخشى عليه أن تطأه بحوافرها أثناء جموحها، لقد دفعته عاطفة الأبوة أن يرفع ولده ويبعده عن الفرس ثم يعود للقراءة، لكنه - واأسفاه - ما إن قام نحو ابنه حتى رأى الظلة تعرج وتمضي نحو السماء حتى اختفت عن ناظريه، فأصبح يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر العجيب، فقال له صلى الله عليه وسلم «ليتك مضيت في القراءة حتى الصباح، إنها السكينة والملائكة جاءت تستمع لقراءتك، ولو بقيت حتى الصباح تقرأ لبقيت مشغولة بالسماع لا تتستر حتى يراها الناس».
5 ـ تعظيم الصحابة لها:
عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صلى الصبح فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما. [أخرجه الإمام مالك في كتاب الصلاة والطحاوي في شرح معاني الآثار وإسناده صحيح](/2)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر قرأ في صلاة الصبح بالبقرة فقال له عمر حين فرغ: كادت الشمس أن تطلع، قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في السنن الكبرى، وذكره ابن حجر في فتح الباري وقال: رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح]
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
قال ابن المنير: خص عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه سورة البقرة بالذكر، لأنها التي ذكر فيها الرمي فأشار بذلك إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم مبين لمراد اللَّه تعالى.
قال ابن حجر: ولم أعرف موضع ذكر الرمي من سورة البقرة، والظاهر أنه أراد أن يقول: إن كثيرًا من أفعال الحج مذكورة فيها منبهًا بذلك على أن أفعال الحج توقيفية وقيل: خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام، أو أشار بذلك إلى أنه يشرع الوقوف عندها بقدر سورة البقرة، وفي هذا الحديث بيان لما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من مراعاة حال النبي صلى الله عليه وسلم في كل حركة وهيئة، ولا سيما في أعمال الح(/3)
لأذان والإقامة لصلاة العيدين ولغير المفروضة
الحمد لله على نعمائه، والشكر له على إحسانه وتوفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه. أما بعد:
اتفق الفقهاء على أن الأذان والإقامة لا يشرعان إلّا للصلوات الخمس المفروضة( ومنها الجمعة) فلا يشرعان لغيرها من فروض الكفاية أو النوافل؛ كالعيدين، والجنازة، والاستسقاء والكسوف وغير ذلك(1). قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم(2).
واستدلّوا على ذلك بما يلي:
1- أنه لم يؤذن على عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لغير الصلوات الخمس المفروضة(3).
2- أن المقصود من الأذان الإعلام بوقت الصلاة على الأعيان، وهذا لا يوجد في غير المكتوبة(4).
3- أن الأذان والإقامة شُرعا علماً على المكتوبة، وهذه ليست بمكتوبة(5).
وهذا وقد ورد التصريح بنفي الأذان والإقامة عن بعض تلك الصلوات في بعض الأحاديث، كصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، منها مايلي:
أولاً صلاة العيدين:
1- عن ابن عباس، وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما- قالا:"لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى"(6).
2- وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-: (أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج، ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذٍ ولا إقامة"(7).
3- وعن جابر بن سمرة-رضي الله عنه- قال: (صلّيت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- العيدين غير مرّة ولا مرّتين بغير أذان ولا إقامة)(8).
فائدة:
روي أن أول من أحدث الأذان والإقامة لصلاة العيدين معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما.(9).
وقيل عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما-، وقيل غير ذلك(10).
ثانياً: صلاة الاستسقاء:
1- عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: "خرج رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يوماً يستسقي، فصلّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة...)(11).
2- ما روي أن عبد الله بن يزيد الأنصاري-رضي الله عنه- خرج ومعه البراء بن عازب، وزيد بن أرقم-رضي الله عنه- فاستسقى، فقام على رجليه على غير منبر، فاستغفر ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة، ولم يؤذن ولم يقم(12).
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - راجع: المبسوط(1/134). وبدائع الصنائع(1/152).
2 - انظر جامع الترمذي(1/537).
3 - فتح القدير(1/240).
4 - المبدع(1/311).
5 - بدائع الصنائع(2/242).
6 - البخاري-كتاب العيدين، باب المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة.
7 - مسلم، كتاب صلاة العيدين. رقم (886).
8 - مسلم ، كتاب صلاة العيدين رقم (887).
9 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/491).
10 - راجع: التمهيد(5/227). وفتح الباري(2/525).
11 - أحمد ، وابن ماجه.
12 -البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء قائماً، رقم (1022).(/1)
لا أريكم إلا ما أرى !!
هذه المقولة أخبرنا القرآن الكريم عنها حكاية على لسان فرعون الذي (استخف قومه فأطاعوه)، وكلنا يعرف عاقبة فرعون كيف كانت.
والآن يردد هذه المقولة العديد من السياسيين الأمريكان وعلى رأسهم (بوش)، الذي يعتبر كل خارج عن الرغبة الأمريكية هو إرهابي يشكل الخطر البالغ لأمريكا و (للمجتمع المتحضر !) ، فحسب الأجندة الأمريكية لابد من مواصلة الحملة ضد ما أسموه الإرهاب الدولي، وبدأت التحركات ضد اليمن وجزر القمر والصومال، والاستعداد جارٍ للتحرك ضد السودان، وكل من يخالف الرغبة الأمريكية فإن العصا الغليظة بانتظاره، وهذا ما أكده وزراء دفاع حلف الناتو في أول اجتماع لهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وحسب الرؤية الأمريكية (وعلى لسان وزير خارجيتها) فإن على عرفات أن يتولى أمر حماس .
ويردد هذه المقولة شارون وحكومته (بمناسبة وبدون مناسبة)، فيجب على عرفات وسلطته الاستجابة المطلقة والكاملة للرغبة الصهيونية، فإما أن تكون السلطة الفلسطينية خادمة للأمن الصهيوني تماما، وإما الضرب بقسوة شديدة وهذه المرة بتأييد أمريكي وأوروبي لم يسبق له مثيل.
ويردد هذه المقولة دول الاتحاد الأوروبي، وذلك على لسان وزراء خارجيتهم في اجتماعهم الذي عقد في بروكسل، حيث طالبوا عرفات بتفكيك ما أسموه الشبكات الإرهابية التابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، واعتقال كل المشبوهين (حسب زعمهم) وملاحقتهم قضائيا، وطالبوا عرفات بدعوة عامة باللغة العربية تطلب انهاء الانتفاضة المسلحة.
والآن –مع الأسف- يردد هذه المقولة (عرفات) عبر خطابه بمناسبة العيد عبر إعلانه منع أي رد على العدوان الصهيوني المتواصل على شعبنا واعتبار كل عمل لرد العدوان خروجا عن القانون !!
أيها المسلمون ...
إن مساواة المقاومة المشروعة لرد العدوان بالإرهاب والعنف، جريمة لا يقبلها شرع ولا قانون ولا منطق سليم، وإن الانجراف وراء أقوال المستكبرين والاستسلام لإرادتهم لا يخدم إلا مصلحة العدو، وإن التعلق بالوعود الأمريكية الكاذبة وبناء المواقف المصيرية استنادا إليها يشكل تهديدا خطيرا لقضية المسلمين الأهم والأخطر (فلسطين).
أيها المسلمون ...
لمصلحة من تغلق المؤسسات الخيرية الخدماتية في مناطق السلطة الفلسطينية وعلى يد السلطة نفسها، تلك المؤسسات التي طالما ساهمت بفعالية وقوة في دعم صمود إخواننا في فلسطين، حيث المعاناة تتعاظم يوما بعد يوم، حصار .. وتجويع .. وإذلال على الحواجز .. واعتقال مستمر .. وتدمير للبنى التحتية والاقتصادية للفلسطينيين ؟
لمصلحة من تعتقل السلطة الفلسطينية المجاهدين الشرفاء الذي يدافعون عن شرف الأمة ومقدساتها ؟
لمصلحة من يحرم الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه المشروع في الدفاع عن نفسه ؟
لمصلحة من إعطاء الشرعية للعدوان الصهيوني ووسم المقاومة بالإرهاب الذي يجب محاربته بكل قوة ؟
أيها المسلمون ...
إن هذا العدو لا يفهم إلا لغة وحيدة، هي لغة القوة، ولا يخضع إلا لها، وإننا نبارك العمليات الاستشهادية البطولية التي ينفذها المجاهدون الأبطال في فلسطين المحتلة، ونعتبرها السلاح الرادع الوحيد لغطرسة الاحتلال ولاستعادة هيبة الأمة بأسرها.
فاللهم بارك فيها وأيد منفذيها بمددك، وألحقنا اللهم بركب الشهداء الأبرار، الذين يتكلمون بدمائهم وأرواحهم كما تكلمت ألسنتهم وحناجرهم.
توصيات :
- الإشارة إلى محاولة الاغتيال الفاشلة التي نفذها الصهاينة ضد الشيخ المجاهد (مؤسس حركة حماس) أحمد ياسين وضد د. محمود الزهار أحد أبرز القادة السياسيين للحركة في قطاع غزة. حيث أطلق العدو ثلاثة صواريخ استهدفت مسجد الرحمة حيث كان يصلي الشيخ صلاة التراويح، ولكن الرحمة الإلهية ظللت مسجد الرحمة فلم ينفجر أي صاروخ منها بحمد الله تعالى. وذلك يوم الجمعة الماضي.
- الإشارة إلى مصير المستكبرين القائلين (لا أريكم إلا ما أرى) وتأكيد أن العاقبة للمتق(/1)
لا بحبل من الله وحبل من الناس
1484
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد الرحمن عبدالعزيز السديس
مكة المكرمة
16/7/1421
جامع الفرقان
ملخص الخطبة
1- تاريخ فلسطين وارتباطها الوثيق بالإسلام. 2- تاريخ اليهود مع الأنبياء. 3- تحريفهم التوراة وافتراؤهم على الله الكذب. 4- أهمية دعوة النصارى إلى الإسلام وتعرية اليهود وفضحهم. 5- دور أقسام العقيدة : بالجامعات ومراكز الدعوة والمؤسسات في دعوة النصارى. 6- سبب تسلط اليهود مع ضعفهم وقلة عددهم. 7- نحن أولى بموسى من اليهود ، وأولى عيسى من النصارى. 8- أحقية المسلمين بالقدس في كل الأديان والأعراف.
الخطبة الأولى
عباد الله: ذكرنا في الخطبة الماضية تاريخ فلسطين منذ دخلها عمر فاتحًا إلى يوم الناس هذا, ولا نقول منذ دخلها الإسلام؛ لإن الإسلام دخل فلسطين قبل هذا التاريخ بكثير حيث وصل الخليل إبراهيم إليها وقابل ملكها الكنعاني العربي اليبوسي قبل ميلاد المسيح بألف وثمانمائة وخمسين عامًا, أي قبل قرابة ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسين سنة من الآن, وإبراهيم أبو الأنبياء وما بعث الله نبيًا بعده إلا وهو من ذريته كما قال سبحانه: ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهم النبوة الكتاب, ولم يكن إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا, وإنما كان حنيفًا مسلمًا كما قال الله: وما كان من المشركين, وقال سبحانه: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون, وأمّة الإسلام هي أولى الأمم بإبراهيم إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين, وإبراهيم عليه السلام ممن أخذ الله عليه الميثاق لو بعث محمد وهو حي أن يتبعه كما هو شأن سائر الأنبياء وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هو الفاسقون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون قل أمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
وقبل ثلاثة آلاف سنة من الآن تقريبًا كانت القدس تحت حكم نبي الله سليمان الذي أخذ عليه الميثاق كسائر الأنبياء لو بعث محمد وهو حي ما وسعه إلا أن يتبعه, وبقيت في حكمه أربعين سنة, وقد كان سليمان حنيفًا مسلمًا, فدين الأنبياء كلهم واحد ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت, واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون, وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون, وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.
ولم تزل هذه الأمة الغاصبة ـ أمة اليهود ـ تخالف الأنبياء وتحيد عن أمرهم, فقالوا لموسى: إن فيهًا قومًا جبارين وإن لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون, وآذوه أذى كثيرًا وقالوا له: أوذينا من قبل أن تأتينا, وقالوا: آدر أي منتفخ الخصيتين فبرأه الله مما قالوا يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهًا, وإذا قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين.
ولم يزل هذا دينهم مع الأنبياء حتى قتلوا منهم عددًا كبيرًا, وقالوا عليهم إفكًا كثيرًا, بل وحرفوا التوراة وقالوا على الله قولاً كبيرًا وافتروا عليه الكذب كما قال لنا ربنا في كتابه: وقالت اليهود عزير بن الله, وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء , لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء.
إلى غير ذلك من بغيهم وظلمهم وقولهم على الله وعلى أنبيائه البهتان والزور والإفك الكبير, وإفسادهم في الأرض حتى سلط الله عليهم بختنصر قبل ألفين وستمائه سنة من الآن وقد قضى الله في كتابه ما ذكره في القرآن وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا.(/1)
وهم اليوم قد أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر نفيرًا, فسلاحهم كثير, ومكرهم كبير, وقد ركبوا الحمير من ساسة النصارى وأكثر متدينيهم بفعل تزويرهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه, وإغرائهم النصارى بالوعود المعسولة, وتحريفهم كتاب الله الذي أنزله على أنبيائهم, فصارت إمكانيات النصارى وعَدَدِهم وعِدَدِهم مسخرةً في خدمة وتنفيذ مخططات اليهود, الأمة الغضبية, أما هؤلاء النصارى الضالون كما سماهم الله في كتابه فهم بحاجة ماسة إلى من يهديهم من ضلالهم, ويكشف لهم أن المسلمين أولى بهم من اليهود, فمسيحنا ومسيحهم واحد, وهو عيسى, أمّا مسيح اليهود فهو الدجّال, فالواجب على هؤلاء الضالين من النصارى أن يعوا ذلك جيدًا, ويتخلصوا من وعود وأوهام يهود الذين يسعون لاستغلالهم للوصول إلى مآربهم ثم يلفظونهم, فإذا بهم لقىً لا قيمة لهم, إن الله يقول: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.
أين علماء المسلمين وحكماؤهم عن دعوة النصارى, أين بيان الحق للقسيسين والرهبان الذين لا يستكبرون, إن الأليق بهم أن يعلموا أن ما جاء به محمد هو الحق الذي يؤمن بموسى وعيسى وكل الأنبياء, لا ما جاءت به يهود الذين قال الله فيهم: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا وقولهم إن قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا.
كيف تسبقنا الأمة الغضبية إلى هؤلاء الضالين كما سماهم الله؟ كيف يسوغ لأقسام العقيدة بالجامعات ومراكز الدعوة في الرابطة وغيرها من مؤسسات دعوية أن تغفل عن هذه المعاني, وتشغل نفسها بزمالة الأديان وبرلمانات الأديان, ولا تعنى بدعوة خراف بني إسرائيل الضالة إلى الإسلام بالحكمة, إن كثيرًا من حكماء النصارى اليوم وقسسهم ورهبانهم اليوم لو وفقوا لمن يبين لهم دعاية الإسلام الصحيحة, ويكشف كثيرًا من شبههم ويفضح تزييف يهود, وتغريرهم, ويبين أن أمة الإسلام أولى بهم من يهود, وأنهم إن لم يدخلوا في الإسلام حين يعرفون حقائقه كما هي, وحين يجادلهم بها أهل العلم والبصيرة والدين والغيرة من المسلمين بالتي هي أحسن لا بالتي هي أخشن إلا من ظلم منهم وأصر وعاند بعد معرفته بالحق, أما أكثرهم فهم ضالون وعلينا بيان الحق لهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن لنهديهم للتي هي أقوم ممتثلين بذلك أمر الله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.
إن حجّة الله على أهل العلم والإيمان والبصيرة قائمة في كتابه, وبما سخر من وسائل الاتصال الحديثة التي لو التفت إليها جمهرة من أهل العلم والبصيرة وخاطبوا عقلاء النصارى ورهبانهم وقسسهم وحكماءهم لرجونا أن يجدي ذلك ويكون أنكى في يهود حين يقل مساندوهم, فكيف لو خسروهم جملة وتخلّى عنهم النصارى.
إن اليهود من أقل الديانات في العالم انتشارًا وقد نسخ الله دينهم بالإسلام, ولو تركوا لأنفسهم دون حبل من الناس ـ سواء كان الناس هم النصارى الذين يسندونهم ويؤازرونهم, أو من المسلمين الذين ضعفت ثقتهم بدينهم وتمسكهم به ـ فكان ذلك سببًا في تسلط يهود عليهم, فلو انقطع حبل الناس هذا عادوا إلى طبيعتهم التي ذكرها عنهم ربنا بقوله: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة, وحينها يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية
عباد الله: إن أمة الإسلام أولى بموسى من اليهود؛ قال : ((نحى أولى بموسى منكم)), وأولى بعيسى عليه السلام ((أنا أولى بعيسى ابن مريم)), وكل وعد بالتمكين في التوراة والإنجيل فأمة الإسلام أولى به من يهود قتلة الأنبياء, وأعداء الرسل.(/2)
فأين دعاة الحق الذي تظافر على إثباته التاريخ أكثر من خمسة آلاف عام, والنصوص الدينية في كل الكتب السماوية من العهد القديم ـ التوراة ـ والجديد ـ الإنجيل ـ والأخير المهيمن ـ القرآن ـ آخر الكتب عهدًا وناسخها, والمهيمن عليها, وكلها تظافرت على إثبات الحق في القدس للمسلمين, ثم تظافرت عليه قوانين الأرض أيضًا من حكم الجاهلين بموجب قرار الجمعية العامة للأم المتحدة رقم 194 الذي أكدته الأمم المتحدة أكثر من 110 مرة, فأي حق أبلج وأوضح من هذا.
لكن صدق عثمان: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن", وصدق الشاعر حين قال:
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.
وقديمًا قيل: إذا لم تنفع الكتب تعينت الكتائب, فاللهم ابعث للدين ناصرًا, اللهم أقم علم الجهاد.(/3)
لا تحلوا شعائر الله د. عبد الحي يوسف*
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (المائدة: 2)
القراءات:
في قوله سبحانه ((شنآن)) قرأ ابن عامر وشعبة وابن وردان وابن جماز بخلف عنه بإسكان النون على أنه صفة مثل: عطشان وسكران، وقرأ الباقون بفتح النون وهو مصدر شنأ مثل الطيران
قوله سبحانه ((أن صدوكم)): قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر همزة أن على أنها شرطية والصد منتظر في المستقبل، وعليه يكون المعنى: إن وقع صد لكم عن المسجد الحرام مثل الذي فعل بكم أولاً في الحديبية سنة ست من الهجرة فلا يحملنكم بغض من صدكم على العدوان. وقرأ الباقون بفتح همزة أن على أنها مصدرية، وأن وما دخلت عليه مفعول لأجله، والمعنى: لا يحملنكم بغض قوم على العدوان لأجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام في الزمن الماضي؛ لأنه وقع عام الحديبية سنة ست من الهجرة، والآية نزلت سنة ثمان من الهجرة عام الفتح.[1]
شعائر الله: قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج، وقال مجاهد: الصفا والمروة، وقيل: شعائر الله محارمه أي لا تحلوا محارم الله التي حرَّمها تعالى
ولا الشهر الحرام: يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم كما قال تعالى ((يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير)) وقال تعالى ((إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله)) وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع {إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان}وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم واحتجوا بقوله تعالى ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)) والمراد أشهر التيسير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، قال: وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أماناً من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: وأما قتال الدفع ـ إذا ابتدأ الكفار المسلمين بقتال ـ فإنه يجوز للمسلمين القتال دفعاً عن أنفسهم، في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء[2]
ولا الهدي: ما أهدي إلى البيت وتقرب به من النسائك وهو جمع هدية كما يقال جدي في جمع جدية
ولا القلائد: جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر أو غيره.[3] يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام فإن فيه تعظيم شعائر الله ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من أرادها بسوء وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها[4] وقيل: المراد: ذوات القلائد وهي البدن وقد عطفت على الهدي للاختصاص لأنها أشرف الهدي كقوله ((وجبريل وميكال))[5]
ولا آمين البيت الحرام: أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً، وكذا من قصده طالباً فضل الله وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه
يبتغون فضلاً من ربهم: يعني بذلك التجارة
ورضوانا: المشركون كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم وأن الحج يقربهم إلى الله فوصفهم الله بظنهم
وإذا حللتم فاصطادوا: أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم: لا يحملنكم بغض من كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا فيهم بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، ومن كلام العرب في ذلك:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وتعاونوا على البر: فعل الخيرات(/1)
والتقوى: ترك المنكرات، روى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً}قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه} قال ابن جزي رحمه الله تعالى: والفرق بين البر والتقوى أن البر عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات، فالبر أعم من التقوى، والفرق بين الإثم والعدوان أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس.[6] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الإثم ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، والعدوان: ما كان محرم القدر والزيادة، فالعدوان تعدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه، إما بأن يتعدى على بدنه أو ماله أو عرضه، فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره، وإذا أتلف عليه شيئاً أتلف عليه أضعافه، وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها، فهذا كله عدوان وتعد للعدل.[7]
واتقوا الله إن الله شديد العقاب: لمن عصاه وما اتقاه
من فوائد الآية
1.تحريم انتهاك حرمة شعائر الله عز وجل المكانية والزمانية من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر
2.وجوب تعظيم حرمة الأشهر الحرم وشدة إثم من عصى الله فيها
3.حرمة التعرض لما أهدي إلى البيت الحرام من الهدي والقلائد
4.وجوب تأمين من كان متلبساً بنسك يقصد البيت الحرام
5.الأصل فيمن كان يقصد البيت أنه يبتغي رضوان الله عز وجل
6.إباحة التجارة حال التلبس بالنسك، وهذا منصوص عليه في قوله سبحانه ((ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم))
7.إباحة الصيد بعد الإحلال من النسك
8.وجوب العدل مع الموافق والمخالف
9.الظلم لا يقابل بمثله مما فيه معصية لله عز وجل لأن الله لا يمحو الخبيث بالخبيث
10. وجوب التعاون على البر والتقوى
11.حرمة التعاون على الإثم والعدوان
12.وجوب تقوى الله عز وجل على كل حال
13.شديد عقابه جل جلاله لمن عصاه وخالف أمره.
----------
1- المغني في القراءات العشر 2/7
2- تيسير الكريم الرحمن/181
3- الكشاف 1/321
4- تفسير ابن كثير 2/7
5- مدارك التنزيل وحقائق التأويل 1/269
6- التسهيل لعلوم التنزيل 1/223
7- مدارج السالكين 3/302(/2)
لا تدخلوا حتى يؤذن لكم
صالح بن عبدالله بن حميد
دار القاسم
الحمد لله، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، ذو الأدب الجم، والخلق الرفيع، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله، لقد جعل الله البيوت سكناً يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر.
وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها. في الأوقات التي يريدون، وعلى الأحوال التي يشتهون: [النور:27-28].
إن اقتحام البيوت من غير استئذان؛ هتك لتلك الحرمات، وتطلع على العورات، وقد يفضي إلى ما يثير الفتن، أو يهيئ الفرص لغوايات تنشأ من نظرات عابرة.. تتبعها نظرات مريبة.. تنقلب إلى علاقات آثمة، واستطالات محرمة.
وفي الاستئذان وآدابه ما يدفع هاجس الريبة، والمقاصد السيئة.
أيها الإخوة المؤمنون، إن كل امرئ في بيته قد يكون على حالة خاصة، أو أحاديث سرية، أو شؤون بيتية، فيفجؤه داخل من غير إذن قريباً كان أو غريباً، وصاحب البيت مستغرق في حديثه، أو مطرق في تفكيره، فيزعجه هذا أو يخجله، فينكسر نظره حياءً، ويتغيظ سخطاً وتبرماً.
ولقد يقصِّر في أدب الاستئذان بعض الأجلاف ممن لا يهمه إلا قضاء حاجته، وتعجُّل مراده، بينما يكون دخوله محرجاً للمزور مثقلاً عليه.
وما كانت آداب الاستئذان وأحكامه إلا من أجل ألا يفرِّط الناس فيه أو في بعضه، معتمدين على اختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، أو معولين على أوهامهم في عدم المؤاخذة، أو رفع الكلفة.
تأملوا أيها المؤمنون قوله سبحانه: [النور:27].
إنه استئذان في استئناس، يعبر عن اللطف الذي يجب أن يكون عليه الزائر أو الطارق مراعاةً لأحوال النفوس وتهيؤاتها، وإدراكاً لظروف الساكنين في بيوتاتهم وعوراتهم.
وهل يكون الأُنس والاستئناس إلا بانتفاء الوحشة والكراهية؟!
أدبٌ رفيع يتحلى به الراغب في الدخول لكي يطلب إذناً لا يكون معه استيحاش من رب المنزل، بل بشاشة وحسن استقبال.
ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين مستأنسين، فذلك عون على تأكيد روابط الأخوة الإسلامية.
ولقد بسطت السنة المطهرة هذا الأدب العالي، وازدان بسيرة السلف الصالح تطبيقاً وتبييناً.
فكان نبيكم محمد أن يتباعد. وقال له: { وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟! } [رواه الطبراني].
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: { اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي ومع النبي ، فدخل } [رواه أحمد وأبو داود].
وله أن يستأذن بنداءٍ أو قرع أو نحنحة أو نحو ذلك.
تقول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوَّت).
ويقول الإمام أحمد: (يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته؛ لئلا يدخل بغتة. وقال مرةً: إذا دخل يتنحنح).
ومن الأدب أن الطارق إذا سئل عن اسمه فليبينه، وليذكر ما يُعرف به. ولا يجيب بما فيه غموضٌ أو لبسٌ. يقول جابر رضي الله عنه: { أتيت إلى النبي سأله رجل فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، قال الرجل: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله : استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟، قال: لا. قال: فاستأذن عليها } [رواه مالك بإسناد جيد].
ويقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن.
والأعمى يستأذن كالبصير، فلربما أدرك بسمعه ما لا يدركه البصير ببصره.
{ ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة } [رواه البخاري] والآنك هو الرصاص المذاب.
أيها الإخوة في الله، وهناك أدب قرآني عظيم، لا يكاد يفقهه كثير من المسلمين. إنه قول الله عزَّ وجلَّ: [النور:28].
إن من حق صاحب البيت أن يقول بلا غضاضة للزائر والطارق: ارجع. فللناس أسرارهم وأعذارهم، وهم أدرى بظروفهم، فما كان الاستئذان في البيوت إلا من أجل هذا.
وعلى المستأذن أن يرجع من غير حرج، وحسبه أن ينال التزكية القرآنية.
قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها. لقد طلبت أن أستأذن على بعض إخواني ليقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط. لقوله تعالى: [النور:28]. ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
إن من الخير لك ولصاحبك أيها الطارق، أن يَعتذر عن استقبالك بدلاً من الإذن على كراهية ومضض، ولو أخذ الناس أنفسهم بهذا الأدب، وتعاملوا بهذا الوضوح؛ لاجتنبوا كثيراً من سوء الظن في أنفسهم وإخوانهم.(/1)
إن هذه التفاصيل الدقيقة في آداب الاستئذان تؤكد فيما تؤكد حرمة البيوت، ولزوم حفظ أهلها من حرج المفاجآت، وضيق المباغتات، والمحافظة على ستر العورات. عورات كثيرة تعني كل ما لا يُرغب الاطلاع عليه من أحوال البدن، وصنوف الطعام واللباس وسائر المتاع، بل حتى عورات المشاعر والحالات النفسية، حالات الخلاف الأسري، حالات البكاء والغضب والتوجع والأنين. كل ذلك مما لا يرغب الاطلاع عليه لا من الغريب ولا من القريب، إنها دقائق يحفظها ويسترها أدب الاستئذان. فهل يدرك هذا أبناء الإسلام؟!
اللهم فقهنا في ديننا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=92 ...(/2)
لا تلوموني في حبه
بقلم: الشيخ كمال خطيب
ما أجملها أيام الربيع وليت العام كله ربيع، فيها تتفتح الأزهار وتغرد الاطيار وتورق الاشجار وتتدفق الانهار ويحلو الربيع أكثر وتتزين ايامه وتتعطر لما يتزامن فصل الربيع مع شهر ربيع ، شهر مولد الشفيع، ربيع هذا الكون وسراجه المنير وعطره الفواح، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
إننا نعيش هذه الأيام ذكرى مولد الرحمة المهداة والنعمة المسداة، ذكرى مَن في الله وبإذن الله أحببناه وإن كنا لم نلقه ولم نره، لكنه أصدق الحب وأبقاه وأبقى البر وأوفاه.
أشواقنا نحو الحجاز تطلعت
كحنين مغترب الى الأوطان
ان الطيور وإن قصصت جناحها
تسمو بهمتها الى الطيران
فيا آل محمد ويا أصحاب محمد ويا بلدا حراما أمينا فيها ولد محمد، ويا طيبة الطيبة فيها مات محمد، اننا نحبكم جميعا بحب محمد صلى الله عليه وسلم.
فيا ساكني اكناف طيبة كلكم
الى القلب من أجل الحبيب حبيب
فاللهم ربنا إنا نشهدك ونشهد حملة عرشك وملائكتك وكتبك ورسلك وسائر خلقك اننا نحبك ونحب رسولك صلى الله عليه وسلم.
* وكيف لا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحبه الجماد بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فمن المعهود ان يحب الانسان الجماد اذا كان المنظر جميلا لما يبعث في النفوس الهدوء والسكينة والطمأنينة، او مما يثير في نفس الانسان مشاعر معينة او ذكريات ، او كان مما يرتاح فيه، اما ان يحب الجماد الانسان فهذا غير مألوف ولا معروف ظاهرا لأنه جماد لا ينطق، ولكن الله سبحانه جعل الادراك في الجمادات ، ومن مظاهر الادراك تجلت في علاقة هذه الجمادات برسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التي كانت من جبل أحد ما أكرمه الله تعالى ان جعل فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم كما جعل محبته في النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعلن ذلك صلى الله عليه وسلم وتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وبدا له أُحد قال :" هذا جبل يحبنا ونحبه"وفي رواية اخرى قال صلى الله عليه وسلم :" ان احدا جبل يحبنا ونحبه"، يقول الدكتور الشيخ خليل ابراهيم الغرامي في كتابه ( محبة النبي ) :" والشاهد في هذين الحديثين قوله صلى الله عليه وسلم:" جبل يحبنا"ان الانسان السوي يحب المناظر الطبيعية الجميلة، من جبال مكسوّة بالخضرة والبساتين منوعة الخضرة، ويألف ذلك ويرغب تكرار النظر اليه والجلوس عنده والتمتع فيه لما يجد في نفسه من انس وراحة ومتعة وهناء وطمأنينة وهدوء وسعادة، كما يحب الشيء الجميل والشيء الحسن ولو كان جمادا.
اما محبة الجماد الصلب القاسي للإنسان فهذا غير مألوف ولا معهود بل مستغرب وغير معروف ولهذا قدمه صلى الله عليه وسلم لإظهار حصوله وبيان وجوده وتأكيد فضله " يحبنا ونحبه" . ومن نظر الى جبل أحد لا يجد فيه من حيث الظاهر ما يفرقه عن غيره من الجبال بل قد يكون دون غيره بكثير فلا شجر ولا ماء ولا خضرة لديه، لذا قل ان يثير ما يحب لأجله فلما غرس الله سبحانه وتعالى فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم بادله النبي صلى الله عليه وسلم نفس الحب والشوق".
لما اطلَّ محمد زكت الرُّبى
واخضر في البستان كل هشيم
* وكيف لا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحبه جذع النخلة وحن شوقا اليه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل صنع المنبر الشريف يخطب قائما معتمدا على جذع نخل منصوب على يمين المحراب فإذا طال وقوفه صلى الله عليه وسلم او شعر بتعب وضع يده الشريفة على ذاك الجذع.
فلما كثر عدد المصلين وضاق المسجد بأهله بحيث لم يعد يرى من صلى في آخر المسجد او من كان جالسا في آخره رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا وقف في مقدمة المسجد إضافة الى تقدم سن النبي صلى الله عليه وسلم مما جعل الصحابة -رضي لله عنهم- يشفقون عليه صلى الله عليه وسلم اذا طال وقوفه، لذا اقترحوا عليه -رضي الله عنهم- ان يضعوا له منبرا ، فوافق صلى الله عليه وسلم فصنعوه من طرفاء الغابة.
فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في موضعه وخرج صلى الله عليه وسلم من باب الحجرة الشريفة يوم الجمعة يريد المنبر ليخطب عليه، فلما جاوز الجذع الذي كان يخطب عنده ولم يقف عنده وصعد المنبر واذا بالجذع يصرخ صراخا شديدا ويحن حنينا مؤلما حتى ارتج المسجد وتساقط الغبار وتشقق الجذع ولم يهدأ فتأثر الصحابة - رضي الله عنهم- وبكوا بكاءً شديدا لحنين هذا الجذع. هذا الجذع الميت يحن ويصيح !؟ نعم.(/1)
نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر وأتى الجذع فوضع يده الشريفة عليه ومسحه ثم ضمه صلى الله عليه وسلم بين يديه الى صدره الشريف حتى هدأ ثم خيره صلى الله عليه وسلم بأن سارره وهو الجماد الميت بين أن يكون شجرة في الجنة تشرب عروقه من انهار الجنة وعيونها ويأكل منه المؤمنون فيها وبين ان يعود شجرة مثمرة في الدنيا وذلك بأن يعيده الى بستانه الذي كان فيه فيثمر من جديد ويأكل منه المؤمنون.
فاختار الجذع المشوق الحنّان ان يكون شجرة في الجنة فقال عليه واله الصلاة السلام " افعل ان شاء الله ، افعل ان شاء الله، افعل ان شاء الله" فسكن الجذع ثم قال عليه وآله الصلاة والسلام :" والذي نفسي بيده لو لم التزمه لبقي يحن الى قيام الساعة شوقا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم". كما جاء في عدد من الاحاديث.
بربكم ايها الناس، فكيف لا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نحن اليه وهو الذي حن اليه واشتاق جذع ميت جاف من شجرة ، فمن اكثر جفافا قلوبنا ام جذع النخلة الميت؟!
* وكيف لا نحب الحبيب محمدا صلى الله عليه وسلم والشجر والحجر احبه وكان يسلم عليه ، فمن مظاهر المحبة السلام، فالإنسان لا يسلم غالبا الا على من يعرف ويحب وان كان الشرع قد حث على السلام مطلقا على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين، فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه- قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل ان ابعث اني لأعرفه الآن" ، وفي رواية قال :" كان يسلم علي ليالي بعثت ".وعن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه قال :" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا معه في بعض نواحيها فمررنا بين الجبال والشجر فلم نمر بشجرة ولا جبل الا قال :" السلام عليك يا رسول الله" نعم السلام عليك يا رسول الله ولم يكن هذا السلام معروفا في الجاهلية فهي تعلم إذن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذا فإنها خاطبته بهذه الصيغة وعرفت قدره وأحبته وحنت اليه فما بال كثيرين من المسلمين قست قلوبهم فهي كالحجارة او اشد قسوة فلا تحن ولا تحب ولا تشتاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!
* وكيف لا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفتديه ودينه بالمهج والأرواح وبالغالي والنفيس، فكيف لا نحبه وقد أحبته تلك الشاة المسمومة.
ان من شأن المحب ان يخاف على محبوبه من كل شيء يسيئه فضلا عن ان يؤذيه اما اذا كان الامر يصل الى حد الهلاك فلا يمكن للمحب ان يصبر على هلاك محبوبه، لذا فإنه يسارع الى العمل على نجاته وإنقاذه منه بكل وسيلة يستطيع القيام بها وهذا ما حصل فعلا.
فلما انتهت غزوة خيبر سألت امرأة يهودية من يهود خيبر عن احب الاعضاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة فقيل لها الذراع فلما اخبرت بذلك ذبحت شاة وطبختها وسمَّمتها وزادت السم في الذراع وقدمتها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جلس معه بعض اصحابه - رضي لله عنهم- وتناول الذراع أخبرته الذراع بأنها مسمومة وان الشاة كلها مسمومة فقال لأصحابه - رضي الله عنهم- :" ارفعوا ايديكم" ثم دعا اليهود فاعترفوا بذلك وفي رواية اخرى قال علي الصلاة السلام :" إن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة" وفي رواية ثالثة قالت الشاة:" لا تأكل مني يا حبيب الله فإني مسمومة".
نعم ، هكذا شأن المحب يخاف على محبوبه ويغار على محبوبه ويخاف عليه من الأذى ومن لفح الشمس ومن نسمة الريح.
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
إننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف لا نحبه وقد ورد في الخبر أنه ما من ملك ولا نبي ولا ولي ولا صفي ولا صديق ولا شهيد ولا تقي ولا سعيد الا هو يقول لله عز وجل يوم القيامة :" بحرمة محمد أن تنجيني من عذابك"
الا يا محب المصطفى زد صبابة
وضمّخ لسان الذكر منك بطيبهِ
ولا تعبأنّ بالمبطلين فإنما
علامة حب الله حب نبيهِ(/2)
إنها معاني الحب للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم سال بها قلم شاعر الاسلام وفيلسوفه المرحوم محمد اقبال ، وسالت مع مداد القلم دموع العينين وهو يقول فيما اورده المرحوم الشيخ ابو الحسن الندوي في كتابه الرائع ( روائع اقبال) :" ان قلب المسلم عامر بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو اصل شرفنا ومصدر فخرنا في هذا العالم ، إن هذا السيد الذي داست امته تاج كسرى كان يرقد على الحصير، ان هذا السيد الذي نام عبيده على اسرة الملوك كان يبيت ليالي لا يكتحل بنوم، لقد لبث في غار حراء ليالي ذوات العدد فكان ان وُجدت امة ووُجد دستور ووُجدت دولة، اذا كان في الصلاة فعيناه تهملان دمعا واذا كان في الحرب فسيفه يقطر دما ، لقد فتح باب الدنيا بمفتاح الدين بأبي هو وأمي، لم تلد مثله ام ولم تنجب مثله الانسانية ، افتتح في العالم دورا جديدا واطلع فجرا جديدا كان يساوي في نظرته الرفيع والوضيع ويأكل مع مولاه على خوان واحد. جاءته بنت حاتم الطائي أسيرة مقيدة سافرة الوجه خجلة مطرقة رأسها فاستحى النبي صلى الله عليه وسلم والقى عليها رداءه.
ونحن اعرى من السيدة الطائية، نحن عراة أمام أمم العالم، لطفه وقهره كله رحمة، هذا بأعدائه وذاك بأوليائه، الذي فتح على الاعداء باب الرحمة وقال :" لا تثريب عليكم اليوم" نحن المسلمين في الحجاز والصين وايران واقطار مختلفة نحن غيض من فيض، نحن ازهار كثيرة العدد، واحدة الطيب والرائحة، لماذا لا أحبه واحن اليه وانا انسان وقد بكى لفراقه الجذع، وحنت اليه سارية المسجد.
ان تربة المدينة احب اليَّ من العالم كله ، انعم بمدينة فيها الحبيب ... يا رب انت غني عن العالمين وانا عبدك الفقير فاقبل معذرتي يوم الحشر وإن كان لا بد من حسابي فأرجوك يا رب ان تحاسبني بنجوة من المصطفى صلى الله عليه وسلم فإني استحي ان انتسب اليه واكون من أمته وانا اقترف هذه الذنوب والمعاصي..
ويحهم اولئك المسلمين والمسلمات وما أكثرهم ممن ينتسبون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم لا يعرفون من الاسلام الا اسمه ولا من أخلاق وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم الا رسمها ، فأين وجههم يوم القيامة من وجه رسول الله يوم يحاسبهم ربهم ويعاتبهم رسولهم وقد عصوه وأداروا لدينه الظهر واستبدلوه بمخلفات فكر وتقاليد أتفه شعوب الأرض، يا للخزي ويا للعار، نعم والله، إن الانسان في الدنيا ليخجل الى حد تمني انشقاق الأرض وابتلاعه اذا عمل عملا مشينا واطلع عليه الناس، فكيف سيقف بين يدي ربه وكيف سيكون الجواب لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من رب العالمين لما يقول يا رب أمتي أمتي، فيقول الله : يا محمد، إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك !!
صلى الإله على النبي محمد
خير الأنام وجاءه التنزيل
وبفضله نطق الكتاب وبينت
بصفاته التوراة والانجيل
ذاك النبي الهاشمي المصطفى
قد جاءه الترفيع والتفضيل
اسرى به المولى الى أفق السما
فوق البراق وعنده جبريل
* وكيف لا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحبه الكبار والصغار ، الرجال والنساء ، الأغنياء والفقراء، وكلهم أراد بقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينال شفاعته يوم القيامة.
لهجت بذكرك مهجتي ولساني
وحللت من قلبي بكل مكانِ
فأنا بذكرك في البرية كلها
علم وحبك آخذ بعناني
سلطان حبك في الهوى عين الهوى
وبه تعزز في الهوى سلطاني
انت النبي الهاشمي محمد
صلى الاله عليك في القرآنِ
انت الحبيب لأهل دينك كلهم
يوم المعاد وموقف الخسرانِ
انت الشفيع لمن عصى رب العلا
انت الدليل لجنّة الرضوانِ
فلأذكرنك ما بقيت معمرا
حتى الممات ولا يمل لساني
فصلاة ربي ماجد ومهيمن
تترى عليك تعاقب الَملَوان
* فيا كل من ينتسب الى محمد صلى الله عليه وسلم، ما هذا الجفاء، ما هذا الصدود ، لم هذا الهجران منكم لحبيب الأرض والسماء، ويحكم وأنا منكم، الخشبة تحنّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا الى لقائه ونحن عنه مدبرون، وقلوبنا له منكرة لا بل انها قاسية كالحجارة او اشد قسوة، ما بالنا نطرب لصوت جميل ونتمايل ونهتز تأثرا بكلام عذب ، لا بل لعل الدموع تسيل من مآقينا عند مشهد مؤثر وكلام معبر، بربكم أيها المسلمون، هل سمعتهم أعذب وأطيب وأصدق بعد كلام رب العالمين من كلام رسوله الأمين؟! ولكن ما بالكم لا تتأثرون ولا تبكون شوقا لهذا الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
حبيبي رسول الله، اذا كان الناس في يوم ميلاد من يحبونهم فإنهم يحملون اليهم الهدايا من الورود والعطور وكل ثمين جميل، وإنني يا رسول الله في ذكرى مولدك فإنني اعتذر عن هدايا الدنيا لأنها لا تليق بمقامكم الكريم ولكنني أقدمها هدية هي زجاجة يتجلى فيها هوان أمتك من دماء المسلمين والمسلمات في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان على أمل ان تكون هذه هي آخر مرة أقدم لك هدية من هذا النوع لتكون وفي المستقبل القريب -بإذن الله تعالى- هديتنا اليك يا حبيبنا وقائدنا وشفيعنا زجاجة يتجلى فيها شرف أمتك من دماء وعرق ودموع الشهداء والأبطال والعباد، نعم إنها خلطة مزيدة تعبر عن فهمنا لشمولية رسالتك التي بايعناك يا رسول الله أن نبذل في سبيلها المهج والأرواح وان نسترخص المال والولد لأجلها.
فيا لائمينا في حب حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، إننا نشفق عليكم وانتم لا تعرفون معاني الحب الحقيقي الذي تسامى على حب المرأة والزوجة والمال والولد، فقولوا عنا ما شئتم، إننا نغالي، إننا نقدس، إننا نبالغ في حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كل الكلمات لا تستطيع وصف حقيقة هذا الحب لحبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم.
فطب نفسا أيها الحبيب، فوالذي بعثك بالحق بشيرا ونذيرا وأرسلك رحمة للعالمين إننا على العهد لا نقيل ولا نستقيل حتى يكون اليوم القريب -بإذن الله- الذي فيه ترتفع راياتك وتتحرك كتائبك، تهتف باسمك وتعلي ذكرك، اليوم الذي فيه يتمنى كارهوك وشانئوك لو ان امهاتهم لم تلدهم ان هم بقوا مكابرين او انهم سيحمدوا الله كما حمدناه نحن ان دلهم على رسالتك وشرعتك يا رحمة الله للعالمين.
فاللهم صل على محمد ما اتصلت عين بنظر وتزخرفت ارض بمطر وحج حاج واعتمر، ولبى ونحر، وحلق وقصر، وطاف بالبيت وقبّل الحجر.
اللهم صل عليه وعلى آله صلاة لا نفاد لها ولا انقطاع، وصل اللهم عليه عدد من يصلي عليه وعدد من لم يصل عليه الى يوم القيامة، وصل عليه عدد ذكر الذاكرين وغفلة الغافلين ولوم اللائمين واحشرنا وجميع المسلمين في زمرته يوم الدين ، اللهم آمين.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي بالمغفرة
{ ... والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون}.(/4)
لا تيأس فالنصر قادم
الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
أما بعد فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن الذين نصروا دينه و آزرا دينه إنه سميع مجيب.
وحديثنا أيها الأخوة هو عن بشارات عظيمة لهذا الدين وإن المستقبل للإسلام حديث ينطلق من قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( بشر هذه الأمة بالثناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض) إنه حديث في وسط اليأس والإحباط الذي يشعر به الكثيرون اليوم من تكالب الأعداء وضعف المسلمين ولكن الله رحيم بعباده والفرج آت لاريب
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطئت المكاره وأطمئنت وأرست في أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجه ولا أغنى بحيلته الأريب
آتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح) التبشير بالنصر والتمكين لهذا الدين يأتي في البداية ولكن المؤمن يعرف بأن الحال لن يستمر إننا نعيش في وقت استثنائي فعلاً يجب علينا أن نفقهه ونفهمه وأنت لو تأملت منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى الآن وجدت أن أكثر الوقت الذي عاشته هذه الأمة كان النصر لها وأن الوقت الذي كان المسلمون فيه في استضعاف كمرحلة غزوة التتر أو الحملات الصليبية أو الوقت الحاضر الذي نعيش فيه هو الأقل وليس الأكثر في هذه الأمة وإذا عرفنا النصوص الشرعية المتعلقة بأن القوة للمسلمين وأن النصر لهم وأن هذا هو الأصل يجب أن نقتنع أن هذا هو الأصل وأن ما نحن فيه الآن مرحلة استثنائية عندما يشعر المسلم بهذا ويعتقد وضعه في الإنتاج لهذا الدين والعمل له لأنه يرى صبحه ويرى أمل ونور وفجرا سيأتي ولابد ومن النصوص الشرعية الدالة على ذلك قول الله سبحانه وتعالى )يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف)
إن وعد الله لا يتخلف قال تعالى )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) قال ابن كثير رحمة الله هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته الولاة على الناس فتصلح بهم البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم بعد خوفهم أمناً وحكما وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة و خيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد النجاشي المسلم أصحمه رحمه الله وأكرمه ثم تولى أبو بكر الصديق فلمّا شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم فمهد الجزيرة العربية وفتح طرف من فارس بقيادة خالد بن الوليد وفتح بصرا ودمشق و حوران بقيادة أبي عبيده رضي الله عنهم أجمعين ،وألهم الله الصديق أن يستخلف عمر بن الخطاب الذي قام من بعده قياماً تاماً فتم في أيامه فتح الشام ومصر وأكثر إقليم فارس وتقهقر كسرى إلى أقصى مملكته وفر قيصر إلى القسطنطينية وأُنفقت أموالهم في سبيل الله ثم امتدت دولة عثمان إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ففتحت المغرب من ناحية المحيط ومن ناحية المشرق مدائن العراق وخرسان والأهواز وقتل المسلمون الترك مقتلة عظيمة جداً وخذل الله ملكهم خاقان فها نحن ((يقول ابن كثير في وصفه)) نتقلب في ما وعدنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فنسأل الله الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم والقيام بحكمه على الوجه الذي يرضيه عنا فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم له كان نصرهم بحسبهم ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم يعني تفوقهم وانتصارهم نقص بحسبهم
ملكنا هذه الدنيا القرون وأخضعها جدود خالدون
وسطرنا صحائف من ضياء فما نسى الزمان وما نيسنا
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرون
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد كانوا أئمته سنينا
وقد آلمني وآلم كل حرٍ سؤال الدهر أين المسلمون
ترى أن يرجع الماضي فإني أتوق لذلك الماضي حنينا(/1)
لابد أن يرجع لان الله سبحانه وتعالى قال )إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) فالنصر للمسلمين ولابد منه لأنهم المتقون قال الله تعالى ).. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128)
والله عز وجل قد أهلك القرون من قبلنا من الكفار وسيهلك هؤلاء ولابد )إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (الطارق) ويمكرون هؤلاء النصارى واليهود وغيرهم اليوم من المجوس والهندوس ).. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30)
هؤلاء ستباد قراهم ويزول ملكهم لان الله عز وجل قال )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً) (الطلاق) كم مليون من الكفار قتل في الحر ب العالمية الثانية خمسين مليون وكم دمر من مدنهم وكم سقط دولهم كثير جدا ما مضى زمن طويل عليها والله قادر على تدميرها مرة أخرى وإهلاك الملايين الكثيرة من هؤلاء الكفار فقد أرانا الله عما قريب آيات بهم وسيرينا آيات بمشيئته سبحانه وتعالى.
هؤلاء أيها الأخوة ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله كما يحدث اليوم بوضوح شديد )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ..) (لأنفال:36) وهذه البشائر النبوية تتوالى في أحاديثه الصحيحة صلى الله عليه وسلم ويقسم على ذلك فيقول : [ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ] وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن انتشار دينه في العالم فقال : [ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو ذل ذليل عز يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر] حديث صحيح رواه الإمام أحمد رحمه الله . وقال صلى الله عليه وسلم [إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ] زوى يعني : ضم وجمع فإذا حدث أحد بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قارة استراليا وقارة أمريكا فلا تكذبه لأنه قال : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها . أطلع عليها كلها صلى الله عليه وسلم وأخبر بأن ملك أمته سيبلغ المشارق والمغارب وهذا لم يحدث بعد فلماذا لا نتعبد أيها الأخوة ربنا بالتصديق بوعده ونتقرب إليه بالتصديق بوعده وبوعد النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى وهو الذي بشرنا بفتح روما بعد فتح القسطنطينية وسئل عليه الصلاة والسلام أي المدينتين تفتح أولاً فقال صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً وهو الذي أخبرنا أنه سيكون بعده صلى الله عليه وسلم خلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملك عاضاً ثم ملك جذرياً ثم تكون خلافة على منهاج النبوة وهذا لم يأتي بعد ومن المبشرات العظيمة إن الله لا يترك دينه بدون مجددين وكل ما خبا هذا الضوء وخفت أعاده الله للوهج مرة أخرى بهؤلاء العظماء الذين يحيون السنة ويميتون البدعة ويوقدون أنوار التوحيد ويطفئون نيران الشرك.(/2)
قال صلى الله عليه وسلم:( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) حديث صحيح فيحيون ما أندرس مما بلي وذهب ويرجعون الناس بالعمل بالكتاب والسنة بل إن هناك طائفة منصورة لا يمكن أن يخلو منها الزمان قال صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) وفي رواية لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم وفي رواية ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل أخرهم المسيح الدجال] فهذه الطائفة موجودة مستمرة وقد توجد في بعض الأرض دون بعض وفي بعض البلدان دون بعض ولكنها موجودة منهم العلماء والمجاهدون والزراع والصناع يكونون في قطاعات عريضة من المجتمع إنها طائفة منصورة بالحق ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة لا تخلو من الخير قال صلى الله عليه وسلم : [مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره] حديث صحيح رواه الإمام أحمد رحمه الله . قد يقول قائل نحن الآن من أين لنا الفرج وقد طبق الأرض ظلم هؤلاء الكفرة وعم الفساد في البلاد والذل للعباد بما حصل من هذا الطغيان الذي نراه اليوم من أولئك الكفرة بأسلحتهم العظيمة وقدارتهم الاقتصادية الضخمة وأعدادهم الهائلة ؟ فنقول إن الله على كل شيء قدير والله لا يخلف الميعاد وإن غداً لناظره لقريب وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا بأن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان وقد قال الله : )وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ ..) (الزخرف:61) وإنه لعلم لساعة يعني : آية فيكون قبل قيامها نزول عيسى بن مريم من قبل يوم القيامة والذي نفسي بيده يقول صلى الله عليه وسلم : [ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد][ كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم (يلبي) بفج الروحاء ( وهو الطريق بين الجبلين منطقة قريبة من المدينة ) حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما ] هذا الرجل وصفه صلى الله عليه وسلم وصفاً دقيقاً لكي نعرفه إذا نزل وأوصانا بوصية إذا أدركناه فما هو الوصف وما هي الوصية ؟ يقول : وإنه نازل فأعرفوه يعني عيسى بن مريم ، كل واحد يتأكد في الوصف ويعرف وصف عيسى لأنك لا تدري يمكن أن تدركه ، هو رجل مربوع معتدل القامة إلى الحمرة والبياض لون بشرته عليه ثوبان ممصران فيهما صفرة خفيفة كأن رأسه يقطر إن لم يصبه بلل فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعوا الناس إلى الإسلام ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام إذاً لا بوذية ولا نصرانية ولا اشتراكية ولا شيوعية ولا أي ملة أخرى غير الإسلام كلها تفنى طوبى لعيش بعد المسيح يؤذن للسماء في القطر ويؤذن للأرض في الإنبات حتى ولو بذرت حبك على الصفا وهو الحجر الأملس الصخر الأصم الذي لا ينبت شيئاً ولا يعلق به البذر نبت ، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره ويطأ على الحية فلا تضره ، ولا تشاح ، ولا عداوة ، ولا تحاسد، ولا تباغض . طيب أين البراء أليس من عقيدتنا الولاء والبراء فكيف يكون لاعداوة لأنه لا يوجد في الأرض كفاراً أصلاً حتى نعاديهم. كل سكان الأرض مسلمون فإذا قال لك إنسان : هل سيكون هناك سلام عالمي ؟ فتقول : نعم. متى؟ في عهد عيسى عليه السلام أما على أيدي هؤلاء الكفرة لا يوجد سلام .
أما أين ينزل قال صلى الله عليه وسلم : ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق والنبي صلى الله عليه وسلم بشرنا برجل آخر سيخرج ويقود الأمة وهو المهدي من أهل البيت يصلحه الله في ليلة . ما معنى يصلحه الله في ليلة ، يقول ابن كثير: في البداية والنهاية : يتوب عليه ويوفقه ويلهمه رشده بعد أن لم يكن كذلك إذا هو لا يكون رجلاً صالحاً سيهديه الله في ليلة , ولذلك سمي بالمهدي هذا من آل البيت النبوي هذا الرجل يؤم المسلمين في الصلاة وفيهم عيسى تكرمة من الله لهذه الأمة .(/3)
وما هي الوصية التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بها في شأن عيسى قال : من أدرك منكم عيسى بن مريم فليقرئه مني السلام سيتجه عيسى والمهدي كلا هما يقودان المسلمين لحرب الدجال وعيسى عندما ينزل يكون المهدي قد سوى صفوف المسلمين للصلاة فيؤمهم مع عيسى عليه الصلاة والسلام . وعند نزول عيسى ينزل بين جناحي ملكين لا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات . ما هي المساحة إلى يجد الكفار فيها ريح عيسى إذا نزل في دائرة نصف قطرها كم ؟ الجواب قال صلى الله عليه وسلم : فلا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات ونفسه وينتهي حيث ينتهى طرفه (مد البصر) مد بصر عيسى نصف قطر دائرة أي الكافر فيها سيموت إذا نزل وهذا إئذانا بأن التغيير سيكون شامل وأن الكفار سيغيبون عن ظاهر الأرض . وإمامهم رجل صالح أي المسلين فبينما إمامهم قد تقدم بهم إذ نزل عيسى بن مريم عليهم الصبح إذا الصلاة ستكون صلاة الفجر فرجع إمامهم لان عيسى نبي فرجع من هو دونه يمشي القهقره ليتقدم عيسى فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول : تقدم فصلي فإنها لك أقيمت فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف (أي من صلاة الفجر) قال : عيسى افتحوا الباب فيفتحونه ووراءهم الدجال (الكلام هذا في الشام أرض فلسطين) معه سبعون ألف يهودي أي الدجال كلهم ذو سيف محلى وتاج، فإذا سيكون هناك قتال بالأسلحة القديمة فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هاربا فيدركه عيسى عند باب لدٍ الشرقي (وباب لد معروف موجود في فلسطين ) فيقتله فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به اليهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا شجر ولا حجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال ذلك الشيء الذي يختبئ وراءه اليهود يا عبد الله هذا يهودي فتعال فأقتله .
إما صفة المهدي ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : المهدي مني أجلى الجبهة أي منحسر شعره عند مقدم رأسه ، أقنى الأنف طويل مستدق في آخره ، يملا الأرض صدقا وعدلاً كما ملئت جورا وظلماً يملك سبع سنين وإذا رأيت اليوم الأرض ممتلئة بالظلم فلا تحزن كثيرا لأن الظلم سيتبعه عدل ولا بد بل إن امتلاء الأرض ظلماً توطئة لظهور الفرج فقد قال صلى الله عليه وسلم : [لتملأن الأرض جورا وظلما] هو أخبر بخبر سيقع وهناك من الكفار من هو الآن مستعد أن يملئها ظلماً وجوراً ويعمل على ذلك وإذا ملئت جوراً وظلماً اشتد الخطب وعظم وتعسرت الأمور وطال الليل يأتي الفجر فإذا ملئت جوراً وظلماً يبعث الله رجلاً مني اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيملئها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً فلا تمنع السماء شيئاً من قطرها، والأرض شيئاً من نباتها، هكذا إذا سيكون الأمر ولا تنقضي الأيام ويذهب الدهر حتى يملك هذا الرجل وينزل عيسى عليه السلام وتكثر الماشية وتخرج الأرض نباتها ويوزع المال يحثا حثيا ولا يعد عدا وتخرج الأرض كل ما فيها من البركات ويكون المال كدود مجتمع يفيض عن حاجة الناس حتى يزهد فيه أناس من كثرته ويستظلون بقحف الرمانة ويكفي حلب شاة القبيلة من الناس.(/4)
ستكون هناك هزيمة شنيعة جدا لليهود كما أخبر صلى الله عليه وسلم وهزيمة قبلها للنصارى هزيمة عالمية ضخمة جدا في معركة تقوم بين المسلمين وبين هؤلاء عباد الصليب يقول صلى الله عليه وسلم ( لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق)( هذه موضع قريب من بلدة حلب في سوريا وقريب من الحدود التركية السورية) ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة قيل من المدينة القريبة وقيل من قبل المدينة النبوية من خيار أهل الأرض يومئذٍ فإذا تصافوا للقتال معناها القتال سيكون الطريقة القديمة قالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبو منا نقاتلهم (يعني هناك نصارى أسلموا ودخلوا في المسلمين) فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا (فالمسلم أخو المسلم ولا يسلمه ولا يخذله) فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً ويقتل ثلث وهم أفضل الشهداء عند الله ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً بعد معركة مرج دابق ستسقط القسطنطينية غير القسطنطينية التي فتحها محمد الفاتح العثماني هذا الفتح سيكون بدون سلاح كيف ؟ إنه سيفتح بالتهليل والتكبير فقال صلى الله عليه وسلم : [سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر القسطنطينية لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألف من بني إسحاق ] والمحفوظ من بني إسماعيل العرب والمسلمون فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا : لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبها الذي في البحر ثم يقولون الثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ثم يقولون لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ (المنادي) وأصلاً يصرخ الشيطان إن الدجال قد خرج حتى لا يتهنأ المسلمون بالفتح يكدر عليهم وهم مجاهدون فيتركون ما بأيديهم من أموال وينفضون ويتوجهون لقتال الدجال وفي الطريق بعد ذلك يظهر الدجال حقيقة لكن من قبل صراخ الشيطان كان كذب فقال : إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون.
فإذاً دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن النصر للإسلام والمستقبل للمسلمين وأن القوة ستأتي للمسلمين في النهاية وأن الخلافة على منهاج السنة سيكون وأن عيسى سينزل والمهدي سيظهر وأن اليهود سيهزمون والنصارى سيهزمون وأن الإسلام سيطبق الأرض كل هذه حقائق لا يمكن الشك فيها .
ومن المبشرات أن أعداءنا يرشحون هذا الدين للهيمنة والمفكرون منهم يظنونه فعلاً دين سيسيطر وهم يحسبون له ألف حساب وأنهم يفكرون فعلاً بقلق شديد للمستقبل.
فيقول بن قورون اليهودي : إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العرب الإسلامي محمد جديد طبعاً لن يخرج محمد جديد لأن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين لكن سيظهر مجددون وقادة.
وقال نورس برانو: وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام وقدرته في التوسع والإخضاع وفي حيويته المدهشة .
وقال هنوت الفرنسي : لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا وجاز الإسلام حدوده وانتشر فيه فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر.
وقال البير سو لدور : إن المسلم الذي نام نوم عميقاً مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي هذا أنا لم أمت أنا أعود للحياة لا لأكون أداة طيعة تسيرها العواصم الكبرى ربما يعود اليوم الذي تصبح بلاد الفرنج مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب لست متنبئ لكن الإمارات الدالة على هذه كثيرة ولا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقفها .
وكذلك قال البرتغالي بلا زار : إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حينما يغيرون نظام العالم فقال له أحدهم لكن المسلمون مشغولون بخلافاتهم و تنازعا تهم فأجابه أخشى أ ن يخرج منهم من يوجه خلافاتهم إلينا .
ويقول جف المستشرق : إن المسلمين لا ينقصهم إلا ظهور صلاح الدين من جديد .
ويقول مروا بيرقر : يجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب لأن قوة العرب تتصاحب دائما مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في قارة أفريقيا .
يقول آخر: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافا تاما فهو حائر قلق كاره انحطاطه وتخلفه وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أفضل وحرية أوفر لكن بعد ذلك سينفض غبار النوم والكسل ويقوم .
ويقول أشعي : يكون من شيئا من الخوف يجب أ ن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام
لهذا الخوف أسباب :
منها أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً (لفت نظره أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم ينقص عدديا دائما في زيادة شيء غريب إن اتباعه يزدادون باستمرار)
ثم قال : من أسباب الخوف أن هذا الدين من أركانه الجهاد(/5)
إن أكثر الواجهات العسكرية احتمالاً في المستقبل لن تكون بين المشرق والمغرب كما يقول هو راد فمن الألماني : ولكن الشمال والجنوب انتهت قضية شرق غرب صارت شمال جنوب فالإسلام هو العدو المتنامي المنتظر
إذاً أعداؤنا يعترفون بقوة ديننا ويخشونه ويخافونه ويحسبون له حسابا وعندهم دراسات تحليلات كاملة تنبئهم بأن المسلمين سيأتون ولا بد من الأمور الأخرى التي نعتمد عليها إن المستقبل لنا والسفال لعدونا إن هؤلاء الكفرة الذين يسيطرون الآن إذ تأملنا حالهم ودققنا النظر فيه لوجدنا أنه لا توجد مصيبة ولا ذنب ولا معصية ولا كبيرة اقترفتها الأمم السابقة التي أهلكها الله إلا وقع فيها هؤلاء . والله عز وجل أهلك الأمم قبلنا لأنهم أشركوا وكفروا وزنوا وفعلوا الفواحش وطففوا المكيال والميزان إلى آخره أهلكهم فانظر كيف عاقبة المكذبين هذه عادة الله في الأمم فانظر كيف كان عاقبة المجرمين . وانظر كيف كان عاقبة المفسدين . وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها إذا لابد أن يقع عليهم على الجدد ما وقع على أسلافهم فقطع دابر القوم الذين ظلموا . أكفاركم خير من أولئكم . إذا أهلكنا أولئك سنهلك هؤلاء وللكافرين أمثالها . وحجارة قوم لوط قال تعالى ).. وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود:83)
فإذا نتأمل الأقوام الذين أهلكهم الله لماذا أهلكهم ونقارن بهؤلاء الذين وجد اليوم من الكفار لنستدل إهلاك هؤلاء على إهلاك هؤلاء لأنه إذا حصل السبب لابد من النتيجة فالله عز وجل أهلك الكفار من قديم لأنهم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ما فعله الجدد فعلوه اغتروا بأنفسهم
عاد قالوا من أشد منا قوة ، هؤلاء ما قالوا من أشد من قوة ما قالوا: نحن أقوى من أي قوة في الأرض . الله أهلك أقوام من قبل قال الله تعالى )أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:165) )إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ..) (لأعراف:81) واكتفى رجالهم برجالهم ونساؤهم بنسائهم ، الآن الفاحشة وإتيان الذكران ينتشر بكثرة حتى قننوا له القوانين ، فإذا أهلك الله أولئك فسيهلك هؤلاء .
قوم شعيب أنكروا على نبيهم إنه يلزمهم في أشياء في الأموال )..أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ..) (هود:87) نحن أحرار نتصرف في الأموال كما نشاء وهؤلاء يورثون القطط والكلاب ويتركون أبنائهم . ويقولون حرية نفعل في أموالنا ما نشاء والله عز وجل قال عن بعض الأقدمين )أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُون وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء) وهؤلاء يفعلون اليوم الشيء نفسه ويبطشون بجميع أنواع الأسلحة والله عز وجل قد أخبرنا عن قوم شعيب أنهم طففوا المكيال والميزان وقال لهم نبيهم : ).. أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ..) (هود:85) وهؤلاء ينهبون ثروات الشعوب يأخذون الخامات بأبخس الأثمان ويعودون ويصنعونها ويبيعونها عليهم بأغلى الأثمان ويدفنون النفايات في بلد هؤلاء الدول الفقيرة ثم يضعون الهرمونات والكيماويات والأشياء الضارة في الأشياء اللي يسوقونها في العالم تطفيف وبخس وإفساد في الأرض.
والله عز وجل قال للأقوام السابقين ).. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60)
وهؤلاء يصنعون اليورانيوم المخصب ليهلكون الحرث والنسل تفسد الزراعة وتفسد الأجنة والأطفال والناس تموت والله عز وجل قال عن بعض الأقدمين )وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً ..) (لأعراف:86)
وهؤلاء اليوم يفعلون الشيء نفسه وأولئك )أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ..) (العنكبوت:29) أماكن الاجتماعات يأتون فيها بالمنكر هؤلاء قوم لوط وأهلكهم الله وهؤلاء يفعلون اليوم المنكر على العلن والملاء وفي المجتمعات التي يجتمعون فيها ، بل عندهم نوادي للعراة هؤلاء هم أوتوا قوة وفرجوا بها فبقي أن يحصل عليهم التسلسل التي حصل على أسلافهم ).. حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ..) (يونس:24) انظر إلى بعض بلدانهم الزراعة في تقدم الصناعة في تقدم القوة السلاح في تقدم )..حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ..) (يونس:24)(/6)
وقد يهلكهم الله بأن يسلط بعضها على )وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129) يسلط هذا الظالم على هذا الظالم وقد يهلكم بعذاب من عنده أو بأيدينا فتكون نهايتهم .
لنستعرض الآن ما وقع فيه هؤلاء القوم نحن الآن بعض المسلمين عندهم إحباط لأن الغرب قوي وسيطر وهيمن وتهديد ووعيد فنقول : لنتأمل ما عند القوم من بعض المخازي والمعاصي والآثام والفواحش والكفريات حتى نعرف هل هم مستحقين لعذاب الله وهل عذاب الله قريب منهم أم لا، لأن هذا يبشرنا أنهم إذا فسقوا وفتكوا وأجرموا لا بد أن الله سيهلكهم كما قتل منهم خمسين مليون في الحرب العالمية الثانية ودمر بيوتهم وبلدانهم على كفرهم سيهلكهم ولاشك ويبيد ويهلك عز وجل منهم
يقول محمد أسد : في كتاب السامع وكتاب مفترق الطرق يصف موقف المدنية الغربية من الله عز وجل يقول : إن المدنية الغربية لا تجحد الله البتة ولكنها لا ترى فائدة له في مجال فكرها الحالي إذا مثل قوم نوح ما لكم لا ترجون لله وقارا ما يعظمون الله ولا يرجونه ولا يخافون عذابه ولا يتبعون منهجه ولا يسألون عن دينه فعندهم استهزاء كامل لا يقيمون وزناً لشرع الله يعبدون المادة كما يقول أحدهم : إن الإنجليز إنما يعبدون البنك المركزي ستة أيام في الأسبوع وفي اليوم السابع يذهبون للكنيسة وعندهم قضية الكنيسة صليب يجتمعون حوله وشعار يرتبطون به ونزهة إلى الكنيسة أما عقائد منهج حياة ما فيه يعني أن هناك دين عندهم يمشون عليه منهج حياة لا يوجد شعارات والحان وبخور ويغطسون الأولاد في ماء وبركات القسيس الدين عندهم نشوة.
وإذا نظرنا في ما يحدث لديهم من أنواع الفواحش لابد الله يهلك بالفواحش الله يعاقب بالفواحش فإنك ستجد عجبا عجابا من الصغر استغلال الأطفال جنسياً حتى فعل الفواحش معهم تصوير الجنس مع الأطفال وعمل تجارة في ذلك ولا يرون عيباً يقولون الجنس في الثامنة وإلا قد فات الأوان ثم قضية الشذوذ الجنسي كل عشرة أمريكيين في واحد لوطي أو سحاقية .
معابد الكنائس خاصة في أمريكا تقوم بتزويج الرجال بالرجال والنساء بالنساء حتى أحبارهم ورهبانهم ما سلموا أربعين في المئة من رهبانهم يمارسون الشذوذ وثمانين في المئة منهم زناة كما قالت صحيفة الديلي ميل والديلي ميرور قريباً اعترف الفاتيكان بوجود هذه الممارسات في أحبارهم ورهبانهم شيء مخالف الفطرة منعوا الزواج عنهم وهم بعد ذلك سيقعون في الفواحش ولا شك ويفتخر بعض وزرائهم أنهم شاذون ليدخلوا في البرلمان ويدخلون في الوزارة ويستقطبوا قطاع شعبي كبير من هؤلاء اللوطية ، سبعين في المئة من الشعب الأمريكي يرون الشذوذ من طبيعة الحياة وأنه حق فردي لأي شخص، هؤلاء ما تورعوا حتى عن اتهام عيسى عليه السلام بهذه الفاحشة ونص أحد قساوستهم بإصدار كتاب أسماه المسيح شاذا جنسياً (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) . فهذا المسيح عليه السلام ما سلم من اليهود ولا سلم من النصارى فأولئك يقولون عنه ابن زنا اليهود والنصارى خرجوا اليوم بهذا الكلام الفاحش العظيم حتى الحيوانات والكلاب ما سلمت منهم يمارسون الفواحش مع القردة والحمير والكلاب والخنازير وأشياء مقرفة جدا يفعلونها حتى هذه مادونا القذرة تمارس الفاحشة مع كلبها هؤلاء الذين يعملون التجارب مع الأطفال الصغار ويقولون إن ممارسة الجنس في البيت مع الأقارب شيء طبيعي ما فيه قاذورة إلا ارتكبوها ويقولون بعد ذلك في قضية اختلاط الأنساب إن الحائزين على جائزة نوبل عباقرة لماذا لا نأخذ حيوانات منوية من هؤلاء ونلقح بها النساء ويطلع لنا عباقرة فإذا غرضهم من هذا ذكي أبن حرام من أي مكان ما هو مهم معروف أبوه ما هو معروف كما يقولون لا نكتب على الأنبوب اسم صاحب السائل حيوان مأخوذ من حيوان نلقح به حيوانه وانتهينا وأمشي وعندهم بنوك بأرقام ما فيه أسماء ثم مستعد الواحد أن يبيع ابنه لأجل بيت أو تلفزيون أو ثلاجة .
في عام 1959م الذين باعوا أولادهم في بريطانيا ثلاثة آلاف شخص بجهاز كهربائي وعندهم مشكلة كبيرة في الغرب أطفال بلا أسر أربعة من كل عشرة يعيشون رعب إنهم معرضون للقتل والسرقة والاغتصاب وهذا طبيعي لابد .لأن الله عز وجل قال )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112)
جريمة خطيرة ترتكب كل ثانيتين ونصف حادث سرقة كل ثلاث ثوان سطو كل عشر ثوان جريمة عري كل سبعة عشر ثانية سرقة سيارة كل سبعة وعشرين ثانية اعتداء على أشخاص بدون أية سبب كل واحد وخمسين ثانية اغتصاب كل سبع دقائق جريمة قتل أربعة وعشرين دقيقة )..فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112)(/7)
ولذلك يرون أنهم في سجن ويقول مدير شركة هستون في تكسس نحن نعيش وراء قضبان حديدية تحمينا من وصول اللصوص إلينا ومجموعة من الأقفال مثبتة في الأبواب وأجهزة الإنذار، ونرقد عل الفراش وبجانب الواحد مسدس محشو بالرصاص .
كشف استطلاع أن واحد من ثلاثة من الأمريكيين شارف على الانهيار عصبياً واعترف ثلاثة وثلاثون في المئة من المشاركين في الاستطلاع الذي أشرف عليه اختصاصي في علم النفس من جامعة انديانا هو رالف سو نتل وهو أن الصعوبات الناجمة من مشكلات الحياة الزوجية والدراسية وغيرها سبب في هذا.
حضارة عري خمسة وثلاثون في المئة من العوائل بأمريكا تمارس بالكامل داخل بيوتها ولما قام واحد من أولاد الجيران صعد شجرة ورأى العائلة كلهم متعرين قام واتصل على الشرطة فلما جاءت قالت : ما دام داخل البيت لا نستطيع نعمل شيء . هكذا إذا عندهم نوادي عراة شواطئ عراة ، شواطئ عراة للبيض ممنوع السود تمييز عنصري حتى في هذه الأشياء المقرفة ثم إن الله سبحانه وتعالى قال : )يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ..) (لأعراف:26) . وهؤلاء لا يريدون منة الله هذه ويريدونها عرياً في الأفلام الجنسية عرياً في الشوارع يريدونها عرياً على الشواطئ يريدونها عرياً في الأندية أصلاً إبليس مع آدم وحواء لما وسوس لهما بالمعصية ماذا حصل من نتائج المعصية أنكشف العورات وقال الله سبحانه ).. وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ..) (طه:121) بعد أن كانت العورة مستورة تلقائياً لأنه لم يعص الله فلما عصى الله انكشفت وصار الباس نزل قوله تعالى ).. قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً ..) (لأعراف:26) وخلقه الله من أجلهم .
طفولة معذبة في الغرب الله يعذبهم في الحياة الدنيا إذا كان محطة ال بي بي سي تلقت ما يترواح بين 30-50 ألف مكالمة لما فتحوا خطوط هاتفية للذين يريدون اشتكاء الأب أو الأم يعني المضطهدين للشكوى لما رأوا أن الأطفال يعذبون فصاروا يعلنون في التلفزيونات والمحطات رقم هاتف خاص إذا الطفل اضطهد يشتكي ، أول اثنا عشر ساعة من فتح الخطوط من 30-50 ألف مكالمة ، أطفال يشتكون آبائهم وأطفال لم يستطيعوا الشكوى لان قضية الاعتداء على الطفل قد تكون من أقرب الناس إليه اعتداءات تشمل الضرب الجسمي والوحشي وتعذيب بالآلات الحادة وأطفال تطفئ السجائر في أجسامهم الرقيقة وسجنهم في أماكن مظلمة وربط الطفل في زاوية من البيت فترة ستة أشهر أو أكثر إهمال صحي تغذية تترك الأم الطفل الرضيع وتمشي وجدوا ولد معفن في البيت أولاد واحدة ذهبت مع عشيقها وتركت البيت مقفل عليهم حتى شم الجيران رائحة الجثث ثم بعد ذلك تحدث هذه المصيبة .
يفعلون كفعل الوحوش الكاسرة عياناً وشرعوا القوانين لما صارت تحدث هذه المصائب الكثيرة ولكن ما استطاعوا التغلب على المعضلة العظيمة وأصلاً بعض المغتصبين لا يقدرون على الشكوى وبعض القوانين تحمي المغتصب ثم نرى بعد ذلك هؤلاء الذين تحدث فيهم هذه الجرائم ينتحرون ويقتلون أنفسهم )وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ..) (طه:124)
حوادث الانتحار تشهد زيادة مستمرة خصوصاً عند المراهقين من سن عشرة إلى سن عشرين تضاعفت ثلاث مرات في الفترة الأخيرة عما كانت عليه، معنى ذلك أنه في بلد مثل أمريكا بلغ عدد الذين أقدموا على الانتحار بسبب الفشل في عام واحد ربع مليون شخص معدل 120شخص يومياً يعني حتى تفوق جرائم القتل لماذا ؟ هم يقولون عن الأسباب التي تجعل الواحد ينتحر من الاكتئاب الانهيار العصبي الجنون يقول أحد مفكريهم : إن الحياة تتأرجح من اليمين إلى اليسار من الألم إلى الملل هذه الحياة ألم أو الملل فإذا رأى ألم وملل لماذا يعيش(/8)
لا يتحمل لا صلة بالله ولا دين ولا صلاة ولا عبادة ولا ذكر ولا دعاء ولاشيء ينفس كربته لماذا يعيش ولذلك نفهم نحن لماذا ينتحرون هم يقولون تأرجح في حياتنا من اليمين إلى اليسار من الألم إلى الملل )وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124) ولذلك تكثر في مؤلفاتهم حتى أدبهم وكتاب الصحف والكتب مفردات كثيرة في المقالات دائماً موجودة اليأس القلق الأسى الألم الصدمة الملل العبث التمرد والتمزق المأساة الشقى لا تكاد تخلو كتبهم من هذا يقول كاتب فرنسي : يجب أن لا نؤمن بشيء في هذا العالم سوى الخمر لأنه شيء يذهب بعقولهم خلاص هذا هو الذي يفرج الهموم ويقول أحدهم : إن الواقع كابوس لا يطاق اسبور الإنجليزي يقول : نحن موتى مكدرون مضيعون نحن سكيرون مجانين وحمقى نحن تافهون ويقول الأمريكي جورج تايم : إننا في حاجة إلى ضربة قوية تجلعنا نفيق من رقادنا لقد انتصرنا على الطبيعة (بزعمهم) لكن لم ننتصر على أنفسنا . أصلاً حتى الطبيعة ما انتصروا عليها فالله يسلط عليهم إعصاراً يبيد منهم من الأشجار والسيارات والأموال والبيوت والنفوس ما لا يعلمه إلا الله سبحانه .
لوثوا الطبيعة وجعلوا الحياة جنساً وحشيشاً وجريمة هؤلاء الذين تتجاوز معدلات الاكتئاب إلى أعداد عظيمة ثم يريدون الهروب بالمخدرات وبالخمور خمسة وتسعين مليون مدمنين في الولايات المتحدة الأمريكية والزيادة مستمرة .850 ألف مصابين بالإيدز يزيد عددهم 140 ألف سنوياً هذا في أمريكا فقط في دراسة عملت في جامعة واشنطن عام 1999م بين أن أكثر من 15 مليون أمريكي يؤثر عليه الاكتئاب سنوياً . عشرة مليون منهم نساء . فتصور إذا ماذا جلب لهم هذا الواقع من العري والاختلاط هذا ما يريدون أن يصلوا إليه نحن من ورأى تحرير المرأة . عشره مليون اكتئاب نساء ثم يعلن مدير الصحة العامة ويفيد نشر في الولايات المتحدة إن الانتحار يودي بحياة 30 ألف شخص مقابل عشرين بأعمال القتل يعني في السنة يموت 20ألف جرائم ثلاثون ألف انتحار المجموع خمسين والانتحار عندهم هو السبب الثامن للوفاة ونحو 350 ألف يحاولون الانتحار طبعاً اللي نجحت المحاولة غير اللي فشلت المحاولة ما نجحوا لكن هذا قطع شريان وهذا مصاب بعاهة مستمرة شلل هذا إعاقات وإصابات تطال مئآت الألوف منهم تفكك أسري من المعيشة الضنكا انخفض نسبة الأسر التي يعيش فيها الأب والأم معاً في الولايات المتحدة في خمس سنوات الماضية 25% فقط
ثم لاحظ القوانين الجائرة المخالفة لشرع الله تساعد على تفكك الأسر فتعطى المحاكم للمرأة الحق في الطلاق لأتفه الأسباب خلاص تطلب الطلاق تطلق مباشرة وتحصل على 50% من ثروة زوجها وتلجأ للقضاء وتأخذ الأولاد ، بعد الشقاء والعناء يطرد الرجل من بيته ويحرم من أولاده ويدفع ما يدفع والنتيجة بعد ذلك غضب وإحباط وجريمة أو إدمان واحدة منها.
ونتيجة لانعدام الإيمان بالقضاء والقدر والقلق الدائم من الفقر والمصائب.
انتشرت عندهم شركات التأمين انتشار رهيب جداً لأن كل واحد عندهم يقول أن ما أضمن أنا أخشى على كل شيء ولذلك انتشر التأمين على كل شيء تأمين على الحياة على البيت على الحريق الغرق على كل شيء لأنه لا يأمن على أي شيء فالحل شركة التأمين . وغاب الدافع الداخلي والخوف من الله سبحانه وتعالى فجعل القوي يأكل الضعيف .
هؤلاء الذين جعلوا الأهل لا سيطرة لهم على الأولاد بعد سن الثامنة عشر الولد والبنت تستطيع أن تخرج عن أبيها ولا أحد يستطيع أن يضبطها
هؤلاء الناس مقرفون عنصريون في الستينات كان الزواج عندهم محرم بين الأبيض والأسود وعندهم لين شنق وهو إذا صار جريمة يخرج البيض فأول واحد أسود يجدونه يأخذونه ويشنقونه هذا الكلام ليس من قديم بل من قريب ألغي .
والغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا والربا يعمل في الناس والطبقية تحصل وسبعين مليون فقير جائع في واحد من بلدانهم
ولا تسمح قوانينهم بتعدد الزوجات لكن العلاقات الجنسية حدث ولا حرج في كل ما هب ودب ويسمحون بهذه الحرية في الشواذ والزناة وعندهم لا يجيزون لمسلم يرفع الأذان لكن أي واحد يريد أن يمارس الشذوذ القانون يحميه 70 ألف مليون دولار مبيعات الحشيش في أمريكا عام 1997م و7500 مليون دولار ميزانية الأجهزة المخصصة لمكافحة المخدرات والرعب ينتشر
وقضية تحرير المرأة عندهم والاختلاط نتيجتها أن 50% من المغتصبات من النساء أغتصبهن معارف وأقارب يعني ما هو في الشوارع جرائم مفاجأة هذه 4% فقط من حالة اغتصاب لكن الاختلاط وصديق وصديقة هذه هي النتيجة والعري يتبع إثارة الشهوات والغرائز ثم العنف في كل مكان .
ثلاثة ملايين عمل إجرامي المؤسسات المدرسية في أمريكا(/9)
وكذلك الإحصائيات تشير إلى تعذيب الأطفال 270 ألف مسدس يحمله طلاب المتوسطة والثانوية في أمريكا ثم يقولون مدارسكم فيها إرهاب إلا أنتم مدارسكم التي فيها عشرين إرهاب واحد يدخل ويقتل 13 شخص من طلاب ومدرسين ويقول : أنا كنت اخطط لها من سنة يكتب رسالة بعد أن قتل نفسه ويقولون في السي إن إن المدارس الأمريكية لم تعد آمنة عندهم مشكلة أن المدارس نفسها لم تعد آمنة .
وقضية سوء توزيع الثروة 10% من السكان يمتلكون 90% من الثروة وبعد ذلك يسيطرون على 40% من ثروات العالم مصارف ربوية تسيطر على حياة المواطن عندهم وتطوقه بالديون منذ بداية إنتاجه المسكين يشتغل طول عمره ليسدد الفوائد الربوية وتعيش الأسر الأمريكية تحت هاجس الخوف من عدم القدرة على تسديد فواتير البنوك معه البيت والسيارة وقارب ولكن لا يملكه من الذي يملكه ؟ البنك الذي يملكه ولذلك يأخذون منه في النهاية إذا عجز عن تسديد الفواتير يسحبون البيت والسيارة ويطرد في الشارع ولذلك يفتح النار في مطعم عام يقتل نفسه ينتقم من المجتمع هم يربون الناس على النقمة من المجتمع .
ابن تيميه رحمة الله يقول : الرسالة روح العالم ونوره وحياته فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة .
).. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ..) (هود:87) تصرف المليارات على الكلاب والقطط والملايين من الناس تعيش تحت مستوى الفقر ما تنفقه الشعوب (المتحضرة) بزعمهم على الكلاب والقطط وهناك الملايين من الناس في أفريقيا وغيرها يموتون من الجوع هذه الحضارة بزعمهم .
خمس الأطفال وعشر المواطنين عندهم فقر مدقع ويصرفون على الكلاب والقطط المليارات أحد عشر مليون شخص لديهم في أمريكا يعيشون تحت مستوى الفقر والكلاب والقطط في أحسن معيشة .
يموت الناس في الصحراء جوعاً
ولحم الضأن يرمى للكلاب
الخمر ينفق عليه اثنا عشر مليون دولار ، ثم يقولون حضارة وأي حضارة طيب البشرية تستطيع أن تشرب الماء في غرفة اليد إذا انعدم الكأس وتستطيع أن تركب الدابة إذا إنعدمت السيارة لكنها إلى جهنم وبئس المصير وإن زكت في الدنيا إذا إنعدمت الهداية إذا عدم الإسلام .
في عهد عمر بن عبد العزيز ما كان يوجد كهرباء ولا طائرة ولا مكيفات ولا ثلاجات ولا كمبيوترات لكن كان يوجد أمن نفسي راحة وطمأنينة الزكاة يدار بها على المجتمع ما أحد يأخذ زكاة لقد أغنى عمر الناس عدل وطبق المنهج الإسلامي أي شيء استفدنا من التكنولوجيا إذا كانت تستخدم في قتل الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية وهكذا وما فائدة المترفات إذا كانت الحياة ستنقلب نكداً وتنقلب شقاء
هذا الكلام ليس دعوة لترك الأخذ بأسباب القوة لان نحن المسلمين مطالبون بالأخذ بأسباب القوة في كل شيء والاستفادة من التقنية في كل ما يعز الإسلام ويرفع شأن هذا الدين لكن نقول لأولئك الأغبياء إن الذين أنتم فيه ظاهر من الحياة الدنيا )يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)
ويا أخوان هذه الأشياء التي نجدها عندهم من الأمور الملهية والمترفة مدن ملاهي اورلاندوا دزني لان الله عز وجل قال : )زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ..) (البقرة:212) هذا كل أملهم ثم عقول سخيفة مثلاً الميسر والقمار واليانصيب منتشر انتشار النار في الهشيم وقريباً صار عندهم جائزة اليانصيب الكبرى 280 مليون دولار هذا السحب عليه يدفع كل واحد . ملايين يدفعون هؤلاء كلهم مغفلين يدفعون عشان يفوز واحد كم احتمال أن يفوز واحد في هؤلاء كاحتمال حدوث برق في يوم مشمس هذه نسبة أن واحد من هؤلاء يفوز.
ثم إذا دققت لماذا يلهون حياتهم هذا مجتمع تفاهة وسخافة ممكن ينهي حياته لأتفه الأسباب أم بريطانية عمرها 34 سنة أقدمت على الانتحار لأنها عجزت عن وجود دواء يمنع تساقط شعرها ، واحد عمره 55 سنة لان بينه وبين حماته مشكلة فقضى على العائلة ومن بينهم حماته ثم قتل نفسه ، واحد قذف طفله من الدور التاسع عشر ليه ؟ لان المحكمة قضت أن الطفل للأم .
هذه الحالات المتعاظمة والكثيرة والانحلال الذي نسمعه حتى الفضيحة صارت عندهم شيء عادي ثلث طالبات الثانوية في بريطانيا يتزوجن وهن حاملات ثم بعد نجد هذا التساقط الرهيب الذي يحدث عندهم في الأشياء المختلفة حتى الأشياء العلمية هبطت أعداد الطلاب الذين يستطيعون تحقيق درجات متفوقة .(/10)
زادت نسبة الجهل هم الآن يعملون أسئلة للشعب عن بدهيات في الرياضيات في الفلك إلى آخره اكتشفوا أن هناك أمية في مستوى الثقافة عند قطاعات عريضة منهم يعني حتى مستوى التحصيل العلمي انحدر . قضية النظافة الشخصية أناس مقرفون في الحقيقة واحد يلبس ثيابه على البول والبراز ويلبس ويمشي يعني يقضي حاجته ويلبس ثيابه ويمشي حتى طريقة قضاء الحاجة لا يعرفونها طبيب مسلم يقترب من واحد ليفحصه يشم الرائحة الكريهة جداً مقرفين كونك ترى هذه الكلونيات والعطورات وهذا المنظر الخارجي لكن إذا اقتربت من الواحد منهم تراء أشياء سيئة بل ربما تراء البعض ما يغير البنطلون الجنز سنوات ولا يغسله فهؤلاء القوم الذين يزعم أنهم متحضرون
السؤال هل يستحقون قيادة البشرية ؟
طبعاً إنا ما ننكر أن عندهم تطور وتقدم . عندهم إدارة واقتصاد وآلات وتكنولوجيا عندهم أشياء أخرت سقوطهم هم كان ممكن يسقطون من زمان لكن عندهم بعض المقومات الدنيوية التي لا زالت تمسك أنظمتهم من التلاشي وإلا تلاشوا من أول لكن هكذا بحبل من الله وحبل من الناس ولكن في الحقيقة أيها الأخوة انهم أناس غضب الله عليهم
فإذا عرفنا خلال هذا العرض أن البشارة هي أن المستقبل لهذا الدين وأن المسلمين هم الأجدر بقيادة البشرية وأن عندنا نظام إسلامي ومنهج رباني وشريعة سماوية وقرآن ناسخ لكل ما قبله ومهين عليه وأن عندنا من قضاء الحاجة إلى أكبر شيء توحيد الله والإيمان به كله مفصل معلوم في هذا الدين العظيم لكن يا أخوان النصر لا يأتي بدون بذل أسباب ولابد أن نعلي شأن ديننا وأن تعمل بجد في الدعوة إليه ممكن تأتينا فتن ممكن يعم ظلم شديد ممكن يحدث من هؤلاء هيمنة عظيمة لكن في النهاية سيأتي فجر النصر ولا بد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل نصر المسلمين وأن يرزقنا العمل لدينه القويم وأن يجعلنا من جنوده وحزبه المفلحين . وصلى الله على نبينا محمد.
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر : موقع الصوتيات والمرئيات(/11)
لا عدوى ولا طيرة
1624
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أمراض القلوب
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
ملخص الخطبة
1- العدوى المنفية في الحديث. 2- المرض ينتقل بمشيئة الله وليس انتقاله بلازم. 3- عدم مخالطة المريض أخذ بالأسباب. 4- التشاؤم يذهبه المؤمن بالتوكل. 5- التشاؤم من الجاهلية. 6- فضل الدعاء والتقوى في رد سوء القضاء.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون بالله وبرسوله: اتقوا الله حق التقوى، عظموا الله جل وعلا حق التعظيم فإن الحياة الدنيا إنما هي زمنٌ لعمل الصالحات، فمن عمل صالحاً فله العقبى الحسنة برحمة الله وبفضله، ومن لم يتق الله فلن تجد له مخرجاً، ومن لم يتق الله فستكون له عاقبة الخسران.
عباد الله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر))[1] يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من الاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب وتضعف الظن الحسن، بل قد تزيل الظن الحسن بالله جل وعلا، وقد يكون معها نسبة الله جل وعلا إلى النقص، إما بنفي القدرة وإما بجعل شريك آخر معه في العبادة أو في التأثير فيقول عليه الصلاة والسلام للمؤمنين بالله جل وعلا حق الإيمان، للذين يعتقدون أن الله جل وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) يعني بقوله: ((لا عدوى)) يعني لا عدوى مؤثرة بطبعها لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيراً لا مرد له، وتأثيراً لا صارف له.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى)) لا ينفي أصل وجود العدوى وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما، فإن الانتقال بسبب المخالطة حاصل ملاحظ مشهود، لكنه عليه الصلاة والسلام بقوله: ((لا عدوى)) لا ينفي أصل وجودها، وإنما ينفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية في العدوى، من أن الصحيح إذا خالط المريض عدي بالمرض لا محالة، ولا يقع ذلك في اعتقادهم بقضاء الله وبقدره، ويقولون: إن ذلك لابد أن يكون، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى)) يعني أن المرض لا ينتقل من المريض إلى الصحيح عند مخالطة الصحيح للمريض بنفسه، وإنما انتقاله وإصابة الصحيح بالمرض عند المخالطة إنما هو بقضاء الله وبقدره، وقد يكون الانتقال وقد لا يكون، فليس كل مرض معدٍ يجب أن ينتقل من المريض إلى الصحيح، بل إذا أذن الله بذلك انتقل، وإذا لم يأذن لم ينتقل، فهو واقع بقضاء الله وقدره، فالعدوى يعني بالمصاحبة والمخالطة من الصحيح للمريض سبب من الأسباب التي يحصل بها قضاء الله وقدر الله جل وعلا، وليست لازماً حتمياً كما كان يعتقد أهل الجاهلية، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يورد ممرضٌ على مصح، ولا يُورد ممرض على مصح))[2].
يعني أن الإبل المريضة لا تورد على الإبل الصحيحة، لأن الخلطة سبب لانتقال المرض من الإبل المريضة إلى الصحيحة، وهذا فيه إثبات لوجود العدوى، ولكنه إثبات لسبب، والسبب يتقى، لأنه قد يحصل منه المكروه كما أنه إذا باشر المرء أسباب الهلاك حصل له الهلاك بقدر الله وبقضائه، كما أنه إذا أكل حصل له الشبع، وإذا شرب حصل له الري، فذلك كله لأنها أسباب.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد))[3] لأن المخالطة سبب لانتقال المرض من المجذوم إلى الصحيح، لهذا كان عليه الصلاة والسلام، لتثبيت هذا النفي من أن العدوى لا تنتقل بنفسها، وأن المرء يجب عليه ألا يباشر أسباب الهلاك، ويجب عليه أيضاً أن يتوكل على الله حق التوكل، وأن يعلم أن ما قدر الله وقضى لابد كائنٌ لا محالة.
لهذا كان عليه الصلاة والسلام مرةً يأكل مع مجذوم، فأدخل يده معه في الطعام ليبين للناس أن انتقال ذلك المرض ليس بأمر حتمي وإنما هو سبب، والذين يمضي المسببات بالأسباب هو الله جل وعلا، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي يجير ولا يجار عليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام بعد قوله: ((لا عدوى ولا طيرة)) قال: ((ولا طيرة)) لأن الطيرة أمرٌ كان يعتقده أهل الجاهلية بل ربما لم تسلم منه نفسٌ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)[4] قوله: (ما منا إلا) يعني ما منا إلا تخالط الطيرة قلبه، ولهذا نجد أن أكثر الناس ربما وقع في أنفسهم بعض ظن السوء وبعض التشاؤم إما بريح مقبلة وإما بسواه.
وإذا أراد بعضهم السفر ورأى شيئاً يكرهه ظن أنه سيصيبه هلاك لأنه أصابه نوع تطير، والمؤمن يجب عليه أن يتوكل على الله حق التوكل كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولكن الله يذهبُه بالتوكل) فالطيرة باطلة ولا أثر لما يجري في ملكوت الله على قدر الله وقضائه.(/1)
يعني لا تستدل بكل شيء يحصل على المكروه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الطيرة ويحب الفأل لأن الفأل فيه حُسن ظن بالله جل وعلا، والمؤمن مأمور أن يحسن الظن بربه جل وعلا.
وأما الطيرة ففيها سوء ظن بالله، بأن يفعل بك المكروه، وبهذا كانت من اعتقادات أهل الجاهلية ونهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ولا طيرة)).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا هامة)) وذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الذي قتل يظل طائرٌ على قبره يصيح بالأخذ بثأره، وبعضهم يعتقد أن الهامة طائرٌ تدخل فيه روح الميت فتنتقل بعد ذلك إلى حي آخر، فأبطل ذلك عليه الصلاة والسلام، لأن ذلك مخالف لما يمضيه الله جل وعلا في ملكوته، ولأن ذلك باطل من أصله، اعتقادات لا أصل لها ولا نصيب لها من الصحة.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا صفر)) وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا صفر)) يعني لا تشاؤم بصفر وهو الشهر المعروف الذي نستقبل أيامه.
ثم لما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا صفر)) دلنا على إبطال كل ما كانت تعتقده الجاهلية في شهر صفر، فإنهم كانوا يتشاءمون بصفر ويعتقدون أنه شهر فيه حلول المكاره وحلول المصائب، فلا يتزوج من أراد الزواج في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يوفق، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يربح، ومن أراد التحرك والمضيّ في شئونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهر تحصل فيه المكاره والموبقات، ولهذا أبطل عليه الصلاة والسلام هذا الاعتقاد الزائف فشهر صفر شهر من أشهر الله، وزمان من أزمنة الله، لا يحصل الأمر فيه إلا بقضاء الله وقدره، ولم يختص الله جل وعلا هذا الشهر بوقوع مكاره ولا بوقوع مصائب، بل حصلت في هذا الشهر في تاريخ المسلمين فتوحات كبرى وحصل للمؤمنين فيه مكاسب كبيرة يعلمها من يعلمها، ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه الأصول التي مردها إلى الاعتقاد، فإن التشاؤم بالأزمنة والتشاؤم بالأشهر وببعض الأيام أمر يبطله الإسلام، لأننا يجب علينا أن نعتقد الاعتقاد الصحيح المبَّرأ من كل ما كان عليه أهل الجاهلية، وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ضرورة تخلص القلب من ظن السوء بربه ومن الاعتقاد السيئ في الأمكنة أو في الأشهر والأزمنة، كما أن بعض الناس يعتقد أن يوم الأربعاء يوم يحصل فيه ما يحصل من السوء، وربما صرفهم ذلك عن أن يمضوا في شئونهم.
ولهذا ينبغي علينا أيها المؤمنون أن ننبه إلى هذه الأصول وإلى الاعتقاد الصحيح وأن لا يدخل علينا اعتقادات باطلة ولا تشاؤم بأزمنة ولا بأمكنة، لأن هذا مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وللاعتقاد الناصع السليم الذي جاء به دين الإسلام.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والرشاد والهدى والسداد وأن يجعلنا معتقدين في الله الظن الحسن دائماً، وأن نعتقد أن الله جل وعلا مفيضٌ للخيرات على عباده.
ثم لنعلم أن ما عند الله جل وعلا إنما يجلب بطاعته، وأن المكاره المتوقعة أو الحادثة الحاصلة الموجودة إنما تدفع بالدعاء تارة وبطاعات الله تارة ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال جل وعلا: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [الطلاق:4].
فلا يرد القدر والقضاء إلا الدعاء ولا تستدفع أسباب الهلاك وأسباب الفساد في النفس أو في ما حولك إلا بطاعة الله جل وعلا، جعلني الله وإياكم من المرحومين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
---
[1] رواه البخاري عن أبي هريرة ح (5757) ، ونحوه في مسلم ح (2220).
[2] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (2221).
[3] رواه أحمد عن أبي هريرة ح (9429) ، ونحوه في البخاري في باب الجذام.
[4] رواه أبو داود ح (3910) عن ابن مسعود والترمذي ح (1614).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ عن الجماعة شذ في النار.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))[1].(/2)
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
---
[1] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (408).(/3)
( لا نسقي حتى يصدر الرِعاء ) .. لا للاختلاط
إن قضية الاختلاط بين الرجل والمرأة من القضايا الشائكة التي كثر حولها الكلام والحديث، وحدث فيها كثير من خلط الأوراق بين مؤيد للاختلاط المحرم وداعيًا إليه ومرغبًا فيه، بل إن هناك من يدعو إلى المحرمات الظاهرة والفواحش البينة تحت دعوى رفع الظلم عن المرأة المسجونة في سجن الرجال، أو إن شئت قلت في سجن الدين.
وبين أطراف أخرى يجعلون المرأة كالعصفور الحبيس داخل القفص، ويحاول أن يقنعه أن هذا القفص جميل ولا بد أن يموت بداخله مهما كانت الظروف.
والحقيقة أن من يريد أن يتكلم في هذا الموضوع ويتناوله تناولاً صحيحًا وواقعيًا لا بد أن يتصور مجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - تصوراً صحيحًا تكاملاً حتى تنزل النصوص بصورتها الصحيحة، ولا بد لنا أن نفرق بين الاختلاط المحرم، وبين مطلق الاختلاط لحاجة من حاجات المرآة، وكذلك ليس معنى منع الاختلاط أن ننشئ مجتمعًا للرجال وآخر للنساء.
فهذا لم يكن في عصر من عصور الإسلام، بل نريد مجتمعًا يعيش فيه الجميع بلا فتنة ولا ريبة، فالمرأة تتحرك بلا حرج ولكن وفق الضوابط الشرعية لقضاء حاجاتها.
ولكي نفهم هذا الهدي فلا بد لنا أن نتأمل قول الله - عز وجل - في سورة القصص على لسان ابنتي شعيب حيث قالتا: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
ـ وهكذا سجل القرآن هذا المشهد الجليل، عبرة لأولى الألباب، وعظة للنساء وكيف يكون خروجهن؟
فليس الخروج بلا سبب وبلا حاجة، بل هو ضرورة ملحة وحاجة ماسة، خروج لا اختلاط فيه ولا زحام، ولا فتنة فيه ولا إغراء، خروج كله عفة وطهر واحتشام.
ـ إذن ليست العبرة في الخروج ولكن سبب الخروج وكيفية الخروج، ولكن انظر إلى المقابل للواقع البائس للمتحررات من الدين والفضيلة في هذا العصر وقد عجت بهن الشوارع والطرقات، واكتظت بهن المكاتب والحافلات، تاركات البيوت وتربية الأجيال، على غير شيء يجنينه غير ضياع الأولاد، وإهمال حقوق الأسرة وتشتت الشمل هنا وهناك، وغابت أمور كثيرة من العفة والتستر وراحة البال!
ـ امتلأت الشوارع بالفتيات، كأنهن عارضات أزياء، يتقلبن في أردية الغرب، نافرات من رواء الإسلام العفيف، مقتديات بكثير من نساء الفن الهابط، بعيدات عن سيرة الصحابيات في صدر الإسلام.
ـ إن الإسلام لا يحرم على المرأة الخروج لحاجة وسبب مهم، سواء أكان للتعليم أو للعلاج أو زيارة مريض، أو صلة رحم، أو العلم إن كان هذا العمل مباحًا خاليًا من المحرمات الشرعية والاختلاط، لا بد أن يكون هذا العمل أيضًا مفيدًا للمرأة وللأمة على حد سواء، وللمرأة أن تذهب إلى أي مكان مع محارمها.
ـ وفي المقابل انظر ماذا جلب لنا الاختلاط من النظرات المحرمة، وكثيرًا من الكلمات الفارغة، فتعددت قصص الحب والغرام، وغضب كل زوج على زوجه، فقل الحب في البيوت، وكثر على قارعة الطريق، وفي مكاتب العمل، وقاعات الدروس.
ـ لقد دخل كل واحد من هؤلاء في مقارنات خاطئة، وقد زين الشيطان فيها نساء الخارج ورجاله، وقبح زوجات البيوت ورجالها، فكثرت النزاعات، وارتفعت الشكاوى والأصوات، هذا بالإضافة إلى تيسير الفاحشة على الشباب والفتيات، وهذا كله أضاع جهد الأمة وشتتها، فلا المرأة جلست لأداء دورها ورسالتها، ولا الرجل خرج إلى عمله وإلى جهاده، بل خرج كل منهما يفتن الآخر ويضيع عمره وجهده ويشغله عما ينفعه، بل انقلبت محاريب العلم إلى ملاهٍ ليلية ونوادي للعشاق، وصالات لعرض الأزياء، فبعد المجتمع المسلم الجاد المجاهد عن أهدافه وطموحاته وراح يلهث وراء السراب والضياع.
ولو امتثلت النساء إلى قول بنتي شعيب في حيائها وعفتها لصلح المجتمع وجمع شمله وتوجه نحو هدفه.
الاثنين 17 محرم 1425ه- 8 مارس 2004م
http://links.islammemo.cc(/1)
لا يازائر الحرمين
علي بن صالح بن جبر البطيح
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده..
وبعد:- يسعدني أخي القارىء – وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه – أن أقدم لك أكثر من ثلاثين تنبيهاً تم رصدها, تتعلق بممارسات وأخلاقيات المعتمر وزائر مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتي يجمل ويحسن به أن يضعها نصب عينه عند عزمه على شد الرحال للحرمين الشريفين. عزيزي القارىء : عذراًثم عذراً .. جاءت التنبيهات هكذا بصورتها الراهنة دونما ترتيب أو تنسيق أرتضيه،ولكنها متفرقات عصف بها الذهن وسطرها القلم علها تجد لديك ورفقتك في سفرك ورحلتك المباركة قبولاً وتطبيقاٌ لما يحسن وبعداً ونفرةً عما لايليق ولايحسن. وفقنا الله وإياك للإخلاص والصواب في القول والعمل وأسعدنا وإياك في الدارين آمين يارب العالمين..
التنبيهات..
1. استحضار النية الخالصة لله تعالى في كل عمل صالح لاسيما مناسك الحج والعمرة وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي هو موضوع طرحنا هذا.. بعض الناس: يعلن على الملأ أنه سيسافر إلى مكة والمدينة ولا يزال يذكر ذلك حتى يعلم برحلته القاصي والداني ، وربما داخله عجب أو غرور ، علماً بأنه ينبغي له هنا : أن يتكتم على عمله الصالح رجاء الإخلاص والقبول والثواب. وبالمقابل: سافر آخرون إلى البقاع الطاهرة ولم يعلم بهم أحد إلا خاصة أهلهم وذويهم لضرورة رأوها ، ولولا الحاجة لذلك لما علم بهم أحدٌ كائناً من كان ..
2. يحسن بقائد الرحلة – رب الأسرة أو غيره – أن يجمع أفراد الرحلة قبل السفر ويذكرهم بالهدف من الرحلة،وأنه سفر طاعة ، ويقتضي ذلك التحلي بالصبر على مايبدر من سلوكيات وأخلاق بعضهم ، وأن السفر مدرسة كبرى نتعلم منها ونتدرب على مانحب تطبيقه ممايرضاه الله تعالى ونروض النفس عليه.
3. نمر بطريقنا –أثنا السفر – ببعض الأماكن لقضاء حوائجنا كتعبئة البنزين مثلاً، فنغفل هنا عن إفشاء السلام على عامل المحطة والبقالة والبنشر .. والبشاشة في وجهه رجاء الأجر والثواب وتحقيقاً للألفة والمحبة بين المسلمين مهما اختلفت جنسياتهم ولغاتهم .
4. أن نحسن التعامل مع موظفي الاستقبال في الفنادق والشقق المفروشة , حيث تبدر سلوكيات مشينة من بعض الناس بحجة أنه لم يسكن بالمجان مما سوغ له العبث ببعض حاجيات الغرفة أو الشقق التي يسكن فيها ، وقد رؤيت أقفال مخلوعة،وشبابيك مخلخلة، وستائر ممزقة .. وقد قابلت بعض موظفي الاستقبال، وتمت مداولة بيني وبينهم، وأظهروا لي تذمراً شديداً من سلوكيات لبعض الزائرين للحرمين ومماقالوه:"أهذه أخلاق المعتمر؟ أهذه أخلاق زائر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا ناقشناهم عن ضمان ما أتلفوه أطالوا ألسنتهم علينا وقالوا: نحن دفعنا أمولاً ، ولم نسكن بالمجان..".
5. كذلك أيضاً أن نحسن التعامل مع الباعة، بعض الناس يبخس الباعة حقوقهم، ويسفه تسعيراتهم لبضائعهم , وربما أرغد وأزبد على هذا البائع الذي ربما كان ممن يعرض بضاعته على الرصيف وفي الطرقات بحثاً عن ريال أو ريالين..
6. ربما احتاج بعض الناس عربة لمقعد أو معاق، وقد خصصت عربات بالمجان من قبل الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف جزاهم الله خيراً ، ولاشك أن هذا من الخير والبر.. لكن بعض الناس يسيء استخدامها حيث يتركها في أيدي الصبيان ليحملوا صبيان مثلهم، فيجوبون المسعى طولاً وعرضاً لعباً وأذية لعباد الله ، وكم تضرر بذلك من طائف وساعي .. وقد رؤي من عليه إحرامه قد أدميت عقباه في المسعى من قبل أحد الأطفال اتخذ العربة ألعوبة بيده، وبيد إخوانه الصغار على غفلة أو قل تغافل من ولي أمره..
7. موظفو أبواب الحرم على ثغر عظيم وكبير لحماية وحراسة الحرم عما يدنسه أو يخل بأمنه، ومع ذلك يغفل كثير من الناس عن إفشاء السلام عليهم والبشاشة في وجوههم فضلاً عن دعمهم معنوياً وتشجيعهم وتحفيزهم .. 8. يتحايل بعض الناس على موظفي أبواب الحرم، وذلك بإدخال بعض الأطعمة الممنوع دخولها للحرم بأساليب ماكرة وطرق مختلفة في رمضان وغيره, ويحدث من جرّاء التهريب أمور كثيرة لاتحمد عقباها، ومن أبرزها اتساخ الأمكنة الطاهرة وانبعاث بعض الروائح التي تضطر بعض المصلين إلى مغادرة المكان إلى آخر .. وربما يوجد بجوار من أحضر طعاماً مما لذ وطاب وسال له اللعاب فقير ومسكين أو جائع يحتاج إلى مثله، فليتنبه لذلك..
9. الأطفال في مختلف الأعمار، قد أسلمهم آباؤهم وأمهاتهم يفعلون مايشاؤن داخل الحرم وخارجه يعبثون بالمصاحف، ويتصارعون ويتطاردون، وتتعالى أصواتهم بالصراخ والبكاء ويتراشقون بماء زمزم، ويفسدون على الآخرين جو العبادة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة للقرآن أمام مرأى ومسمع من الأب والأم واللذين لايحركان ساكناً بحجة أنهم أطفال لايفهمون شيئاً، حيث عجزا عن إدارتهم ورعايتهم ..(/1)
10. تقبيل الصبيان أمر محمود، وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكن بعض الآباء والأمهات يكثرون منه ويبالغون داخل الحرم، وربما كان ذلك أمام طفل يتيم هو بحاجة إلى تلك القبل، فيصاب اليتيم بـ ! ! فلا تغفلوا عن ذلك..
11. ربما نجد شاباً حديث عهد بعرس في الحرم ممسكاً بيد امرأته وهي شابة فتية، قد اقترب جسمه من جسمها جداً أو كاد يلتصق بها.. يحدث ذلك أمام مرآى شاب أعزب لايستطيع الزواج فيثيره من يحث لايشعر لذا يحسن بالمتزوج حديثاً أن يراعي هذا الأمر بأن يجعلها تمشي خلفه أو أمامه أو بجواره لكن دون اقتراب بينهما يفهم منه أنهما حديثا عهد بعرس.
12. الزائر ماقطع المسافات الطويلة إلا لطلب ماعند الله بخشوع وانكسار وطمأنينة.. لكن الملاحظ أن الزائر ينشغل وينصرف عن ذلك بأدنى صوت أو حدث غير مقصود، أو حتى صوت مرور جهاز التنظيف في الحرم لذا نجده يتوقف عن قراءة القرآن لقوة المثير الذي صرفه عن الانقطاع التام للعبادة فأين الخشوع؟
13. ربما يشاهد الزائر أحداً من معارفه وأصحابه في الحرم فيرغب بلقياه والسلام عليه، وبحكم بعده عنه نجد أن وسيلة الاتصال هنا هي المناداة – وللأسف – بصوت مرتفع يزعج المتعبدين, كرجلٍ نادى صاحباً له بعيداً عنه مشوشاً على الناس بصوت مرتفع قائلاً: يا مصطفى.. يامصطفى.. فأربك وأزعج وآذى.
14. يفترض في الزائر أن يستثمر وقته بالتفرغ للعبادة في الحرم لكننا نجده بالمقابل يبالغ في التسوق والتجول في الأسواق المجاورة للحرم بل ويمضي ساعات طويلة وليال عديدة وربما من الليالي الفاضلة في رمضان. وغيره ممن وفقه الله نجده في الحرم منطرحاً بين يدي الله عزوجل يطلب ما عنده.
15. يقلب بعض الزائرين بصره في الناس والمارة داخل الحرم وفي ساحاته متحدثاً عن هذا، لامزاً ذاك، ساخراً بآخر, ناقداً وشامتاً, فلاهمّ له إلا ذاك وياليته انشغل بخاصة نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
16. يتندر بعض الناس بأخطاء الزائرين كمن يرى من يسعى أربعة عشر شوطاً عاداً الانطلاق من الصفا إلى المروة والعكس شوطاً واحداً، فهلا نصحته ووجهته ووضحت له بدلاً من أن تتكلم عنه وتسخر منه. وكم يقع من الزائرين من أخطاء ومخالفات فهل تكتفي بالتندر والسخرية أم تنبه وتوضح وتوجه وترشد..
17. يوجد أحياناً في ساحات الحرم من يدخن أو يلحظ عليه مخالفات شرعية فهلا نصحته وذكرته بقدسية المكان الذي هو فيه. فكن آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر, ولا تكن سلبياً شعارك دع الخلق للخالق..
18. يقوم بعض الزائرين عند دخول الحرم بوضع أحذيته داخل كيس لايخلو هذا الكيس من تصاوير أو صلبان، أو مخالفات شرعية عموماً. وقد رؤي شيء من ذلك..
19. الجوال وما أدراك ما الجوال.. نغمات مو سيقية شرقية وغربية في حرم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. فضلاً عن المكالمات المطولة وبصوت مرتفع بتفصيل ممل عن الأحوال والأخبار والطقس وما إلى ذلك ولك أن تتصور مكالمة بالجوال في المطاف طيلة الأشواط الثلاثة الأولى وتتوقف برهة عند كل مرور بالحجر الأسود..لأجل التكبير ثم يكمل حديثه..
20. اللباس: منهم من يأتي إلى الحرم بقميص النوم وخصوصاً صلاة الفجر وقد رؤي ذلك كثيراً منهم ومنهم من يلبس أولاده ملابس فيها تصاوير أو كتابات بغير العربية لايدرى ماتعني ! ومنهم من تلبس بنياتها القصير لتزينها وخصوصاً بنت الحادية عشرة والثانية عشرة وكأنها ستذهب إلى مناسبة زواج فتقع فتنة بذلك . فضلاً عن ألبسة بعض النساء الفاتنة والعباءات المخالفة و....... .
21. زادت في الآونة الأخيرة التجمعات على فنجال وعلوم رجال وخصوصاً في سطح الحرم يتجاذبون أطراف الحديث الذي لايخلو أحياناً من غيبة وهمز ولمز وسط ضحكات متعالية... فإذا مر بهم أحد نادوه بقولهم: تفضل..تفضل وكأنهم في بيوتهم واستراحاتهم.
22. كثرة التجوال داخل الحرم للتسلية والنزهة والبحث عن أصحابه ومعارفه ليجلس معهم ويؤانسهم حتى إنه رؤي أحد الأشخاص يكثر الترداد حوال مكان معين فسئل عن ذلك فأفاد بأنه يبحث عمن يوسع صدره كأننا في منتديات ومقاهي واستراحات.
23. الغفلة عن متابعة المؤذن داخل الحرم والانشغال بشيء آخر أياً كان هذا الشيء.
24. المرور بعدد من المعاقين أياًكانت إعاقتهم دونما ذكر الأدب الوارد في ذلك {الحمد لله الذي مما عافاني مما ابتلاه به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً}.
25. غض البصر مطلب شرعي يغفل عنه كثير من الناس في ظل وجود نساء – هداهن الله - يزاحمن الرجال كاشفات لوجوههن وأيديهن وأقدامهن.
26. العبث بعدد من الأشياء التي رتبت بعناية ولها أناس مسؤولون عنها في الحرم بتحريك وزحزحة لحظ نفسه على حساب الآخرين كالذي يحدث عند ماء زمزم والأكواب المعلقة بجانبه والفرش وما إلى ذلك.
27. ربما أقام الزائر فترة طويلة في الحرم لم يختم القرآن الكريم ولو مرة واحدة ولاندري بم يمضي وقته إذن؟(/2)
28. بعض الزائرين يمر بنسائه مع أماكن الرجال وفي أوساطهم علماً بأنه بإمكانه أن يتحاشى ذلك ويسلك طريقاً آخر, وقد رؤي عدد من النساء بصحبة وليهم يتخطون رقاب الرجال..
29. في المسعى بين العلمين الأخضرين يتساهل بعض الاولياء مع نسائه حيث يسعين بشدة، والمرأة ليست كالرجل في ذلك فياليته نهاهن عن ذلك..
30. لا يعتني كثير من الزائرين بنظافة أبدانهم حيث يأتي عدد منهم للحرم برائحة العرق والثوم والبصل والدخان و... ويؤذون الملائكة الكرام والناس أجمعين..
31. يوجد عدد من الفقراء والمساكين وبالأخص من النساء والأطفال تمر بهم في كل وقت بين منزلك والحرم فلاتغفل عن إطعامهم، والتنسيق مع مطعم مثلاً في تجهيز وجبات خفيفة توزعها من باب إطعام الطعام..ولك أجر عظيم.
32. التساهل في أداء صلاة الجنازة. والعجلة في الخروج من الحرم ولم يكن ثمة أمر يلح عليك بالخروج. فَلِمَ تحرم نفسك قيراطاً؟
33. مضايقة الناس وأذيتهم في سبيل تقبيل الحجر الأسود أو لمس الركن اليماني.
34. مضايقة موظفي وعمال الحرم وإعاقتهم عن أداء عملهم على أكمل وجه بأساليب وممارسات لاتخفى على الجميع.
35. يعمد بعض الزائرين – حرصاً على أحذيته أكرمكم الله وأعزكم – بوضعها أمام المصلين ضارباً بالصناديق المخصصة لها عرض الحائط، وربما كانت مبللة جداً حيث كان حديث عهد بوضوء وبهذا يؤذي غيره بها وبرائحتها خصوصاً إذا كانت من نوعٍ خاص من الجلد..
36. نجد أحياناً – في ساحات الحرم – أعزكم الله – عدداً من النخامات التي تقذفها أفواه الذين لايراعون الأدب في ذلك. وما علم أولئك أن إخوانهم يؤدون الصلاة في حال الازدحام بنفس هذه الأماكن، والمشكلة: أن صاحب النخامة بلغ به العجز والكسل مبلغاً منعه من الوصول إلى الحاويات الخاصة لقذفها فيه وهي على بعد أمتار منهم هداهم الله.
37. دخول بعض الرجال في أماكن النساء كالذي يحدث بين المغرب والعشاء ولتناول القهوة مع الوالدة والزوجة بقرب نساء أخريات فيقعن في حرج كبير..
هذا ما تيسر رصده على عجالة من أمرى فما كان فيه من صواب فمن الله والحمد لله على ذلك وما كان فيه من خلل أو زلل فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/3)
لا يخافون لومة لائم
الكاتب : عاطف سفر
التاريخ : 1/9/1426
يقول ابن كثير رحمه الله :أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله و إقامة الحدود و قتال أعدائه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يرده عن ذلك راد و لا يصدهم صاد ، و لا يحيك فيهم لوم لائم و لا عذل عاذل .
نعم إنهم لا يخافون من اللوم مهما تعددت صوره و تنوعت أشكاله من لآخر ـ و قد جاء اللوم نكرة في سيق النفي فأفاد العموم ـ .
كيف لا يشكل اللوم ذلك التهديد و قد وصل في هذا العصر إلى ما يشبه الجريمة المنظمة و أصبحت تتبناه هيئات و منظمات و حكومات و مؤتمرات و قنوات فضائية بما تحمله معها من تمثيليات و إعلانات و ندوات و غيرها .
لقد اندلعت حرب اللوم و التثبيط التي لا مكان فيها لضعيف القلب ضعيف الهمة ، من تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين ، و تفتر قوته عند عذل العاذلين .
لا غرو أننا بشر و قد يعتري بعضنا نوع من الخوف و الضجر ، و قد تتأثر أحاسيسنا المرهفة و مشاعرنا الفياضة بتلك الهجمات الشرسة من اللوم ...... و لكنها لا تلبث تلك الشاعر و الأحاسيس أن تنتعش عندما نتأمل ما جاء في بداية الآية الكريمة : ( يحبهم و يحبونه ) .
نعم إنه الحب ........ كما قال سيد رحمه الله في الظلال : الحب ........ هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش ....... هو الذي يربط القوم بربهم الودود .
و يقول في موضع آخر : فيم الخوف من لوم الناس و هم قد ضمنوا حب رب الناس ؟ و فيم الوقوف عند مألوف الناس و عرف الجيل و متعارف الجاهلية ، و هم يتبعون سنة الله و يعرضون منهج الله في الحياة ؟
إلى أن قال : إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ، ولما يفعل الناس ، و لما يملك الناس ، و لما يصطلح عليه الناس ، و لما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم و اعتبارات و موازين ..... لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن و القياس و التقويم . إنه منهج الله و شريعته و حكمه .(انتهى)
ودع العواذل يطنبوا في عذلهم فأنا صديق اللوم و اللوام
تأتي هذه الكلمات في وقت أصبح يتحكم فيه اللائمون في بعض تصرفات الدعاة و قراراتهم و أحكامهم و رؤاهم و علاقاتهم ، بل وحتى في حياتهم الشخصية الخاصة و في أشكالهم و مظاهرهم .
ليس هذا الكلام على إطلاقه و لا يؤخذ على ظاهره ، فقد يتحكم في كل ذلك موازنات و مصالح دعوية و آراء فقهية علمها من علمها و جهلها من جهلها . و المقصود من الكلام هو الأثر السلبي الذي يتركه اللوم في نفوسنا فتتأثر به حركتنا فتظهر الانهزامية .
والسرائر علمها عند الله .
و في النهاية : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم )
نسأل الله سبحانه أن يؤتينا من فضله .(/1)
لاءات الدعاة
الكاتب : المستشار محمد سعيد مبارك - خاص بالوسط
التاريخ : 14/9/1426
تعبر اللاءات السلبية عن الممنوعات والمحظورات ، ولكل مهنة لاءاتها ، تنطلق من ممارساتها على مدى أزمنة عديدة ، وفي ظروف مختلفة ، والانتباه إليها وأخذها في الاعتبار عند الممارسة العملية لمهنة معينة يسهم في انتظار مردود أفضل من تلك الممارسة ، ويقلل في ذات الوقت من الانتقادات التي يمكن أن توجه إليها وفيما يلي أهمها :
أولا : للداعية فيما يخص العلماء :
لا تنس أنهم ورثة الأنبياء .
لا تنتقص من مكانتهم .
لا تسفه آراءهم .
لا تتتبع زلاتهم .
لا تشارك في السخرية منهم .
لا تتأخر في تقديم العون لهم .
لا تتوانى عن الدفاع عنهم .
ثانياً : للداعية فيما يخص الرؤساء :
لا تبدي رأيك ـ مقدما ـ ً قبل أن تمحصه جيداً .
لا تحابي المسؤولين.
لا تعتذر ـ فوراً ـ عن مهمة أقل من قدراتك .
لا تنتقص من كرامتك الوظيفية عند التعامل مع المستويات العليا من الإدارة .
لا تخفي المعلومات السيئة عن رؤسائك ، وتعرض لهم المعلومات التي يفضلون معرفتها.
لا تفشي سراً مهنيا.
لا تقل لرؤسائك : (هذا ليس عملي ، أو ليس من اختصاصي ) ولكن اقنعهم بوجهة نظرك.
ثالثاً : للمشرف على الدعاة :
لا تنفرد بالمزايا دون الآخرين خاصة من يعملون معك .
لا تتهاون مع المقصرين .
لا تكلف مساعديك بما لا يطيقونه .
لا تتغاضى عن الفروق الفردية بين الدعاة ، وما يتميز بعضهم عن الآخر.
لا تكن فظاً مع مرؤوسيك .
لا تنشد الديموقراطية مع رؤسائك دون مرؤوسيك .
لا تثبّط من همم معاونيك .
لا تناقش مقترحاتك فقط مع فريق العمل ، وتهمل مقترحاتهم .
لا تترك الدعاة الجدد يكتسبون مهارات العمل دون توجيه منك .
لا تفرض قيوداً على العاملين معك في استخدام التقنيات المتاحة .
لا تتعامل مع أعضاء فريق الدعوة كأفراد منفصلين ، ولكن كفريق متكامل .
لا تسمح لمرؤوسيك أن يحيلوا إليك ما قد كلّفتهم بعمله بعلة خبراتك الطويلة .
لا تنقص من تقويم أداء من يعملون معك من الدعاة.
لا تتمسك بمن يلح في طلب الانتقال إلى العمل مع غيرك .
لا توجه النقد دون ذكر الإيجابيات .
لا تتوقع تغيراً ميدانيا سريعاً عقب إبداء ملاحظاتك .
لا تتوقع من الآخرين التعاون المستمر معك .
لا تتهاون مع الدعاة منخفضي الأداء .
لا تفوّض بعض سلطاتك دون ضوابط معينة .
رابعاً : لمن يعمل في مجال الدعوة فيما يخص الأنظمة و الدراسات وأمور أخرى :
1. لا تغفل عن الأنظمة والقوانين .
2. لا تتجاهل الهدف من الدعوة .
3. لا تقاوم الاتجاهات نحو استخدام التقنيات الحديثة خوفاً على مكانتك الوظيفية .
4. لا تستصغر عواقب المشكلات البسيطة.
5. لا تعمل بدون خطة محددة ، ولا تتوقف عن تطويرها.
6. لا تتوانى عن وضع مراحل وخطوات لإنجاز العمل الدعوي .
7. لا تغفل عن دراسة نتائج الدراسات السابقة في نفس الموضوع .
8. لا تنسى حفظ وثائق الدراسات وترتيبها وتبويبها.
9. لا تلتفت إلى النقد السلبي ، وكن إيجابياً باستمرار .
10.لا تهمل الآراء المضادة .
11.لا تكتب تقاريرك وأنت مرهق .
12.لا تهمل متابعة نتائج أعمالك .
13.لا تنسق جانباً من أعمالك ، وتهمل آخر .
خامساً : فيما يخص سلوكيات الداعية :
1. لا تظن أن معلوماتك حديثة دائماً .
2. لا تغلب مصلحة على أخرى ، وازن بين جميعها.
3. لا تكن تصادمياً فتثير زوابع كلما قمت بمنشط دعوي .
4. لا تنكر خطأك ، فالذي لا يعمل ، لا يخطئ .
5. لا تفرط في الثقة بقدراتك .
6. لا تحيد عن الصراحة .
7. لا تستحوذ على الإمكانات الدعوية.
8. لا تلقي باللوم الكامل على الآخرين .
9. لا تتكلم أكثر مما تسمع .
10.لا تستثمر خبراتك إلا في صالح العمل .
11.لا تسعى للإضرار بمصلحة زميل للحصول على ميزة خاصة بك .
12.لا تتهم الغير بضيق الأفق عند مشاركتهم في مواجهة المشكلات .
13.لا تذعن لمطلقي الإشاعات .
14.لا تندفع فتضطر إلى اتباع خطوات غير مدروسة .
15.لا تتسرع في الحكم على ظواهر الأمور.
16.لا تعلّق أخطاءك على شماعة الآخرين .
17.لا تغفل المتغيرات التي تحكم توجهات المدعوين.
18.لا تهمل مظهرك الشخصي .
19.لا تتخلف عن المواعيد والارتباطات الخاصة بإنجاز العمل .
20.لا تغفل مشاركة زملاء العمل في أفراحهم وأحزانهم لكسب ثقتهم .
21.لا تكن صارماً دائماً ، دع لليونة مكانتها لديك .
22.لا تغفل قيمة الأعمال المبتكرة ، والأفكار الجيدة .
23.لا تنتصر لآرائك دائما ، ولا تنتقص من فائدتها.
24.لا تسمح لنفسك بعدم الاستفادة من أخطائك .
25.لا تنه عن شئ وتأتي بمثله ، ولا تأتي بشئ وتنه الآخرين عن فعله .
26.لا تتعجل النتائج ، ولا تستبطئ النجاح.
27.لا تجعل أقوالك أفضل من أعمالك .
28.لا تتوقف مع العثرات التي تواجهك في عملك .
29.لا تعجب بأعمالك وإنجازاتك .
30.لا تلتفت خلفك ـ كثيراً ـ وأنت تسير إلى الأمام .
31.لا تستغني عن مشورة غيرك من أهل الخبرة والعلم والاختصاص .
32.لا تكتب أكثر مما تقرأ.(/1)
33.لا تجعل طموحاتك الوظيفية تعجّل من عثراتك الدعوية.
34.لا تردد مؤهلاتك وخبراتك ، واجعل آثارها تتحدث عنك.
35.لا تلزم نفسك بما ليس في استطاعتك .
36.لا تجعل عاداتك الشخصية تؤثر سلباً على مسيرتك الدعوية
37.لا تدع أي فرصة للتدريب ، أو لتنمية مهاراتك تفوتك .
38.لا لصدور الوعظ ، والإرشاد نياحة من قلب غير متأثر .
39.لا لنسيان الدعاء بقبول العمل الدعوي ، أو إغفال أهميته .
40.لا للاستعلاء على المدعوين .
41.لا لإغفال آراء العلماء الثقات .
42.لا لعدم المشاورة في شؤون الدعوة .
43.لا لقلة البضاعة في التاريخ ، والضعف في الإلمام بالتشريع .
44.لا لمعرفة النزر اليسير عن خصائص الفكر الإسلامي .
45.لا لإهمال معرفة ما يدور في العالم المعاصر ، ولا ما يؤثر فيه من أفكار .
46.لا لعدم الإلمام الجيد بأسباب رجحان كفة الإسلام على الأديان والمعتقدات الأخرى .
47.لا لإهمال إبراز جوانب حث الشريعة السمحة للأخذ بأسباب القوة والمنعة ، لتحقيق صالح الأمة الإسلامية ، وأن من مقتضيات ذلك أن يبدع كل مسلم في مجال
عمله ، ويحرص على تفوقه على غيره ، وتقديم أقصى جهده ، وفكره لصالح أمته .
48.لا لإهمال الحوافز المعنوية ، والمادية في العمل الدعوي.
سنكمل بمشيئة الله تعالى في إضافة لاحقة ...
الكاتب : المستشار محمد سعيد مبارك
المملكة العربية السعودية - المدينة المنورة
ص ب 2140
العنوان الإلكتروني :
Aboahmed_mobark@yahoo.com ...
المصدر : الوسط نت ...(/2)
لباس الرجال
إعداد- محمد فتحي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد فنخص هذا المقال بالحديث عن شروط لباس الرجال فنقول مستعينين بالله تعالى:
باب لباس الرجال أوسع من باب لباس النساء؛ لأن الأصل في المرأة أن تقر في بيتها وأن لا تخرج إلا لحاجة، بخلاف الرجل؛ فالأصل سعيه في الأرض واكتساب المعاش الحلال، لذا كان باب اللباس في حقه أوسع.
لكن لا يعني ذلك أن يلبس الرجل ما يشاء وما يهوى من غير أن ينضبط بضابط الشرع المحكم.
وقد ظهرت في هذا الزمان أشكالٌ من اللباس- أعني لباس الرجال- تزري بلابسها؛ وملابس قصيرة وما يسمى بالشورتات (السراويل القصيرة) لم يستح كثير من الرجال والشباب اليوم أن يظهروا بها في مجامع الناس ومنتدياتهم؛ إذا لبست الثوب إلى منتصف الساق قالوا تشدد وتزمت ورجعية ومنظر قبيح، وإذا لبس هو مثل هذا اللباس إلى منتصف الساق قالوا هذا موضة، فسبحان الله!!! سنة المختار تزمت وتخلف ورجعية ومنظر قبيح، والتشبه بالكفار والفجار وأرباب العهر والفسوق حضارة ومدنية ورقي، فإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وترجع أهمية الحديث عن لباس الرجال في زمن الغربة وبيان المشروع منه والممنوع إلى عوامل كثيرة منها:
- اعتقاد الكثير أنه لا ممنوع في اللباس وبما أن اللباس من العادات فللإنسان أن يرتدي ما يشاء وأن يلبس ما يريد.
- اهتمام العلماء والدعاة وطلبة العلم وانشغالهم بالحديث عن لباس المرأة المسلمة- وحق لهم- ومواجهة الحملات المسعورة للقضاء على عفة المرأة وكرامتها.
- قلة المصنفات التي تعالج أحكام لباس الرجال وبيان المشروع منه والممنوع.
لما سبق وغيره تأتي أهمية الحديث عن هذا الموضوع.
وسوف ينتظم البحث في لباس الرجال حول سبعة عناصر وهي:
1- شروط يجب توافرها في لباس الرجال.
2- ما يستحب في لباس الرجال.
3- محاذير في لباس الرجال.
4- لباس الرجال في الصلاة.
5- لباس الرجال في الإحرام.
6- لباس الرجال في الكفن.
7- فتاوى تتعلق بلباس الرجال.
أولاً: شروط يجب توافرها في لباس الرجال:
أ- أن يكون مباحاً طاهراً:
يشترط في اللباس عموماً سواءً كان لباس رجل أو امرأة أن يكون مباحاً طاهراً فلا يجوز لبس المسروق والمغصوب ونحوهما، كما أنه لا يجوز للرجال لبس الحرير أو ما تلبسه النساء، وكذلك لا يجوز لبس النجس، ولا ما فيه تصاوير لذوات الأرواح، وكل هذا واضح بيِّن مقرر في كتب الفقهاء، وتعظم المسألة إذا لبس ذلك وصلى فيه.
ب أن يكون ساتراً للعورة:
وعورة الرجل كما هو معلوم أنها بين السرة والركبة على خلاف مشهور في الفخذ
قال النووي: وعورة الرجل حرا كان أو عبدا ما بين السرة والركبة على الصحيح.
وقال ابن قدامة المقدسي: وعورة الرجل ما بين سرته وركبته لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين السرة وبين الركبتين عورة" رواه أبو بكر بإسناده، وعن جرهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "غط فخذك فإن الفخذ من العورة". رواه أحمد في المسند.
وهناك أمور تنافي كون اللباس ساتراً للعورة كأن يكون ضيقاً يصف أو رقيقاً يشف
قال الكاساني: فإن كان الثوب رقيقًا يصف ما تحته لا يجوز لأن عورته مكشوفة من حيث المعنى.
وقال إبراهيم بن علي الشيرازي: ويجب ستر العورة بما لا يصف البشرة من ثوب صفيق أو جلد، فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز لأن الستر لا يحصل بذلك.
وقال محمد بن أحمد الغرناطي: وأما الساتر فيجب أن يكون صفيقًا كثيفًا فإن ظهر ما تحته فهو كالعدم.
يظهر مما سبق أن ستر العورة لا يحصل مع كون اللباس ضيقاً يبرز العورة ويفصلها ويبين حجمها كما هو الحال في كثير من هذه السراويلات التي يلبسها الناس اليوم والتي وجودها كالعدم.
ج- أن لا يشبه لباس النساء:
استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها بلعن المتشبهات من النساء، بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، وفى رواية أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل.
قال أبو الطيب:قال الطبري: المعنى لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس.
وقال ابن حجر:قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به ما ملخصه: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي والحركات ونحوها لا التشبه في أمور الخير.
وقال أيضا: اللعن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين: أحدهما: يراد به الزجر عن الشيء الذي وقع اللعن بسببه وهو مخوف فإن اللعن من علامات الكبائر.(/1)
قال المناوي: قال النووي: حرمة تشبه الرجال بالنساء وعكسه لأنه إذا حرم في اللباس ففي الحركات والسكنات والتصنع بالأعضاء والأصوات أولى بالذم والقبح فيحرم على الرجال التشبه بالنساء وعكسه في لباس اختص به المشبه به بل يفسق فاعله للوعيد عليه باللعن.
قال الشوكاني: قوله لعن الله المتشبهين من الرجال الخ فيه دليل على أنه يحرم على الرجال التشبه بالنساء وعلى النساء التشبه بالرجال في الكلام واللباس والمشي وغير ذلك.
قال شيخ الإسلام: الضابط فى نهيه عن تشبه الرجال بالنساء وعن تشبه النساء بالرجال أن الأصل فى ذلك ليس هو راجعا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك أن يكون هذا سائغا وهذا خلاف النص والإجماع فإن الله تعالى قال للنساء: وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، الآية، وقال: قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين الآية، وقال: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولى لأن ذلك كان عادة لأولئك... إلى أن قال رحمه الله: فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء وهو ما يناسب ما يؤمر به الرجال وما تؤمر به النساء.
وقال: والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه حتى يفضى الأمر به إلى التخنث المحض والتمكين من نفسه كأنه امرأة. اه.
وإنك لا تستطيع أن تفرق بين لباس الرجل والمرأة في كثير من بلاد المسلمين وهذا مما يؤسف له، فالله المستعان.
د- أن لا يشبه لباس الكافرين:
مفارقة المسلم للمشرك والكافر ظاهراً وباطناً أمر مقصود شرعًا، فكما حصل التفريق في الباطن بالاعتقادات وجب التفريق في الظاهر باللباس، لذا جاءت الأدلة الكثيرة المتظاهرة تحرم التشبه وتوجب التميز فإن المشابهة في الظاهر توجب المشابهة في الباطن وهذا من جملة مقاصد الشريعة الكاملة المطهرة؛ إذ المقصود الأعظم هو ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطنا وظاهراً.
وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهرا وترك التشبه بهم في اللباس وغيره، أما ترك المشابهة في الباطن فهذا أمر لا يختلف فيه اثنان.
قال العلامة ابن القيم: فليس المقصود من التمييز في اللباس وغيره مجرد تمييز الكافر عن المسلم بل هو من جملة المقاصد، والمقصود الأعظم ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطنًا، والنبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته ترك التشبه بهم بكل طريق وقال خالف هدينا هدي المشركين. اه.
فالمقصود الأعظم من التميز إذن هو قطع الأسباب عن مشابهة المغضوب عليهم والضالين ظاهراً وباطناً، وليس المقصود عدم لبس ما يصنعون أو ينسجون.
قال ابن عثيميين رحمه الله: وإذا قيل تشبه بالكفار فلا يعني ذلك أن لا نستعمل شيئاً من صنائعهم فإن ذلك لا يقوله أحد، وقد كان الناس في عهد النبي صلي الله عليه وسلم وبعده يلبسون ما يصنعه الكفار من اللباس، ويستعملون ما يصنعونه من الأواني،
والتشبه بالكفار هو التشبه بلباسهم، وحلاهم، وعاداتهم الخاصة، وليس معناه أن لا نركب ما يركبون، أو لا نلبس ما يلبسون، لكن إذا كانوا يركبون على صفة معينة خاصة بهم فلا نركب على هذه الصفة، وإذا كانوا يخيطون الثياب على صفة معينة خاصة بهم فلا نصنع مثل هذا الضيع، وإن كنا نركب مثل السيارة التي يركبونها، وتخيط من نوع النسيج الذي يخيطون منه.
ثانياً: ما يستحب في لباس الرجال:
1 لبس القميص:
يستحب للرجال لبس القميص لأنه أستر للعورة وأكمل في الزينة، وقد كان القميص أحب اللباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص. وفي رواية لأبي داود لم يكن ثوب أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القميص.
قال ابن القيم: ولبس القميص صلى الله عليه وسلم وكان أحب الثياب إليه وكان كمه إلى الرسغ.
2 اللباس الأبيض:
اللون الأبيض من خير الألوان وأحبها إلى النفس وأجلاها للبصر وهو دليل الصفاء والنقاء.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ...".(/2)
قال أبو الطيب: والحديث يدل على استحباب لبس البيض من الثياب وتكفين الموتى بها قال في النيل والأمر في الحديث ليس للوجوب؛ أما في اللباس فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لبس غيره (أي غير الأبيض) وإلباس جماعة من الصحابة وعثمان وتقريره لجماعة منهم لبس غير البياض وأما في الكفن فلما ثبت عند أبي داود قال الحافظ بإسناد حسن من حديث جابر مرفوعا: "إذا توفي أحدكم فوجد شيئا فليكفن في ثوب حبرة". انتهى.
قال ابن القيم: وكان أحب الألوان إليه البياض وقال هي من خير ثيابكم فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم.
والأبيض هو لباس الملائكة المقاتلين مع المسلمين يوم أحد.
عن سعد قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام.
3 لبس أحسن الثياب في الجمعة والعيدين:
السنة أن يغتسل المرء وهو خارج إلى الجمعة والعيدين، ويلبس أحسن ما عنده من الثياب، ويتطيب ويتزين، لأنه من باب تعظيم شعائر الله، والأفضل أن يخصص ملابس حسنة جميلة نظيفة للجمعة والعيدين.
قال ابن القيم: يستحب أن يلبس فيه أي يوم الجمعة أحسن الثياب التي يقدر عليها فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ثم يركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينهما".
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته".
وفي سنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فقال: "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته". والنمار هي جلود النمور.
قال شيخ الإسلام: ولهذا كان تميم الداري قد اشترى حلة بألف درهم فكان يصلي فيها بالليل، وقال نافع: رآني ابن عمر وأنا أصلي في ثوب واحد فقال: ألم أكسك؟ قلت: بلى، قال أرأيتك لو بعثتك في حاجة كنت تذهب هكذا؟ قلت: لا، قال: الله أحق أن تتزين له. رواه ابن بطة، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم: "فالله أحق أن يستحيا منه". ويستحب له أيضا ستر رأسه بالعمامة ونحوها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي كذلك، وهو من تمام الزينة والله تعالى أحق من تزين له.
4 التواضع في اللباس:
التواضع في كل شيء مطلوب ومرغوب، في الملبوس، والمأكول، والمركوب، والمسكون، فمن تواضع لله رفعه، ومن تكبر أذله الله، والتواضع سمة المتقين، والإسراف سمة الجهلة والمتكبرين، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن لباس الشهرة.
قال ابن القيم: وكذلك لبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع، فيذم إذا كان شهرة وخيلاء ويمدح إذا كان تواضعًا واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرًا وفخرًا وخيلاء ويمدح إذا كان تجملاً وإظهارًا لنعمة الله.
ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثال حبة خردل من إيمان". فقال رجل: يا رسول الله، إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة أفمن الكبر ذاك؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
والحمد لله رب العالمين.(/3)
لبيك اللهم لبيك
الحمد لله الحليم الكريم غافر الذنب الجسيم وواهب الأجر العظيم الحمد لله إحسانه قديم ، وفضله عميم .
أشهد أن لا إله هو الرب الرحيم ، وهو بكل شيء عليم ، وأصلى وأسلم على المبعوث بالهدى والذكر الحكيم نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين .
أحبتي :
يقول الله عز وجل " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام "
إنه الحج دعنا إليه الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، وجدد هذه الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم .
أورد الإمامان ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم آثارا ً عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعدد ٍمن السلف في تفسير آية الحج المتقدمة أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال : يارب ، وكيف أبلغ وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال ناد وعلينا البلاغ ، فقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على جبل أبي قبيس ، وقال يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا ً فحجوه .
فيا لله من جموع حجت بيت الله منذ ذلك النداء إلي يومنا هذا ، إن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد نادى أما كيف وصل النداء فربك هو خالق الكون ، ومدبر أمره إنه أمر الله ناد وعلينا البلاغ .
ثم انظر ـ رحمك الله ـ إلى مشهد ٍ آخر رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ ، وهو يصف حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال جابر : ( ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء فنظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك 000 ) .
الله أكبر إنها الجموع الغفيرة تحج مع المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقد حج معه مائة ألف إنها مكة أم القرى كم وكم لها من محب ؟ .
ثم أعد البصر إلى زماننا كم يحج بيت الله في كل عام ؟ .
لكن اسمح لي إن هذا العدد الذي يقدر بالملايين هم جزء يسير إلى ملايين أخرى عبر بقاع العالم تمني نفسها بحج بيت الله الحرام .
ألم تعلموا ـ أدام الله عليكم نعمه وفضله ـ أن هناك من المسلمين عبر بقاع الأرض أناسا ً من الناس يجمعون الدرهم إلى الدرهم والدينار إلى الدينار ، وكل مناهم أن تكتحل أعينهم برؤية كعبة المسجد الحرام حتى إذا جاء الموسم وأذن المؤذن بالحج ، ولمَّا يكتمل الجمع بعد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ً ألا يجدوا ما يبلغهم بيت الله وكعبة الله مع أنهم معذورون بل مأجورون من الله على نياتهم .
كيف وصل النداء عبر الأعصار والأمصار ؟ !
إنه أمر الله أن ناد وعلينا البلاغ .
، وإنهم وفد الله يتتابع فرادا وجماعات قد يممت وجوهها شطر بيت الله وعلقت قلوبها بالله .
يقول الإمام الصنعاني ـ رحمه الله ـ :
ومازال وفد الله يقصد مكة * إلى أن يرى البيت العتيق وركناه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه * ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فمولى الموالي للزيارة قد دعى * أنقعد عنها ؟ ! والمزور هو الله
نحج لبيت حجه الرسل قبلنا * لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه
فيامن أسى يامن عصى لو رأيتنا * وأزارنا ترمى ويرحمنا الله
نعم إنهم وفد الله وهم الموعودون بكرم الله روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم .
، وعند الطبراني في الكبير والترمذي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة .
فبشراكم يا حجيج بيت الله وهنيئا ً لكم .
بشراكم إجابة الدعوة ، وهنيئا ً لكم سقوط الذنوب أما الفقر فقد أوغل في الهروب .
إنها الذنوب تغسل فلا يبقى للجسد بعدها من درن .
في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
أما إن فضل الله الواسع لم يقف عند حد الدنيا بل تعداها إلى الآخرة تأملوا ـ يا رعاكم الله ـ في هذا الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قال : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة .
فيا لكرم الله جنة عرضها السماوات والأرض تنال بحجة مبرورة اللهم لا تحرمنا الجنة .
أحبتي :
عجبا ً لقاعدٍ بعد الذي ذكرنا لم يحركه فضل الله وكرم الله لحج بيت الله .
لكن الأمر أعجل من ذلك وملك الموت لا يطرق بابا ً ولا يهاب حجابا ً فإلى متى التهاون والتأخر عن فرائض الله .
إن كلا ً سيرحل عن هذه الدار لكن شتان بين من يخرج منها على طاعة مولاه وآخر قد اتبع هواه .
بخ ٍ بخ ٍ يوم يموت الإنسان على طاعة لله عز وجل .(/1)
جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا ً وقصته دابته وهو محرم فمات فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اغسلوه بماء وسدر ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا .
نعم لقد مات هذا الرجل وهو محرم ويبعث يوم القيامة ملبيا ً ، فهل تراه لو قعد كما قعدت أيحصل له نفس الفضل ؟
فهلا أعملت عقلك ؟ وأرضيت ربك ؟ ولبيت : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك لا شريك لك .
اللهم إنا نسألك حجا ً مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا .
اللهم سلم الحجاج والمعتمرين في برك وبحرك وجوك اللهم أعدهم إلى أهليهم سالمين غانمين .
لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/2)
محاضرة
لبّيْك
لفضيلة الشيخ
مسجدالأمير سلمان
www.almosleh.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله.
وأشهد أن لا اله إلا الله، اله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتّبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله أيها الإخوة في هذا اللقاء ، وأبدؤه بذكر حقيقة يدركها كل واحد منا، إلا أن هذه الحقيقة غائبة عن كثير من الناس، غائبة؛ لا أنهم ينكرونها ولا أنهم لا يصدقون بها؛ بل هم في غفلة عنها:
أعمارنا أيها الإخوة أعمارنا أيام قلائل، سرعان ما تنقضي وتزول، عمري وعمرك إنما هو أيام، إنما هو ليالٍ، ثم ينقضي ذلك؛ مهما طال العمر ومهما امتدت الأيام والليالي، إلا أن ذلك لا يخرج عن قول الله تعالى: ?يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً?(1). تعتقدون وتصدقون وتجزمون في ذلك اليوم أن لُبْثَكُم في الحياة الدنيا قليل، ليس بأمد طويل ولا بزمن كبير؛ إنما هو قليل، وقد قال جل وعلا: ?قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?(2).
لعمرك ما الأيام إلا مفازة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
الأيام مفازة يقطعها الناس، إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أو إلى دار يعذب فيها أهلها عذاباً مادامت السماوات والأرض؛ عذاباً دائماً لا ينقطع.
كتب الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله في وصيته كلمات بمثابة المصابيح التي تبيّن لنا حقيقة الدنيا، وما ينبغي أن نكون عليه في نظرنا إليها وتعاملنا معها.
يقول رحمه الله في وصيته: فاغتنم -رحمك الله- حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة.
واعلم أن مدة حياتك محدودة، وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقص به جزء منك، والعمر كله قصير.
العمر مهما امتد ومهما طال ومهما كثرت سنواته وامتدت أعوامه إلا أنه قصير.
والعمر كله قصير ... والباقي منه هو اليسير
يقول رحمه الله في بيان قيمة أعمارنا: وكل جزء منه–أي من عمري وعمرك- جوهرة نفيسة لا عِدْل له ولا خلف منه، فإن بهذه الحياة اليسيرة خلوداً أبديّاً في النعيم أو العذاب الأليم، وإذا عدلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نَفَس يعدل أكثر من ألف ألف ألف عام في نعيم لا خطر له- أي لا خوف عليه- أن يزول أو يرتفع، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تُذهبها بغير عوض، واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك، إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها إلى الله، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا لساءك ذهابها، فكيف تفرط في ساعاتك وأوقاتك، وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟
هذه الكلمات أيها الإخوة من هذه العالم الموفق الإمام ابن قدامة رحمه الله بمثابة المصابيح والإضاءات والتنبيهات التي ينبغي أن نقف عندها؛ لندرك حقيقة أعمارنا، حقيقة حياتنا، حقيقة وجودنا في هذه الدنيا، إنها فرصة، إنها منّة، إنها منحة، أيامك معدودة فلا تفرّط فيها، ولا تضيّعها فيما لا يعود عليك بالخير، كيف لا تحزن على ساعات تمضي بلا خير ولا بر ولا طاعة ولا إحسان؟
نسير إلى الآجال في كل ساعة ... وأيامنا تُطوى وهُنّ الرواحل
ولم نر مثل الموت حقّاً كأنه ... إذا ما تخطته الأمانيُّ باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس نازل
ترحَّل عن الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل
أيامي وأيامك أيام قلائل، ليست أياماً ممتدة خالدة، إنما هي أيام معدودة سرعان ما تنقضي وتزول، ويبقى ما كان فيها من عمل، إما من خير يُسرّ به العبد، وإما من الإساءة التي يؤاخذ بها ويسوؤه أن يلقاها عند الله تعالى.
أيها الإخوة إن عمر المؤمن لا قيمة له في الحقيقة؛ لأنه زرْع الآخرة؛ لأنه بذْر ما يجنيه يوم القيامة من نعيم ممتد لا ارتحال عنه ولا ارتفاع ولا زوال.
قال سعيد بن جبير رحمه الله: كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة. ولاشك أن هذا إنما يكون لذلك الذي نظر إلى الدنيا نظرة بصر وفكر واعتبار، أما ذاك الذي يدفع الليالي والأيام، ذاك الذي لا يقيم لزمانه وزناً ولا لعمره قيمة، فإنه لا قيمة لعمره في الحقيقة.
أما المؤمن فإن أيامه ولياليه لا قيمة لها وهي غنيمة عظيمة؛ لأنه يعمرها بما يرضى الله به عنه، يعمرها بالصالحات والطاعات، يقطعها بما فيه فوزه ورفعة درجاته وحط خطاياه ووضع أوزاره.
__________
(1) سورة : الإسراء (52).
(2) سورة : المؤمنون (114).(/1)
قال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله وهو من كبار التابعين: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا، إلا يقول: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي. ولا ليلة إلا تنادي: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي.
وهكذا هي الأيام والليالي، شهود علينا بما فيها من الصالحات، شهود علينا بما حوته من الأعمال، فواجب وحق على كل عاقل بصير أن يغتنم أيام عمره، وأن يبادر فيها إلى كل بر وطاعة، وأن لا يغره صغر سنه، أو تقدم عمره فإن من الناس من ينظر إلى الصغر على أن الأجل بينه وبينه مفاوز فيُقعده ذلك عن كثير من الخير، ومن الناس من يشيب على الإساءة ثم يأتيه الشيطان فيقول له: قد فرّطت في زمن الصغر ولا سيبل لك إلى العودة والرجعة.
وكل هذا من وساوس الشيطان ((فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)) كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل))(1)، وهكذا الأمر حتى تطلع الشمس من مغربها.
فينبغي لنا أيها الإخوة أن نبادر أعمارنا، وأن نسابق إلى ما فيه رضوان الله جل وعلا، وأن نغتنم أعمارنا من الليالي والأيام، فإنها فرصة عظيمة.
ولقد فهم هذا وفطن له سلفنا الصالح رحمهم الله، فكانوا يسابقون إلى كل خير، إذا رأيت سيرهم وسمعت كلامهم وجدت أمراً عجباً، رأيت قوماً اجتهدوا في الاستكثار من الصالحات، شمروا في الاستزادة من التقوى، رأيت قوماً بلغ بهم الجد والاشتغال في الصالحات حتى إنه لو قيل لأحدهم: إن القيامة تقوم غداً. ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، وذلك لأنه لم يبق من وقته ما يضيع أوما يذهب سدىً؛ بل المستثمر لأيام عمره وأيام زمانه، يستثمر لحظاته قبل ساعاته، وهذا هو شأن أولئك الذين فطنوا لقول الله تعالى في وصف أوليائه وخُلَّص عباده: ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?(2). هكذا ينبغي أن يكون المؤمن يسارع، يسابق، يجري في طاعة الله عزّ وجلّ، ويسير فيها سيراً حاثّاً لعله يدرك فضل الله جل وعلا، يدرك رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد وصف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوماً من عباده فقال: ?أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ?(3) سابقون أن تفوتهم، سابقون أن يذهب عليهم فضل أو يسبقهم خير فلا يدركوه، إنهم يسارعون في الخيرات كما قال تعالى: ?وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?.(4)
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً. هذا من عبد الله بن المبارك رحمه الله بيان لما كان عليه سلفنا الصالح من الانجذاب إلى الطاعة والإقبال على الخير دون عوائق ودون موانع، يقول رحمه الله: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره. أي لا تستجيب لطاعة الله عزّ وجلّ، ولا تقبل على الخير إلا بنوع من الإكراه، قال رحمه الله: فينبغي لنا أن نكرهها، ينبغي لنا أن نحملها على طاعة الله عزّ وجلّ. فقد حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات كما فيما رواه الإمام مسلم من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فينبغي لنا أيها الإخوة أن نروّض أنفسنا وأن نربيها على طاعة الله عزّ وجلّ، وأن نحملها على الجادة، وأن ننظر إلى سير القوم أولئك الذين أثنى الله عليهم، وبيّن عظيم سبقهم، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا بأعمال الطاعة في جميع أزماننا وفي كل أوقاتنا وفي كل أحوالنا، فقال جل وعلا: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)?(5). فإنّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر بأنواع من العبادات من الركوع والسجود، وأمر بالعبادة على وجه العموم، ثم أمر بفعل الخير، وكل ذلك أمر منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعباده أن يشتغلوا بالصالحات دهرهم؛ لأن الإنسان لا يعلم نجاته في أي محل ولا في أي وقت تحصل، فينبغي له أن يسابق وأن يسارع؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا باغتنام الأعمار ومسابقة الآجال قال تعالى: ?سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)?(6).
__________
(1) مسلم: كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، حديث رقم : 2759.
(2) سورة : الأنبياء (90).
(3) سورة : المؤمنون (61).
(4) سورة : الأنبياء (90).
(5) سورة :الحج (77).
(6) سورة : الحديد (21).(/2)
أيها الإخوة الكرام: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرض في سيرنا إليه ولا في سفرنا إليه أن نمشي مشياً كالاًّ، مشياً وئيداً؛ بل طلب منا جل وعلا أن نسابق إليه مسابقة وأن نسارع إليه مسارعة، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ?سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ?، وقال سبحانه وبحمده: ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)?(1). اللهم اجعلنا من عبادك المتقين.
أيها الإخوة الكرام: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر في مواضع كثيرة من كتابه أن الناس يختلفون في سيرهم، يختلفون في أعمالهم، يختلفون في إقبالهم على ما ينفعهم في هذه الدنيا، فقال جل وعلا من جملة ما ذكر قال: ?وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا? أي لكل طريقة، لكل اتجاه يسلكه في حياته، يسلكه في إصلاح آخرته، يسلكه في عمارة دنياه، إلا أن المفلح الذي ينبغي أن يعمل به كل صالح، كل مؤمن، كل من يرجو نجاته ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في خير وِجهة، وهي الوجهة التي يُقصد فيها جل وعلا، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:?وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ? أي سابقوا إلى الخيرات استكثاراً، سابقوا إليها تحصيلاً، سابقوا إليها أخذاً :?فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?(2). فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا بأن نستبق الخيرات أن لا تفوتنا، أمرنا أن نستبق إليها أن لا تضيع علينا وأن لا تذهب سدىً، فإن الإنسان في هذه الدنيا يسير وهو قد أعد له من العداوات ما يحول بينه وبين بلوغ الغايات، إلا من وفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحفظه، فإن الشيطان قد قال وأخذ على نفسه الميثاق: ?فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)?(3). هكذا أخذ الشيطان على نفسه عهداً، أن يصدنا عن كل خير، وأن يحول بيننا وبين كل بر، وأن يزين لنا كل شر، وأن يدعونا إلى كل رذيلة، هكذا هو هذا العدو الذي هو لنا بالمرصاد، ما من طريق خير إلا يقف عليه يثبط عنه، وما من طريق شر إلا يقف عليه يزينه ويدعو إليه ويرغب فيه، والبصير من وفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى السلامة من كيده، إلى السلامة من مكره، إلى السلامة من شره، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه ومكره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الإخوة الكرام: إن من رحمة الله تعالى أن أمرنا جل وعلا بالمسابقة إليه، ثم إنه منّ علينا بأن جعل لنا من المواسم ما هي مواسم خير وبر، ما هي مواسم سبق وفضل، ما هي مضمار مسابقة إليه ومسارعة إلى رضوانه جل وعلا، فجعل بحكمته ورحمته مواسم من أيام الزمان، هي مواسم خير يستبق فيها المتسابقون إلى طاعته، وهذه المواسم من رحمته أن فرّقها في أيام الزمان، فلم يجعلها مجتمعة في أول العام، ولا في آخره، ولا في وسطه؛ بل هي منثورة كالدرر، منثورة كالمحطات على طريق السفر إلى الله تعالى، يقف فيها المؤمن، يتزوّد فيها من زاد التقوى والإيمان، يتزود فيها من زاد الخير والبر والإحسان؛ ليبلغ الغاية والمقصد؛ ليصل إلى فضل الله ورحمته.
__________
(1) سورة : آل عمران (133).
(2) سورة :البقرة (148).
(3) سورة :الأعراف (16-17).(/3)
والعاقل البصير هو من يستكثر من الخيرات في هذه المحطات، إننا إذا سلكنا طريقنا إلى بلد بعيد ومفازة عظيمة، إن الإنسان إذا وقف عند محطة من المحطات أخذ كل ما يحتاجه؛ بل إنه يأخذ شيئاً لا يحتاجه خشية أن يعرض له عارض، أو أن يمنعه مانع من سيره في غايته ومقصده، فكيف بالسفر الذي فيه من الأهوال ما تشيب له الولدان؟ كيف بالسفر الذي فيه منازل عظيمة تنخلع منها القلوب وتشيب لها رؤوس الولدان؟ كما قال الله تعالى في وصف ذلك اليوم الذي سنمر به جميعاً: أنا وأنت، أبي وأبوك، أمي وأمك، أخي وأخوك، كلنا سنمر من ذلك الطريق، وسنقف على ذلك الهول: ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)?(1). إنه موقف مهول، موقف عظيم نمر عليه جميعاً: ?إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3)?(2) متعجباً من عظيم هذا الزلزال الذي يحيط بالأرض كلها، فلا يترك منها جانباً، ولا يترك منها جزءاً، ولا يترك منها ناحيةً من النواحي؛ بل يحيط بها من كل جانب.
ثم تخرج الأثقال، ما هي الأثقال؟ هي الموتى الذين مَلَؤوا هذه الأرض، وكذلك يخرج منها ما فيها من الكنوز، وما فيها مما أودعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويأذن بالخروج في ذلك اليوم العظيم.
إنها الأهوال التي تكون في الدنيا، أهوال تكون في القبور، أهوال تكون في أرض المحشر، أهوال عندما نمر على الصراط، أهوال... حتى يستقر بالإنسان القرار في الجنة نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من فضله، أو يستقر به الحال في موضع هول عظيم وخطب جليل وهو النار نسأل الله السلامة منها.
ألا يستوجب هذا السفر أن نعدّ له العدة؟
ألا يحتاج هذا السفر الطويل العظيم الذي فيه هذه الكروب العظيمة والأهوال الكبيرة أن نتزود في مواسم الخير وفي مواسم البر؟ بل أن نتزود في أعمارنا في ذلك السفر الطويل؟
إن المؤمن ينبغي له أن يعد لسفره إلى الله تعالى، كما يعد لسفره من بلد إلى بلد في هذه الدنيا، إن المؤمن خير ما يسافر به إلى الله عزّ وجلّ وخير ما يعتد به ويعده إلى سفره ولسفره، أن يستعد بالعمل الصالح، ولذلك قال الله تعالى- في ذكر موسم من مواسم الخير-: ?الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى?(3). الله جل وعلا ذكر موسماً من مواسم البر، موسماً من مواسم التقرب إليه وهو ما يكون في أشهر الحج من قصد بيته الحرام، ثم بيّن ما يكون فيه مما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من الحال، ثم قال نادباً إلى الاستزادة من كل خير: ?وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ? ثم أمر بالتزود، والتزوّد لا يكون إلا للمسافر الذي يُعد للرحيل ويستعد للانتقال:? وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى?. اللهم اجعلنا ممن يتزود بهذا الزاد للقائك يا رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام إن خير ما يَقْدَمُ به العبد على الله تعالى، خير ما يَفِد به العبد على الله جل وعلا العمل الصالح، العمل الصالح ذاك الذي يحصل له به الأمل، العمل الصالح الذي يؤنسه في القبر، العمل الصالح الذي يكون معه يوم القيامة في أرض المحشر بشتى أنواعه وصوره، فإن الناس يوم القيامة يبلغ بهم الهول على قدر ما معهم من العمل.
فإذا كانت أعمالهم صالحة خفت عليهم تلك الأهوال وأعانهم ذلك على استقبال تلك المخاوف، ومن ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ قال: ((المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة))(4)، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن: ((يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة ينافح عنهم))(5).
إن الأعمال الصالحة من أعظم ما يتقي به الإنسان مصارع السوء.
إن الأعمال الصالحة خير ما يتوكَّأ ويعتمد عليه إذا عثر، وإذا زلت قدمه في مهوى من مهاوي الهلاك أو مصرع من مصارع الهلاك.
__________
(1) سورة : الحج (2).
(2) سورة : الزلزلة (1-3).
(3) سورة : البقرة (197).
(4) ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3484)وقال: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في الشعب.
(5) مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، حديث رقم 804.(/4)
أيها الإخوة الكرام: إنّ العمل الصالح جعل الله له من المواسم ما يُطلب فيه مزيد عناية بالأعمال الصالحة، يُطلب فيه مزيد اجتهاد؛ وذلك لكونه من مواسم النفحات، من محال الكرامات، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له في أيام الزمان وفي أعمار الناس نفحات يصيب بها من يشاء من عباده، فالعاقل اللبيب ذاك الذي داوم الطَّرْق، ذاك الذي داوم الطلب، ذاك الذي داوم البحث والتعرض لهذه الرحمات عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، أو رحمة من تلك الرحمات، فيكون ذلك سبباً لسعادته في الدنيا والآخرة.
إن مواسم الخير وإن فضائل الأوقات من غفل عنها لم يربح ولم ينجح، فاته خير كثير، فاته بر عظيم.
ومن أعظم مواسم البر، وأكرم أيام الزمان، وخير أيام العمر ما نحن فيه من أيام العشر أيها الإخوة؛ فإن عشر ذي الحجة التي أقسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بلياليها في قوله تعالى: ?وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)?(1) هي من خير أيام الزمان.
قال جماعة من أهل التفسير-في بيان معنى الليالي العشر-: إنها عشر ذي الحجة.
وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في أيهما أفضل: العشر الأول من ذي الحجة، أم العشر الأخيرة من رمضان؟
وذلك لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)). فقالوا: يا سول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))(2).
وهذا يبين لنا عظيم منزلة هذه الأيام، وأنها خير أيام الزمان، العمل الصالح فيها خير من الجهاد في سبيل الله، الذي يرجع فيه الإنسان سالماً في نفسه أو سالماً في ماله.
أيها الإخوة الكرام: إن الأيام العشرة بيّن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيم منزلتها، وكبير مكانتها، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما العمل في أيامٍ أفضل منها في هاذه)) أي في هاذه العشر، قالوا: ولا الجهاد؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) . ((خرج يخاطر)) أي يطلب الموت مظانه، يطلب الشهادة في سبيل الله فحصلها فأهريق دمه، وعقر جواده ولم يرجع إلى أهله بشيء، هذا هو الأفضل من ذاك الذي اجتهد في هذه الأيام.
أما ما عدا هذه الصورة من صور الجهاد فإنها دون العمل الصالح في الفضل، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال -كما في حديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فيما رواه الإمام أحمد بسند جيد- : ((ما من أيام هي أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه العشر)). وهذا يشمل سبق العمل في هذه الأيام، الجهاد من العمل الصالح؛ بل هو من أشرف الأعمال الصالحة، وقد سئل عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهل له مقارب أو مساوٍ أو نظير من الأعمال؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا عِدل له)). أي لا نظير له، لكن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد غير المتعيّن.
وذلك أن العمل الصالح له مواسم فمن المواسم ما يكون فيه الجهاد فاضلاً، ومن المواسم ما يكون فيه سائر العمل من الأعمال الصالحة فاضلاً، وخير ما يكون من العمل الصالح في هذه الأيام ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ من كثرة ذكر الله جل وعلا، وسيأتي بيان ذلك فيما نستقبل إن شاء الله تعالى.
أيها الإخوة الكرام: إن عشر ذي الحجة هي التي سماها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالأيام المعلومات في قوله تعالى: ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ?(3) فالأيام المعلومات هنّ عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس رضي الله عنه وغيره من أهل التفسير.
__________
(1) سورة : الفجر (1-2).
(2) البخاري: كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، حديث رقم: 969.
واللفظ للترمذي: كتاب الصوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب ما جاء في العمل في أيام العشر، حديث رقم: 757.
والحديث الذي بعده لفظه للبخاري.
(3) سورة : الحج (28).(/5)
عشر ذي الحجة أيها الإخوة فيها ذلك اليوم الفضيل، فيها ذلك اليوم العظيم، الذي اختص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به أهل الإيمان وأهل الإسلام المسابقين إلى الفضل والإحسان ممن يقصد بيته الحرام، يأتي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يدنو من أهل الموقف فيباهي بهم الملائكة، وهو يوم يكثر فيه الفضل، ويكثر فيه الإحسان، ويكثر فيه المنّ؛ ففي صحيح الإمام مسلم من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ : ((ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة))(1). فإن يوم عرفة أكثر الأيام التي يحصل فيها عتق العبيد من النار؛ وذلك فضل الله نسأل الله جل وعلا من فضله وأن لا يحرمنا جوده وكرمه بسوء عملنا وتقصيرنا.
أيها الإخوة: إن الأيام العشرة تفضل بما فيها من عظيم السبق في هذا اليوم، فهو اليوم الذي أتم الله فيه الدين، قال الله تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا? (2).
روى البخاري عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن يهوديّاً قال له: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا -يعني اليهود- لاتخذناها عيداً -أي لجعلناها عيداً نحتفل به ونُسَر؛ لما فيها من الفضل، ولما فيها من الخير، ولما فيها من عظيم المنّ على أمة الإسلام- وهي آية: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا?. قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إني لأعلم حين أنزلت وأين أنزلت، وأين كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزلت، يوم عرفة، إنا والله بعرفة. أي أنزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ذلك المجمع العظيم، فكيف لا تكون هذه الأيام خير أيام الزمان وفيها هاذه الدرة العظيمة، وفيها هاذا الفضل الكبير الذي اختص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به هذا اليوم المبارك؟
أيها الإخوة الكرام: هاذه العشر فيها يوم الحج الأكبر الذي قال الله تعالى فيه: ?وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ?(3). ففيها يوم النحر اليوم العاشر الذي أعلن الله فيه البراءة من الشرك وأهله، وفيه من الفضل أنه اليوم الذي تعظم فيه شعائر الله بالتقرب إليه بالذبح قال الله تعالى: ?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ?(4).
أيها الإخوة الكرام: إن هذا اليوم يعظَّم فيه الله جل وعلا، ويُتقرب إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنواع من القربات قال الله تعالى: ?لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ?(5).فإن هذا اليوم يوم تعظيم لله عزّ وجلّ، فكان حق هذه الأيام أن تكون خير أيام الزمان.
أيها الإخوة الكرام: عشر ذي الحجة هي الأيام التي تجتمع فيها أركان الإسلام، ففيها التهليل بذكر الله عزّ وجلّ، وفيها الصلاة، وفيها الزكاة، وفيها الحج، وفيها الصوم، فكلها أعمال تشرع في هذه الأيام: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هاذه الأيام))(6) يعني أيام العشر الأول من ذي الحجة.
أيها الإخوة: إن المغبون ذاك الذي مر عليه هذا الموسم الكريم، ذاك الذي مر عليه هذا الفضل الكبير الذي منّ الله به على أهل الإسلام دون أن يتزود بخير زاد أمر الله بالتزود به وهو زاد التقوى، يقول الشافعي رحمه الله:
إذا هجع النوَّام أسبلت عبرتي وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعر:
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا خير وتحسب من عمري
__________
(1) مسلم: كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث رقم: 1348.
(2) سورة : المائدة (3).
(3) سورة : التوبة (3).
(4) سورة : الحج (36).
(5) سورة : الحج (37).
(6) تقدم تخريجه صفحة (10).(/6)
هذا إذا كانت الليالي التي ليس فيها فضل خاص، ... وفي الأيام التي ليس لها سبق خاص، فكيف بالأيام التي هي خير أيام الزمان؟ إن فقدها وذهابها دون أن تودع فيها الصالحات ودون أن تعمر بالطاعات من أعظم الخسار، قال الله تعالى: ?وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)?. وهذا حكم على كل إنسان، إلا من سلم بما ذكر الله من صفات أربع: ?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)? (1). هذه الخلال الأربع، هذه الصفات الأربع هي التي يحصل لك بها النجاة، فاحرص على الاستكثار منها في هذه الأيام، حقق إيمانك بالله تعالى، حقق العمل الصالح، تواصَ بالحق مع إخوانك المؤمنين، تواصَ بالصبر على طاعة الله، بالصبر عن معصية الله، بالصبر على أقدار الله المؤلمة، فبه يحصل لك السلامة من الخسار: ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)?.
أيها الإخوة الكرام: إنها منحة، وإنها منة، وإنها نفحة من نفحات الله عزّ وجلّ أن يبلغ بك موسم الخير والبر. قال خالد بن معدان رحمه الله: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسارع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه.
وما أحكمها من كلمة، وما أعظمها من عبرة، وما أعظمه من توجيه: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسارع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه. وليتنا نستعمل هذه الوصايا في طاعة الله، وفيما يقربنا إليه، إن الناس إذا فُتح لهم باب خير من خير الدنيا تجدهم يتسابقون مسابقة حتى يعتدي بعضهم على بعض، ويأخذ بعضهم حق بعض، حتى ينال شيئاً من متاع زائل ونعيم مرتحل، فكيف وقد زهد أكثر الناس في طاعة الله عزّ وجلّ، فلم يكن منهم عدو إلى طاعة الله، لم يكن منهم مسارعة ولا مسابقة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى؟ إنه أعظم الخسار والله، روي عن هدّاب- وهو أحد السلف الصالحين العباد -أنه قال: رأيت رجلاً يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول:
تمنَّ على ذي العرش ما شئت إنه ... جواد كريم لا يخيِّب سائلا
هذا الرجل يطوف ويردد هذا البيت ويبكي هذا البكاء، فاستوقفه هداب فقال له: ما يبكيك؟ ما شأنك؟ لماذا هذا البكاء؟ وما الذي حملك على هذا الرجاء مع هذا البكاء؟
الإنسان قد يغنيه الرجاء فيترك البكاء، وقد يقعده الخوف فيمّحي عن قلبه الرجاء، إلا أن هذا الرجل جمع بين وصفين هما جناحا المؤمن في سيره إلى الله عزّ وجلّ، جمع الرجاء بالفضل والإحسان من الله عزّ وجلّ فقال: تمن على ذي العرش. أي تمن على الله عزّ وجلّ ما شئت إنه جواد كريم لا يخيّب سائلا، ولم يقعد عن العمل؛ بل صاحب هذا خوف أقلقه فأجرى دمعه، خوف أزعج قلبه حتى استغرب منه هدّاب ما كان منه فقال له: ما شأنك؟
فقال الرجل: أعظم الشأن شأني، إني ندبت إلى أمر- إلى خير- فقصرت عنه، فلم أبلغْه.
وإن الذي يدرك مواسم الخير ثم يقعد عنها، فلا يستزيد فيها خيراً، ولا يستزيد فيها صالحاً ولا يتزود فيها بخير زاد، قد قصر عما نُدب إليه وما دُعي إليه وما حث عليه، فينبغي لنا أيها الإخوة أن نبكي على أنفسنا، إننا نغتر كثيراً برحمة الله وفضله، والله أهل العفو والغفران والرحمة؛ إلا أنه قد قال جل وعلا: ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ (50)?(2). فعذاب الله تعالى يقترن برحمته، فينبغي لنا أن لا نغفل عن عذاب الله حتى يستقيم سيرنا، وحتى يستقيم عملنا، نحن ندعو إلى أن يجمع المؤمن بين رجاء يسابق فيه إلى خير الآخرة وخوف يُقعده عن السيئات، خوف يحمله على فعل الطاعات، خوف يجنبه الردى، يحمله على طاعة الله فيما أمر وعلى طاعة الله عزّ وجلّ فيما نهى.
__________
(1) سورة : العصر.
(2) سورة : الحجر (49-50).(/7)
أيها الإخوة الكرام: إنّ سلفنا الصالح كانوا يسابقون في أعمال البر وفي صنوف الخير، يستكثرون من الصالحات، تجد الواحد منهم معلماً وعالماً ومتعلماً، وداعياً وصائماً ومزكياً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، يجمعون خصال الخير، ومع ذلك هم في غاية الخوف ألا يُقْبَل منهم، في غاية الوجل أن يُرَدّ عليهم عملهم، في غاية الخوف من أن يدخل إلى أعمالهم أو إلى قلوبهم شيء يفسد عليهم ما قدموه، هم كما قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)?(1). يؤتون ما آتوا من الصالحات، يقدمون أنواعاً من القربات، ومع ذلك ليس عندهم عُجْب، ولا عندهم ركون إلى هذه الأعمال، إنما عندهم مسابقة إلى الخيرات، مسارعة إلى الطاعات، اجتهاد في كل ما يقرب إلى الله تعالى، وليس ذلك في شباب أو كِبَر ولا في فترة من العمر؛ بل إنه في أيامهم ولياليهم؛ في زمانهم كله يسارعون إلى الله تعالى وإلى ما في كتاب الله عزّ وجلّ من الأمر فيمتثلونه ما فيه من النهي فينتهون عنه.
قال سفيان الثوري رحمه الله: إذا طلعت الشمس من مغربها طوت الملائكة صحائفها؛ لأنه يختم على الأعمال فلا يقبل إحسان زائد على ما كان، ولا يقبل توبة ممن كان قد أساء وفرّط.
إذا طلعت الشمس من مغربها طوت الملائكة صحائفها ووضعت أقلامها، يقول رحمه الله- في استنهاض الهمم وشحذ العزائم على الاجتهاد قبل أن يدرك الإنسان ذلك الزمان-: فالواحب على المؤمن المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها.
كم هم الذين يتمنون أن يأتوا إلى المساجد ليصلوا مع المسلمين؛ لكن حال بينهم وبين ذلك مرض أو عيب؟ فالواجب على أهل الإيمان -على المؤمن- المبادرة بالأعمال الصالحة، قبل أن لا يقدر عليها.
يقول رحمه الله: ويحال بينه وبينها إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا يقبل معها عمل.
أيها الإخوة الكرام: إننا في موسم مبارك كريم، إننا في زمن فيه خير كثير وأجر كبير لمن سابق في طاعة الله عزّ وجلّ؛ إلا أن أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى، وأفضل ما يتقدم به العبد من العمل في هذه الأيام ذكر الله جل وعلا الذي بذكره تطمئن القلوب، كما قال سبحانه وبحمده: ?أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)?(2). ذكر الله تعالى بالقلب واللسان، كل هاذا مما ينبغي للمؤمن أن يشغل به نفسه وأن يعمر به زمانه، وذلك أن الذكر من أعظم ما تداوى به القلوب، من أعظم ما تشفى به القلوب من أسقامها، من لوثاتها، من أمراضها.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ... ونترك الذكر أحياناً فننتكس
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد)). هذا ندب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نملأ أعمارنا في هذه الأيام وأوقاتنا وأزماننا وأحوالنا كلها بذكر الله عزّ وجلّ، بتكبيره وتهليله وتحميده، فينبغي لنا أن نحرص على ذلك غاية الحرص، كيف وقد قال الله تعالى: ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ?(3). قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الأيام المعلومات أيام العشر. وهو قول جماعة من أهل التفسير.
وقد روى البخاري عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعن أبي هريرة أنهما كانا يخرجان في الأسواق في الأيام العشر فيكبران فيكبر الناس بتكبيرهما.
أيها الإخوة الكرام: احرصوا على كثرة التكبير والذكر في هذه الأيام، وفي كل الأحوال، فإن الذكر من أعظم ما تحيا به القلوب.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت))(4)
__________
(1) سورة : المؤمنون (60).
(2) سورة : الرعد (28).
(3) سورة : الحج (28).
(4) البخاري: كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث رقم: 6407. واللفظ له.
مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته.. حديث رقم: 779.(/8)
. فينبغي لنا أن نستكثر من ذكر الله عزّ وجلّ، حتى نستكثر من أسباب الحياة، إن الحياة الحقيقية أن يحيا القلب بطاعة الله عزّ وجلّ، أن يحيا الفؤاد بما يقرب إلى الله عزّ وجلّ، فاستكثروا إخواني من ذكر الله جل وعلا، فإن ذكره تطيب به القلوب وتحيا، ويجعل الله به للعبد نوراً يستضيء به ويستنير، قال تعالى: ?أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا?(1). إنه لا سواء بين ذاك الذي ملأ الله جل وعلا قلبه بأنوار الهداية والطاعة، وذاك الذي هو في ظلمات وعماء لا يصيب حقّاً ولا يدرك مطلباً.
إن خير ما يذكر به الله عزّ وجلّ في هذه الأيام قول: الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أكثروا من هذا يا إخواني في بيوتكم، في أسواقكم، في مساجدكم، في مجتمعاتكم، في كل أحوالكم وأحيانكم، فإنه مما ترتفع به الدرجات.
إن من ذِكر الله تعالى أن يسابق الإنسان إلى قراءة القرآن ما استطاع من ذلك، فإن القرآن خير ما يقرأ وخير ما دارت به الألسن، وخير ما استمعه المستمعون؛ وذلك أن القرآن حياة القلوب، القرآن فيه الهدى والنور، فيه شفاء ما في الصدور، فينبغي لنا أن نستكثر منه وأن نتعظ بعظاته، وأن نعتبر بما فيه من العبر والحكم فإنه طبّ القلوب، قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57)?(2).
أيها الإخوة الكرام: إنه مما يحافظ عليه من ذكر الله عزّ وجلّ في هذه الأيام، ما فرضه من الواجبات، من الصلوات في المساجد وغيرها، من الأذكار في أدبار الصلوات وأذكار الصباح والمساء، وغير ذلك مما يدخل في ذكر الله عزّ وجلّ، ومنه حضور مجالس الذكر، فإن حضور مجالس الذكر من ذكر الله تعالى، ومن ذكر الله تعالى تعليم العلم، ومن ذكره تعلم العلم، ومن ذكره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك كله من ذكر الله تعالى.
أيها الإخوة الكرام: اجتهدوا في الذكر، واعلموا أن الذكر في هذه الأيام على نحوين:
ذكر مطلق.
وذكر مقيد.
الذكر المطلق يكون في كل حين، وفي كل حال، وفي كل وقت، قائماً وقاعداً وعلى جنب، كما قال الله تعالى: ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)?(3). هذا الذكر هو الذي يكون في كل حين وفي كل وقت، الذكر الذي يصاحب الإنسان في قيامه وقعوده، في ذهابه ومجيئه، في دخوله وخروجه، هذا الذكر الذي يكون في كل حين، وهو الذكر المطلق.
أما القسم الثاني فهو الذكر المقيد.
يبتدئ الذكر المطلق من أول شهر ذي الحجة من غروب شمس آخر يوم من أيام ذي القعدة، وينتهي الذكر المطلق بغروب شمس اليوم الثالث عشر، الذكر المطلق الخاص بهذه الأيام وهو: الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أما الذكر المقيد، فالمراد بالتقييد هو ما يكون بعد الصلوات المكتوبات في الجماعات، فإنه بعد صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، كل هذا محل للذكر المقيد بالنسبة للمقيم، فإذا فرغ من الصلاة وقال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. يشرع قائلاً: الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. ما شاء، مرة، ثلاثاً، خمساً، حسب ما يتيسر له، دون تحديد بعدد، أودون تحديد بحد، وهو تكبير يستكثر منه ما استطاع، ثم يأتي بالأذكار المشروعة بعد الصلوات.
هذا هو الذكر المقيد بالنسبة للمقيم.
أما الحاج فإنه يبدأ ذكره المقيد بعد صلاة الظهر من يوم النحر؛ لكونه مشتغلاً قبل ذلك بالتلبية والتكبير وغيره على وجه الإطلاق، هكذا قال العلماء رحمهم الله.
إذاً عندنا تكبير مطلق وتكبير مقيد، وهو مما يختص هذه الأيام.
__________
(1) سورة : الأنعام (122).
(2) سورة : يونس (57).
(3) سورة : آل عمران (191).(/9)
لكن الذكر عموماً ينبغي أن لا يفارقه الإنسان في هذه الأيام وفي غيرها، فعائشة رضي الله عنها تقول: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله في كل أحيانه. في كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب، وأنت إذا نظرت إلى هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدت أمراً عجباً من ذكر الله عزّ وجلّ، فرسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح إذا استيقظ مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ قوله تعالى: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً?(1) إلى آخر ما ذكره الله عزّ وجلّ في أواخر سورة آل عمران. هذا مبدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مبدأ يومه، مبدأ استيقاظه، ثم يكون من الصلاة والذكر والعبادة أمر عجيب جلل، حتى إنه تتفطر -تتورم- قدماه - صلى الله عليه وسلم - من قيامه وصلاته لربه.
تقول عائشة كما في صحيح الإمام مسلم رحمه الله: فقدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فطلبته، فوقعت يداي على قدميه منصوبتين في مصلاه. وهو يقول: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك))(2). هكذا رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ في عبادته لربه، في جِد، وفي عمل دائم، وفي طاعة مستمرة، وفي مسابقة لأيام العمر، أن يفوته شيء من الخير، أو أن يمضي عليه وقت في غير طاعة وعبادة.
أيها الإخوة الكرام: إن الذكر من أعظم ما تحيا به القلوب، فاحرصوا عليه، أظهروه في بيوتكم أظهروه في منازلكم ومحلاتكم وأسواقكم ومساجدكم وسياراتكم، وفي كل حين، واعلموا أن هذا من إحياء سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سيما في هذه الأيام.
إن من الأعمال الصالحة التي تكون في هذه الأيام قصْد البيت الحرام حجّاً وتعبداً لله عزّ وجلّ، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فرض الحج على الناس فقال: ?وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً?(3). وهذا الحج له من الأحكام و الفضائل ما يضيق عنه الوقت.
إنما ينبغي أن نعلم أنه من أفضل ما يتقرب به في هذه الأيام، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) (4)، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه))(5).
وبهذا يتبين أن الحج يجمع فضيلتين:
الفضيلة الأولى: التخلية من السيئات، التطهير من الشر، وأوغار المعاصي والسيئات، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)).
وأما الفضيلة الأخرى: فما يحصل من السّبق والخير لمن حجّ، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
وإنما يكون مبروراً:
إذا كان خالصاً لله عزّ وجلّ.
إذا كان على وفق هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا اجتنب فيه الحاج المحرمات.
وإذا قام فيه بالواجبات.
وإذا كان من مال حلال.
وبهذه الخمسة الأوصاف يحصل الحج المبرور، نسأل الله أن يجعلنا حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً.
أيها الإخوة الكرام: إن من الأعمال الصالحة التي يُتقرب إلى الله عزّ وجلّ بها في هذه الأيام ما ذكره الله في قوله: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ? في سورة الكوثر ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)?(6). فذكر الله جل وعلا في هذه الآية شُكْر الله على نعمه، فالكوثر هو الخير الكثير الذي أعطيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، أمره الله بشكره بعبادته، الصلاة والنحر، الصلاة قيل: صلاة العبد، والنحر قيل في تفسيره: إنه ما يكون من التقرب إلى الله عزّ وجلّ بذبح الأضاحي.
__________
(1) سورة : آل عمران (190-191).
(2) مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث رقم: 486.
(3) سورة : آل عمران (97).
(4) البخاري: كتاب العمرة، باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها، حديث رقم: 1773.
مسلم: كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث رقم: 1349.
(5) البخاري: كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، حديث رقم: 1521.
مسلم: كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث رقم: 1350.
(6) سورة : الكوثر.(/10)
الأضاحي من شعائر الله التي يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بها كما قال تعالى: ?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ?(1). حافظ عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرص، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحي عنه وعن أهل بيته بكبش، وفي بعض الأحاديث ضحى بكبشين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ.
فينبغي لنا أن نحرص على هاذه السنة وأن نظهرها، وأن نعلم أن المقصود من الأضحية التقرب إلى الله تعالى بالذبح، لا المقصود اللحم ولا الدم ولا ما إلى ذلك من المقاصد، قال الله تعالى: ?لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ?(2). فالذي يبلغ الله جل وعلا من العبد هو ما يقوم في قلبه من تعظيم الله عزّ وجلّ، من تقواه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فينبغي لنا أن نحرص على هذه السنة وعلى هذه الشعيرة، وأن نظهرها في بيوتنا وفي بلداننا، وبين أهلينا حتى يعرفوها، فإن من الناس من يقصر في ذلك ويكتفي بالصدقة بقيمتها أو يبعثها إلى جهات خارجية، فيفوته بذلك خير كثير وسنن كثيرة.
أيها الإخوة الكرام: إن من الأعمال الصالحة التي نُدبنا إليها في هذه الأيام ما يكون من صيام يوم عرفة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ((إني أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والباقية)). وفي رواية أخرى سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية))(3).
فينبغي علينا أن نحرص على صيام هذا اليوم، أما ما عدا هذا اليوم من بقية الأيام التسعة قبل اليوم العاشر فإن صيامها لم يرد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنها من الخير والفضل الذي ينبغي المسابقة إليه والأخذ به؛ لدخوله في عموم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام))(4).
أيها الإخوة الكرام: ما هي إلا أيام، ما هي إلا ساعات، ثم تنقضي، ويصبح ذو الأعمال فرحاً، يصبح صاحب العمل فرحاً بعمله، مسروراً بما قدم.
فينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من الأعمال الصالحة طاقتنا وجهدنا، وأن نحتسب الأجر عند الله عزّ وجلّ في ذلك كله.
أيها الإخوة: إن من رحمة الله عزّ وجلّ أن منّ علينا بهذه المواسم التي يتعرض فيها عباد الله الصالحون لنفحات الله جل وعلا ومواهبه وكرمه، فإذا عجز الإنسان عن شيء من ذلك فإنه ينبغي له أن لا يعجز عن عمل لا يعجز عنه إلا عاجز، وهو ما جاء في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله)). قال: قلت: يا رسول الله أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)). قال: قلت: يا رسول الله فإن لم أفعل؟ يعني: إن لم أفعل بالعمل الذي ذكرت المتقدم من أفضل الأعمال وأفضل الرقاب. قال: ((تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق)). أي تعين إنساناً يحتاج إلى إعانة، أو تصنع لضعيف لا يستطيع الصناعة.
قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ يعني: أرأيت إن عجزت عن هذا أيضاً، قال: ((تكف شرك عن الناس، فإنه صدقة منك على نفسك)) (5). وهذا لا يعجز عنه إلا عاجز، فإن كف الإنسان شره عن غيره مما يستطيعه كل أحد.
فينبغي لنا أن نكف شرورنا عن الآخرين، فإن الشرور تعظم وتضاعف وتغلّظ في أيام البر والخير، كما أنها تعظم وتغلظ عقوبتها في الأماكن المباركة، قال الله تعالى في حق المسجد الحرام: ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)?(6). وكذلك في الأزمنة المباركة تغلظ العقوبات.
قال ابن القيم رحمه الله في انتهاك الحرمات ومواقعة السيئات في ليلة الجمعة: وقلّ أن يترك الله جل وعلا من عصاه في ليلة الجمعة.
وذلك أنها ليلة مباركة، هي ليلة خير أيام الأسبوع، فكان انتهاك حرمة الزمان من أسباب العقوبات.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعيننا وإياكم على البر والتقوى، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من عباده المتقين ومن حزبه المفلحين ومن أوليائه الصالحين.
اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، وأن تصرف عنا السوء والفحشاء، أن تجعلنا من خير عبادك وأسعدهم بك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى.
اللهم أعنا ويسرنا لنا الهدى يا رب العالمين. اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا. اللهم يسر الهدى لنا.
اللهم انصرنا على من بغى علينا.
__________
(1) سورة : الحج (36).
(2) سورة : الحج (37).
(3) مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر والصوم يوم عرفة.. حديث رقم: 1162.
(4) تقدم تخريجه صفحة (10).
(5) البخاري: كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل؟ حديث رقم: 2518.
مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال، حديث رقم: 84. واللفظ له.
(6) سورة : الحج (25).(/11)
اللهم أعنا ولا تعن علينا.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين، لك راغبين راهبين، إليك أوابين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا.
اللهم ثبت حجتنا.
اللهم أقل عثرتنا.
اللهم سُلّ السخيمة(1) من قلوبنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ونقتصر على هذا.
- - ( - -
__________
(1) جمعها سخائم، وهي الضغينة. انظر: المنجد مادة (سَخَمَ).(/12)
لتحذير من الحرص على المال والشرف في الدنيا
عبد العظيم بدوي الخلفي
ملخص المادة العلمية
1-خطر الحرص على المال والشرف على دين المسلم. 2- كيف يكون الحرص على المال. 3- كيف يكون الحرص على الشرف وبعض آفات حب الشرف. 4- خطورة طلب العلم من أجل عرض من عرض الدنيا. 5-أثر التنافس على الدنيا في سلوك الإنسان وأسباب الزهد فيها.
عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
هذا مثل عظيم جدا، ضربه النبي لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين، يأتيان في الغنم وقد غاب عنها رعاؤها ليلا، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل.
فأخبر النبي أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساويا، وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل.
فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.
فأما الحرص على المال فهو على نوعين:
أحدهما: شدّة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة، والمبالغة في طلبه، والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة، ولو لم يكن في ذلك إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن صاحبه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم، لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم، ثم لا ينتفع به، بل يتركه لغيره ويرتحل عنه، ويبقى حسابه عليه، ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا حمده، ويقدم على من لا يعذره، لو لم يكن في الحرص على المال إلا هذا لكفى ذما للحرص على المال.
وقد قيل لبعض الحكماء: إن فلانا جمع مالا. فقال: فهل جمع أياما ينفقه فيها؟ قيل: لا، قال: ما جمع شيئا، وفي هذا المعنى قيل:
يا جامعا مانعا والدهر يرمقه مفكرا أي باب منه يغلقه
جمعت مالا ففكر هل جمعت له يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من لم يحلل بساحتها لم يأل في طلب مما يؤرقه
وكتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصا على الدنيا:
أما بعد:
فإنك أصبحت حريصا على الدنيا، تخدمها وهي تخرجك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصا محروما، وزاهدا مرزوقا، ولا ميتا عن كثير، ولا متبلغا من الدنيا باليسير.
والنوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، الذي لا يفلح أهله أبدا، قال الله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
وقال النبي : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).
قال العلماء: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ويمنعها حقوقها، فلا يرضى بما قسم الله له من الحلال الطيب، بل يتطلع إلى ما حظر عليه ومنع منه، وهذا هو الشح الهالك، الذي أخبر النبي أنه يأمر بالبخل والقطيعة والفجور، ولهذا أخبر أنه: ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)).
وقال : ((شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)).
فإذا بلغ الحرص على المال هذه الدرجة فإنه لا يبقى في القلب من الدين والإيمان إلا القليل، كما لا يبقى من حظيرة غنم دخل عليها ذئبان جائعان ضاريان ليلا فعملا فيها فسادا في غياب أهلها إلا القليل.
أما الحرص على الشرف فهو أشد هلاكا، وأعظم فسادا، وأكبر ضررا وخطرا من الحرص على المال.
ذلك أن الإنسان بطبيعته يطلب الرياسة والولاية، ويحب الشرف والظهور والعلو.
والزهد في الرياسة أصعب من الزهد في المال، ذلك أن المال ينفق في طلب الشرف والولاية والرياسة، لهذا كان الحرص على الشرف أعظم خطرا وأشد فسادا، وأكبر ضررا من الحرص على المال. والحرص على الشرف نوعان:
الأول: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب يمنع شرف الآخرة وكرامتها وعزها، كما قال تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للدين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [القصص:83].
وقل من يطلب الرياسة ويحرص عليها ثم يوفق فيها، ولهذا قال النبي لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)).
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)).(/1)
وعن أبي موسى الأشعري : ((أن رجلين قالا للنبي : يا رسول الله أمرنا! فقال: إنا لا نوّلي هذا من سأله ولا من حرص عليه)).
ومن دقيق آفات حب الشرف: أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على فعله ويثني عليه به، ويطلب من الناس ذلك، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان هذا الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمرا حسنا وأحب المدح عليه وقصد به في الباطن شرا، وهذا يدخل في قوله تعالى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم [آل عمران:188].
والنوع الثاني من الحرص على الشرف: أن يطلب الشرف بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد.
وهذا أفحش من الأول وأقبح، وأشد فسادا وخطرا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، ويطلب به ما عند الله والقرب منه والزلفى لديه.
قال الثوري: إنما فُضّل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء.
فإذا طلب بشيء من هذا عرض الدنيا الفاني فهو أيضا نوعان :: أن يطلب به المال، فهذا من نوع الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرمة. وفي هذا يقول : ((من تعلّم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)).
وسبب هذا – والله أعلم – أن في الدنيا جنة معجلّة، وهي معرفة الله تعالى ومحبته، والأنس به والشوق إلى لقائه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشمّ رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة. ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو أشد الناس حسرة يوم القيامة، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة أو شيء مستقذر لا ينتفع به.
والنوع الثاني: هو أن يطلب بالعلم والعمل والزهد الرياسة على الخلق والتعاظم عليهم، وأن ينقاد الخلق له ويخضعوا، ويصرفوا وجوههم إليه، وأن يظهر للناس زيادة علمه على العلماء ليعلو به عليهم، ونحو ذلك، فهذا موعده النار لأن قصد التكبر على الخلق محرم في نفسه، فإذا استعمل فيه آلات الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان.
عن النبي قال: ((من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار)).
وقال : ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتحيزوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)).
وهكذا تبين لنا ذم الحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن ذلك يفسد الدين كفساد ذئبين جائعين أرسلا في حظيرة غنم ليلا في غياب الرعاة، ولكن النفس مفطورة على طلب العلو والرفعة، والإسلام لا يحارب الفطرة ولا يقاومها، ولكنه يرشدها ويقوّمها، ولذلك أرشد الله تبارك وتعالى عباده إلى طلب العلو في الآخرة، وأمرهم بالتنافس فيه تلبية لدافع الفطرة. قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
ووصف ما في الجنة من النعيم فقال: إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيم مختوم ختامه مسك [المطففين:22-26].
فالعاقل هو الذي يطلب العلو والرفعة في الآخرة، وينافس الناس في ذلك، كما قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
إن التنافس في الدنيا قد أهلك الناس! إن التنافس في الدنيا قد أتعب الناس! إن التنافس في الدنيا قد أشقى الناس! إن التنافس في الدنيا قد أتعس الناس!: ((تعس عبد الدينار! وعبد الدرهم! إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!)).
إن التنافس في الدنيا قد أوقع الناس في الشح الذي حملهم على قطع الرحم وعقوق الآباء، والإساءة إلى الجيران، ولم يعد مسلم يعرف لأخيه المسلم حقا بسبب التنافس في الدنيا، ولذلك حذر الإسلام من التنافس في الدنيا، ورغب المسلمين في التنافس في طلب العلو في الآخرة.
قال الله تعالى: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [الإسراء:21].
ففي درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها، والحرص على ذلك، والسعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو.
وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقب صاحبه غدا حسرة وندامة، وذلّة وهوانا وصغارا، فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه، وللزهد فيه أسباب:
منها: نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة، فينظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمكذبين، ومن ينازع الله رداء الكبرياء.(/2)
فعن النبي قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طيبة الخبال)).
ومنها: نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإنه من تواضع لله رفعه.
ومنها: وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته – ما يعوض الله عباده العارفين به، الزاهدين فيما يغني من المال والشرف، مما يجعله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى،، وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرياسات والحرص على الشرف. كما قال إبراهيم بن أدهم – رحمه الله –:
لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجادلونا عليه بالسيوف.
وقال بعض الصالحين: على قدر هيبتك لله يخافك الخلق، وعلى قدر محبتك لله يحبك الخلق، وعلى قدر اشتغالك بالله يشتغل الخلق بأشغالك.
فالعاقل من حرص على طلب العلو والرفعة في الآخرة، فإن من طلب العلو في الآخرة نال العلو في الدنيا، ومن طلب العلو في الدنيا، فقد العلو في الآخرة، فلم تحرص يا عبد الله على الدنيا وحدها؟ اطلب الآخرة تأتك الدنيا معها، فإذا طلبت الدنيا وحدها فاتتك الآخرة ولم يأتك من الدنيا إلا ما قسم الله لك، ولذا قال النبي : ((من جعل الهموم هما واحدا همّ آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)).
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم زهّدنا في الدنيا ووسّع علينا فيها، ولا تحجبها عنا فترغبنا فيها.(/3)
لحوم العلماء مسموة
فضيلة الشيخ: د. ناصر ابن سليمان العُمر
.............................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ،يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نلتقي في هذه الليلة المباركة، في بيت من بيوت الله مع موضوع من أهم الموضوعات التي نحن بأمس الحاجة إلى التفقه فيها.
والصحوة اليوم، هذه الصحوة المباركة بحاجة إلى ترشيد وتوجيه حتى لا تأتى من داخلها، فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
إن لم تجد هذه الصحوة من يوجهها ويرشدها فإنني أخشى عليها من نفسها قبل خشيتي عليها من أعدائها.
ومن هنا جئت هذه الليلة لأتحدث لكم وأتحدث معكم عن هذا الموضوع الذي استمعتم إلى مقدمته من أخي الفاضل.
وأحب أن أنبه أن لهذا الموضوع قصة لابد أن تروى:
فقد بلغني في العام الماضي أن هناك بعض الطيبين ينتسبون إلى هذه الصحوة يلتقون في مناسبات مختلفة ويكون جل حديثهم عن العلماء، يقيمون العلماء ويقومون العلماء ويذمون ويمدحون، وهم شباب أحسن ما نقول فيهم أنهم من طلاب العلم لا من العلماء.
فتأثرت في هذا الموضوع فقمت وبدأت أجمع وأقرأ في كتب السلف:
هل كان شبابهم وعلمائهم يفعلون مثل ما نفعل؟؟
ثم قمت وألقيت هذا الموضوع في إحدى الجامعات، ولكنني اعتذرت عن إخراجه لأنه لم يستوي على سوقه بعد.
ومرت فترة وأوذي أحد الدعاة إلى الله، بل أحد العلماء وطعن في عرضه وكانت تلك الطعنة موجهة إلى كل عالم وإلى كل طالب علم،فآلمتنا وأحزنتنا وأقضت مضاجعنا.
وطلب مني بعض الأخوة الذين استمعوا إلى هذه المحاضرة أن أقوم بإخراجها فاعتذرت لأنني قلت أنها لم تكتمل بعد.
وجاءت الأحداث الأخيرة، جاءت الأحداث المريرة، جاءت الفتن التي كقطع الليل المظلم التي نعيش فيها هذه الأيام، فماذا حدث؟
حدث ما يريده الأعداء، واستبيحت لحوم العلماء، ولم يقتصر الحديث عن العلماء على طلاب العلم أو على الدعاة، بل فتح الباب لمن هب ودب حتى تطاول العامة وتطاول المنافقون والعلمانيون على علمائنا.
وقل أن تدخل إلى مجلس أو منزل إلا وتسمع فيه حديثا عن عالم من العلماء وإلى اليوم.
فقلت إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
فجئت إليكم أيها الأحبة مذكرا وناصحا ومبينا ومحذرا من عاقبة الحديث في لحوم العلماء.
وموضحا قدر الإمكان المنهج الصحيح لمعالجة هذه القضية وفق منهج أهل السنة والجماعة.
والموضوع طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار قدر الإمكان ولعلي أكتفي من القلادة بما أحاط بالعنق.
فلحوم العلماء مسمومة ورحم الله أبن عساكر حيث يقول:
(أعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب).
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
ألخص أسباب الحديث عن هذا الموضع بما يلي:
أولا أن مكانة العلماء في الإسلام مكانة عظيمة، فيجب تعظيمهم وإجلالهم.
ثانيا تساهل كثير من الناس في هذا الجانب.
ثالثا وقوع طلاب العلم في علمائهم من حيث لا يشعرون.
رابعا عدم فهم كثير من الدعاة للمنهج الصحيح في هذه القضية.
خامسا وأخيرا وهو مهم جدا الهجمة الشرسة المنظمة من المنافقين والعلمانيين على علماءنا تبعا لأسيادهم من اليهود والنصارى.
من أجل ذلك جئت أتحدث معكم أيها الأخوة، وأبين بعض هذه الأسباب فأقول:
النقطة الأولى مكانة العلماء وفضلهم يقول جل وعلا:
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
ويقول سبحانه:
(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
ويقول جل وعلا:
(وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم).
وأولو الأمر كما قال العلماء هم العلماء، وقال بعض المفسرين أولو الأمر الأمراء والعلماء.
ويقول جل وعلا:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير).
وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(من يرد الله به خيرا يفقه في الدين).
قال أبن المنير كما ذكر أبن حجر:
( من لم يفقه الله في الدين فلم يرد به خيرا).(/1)
وروى أبو الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
(فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة القدر، العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهم، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر).
وهو حديث حسن أخرجه أبو داوود والترمذي والدارمي.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة كما قال الإمام الشيخ عبد الرحمن أبن سعدي رحمه الله:
(أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة).
من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله ويتقربون إلى الله جل وعلا باحترام العلماء الهداة.
قال الحسن:
(كانوا يقولون موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار).
وقال الإمام الأوزاعي:
(الناس عندنا أهل العلم ومن سواهم فلا شيء).
وقال سفيان الثوري:
(لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة).
لو أن فقيها كان على رأس جبل وحده لكان هو الجماعة.
الناس من جهة التمثال أكفاء…… أبوهمُ أدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسب….... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ…… على الهدى لم استهدى أدلا
وقدر كل امرأ ما كان يحسنه…… والجاهلون لأهل العلم أعداء
أما تعظيم العلماء ووجوب تقديرهم واحترامهم، فاسمعوا إلى قوله تعالى:
(ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
ويقول جل وعلا:
(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
والشعيرة كما قال العلماء كل ما أذن وأشعر الله بفضله وتعظيمه، إذا العلماء قد أذن الله وأشعر الله بفضلهم وتعظيمهم:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير)
فتعظيمهم واجب:
(ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
قال أحد العلماء:
(أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم).
وفي صحيح البخاري عن أي هريرة رضي الله عنه، قال قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(قال الله عز وجل من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب).
أيها الأخوة كلنا ندرك أن من أكل الربى فقد آذنه الله بالحرب:
(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).
إن لم ينتهي آكل الربى عن أكله الربى فليأذن بحرب من الله ورسوله، كلنا يدرك هذه القضية.
ولكن هل نحن ندرك أيضا أن من آذى أولياء الله فقد حارب الله جل وعلا:
(قال الله عز وجل من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب).
روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي رحمهم الله أنهما قالا:
(إن لم تكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي).
قال الشافعي: (الفقهاء العاملون).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
(من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد آذى الله عز وجل).
إذا أيها المؤمن، أخي الكريم هل ندرك مكانة العلماء ؟
لعلنا من خلال النصوص التي ذكرتها وتحدثت عنها تبين لنا بعض ما يجب علينا في حق علمائنا، ولعلها مناسبة طيبة أن أنبه إلى خطورة اللسان لأننا تساهلنا في ألسنتنا.
فأذكر أولا فضل اللسان، أذكر أيها الأخوة امتنان الله عليكم بهذه الألسنة هذه الجارحة اليسيرة.
يقول جل وعلا عن موسى عليه السلام:
(واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي). ويقول (ولا ينطلق لساني).
ويقول عن أخيه هارون: (هو أفصح مني لسانا).
ويقول سبحانه وتعالى ممتنا على عبده:
(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين).
ومن أجل أن أوضح قيمة هذا اللسان، والفضل له، لنأخذ مثلا واحدا:
الذي نزعت منه هذه النعمة أو الأبكم، إذا أراد أن يعبر عن ما في نفسه، تتحرك يداه وشفتاه وعيناه ورأسه وجزء من جسمه ولا يستطيع أن يعبر عن ما في نفسه، وتبقى في نفسه حسرة.
وأنت أيها المؤمن بكلمات يسيرة معدودة تعبر عن ما في نفسك، أليست هذه نعمة؟
(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين).
والصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
إذا هل نحن نحافظ على هذا اللسان، أو نطلقه في علمائنا وفي عوام الناس.
استمعوا إلى خطورة ذلك:
يقول جل وعلا:
( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).
(فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد).
ولذلك جاء الأمر بحفظه والتحذير من تركه:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا).
(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي:
(وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث المتفق عليه:
(من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذية أضمن له الجنة).
عموم الناس وكثير من الناس وأخص الطيبين منهم لا يقع في ما بين فخذيه، أي يضمن ما بين فخذيه، وهذه نعمة من الله جل وعلا. أي يضمن الفرج وما حوله.
ولكن هل نحن نضمن ما بين لحيينا؟(/2)
هل يمر علينا يوم بدون أن نتحدث في عرض مسم أو في عرض عالم. ؟
(من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
ويقول (صلى الله عليه وسلم): استمعوا إلى هذا الحديث:
(إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
يصاب الفتى من عثرة في لسانه وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقائه الشجعان
الصمت زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
فإذا ندمت على سكوتك مرة فلتندمن على الكلام مرارا
قال حاتم الأصم:
(لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك لاحترزت منه، وكلامك يعرض على الله جل وعلا فلا تحترز).
هنا يتبادر سؤال:
هل لحوم العلماء فقط هي المسمومة؟
هل لحوم بقية الناس مباحة؟
يقول جل وعلا:
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا).
ويقول (صلى الله عليه وسلم) مبينا ذلك:
(كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه مسلم.
وقال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع:
(إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..ألا هل بلغت). متفق عليه.
فالغيبة أيها الأخوة محرمة، وغيبة العلماء من أشد أنواع الغيبة، يقول جل وعلا:
(ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم).
وقال (صلى الله عليه وسلم):
أتدرون ما الغيبة؟
قالوا الله ورسوله أعلم.
قال ذكرك أخاك بما يكره،
قيل افرأيت إن كان في أخي ما أقول.
قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). مسلم.
هذا إذا كان فيه ما يقول وهو من عموم الناس، كيف بالحديث عن العلماء بالحق وبالباطل؟
وفي سنن أبي داوود عن أنس رضي الله عنه قال قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(لما عرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أضفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).
كيف بالذي يقع في لحوم العلماء؟
واسمعوا إلى هذه الكلمة من ابن القيم رحمه الله، والله إنها كلمة تكتب بماء الذهب، لماذا؟
لأنها تنطبق على كثير من الناس الطيبين وكثير من طلاب العلم، اسمع إلى هذا الكلام القيم من ابن القيم قال:
( وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول).
وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، لو رأى أن شابا أو إنسانا نظر إلى امرأة لقال له حرام ولزجره، ولكن لسانه يفري في لحوم الناس عموما والعلماء خصوصا، ولا يبالي بما يقول.
بعد هذه المقدمات أيها الأخوة وهي جزء من الموضوع، ندخل في صلب الموضوع في الحديث عن لحوم العلماء.
********
النقطة الثانية ما هي الأسباب التي تجعل الناس يتحدثون عن في لحوم العلماء؟
استمعوا إلى هذه الأسباب:
السبب الأول الغَيرَة والغِيرة.
الغَيرَة محمودة فهي من الغيرَة على دين الله جل وعلا، ولكن قد يكون الباعث للحديث غيرَة ولكنها ينجر شيئا فشيئاً حتى يقع هذا الذي غار على دين الله في لحوم العلماء من حيث لا يشعر.
وهناك مزيد بيان لهذه القضية.
أما الغِيرَة فهي مذمومة وهي قرينة الحسد، قال سعيد ابن جبير رحمه الله:
(استمعوا لعلم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده الهم أشد تغايرا من التيوس في زرابها).
كلام العلماء بعضهم في بعض من الأقران، يقول الإمام سعيد ابن جبير انهم أشد تغايرا من التيوس في زرابها. ألستم ترون التيوس كيف ينطح بعضها بعضا ويؤذي بعضها بعضا.
فيقول خذوا من كلام العلماء واستفيدوا من علمهم ولا تصدقوا كلام بعض على بعض من الأقران.
ولذلك قال الذهبي:
(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لاسيما إذا كان لحسد أو مذهب أو هوى، والحسد يعمي ويصم ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعضهم على بعض ويطعن بعضهم في بعض من أجل القرب من سلطان أو الحصول على جاه أو مال).
أيها الأخوة، الحسد، الغيرة، التنافس من أسباب الحديث في لحوم العلماء.
السبب الثاني الهوى:
قال الله جل وعلا: ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
وقال: ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
وقال شيخ الإسلام:
(صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه).
وكان السلف يقولون:
(احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه).
الهوى خطير وبعض الذين يتكلمون في لحوم العلماء لم يتجردوا لله جل وعلا، بل دفعهم الهوى لهذا الأمر.
السبب الثالث التقليد:(/3)
(إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون).
وأبين أن التقليد ليس مذموما بعمومه، وقد فصل العلماء في قضية التقليد ولكنني أحذر من التقليد الذي يؤدي إلى الحديث في لحوم العلماء.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
(ألا لا يقلدنا أحدكم دينه رجلا إن آمنَ آمن وإن كفرَ كفر فإنه لا أسوة في الشر).
وقال أبو حنيفة:
( لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت).
وقال أحمد:
( من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال).
التقليد يؤدي أيها الأخوة إلى الحديث في لحوم العلماء، تقليد لفلان.
أحيانا تستمع إلى بعض الناس يتكلم في عرض عالم، تقول له هل استمعت إلى هذا العالم؟
قال لا والله. من قال لك؟ قال فلان. فهذا تقليد.
وأخطر منه السبب الرابع وهو التعصب:
ولي وقفة مع موضوع التعصب لحساسيته وعلاقته بهذا الموضوع.
قال أبو حامد الغزالي:
(وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق).
ومن أشد أنوع التعصب الحزبية.
الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد.
ومن خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في لحوم العلماء خاصة من الدعاة وطلاب العلم، من أبرز الأسباب التعصب وسبب التعصب هو الحزبية.
هذه الحزبية الضيقة، هذه الحزبية التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب، فأقول إن الحزبية أيها الأخوة أودت بالكثير للحديث في لحوم العلماء.
وهل أنا إلا من غزية إن غوت… غويت إن ترشد غزيت أرشد
إذا ضل من يتعصب له ضل معهم، وإن اهتدوا اهتدى معهم.
إن قال هؤلاء في عالم كلاما أخذ به، وإن رفعوا الحجاب عنه رفع معهم.
أحبتي الكرام تأملوا في خطورة هذه القضية، سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء، في الأيام القريبة الماضية، وفجأة تغير موقف هؤلاء الطلاب، فسألت:
فقالوا أنهم سمعوا أن فلاناً من العلماء يثني على هذا العالم فأثنوا عليه.
ما الذي تغير ؟ لماذا كنتم تقدحون به منذ أيام والآن أصبحتم تمدحونه.
اسمحوا لي أن أقول بكل مرارة أن بعض طلاب العلم وبعض الدعاة قد سلموا عقولهم لغيرهم.
قلدوا في دينهم الرجال كما قال الإمام أحمد.
قلدوا في دينهم الرجال، إن اخطئوا أخطئوا معهم وإن أصابوا أصَابوا معهم.
التعصب لمذهب أو جماعة أو بلد أو قبيلة خطير جدا،من الملاحظ أن هناك من ينتصر لعلماء بلده ويقدح في العلماء الآخرين.
لا.. أيها الأحباب كيف نقدح في لحوم العلماء حتى لو كانوا من بلاد أخرى فبلاد المسلمين بلاد واحدة.
هذا التعصب والفتنة التي نعيش فيها هذه الأيام أفرزت أمورا خطيرة يجب أن يقف أمامها الدعاة وطلاب العلم، كل أهل بلد تعصبوا لعلمائهم:
أهل الشرق تعصبوا لعلماء الشرق.
وأهل الغرب تعصبوا لعلماء الغرب.
وأهل الوسط تعصبوا لعلماء الوسط.
ليس هذا هو المنهج الصحيح، نحن لا نعرف الحق بالرجال وإنما نعرف الرجال بالحق.
نأخذ بالحق مهما كان قائله.
أيها الأخوة هذه مسألة خطيرة، التعصب، الحزبية الضيقة هي التي أودت بنا إلى كثير من المهالك، فالله اللهَ أيها الأخوة انتبهوا لهذا السبب فهو سبب خطير.
السبب الخامس التعالم:
حيث يتكلم في عرض العالم ليفند قوله تقوية لقوله الضعيف، وما أكثر المتعالمين في عصرنا.
التعالم سبب من أسباب الحديث في لحوم العلماء.
السبب السادس النفاق وكره الحق:
سبب من أسباب الحديث في لحوم العلماء:
(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا).
(وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون).
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)
فالمنافقون والعلمانيون في عصرنا من أسباب الحديث في لحوم العلماء والمؤسف أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء المنافقين من القوميين والحداثيين وأمثالهم يتحدث في لحوم العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يدري، ووافقه على ما يقول حتى رُد عليه في مجلسه.
الآن العلمانيون يتحدثون في علمائنا كلاما ننزه أسماعكم عن سماعة، فالنفاق وكره الحق من الأسباب الرئيسة في الحديث عن لحوم العلماء.
السبب السابع تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها:
أدرك العلمانيون أخزاهم الله أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة والعلماء لهم هيئة وشأن، فماذا يفعلون ؟
بدئوا في النيل من العلماء، بدئوا في تحطيم صورة العلماء، بدئوا في الغمز واللمز.
من أجل ماذا؟ من أجل تمرير مخططات الأعداء، لا أقول لكم هذا من فراغ.
لقد استمعت إلى بعض هؤلاء فيما نقل لي عن طريق الثقاة، قالوا في العلماء كلاما والله لا يقبله عاقل فضلا عن طالب علم، لا يقبله عامي من عوام المسلمين في علمائهم.
ماذا يريد هؤلاء؟ يريدون أن يحطموا صورة العلماء.
ولي وقفة بعد قليل مع هذه القضية مبينا وموضحا ومنبها.
********
النقطة الثالثة الآثار المترتبة على الحديث في العلماء؟:(/4)
إذا تحدثنا في علمائنا وأكلنا لحوم العلماء وأصبح الديدن في مجالسنا أن نتحدث في علمائنا ماذا يحدث؟ انظروا ماذا يحدث:
أولا إن جرح العالم سيكون سببا في رد ما يقوله من الحق.
جرح العالم ليس جرحا شخصيا، أنت عندما تجرح رجلا من عموم الناس فإنك تقدح في عرضه فقط، أما جرح العالم فليس جرح شخصيا إنما يكون سببا لرد ما يقوله من الحق.
ولذلك انتبه المشركون إلى هذه القضية فماذا فعلوا؟
ما طعنوا في الإسلام أولا…لا، ركزوا في الطعن على شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، على الشخص الطاهر، لماذا ؟ لأنهم يعلمون علم اليقين أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أذهان الناس فلن يقبل ما يقوله من الحق، ولكنهم باءوا بالخسران والحمد لله.
سؤال يا أحباب:
لماذا قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان هو الأمين، كان هو الصادق، هو الحكم، هو الثقة، ما الذي تغير؟
عندما جاء بهذا الدين أصبح ساحر، كاهن، كذاب، مجنون.
إذا هم لا يقصدون شخص محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب، هم يقصدون شخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لماذا ؟ لأنهم يعلمون أنهم إذا استطاعوا أن يؤثروا في أذهان الناس عن شخصية الرسول فلن يقبل ما معه، ولكنهم باءوا وخسروا.
هذا هو أسلوب المنافقين الآن، هذا هو أسلوب العلمانيين الآن.
فلذلك جرح العالم ليس جرحا شخصيا.
ثانيا أن جرح العالم جرح للعلم الذي معه وهو ميراث النبي (صلى الله عليه وسلم).
لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، فجرح العالم جدر لأرث النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا معنى قول أبن عباس أن من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا.
إذا من يجرح في العالم يجرح العلم الذي معه، ومن جرح هذا العلم جرح أرث الرسول (صلى الله عليه وسلم)،إذا هو يطعن بالإسلام من حيث لا يشعر.
ثالثا أن جرح العلماء سيؤدي إلى إبعاد طلاب العلم عن علماء الأمة وسلفها.
رابعا أن تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة، وذهاب لهيبتهم وريحهم .
وهذا ما يسر أعداء الله ويفرحهم، يقول أحد الزعماء الهالكين في دولة عربية بعد أن سلط إعلامه على العلماء واستهتر بالعلماء واستهزأ بالعلماء، ماذا قال في النهاية؟ قال:
(عالم..شيخ.. أعطه فرختين يفتي لك بالفتوى التي تريد). أخزاه الله.
سقطت قيمة العلماء في نظر العامة، والله إن خطورة هذا الأمر شأن عظيم.
ذهبت إلى بعض الدول الإسلامية وسألت عن العلماء فما وجدت علماء، أصبح العامة لا ينظرون للعلماء، لا يأبهون بالعلماء، لماذا ؟
لأن العلمنة سلطت أقلامها عليهم ومن هنا استمعوا إلى الأثر الخطير الذي قلت لكم أنني سأقف معه.
رابعا تمرير مخططات الأعداء.
من الآثار العظيمة والخطيرة في توجيه السهام إلى العلماء تمرير مخططات الأعداء.. كيف؟
ما فيه داعي للنظريات يا أحباب، اسمعوا إلى قضايا واقعية.
الحديث في رجال الحسبة الآن وهم من طلاب العلم كثُر، أصبحت أعراض رجال الحسبة مستباحة، ولم يقتصر هذا الأمر على عموم الناس وعلى المنافقين والعلمانيين، بل وقع فيه بعض طلاب العلم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
تجلس في بعض المجالس فتسمع أخطأت الهيئات، أخطأ رجال الهيئات، فعل رجال الهيئات.
سبحان الله! ما يخطئ إلا رجال الهيئات!
لماذا لا نتكلم عن أخطاء غيرهم ؟
اطلعت بالأمس على فتوى لسماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله:
مجموعة من طلاب العلم اشتكوا أحد المسؤولين، ومن خلال الفتوى أو الرسالة التي قرأتها لشيخنا محمد ابن إبراهيم يبدوا أنهم زادوا في الشكوى.
أتعلمون ماذا حدث؟ أهينوا وسجنوا ، هذا في زمن الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله.
فكتب الشيخ رسالة ينبه إلى خطورة التعرض لطلاب العلم.
ولكني أسألكم هل رأيتم أحدا سجن عندما تكلم في أعراض رجال الحسبة ورجال الهيئات؟
جاءني بعض شباب الهيئات يقولون، تطاول الرجال والنساء علينا ولا نجد من يحمينا فنحن المتهمون دائما…ما المقصود؟
المقصود هو القضاء على الهيئات وتحطيم الهيئات.
حتى أصبحنا مع كل أسف نسمع من بعض طلاب العلم، وليسو طلاب علم ولكن المحسوبين على الدعاة أو المحسوبين على طلاب العلم أو المحسوبين على الشباب الصالحين يطالبون ويتكلمون في أعراض الهيئات وأنها تتجاوز وأنها..وأنها.
غيرهم ما يتجاوز! غيرهم ملائكة ! غيرهم رسل!
من يستطيع يتحدث في غيرهم؟ يقطع لسانه.
أما الهيئات، أما رجال الحسبة فهم المتهمون، رجل الحسبة متهم حتى يثبت براءته.
هذا لغرض يا أحباب، لا نكون أغبياء، لا نكون مغفلين.
القضاة، أسمع الحديث عن لحوم القضاة، طلاب علم وعلماء.
القاضي الفلاني فيه كذا، القاضي الفلاني فعل كذا، القاضي الفلاني اشترى أرض، القاضي الفلاني اشترى سيارة، القاضي الفلاني يؤخر المعاملة.
سبحان الله يا إخوان!
ما يخطئ إلا القضاة، لماذا نتحدث عن أخص ما في بيوت قضاتنا؟(/5)
ما دخلنا عن ما في بيوتهم؟ لكن قضايا مقصودة لتحطيم القضاء الشرعي.
سبحان الله! ماذا يقصد بهذا الكلام؟ أتدرون ماذا كانت النتيجة؟
قال بعضهم نحن لسنا بحاجة إلى القضاة وتعقيدات القضاة والمحاكم، القانون الفرنسي أرحم لنا من هؤلاء.
ويا أحباب حتى لا تتصوروا أني أتكلم من فراغ، هناك من يطالب بالقانون الفرنسي، وكاد أن يتحقق لهم الأمر.
أذكر لكم مثالا، نظام المرافعات الذي الغي، والحمد لله أنه الغي، ويشكر من كان سببا في إلغائه، نشكر كل من كان سببا في إلغاء هذا النظام.
أتدرون ما هو نظام المرافعات الذي كان على وشك التطبيق؟ مأخوذ من النظام المصري حرفا بحرف، والنظام المصري مأخوذ من النظام الفرنسي.
لا تتصورون الأمر صعب.. ولكن الحمد لله تدارك العلماء الأمر واستجاب المسؤولون لهذا الأمر، ونسأل الله أن يستجيبوا لبقية الأشياء الأخرى التي تخالف شريعتنا. نسأل الله ونقول لهم هذا ما يجب على العلماء أن يوضحوا.
أما الحديث عن الدعاة فحدث ولا حرج، الحديث عن الدعاة، عن المتطرفين، عن.. عن.. خذ الألقاب التي جاءتنا لم نعرفها أبدا.
إذا باختصار من آثر الكلام في لحوم العلماء وطلاب العلم تمرير مخططات الأعداء فانتبهوا لهذا الأمر.
********
النقطة الرابعة المنهج الصحيح في معالجة هذه القضية:
أحبتي الكرام سيسأل بعضكم ويقول هل أنت تريد منا أن نقدس العلماء؟
ماذا نفعل أمام أخطاء العلماء؟
أليس العلماء يخطئون؟ نعم أنا قلت أنهم يخطئون.
طّيب.. ما دمت تقول أنهم يخطئون ماذا نفعل؟
إذا استمعوا إلى المنهج الصحيح في معالجة هذه القضية، باختصار كيف نجمع بين احترام علمائنا وتقديرهم ومكانتهم وبين بيان الحق؟
واقسم هذا الموضوع إلى ثلاث نقاط:
1/ أول ما يجب في هذه القضية على العلماء أن يحموا أنفسهم.
كيف العلماء يحموا أنفسهم؟ كل واحد يكون معه جنديين أو ثلاثة!!؟
كيف يحمي العلماء أنفسهم؟
(على رسلكما إنه صفية).
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمى نفسه، مع من؟ أمام الصحابة، حتى استغربوا، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أن الشيطان يجري من ابن أدم مجرى الدم.
(على رسلكما إنها صفية)، فدافع عن عرضه (صلى الله عليه وسلم) أمام الصحابة.
(رحم الله امرأ دفع الغيبة عن نفسه).
كيف يحمي العلماء أنفسهم؟
إذا المسؤولية الأولى على العلماء أنفسهم أن يحموا أنفسهم.. كيف ؟ يحمون أنفسهم بما يلي:
* أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله.
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
* على العالم أن يتثبت في الفتوى ويستكمل شروطها.
إذا طُلبت منه فتوى ينظر لماذا هذه الفتوى، ما هي آثار هذه الفتوى، ماذا يراد بهذه الفتوى.
على العالم أن يتثبت، ويستكمل شروط الفتوى، وذلك بفقه الأصول وفقه الفروع وفقه الواقع.
وإلا فلا يلومن إلا نفسه، إن تعرض له الناس.
ونحن لا نبرأ الناس من كلامهم في العلماء، لكنه كان سببا في الحديث في العلماء، عليه أن يتثبت ولا يتعجل، لا يكتفي بأنه قيل له كذا وكذا ثم يفتي، لا.
عليه أن يتأكد، يسأل ويتثبت عن ماذا يراد بهذه الفتوى؟
هل يراد بها استغلال أو غيره. عليه أن يتثبت في الفتوى.
* أن يحذر العالم من الاستدراج، والغفلة والتدليس.
فهناك من يستدرج العلماء، هناك من يستغفل العلماء، هناك من يلبّس على العلماء، فعلى العلماء أن يكونوا كما قال عمر وهو من أئمة العلماء رضي الله عنه :(لست بالخب ولا الخب يخدعني)، يقول أنا ما أخادع ولكن لا أحد يخدعني، رضي الله عنه.
نعم لا يُخدع العالم، فينتبهوا إلى أن هناك من يريد أن يدلس عليهم، من يريد أن يهون لهم الأمور، من يقول: لا… المراد بهذه الفتوى فقط كذا مسألة بسيطة. ثم تستغل الفتوى لغرض في النفس.
* على العالم أن يكون جريئا في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
نحن نطالب ونطلب من علمائنا أن تكون لهم جرأة كأسلافنا رضي الله عنهم.
كجرأة أبس سعيد الخدري عندما وقف أمام مروان أبن الحكم عندما أراد أن يقدم الخطبة على الصلاة، فقال له
( يا مروان الصلاة قبل الخطبة يوم العيد، فسحبه من ثوبه قال مروان قد ترك ما هنالك).
فأنكر عليه علانية ولم يقل نكتب له ورقة ونصيحة سرية بيننا وبينه بعد. لا
أمام العلم، الصلاة قبل الخطبة يا مروان.
كالعز أبن عبد السلام سلطان العلماء، وقد ذكرت في محاضرة سابقة قصة سلطان العلماء، وأعيدها مرة أخرى لتعرفوا كيف يكون العلماء، وكيف يحمي العلماء أنفسهم.
كان الملك السلطان الصالح أيوب ملكا وواليا لدمشق وللشام عموما، وبسبب خلاف بينه وبين أبناء عمه تنازل للنصارى عن بعض الحصون.
ماذا فعل العز أبن عبد السلام في هذه القضية عندما تنازل الملك الصالح للنصارى عن بعض الحصون؟
قام على المنبر وخطب في جامع بني أمية ولم يدعو للملك الصالح إنما قال:
(اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا يعز في أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ونزل من على المنبر).(/6)
مجرد الدعاء للسلطان لم يدعو له.. ما يستحق.
ثم جاء الناس يستفتونه أن النصارى بدءوا يشترون السلاح من دمشق، فهل نعطيهم السلاح؟
قال ما يجوز أن تبيعوا عليهم السلاح.
ماذا فعل السلطان سجنه، ونحن نستغرب أحيانا يا أخوان أن يسجن عالم، طبيعي أن يسجن عالم.
سجن الإمام أحمد أبن حنبل، سجن العز أبن عبد السلام، وسجن أبن تيمية.
(ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون).
فلما سجنه، توقع أنه يعتذر وأن يطلب أن يسامحه، ولم يعتذر العز أبن عبد السلام.
فأرسل السلطان إليه أحد أعوانه وما أكثرهم، وقال له:
يا شيخ سوف أشفع لك عند السلطان أن يخرجك، فقط نريد منك شيئا واحدا أن تذهب معي إلى السلطان لتعتذر له وتقّبل رأسه.
طلب بسيط…ماذا قال العز أبن عبد السلام؟
قل دعك عني.. والله لو طلب مني السلطان أن يقبل يدي ما سمحت له أن يقبل يدي.
عافني الله مما ابتلاكم به يا قوم.. أنتم في واد وأنا في واد.
رفض.. توقيع، تعهد بسيط فتخرج وتعاد إلى الخطبة.
لا.. العالم لا يمكن أن يكون ذليلا في يوم من الأيام، لا يمكن أن يكون العالم ذليلا أمام فاسق، أو أمام ظالم يطلب منه هذا الشيء.
الآن عندنا سلطانيين، السلطان الحقيقي العز أبن عبد السلام، والسلطان الرسمي الملك الصالح أيوب.
السلطان ذهب لمقابلة النصارى، فخاف أن يخرج سلطان العلماء بالقوة.
فما كان من الملك الصالح إلا أن أخذ العز ابن عبد السلام معه وسجنه في خيمة، وجلس الملك الصالح أيوب مع النصارى، وبينما هو جالس معهم بدأ العز أبن عبد السلام يقرأ القرآن.
فسمعه الملك الصالح، أتدرون ماذا قال ؟
قال الملك الصالح النصارى تستمعون إلى الذي يقرأ.
قالوا نعم نستمع، قال تعرفون من هو؟ قالوا لا، لا نعرفه.
قال هذا من أكبر قساوستنا وسجنته، جاء بلغتهم مع أكبر أسف ولم يقل أكبر علمائنا.
أتدرون لماذا سجنته؟ قالوا لا.
قال إنه أفتى بعدم جواز بيع السلاح إليكم فسجنته من أجلكم.
يا للحسرة، ماذا قال النصارى؟
قالوا والله لو كان هذا قسيسا لنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
هذا الرجل الذي يقف هذا الموقف الشجاع أمام أعدائه والله يستحق من يغسل رجليه ويشرب المرقه.
فخجل السلطان وأطرق وأمر بإطلاق العز أبن عبد السلام.
العالم يجب أن يكون صاحب مواقف شجاعة يا أخوان.
الخضر الحسين شيخ الأزهر، عندما كانت للأزهر مكانة وقوة.
عندما تولى محمد نجيب الثورة في مصر، قام وقال:
سنساوي الرجل بالمرأة.
فما الذي حدث؟ ما الذي حدث؟
اتصل به الخضر حسين وقال له:
أسمع إما أن ترجع عن قولك وإلا سوف أنزل غدا وأنا لابس كفني ومعي جميع الأزهريين إلى الشوارع فإما الحياة وإما الموت.
فجاءه محمد نجيب وجاءته الوزارة يقولون:
يا شيخنا، يا إمامنا نحن نعتذر لك الآن والكلام كان خطأ.
قال لا.. لا تعتذروا لي بل اعتذروا أمام العامة.
قالوا صعب أن نعتذر أمام العامة.
قال لا يوجد خيار إما أن تعتذر أنت يا محمد نجيب أمام الناس وإلا سأنزل للشارع وأنا لابس كفني.
فخرج من الغد محمد نجيب وقال الصحافة كذبت علي، أنا لم أقل شيئا.
هكذا يكون العالم.. إذا السلطان الحقيقي هو العالم.
بهذا نحمي أنفسنا أيها الأخوة وهو الأسلوب الأول لحماية أعراض العلماء.
2/ ما هو الواجب علينا اتجاه علمائنا ؟
الواجب علينا اتجاه علمائنا ما يلي:
* أن نحفظ للعلماء مكانتهم ودورهم في قيادة الأمة وأن نتأدب معهم.
انظروا إلى آداب طالب العلم كما قال السلف:
يقول العراقي:
(لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء).
وقال أبن الشافعي:
(ما سمعت أب ناظر أحدا قط فرفع صوته).
وقال يحيى أبن معين:
(الذي يحدث في البلد وفيها من أولى منه بالتحديث فهو أحمق).
وقال الصعلوكي:
(من قال لشيخه لما؟ على سبيل الاستهزاء لم يفلح أبدا).
وتأدب أبن عباس مع عمر رضي الله عنهما حيث مكن سنة يريد أن يسأله عن مسألة من مسائل العلم فلم يفعل.
وقال طاووس ابن كيسان:
( من السنة أن يوقر العالم).
وقال الزهري:
(كان سلمةَ يماري أبن عباس فحرم بذلك علما كثيرا).
وقال البخاري:
( ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى ابن معين).
وقال المغيرة:
(كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير).
وقال عطاء ابن أبي رباح:
(إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعه أبدا وقد سمعته قبل أن يولد).
قال الشافعي:
( ما ناظرت أحدا قط إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه).
وذكر أحد العلماء.. يا شباب استمعوا إلى هذه القصة:
(ذُكر أحد العلماء عند الإمام أحمد أبن حنبل وكان متكئاً من علة أي مريض فاستوى جالسا وقال لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ )
وقال الجزري:
(ما خاصم ورع قط).
الأدب مع العلماء.
* أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصمه الله وهم الأنبياء والملائكة.
ما فيه أحد معصوم يا أخوان، ما فيه أحد ما يخطئ.
قال الإمام سفيان الثوري:
(ليس يكاد يفلت من الغلط أحد).(/7)
وقال الإمام أحمد:
(ومن يعرى من الخطأ والتصحيح).
وقال الترمذي:
(لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم).
وقال ابن حبان:
( وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك تُرك حديث الزهري، وجريج، والزهري، وشعبة لأنهم أهل حفظ وإتقان ولم يكونوا معصومين حتى لا يهنوا في رواياتهم).
إذا لماذا نحن يا إخوان نتلمس أخطاء العلماء؟ لماذا..؟ ما أحد يسلم من الخطأ.
* أن الخلاف منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة.
نعم الخلاف منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة سيبقى الخلاف
(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
فطبيعي وجود قضية الخلاف يا إخوان.
* أن نفوت الفرصة على الأعداء وأن ننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم وندافع عن علمائنا.
* أن نحمل علمائنا على المحمل الحسن، ولا نسيء الظن فيهم حتى ولو لم نأخذ بأقوالهم.
وأريد أن أوضح يا إخوان أننا لسنا ملزمين بأخذ كل أقول العلماء.. لا.
يا أحباب هناك فرق كبير بين أن نأخذ بقول عالم وبفتوى العالم، وبين التجريح في شخصه.
نحن لسنا ملزمين أن نأخذ بفتوى العالم إذا كان هناك دليل يخالفها، الشافعي وغير الشافعي يقول:
(إذا صح الحديث فهو مذهبي).
لسنا ملزمين، ولكن هل يعني أنه إذا لم نأخذ بقوله أن نجرحه ونتكلم في عرضه؟ لا.
قال عمر رضي الله عنه:
(لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوء وأنت تجد لها في الخير محمل).
* أن ننتبه إلى أخطائنا وعيوبنا، وننشغل بها عن عيوب الناس عامة وأخطاء العلماء خاصة.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه في كل نفس عماها عن مساويها
عرفنها بعيوب الناس تبصرها منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
أقول لمن يتحدث في أعراض العلماء وينسى نفسه :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل، قد يقصر العالم، ولكن هل يعني أنه إذا قصر نترك علمه وعمله.
أعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
تقصيري علي، وهذا ما يجب علينا اتجاه علمائنا.
3/ وهي مهمة جدا كيف نبين الحق دون أن نقع في علمائنا؟
وهذا بيت القصيد، إذا أخطأ العالم فكيف نستطيع أن نبين خطأ العالم دون أن نقع في عرضه؟
لأنه اختلط الأمر على الناس، فإما السكوت حتى على الخطأ، أو النيل من العلماء.
فاللبس الموجود الآن أنه إذا قام أحد العلماء أو أحد طلاب العلم وبين الحق بدليله قالوا:
قف أنت تحدثت بأعراض العلماء، أنت تنتقص العلماء، أنت تحدث فتنة بين العلماء.
والجانب الآخر أنه كلما تحدث العلماء بكلمة بدأ الطعن فيهم، العلماء فيهم، والعلماء فيهم، والعلماء فيهم.. لا يا إخوان.
إذا ما هو المنهج الذي نجمع فيه بين بيان الحق وعدم الالتزام بالفتوى إلا إذا كانت وفق الدليل دون أن نقع في أعراض علمائنا؟
يتحقق ذلك وفق النقاط التالية:
* التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء، فقد تشاع أقول لإغراض لا تخفى.
ليس كل ما ينسب إلى العلماء صحيح، أولا يجب أن نتثبت هل ما قاله العالم صحيح أو غير صحيح، وكم استمعنا لأقوال نسبت إلى كبار علمائنا، ولما ذهبنا إليهم قالوا والله كذب ما قلنا شيء.
تجد بعض الناس في المجلس: الشيخ فلان قال، الله يهديه وفيه وفيهِ وفيه.
ماذا قال؟ قال كذا، تذهب وتسأل العلم يقول والله ما قلت شيء.
فأولا يجب التثبت هل العالم قال أو ما قال.
* أن هناك فرق عظيم جدا بين رد الأقوال ومناقشتها والصدع بالحق، والطعن في العلماء.
فرق كبير جدا، فرق بين عدم الأخذ بالقول وعدم الأخذ بالفتوى والرد على الفتوى وبين الطعن في العلماء، فرق كبير جدا.
يجوز لنا أن نبين الحق.
يجوز لنا أن لا نأخذ بالفتوى إن لم توافق الدليل.
ولكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.
* أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله جل وعلا.
الإخلاص يا إخوان، أن يقصد وجه الله جل وعلا والدار الآخرة، وأن يحذر من الأغراض العارضة كالهوى والتشفي وحب الظهور.
إذا اضطر أحدنا لقول كلمة الحق ومواجهة العلماء فليتقي الله جل وعلا:
(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).
أن يخلص لله حتى يقبل منه، وينتبه أنه أحيانا قد يكون رده فعلا لله، لكن يدخل أعرض بعد ذلك كحب الظهور، فرصة أن فلان يرد على العلماء، يأتيه الشيطان، فليحذر من هذه الأعراض.
التشفي، بعض الناس إذا سمع أن أحد العلماء أخطأ سارع بنشر هذا الخطأ، ل.
فلننتبه للأخطاء العارضة، فعلى من يتولى الرد على العلماء أو على أقوال العلماء بعبارة أدق أن يكون مخلصا لله جل وعلا.
* الإنصاف والعدل.
يا إخوان اعدلوا مع علمائكم، يجب الإنصاف مع العلماء، ابن تيمية رحمه الله يقول:
(أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض).(/8)
يعني الآن إما نأخذ كل ما قاله العلم أو نرد كل ما قاله ؟؟؟ إما أنه أسود أو أبيض.
أين الإنصاف ؟
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
ويتضمن ذلك الثناء على العالم بما هو أهل له.
أيضا عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه.
إذا وقع أحد العلماء في خطأ وأردت أن تبين خطأ العالم، ليست فرصه أن تتناول عرضه في كل شيء، وترجع تبحث عن تاريخه كله من ولد حتى توفي.
لا تتجاوز النقطة التي أردت، وإذا أراد أحد أن يسحبك إلى هذا فقل أتق الله.
لا تتجاوز، عدم التجاوز في بيان الحق، لأن الإنسان إذا انطلقَ انطلق.
العدل والإنصاف والثناء عليه بما هو أهل له.
* أن نسلك مسلك رجال الحديث في تقويم الرجال.
إذا أردنا أن نقوم العلماء، أن نتحدث في العلماء أن نسلك مسلك أهل الحديث، ومسلك أهل الحديث فسره العلماء، وأدلكم على رسالة جميلة مختصرة صغيرة في حجمها كبيرة في قيمتها تبين لكم هذا المنهج لأن الوقت الآن لا يتسع لشرحه، وهي رسالة بعنوان:
منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم/ للشيخ أحمد الصويان.
هذه الرسالة مطبوعة حديثة وموجودة في المكتبات وتعالج منهج أهل السنة والجماعة في تقويم العلماء ومؤلفاتهم.
إذا علينا أن نسلك منهج أهل الحديث.
* أن نعلم أن الخطأ على نوعين.
خطأ في الفروع وخطأ في الأصول، أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية يجوز فيها الخلاف ولا تبرر الحديث في لحوم العلماء، ونبين خطأ العالم في هذه المسألة دون التعرض لشخصه.
دون أن تعرض لشخصه، إنما نقول أخطأ. خالفه الصواب ولكن لا نتعرض لشخصه وهذا في المسائل الاجتهادية في الفروع.
أما مسائل الأصول وهي العقيدة، فيبين القول الصحيح ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته دون إفراط ولا تفريط.
يقول شيخ الإسلام كما أسلفنا:
( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض).
الله أكبر، أهل السنة أعدل مع المبتدعة أعدل من المبتدعة بعضهم مع بعض، لأن المبتدعة أكل في لحوم بعضهم البعض، أما أهل السنة فلا، ينصفون حتى مع الكفار.
إذا كيف بمن أخطأ، إذا كان الخطأ في بدعة فيحذر من البدعة، ويحذر من المبتدعة، ويحذر من الداعي إلى بدعته، ويبين خطورة هذا الأمر، لكن إياك أن تتعرض لشخصه.
استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة ومحزنة، أحد الدعاة إلى الله المجاهدين في أفغانستان اتهمه بعض الناس في أخطاء في العقيدة، ويا ليتهم اقتصروا على بيان أخطائه في العقيدة.
والله يا إخوان بدءوا يذكرون قصص له في داخل بيته عن بنته وعن زوجته وعن أولاده.
أيجوز هذا يا إخوان؟ ألا نتقي الله جل وعلا. وهذا موجود في شريط..
يا أخي إذا كنت صادقا تريد أن تبين أن هذا العالم أو أن هذا المجاهد وهو عالم مجاهد رحمه الله وقع في أخطاء، نحن لا نحجر عليك أن تبين الخطأ، لكن ما دخل ابنته وزوجته وأولاده؟
لماذا التعرض للعلماء بهذا الشكل؟ لماذا؟ لماذا؟
لا نقول لا تقولوا كلمة الحق، قولوا كلمة الحق، بل نحن نقول لا تسكتوا عن كلمة الحق، لكن لا يجوز أن يكون بهذا الأسلوب يا إخوان.
التعرض لأشخاصهم والطعن فيهم، أسرارهم البيتية والله نشرت.
أيجوز هذا ؟ هل هذا من منهج أهل السنة؟ هل هذا من منهج السلف؟
إذا هذا هو المنهج.
* أخيرا إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ.
لعله أن يرجع عن خطئه سواء كان في الفروع أو الأصول، أقول إذا أمكن، لعله أن يرجع.
أليس قصدك الحق؟ ألست تريد بيان الحق؟
يا أخي دعه هو يرجع، أحسن لك وأحسن للحق، دعه يخرج على الملأ ويقول يا إخوان أنا تراجعت عن قولي، هذا أفضل من أن ترد عليه.
لأنك إذا رددت عليه قد يقتنع نصف الناس، ولكن إذا رجع هو سيقتنع كل الناس الذين أخذوا بفتواه، لكن بعض الناس يقول لا.. بسرعة سأرد عليه قبل أن يرجع.
إذا أخطأ عالم وجدت من يقول بسرعة أرد عليه قبل أن يرجع، نعم ما يجوز هذا.
إذا أمكن الاتصال فيه ومناصحته وتخويفه بالله، يرجع هو إلى الحق.
ألست تريد الحق؟ دعه يرجع.
هذا ما نريده، وقد تناظر اثنان من العلماء في مسألة من المسائل، كل واحد قال قولا وخطئه الآخر، فاجتمعوا يتناظرون وقالوا ليس هناك داع أن نذهب نتخطى أما العامة، تعالوا نتناظر.
ما الذي حدث ؟
عندما انتهت المناظرة كل واحد أخذ بقول الثاني، ورجعوا بقولين آخرين يحتاجون إلى مناظرة ثانية لأنهم يردون الحق، فلما بين الأول أدلته قال الآخر كلامك صحيح، ولما بين الثاني أدلته قال الأول كلامك صحيح، فرجعوا بقولين، لأن رائدهم الحق.
ألا نسلك هذا المنهج ؟؟
********
النقطة الخامسة أمور لابد من بيانها:
1/ أننا لا ندعو إلى تقديس الأشخاص والتغاضي عن الأخطاء أو السكوت عن الحق.
والخلط في ذلك، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.
لا أدعو في محاضرتي إلى تقديس العلماء، لا أدعو إلى أنه لا يجوز أبدا أن نتحدث عن العلماء في أخطائهم، من فهم هذا فقد أخطأ.(/9)
لكن بينت لكم المنهج والفرق بين الحديث عن العلماء وأعرض العلماء وبين بيان كلمة الحق بالأسلوب الذي بينت.
2/ مسألة مهمة جدا حدثت في الأيام الماضية، ما هي ؟
دعوى الإجماع، وهذه جاءتني أسئلة كثيرة حولها:
فلان يخالف الإجماع إجماع العلماء.
من هو فلان يخالف إجماع العلماء، هذا يحدث فتنة.
يا إخوان الإجماع ليس بالأمر البسيط، هناك فرق كبير بين الإجماع والاجتماع.
الإجماع كما بينه العلماء أن يجمع علماء الأمة المعتبرون على مسألة من المسائل ولو خالف واحد لم ينعقد الإجماع.
يجتمع خمسمائة، ستمائة ونقول هذا إجماع الأئمة، من قال أن هذا إجماع الأمة؟
فرق بين الإجماع والاجتماع، ولذلك انتبهوا، ارجعوا إلى أصول الفقه، ونقرأ ما في أصول الفقه حتى لا نأخذ الأمور خطئ.
الإجماع له شروط، الإجماع له ضوابط، الإجماع ليس إجماع علماء بلد فقط بل هو إجماع علماء الأمة جميعا، وإذا خالف واحد من العلماء المعتبرين في شرق الأرض أو مغربها لم ينعقد الإجماع.
ولذل قال بعض العلماء أن الإجماع لم ينعقد بعد الصحابة، لأنه صعب جدا أن ينعقد الإجماع.
واحد أرسل لي ورقة يقول لي أن فلانا خال إجماع الأمة، مع أن العلماء أجمعوا وزيادة.
طيّب.. بارك الله فيك نحن نعرف إجماع العلماء فما هي الزيادة؟
أنا والله ما قرأت لا في كتب الفقه ولا أصول الفقه الزيادة.
نعم كذا كتبها أن العلماء أجمعوا وزيادة على المسألة الفلانية وخلاف فلانا وفلانا.
طيّب.. فقهنا إجماع العلماء فأين الزيادة ؟ الزيادة كالنقص.
فيجب أن تفهم هذه الضوابط، ومن هذه الضوابط أن إجماع علماء بد ليس إجماع.
ثم ناحية أخرى أن العبرة ليست بالكثرة أو القلة، العبرة بالحق.
3/ أن بعض العلماء قد يفتون بفتوى لها أسبابها، فيأتي آخرون ويخالفون هذه الفتوى.
ثم يبدأ الطعن في المخالف ويتهم بتهم باطلة كالفتنة وحب الخلاف وحب الظهور وقلة العلم وهلم جرا، فعلينا أن ننتبه أنه قد يقوم العلماء ويفتون بفتوى.
يأتي بعض طلاب العلم ويخالفون هذه الفتوى، فيبدأ الطعن في هذا العالم المخالف، يبدأ الطعن بالمخالفين، من أنت حتى تخالف؟ أنت تحب الفتنة، أنتَ أنت.
ولذا علينا أن ننتبه إلى ما يلي:
- أنه كل يأخذ من قوله ويرد إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما جاء به.
أن المخالفيِن علماء يجب احترامهم وتقديرهم، والمخالَفين علماء أيضا.
لماذا حرام الحديث عن هؤلاء وحلال الحديث في هؤلاء ؟
لا يجوز الحديث لا في أعراض هؤلاء ولا في أعراض هؤلاء، لا المخالفِين ولا المخاَلَفين.
- أننا نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال.
- أن نتثبت من صحة الفتوى واكتمال شروطها عند الموافقين والمخالفين ، المهم من صحة الفتوى، أما من أين جاءت فلا يهم. المهم هل الفتوى التي صدرت من هذا العالم أو ذاك مكتملة الشروط أم لا.
- أن مسائل الاجتهاد يجوز فيها الخلاف، فلماذا يا إخوان تضيق أنفسنا بالخلاف؟ صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اختلفوا.
عندما أرسلهم الرسول إلى بني قريظة اختلفوا.
اختلفوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكن ما أدى بهم ذلك إلى الفتنة وإلى طعن بعضهم في بعض.
- النقطة الأخيرة في هذه المسألة أن مجرد المخالفة ليس خطأ.
ولا عبرة للصغر والكير هنا إذا توافرت الشروط، ما يأتينا واحد يقول هذا عالم صغير خالف العالم الكبير،لا.. لا، هذا ما فيه عبرة.
العلماء قديما وحديثا الصغير يخالف الكبير وقد يكون الحق مع الصغير في سنة، السن لا قيمة له هنا، فالعبرة بتوافر شروط الفتوى وأسباب الفتوى.
الشيخ عبد العزيز في حياة الشيخ محمد ابن إبراهيم (رحمهم الله) أفتى بفتوى خالف بها الشيخ محمد، وما قال له الشيخ محمد من أنت حتى تخالفني.
وما قال له الناس من أنت حتى تخالف الشيخ محمد، أو تخالف العلماء.
مع أن الراجح هو قول الشيخ عبد العزيز رحمه الله.
أبن تيمية خالف علماء بلده، وثبت أن الحق معه رحمه الله.
لا عبرة بالصغير والكبير في هذه المسائل، العبرة بمن معه الدليل صغر أو كبر.
********
النقطة السادسة لماذا تبرز أخطاء العلماء أكثر من غيرهم:
السبب بسيط جدا أن الثوب الأبيض الناصع لو وجد فيه نقطة سوداء تبين من مسافة بعيدة.
العلماء كالثوب الأبيض أي نقطة سواد تبين فيهم، فلا نستغرب أن تبرز أخطاءهم.
أما غيرهم فكالثوب الأسود لو تضع عليه فحم أو شحما ما بان.
ولذلك نحن في الصيف الواحد منا يستبدل ثوبه كل يومين أو ثلاثة ثوب أبيض، بينما في الشتاء قد يجلس الثوب أسبوعين أو ثلاثة مع أن الوسائل التي قد تغير الثوب في الشتاء أكثر من الصيف.
ولكن الثوب الأسود لا يبين فيه شيء.
فالعلماء كالثوب الأبيض تبرز أخطاءهم ولو هي صغيرة جدا.
فعلى العلماء أن ينتبهوا إلى هذه النقطة كما ننتبه لثيابنا، فكل واحد قبل أن يخرج يتفقد ثوبه، بل ولا يكتفي بل يسأل أهله النظر إلى ثوبه من الخلف هل به شيء.(/10)
يتفقد أعماله، وعلى الآخرين أيضا أن لا يضخموا هذه القضايا، أما غيرهم فلا يبين فيهم شيء مهم كبر، فحم أو سواد أو زيت لا يبين فيهم شيء.
********
النقطة السابعة نحذر من المدح بما يشبه الذم:
يأتي يمدح الشيخ فلان فيقول:
الشيخ فلان ما شاء الله، فيه وفيه…. لكن، ثم حط بعد لكن!!
يقدم له مدحا ربما لمدة خمس دقائق ومن ثم كلمتين فقط يدخلهما، وهذا هو قصده.
فأنبه إلى خطورة هؤلاء، وأن يخوفوا بالله عجل وعلا.
الذم بما يشبه المدح كما تكلم البلاغيون.
********
النقطة الثامنة أن من أساء الأدب مع العلماء سيلقى جزاءه عاجلا أو آجلا:
وقال لإمام الذهبي في ترجمة أبن حزم:
(وصنف كتبا كثيرا وناظر عليها وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاءه من جنس فعله بحيث أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها ونفروا منها أحرقت في وقته).
وما نراه من الواقع المشاهد أن من يسب العلماء يسقط من أعين العامة والخاصة.
ويقول الحافظ ابن رجب:
(والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف على أخبار من مكر بأخيه فعاد مكره عليه، وكان ذلك سببا لنجاته وسلامته أي الممكور فيه).
********
النقطة التاسعة وهي وقفة أوجهها للعلماء وطلاب الذين يبتلون بهذه البلوى:
فأقول عليهم بالصبر وأن يتقوا الله جل وعلا.
وليعلموا أنهم ليسو أفضل من الأنبياء والرسل.
ورسولنا (صلى الله عليه وسلم) ما سلم من الكلام في عرضه، بل حتى في داخل بيته (صلى الله عليه وسلم) في قضية الإفك وغيرها, فلهم أسوة وقدوة برسولنا (صلى الله عليه وسلم)، وليعلموا أن العاقبة للمتقين.
فهذا يوسف يقول الله عز وجل عنه:
(قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)
وعن موسى يقول الله عز وجل:
(قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
ويقول سبحانه وتعالى:
(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).
وصدق من قال:
ولست بناجي من مقالة طاعن ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن الذي ينجو من الناس سالما ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
********
النقطة العاشرة والأخيرة أقول للمتحدثين في العلماء:
اتقوا الله، توبوا إلى الله، انيبوا واثنوا على العلماء بمقدار غيبتكم لهم، وأقول لهم العاقبة للمتقين وأنتم الخاسرون:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
والعالم عالي.
فأقول:
اتقوا الله واحفظوا لعلمائكم كرامتهم وقيمتهم،
وانتبهوا للمنهج الذي بينته في الحديث عن أخطاء العلماء.
أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القوا فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
واحات الهداية(/11)
لذة المناجاة وحلاوة العبادة
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
عن أي شيء يبحث الإنسان في هذه الحياة ? أليس الناس يبحثون عن السعادة العظمى ، والثروة الكبرى ؟ أليسوا يجدون في إثر الطمأنينة المستقرة والراحة المستمرة ؟ أليسوا يرغبون في أن يدخل السرور إلى قلوبهم وأن تشيع البهجة في نفوسهم وأن تعلو البسمة شفاههم وأن تترقب ألسنتهم بجميل القول ، وأن تستقبل آذانهم حسن الكلام؟ أليس كثير من الناس يبحثون عن اللذة والسعادة ؟
إن طريقها في هذا الدين العظيم وكثيرون هم الضايعون في بحثهم، وآخرون كثيرون أيضاً هم الواهبون فيما توصلوا إليه من نتائج، يلتمسون بها السعادة، ويقصدون بها حصول اللذة ، وأولئك في حيرتهم يعمهون ، والآخرون في أوهامهم يتخبطون، وأنت أيها المؤمن الصادق .. أيها المسلم المخلص .. أيها العبد الخاضع لله ، صاحب اللسان الذاكر لله - عز وجل- والدمعة الخاشعة لله - سبحانه وتعالى - والجبهة الخاضعة لعظمة الله - جل وعلا - أنت وحدك إن فهمت هذا الإيمان ، تفاعلت معه، وإن أتيت بموجباته ، فأنت السعيد الفريد في هذه الحياة الدنيا، وأنت الناجي الفائز بإذن الله -عز وجل- في الحياة الأخرى.
اللذة التي يبحث عنها الناس
أي شيئ تطلب ؟ وعن أي شيء تبحث ؟ والأمر قد يسره الله - سبحانه وتعالى- وبسطه بين يديك ، وجعله طريق واحدة ، تبدأ من أول لحظة تعي فيها، وتدرك التكليف ، وإذا به طريق يمتد من هذه الأرض الصغيرة ،إلى السموات العلى إلى رضوان الله - سبحانه وتعالى - إن اللذة والسعادة في الإيمان .. في السعي لنيل رضى الرحمن.. في عبادة الملك المنان - سبحانه وتعالى -
فلننظر إلى هذه اللذة التي ذاقها المؤمنون .. التي عرفها وعلمها للناس المرسلون ، والتي اقتطف ثمارها وتمتع بأذواقها عباد الله الصالحون ، والتي حرمها كثيراً من المسلمين في هذه الأوقات ، لأنهم لم يأخذوا سبيلها، ولم ينهجوا طريقها، ولم يؤدوا واجباتها.
اللذة الحقيقية
إن أعظم هذه المنن والنعم أن تكون الحياة كلها لله - سبحانه وتعالى - { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }، { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }.
ما أعظم أن يكون الضعيف مرتبطاً بالله القوي ! ما أعظم أن يكون العبد العاجز مرتبطاً بالله - سبحانه وتعالى - الذي لا منتهى لكماله ! ما أعظم أن يخضع الفقير للمعدم للغني القاهر - سبحانه وتعالى - ! إنه حينئذً يتحول إلى صورةً أخرى ، وإلى معنىً آخر في هذه الحياة ، إنه يرتبط حينئذٍ بالسماء ، يرتبط بنور الوحي ، يرتبط بنفخة الله - عز وجل - التي نفخها في خلقة آدم أول ما خلق .. عندما جعل خلقه قبضة من طين، ونفخةً من روح ، عندما أراد الله - عز وجل - أن يجعل لهذه الروح غذاءها المرتبط بخالقها - سبحانه وتعالى - .(/1)
الإيمان الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فيه اللذة والحلاوة والمتعة والسعادة .. الذي فيه طمأنينة القلب ، وسكينة النفس ، فها هو - عليه الصلاة والسلام- يعبر تعبيراً صريحاً واضحا ،ً قوي المعنى: ( ذاق طعم الإيمان ، من رضي بالله ربًاً، وبالإسلام دينا،ً وبمحمدً - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً ) ما أعظم هذا الاستقرار والسكينة والطمأنينة ، عندما ترتبط بالله - عز وجل- خضوعاً لإله واحد، وغيرك من الناس يخضع لقوى الأرض ، يبتغي لديها خيراً، وآخرون يخضعون لقوى البشر يخشون منها ضراً، وأنت حر طليق لا عبودية لك إلا لله - سبحانه وتعالى- ، والناس أيضاً يتخبطون ويتحيرون ويلتمسون طريقاً هنا وهناك ، ومنهجا من شرق وغرب ، وأنت عندك منهج الإسلام ، الصراط المستقيم الذي جمع الله - سبحانه وتعالى - فيه الخير كله، ونفى عنه القصور والضر كله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }، والناس يبحثون عن قدوات يلتمسونها هنا وهناك ، وقدوتك العظمى وأسوتك المثلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق أجمعين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }. ما أعظم هذه الوحدة التي توحد وجهتك وقصدك لله - سبحانه وتعالى - خضوعاً وذلة ، وعلى الإسلام منهج تحاكم وشريعة حياة ، ومع الرسول- صلى الله عليه وسلم- قدوة تحتذى ، وأسوة تتبع . ما أعظم هذه الطمأنينة التي تنسكب في القلب ! { الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، ما أعظمها من نعمة ! وما أعظمها من لذة ! لو أن الإنسان تفاعل بها انفعال صادقاً.. لو أنه تشربها تشرباً كاملاً ، لو أنه عاشها وبقي معها، في مداومة مستمرة ، وفي حياة متواصلة ، إذاً لتحقق له أيضاً ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المفارقة في اللذة التي إذا جناها العبد حقيقةً، وإذا اقتطفها ثانيةً ؛ فإنه لا يرضى عنها بديلاً ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار )، كل هذه المشاعر من المحبة والميل العاطفي ،إنما رابطها الإيمان الذي يغذيها وينميها، ويجعلها متعةً ولذة في هذه الحياة ، ولذا قال سلف الأمة - عندما تذوقوا هذه الحلاوة -: " والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف ". ذاقوا طعمها .. ذاقوا صلة بالله - سبحانه وتعالى - عظيمة، التي متى تعلق قلبك بها لن يتعلق بشيء سواه ، وبدأ حينئذً كل أمرك من طموح، ومن شوق ، ومن آمال ، ومن غايات في هذه الحياة ، يرتبط بهذا الإيمان كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المنن الإيمانية ، والمنح الربانية ، التي يسوقها - سبحانه وتعالى - لك أنت - أيها العبد المؤمن المسلم- من بين هذه البشرية الحائرة الضالة المتخبطة ، البعيدة عن منهج الله ، الجاحدة لرب الأرباب ، وملك الملوك - سبحانه وتعالى- .
تأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلان فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ) .
فإذا أنت ترى القلوب تهفو إليك ، وترى الأيدي تعانقك ، وترى الشفاه تبتسم لك ، وترى بريق العيون ينظر لك نظرة المحبة، ولم تسدي إليهم معروفا ،ً ولم تقدم إليهم مساعدة، وإنما هي لغة التحاور الإيماني وإنما هي مشاعر القلوب التي ترسل بإذن الله - عز وجل - تلك الروابط ، التي تسعد بها البشرية ، والتي تطمئن بها أسباب الحياة بين البشر .
حتى تدرك مدى ما ينعكس من أثار الإيمان في طمأنينتك وعلاقتك بهذا الكون وعلاقتك بهذه الحياة تأمل قول النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما قال : ( من ابتغى رضى الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن ابتغى سخط الله برضى الناس ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، يبقى شقياً محروماً ، منكوداً مطرداً ، وإن ملك الأموال كلها ، وإن كان بين يديه كل شيء من ملذات الحياة ، لكن في صدره ضيق ، وفوق قلبه أكوام من الهموم ، وفوق عينيه غم يتجسد في مراء وجهه ، كأن عليه قطع من سواد مظلم ، وكأن على وجوههم قتر وذلة . نسأل الله - سبحانه وتعالى - السلامة.
لذة الخلوة مع الله
والمؤمن الذي خلى بربه كما قال الحسن البصري حينما سئل : ما بال أهل الليل على وجوههم نور ؟ قال : لأنهم خلوا بربهم فألبسهم من نوره - سبحانه وتعالى – .(/2)
المؤمن الذي في عز المحنة وشدتها وهولها ، يبقى ساكناً ، مطمئناً بوعد الله - عز وجل - وبنصر الله - سبحانه وتعالى - كما كان من الرسل والأنبياء ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما) .. { قال كلا إن معي ربي سيهدين } .. { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم }، ما أعظم هذه الطمأنينة المنسكبة في القلب ، والتي تجعل الإنسان مستقراً مطمئناً .
فليتك تحلو والحياة مريرة **** وليتك ترضى والأنام غضابُ
فإذا صح منك الود فالكل هيناً **** وكل الذي فوق التراب ترابُ
هكذا عندما تتعلق بالله - عز وجل - تكون أشواقك وأفراحك ، وكل ما يمر بك إنما ينزل هذا المنزل العظيم فما الذي يفرحك في هذه الدنيا ؟ إنه الفرح بفضل الله .. بطاعة الله - سبحانه وتعالى - { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }، عندما يفرح الناس بالعلاوات وزيادة الأموال .. عندما يفرحون بالدور والقصور ، يفرح المؤمن بسجدةٍ خاشعة ، في ليلة ساكنة ، في وقت سحر يناجي فيها ربه ، ويسكب دمعه ، ويتذلل بين يدي خالقه - سبحانه وتعالى – { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون } ما هذا الشوق الذي يستولي على القلب عندما يتغلغل فيه الإيمان ؟ فهذا بلال - رضي الله عنه - عندما تحين وفاته ، تصيح زوجته وتقول: يا حزناه فيقول : بل وافرحتاه ، غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.
الشوق إلى لقاء الله - سبحانه وتعالى - دعا أنس بن النضر أن يلغي ذلك التفكير المادي المنطقي في يوم أحد ،وإذا به يقول : "واهاً لريح الجنة ، والله إني لأجد ريحها دون أحد " ثم ينطلق مشتاقاً راغباً محباً متولعاً عاشقاً للقاء الله - سبحانه وتعالى - راغباً في طاعة الله - سبحانه وتعالى - ويلقي بنفسه يعانق الموت قبل أن يأتيه ، وإذا به يمضي شهيداً إلى الله - سبحانه وتعالى - .
وذاك عمير بن الحمام في موقعة وغزوة بدر يأكل تمرات ، فحينما يسمع نداء النبي – صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا يقاتلهم اليوم رجل مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) فيرمي بالتمرات قائلاً : ما أطولها من حياة حتى أبلغ هذه الأمنية العظيمة .
نعمة الإيمان وأثره على الحياة
الإيمان يحول الحياة كلها إلى جنة خضراء ، كأنما الإنسان في بستان تجري من حوله الأنهار ، وتزينه الأزهار ، ويستمتع بضلال الأشجار ، ويتناول لقطف تلك الثمار ، كأنه ما مسه من ضر ، ولا لقي في هذه الحياة من عناء ، كما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم -: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير) ، وقال في حديث آخر : ( عجباً لأمر المؤمن ! إن أمره كله له خير ، إن أصابته سراء شكر ، وإن أصابته ضراء صبر ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ) ففي كل الأحوال هو يرى نور الله - عز وجل - ويرى حكمة قدر الله - عز وجل - ويسلم لأمر الله - عز وجل - ويبتغي في السراء ، وفي الضراء رضوان الله - عز وجل- ويلتمس أجر الله - سبحانه وتعالى - حتى الشوكة يشاكها العبد المؤمن يكفر الله - سبحانه وتعالى - به من خطاياه ما أعظم هذه المنة أيها الأخوة الأحبة ! .
إنها نعمة لا تدانيها نعمة ، ولا توازيها منة ، عندما ينشغل الناس بجمع الأموال والثروات ، وينشغل العبد المؤمن بجمع الأعمال الصالحة والحسنات ، يلتمس أجراً هنا ، ويلتمس حسنةً هناك كما كان أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم - لا يتنافسون على غنائم الدنيا ، ولا على لعاعتها ، وإنما - كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه - : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم . جاءت الحسرة في نفوس الصحابة على ذلك الأجر والثواب الذي لا يستطيعونه فقال لهم النبي - عليه الصلاة والسلام - مسلياً وفاتحاً أفاقاً وأبواباً من الخير عظيمة ( أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به كل تسبيحة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ) وذكر أبواب من الخير عظيمة ثم ماذا ؟ رجع القوم بعد ذلك مرة أخرى فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا ما قلت ففعلوا مثلما فعلنا . قال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) .
كان القوم إنما همهم أن يجمعوا رصيداً يحضون فيه برحمة الله - سبحانه وتعالى - ويتأهلون فيه لنيل رضوان الله - عز وجل- وأن يشملهم بواسع رحمته ، وأن يتغمدهم برضوانه ومغفرته- سبحانه وتعالى- .
وقد ورد في صحيح مسلم عن حال الصحابة أنه أحدهم كان لا يجد الصدقة يتصدق بها ، فماذا كان يصنع وقد عذره الله سبحانه وتعالى ؟ قال : فكان أحدنا يحتمل الحمال - عنده قوة بدن - فيعمل حاملاً لا ليتوسع في الرزق ، ولا ليرفع من مستوى المعيشة ،ولا ليزيد في الأرصدة ، ولا ليؤمن المستقبل- كما يقول الناس اليوم - ولكن يحمل الحمالة ليجد ما يتصدق به بين يدي الله - سبحانه وتعالى - .(/3)
ما أعظم هذه النفوس وهذه الغايات ! سعادة عندما يقدم لله - عز وجل - .. سعادة عندما يفرّج كربة أخيه المسلم ، سعادة عندما يتابع النبي – صلى الله عليه وسلم - ثم ما أعظم أن ينشغل الناس بسفساف القول كذباً ودجلاً .. نفاقاً وتذمراً .. وغيبة ونميمة ، ولا تزال أنت - أيها العبد المؤمن - مرطباً لسانك بذكر الله .. مسبحاً لمالك السموات والأرض - سبحانه وتعالى - .. ما تزال تستغفر كما كان المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة . - وفي روايات أخرى - مائة مرة .
ما تزال تلهج بذكر الله - عز وجل- متبعاً وصية رسولك – صلى الله عليه وسلم - ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ) ، وكذلك تشنف أذنك ، وترطب لسانك بتلاوة القرآن ، والناس ساهون لاهون ، وفي غيهم يعمهون ، وأنت تثلج صدرك ، وتطمئن قلبك ، وترطب لسانك بتلك الآيات العطرة ، في صخب هذه الحياة الداوية .. في هذه الأعصر التي كثر فيها قول الباطل .
مفاتيح سعادة المسلم
يبقى المسلم متميزاً لأنه لا يفتر ولا ينأ عن ذكر الله - سبحانه وتعالى - ويشعر بمدى التوجيه الإلهي الرباني الذي جاء مؤكداً ومطلقاً ، مما يدل على أفاق واسعة من هذا الأمر العظيم { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } أي لا حد له ولا منتهى ولا وقت ولا زمان ولكنه في الليل وفي النهار .. تسبيح في الغدو والآصال .. ذكر ودعاء لله - سبحانه وتعالى- تستفتح فيه يومك وتفتح لك فيه أبواب الرضى ، وأبواب الهناء ، وأبواب الرزق وأبواب السعادة في الدنيا ، وتختم به ليلك ونهارك ويومك ،فإذا بك تطمئن في كنف الله ، وإذا بك تبيت في حفظ الله ، وغيرك قد تسلطت عليه المردة والشياطين، وذاك يمسه جن ، وذاك يركبه شيطان وأنت محفوظ بإذن الله - سبحانه وتعالى - ما أعظم هذه السعادة ! وما أجل هذه النعم والمنن ! .
والناس في ليلهم صاخبون ، وبعضهم في المعاصي غائصون ، ويحيون السهرات الماجنة ، ويعيشون مع الأفلام الداعرة ، وأنت - أيها العبد المؤمن – في خلوة من صخب الحياة إلى هدوء الليل وقمت تختلس تلك الركيعات بين يدي الله - سبحانه وتعالى - في ذلك الوقت الذي هو أعظم وقتاً ، وفيه أعظم منة ، كما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام -: ( ينزل ربنا إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي: هل من سائل فأعطيه ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ وذلك الدهر كله )، فكيف يحضى أولئك الغافلون وأولئك العاصون بهذه المنن ؟ إنهم عنها والله لمحرومون ، وأنت إن كنت من أهل الليل .. إن كنت من أهل مناجاة الأسحار .. إن كنت من أهل ذرف الدموع في تلك الأوقات الفاضلة ، المكثرين من التلاوة والأذكار ، المداومين على الدعاء والاستغفار ؛ فإنك حضي وحري بأن تنال موعود النبي – صلى الله عليه وسلم -: ( أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا جنة ربكم بسلام )، ما بال الناس يستيقظون وعلى وجوههم قتر وفي جباههم تجهّم ؟! والمؤمن الوحيد كما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - هو الذي ينشرح صدره ، ويبدأ يومه بهذه العبادة والمناجاة لله - سبحانه وتعالى - كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ( يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة يقول: نم عليك ليل طويل ، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، فإذا قام وتوضأ انحلت الثانية ، وإذا صلى انحلت عقده كلها وأصبح نشيط النفس وإلا أصبح خفيف النفس كسلان ) .
أنت - أيها العبد المؤمن - بيدك مفاتيح السعادة بين يديك خيرات وثروات عظمى ، فيها سكينة النفس ، وطمأنينة القلب ، ولذة الحياة ، وحسن القول ، وجميل ما يصنع ، وأحسن ما يعمل من الأعمال الصالحة ، فما أعظم هذا التميز وهذا التأهيل الذي يمكن للعبد المؤمن أن يكون فيه فريداً بين كل من لم يكون على منهج الله - سبحانه وتعالى - وما بالنا حرمنا هذه النعم ؟ لأننا لم نرتبط بها حق الارتباط ، ولم نؤدها حق الأداء ، لم نشعر بتلك اللذة التي كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول فيها : (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، منتهى السعادة ، منتهى السرور ، منتهى الانشراح ، منتهى الإقبال واللذة في تلك العبادة ، فأي أحد لا يحب الإقبال على ما يسره مما يحبه ويميل إليه قلبه !! إنه إذا وجد شيئاً يحبه أقبل عليه وتعلق به ، وبذل لأجله كل شيء ، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة فإذا بالطمأنينة ،وإذا بالسعادة ، وإذا باليقين الراسخ ينبعث في القلب من جديد ، ويحيي في النفس حياةً قوية راسخة ، ولذلك كان يقول - عليه الصلاة والسلام - : (أرحنا بها يا بلال ) .
فلنرتح من تعب الحياة ، ومن سخطها في ظل العبادة والخشوع والخضوع لله - سبحانه وتعالى - فإن هذا طريق بإذن الله - عز وجل - موصل إلى سعادة الدنيا ، وإلى نجاة الآخرة .(/4)
الخطبة الثانية
أما بعد الأخوة المؤمنون
اعلموا - أيها الأخوة المؤمنون - أن العبادة ليست سكوناً ، بل حركة وليست ضعفاً بل قوة ، إنها أن تخضع الحياة كلها لله - عز وجل - ولذلك تأملوا إلى العبادة العظمى التي تعلقت بها قلوب العباد الصادقين ، والزهاد المخلصين ، فإذا بهم ينطلقون في مواكب الجهاد رفعاً لراية الله - سبحانه وتعالى - ونشراً لدعوة الإسلام وهم هم الذين كانوا رهبان الليل إذا بهم فرسان النهار ، هم أولئك القوم منهم عبدالله بن المبارك - رضي الله عنه ورحمه الله - إمامٌ من أئمة التابعين ، وعالم من العلماء المحدثين ، وأحد الذين لم يدعو الحج لبيت الله الحرام ، لكنه كان يحج عاماً، ويغزو عاماً ، وقيل: إنه غزا نحو مائتي غزوة ضد أعداء الله - سبحانه وتعالى - وتأملوا تلك اللذة التي يجدها الصالحون في كل أنواع العبادة ، ومنها عبادة الجهاد والدعوة في سبيل الله - عز وجل - وهذا خالد بن الوليد - رحمة الله عليه ورضي عنه وأرضاه – يقول : " ما ليلة تهدى إلي فيها عروس ، أنا لها محب مشتاق ، أحب إليّ من ليلة شديد قرها، كثير مطرها ، أصبّح فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله - عز وجل - تلك الليلة ما فيها من شدة البرد ، وبما فيها من انتظار العدو ، وبما فيها من قعقعة السيوف أحب إلى نفسه من عروس تهدى إليه وهو لها محب ومشتاق ومنتظر - ! إنها لذة عجيبة لا يعرفها إلا من مارسها ، وهو الذي يجد لذة في الجهاد ومحبة وميل له فإذا به يشتاق وينبعث إليه.
إذاً - أيها الأخوة الأحبة - ينبغي لنا أن نراجع أنفسنا ، وأن لا تشغلنا هذه الحياة بمطالبها المادية ، ولا بلغوها العارض ، بل ينبغي أن نعرف أن أساس هذه الحياة ، وأساس قطف ثمرتها ، وأساس أخذ ما يمكن أن يكون إن شاء الله - عز وجل - من أسباب النجاة إنما هو ربط القلب بالخالق - سبحانه وتعالى - ، إنما هو خفض الجباه لله - عز وجل - إنما هو رفع الأكف طلباً من الله - سبحانه وتعالى - ، إنما هو اليقين الراسخ أنه لا شيء في هذا الوجود ، ولا قوة في هذا الوجود ، ولا مضاء ولا مشيئة في هذا الوجود إلا لله - سبحانه وتعالى - فهو القاهر فوق عباده ، وهو المعطي والمانع ، وهو النافع والضار ، وهو الذي يسهل الأمور ، ويفرج الكروب - سبحانه وتعالى - ، وإذا ادلهمت الأمور ، وإذا تعاظمت الخطوب ، فليس لها من دون الله - سبحانه وتعالى – كاشف .
ماذا - أيها العبد المؤمن - هل تعاني من ضيق وشغف في العيش؟ فالإيمان والطاعة والعبادة لذة تعوضك عن ذلك ، ويعطيك الله - عز وجل - توفيق ييسر لك فيه من أبواب الرزق { ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب }، إن كل شيء مرتبط بهذا المعنى العظيم ،معنى صلة العبد بالخالق - عز وجل - معنى صلة العبودية بالربوبية والألوهية ، معنى صلة هذا التذلل والخضوع للملك الجبار - سبحانه وتعالى - ولذلك ما فقدنا اللذة ، ولا غاب عنا الأنس ، ولا ذهبت عنا الحلاوة ، إلا عندما فقدنا هذه المعاني ، وانشغلنا - حتى الأخيار منا الذين يرتادون المساجد - وربما شغلتهم أمور أخرى ، وخلافات في الأقوال ، وكثرة في المحفوظات ، وما خلص إلى قلوبهم هذا السر الإيماني ، وتلك الوحدة الإيمانية التي تحيل الظلمة نوراً ، وتقلب الحزن سروراً.
إن هذا المعنى الإيماني الذي ينبغي أن يكون فلك حياة الإنسان المسلم ، ومحور رحاه الذي يدور فيه في هذه الحياة ، لا يتكلم إلا من هذا المنطلق ، ولا يتقدم إلا من هذا المنطلق ، ولا يحزم إلا من هذا المنطلق ، كل شيء يربطه بالسعي إلى رضوان الله ، والرغبة في نيل رحمة الله ، والمبالغة في الخضوع والذلة لله - عز وجل - .
ومما زادني شرفاً وتيهاً **** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي **** وأن صيرت أحمد لي نبياً
هذا هو الشرف ، وهذه هي النعمة ، وذلك هو التميز فالله الله في عبادتكم ، والله الله في إخلاصكم ، والله الله في مناجاتكم ، والله الله في كتاب ربكم ، والله الله في لحظات الأسحار ، والله الله في الأذكار والاستغفار، الله الله في تصفية القلوب ، وتهذيب النفوس ، وأن نبعد كل شيء يؤرث القلب ظلمةً ، ويؤرث الصدر ضيقاً، ويؤرث الحياة شقاءً ومرارةً ، إذا تنكرنا أمر الله عز وجل فإن كل شيء كما قال الله سبحانه وتعالى { قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } إنما هو بسبب التخلف ، وبسبب القصور في طاعة الله - سبحانه وتعالى - أما المؤمن الموصول بالله -عز وجل- فإن حاله كما قال الله - عز وجل – :{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ما أعظم الصلة بالله عز وجل .(/5)
فلنحرص على أن نراجع أنفسنا ، وأن نخلص نياتنا ، وأن نصحح مقاصدنا، وأن نكثر أعمالنا ، وأن نقلل من لغو الدنيا وانشغالنا بها ، فقد دخلت في عقولنا وقد تعشعشت في قلوبنا ، وقد جرت في دمائنا ، وقد صرفتنا عن كثير من مهمات الحياة الأخرى ، وليس ذلك يعنى - بحال من الأحوال - أن تترك الدنيا ! بل الدنيا مزرعة الآخرة ، ولكن اجعل القلب موصولاً بالله تجعل الدنيا كلها بإذن الله - عز وجل - ممراً ومعبراً سريعاً وهيّناً في الآخرة بعون الله - سبحانه وتعالى - .
...(/6)
لعل الله ينفعك بهذا
13 / 12 / 1426هـ
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،
فقد مرت الأيام المعدودات والمعلومات يا عباد الله، مرت أيام العشر بما فيها، وهذا آخر يوم من أيام التشريق نعيش لحظاته قبل أن يحتضر ويسلم، مرت تلك الأيام بما فيها من الطاعات، من حج، وعمرة، وصيام، وذكر، وإحسان، وصدقات، وتلاوة، ودعاء، وقربان أنهرت دمائه تقرباً إلى الله عزوجل، يفرح المسلم بإتمام النسك، ومن أدى وأتقن وعبد وأخلص وأتبع السنة فقد فاز، { قل بفضل الله وبرحمته بذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }، الإسلام والدين والإيمان والقرآن هذا فضل الله ورحمته، عبادته وحده لا شريك له، هذه التلاوة وهذه القراءة، هذا القرآن والسنة فضل الله ورحمته، خرج عمر رضي الله تعالى عنه ومولا له، فجعل يعد الإبل التي جاءت من خراج العراق فهذا هو أكثر مما توقع، فجعل يقول: الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت، ليس هذا الذي يقول الله تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }، وهذا أي: الإبل مما يجمعون، فالفرح عباد الله ليس بمتاع الدنيا وإنما الفرح بما آتانا الله من فضله، من القرآن والسنة، وعبادته سبحانه وتعالى، هذه الفوائد العظيمة من المواسم الفاضلة إنما هي لنكون من المتقين، ولنكون من الشاكرين، { لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم }، لتزكوا نفوسنا تروض على الفضائل، لتتعود على العبادات لتجد ما يطهرها من النقائص، والأراذل، وكذلك السيئات والآثام، لتتحرر من رق الشهوات لتتقرب إلى الله وتقترب من الملأ الأعلى، ورجع بعض الحجيج، اللهم أجعل حجهم جميعاً مبروراً، لقد كان ذلك درساً في الزهد في الدنيا والإعراض عنها، قال أبو مسلم: ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يديك، وإذا أصبت بمصيبة كنت أشد رجاءاً لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت، وأيضاً إن ترك القبائح بعد أن تواصلت الطاعات والانشغال بالعبادات عن السيئات هو درس عظيم لنا، ونتذكر المواثيق والعهود التي أخذناها على أنفسنا وكان ذلك في هذه الطاعات، { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه }، وإن ملة إبراهيم الاستسلام لله عزوجل، { إذ قال له أسلم قال أسلمت لرب العالمين }، فحذاري حذاري أن نخالف هذا الاستسلام.
عباد الله إنه يجب علينا ونحن خارجون من هذه الأيام العظيمة أن نهتم بقبول العمل، فإننا قد عملنا أعمالاً فما مصيرها؟، وكيف يقبل العمل؟، إنه يشترط لقبوله ثلاثة شروط: الإيمان أولاها، لا يقبل الله عملاً من غير مؤمن، { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }، فمتى يجزيهم أحسن ما كانوا يعملون؟، ومتى يتقبل منهم؟، إذا كان الإيمان هو القاعدة تلك الأعمال. وثانياً: الإخلاص، فلا يقبل الله عملاً إلا إذا كان خالصاً له وحده لا شريك له، لأنه بدون الإخلاص يحبط العمل. وثالثاً: أتباع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في طريقة أداء الأعمال والعبادات، { من كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً }، موافقاً للسنة، { ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }، مخلصاً لله عزوجل، فهكذا يكون خالصاً صواباً، ولا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن كل عمل من العبادات عمله بسؤالين: لما؟، وكيف؟، لما عملته؟، كنت تريد وجه الله أم تريد به عرضاً من الدنيا، أو ثناءً من الخلق، أو مكانة عندهم؟، وكيف عملته؟، هل هو موافق للسنة أم على بدعة أو قلت به الجهلة؟.(/1)
عباد الله، المؤمن الذي يرجوا قبول العمل أولاً: لا يستعظم عمله ولا يعجب به، فيغتر وإنما يراه قليلاً ينظر بعين التقصير نحو ما فعل، { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون }، أولئك يسارعون في الخيرات، أما الذي يرى أنه قد عمل الأعمال العظيمة وأنه قد قام بأكثر مما يجب عليه فهو الآن يستكثر عمله، فلماذا يسارع في الخيرات؟، أما الذي ينظر بعين التقصير والنقص فإنه يسارع، { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة }، لأنهم يخافون أن لا يقبل منهم، يخشون ربهم واليوم الآخر، أنهم إلى ربهم راجعون، { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون }، ولذلك فإن ميدان التسارع لأصحاب الهمم الذين يريدون تعويض النقص وسد الخلل، { ولا تمنن تستكثر }، يا عبد الله ولا تظن نفسك بأعمالك التي عملتها أنك حزت المطلوب ووصلت إلى الدرجات العلى، ولكن المؤمن يرجوا القبول من الله عزوجل، ويدعوا ربه بأن يتقبل منه، ويحسن ظنه بربه أنه لن يرده، وهذا كله لا يتعارض مع النظر إلى العمل بعين التقصير، { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم }، فهكذا يكون الدعاء بالقبول إذن، وهذا مما يفعله المؤمن بعد أن يقدم يسأل الله أن يتقبل منه، وأيضاً يستغفر ربه بعد العمل الصالح، فإن قال قائل: هذا ليس بذنب ولا معصية فما وجه الاستغفار؟، ولماذا إذا انتهينا من الصلاة قلنا: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله؟، ولماذا إذا أفاضوا من عرفة بعد المقام العظيم الذي يباهي الله بهم الملائكة، يقول تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }؟، ولماذا لما قدمت الأرواح والموهج في سبيل الله، وقام محمد بن عبد الله يضربهم بالسيف على أن يقولوا: لا إله إلا الله، حتى فتح مكة، فقال الله له: { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواج فسبح بحمد ربك وأستغفره }، لقد قدم الدم، لقد قدم النفس؟، وهكذا،، هو وأصحابه ومع ذلك قيل له: أستغفره، فما وجه الاستغفار هنا وقد قام بالجهاد لإعلاء كلمة الله؟، الجواب أيها الإخوة: أننا مهما عملنا من الأعمال فإننا مقصرون، والإنسان لا يأمن على عمله من الخلل، وهو مهما عمل فإنه قليل بجنب نعم الله عليه، ولذلك لا بد أن نكثر من الاستغفار ليس بعد الذنوب فقط، وإنما بعد الطاعات أيضاً، قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأين ما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة؟.
عباد الله، إن مما يدعوا في التفكير ملياً في قضية قبول العمل أن الله عزوجل قال في كتابه: { إنما يتقبل الله من المتقين }، فهل نحن منهم؟، هل بلغنا درجة التقوى؟، هل نحن نعمل بطاعة من الله على نور من الله نخشى عقاب الله ونرجوا ثوابه؟، وهل نحن نترك معصية الله على نور من الله نخشى عقاب الله ونرجوا الثواب على ترك المعصية؟.
أيها المسلم يا عبد الله، { إنما يتقبل الله من المتقين }، تلك الكلمة وهذه العبارة التي أزعجت وأقلقت قلوب المؤمنين، فقال قائلهم: لأن أستيقن أن الله تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها، لو أني أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لفرحت، لكن هو قال: { إنما يتقبل الله من المتقين }، لا يقل عمل مع التقوى، فكيف يقل ما يتقبل؟، جاء سائل إلى ابن عمر فأعطاه، فقال ابنه، ابن أبن عمر: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال ابن عمر: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم، لم يكن غائب أحب إلي من الموت. لو أني أعلم أن الله تقبل مني لكنت أفرح بالموت جداً، إذا جاء تدري ممن يتقبل الله؟، يقول ابن عمر لولده: { إنما يتقبل الله من المتقين }، ولذلك لابد أن نحافظ على الأعمال وأن نواصل عليها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا فاته شيء قضاه إذا كان له قضاء، ونبينا عليه الصلاة والسلام قد علمنا أشياء تمنع قبول الأعمال، ولذلك يجب الحذر منها، فمنها المكسب الحرام، " لا تقبل صدقة من غلول "، كما أخبر عليه الصلاة والسلام وذكر، " الرجل يطيل السفر أشعر أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنا يستجاب له؟ "، قاطع الرحم، " إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم ". رواه أحمد وهو حديث حسن.(/2)
عباد الله، شارب الخمر، " لا تقبل له صلاة أربعين يوماً من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة "، وهاهم يأتونهم في الخطوط الساخنة في القنوات الفضائية، ويفتحون مواقعهم، ويسافرون إليهم، ويتصلون بهم، " ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثٍ في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً " ، لا فريضة ولا نافلة، الذي يخفر ذمة المسلم لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، أيضاً،، رواه البخاري. وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الذي يحلف اليمين الكاذبة عند منبره يستحل بها مال امرئ مسلم، " لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً "، هذه موانع قبول، موانع من أن يتقبل وهكذا،، فالإنسان المسلم يتجنب ما يمنع من قبول العمل.
ربي استجب لي وهب لي منك مغفرة من بحر جودك يا من فضله اتسع
نحتاج إلى المغفرة بعد أن نؤدي هذه الأعمال، نسأل الله أن يغفر لنا.
غفران الذنوب مطلب المؤمنين، وستر الزلات، وإقالة العثرات، ومغفرة السيئات، محو هذه الذنوب، وكذلك أن يجعل بيننا وبين النار حاجزاً ونغشى الحسنات لتمحوا السيئات، { إن الحسنات يذهبن السيئات }، نتعرف على الأسباب التي تجلب المغفرة، وتقي من النار، فإن الإنسان المسلم يخشى من غضب الجبار، { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنت عرضها السموات والأرض }.
عباد الله، إن علمنا بمسألة المغفرة وأسباب المغفرة مهم جداً، بعد أن تعرفنا على موضوع قبول العمل، ما هي شروطه؟، ما هي موانعه؟، لأن القبول والمغفرة أعظم ما يطلبه المؤمن في هذه الدنيا، فيعرف أسباب القبول وأسباب المغفرة، لأن بهم النجاة ودخول الجنة، القبول يدخل به الجنة، والغفران يتقي به النار، فتجتمع له المسألة من أطرافها، ففكر دائماً يا عبد الله في قضية القبول وقضية المغفرة، مدار سعادتك عليها تنجو بهذين فأهتم بهما غاية الاهتمام، أجعلهما نصب عينيك، القبول والمغفرة، " لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم أستغفرتني غفرت لك، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة "، أول سبب من أسباب المغفرة تحقيق التوحيد، أن يكون التوحيد خالصاً ليس هناك شرك يعكر صفو هذا التوحيد، التوحيد لله عزوجل تعبده وحده لا شريك له، ترجوا ثوابه تخلص له، وتعمل العمل لوجه، إننا نرجوا بهذا التوحيد مغفرة ربنا.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... ... فمن الذي يدعوا ويرجوا المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجاء ... ... وجميل عفوك ثم إني مسلم
إذا كنت مسلماً موحداً رجاءك بالله عزوجل، توحيدك صحيح، من أسباب المغفرة، الوضوء إذا أحسنته فإن المغفرة تأتي، وسيئاتك تخرج من أعضاءك واحداً واحداً، كلما أصبغت خرجت السيئات من هذه الأعضاء، وأيضاً، تخرج من تحت الأظفار، وإذا صمت رمضان إيماناً واحتساباً، وقمت رمضان إيماناً واحتساباً، وقمت ليلة القدر إيماناً واحتساباً، يغفر لك ما تقدم من ذنبك، ولا تظنن أن المسألة فقط في أمور طويلة وصعبة، بل الله عزوجل من كرمه يغفر على أعمال سهلة يسيرة، قال عليه الصلاة والسلام: " من أكل طعاماً ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "، " ومن لبس ثوباً، فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ". قال النسائي: أرجوا أنه لا بأس به، وحسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار.(/3)
أحياناً أنت لا تفعل شيئاً لكن ينزل بك قضاء وقدر، فتصبر عليه وترضى وتحمد فيغفر لك بذلك،، من دفن ثلاثة من الولد حرم الله عليه النار، من مات له ثلاثة من الولد، أي: غير بالغين من الأولاد، فصبر وحمد الله عزوجل يدخل الجنة، من عال ثلاث بنات أو أخوات صبر عليهن، أطعمهن، سقاهن، كساهن، علمهن، رباهن، كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، هؤلاء البنات ستر من النار، رعاية البنت وحتى الثنتين، " من عال جاريتين حتى تبلغ جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه "، وفي الأحاديث،، الإحسان إليهن، أحسن صحبتهن، يؤويهن، يرحمهن، يكفلهن، يزوجهن، ألفاظ وردت في الأحاديث،، تذب عن عرض أخيك المسلم يرد الله عن وجهك النار يوم القيامة، تبكي من خشية الله يحرم الله النار على عينيك التي بكت من خشية الله، تصلي أربعين يوماً في جماعة تدرك التكبير الأولى قائماً وراء الإمام في الصف إذا كبر كبرت خلفه مباشرة تحصل على شهادتين براءة من النار وبراءة من النفاق، تصلي أربع ركعات قبل الظهر، وبعد الظهر تحرم على النار، وكذلك،، إذا أغبرت قدماك بالجهاد في سبيل الله، لا يجتمع هذا الغبار مع دخان جهنم في جوفك أبداً، وما من مسلم يقتل كفاراً في المعركة لا يتجمعان في النار مسلم قتل كفاراً، ثم سدد وقارب فيغفر له بذلك حسن الخلق، عظيم حرم على النار كل هين لين سهلاً قريب من الناس وعتق الرقبة، يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه، الإسلام يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها، فضل الله واسع وعظيم، والعبادة في الهرج واضطراب الأمور واختلاطها كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأجر، خطواتك إلى صلاة الجماعة هذه تكتب حسنة والأخرى تمحى بها سيئة، ترفع الدرجات بهذه الخطوات إنها الكفارات، يوافق تأمينك تأمين الإمام، كم يأخذ من الوقت؟، لكن إضباط وحرص على السنة، هل تعلم أجره؟، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه "، فضل الله عظيم،
" وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه "، وذكر الله بعد الصلوات يغفر الخطايا وإن كانت مثل زبد البحر، ثلاث وثلاثين في ثلاث وثلاثين بثلاث وثلاثين مع التهليل تكمل المائة، تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً لماذا يحرص المؤمنون على بيت المقدس؟، ولماذا يتمنون تطهيره من اليهود؟، قال عليه الصلاة والسلام: " لما فرغ سليمان ابن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثاً ومنها،، أن لا يأت هذا المسجد يعني الأقصى أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "، حديث صحيح.
تمشي إلى بيوت الله متوضأ يغفر لك إذا صليت في جماعة، كذلك صلاة الفجر في جماعة، والذكر بعدها بما علمتم من الأجر العظيم، وصلاة ركعتين لا سهواً فيهما، لا يحدث فيهما نفسه، يغفر له ذنوبه، إذا كان قد أحسن الوضوء تخرج من بيتك لحج بيت الله الحرام ليس له جزاء إلا الجنة، يهدم ما كان قبله، ينفي الفقر والذنوب، فهنيئاً لهم، مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطناً، حلق الذكر يباهي الله بهم الملائكة، ويقول لهم: أشهدكم أني قد غفرت لهم أحرصوا عليها.
أحب الصالحين ولست منهم لعل أن أنال بهم شفاعة
وأكرهوا من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
أكثروا من ذكر الله، " من قال لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر". رواه أحمد والترمذي وهو حديث حسن.
لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله وبحمده، مائة مرة في اليوم، تحط عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كأنك أعتقت عشر رقاب من بني إسماعيل، عدل عشر رقاب، وتمحى عنك مائة سيئة وتكتب لك قبلها مائة حسنة، وتكون لك حرزاً من الشيطان، إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها، إن الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة، قاله عليه الصلاة والسلام وقد ضرب شجرة يابسة الورق بعصاه فتناثر الورق، ضربه مثلاً لأصحابه عياناً.
اللهم أجعلنا من الذاكرين، والشاكرين، والقانتين، والتائبين، والعابدين، والصائمين، اللهم أجعلنا من الحافظين فروجهم، وأغفر لنا أجمعين، وتب علينا، وتقبل عملنا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه،، إنه هو الغفور الرحيم(/4)
الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأتوب إليه، أشهد ألا إله إلا الله، الحي القيوم، وحده لا شريك له، لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والبشير والنذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم أرضى عنهم، وأرفع درجتهم وأجزيهم خير الجزاء يا رب العالمين، اللهم وبارك عليهم، اللهم وأرحم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، فيوض ربنا علينا مباركة طيبة كثيرة، وعطاءه عزوجل وهو المنان، لا ينتهي وهذه الهدايا منه لعباده، وهو عزوجل يتيح لهم الفرص العظيمة لمغفرة الذنوب بأعمالهم، وبأقدار عليهم يصبرون عليها، هذا المرض، " إن العبد إذا مرض أوحى الله إلى ملائكته أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه أغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له"، رواه الحاكم وهو حديث حسن.
والمرض يذهب الخطايا، والحمى السخونة بالذات، تذهب الخطايا كما تذهب النار خبث الحديد، كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أم العلا، " وإذا ابتلى الله عبداً مؤمناً فحمد الله على ما أبتلاه يقوم من مضجعه ذلك،، كيوم ولدته أمه من الخطايا "، وهكذا جاء في حديث أحمد الحسن،
" وما من عبد يصرع من مرض إلا بعثه الله منها طاهراً "، كما رواه الطبراني وصححه الألباني.
عباد الله، الطاعون شهادة، والمرأة تموت بجمع، يعني: في شيء منها غير مفصل عنها من حمل، أو بكارة، والمرأة تموت بجمع أو بجمع بطنها شهادة، والغرق شهيد، والهدم شهيد، والحرق شهيد، وبذات الجنب والتهاب غلاف الرئة، والتهاب يصيب جنب الإنسان شهيد، والسل شهيد، والمبطون الذي قتله بطنه شهيد، ونرجوا أن أصحاب السرطان شهداء، والنفساء تموت في نفاسها شهيدة، ومن صرع عن دابته في سبيل الله، ومن وقصته فرسه في سبيل الله، ومن لدغته هامة في سبيل الله، من قتل دون أهله شهيد، من قتل دون ماله شهيد، من قتل دون دينه شهيد، من قتل دون مظلمة شهيد، المائد في البحر شهيد، الذي يدور رأسه من ريح البحر وهو خارج في سبيل الله، ومن طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه، والمتمسك بالسنة في وقت الفتنة وجهل الناس له أجر الشهيد، الذي يعلم الناس الخير يصلي عليه أهل السماوات والأرض، وهكذا يبني مسجد يبنى له بيت في الجنة، وضوء بعد حدث وصلاة ركعتين يستمر على هذا من أسباب دخول الجنة، كما حدث لبلال رضي الله عنه، الصلاة في الصفوف المقدمة، الله وملائكته يصلون على أصحاب الصفوف المقدمة، صلاة ثنتي عشرة ركعة غير الفريضة سنن الرواتب هذه يبنى له بيت في الجنة، كل يوم لو حافظ عليها ببيت، وهذا الذي يمنح ولو صاحبة، وصديقة، منيحة عنز، أو منيحة ورق مال، هدية، عطية، منحة، منحة يمنحه من ماله الحلال طيبة به نفسه إن أجرها لعظيم، قال عليه الصلاة والسلام: " من منحة منيحة لبن أو ورق أو هدى زقاقاً كان له مثل عتق رقبة "، والورق: الفضة، والزقاق: إذا هداه للطريق، وهذا التائه يبحث، يقول: أين المكان الفلاني؟ أين المكان الفلاني؟ يهديه إليه، والحديث رواه الترمذي وهو صحيح.
تعدل بين أثنين لك صدقة، تنفق على أهلك تحتسبها لك صدقة، تغرس الأشجار وتزرع بنية صالحة، لو أكلت النمل منها لك بها صدقة، يوم عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر يوم، ومن ختم له بصيام يوم دخل الجنة، وهذا الذي يجهز غازياً في سبيل الله كأنه غزى، والذي يسعى على الأرملة، والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، ومن غسل ميت فستره، ستره الله، والذي يكفنه فإن الله يجعله في حلل السندس يوم القيامة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، والذي يصلي عليه مائة يغفر له، واستغفار أربعين وهكذا،، يشفعهم الله فيه، والذي يعزي المسلم، وما من إنسان يشيب شيبة في الإسلام إلى كانت له نور يوم القيامة، وزيارة الأخ في الله لا لدنيا، يقال له: طيبة طاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً، اللين والسهولة في التعامل في القضاء والاقتضاء، إذا طالبت بحقك، أو سلمت حقه فأنت تسلم بسرعة بغير مماطلة، بغير تصعيب الأمور عليه، إذا أشترى سهلاً، إذا قضى سهلاً، إذا أقتضى أيضاً،، فإن الله عزوجل يغفر له بذلك،، ندم مسلم على بيع باعك، أو شراء أشترى منك أقلته، وقلت له: أعيد لك السلعة، أعيد لك المال، أقيلك من البيعة، ندم، يقيل الله عثرتك يوم القيامة، تترك الكذب ولو كنت مازحاً يعطيك الله بيت في أعلى الجنة، فإذا تركت المراء ولو كنت محقاً بيت في وسط الجنة، وإذا كان هنالك يتيم عندك في بيتك فأبشر بخير عظيم، فإنها هي الكفالة مجاورة النبي عليه الصلاة والسلام عاقبتها وثمرتها، تستر مسلماً بستر بدنه، أو تستر زلته، يسترك الله يوم القيامة، ولو رحمته ولو ذبيحة عصفور رحمك الله عزوجل.(/5)
أيها المسلمون، هذه الفرص الكثيرة، وهذا المقابل العظيم، وهذا الجزاء الكبير على الأعمال، إنه يجعلنا نقف مع أنفسنا وقفة تأمل ومحاسبة ومراجعة، لماذا كثرت الفرص الاستثمارية؟، وموسم جني الأرباح الآن، والأسهم عالية جداً، ومع ذلك العاملون قلة أو النشاط قليل، والانشغال بالدنيا كثير، ولذلك،، فإننا نهيب بأنفسنا أن نتقدم للميدان، وأن نسارع إلى جنة عرضها السموات والأرض، نطلب مغفرة الله بالأعمال، ونرجوا القبول، وما ذهابنا، ومجيئنا، وجهدنا، وعملنا، ورجاءنا، وهدفنا، وغايتنا، ومبتغانا، ونأمل على هذه الأمرين المغفرة والقبول .
اللهم أغفر لنا ذنوبنا، وتقبل أعمالنا يا رب العالمين، اللهم تقبل عبادك هؤلاء الذين ماتوا في حجك يا أرحم الراحمين، اللهم أجعلهم شهداء، اللهم أبعثهم يوم القيامة موقفاً حسناً عندك يوم يقوم الناس لك يا رب الراحمين.
لقد آلمنا أيها الأخوة ما حصل لإخواننا في موسم حج هذا العام أيضاً،، من ذلك التدافع وهؤلاء القتلة، ونحن نفرح لهم من الجهة الأخرى أنهم ذهبوا إلى الله عزوجل في هذه العبادة العظيمة، لقد لقوا وجه ربهم في هذا الركن الخامس من أركان الإسلام، وهذه الفريضة التي فرضها الله على عباده، إن الموت في المقامات العظيمة له عند الله أجر كبير، والله كريم وعندما تذهب هذه النفوس والأرواح في طاعة ربها، ومرضاته فإن ربها عزوجل يتقبلها عنده ويلقاها بالقبول الحسن، فنسأل الله أن يتقبل منهم.
ولقد كانت تلك المواقف مؤثرة في تدفق هذه الجموع وما حصل من دهس بعضهم لبعض، وما هو شعور المسلم وهو يطأ فوق أجساد وهو لا يلوي على شيء، وهذا يريد النجاة ويرجوا مسالكها، فلا ينجوا وهذا ينجوا، وهذا تنتشله الأيدي في اللحظة الأخيرة، تلك اللحظات العصيبة التي عاشها بعض هؤلاء الناجيين الذين رأو تلك القصص العجيبة لما حصل وهو يسمع تشهد هؤلاء المتشهدين تحت الأرجل، يقول: أسمع تشهدهم وهم يحتضرون، وأتشهد معهم حتى ظننت أني ميت فقيض الله لي يد مسلم انتشلتني، فما أعظم أجور الذين انتشلوا إخوانهم المسلمين،
{ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً }، كانت مناظر بعض الضحايا وهي ملاقاة على الأرض تثير الألم والحزن من كبار السن، والنساء، والأطفال في عداد هؤلاء المتوفين، قدر الله سبحانه وتعالى على بعض عباده في هذا الحج أن يلقوه، نسأل الله لهم المغفرة.
وهذا أب قد ضم أبنته ذات الستة أعوام يحوطوها بذراعه، وآثار الجراح بادي على كليهما ولكنهما لقيا وجه الله، لم يستطع إنقاذ أبنته، وهي لم تفارق حضن أبيها فأخرجا معاً من بين الجثث، وقد ضم أبنته إليه، وهذا آخر قد جاهد لإخراج زوجته من هذه المقتلة، وبعد أن أنقذها لم يستطع أن ينقذ نفسه، فأخذه الطوفان فكانت تبكي بحرقة وألم كبير وهي تمسك بيده بعد أن قضى نحبه، وتتذكر كيف قام ذلك الزوج الوفي بإنقاذها مع ما أدى إليه الحال من موته وذهابه، وهذا أعجمي يبكي على أمه ذات السبعين عاماً إلى جوارها بحرقة وهو يراها بعد أن انتشلت من أكوام الجثث ووضعت على جانب الجسر، يقول: كانت أمنيتها أن تحج بعد مرض أصابها فشفاها الله في حجة هذا العام، فجاءت ليكون قضاء الله وقدره وتكون النهاية في هذه الحجة في الدنيا، لعل الله يكون قد ختم لها بشهادة.
كانت الأحداث المتسارعة والتدافع الرهيب الدعاء والشهادة وتكبير المسلمين.
نسأل الله أن يغفر لموتانا، وأن يشفي مرضانا، وأن يضاعف أجورنا، ونسأله عزوجل أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وأن يتوفانا مؤمنين، وأن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/6)
لكل شِرّة فترة
197
أمراض القلوب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- أوبة المسلمين في رمضان وغفلتهم بعده. 2- مجاهدة النفس وحسن تربيتها. 3- خير الأعمال أدومها وإن قل. 4- التحذير من رذيلتي الإفراط والتفريط. 5- تقلب القلوب والثبات إنما يكون من الله. 6- دعوة للثبات على الطاعة بعد رمضان. 7- تحذير من أكور بعد الكور. 8- حالة الفتور عن العمل الصالح.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الزمام والقوام، فتمسكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها، ثم اعلموا إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تتناضل فيه المنايا، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمّر معمر منكم يوما من عمره، إلا بهدم آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟! ألا فلا يستوحشن أحد في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل، ومن سلك الطريق الواضح دون فتور أو ملل ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه.
أيها الناس، إن شعور المسلم بالاستبشار والغبطة حينما يرى إقبال الناس على الله في رمضان، وما يقلّبه من بصره هنا وهناك تجاه أوجه البر والإحسان لدى الكثيرين من أهل الإسلام، ليأخذ العجب بلبه كل مأخذ، ولربما غلب السرور مآقي المترقب، فهتن دمع الفرح والإعجاب، لما يرى ويشاهد، إلا أن العيد وما يعقبه ليصدق ذلك الظن أو يكذبه، ومن ثم ينكص المعجب، وتشخص أحداقه، لما يرى من مظاهر التراجع والكسل والفتور، ومن ثم يوقن، أنه إنما مستسمنا ذا ورم.
وما يشاهده المرء في الأعياد في أقطار شتى، من الفرح غير المشروع، وتجاوز حدود الاعتدال فيه، على هيئة وصورة تنفيان كونهم من الخائفين على رد الأعمال الصالحة، أو من الشاكرين، لبلوغ هذا العيد الذي أكرمهم الله به، ومن ثم فإن الحال على ما ذكر كالتي نقضت عزلها من بعد قوة أنكاثا؛ لأن النفس البشرية لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت المزاحمة بما يسخطه إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]. ولو أنهم أحبوا الطاعة، لما تخلوا عنها طرفة عين وقديما قيل: من عشق طريق اليمن، لم يلتفت إلى الشام.
ألا فاعلموا – يا رعاكم الله – أن من قارب الفتور والكسل، بعد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادّعى الترويح أو التسلية وكل إلى نفسه، وإن من أحق الأشياء بالضبط والقهر والأطر على العبادة والاستقامة أطرا؛ هي نفسك التي بين جنبيك.
فإياك إياك ـ أيها المسلم ـ وأن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان، مقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد، فكم من صنديد في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكر ـ حفظك الله ـ حمزة مع وحشي رضي الله عنهما.
من تعود الفتور والكسل، أو مال إلى الدعة والراحة، فقدْ فقدَ الراحة، وقد قيل في الحكمة: إن أردت ألا تتعب، فاتعب لئلا تتعب، ولا أدل على ذلك من وصية الباري جل وعلا لنبيه ومصطفاه فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7]، لأن من كسل لم يؤد حقا، ومن ضجر لم يصبر على الحق، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وليس في سياط التأديب للنفس أجود من سوط عزم، وإلا ونت وأبت؛ لأن فساد الأمر في التردد، والنفس ـ عباد الله ـ من أعجب الأشياء مجاهدة؛ لأن أقواما أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا، وآخرين بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وإنما الحازم من تعلمت منه نفسه الجدّ وحفظ الأصول، فإذا ما أفسح لها في مباح، لم تتجاسر أن تتعداه، لأن تفقد النفس حياة، وإغفالها لون من ألوان القتل صبرا.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إن الحياة الدنيا لا تخلو من عقوبة، ومن عاش لم يخل من المصيبة، وقل ما ينفعك عن عجيبة، وإن من أعظم العقوبات ـ عباد الله ـ عدم إحساس المعاقب بها، بل وأدهى من ذلك وأمرّ السرور بما هو عقوبة كالفرح بالتقصير بعد التمام، أو التمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها، ومن هذه حاله لا يفوز بطاعة، ولو غشَّى نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، لوجد خفيّ العقوبة الرئيس، وهو سلب حلاوة النجاة، أو لذة التعبد، إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، من عباد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، فأخلق بمدمن القرع منهم للأبواب أن يلج؛ لأنهم تغلبوا على طباعهم ذات الجواذب الكثيرة، ولذا فليس العجب أن يغلب الطبع، وإنما العجب أن يُغلب.(/1)
لقد خلق الإنسان في كبد، والمرء كادح إلى ربه كدحا فملاقيه، وإن من أعظم ما يعين النفس المسلمة على دوام الطاعة ألا تحمل من الأمر ما لا تطيق، بل لابد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف، والطريق الشاق ينبغي أن يقطع بألطف ممكن، ولا شك أن الرواحل إذا تعبت نهض الحادي ينشدها، ولذا فإن أخذ الراحة للجد جد، وغوص البحار في طلب الدر صعود، ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس، فليداوم النظر في سيرة النبي ، وليستمع إلى قوله: ((إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)) رواه أحمد[1]، وعند البخاري في صحيحه: أن النبي قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه))[2].
كثيرون هم أولئك الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد والتكاليف، وهم كذلك يتساقطون إعياء خلف صفوف الجادين من عباد الله، يتخللونها، ضعافا مسترخين، يخذلون أنفسهم في ساعات الشدة بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17].
نعم إن هناك ضعفاً في البشر، ولا يملك الناس أن يتخلصوا منه، وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، ولكن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافة وأسرة وإعلاما من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدع بها النفس في موسم ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه بإذن الله من التساقط، وتحرسهم من الفترة بعد الشرّة مهما قلت، ما دامت على الدوام، فرسول الله يقول: ((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)) رواه البخاري ومسلم[3].
ولا جرم أن نشير هاهنا إلى أن التحرر من الغلو والتشدد لا يعني الترك والإهمال، بل يعني التوسط والاعتدال، مع محافظة المرء على ما اعتاده من عمل، أو التزام في السلوك العام، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال لي رسول الله : ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه[4].
إن الانهماك المستمر في العبادة، والإغلاق على حقوق النفس والأهلين يعد إفراطاً مذموماً ليس من هدي سيد المرسلين، وأعبد الناس لرب العالمين، بله كونه سببا في التراجع والنكوص، كما أن الأمر في الوقت نفسه إن كان تقاصراً عن العبادة، أو انشغالاً عنها، أو تركاً للحبل على الغارب مجانبة للتصحيح، أو الارتقاء بالحال على ما يريده الله ورسوله يعد تفريطاً ممقوتاً، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ويمثل ذلك تضييع المجتمعات المسلمة، بين إفراط وتفريط، ناشئين عن جهل وضلال، كما قال علي : (لا يُرى الجاهل إلا مُفَرطا أو مُفْرطا)، ولفظ الإفراط والتفريط ـ عباد الله ـ لم يأت في القرآن على سبيل المدح إلا في نفيه عن كل صالح أو مصلح يقول سبحانه عن الملائكة حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61]. وقال عن موسى وهارون: قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى [طه:45]. ويقول سبحانه: أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ [الزمر:56]. وقال جل وعلا عن أهل النار: قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]. وقال جل شأنه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
والمراد هنا ـ عباد الله ـ: أن يتماسك المرء المسلم والمجتمعات المسلمة، فيكون لهم من صلابة عودهم الإسلامي وحسه ما يحول بينهم وبين الفتور والضعف، أو التراجع عن الدين أو التخاذل عنه، وإذا ما بدت هفوة أو غفلة، سارعوا بالتيقظ ومعاودة التمسك، والاستجابة لكل ناصح مشفق، وهذا هو التوسط المحمود الذي اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم.
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]. والطغيان هنا هو ما تجاوز الحد في الأخذ أو الترك.(/2)
أيها المسلمون، كثيرا ما يناجي المرء نفسه، ماذا وكم عملت، وقليلا ما يسائل نفسه، ويبلوها، كيف كان عملي وما مدى قربه أو بعده من الله؟ وما درجة المداومة عليه وعدم الفتور عنه، أو الإعياء بحمله؟ وما ذاك ـ عباد الله ـ إلا من جهل المرء بنفسه، وتقصيره في معرفة حقيقة العبادة التي يريد الله منه في قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. إن البقاء على الطاعة في كل حين، أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان في المرد بإذن الله إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلبا في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى : ((إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن)) رواه أحمد[5].
ولأجل ذا كان من دعائه : ((يا مقلب القلوب ؛ ثبت قلبي على دينك))، وسئل عن ذلك فقال: ((إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ)) رواه أحمد والترمذي[6].
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
إن استدامة الطاعة والمداومة على الأعمال الصالحة لهي في الحقيقة من عوامل الثبات على دين الله وشرعه إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]. ألا وإن ترك المحرمات، والعمل بما يوعظ به المرء من قبل خالقه ومولاه، لأمر يحتاج إلى ترويض ومجاهدة من أجل الحصول على العاقبة الحميدة، وحسن المغبة وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
والتثبيت ـ عباد الله ـ يكون في الحياة الدنيا على الخير والعمل الصالح، وفي الآخرة يكون تثبيتا في البرزخ وعند السؤال يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]. اللهم إنا نسألك الثبات قبل الممات، والإرشاد إلى استدراك الهفوات من قبل الفوات، وإلهامنا أخذ العدة للوفاة والموافاة.
[1] مسند أحمد (3/199)، قد أخرجه دون قوله: ((... فإن المنبتّ...)). والحديث حسن دون هذه الزيادة. انظر السلسلة الضعيفة (1/21) وصحيح الجامع (2246) وضعيف الجامع (2020).
[2] صحيح البخاري ح (39).
[3] صحيح البخاري ح (1970). وأخرجه أيضًا مسلم ح (782).
[4] صحيح البخاري ح (1152)، صحيح مسلم: كتاب الصيام ح (185).
[5] صحيح، مسند أحمد (4/408).
[6] صحيح، مسند أحمد (6/302)، سنن الترمذي (3522) وقال: حديث حسن.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد من يشكر النعمة، ويخشى النقمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الفضل والمنة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله معلمنا الكتاب والحكمة، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أولي النجابة والفطنة.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ وتوبوا إلى ربكم تفلحوا، تمسكوا بسنة المصطفى وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
قال الحسن البصري رحمه الله: (السنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها ـ رحمكم الله ـ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك ـ إن شاء الله ـ فكونوا).
فيا أهل التوبة، استيقظوا، ولا ترجعوا بعد رمضان إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع إنما يصلح للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، لا للرجال، وعليكم بالصبر على مرارة الفطام، لتعتاضوا عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في قلوبكم، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:70].
ذنب واحد بعد التوبة، أقبح من كذا ذنب قبلها، النكسة أصعب من المرض، وربما أهلكت، فسلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا بالله من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور، فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة! وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة!
ذكر عند النبي قوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال: ((تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون)) رواه أحمد والطبراني[1].(/3)
ومعنى الحديث ـ عباد الله ـ: أن لكل عمل قوةً وشدةً، يتبعها فتور وكسل، ولكن الناس يختلفون في هذا الفتور، فمنهم من يبقى على السنة والمحافظة عليها ولو كانت قليلة، ومنهم من يدعها ويتجاوزها إلى ما يغضب الله، وبنحو هذا يقول ابن القيم رحمه الله: تخلل الفترات للعباد أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رجي له أن يعود خيرا مما كان ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]. يقول المصطفى : ((إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)) رواه الترمذي[2].
ولقد بكى ابن مسعود عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: إنما أبكي، لأنه أصابني في حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
[1] مسند أحمد (2/165)، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/259) للطبراني وأحمد، قال: ورجال أحمد ثقات. قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6539): إسناده صحيح.
[2] صحيح، سنن الترمذي ح (2142) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (3/106).(/4)
لماذا نتعلم؟
الحمد لله، و بعد،،،
لماذا نتعلم العلوم الشرعية- وهي كل علم يقرب إلى الله، علم الكتاب، وعلم السنة، ويدخل في هذا العلم كل ما أعان على فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحصل لمتعلمه الفضل إذا قصد بهذا التعلم فهم كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- ؟
لماذا نتعلم العلم الشرعي؟؟ لماذا أطال العلماء في الحث على تحصيل العلم والصبر على مضاضة الطلب، وما فيه من الكد والعناء؟ هل هو لتحصيل مكاسب قريبة، وانتزاع مناصب في الدنيا، أم هو لأمر أبعد من ذلك؟
إن طلب العلم الشرعي له مقاصد عديدة من أهمها:
1- بالعلم يعرف الله سبحانه وتعالى: فيعرف ما لله جل وعلا من الأسماء، وماله من الصفات، وماله من الأفعال، هذا فيما يتعلق بذاته جل وعلا.. ويعرف ما يجب له من الحقوق، فإن العلم الشرعي هو السبيل الذي يتعرف به الخلق على ربهم سبحانه، ولا سعادة للناس في حياتهم، ولا لذة لهم في معاشهم إلا بمعرفة الله جل وعلا فان معرفة الله أصل السعادة، فالعلم بذاته يستلزم العلم بما سواه؛ لأن من عرف الله تفتحت له أبواب العلم، وأبصر السبيل، واستضاء له الطريق، فلا يحتاج بعد ذلك أكثر من العلم بالله؛ لأن به يفتتح كل مغلق، ويحصل به كل مطلوب.
أما من لم يعرف ربه فإنه عن كل خير غافل، قال تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ...[19]}[سورة الحشر]. فتأمل هذه الآية تجد فيها أن الله تهدد من نسيه بأن ينسيه نفسه، ومن نسي نفسه كيف يعرف مصالحها ؟ كيف يعرف فلاحها؟ كيف يستقيم معاشه فضلًا عن معاده؟!
2- إننا نطلب العلم لنعرف به نبينا صلى الله عليه وسلم: فمن أقبل على العلم الشرعي؛ عرف النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفه وعرف ما جاء به؛ تيقن صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم يعرفون صدق ما أخبر به؛ لأنهم بما معهم من العلم يدركون صحة خبره صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه من معاني هذا الكتاب العظيم، وفيما أدركوه من آيات الله عز وجل في الأنفس والآفاق، قال تعالى:{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[6]}[سورة سبأ]. وقال جل وعلا:{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا[107]}[سورة الإسراء]. ولا يمكن أن يكون منهم هذا إلا إذا صدقوا بما جاء في الكتاب، فإنهم يخرون تعظيماً لله، وتعظيمًا لكلام الله سبحانه، وتعظيمًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى والنور.
3- العلم الشرعي يعصم العبد من الوقوع في أعظم الظلم وهو الشرك: قال سبحانه:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[18]}[سورة آل عمران]. واستشهاد الله للعلماء بيان لفضلهم وأنه تزكية لهم؛ لأنه لا يمكن أن تقبل شهادة أحد ما لم يكن عدلًا، فاستشهد الله العلماء على أعظم مشهود وهو التوحيد، وكان في ذلك تعديل لهم لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول قال سبحانه في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية لما فقدوا العلم قالوا:{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا[23]}[سورة نوح]. فهذه وصية بعض الجهال من المشركين لأتباعهم، ولمن يسمع نصحهم.. لكنه متى كان هذا؟ كان هذا لما نسي العلم، وارتفع أثره، ولم يبق لدى الناس له وجود؛ عبد هؤلاء الأصنام من دون الله فالعلم يعصم الإنسان من الشرك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في بيان معنى هذه الآية:' أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ 'رواه البخاري. ومن هذا نفهم أن نسيان العلم سبب لكل شر، بل هو سبب لأعظم الشرور وهو الشرك بالله سبحانه.(/1)
4- نطلب العلم الشرعي؛ لأن به تكمل الأخلاق الفاضلة، وبه يحصل الإنسان محاسن الخصال: ولذلك قال تعالى :{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[164]}[سورة آل عمران]. ما مهمته الرسول؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} والتلاوة هنا ليست تلاوة اللفظ فقط بل هي تلاوة اللفظ والمعنى، فهو يبين لهم بقوله وفعله ما أنزل الله من الكتاب المبين، {وَيُزَكِّيهِمْ} والتزكية هي التدرج بالنفس إلى أعلى درجات كمالها، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله مزكيًا مكملًا للأخلاق، ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ]. قال أنس رحمه الله:' إذا قل العلم ظهر الجفاء'.
فالخلق الفاضل والسجايا الكريمة تنبع عن العلم الشرعي، فإذا أقبل الإنسان على تعلم كتاب الله، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم تلقيًا بصدر منشرح، وهمة عالية، ورغبة في الخير؛ فإنه لابد وأن تزكو أخلاقه، وأن يظهر للعلم أثر في أخلاقه في قوله في عمله في هديه في سمته في سائر شأنه.
مدح الله في كتابه صفاتٍ كثيرة وأثنى على أهلها، واعلم أن كل صفة مدح الله بها العبد إنما منشؤها العلم، وهذا يبين أهمية العلم، وأن به تكمل الفضائل وتحصل على السبق في ميادين الخير والبر،
وأن من قعد عن العلم فقد قعد عن تكميل أخلاقه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ] رواه أحمد .
5- نطلب العلم الشرعي لأنه به يعصمنا الله من الفتن: والفتن كثرت في هذا الزمان، وستكثر لأنه كلما تقدم الوقت كثرت أسباب الضلال والزيغ وأسباب الشر على مر العصور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ] رواه البخاري.
إنما العلم الشرعي حصن يتدرع به الإنسان من الوقوع في شراك الفتن: فتن الشهوات أو فتن الشبهات، قال تعالى في بيان أثر العلم في إزاحة العصمة من كل فتنة:{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ...[83]}[سورة النساء]. وهذا شأن المنافقين وعملهم إذا جاءهم أمر من الأمن، أو الخوف أذاعوا به أي أشاعوه ونشروه دون أن يترووا هل في إشاعته مصلحة للمؤمنين وأهل الإسلام، أو لا، قال تعالى:{...وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[83]}[سورة النساء]. فالعلم سبب للحفظ وصيانة من الوقوع في أسباب الشر.
إن الفتن تكثر مع مرور الوقت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ] رواه البخاري ومسلم. وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ أي: كثرة القتل في الناس، وانظر حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أول ما يصاب به الناس بين يدي الساعة فذكر رفع العلم لما لرفع العلم من الشر الذي يصيب الناس، ويبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ] رواه البخاري ومسلم. وهذا يبين لنا خطورة ارتفاع العلم، وأن ارتفاع العلم من المجتمع سبب للوقوع في أنواع الفتن، وأنواع الشرور.(/2)
6- إن التمسك بالعلم والإقبال عليه سبب لأن يقذف الله في قلب العبد النور الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل: وما أحوج الإنسان إلى أن يقذف الله في قلبه نوراً يمشي به في الناس، يميز به بين الحق والباطل، بين الهدى والغي، بين الرشاد والضلال.. إننا نحتاج إلى هذا النور، وهذا النور سببه ووسيلة تحصيله تقوى الله مع العلم، قال الله سبحانه وتعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[28]}[سورة الحديد]. فالقلوب إذا ملئت بالعلم تحصنت من الوقوع في الشبهات، وتحصنت من أن تقر فيها الشهوات على وجه الدوام، بل كل شبهة ترد على القلب يردها القلب بقوته وصلابته، وكل شهوة تترك أثرًا في القلب يردها القلب بما معه من الإيمان الصادق، والإقبال على الله، والتوبة والاستغفار، فلا يبقى في قلبه شيء من الشبهات، ولا شيء من الشهوات قال سبحانه وتعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ... [122]}[سورة الأنعام]. إن الذي أُعطي النور هو الذي استمسك بالعلم الشرعي بالكتاب والسنة، والذي بقي في الظلمات هو ذلك الذي أعرض عن كتاب الله عز وجل، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
7- إننا نطلب العلم لأن الله بيّن في كتابه فضل العلم، وفضل أهله، ورتّب الأجور العظيمة على تحصيل العلم وطلبه: ولذلك ينبغي لمن رغب في تحصيل تلك الفضائل أن يسعى في تحصيل العلوم الشرعية، فإن العلوم الشرعية سبب لتحصيل تلك الفضائل كقوله تعالى:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...[11]}[سورة المجادلة]. فكلما كثر علمك بالله؛ كلما كثر علمك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كلما ارتفعت درجتك، وعلت قدمك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:{مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ] رواه البخاري ومسلم.
إن أهل العلم هم خلاصة الوجود، وهم الذين بهم يحفظ الله الأمة من الزيغ والضلال، فمن أراد مثل هذه الفضائل؛ فليقبل على العلم الشرعي.
8- نطلب العلم لأن العلم من أهم ما يحتاجه من يقوم بالدعوة إلى الله: فلا يسوغ لمن يقوم بالدعوة إلى الله -وهي أشرف المقامات- أن يكون جاهلًا، بل لابد وأن يكون عالماً، عالماً بأي شيء؟ عالماً بما يدعو، عالماً بمن يدعو إليه، فمن علم من يدعو إليه وبما يدعو؛ فإنه داخل في قوله عز وجل:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [108]} [سورة يوسف]. فالعلم هو الذي يثمر البصيرة التي أثنى الله عليها في كتابه، وأثبتها الله لرسوله في قوله: :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...[108]}[سورة يوسف]. أي أنا ومن اتبعني على بصيرة ندعو.
إن الناس في هذا الزمان أحوج ما يكونون إلى من يبصرهم بالله.. إلى من يدعوهم إلى الهدى، أهل الإسلام يحتاجون إلى دعوة من أهل العلم ممن عرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يحتاجون إلى من يعلمهم ويفهمهم القرآن، يحتاجون إلى من يعرفهم بالله، ويعرفهم بدينه وما يجب له سبحانه، إن الأمة بحاجة ماسة إلى العلم، بل إن الإمام أحمد رحمه الله قال إن حاجة الناس إلى العلم فوق كل حاجة، يقول رحمه الله:' الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة والخبز والماء في اليوم مرة أو مرتين العلم'. كلما كثر علم الإنسان؛ كلما كانت بصيرته ونظره وعبادته وتقواه وصلاحه ونفعه أكبر، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من العلم، وأن نشيع العلم الذي تعلمناه بين الناس، فإن إشاعة العلم ونشره مما يثبت العلم ويزكيه وينميه.
إن أمتنا الإسلامية في هذا الوقت بحاجة إلى العلم لكثرة ما في بلدان المسلمين من الجهل بالله، وذلك يظهر بمظاهر الشرك الكثيرة المنتشرة في بلاد المسلمين.. يظهر بالبدع الكثيرة التي انتشرت في بلاد المسلمين.. يظهر بتقصير كثير من المسلمين فيما أوجبه الله عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في ثاني أركان الإسلام في الصلاة، فإن كثيراً من المسلمين يقصرون فيها، إما: أنهم لا يؤدونها، وإما: أنهم يقصرون فيها بالتأخير، أو بأنهم لا يقيمونها على وجهها.. تظهر حاجة الأمة إلى العلم بما نشاهده من الدعاوى المنحرفة التي تشيع بين المسلمين وتنتشر بينهم، وتروج في أقلامهم وأقوالهم وكتاباتهم وبلدانهم.(/3)
إننا بحاجة إلى أن نبصر المسلمين بدينهم لما تشهده الأمة من هجمة عظيمة على الإسلام في هذه الأيام فان أعداء الإسلام ضاقوا بالإسلام ذرعاً، وبدؤوا يشككون فيه، ويبحثون عما يصور لهم أنه تشوه فيه، أو ضعف، والضعف في عقولهم، والتشوه في أذهانهم، وأما كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو الحق المبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
9- إننا بحاجة إلى العلم لندعو غير المسلمين: فإن الناظر إلى جمهور الناس يرى أن المسلمين لا يشكلون إلا خمس العالم، وهذا بالنسبة لمجموع الناس عدد قليل، ينبغي للأمة أن تجهد وأن تبذل ما تستطيع في سبيل إيصال هذه الرسالة التي أنقذ الله بها الناس، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور، فهؤلاء يحتاجون إلى دعوة تبين محاسن الإسلام، يبين فيها ما في هذا الدين من جوانب العظمة- وكله عظيم- يبين فيها بطلان ما يدعيه أعداء الإسلام من أن هذا الإسلام فيه وفيه من الشبهات التي يثيرونها وهي في الحقيقة شبه وخيالات، وظنون فاسدة، إما ناشئة عن فساد نية، أو ضعف علم، فإذا كمل العلم، وصحت النية؛ انبهر العالم بما في هذا الدين من النور الساطع الذي يخرجهم الله به من الظلمات إلى النور.
كل هذه الأسباب من أجلها نتعلم العلوم الشرعية، أما ما يتعلق بالعلوم الدنيوية المدنية فإنها واجبة على الأمة لاسيما في هذا الوقت الذي تعيش الأمة سباقاً حضارياً لا يعرف توقفًا.
إننا نحتاج للعلوم بشتى صنوفها في الصناعة، في الطب، في جميع مجالاتها التجريبية والمدنية، وذلك لأن بها يحصل فرض الكفاية التي من خلالها تستغني الأمة عن غيرها، ومن خلالها تخرج الأمة من كونها فتنة للذين كفروا، فإن من صور افتتان الكفار ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والانكسار والتقهقر الحضاري الذي جعل المسلمين في آخر الركب.
إن العلوم في شتى أنواعها لم تعلم، ولم تبذل فيها الأموال، ولم يجتهد فيها المربون والمعلمون على مستوى العالم كله لأجل أن تكتسب بها الوظائف، فالعلم ليس وسيلة لتحصيل المكاسب الدنيوية، فإذا كان كذلك فينبغي لنا أن نصحح النية، ومن كان غرضه من العلوم الشرعية خاصة أن يحصل بها المكاسب الدنيوية، فليذهب إلى غير هذا الميدان، وليبحث عن غير هذا السبيل، فانه من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه، ولا يبتغيه إلا لدنيا يصيبها لم يرح رائحة الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ[15]أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[16]}[سورة هود].
هذه لمحة عن جواب هذا السؤال: لماذا نتعلم؟ الذي لابد أن نشتغل في طلب الجواب عنه في مجالسنا، وفي دراستنا، وفي عملنا؛ لأن الجواب عنه يختصر علينا، ويلخص لنا شيئاً كثيراً قد نجهله ووجود هذا السؤال في أذهاننا يفيدنا فائدتين:
الفائدة الأولى: تحديد الغايات، وتحديد الغايات مما يعين الإنسان في السعي إلى تحصيلها .
الفائدة الثانية: أن ننظر ونقيس سيرنا في تحقيق هذه الغاية، فإذا أجبنا على السؤال؛ يمكننا بعد ذلك أن نقيس ما الذي حصلناه؟ ما الذي حققناه مما لم نحققه في سبيل التعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من محاضرة'لماذا نتعلم؟' للشيخ /خالد بن عبد الله المصلح
مفكرة الإسلام(/4)
محاضرة
لماذا نتعلم؟
لفضيلة الشيخ
www.almosleh.com
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد ..
فنحمد الله سبحانه وتعالى على ما يسر من تجدد اللقاء في هذا اللقاء الشهري الذي نتناول فيه شيئاً من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة الكرام إن موضوع هذا الدرس هو ما قرأتموه لماذا نتعلم؟! إنه سؤال قليل العبارة لكنه يتضمن في جوابه معاني كبيرة وذلك أن المسؤول عنه أمر عظم الله جل وعلا شأنه في كتابه وذكر فضل أهله وبين مناقبهم وحث على الاستكثار منه وكذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مليئة بالنصوص الحاثة على العلم المرغبة فيه الداعية إليه ويكفي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه كما في حديث أم سلمة أنه كان يستفتح النهار بأذكار منها: (( اللهم إني أسألك علماً نافعاً))(1) وقد أمر الله جل وعلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الله المزيد من العلم فقد قال جل وعلا: ? وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ? (2). ولم يأمر جل وعلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة في شيء إلا العلم وذلك انه مفتاح الفضائل وفيه خير عظيم ، فالعلم كما قال الإمام مالك: خير كله. لكن ينبغي للمتعلمين وللمعلمين ولمن يشتغل بالتعليم على أي وجه كان أن يعرف لماذا نتعلم.
أيها الإخوة الكرام.. إن جواب هذا السؤال يحتاج إلى أن نبين أن أنواع العلم التي يشتغل بها الناس نوعان من حيث الجملة، النوع الأول وهو أشرفها وأعظمها أجراً عند الله عز وجل العلوم الشرعية العلوم الدينية وهذه العلوم هي كل علم يقرب إلى الله جل وعلا علم الكتاب وعلم السنة علم قول الله عز وجل وعلم قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في هذا العلم كل ما أعان على فهم كتاب الله وفهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يحصل لمتعلمه الفضل إذا قصد بهذا التعلم فهم كلام الله وفهم كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أيها الإخوة الكرام.. لماذا نتعلم العلم الشرعي؟؟ لماذا أطال العلماء في الحث على تحصيل العلم والصبر على مضاضة الطلب وما فيه من الكد والعناء؟ هل هو لتحصيل مكاسب قريبة وانتزاع مناصب في الدنيا أم هو لأمر أبعد من ذلك؟ إن طلب العلم الشرعي له مقاصد عديدة من أهمها وأولها أنه يعرف به الله سبحانه وتعالى فالعلم الشرعي أيها الإخوة به يعرف الإنسان ربه سبحانه وتعالى يعرف ما لله جل وعلا من الأسماء وماله من الصفات وماله من الأفعال هذا فيما يتعلق بذاته جل وعلا ، يعرف أيضاً ما يجب له من الحقوق فإن العلم الشرعي هو السبيل الذي يتعرف به الخلق على ربهم سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى بعث المرسلين به معرفين وإليه داعين فكل الرسل جاءت تعرف الخلق بربهم وتدلهم عليه وتبين لهم شيئاً من أوصافه ليعرفوه سبحانه وتعالى ويعبدوه وذلك أيها الإخوة أنه لا سعادة للناس في حياتهم ولا لذة لهم في معاشهم إلا بمعرفة الله جل وعلا فان معرفة الله سبحانه وتعالى أصل السعادة ورأسها وهذه السعادة ليست مقتصرة على سعادة الدنيا فحسب بل هي التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة فلذة العلم بالله جل وعلا ومعرفته سبحانه وتعالى فوق كل شيء فالعلم بذاته يستلزم العلم بما سواه لأن من عرف الله تفتحت له أبواب العلم وأبصر السبيل واستضاء له الطريق فلا يحتاج بعد ذلك أكثر من العلم بالله جل وعلا لأن به يفتتح كل مغلق ويحصل به كل مطلوب أما من لم يعرف ربه جل وعلا فإنه عن كل خير غافل قال الله جل وعلا: ? وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ? (3) فتأمل هذه الآية تجد فيها أن الله عز وجل تهدد من نسيه بأنه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه ومن نسي نفسه أيها الإخوة كيف يعرف مصالحها ؟ كيف يعرف فلاحها؟ كيف يستقيم معاشه فضلاً عن معاده؟
__________
(1) أخرجه أحمد من حديث أم سلمة برقم 25312 .
(2) طه : 114.
(3) الحشر : 19.(/1)
إن من غفل عن الله عز وجل ونسي ربه سبحانه وتعالى يصدق عليه قوله جل وعلا: ?وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً? (1) فإن من غفل عن الله عز وجل وعن ذكره انفرط عليه أمره ولم ينتظم له شيء من الأشياء بل تفوته مصالح دينه ومصالح دنياه وهذا أيها الإخوة ليس مبالغة في بيان أهمية العلم بالله عز وجل بل هذا هو الواقع وليس ما نراه عند الكفار من إتقان عمارة الدنيا من تشييد المباني وإتقان المصنوعات والسبق الحضاري ليس ذلك أمام ما فاتهم من الخيرات التي في الدنيا والخيرات التي أخبر بها جل وعلا في الآخرة ليس ذلك بشيء إنما هو كما قال الله جل وعلا: ?كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ? (2) فهو أكل وشرب وتمتع قليل لكنه لا ينزع عنهم هذا وصف الإجرام.
أيها الإخوة الكرام.. إننا نطلب العلم الشرعي لنعرف به نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله حجة على الإنس والجن بعثه الله سبحانه وتعالى بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً يدعو إلى الله عز وجل، يبلغ الرسالات، يبصر من العمى ويهدي من الضلال فمن أقبل على العلم الشرعي عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرف ما جاء به تيقن صدق ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - فإن أهل العلم يعرفون صدق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - لأنهم بما معهم من العلم يدركون صحة خبره - صلى الله عليه وسلم - فيما عقلوه من معاني هذا الكتاب العظيم وفيما أدركوه من آيات الله عز وجل في الأنفس والآفاق قال الله جل وعلا: ?وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ? (3) وقال جل وعلا: ? قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً ? (4) ولا يمكن أن يكون منهم هذا إلا إذا صدقوا بما جاء في الكتاب فإنهم يخرون تعظيماً لله عز وجل وتعظيماً لكلام الله سبحانه وبحمده وتعظيماً لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحق والهدى والنور.
أيها الإخوة الكرام.. إن من فوائد تعلم العلم الشرعي أن العلم الشرعي يعصم العبد من الوقوع في أعظم الظلم وهو الشرك قال الله سبحانه وتعالى: ? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ? (5) فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء دون غيرهم من الناس على أعظم مشهود وهو أنه لا إله إلا هو سبحانه وبحمده أنه المتفرد بالألوهية واستشهاد الله للعلماء بيان لفضلهم وأنه تزكية لهم لأنه لا يمكن أن تقبل شهادة أحد ما لم يكن عدلاً فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء على أعظم مشهود وهو التوحيد وكان في ذلك تعديل لهم لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول قال الله سبحانه وتعالى في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية لما فقدوا العلم قالوا: ? وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً?(6) فهذه وصية بعض الجهال من المشركين لأتباعهم ولمن يسمع نصحهم لكنه متى كان هذا؟ كان هذا لما نسي العلم وارتفع أثره ولم يبق لدى الناس له وجود عبد هؤلاء الأصنام من دون الله عز وجل فالعلم يعصم الإنسان من الشرك، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في بيان معنى هذه الآية كان هؤلاء رجالاً صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم أنصاباً وسموها بهم فنصبوا الأنصاب ليتذكروا عبادة هؤلاء وسموها بأسمائهم لينشطهم هذا على شدة السعي للخير والعمل به ففعلوا ولم تعبد أي لم تعبد فترة من الزمن حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ومن هذا نفهم أن نسيان العلم سبب لكل شر بل هو سبب لأعظم الشرور وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى أيها الإخوة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))(7) وإن المتأمل الناظر لهذا الترتيب للفضل يعلم أن هذا الترتيب للفضل إنما هو بالنظر إلى ما مع القرن الأول من العلم والإيمان ، فلما كان القرن الأول سابقاً في العلم والإيمان كان متقدماً على غيره من القرون وهكذا القرن الذي بعده والقرن الذي بعده ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه وذلك بسبب نقص العلم فانه كلما تقدم الزمن وكلما مضى الدهر كلما قل العلم في الناس ولا يقل برفع العلم فإن الله لا يرفع العلم ولا ينتزعه انتزاعاً من صدور الناس إنما ينتزعه بموت العلماء.
__________
(1) الكهف : 28.
(2) المرسلات : 46 .
(3) سبأ : 6 .
(4) الإسراء : 107 .
(5) آل عمران : 18 .
(6) نوح : 23 .
(7) أخرجه البخاري في الشهادات برقم 2457.(/2)
أيها الإخوة الكرام.. إننا نطلب العلم الشرعي لأن العلم الشرعي به تكمل الأخلاق الفاضلة وبه يحصل الإنسان محاسن الخصال ولذلك قال الله جل وعلا: ? لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ? (1) فالله جل وعلا أخبر بأنه من على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم ما مهمته؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ يتلو عليهم آياته ويزكيهم يتلو عليهم الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل والتلاوة هنا ليست تلاوة اللفظ فقط بل هي تلاوة اللفظ والمعنى فهو يبين لهم بقوله وفعله ما أنزل الله جل وعلا من الكتاب المبين ويزكيهم والتزكية هي التدرج بالنفس إلى أعلى درجات كمالها فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله مزكياً مكملاً للأخلاق ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))(2) قال أنس رحمه الله: إذا قل العلم ظهر الجفاء. فالخلق الفاضل والسجايا الكريمة تنبع أيها الإخوة عن العلم الشرعي فإذا أقبل الإنسان على تعلم كتاب الله عز وجل تعلماً وعلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقياً بصدر منشرح وهمة عالية ورغبة في الخير فإنه لابد وان تزكو أخلاقه ولابد أن يظهر للعلم أثر في أخلاقه في قوله في عمله في هديه في سمته في سائر شأنه.
أيها الإخوة .. مدح الله جل وعلا في كتابه صفاتٍ كثيرة وأثنى على أهلها واعلم أن كل صفة مدح الله بها العبد إنما منشؤها العلم وهذا يبين لك أهمية العلم وأن العلم به تكمل الفضائل به تحصل على السبق في ميادين الخير والبر والشرف وان من قعد عن العلم فقد قعد عن تكميل أخلاقه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))(3).
أيها الإخوة .. إننا نطلب العلم الشرعي لأنه به يعصمنا الله جل وعلا من الفتن والفتن كثرت في هذا الزمان وهي على مر الوقت ستكثر لأنه كلما تقدم الوقت كثرت أسباب الضلال وأسباب الزيغ وأسباب الشر على مر العصور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه))(4) .
أيها الإخوة .. إنما العلم الشرعي حصن يتدرع به الإنسان من الوقوع في شراك الفتن سواء كانت الفتن من فتن الشهوات أو من فتن الشبهات قال الله جل وعلا في بيان أثر العلم في إزاحة العصمة من كل فتنة: ?وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ? (5) وهذا شأن المنافقين وعملهم إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به أي أشاعوه ونشروه دون أن يترووا هل في إشاعته مصلحة للمؤمنين وأهل الإسلام أو لا قال الله جل وعلا: ?وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ? (6). فالعلم سبب للحفظ وصيانة من الوقوع في أسباب الشر.
أيها الإخوة .. إن الفتن كما ذكرنا تكثر مع مرور الوقت كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما: ((إن بين يدي الساعة أياماً يُرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج))(7) والهرج القتل أي كثرة القتل في الناس وانظر حيث ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان أول ما يصاب به الناس بين يدي الساعة فذكر رفع العلم لما لرفع العلم من الشر الذي يصيب الناس، ويبين هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث أنس - رضي الله عنه - : ((إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل والزنى وشرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد))(8) وهذا يبين لنا أيها الإخوة خطورة ارتفاع العلم وأن ارتفاع العلم من المجتمع سبب للوقوع في أنواع الفتن وأنواع الشرور.
وأنت أيها الأخ إذا تأملت مسيرة الأمة تجد أن عمل الصحابة رضي الله عنهم في ذب الفتن والبدع وفي رد الشرور كان أعظم من عمل من بعدهم وأن الشرور في وقتهم والفتن في وقتهم لم تنتشر وتشيع كما كانت في العصور التي كانت بعد عصر الصحابة وعصر التابعين ثم من بعدهم.
إن بوادر الفتن التي ظهرت في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانت بوادر خفيفة وليست من الفتن المغلظة والبدع الشديدة التي يحصل بها زيغ القلوب وطيش الألباب.
__________
(1) آل عمران : 164 .
(2) أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة برقم 8595 .
(3) أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة برقم 8595 .
(4) أخرجه البخاري في الفتن برقم 6541 .
(5) النساء : 83
(6) النساء : 83
(7) أخرجه البخاري في الفتن برقم 6538
(8) أخرجه البخاري في النكاح برقم 4830(/3)
أيها الإخوة .. إن التمسك بالعلم والإقبال عليه سبب لأن يقذف الله جل وعلا في قلب العبد النور الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل وما أحوج الإنسان إلى أن يقذف الله جل وعلا في قلبه نوراً يمشي به في الناس يميز به بين الحق والباطل بين الهدى والغي بين الرشاد والضلال إننا نحتاج إلى هذا النور وهذا النور سبب ووسيلة تحصيله تقوى الله جل وعلا مع العلم قال الله سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?(1). القلوب إذا ملئت بالعلم تحصنت من الوقوع في الشبهات وتحصنت من أن تقر فيها الشهوات على وجه الدوام بل كل شبهة ترد على القلب يردها القلب بقوته وصلابته وكل شهوة تترك أثراً في القلب يردها القلب بما معه من الإيمان الصادق والإقبال على الله عز وجل والتوبة والاستغفار فلا يبقى في قلبه شيء من الشبهات ولا شيء من الشهوات قال سبحانه وتعالى: ?أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا?(2) إن الذي أعطي النور هو الذي استمسك بالعلم الشرعي بالكتاب والسنة، والذي بقي في الظلمات هو ذلك الذي أعرض عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أيها الإخوة الكرام.. إننا نطلب العلم لأن الله سبحانه وتعالى بيّن في كتابه فضل العلم وفضل أهله ورتّب الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة على تحصيل العلم وعلى طلبه ولذلك ينبغي لمن رغب في تحصيل تلك الفضائل أن يسعى في تحصيل العلوم الشرعية فإن العلوم الشرعية سبب لتحصيل تلك الفضائل كقول الله جل وعلا: ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ? (3) وهذا فيه دعاء لكل أحد أن يسعى إلى الترقي في درجات الخير في درجات البر والإحسان في الاستكثار من العلم فكلما كثر علمك بالله عز وجل كلما كثر علمك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ارتفعت درجتك وعلت قدمك وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ))(4) أي يرزقه الفقه في الدين أي في الشرع في ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله عز وجل وسنته - صلى الله عليه وسلم -.
أيها الإخوة .. إن أهل العلم هم خلاصة الوجود وهم الذين بهم يحفظ الله سبحانه وتعالى الأمة من الزيغ والضلال هم الذين تكفل الله جل وعلا بنصرهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم – وفي رواية - من خالفهم - حتى يأتي أمر الله عز وجل ))(5) فمن أراد مثل هذه الفضائل فليقبل على العلم الشرعي ليقبل على كتاب الله عز وجل حفظاً وفهماً وعلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - درساً وضبطاً وفهماً لكلامه - صلى الله عليه وسلم - ، ليقبل على حلق العلم، ليقبل على المعاهد ودور التعليم فإن فيها خيراً عظيماً بها يحصل للإنسان مبادئ العلم التي تنير له السبيل ومن خلالها يستطيع أن يتوصل إلى خير عظيم فإن حلق العلم ودور التعليم إنما هي بوابات فيها المفاتيح التي تفتح لك أبواب العلم ثم بعد ذلك يفتح الله جل وعلا على العبد على حسب ما معه من الإيمان والتقوى والرغبة والإخلاص وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أيها الإخوة الكرام.. إن من فوائد ومنافع طلب العلم أن العلم من أهم ما يحتاجه من يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل فلا يسوغ لمن يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل والدعوة إلى الله هي أشرف المقامات لا يسوغ له أن يكون جاهلاً بل لابد وأن يكون عالماً، عالماً بأي شيء؟ عالماً بما يدعو عالماً بمن يدعو إليه، فمن علم من يدعو إليه وبما يدعو فإنه داخل في قول الله عز وجل: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ? (6). فالعلم أيها الإخوة هو الذي يثمر البصيرة التي أثنى الله عليها في كتابه وأثبتها الله عز وجل لرسوله في قوله: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي? أي أنا ومن اتبعني على بصيرة ندعو.
__________
(1) الحديد : 28
(2) الأنعام : 122
(3) المجادلة : 11
(4) أخرجه البخاري في العلم برقم 69 .
(5) أخرجه أحمد من حديث ثوبان برقم 21369 ولفظ ( من خالفهم ) برقم 21361 .
(6) يوسف : 108.(/4)
أيها الإخوة .. إن الناس في هذا الزمان أحوج ما يكونون إلى من يبصرهم بالله عز وجل إلى من يدعوهم إلى الهدى وهذا ليس خاصاً بأهل الإسلام فحسب أهل الإسلام يحتاجون إلى دعوة من أهل العلم ممن عرف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يحتاجون إلى من يعلمهم القرآن ويفهمهم القرآن ويبين لهم معاني القرآن يحتاجون إلى من يعرفهم بالله عز وجل ويعرفهم بدينه وما يجب له سبحانه وتعالى ولا تنظر إلى محيطك الضيق الذي تعيش فيه فإن الأمة بحاجة ماسة إلى العلم بل إن الإمام أحمد رحمه الله قال: إن حاجة الناس إلى العلم فوق كل حاجة. يقول رحمه الله: الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة والخبز والماء في اليوم مرة أو مرتين العلم أيها الإخوة يحتاجه المسلمون وغيرهم يحتاجونه بعدد الأنفاس كلما كثر علم الإنسان كلما كانت بصيرته ونظره وعبادته وتقواه وصلاحه ونفعه أكبر، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من العلم وأن نشيع العلم الذي تعلمناه بين الناس فإن إشاعة العلم ونشره مما يثبت العلم ويزكيه وينميه.
أيها الإخوة .. إن أمتنا الإسلامية في هذا الوقت هي بحاجة إلى العلم لكثرة ما في بلدان المسلمين من الجهل بالله عز وجل وذلك يظهر بمظاهر الشرك الكثيرة المنتشرة في بلاد المسلمين يظهر أيضاً بالبدع الكثيرة التي انتشرت في بلاد المسلمين يظهر أيضاً بتقصير كثير من المسلمين فيما أوجبه الله عليهم ومن ذلك تقصيرهم في ثاني أركان الإسلام في الصلاة فإن كثيراً من المسلمين يقصرون فيها إما أنهم لا يؤدونها ولا يقومون بها في أوقاتها التي أمر الله بها أن تقام فيها وإما أنهم يقصرون فيها بالتأخير أو بأنهم لا يقيمونها على وجهها تظهر حاجة الأمة إلى العلم بما نشاهده من الدعاوى المنحرفة التي تشيع بين المسلمين وتنتشر بينهم وتروج في أقلامهم وأقوالهم وكتاباتهم وبلدانهم، إننا بحاجة إلى أن نبصر المسلمين بدينهم لما تشهده الأمة من هجمة عظيمة على الإسلام في هذه الأيام الأخيرة فان أعداء الإسلام ضاقوا بالإسلام ذرعاً وبدؤوا يشككون فيه ويبحثون عن ما يصور لهم أنه تشوه فيه أو ضعف فيه والضعف في عقولهم والتشوه في أذهانهم وأما كلام الله عز وجل وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو الحق المبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أيها الإخوة الكرام.. إننا بحاجة إلى العلم لندعو غيرنا من الناس لندعو غير المسلمين فإن الناظر إلى جمهور الناس يرى أن المسلمين لا يشكلون إلا خمس العالم وهذا بالنسبة لمجموع الناس عدد قليل ينبغي للأمة أن تجهد وأن تبذل ما تستطيع في سبيل إيصال هذه الرسالة التي أنقذ الله جل وعلا بها الناس وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور فهؤلاء يحتاجون إلى دعوة تبين فيها محاسن الإسلام يبين فيها ما في هذا الدين من جوانب العظمة وكله عظيم يبين فيها بطلان ما يدعيه أعداء الإسلام من أن هذا الإسلام فيه وفيه من الشبهات التي يثيرونها وهي في الحقيقة:
شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حججاً وكل كاسر مكسور
فالجميع لا حجة فيه بل هي شبه وخيالات وظنون فاسدة إما ناشئة عن فساد نية أو ضعف علم فإذا كمل العلم وصحت النية انبهر العالم بما في هذا الدين من النور الساطع المبين الذي يخرجهم الله عز وجل من الظلمات إلى النور كل هذه الأسباب من اجلها نتعلم العلوم الشرعية، أما ما يتعلق بالعلوم الدنيوية المدنية فإن العلوم الدنيوية المدنية واجبة على الأمة لاسيما في هذا الوقت الذي تعيش الأمة سباقاً حضارياً لا يعرف توقفاً لا يعرف كللاً ولا مللاً بل إن الأمة يسابقها أمم يصلون الليل بالنهار في سبيل تحصيل العلوم ثم في سبيل تسخيرها والاستفادة منها في تحقيق العز للأمم والدول والمجتمعات.
إننا نحتاج للعلوم بشتى صنوفها في الصناعة، في الطب، في جميع مجالاتها التجريبية والمدنية وذلك لأن بها يحصل فرض الكفاية التي من خلالها تستغني الأمة عن غيرها ومن خلالها تخرج الأمة من كونها فتنة للذين كفروا فإن من صور افتتان الكفار ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والانكسار والتقهقر الحضاري الذي جعل المسلمين في آخر الركب.
ومعلوم أيها الإخوة أن السابق لا يمكن أن يقتدي بمن يراه دونه في التقدم والرقي فلا بد للأمة أن تطلب هذه العلوم لتخرج من هذا الحيز من هذا الموضوع الذي جعلها فتنة للذين كفروا حيث أن كثيراً من الكفار يصدهم عن الإسلام ما عليه المسلمون من ضعف وتقهقر وتشرذم وتشقق وعدم استمساك بالدين الحنيف وعدم عمل به.(/5)
أيها الإخوة الكرام.. إن العلوم في شتى أنواعها لم تعلم ولم تبذل فيها الأموال ولم يجتهد فيها المربون والمعلمون على مستوى العالم كله لأجل أن تكتسب بها الوظائف وتحصل بها الأموال أن اكتساب الوظائف والأعمال والمناصب ليس سبيله التعلم فحسب أن حصول المال من غير طريق العلم أقرب ولذلك تجد أن أكثر الأثرياء إنما حصلوا ثروتهم من غير العلم فالعلم ليس سبيلاً للتكسب بل إنه قد ثبت بالدراسات أن أقل الناس دخلاً هم الذين يشتغلون بالعلم، فالعلم ليس وسيلة لتحصيل المكاسب الدنيوية إذا كان كذلك ينبغي لنا أن نصحح النية ومن كان غرضه من العلوم الشرعية خاصة أن يحصل بها المكاسب الدنيوية فليذهب إلى غير هذا الميدان وليبحث عن غير هذا السبيل فانه من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه ولا يبتغيه إلا لدنيا يصيبها لم يرح رائحة الجنة(1) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله جل وعلا: ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?(2). بل إن العلوم الدنيوية لا تطلب لأجل التكسب فحسب بل إن الأمم تدفع الأموال وتشيد المدارس وتبذل الميزانيات الطائلة في سبيل التعليم لا لأجل وجود الوظائف للمتعلمين بل لأجل السبق الذي يحصل به رقي الأمة بمجموعها.
أيها الإخوة الكرام.. هذه لمحة عن هذا السؤال أو في جواب هذا السؤال الذي لابد أن نشتغل في طلب الجواب عنه في مجالسنا وفي دراستنا وفي عملنا لأن الجواب عنه يختصر علينا ويلخص لنا شيئاً كثيراً قد نجهله ووجود هذا السؤال في أذهاننا يفيدنا فائدتين:
الفائدة الأولى تحديد الغايات وتحديد الغايات مما يعين الإنسان في السعي إلى تحصيلها ، الفائدة الثانية أن ننظر ونقيس سيرنا في تحقيق هذه الغاية فإذا اجبنا على السؤال يمكننا بعد ذلك أن نقيس ما الذي حصلناه؟ ما الذي حققناه مما لم نحققه في سبيل التعلم أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم العلم النافع وأن يجعلنا من أئمة الهدى العاملين به وأن يوفقنا وأمتنا إلى نشر العلم والدعوة إليه والعمل به وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في كتاب العلم برقم 3179.
(2) ... هود : 15-16.(/6)
لماذا نتفاءل
بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرة هي المقلقات التي تحيط بحياة الناس العامة والخاصة، الدينية والدنيوية، تكدر صفوهم بل قد تعيق سيرهم، فالحياة مليئة بألوان العواثر، ومشحونة بأنواع المزعجات: ?لقد خلقنا الإنسان في كبد? (البلد:4). يكابد مضايق الدنيا ومشاقها لا يخلو من ذلك أحد:
كل من تلقاه يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن
والناس في تعاملهم مع هذه الطبيعة الحياتية يختلفون اختلافا كبيرا: فمنهم من يكون رهينا لأكباد الدنيا وصعابها ومتاعبها، فهي التي تهيمن عليهم ويكونون مسكونين بها أسارى لها، وهذه حال الأكثرين. ومنهم من ينجح في فك حلقات الأزمات وقيودها بأسباب ووسائل تخفف عليه تلك الأكباد، فلا تثقله الأعباء والأحمال.
وإن من أيسر تلك الأسباب وأسهل الوسائل أن يمتلئ القلب بالفأل الصادق والأمل المشرق الذي يوسع ما ضيقته الخطوب والنوازل:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الصالح، ففي البخاري ومسلم من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة.
ولا عجب، فإن الفأل الصالح أرحب المراكب التي تمخر عباب المستقبل المجهول، استبشارا بخير قادم، واستشرافا لأمل واعد.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأن التفاؤل ثمرة إحسان الظن بالله تعالى وكمال العلم برحمته وجوده:
وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأن التفاؤل تنشرح له النفوس وتسر له القلوب، فهو من أسباب سعادة الإنسان وزوال الهم عنه، ولذلك فإن التفاؤل من أهم أسباب الصحة النفسية والبدنية.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأن التفاؤل روح تبعث على العمل، وتفتح آفاق الجد والبذل لإدراك وتحقيق المقاصد وبلوغ الغايات، فالفأل والأمل سلم العمل، ودواء العجز والكسل:
ومن علقت نيل الأماني همومه تجشم في آثارها المطلب الوعرا
وتأثير التفاؤل يشمل الفرد والمجتمع، ولا يقتصر على جانب من جوانب الحياة بل يطال جميعها: فالتفاؤل على سبيل المثال عامل رئيس في قرارات الاستثمار الاقتصادية، ولذلك فإن الاقتصاديين يضعون في حساباتهم عندما يقيسون نشاط أي مجتمع واتجاهات الاستثمار فيه, مقدار التفاؤل لدى الناس؛ لأن ذلك يحدد السلوكيات الإنفاقية للأفراد والمجتمع.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأن التفاؤل ينفك به الإنسان من رهن الماضي وإخفاقاته وعثراته، ومن وطأة الحاضر وتحدياته ومشاقه وشدائده، فيسكن خوفه ويعظم رجاؤه في إدراك حاجته:
إذا ازدحمت همومي في فؤادي طلبت لها المخارج بالتمني
وقد ترجم نبينا صلى الله عليه وسلم التفاؤل واقعا في حياته، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا توقفه عن سيره إلى غايته ومقصوده نازلة مهما عظمت، ولا شدة مهما كبرت، هكذا كان صلى الله عليه وسلم في جميع مراحله: ففي مكة في شدة الأذى والحصار وصنوف المخاوف قال لأصحابه لما شكوا إليه عظيم ما يلقونه من البلاء: والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. وفي الهجرة خرج هو وأبو بكر مطاردا أحاطت به المخاوف من كل صوب، ومع ذلك قال لصاحبه: ?لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? (التوبة: 40). فصدق الله رسوله: ?فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? (التوبة: 40) وفي الأحزاب أحاط به خصومه وأعداؤه إحاطة السوار بالمعصم، فبشر أصحابه بفتح الشام وفارس واليمن.
أفلا يحق لنا بعد هذا كله أن نتفاءل ونعمل لتحقيق ما نؤمل؟(/1)
لماذا نعطي الدنية في ديننا؟
قبل أيام وبعد اغتيال الشيخ الشهيد أحمد ياسين ظهر علينا ما يسمى بعض المثقفين الفلسطينيين بدعوة غريبة منكرة يدعون فيها إلى عدم الرد على العدو باقترافه جريمة اغتيال الشهيد رحمه الله , ودعا هؤلاء إلى تحويل الانتفاضة المباركة إلى انتفاضة سلمية !! .
ولا ندري _ ونظن أنهم أنفسهم لا يدرون _ ما يريدون من وراء هذه الدعوة أصلا ؟! .
فهل ينتظرون من هذا العدو المجرم أن ينظر إليهم باحترام أو أن يرحم أهلنا من وراء هذه الدعوة ؟! .
أم أنهم يظنون أو يعتقدون أن مثل هذه الدعوات تجدي مع هذا العدو الذي لا يفهم إلا لغة التحدي والقوة وقد أثبتت التجارب والأيام هذا ؟! .
وأين هؤلاء من قول الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل }.
ثم إن هناك من الحقائق البينة التي لا تخفى على أحد في التعامل مع هذا العدو وأمثاله ومنها :-
أولا : مهما قدمنا من تنازلات ومهما قبلنا الدنية في ديننا وحقوقنا فهذا أبدا لن يجدي مع هذا العدو المجرم ولن يرضى بهذا أبدا فقد قال الله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } , فهذا قول الله وقولنا إلى الباحثين عن الرأي العالمي والدولي تجاه قضيتنا .
ثانيا : إن مثل هذه الدعوات للتخذيل عن العدو وهو في شدته - طلبا لأهداف ومآرب شخصية – تعتبر من أهم وأوضح دلائل النفاق وقد قال الله تعالى :
{ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
ومن هنا لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إخراج يهود بني قينقاع من المدينة هب إليه المنافقون وعلى رأسهم زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول لما رأى رجال بني قينقاع كتفوا لتضرب أعناقهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج في الجاهلية, فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني , وغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا [أي تغير وجهه للسواد من شدة غضبه صلى الله عليه وسلم ] ثم قال : ويحك أرسلني , قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي , أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني والله امرؤ أخشى الدوائر , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك ) فلم يقتلهم.
ثالثا : في حال اعتداء الكافرين على المسلمين أمر الله تعالى نبيه الرد والجهاد والغلظة عليهم وعلى المنافقين معهم لا التنازل والمساومة وقبول الذل فقال تعالى :
{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }
وقال تعالى :
{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم } .
رابعا : لئن كان كثير من الناس يرون في الجهاد والمقاومة شرا ومضرا بالمصالح بحسن نية أو بغيرها فقد وضح الله تعالى ذلك في كتابه وأمرنا بعدم السير وراء الأهواء ومخالفة النفس لأن الله جل جلاله هو الذي يعلم الخير فقال تعالى:
{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
خامسا : الواجب على أهل فلسطين خاصة والمسلمين عامة التصدي والمقاومة والجهاد للعدو في حال اعتدائه على أي فرد من الضعفاء نصرة لهم وامتثالا لأمر الله تعالى إذ قال :
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} .
سادسا : أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعال من بعده من أولياء المسلمين تدل على خلاف مثل هذه الدعوات فقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع من المدينة وأخذ سلاحهم وأموالهم وأمهلهم ثلاثة أيام لمغادرة المدينة لاعتدائهم على مسلم وقتله بعدما هب لإنقاذ مسلمة كشف اليهود عورتها .
وقد أمر النبي صلى الله عليه جيشا أن يتحرك نحو ملك بصرى وكانت غزوة مؤتة لمقتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحارث ين عمير الأسدي رضي الله عنه .
وقد حرك المعتصم جيشا كاملا تلبية لاستغاثة امرأة مسلمة صاحت وامعتصماه لما لطمها علج من علوج الروم وهي أسيرة من عمورية فكانت معركة عمورية .(/1)
سابعا : ينبغي على المسلم أن يأخذ الموقف الشجاع الذي يدعو لجهاد الكفار وألا يقبل الدنية والذل والمهانة والدعوة لذلك وهذا عده الله تعالى دليل صدق الإيمان فقال تعالى :
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} .(/2)
لمحات تاريخية من حياة ابن تيمية (2)
بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
لا بد للدارس لحياة ابن تيمية من معرفة الأحوال الفكرية والاجتماعية والسياسية في عصره حتى يأخذ وينظر من خلال تلك الحالة إلى حياة ذلك الإمام العظيم، فقد كان عصره وهو القرن السابع والثامن الهجري يموج موجا بالأفكار الدخيلة على الأمة الإسلامية حيث تشعبت الأفكار واختلفت الآراء في كثير من المسائل الشرعية وخاصة مسائل العقيدة التي يبنى عليها أساس كل شيء.
فقد عاصر بن تيمية فرقا كثيرة من الفرق الإسلامية التي شطحت وابتعدت عن الحق ونابذت أهل الحق في كثير من المسائل الأصولية.
وأكثرها امتدت جذورها إلى دينات أخرى من نصرانية ويهودية ووثنية جاء الإسلام على إنقاذها أو إبطالها من أساسها فمن شيعة إمامية على اختلاف مشاربها وتباعد ديارها، ومن رافضة غلاة أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معتزلة فلسفية حكمت العقل وحده، ومن جبرية مستسلمة يقولون إن الإنسان لا إرادة له وأنه كالريشة في مهب الرياح تصرفه كيف يشاء..
و من منتسبة للأشعري آمنت ببعض الصفات وأنكرت بعضها أو أولتها ونصبت نفسها الفرقة الوحيدة التي تمثل أهل السنة والجماعة.
كل هذه الأفكار والفرق عاش ابن تيمية كل حياته في خضمها يجاهد بقلمه ولسانه ويدافع عن جوهر العقيدة الإسلامية دفاع المستميت المتفاني في سبيلها، فقد كتب عن الشيعة والروافض كتابا ضخما عظيما في أربع مجلدات سماه ((منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)) وهو رد على كتاب ((منهاج الكرامة)) لمؤلفه ابن مطهر الحلي الشيعي المتوفى سنة 726هـ وقد كتب ابن مطهر كتابه هذا بصفة خاصة إلى الملك (الجايتو خدابنده) وهو أحد الملوك الإيلخانية ومن أحفاد الملك ((جنكير خان)) يدعوه فيه إلى مذهب الشيعة الإمامية.
و قد تناول ابن تيمية فيه أصول مذهبهم وتصدى للتفصيل والبسط فيه بعقلية جبارة مؤمنة يعرف كيف يضع النقاط على الحروف ويضرب على المحز من حيث لا يشعرون فرد مذهبهم إلى جذوره الأصيلة التي يبنون عليها فقد كان بحق نقض كلامهم وتهافتهم في كل باب يفتحونه على أنفسهم ولا يستطيعون إغلاقه..
ابن تيمية والصوفية الفلسفية:
تطورت فكرة التصوف والصوفية في عهد ابن تيمية إلى أفكار خبيثة تهدم الإسلام هدما صريحا وتقيم وثنية فلسفية باسم الزهد والولاية والكرامة فقد تحول مفهوم التصوف الدال على الصفاء وتزكية النفس - وإن كان أصل الاسم من أساسه خطأ - تحول هذا مفهوم إلى المفهوم آخر وهو القول بوحدة الوجود أو بمعنى آخر حلول الله في بعض مخلوقاته - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وقد تزعم هذا القول وأعلنه في كتبه العديدة ومن أشهرها كتاباه ((الفتوحات المكية)) و((فصوص الحكم)) ذلك الملحد الخبيث أبو بكر محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي ومن أقواله الكافرة:
الرب حق والعبد حق
...
يا ليت شعري من المكلف؟؟
إن قلت عبد فذلك رب
...
أو قلت رب أنى يكلف؟؟
فسر هذا الكلام عند أتباعه الذين يتبعونه وهم لا يدركون حقيقته بأن فيه رموزا وإشارات لا يدركها أهل الشرع، وإنما هي للخواص وخواص الخواص، وأصبح له أتباع في ذلك العصر وهم الذين لا يدركون حقيقة هذا الكفر، ثم جاء من بعده ابن الفارض يفلسف مذهب الحلول على رأيه ويدعي الألوهية في بعض الأحيان.
ومن أقواله الكافرة:
لها صلواتي في المقام أقيمها
...
وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ناظر إلى
...
حقيقته بالجمع في كل سجدة
و ما كان لي صلى سواي ولم تكن
...
صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
رأى ابن تيمية هذا الكفر البواح ودعوى الألوهية والتفكير الفلسفي الوثني الذي ما كان خطر ببال أحد من المشركين والوثنيين الجاهليين في الجاهلية الأولى بل كانوا مع عبادتهم لغير الله تعالى يؤمنون بأن الله رب السماوات والأرض وأنه هو الرزاق الخالق فهذا زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي يقول:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
...
ليخفى ومهما يكتم يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
...
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
و هو القائل:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
...
ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
...
تمته ومن تخطي يعمر فيهرم(/1)
فأين هذا القول من قول ابن عربي وابن الفارض وغيره من الملاحدة في ذلك العصر. رأى بن تيمية هذا الانحطاط في الفكر حيث أخذ يسري في الأمة وأصبح يشار إلى هؤلاء بالبنان تارة التصوف والزهد وتارة باسم الكرامة والولاية. فثار ثورته وانقض عليهم كالأسد يردُّ على أقولهم الباطلة وأخذ يردها إلى أصولها الوثنية القديمة ويشهرها في الناس حتى يكونوا على بينة من أمرهم. والواقع لم يكن ابن تيمية وحده الذي كفَّر ابن عربي وغيره من هؤلاء بل هناك من كبار علماء من أهل السنة وغيرهم من كفر ابن عربي وألفوا فيه الرسائل العديدة أو ذكروه في تراجم كتبهم مثل الحافظ بن حجر العسقلاني في لسان الميزان وأبي حيان المفسر في تفسيريه ((البحر والنهر)) قال شيخ الإسلام بن دقيق العيد: "لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى، وقد سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال: "شيخ السوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا". وقد بالغ ابن المقري فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن عربي. فهؤلاء أئمة الصوفية الحلولية وَجَدَ ابن تيمية أقوالهم منتشرة في العامة والخاصة إلا من عصم الله وقليل ما هم.
مناظراته ودفاعه عن العقيدة:
اشتهر أمر ابن تيمية وذاع صيته في العامة والخاصة وأصبح يشار إليه بالبنان وتعقد له المناظرات فلا يستطيع أحد أن يقف أمامه أو يناظره إلا أفحمه وقطع لسانه ومن هنا دب الحسد والحقد إلى قلوب مخالفيه وأعدائه وفي هذه الفترة بالذات وفي سنة 698 هـ يأتيه سؤال في العقيدة من حماة في مسألة صفات الله عز وجل فأجاب السائل في عدة كراريس وهي المعروفة اليوم بالرسالة ((الحموية)) جاء في أولها: " قولنا في الصفات ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.." إلى أن قال: "ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وصفاته من هؤلاء الأصاغر أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل لقرآن والإيمان؟؟". وقد شنع عليهم في هذه الرسالة أعظم تشنيع وبين سقطاتهم وتهالكهم في هذا الباب فحين انتشرت هذه الفتاوى بيت العامة والخاصة ومضى عليهم زمن طويل لم يسمعوا هذا الكلام قام عليه الحساد من أهل الطوائف ومن جعل علم الكلام والفلسفة يفضل كلام الله ورسوله في الاستدلال ورموه بما هو منه بريء كبراءة الذئب من دم يوسف ولكن الذي يلفت النظر أن أحدا منهم لم يستطع أن يرد عليه أو يناظره إنما شكوه إلى القاضي جلال الدين الحنفي وهو أشعري المذهب أو ماتريدي وأرسل القاضي في طلب الشيخ ابن تيمية فلم يحضر إنما رد عليه في رسالة قائلا: "إن العقائد أمرها ليست إليك وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي وحده". وفي يوم الجمعة اجتمع القاضي وبعض فقهاء المذاهب بالشيخ وناقشوه في عقيدته وحصلت لهم مناظرة أمام الناس فأجابهم شجاعة وبسالة ولم يستطع أحد أن ينال منه في هذه المرة.
و في السنة 705 هـ في شهر رجب قامت محنة أخرى على هذا الإمام الجليل من قبل الطوائف المعادية وبعض الفقهاء وذلك بسبب انتشار فتوى في العقيدة على أثر سؤال جاءه من أرض واسط وبين فيها مذهب السلف في الصفات ورد على المتكلمين والمؤولين والمحرفين والمشبهين فقامت قومتهم واشتكوه في هذه المرة إلى السلطان وإلى قصر السلطان جاء شنكير وأحضر الأمير نائب السلطان بالشام الفقهاء ة العلماء وأحضر الشيخ ابن تيمية إلى مجلس نائب السلطان على أن يعقد لهم مناظرة ويسأله عن اعتقاده وحين بدأ الشيخ يجيب ويدافع عن عقيدة الحق ويشرح الذي دفعه إلى كتابتها كان يقاطع أثناء كلامه لئلا يتمكن من إيضاحها للحاضرين هو يقول لنائب السلطان: "لو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل قد أطلب الإنصاف منه وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون علي ليحاكموا على افترائهم..." إلخ ما قاله رضي الله عنه ولولا ضيق المجال لسقنا المجادلة بكاملها.(/2)
و في نفس السنة ثارت ثورة طائفة تسمى بالأحمدية ثارت على الشيخ ابن تيمية وحضر جماعة منهم يشتكون الشيخ إلى نائب السلطان وأن يكف عنهم و يتركهم وشأنهم وما هم عليه وخالصة أعمالهم أنهم يستعملون السحر ويتعاطون بعض الأشياء الشيطانية ويدخلون النار أمام الناس بزعمهم أن هذه الأعمال ولاية أكرمهم الله بها، فانبرى لهم ابن تيمية في المجلس وقال: "إن هذه أحوال شيطانية باطلة وأكثر أحوالكم من باب الحيل والبهتان ومن أراد منكم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام ويغسل جسده غسلا جيدا ثم يدلكه بالخل والإشناق ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته بل هي حالة من أحوال الدجاجلة المخالفين للشريعة".
فقال شيخ منهم: "نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع". قال ابن كثير: "فضبط عليهم الحاضرون تلك الكلمة وكثر الإنكار عليهم من كل أحد". وألف ابن تيمية بعد هذا المجلس فيهم كتابا سماه شيوخ الأحمدية أو الطريقة الأحمدية بيَّن فيه مذاهبهم ومن أين أخذوا هذا السحر وأظهر حكم الإسلام فيهم وفي أمثالهم من المشعوذين، ولقد عاصر ابن تيمية هذه الفرق وأعطى كل قسم حقه ولم يدخر وسعا في كشف حقائقهم وأباطيلهم ولم يعرف عنه التواني أو المداهنة أو المراوغة بل كان سيفا مسلولا على هذه الفرق الضالة التي أفسدت عقيدة الأمة الإسلامية وكادت أن تذهب بها أدراج الرياح..(/3)
لمحات من حياة الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني
بقلم : عبدالله شاكر الجنيدي
الحلقة الثالثة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
بعد أن استعرضنا طرفًا من حياة العلامة الشيخ- محمد بن إسماعيل الصنعاني وذكرنا نشأته وشيوخه وتلاميذه، نعرض لأهم لمحة من لمحات حياة هذا الإمام العَلَم وهي عقيدته ومذهبه، لنرى كيف كان الإمام رحمه الله على أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم في التلقي والاستدلال.
ثالثًا: عقيدته ومذهبه:
أولاً: عقيدته:
قبل أن أحكم على عقيدة الصنعاني أرى لزامًا عليَّ أن أبين موقفه من مسائل العقيدة وهل اتبع فيها عقيدة السلف، أم عقيدة المخالفين، وما رأيه في الفرق المختلفة المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة.
1- موقفه من توحيد الربوبية والألوهية:
لا شك أن كل مهتم بعقيدة السلف يعرف كتاب "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، وهو كتاب جدير بأن يحتل مكانة عظيمة بين الكتب التي عالجت وفرقت بين مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ويعتبر الصنعاني بهذا الكتاب الذي تحدث فيه عن معنى "لا إله إلا الله" من أبرز من حمل لواء الدعوة إلى إخلاص التوحيد لله ونبذ البدع والضلالات والشرك والخرافات في القرن الثاني عشر، ثم تبعه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نفس القرن ليجهر ويجاهد ويدافع عن هذا الأمر العظيم(1).
ولما سمع الصنعاني بظهور الشيخ محمد عبد الوهاب، وعرف أنه يدعو إلى الدين الحق والرجوع إليه أرسل بقصيدته الدالية المشهورة في عام 1163ه التي مدحه فيها وعبر عن سروره وفرحه بظهور هذه الدعوة المباركة في الوقت الذي كان يظن أنه هو وحده على هذه العقيدة، ولما قال فيها:
لقد سرني ما جاءني من طريقة
وكنت أظن هذه الطريقة لي وحدي(2)
وهذا يبين لدعاة التوحيد والسنة وغيرهم أن السائرين على منهج السلف تلتقي أفكارهم وتتوحد جهودهم وإن تباعدت ديارهم واختلفت أوطانهم، لاجتماعهم وأخذهم من منبع واحد هو القرآن والسنة(3).
2- موقفه من علم الكلام والمتكلمين:
لقد حارب الصنعاني علم الكلام وبين فساد منهج المتكلمين في أكثر من موطن، وقد قال عنهم في كتابه "إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة": "فإذا نظرت مبادئ كلامهم في علم الكلام وكتب الحكمة في الزمان والمكان، رأيت محارات يظلم منها القلب الحي، ولا يقف منها على شيء، ولكنهم خَفوا عند رؤية كلام الفلاسفة وجعلوه عنوانا لأصول الدين"(4).
وكان يمتاز بتقديم النقل على العقل واتباع النصوص في مسائل العقائد وغيرها. يقول في ذلك رحمه الله: "اعلم أن المختار عندي والذي أذهب إليه وأدين به في هذه الأبحاث ونحوها، هو ما درج عليه سلف الأمة ولزموه من اتباع السنة والبعد عن الابتداع والخوض فيها إلا لردها على لزوم مناهج الأنبياء، وكيف ترد الأقوى إلى الأضعف"(5).
3- مخالفته للمعتزلة والأشاعرة ورميهم بالابتداع:
أعلن الصنعاني مخالفته للمعتزلة والأشاعرة، وإن تأثر بالمعتزلة في خلق أفعال العباد إلا أنه انتقد المعتزلة كثيرًا، وكذلك الأشاعرة ووصفهم بالابتداع، ومن أقواله في ذلك: "إنما قدمت هذا لئلا يظن الناظر أني أذهب إلى قول فريق من الفريقين المعتزلة والأشاعرة، فإن الكل قد ابتدعوا في هذا الفن الذي خاضوا فيه"(6).
4- موقفه من الأسماء والصفات وما يتعلق بالأمور الغيبية:
ينطلق الصنعاني في هذا الباب من منطلق سليم يتفق مع منهج السلف، ومما قال في ذلك: "قد علم من الدين ضرورة أن لله أوصافًا كلها كمال، قال جل جلاله: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، فالإيمان بها واجب على جميع العباد والنكير متعين على من جحدها، أو ادعى أن فيها اسم ذم لله تعالى، ومنها ما ثبت في الأحاديث، فمن عرف صحة الحديث المفيد لذلك وجب عليه الإيمان به"(7).
كما نقل كلام ابن القيم في شرحه لمنازل السائرين، وأبطل تأويل الصفات من ستة أوجه(8). وقال في كتابه: "جمع الشتيت شرح أبيات التثبيت" وهو بصدد الحديث عن سؤال الملكين وما يتعلق بأمور الآخرة "... فيجب قبول ما أخبر به من أمور الدارين وتلقيه بالتصديق وحمله على اللغة العربية من غير تحريف، فإن فهمت المقالة فيا حبذا، وإن لم تفهم فلا تقل نؤوله بكذا ولا بكذا، بل تكل فهمه إلى قائله، وتتهم فهمك القاصر، وتسأل الله أن يعلمك ما لم تعلم فهو على كل شيء قدير، وما أحسن ما قاله ابن القيم رحمه الله: "ينبغي أن يفهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمل، ولا يقصر به عن مراده، وما قصد به من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله"(9).
ومع هذا فقد وقع من الصنعاني في بعض المواطن ما ينتقد عليه، فقد نقل كلام المقبلي بصوابه وخطئه وسكت عنه، كما لم يحقق موقف ابن تيمية في مسألة الجهة- غفر الله لنا وله-.(/1)
5- حبه لجميع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
قد يظن البعض أن الصنعاني لنشأته في بيئة زيدية يذهب إلى بعض أقوال الروافض، وقد ذهب إلى ذلك الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر حينما نسب الصنعاني إلى التشيع، ووضع قوله إلى جانب قول الروافض، وهذا تحامل شديد على هذا الإمام العالم وهو برئ منه، وقد رد الدكتور أحمد العليمي(10) على الدكتور المذكور في ذلك. ولقد عاش الصنعاني محاربًا في بلده ووطنه لمخالفته لما هم عليه من التشيع والرفض حتى أنهم رَمَوه بالنصب(11). وهو من آل البيت، ويسجل لنا ديوان الصنعاني رسالة أرسلها إلى أحد تلامذته وهو العلامة أحمد بن محمد قاطن، في شأن الرجل الذي دخل صنعاء، وكان من العجم، فسب الصحابة ونال منهم، وحزن الصنعاني لذلك وكتب رسالة إلى تلميذه المذكور ومما جاء فيها: "فاقرة في الدين، قاصمة لظهور المتقين، ومصيبة في الإسلام لم يطمع في وقوعها إبليس اللعين، ومكيدة في الإسلام أسست بآراء جماعة من الأفدام"(13). وهي ظهور الرفض وسب العشرة المشهود لهم بالجنة على لسان الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين حاشا عليا أمير المؤمنين، ويستمر الصنعاني في رسالته فيذكر أنه حصل للعجمي هذا قبولٌ عند الخليفة المنصور، وأمره أن يملي نهج البلاغة وشرحه لابن أبي الحديد على الكرسي في الجامع الكبير إلى أن قال: "ومازال كل ليلة يسرد من هذا حتى ذكر أنه حرف القرآن بعض الصحابة، فسب الصحابة العامة من الناس، ولعنوا أعيان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وحاصله أنه لم يبق مذهب من مذاهب العجم إلا دسه"(14).
6- ثناؤه على أئمة أهل السنة والجماعة:
من المعلوم أن من أمارة أهل البدع الوقيعة في أهل السنة وتنقيصهم ورميهم بما ليس فيهم حقدًا وبغضًا، وهذا شأن المبتدعة في كل زمان ومكان(15). وما قاله الكوثري عن أعلام السلف ليس منا ببعيد(16). أما أهل الحق والهدى فيعرفون لسلف هذه الأمة والسائرين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فضلهم ومكانتهم، ومن هنا نجد الصنعاني يثني كثيرًا على ابن تيمية وابن القيم، فوصف ابن تيمية بالعلامة شيخ الإسلام، وبتبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف(17).
وقال عن ابن القيم: "إنه الذي أتى بنفيسي العلم في كل ما يبدي"، ولما سمع بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فرح كثيرًا بظهوره، وما ذلك إلا أنه لأنه يحب عقيدة السلف ويجاهد لنشرها ويرغب أن يعم خيرها البلاد والعباد، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك.
وكما كان يثني على السلف كان يحذر ويذم أهل البدع والضلال. يقول الأستاذ قاسم غالب ورفقاه عن الأمير: "ولم يكتف ابن الأمير بدارسة الكتب التي تخدم مذهبه ولكنه كان لا يقع على كتاب ينحرف فيه صاحبه عن القصد، حتى يلفت النظر إلى انحرافه، ويدعو مدرسته إلى الاحتراس منه، قرأ كتاب "الإنسان الكامل" للجيلي فأرسل وراءه قصيدة يقول فيها:
هذا كتاب كله جهل
وخلاف ما جاءت به الرسل
قد ضل أقوام برؤيته
فغدوا وليس لدينهم ظل(18)
وبعد: فها هي الأصول والقواعد التي كان عليها الصنعاني ودعا إليها وسار عليها من خلال ما سطره هو في كتبه، فأين نضع الرجل بعد ذلك؟ لا يمكن أن يكون إلا من أهل السنة والجماعة الذين كانوا على عقيدة السلف وساروا عليها، وجاهدوا وحوربوا من أجل التمسك بها في عصر لا يعرف إلا الجهل والخرافة.
وقد يقول قائل: للصنعاني بعض المخالفات للسلف كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الصفات وكمسألة خلق أفعال العباد.
أقول: الصنعاني حاول جاهدًا تحرير هذه المسألة، ولكنه لم يتمكن وهو وسط هذا الجو الخانق من معرفة الحق فيها، ومع هذا فهو رجح ما ترجح عنده دون متابعة لفرقة معينة أو مذهب معين، وقد سبق بيان عدم متابعته للمعتزلة والأشاعرة، وأحيانًا تقوم بالعالم شبهات لا يتمكن من التخلص منها، لعدم الموجه الصادق أثناء الطلب، ولعدم توفر كتب السلف والعاملين بها كما في بيئة الصنعاني.
ثانيًا: مذهبه:
مذهب الصنعاني يلتقي مع عقيدته، فليس له مذهب إلا ما جاء في الكتاب والسنة، لذلك تجده يدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، ويؤلف كتابًا خاصًا في ذلك ليعالج قضية الاجتهاد والتقليد، ولقد فند في كتابه حجج المانعين للاجتهاد مبينًا أن التعصب للمذهب هو الذي دفعهم إلى ذلك، وعاد إلى تعظيم السنن والانقياد لها وترك الاعتراض عليها، ومن أقواله في ذلك: "وقد منع أئمة الدين معارضة سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بأقوال غيره من الأئمة المجتهدين"(18).
ونقل عن الشيخ محمد حياة السندي قوله: "فمن تعصب لواحد معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو ضال جاهل، بل قد يكون كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد معين من هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم دون الآخرين، فقد جعله بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك كفر"(19).(/2)
ومن هذا المبدأ انطلق الصنعاني رحمه الله في علومه ومؤلفاته يأخذ ما يؤيده الدليل ويترك ما سواه، ويناقش ويرجح ويجمع ما أمكن بين الأدلة كعالم مجتهد له مكانته ومنزلته، وإن كتابه سبل السلام لخير شاهد على ما أقول وهو معروف ومتداول بين طلبة العلم.
تظهر مكانة الصنعاني في سلوكه لهذا المنهج لمن نظر وتتبع حالة المجتمع الإسلامي وما وصل إليه من خرافة وتقليد في زمنه، فإذا ظهر رجل في وسط هذا المجتمع بهذا الفكر النير، وهذه الدعوة التي ترد كل شيء إلى الكتاب والسنة في الأصول والفروع، كان هذا دليلاً على صحة مذهبه ودعوته، وقد ذكر أبياتًا من الشعر تبين منهجه فقال:
لا يسأل الملكان من حل الثرى
إلا عن المختار من عدنان
لا عن مذهب أحمد أو مالك
والشافعي ومذهب النعمان
كلا ولا زيد ولا عمرو فدع
كلا وتابع واضح البرهان
هذا ووال المسلمين جميعهم
وقل الجميع لأجله إخواني
واستغفر الله العظيم لكلهم
فبذا أتاك الأمر في القرآن(20)(/3)
لن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن
188
الطهارة, فضائل الأعمال
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- زعم بعض الناعقين أن الوضوء شريعة شرعت لظروف معينة وقد انقضت. 2- الوضوء شرط لصحة الصلاة. 3- الوضوء علامة لأمة الإسلام يوم القيامة. 4- الوضوء عبادة ترفع الدرجات وتغفر الذنوب. 5- الوضوء مطردة للشيطان والغضب. 6- مشروعية الوضوء في عدد من المواضع.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، فهي وصيته للأولين والآخرين وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [سورة النساء:131]. فبتقوى الله، رفع الإسلام سلمان فارس، وبفقدها وضع الشرك الشقي أبا لهب، فاتقوا الله واعبدوه واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
أيها الناس، إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا، هي نعمة الإسلام، نعمة الحنيفية السمحة، وهي الاستسلام لله ـ تعالى ـ، والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله. والأحكام والشرائع من مقتضاها الإيمان بها، والتسليم المطلق للشارع الحكيم ـ سبحانه ـ: ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ [آل عمران:7]. قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]. صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة:138]. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
أيها المسلمون، صدق الكلمة، وأمانة الحديث والتسليم للشارع الحكيم، سمة غداف. لها وقعها البالغ في نفوس الناس، إذا تحققت طلبتها في أقلام الإعلاميين وممتهني الصحافة، وبفقدانها وإعواز طلابها، تجني الصحافة على الدين والأدب.
وفي عناقيد الأقلام المحبرة، نفوس مريضة، تجاوزت نطاقها، وخلعت جلبابها الساتر، وانتماءها الزائف، حكموا عقولهم فخالفوا كل منقول، وصادموا بها المشروع. أقحموا أنفسهم مدعين علم ما لم يعلموا، فنعق منهم ناعق، هو من جهال بعض المعطلين، العميان المنكوسين، والأغبياء المركوسين، فانتقد بشدة وتشنج جعل الوضوء من الدين، وادعى أنه إنما شرع الوضوء في غابر الزمن، إزالة لقذارة الأعراب، ورعونة العيش في إبانهم، ولأجل أن العرب كانوا قليلي العناية بالنظافة، لقلة الماء عندهم، ولقرب أهل الحضر منها من البدو، في قلة التأنق والترف.
ويقول الغر كاذبا: إن الطهارة والآداب، يجب أن تؤتى، لمنفعتها وفائدتها المترتبة عليها دنيويا ودينيا. ويضرب بالغرب مثالا يحتذى، في النظافة والتطهر، وهم مع ذلك غير مسلمين، في عصر الحضارة والنضارة، وأن هذا من منطلق حقائق الفلسفة.
والحق المسلم أيها الناس، أنه لا نصيب لمثله منها إلا السفه، والتقليد في الكفر من غير بينة ولا عذر؛ لأنه من عُمْيِ القلوب عموا عن كل فائدة، لأنهم كفروا بالله تقليدا.
عباد الله، الوضوء لفظة مشتقة من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، سمي الوضوء بذلك؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا، وهو فرض من فروض الأعيان في الإسلام، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين قاطبة، فلقد قال الله ـ تعالى ـ في آية المائدة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
وقال رسول الله : ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) رواه مسلم[1]، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) أخرجه الشيخان[2].
فكيف إذاً بعد هذا ـ عباد الله ـ، أيستهان بالوضوء ويقلل من شأنه، وقد تواتر النقل فيه تواترا قطعيا، لا يدع مجالا للشك أو الريبة، بل لا يستهين به، ولا يشك في أمره، إلا أغرار مأفونون، ولهازم يهرفون بما لا يعلمون، والله أعلم بما يوعون؟ كيف لا ورسول الله يقول: ((ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) [رواه أحمد وابن ماجة][3]، فما بالكم عباد الله، بمن لا يحافظ عليه؟ بل ما ظنكم بمن يتطاول عليه، بكل ما يملك من عنجهية وسفه؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!.(/1)
ألا فاعلموا عباد الله، أن آية المائدة هذه، من أعظم آيات القرآن مسائل، وأكثرها أحكاما في العبادات، وبحق ذلك، فإنها في الوضوء وهو شطر الإيمان كما صح بذلك الخبر عن المصطفى عند مسلم في صحيحه[4].
قال أبو بكر بن العربي: لقد قال بعض العلماء: إن في آية المائدة هذه، ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام، فتتبعوها فبلغوها ثمانمائة مسألة ولم يقدروا أن يبلغوها ألفا، وهذا التتبع، إنما يليق، بمن يريد تعريف طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا اهـ.
ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن سورة المائدة: هي أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي، ولهذا افتتحت بقوله ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. والعقود هي العهود. فكيف إذاً يفقه الوضوء من لم ينقه بعد، ألم يعلموا أن هذا الوضوء من خصائص أمة محمد ، التي اختصت بها عن سائر الأمم بدليل قول المصطفى : ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)) رواه البخاري[5]، فرسول الله يعرف أمته يوم القيامة بهذه السيماء، فقبحا وسحقا، ويا للضيعة لمن لم يلامس الوضوء بشرته!.
قال أبو حازم: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء ؟ فقال: يا بني فروخ، أنتم هاهنا، لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) [رواه مسلم][6].
عباد الله، الوضوء للصلاة، فرضه الله ـ تعالى ـ على هيئة يسيرة، فالمرء المسلم يطهر في وضوئه أربعة مواضع من أعضائه فقط، وهي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلا، والرأس مسحا بلا غسل، والرجلان إلى الكعبين غسلا.
ففي الوجه ـ عباد الله ـ النظر والشم والكلام، وفي الرأس السمع والفكر، وفي اليدين البطش، وفي الرجلين الخطى.
ولما كان عمل المرء في هذه الحياة، لا يكاد يخرج عن عضو من هذه الأعضاء، ولما كان المرء بطبعه خطاء، فقد يأكل الحرام أو يتكلم به، أو ينظر إليه أو يشمه، وقد يسمع الحرام أو يمشي إليه أو يمسك بالحرام أو نحو ذلك كان بحاجة ماسة، إلى ما يعينه، على تطهير أدرانه، وتكفير ذنوبه التي اقترفها بتلك الجوارح، فشرع الله برحمته وحكمته الوضوء، يزيل به الإصر والغل.
فإذا ما توضأ العبد المسلم فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قط الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب.
بذلكم أيها المسلمون صح الخبر عن المصطفى عند مسلم في صحيحه[7]. ولقد روى في صحيحه أيضا عن النبي أنه قال: ((ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره.. ))[8] الحديث.
والمكاره تكون بشدة البرد، أو ألم الجسم، أو حرارة الماء أو نحو ذلك.
إن هذا الوضوء المتجدد كل يوم مرات ومرات، هو الدرع الواقي بأمر الله، الذي يحفظ اليدين من القذر، والذراعين من الأوساخ، والفم من النتن، والأنف مما يعلق به، والعينين من الرمص[9]، والرجلين من رائحتهما الكريهة، وهو فوق ذلك كله، يلطف حرارة الجسم، ويزيل عنه الخمول والتثاقل، ويبعث فيه النشاط. فيكون جديرا بأن يقيم الصلاة على وجهها؛ إذ يعسر مثل ذلك في حال الفتور والاسترخاء والملل، الذي يعقب خروج الفضلات من البدن فالحاقن[10] من البول والحاقب[11] من الغائط، والحازق[12] من الريح كالمريض، كل منهم تكره صلاته على هذه الحال؛ أخذا من قول المصطفى : ((لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان))[13]، فإذا توضأ المرء المسلم، زال عنه ذلك كله فنشط وانتعش.
عباد الله، بالوضوء يخمد ثوران النفس، وتنطفئ نارها؛ لأن الغضب والتشنج من الشيطان، والشياطين، خلقت من نار، وأجدى ما يطفئ الناس هو الماء ولأجل ذا قال المصطفى : ((فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )) [رواه أحمد][14].
كما أنه قد صح عن النبي عند مسلم وغيره أنه (أمر بالوضوء من لحوم الإبل) [15] ولعل السر في ذلك والله أعلم، هو أن الإبل مخلوقة من الشياطين كما صح ذلك عند ابن ماجة وغيره فناسب إزالة الخيلاء والأنفة المنبعثين من الجان، بالوضوء بالماء، بل إن في الوضوء منجاة من جنس الشيطان، وقطعا لدابره، قال رسول الله : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة يضرب عليك ليلا طويلا، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان..)) [الحديث رواه البخاري ومسلم][16].
وفي رواية للبخاري: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه))[17].(/2)
وبعد عباد الله، فإن الوضوء المتجدد، يذكرنا بنعمة عظيمة، مَنَّ الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً [الفرقان:48]. وما ذلك إلا ليكون ريا للظمأ، وإنباتا للزرع، وإدرارا للضرع، وتطهيرا للأبدان وجمالا في المنظر. فهل بعد هذا الحديث عن الوضوء وفضائله وآثاره، يسوغ لنفس سوية، أن تحقر من شأنه، أو تقصر منفعته، أو أن تخوض في لجة مغرقة، من القول على الله بلا علم؟! سبحانك يا رب! سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
[1] صحيح مسلم ح (224).
[2] صحيح البخاري ح (135، 6954)، صحيح مسلم ح (225).
[3] صحيح، مسند أحمد (5/2760 ـ 277)، سنن ابن ماجه ح (278).
[4] صحيح مسلم ح (223) ولفظه: ((الطهور شطر الإيمان...)).
[5] صحيح البخاري ح (136)، وأخرجه أيضًا مسلم: كتاب الطهارة ح (35).
[6] صحيح مسلم ح (250).
[7] المصدر السابق ح (244).
[8] المصدر السابق ح (251).
[9] الرَّمص: وسخ يجتمع في الموق ، فإن سال فهو غمص وإن جمد فهو رمص (مختار الصحاح ، مادة رمص).
[10] الحاقن: الذي به بول شديد (مختار الصحاح ، مادة حقن).
[11] يقال: حَقِب أي : تعسّر عليه البول (القاموس ، مادة حقب).
[12] الحازق: من ضاق عليه خفه (القاموس ، مادة حزق) استعاره الخطيب للمعنى المذكور.
[13] المصدر السابق ح (560).
[14] ضعيف، مسند أحمد (4/226) وانظر السلسلة الضعيفة (582).
[15] صحيح مسلم ح (360).
[16] صحيح البخاري ح (1142)، صحيح مسلم ح (776).
[17] صحيح البخاري ح (3295)، وأخرجها أيضًا مسلم ح (238).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ممن قضى نحبه أو غبر.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الوضوء شأنه عظيم وأمره جسيم. وهو لم يكن مقتصرا يوما ما على رفع الحدث أو عند إرادة الصلاة، بل إنه مشروع في مواضع كثيرة خارجة عن الصلاة؛ كشرعيته عند الغضب، وكذا عند النوم، كما قال رسول الله للبراء بن عازب: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاةإ)) الحديث رواه البخاري[1]، وكذا يشرع عند الأكل لمن كان جنبا، فلقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ((كان رسول الله إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة )) [رواه مسلم][2].
وكذا قال فيما رواه مسلم: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ))[3].
والوضوء مشروع للعائن، ليصبه على من عانه. فلقد اغتسل سهل ابن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه فأخبر رسول الله بذلك فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت عليه، إن العين حق توضأ له))، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله . [رواه مالك في الموطأ][4].
عباد الله، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن الوضوء مرتع خصب، يجول الشيطان من خلاله على قلوب بني آدم، فقد يوسوس إليهم بالنية فتراه يقول: ارفع الحدث، أو يقول: استعد للصلاة، ونحو ذلك من ألفاظ جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس، يحبسهم عندها، ويعذبهم فيها، وربما لبس على بعضهم بكثرة استعمال المال، وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فاتته الجماعة، أو توضأ بما يعادل بركة ماء. صبا صبا ودلكا دلكا، تعذيبا لأنفسهم، وما علموا أن النبي كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وكان أبو الوفاء بن عقيل قد دخل رباطا فتوضأ فضحكوا لقلة استعماله بالصاع، وسأله رجل موسوس فقال: إني لأنغمس في النهر ثم أخرج منه، وأشك أن وضوئي قد صح، فقال له: سقطت عنك الصلاة؛ لأن رسول الله يقول: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتى يفيق))[5].
كل ذلك من استيلاء إبليس على الموسوسين، حتى إنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السُّفْسَطائية، الذين ينكرون حقائق الموجودات، فهؤلاء أحدهم يغسل عضوه غسلا يشاهده ببصره، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا، حتى إنه يعذب نفسه بكثرة استعمال الماء، وإطالة العرك، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، بل قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يرى أنه إذا توضأ رسول الله فوضوءه باطل. أعاذنا الله وإياكم من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.
[1] صحيح البخاري ح (247)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (2710).
[2] صحيح مسلم، كتاب الحيض ح (22).
[3] المصدر السابق ح (308).(/3)
[4] موطأ مالك (2/938) وإسناده صحيح.
[5] صحيح، أخرجه أحمد (1/118)، وأبو داود (4399)، والترمذي ح (1423) وقال: حسن غريب، والنسائي ح (3432)، وابن ماجه ح (2041). وانظر إرواء الغليل (297).(/4)
... ... ...
لن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- زعم بعض الناعقين أن الوضوء شريعة شرعت لظروف معينة وقد انقضت. 2- الوضوء شرط لصحة الصلاة. 3- الوضوء علامة لأمة الإسلام يوم القيامة. 4- الوضوء عبادة ترفع الدرجات وتغفر الذنوب. 5- الوضوء مطردة للشيطان والغضب. 6- مشروعية الوضوء في عدد من المواضع. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، فهي وصيته للأولين والآخرين وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [سورة النساء:131]. فبتقوى الله، رفع الإسلام سلمان فارس، وبفقدها وضع الشرك الشقي أبا لهب، فاتقوا الله واعبدوه واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
أيها الناس، إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا، هي نعمة الإسلام، نعمة الحنيفية السمحة، وهي الاستسلام لله ـ تعالى ـ، والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله. والأحكام والشرائع من مقتضاها الإيمان بها، والتسليم المطلق للشارع الحكيم ـ سبحانه ـ: ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ [آل عمران:7]. قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]. صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة:138]. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
أيها المسلمون، صدق الكلمة، وأمانة الحديث والتسليم للشارع الحكيم، سمة غداف. لها وقعها البالغ في نفوس الناس، إذا تحققت طلبتها في أقلام الإعلاميين وممتهني الصحافة، وبفقدانها وإعواز طلابها، تجني الصحافة على الدين والأدب.
وفي عناقيد الأقلام المحبرة، نفوس مريضة، تجاوزت نطاقها، وخلعت جلبابها الساتر، وانتماءها الزائف، حكموا عقولهم فخالفوا كل منقول، وصادموا بها المشروع. أقحموا أنفسهم مدعين علم ما لم يعلموا، فنعق منهم ناعق، هو من جهال بعض المعطلين، العميان المنكوسين، والأغبياء المركوسين، فانتقد بشدة وتشنج جعل الوضوء من الدين، وادعى أنه إنما شرع الوضوء في غابر الزمن، إزالة لقذارة الأعراب، ورعونة العيش في إبانهم، ولأجل أن العرب كانوا قليلي العناية بالنظافة، لقلة الماء عندهم، ولقرب أهل الحضر منها من البدو، في قلة التأنق والترف.
ويقول الغر كاذبا: إن الطهارة والآداب، يجب أن تؤتى، لمنفعتها وفائدتها المترتبة عليها دنيويا ودينيا. ويضرب بالغرب مثالا يحتذى، في النظافة والتطهر، وهم مع ذلك غير مسلمين، في عصر الحضارة والنضارة، وأن هذا من منطلق حقائق الفلسفة.
والحق المسلم أيها الناس، أنه لا نصيب لمثله منها إلا السفه، والتقليد في الكفر من غير بينة ولا عذر؛ لأنه من عُمْيِ القلوب عموا عن كل فائدة، لأنهم كفروا بالله تقليدا.
عباد الله، الوضوء لفظة مشتقة من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، سمي الوضوء بذلك؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا، وهو فرض من فروض الأعيان في الإسلام، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين قاطبة، فلقد قال الله ـ تعالى ـ في آية المائدة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
وقال رسول الله : ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) رواه مسلم[1]، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) أخرجه الشيخان[2].
فكيف إذاً بعد هذا ـ عباد الله ـ، أيستهان بالوضوء ويقلل من شأنه، وقد تواتر النقل فيه تواترا قطعيا، لا يدع مجالا للشك أو الريبة، بل لا يستهين به، ولا يشك في أمره، إلا أغرار مأفونون، ولهازم يهرفون بما لا يعلمون، والله أعلم بما يوعون؟ كيف لا ورسول الله يقول: ((ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) [رواه أحمد وابن ماجة][3]، فما بالكم عباد الله، بمن لا يحافظ عليه؟ بل ما ظنكم بمن يتطاول عليه، بكل ما يملك من عنجهية وسفه؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!.(/1)
ألا فاعلموا عباد الله، أن آية المائدة هذه، من أعظم آيات القرآن مسائل، وأكثرها أحكاما في العبادات، وبحق ذلك، فإنها في الوضوء وهو شطر الإيمان كما صح بذلك الخبر عن المصطفى عند مسلم في صحيحه[4].
قال أبو بكر بن العربي: لقد قال بعض العلماء: إن في آية المائدة هذه، ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام، فتتبعوها فبلغوها ثمانمائة مسألة ولم يقدروا أن يبلغوها ألفا، وهذا التتبع، إنما يليق، بمن يريد تعريف طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا اهـ.
ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن سورة المائدة: هي أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي، ولهذا افتتحت بقوله ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. والعقود هي العهود. فكيف إذاً يفقه الوضوء من لم ينقه بعد، ألم يعلموا أن هذا الوضوء من خصائص أمة محمد ، التي اختصت بها عن سائر الأمم بدليل قول المصطفى : ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)) رواه البخاري[5]، فرسول الله يعرف أمته يوم القيامة بهذه السيماء، فقبحا وسحقا، ويا للضيعة لمن لم يلامس الوضوء بشرته!.
قال أبو حازم: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء ؟ فقال: يا بني فروخ، أنتم هاهنا، لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) [رواه مسلم][6].
عباد الله، الوضوء للصلاة، فرضه الله ـ تعالى ـ على هيئة يسيرة، فالمرء المسلم يطهر في وضوئه أربعة مواضع من أعضائه فقط، وهي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلا، والرأس مسحا بلا غسل، والرجلان إلى الكعبين غسلا.
ففي الوجه ـ عباد الله ـ النظر والشم والكلام، وفي الرأس السمع والفكر، وفي اليدين البطش، وفي الرجلين الخطى.
ولما كان عمل المرء في هذه الحياة، لا يكاد يخرج عن عضو من هذه الأعضاء، ولما كان المرء بطبعه خطاء، فقد يأكل الحرام أو يتكلم به، أو ينظر إليه أو يشمه، وقد يسمع الحرام أو يمشي إليه أو يمسك بالحرام أو نحو ذلك كان بحاجة ماسة، إلى ما يعينه، على تطهير أدرانه، وتكفير ذنوبه التي اقترفها بتلك الجوارح، فشرع الله برحمته وحكمته الوضوء، يزيل به الإصر والغل.
فإذا ما توضأ العبد المسلم فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قط الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب.
بذلكم أيها المسلمون صح الخبر عن المصطفى عند مسلم في صحيحه[7]. ولقد روى في صحيحه أيضا عن النبي أنه قال: ((ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره.. ))[8] الحديث.
والمكاره تكون بشدة البرد، أو ألم الجسم، أو حرارة الماء أو نحو ذلك.
إن هذا الوضوء المتجدد كل يوم مرات ومرات، هو الدرع الواقي بأمر الله، الذي يحفظ اليدين من القذر، والذراعين من الأوساخ، والفم من النتن، والأنف مما يعلق به، والعينين من الرمص[9]، والرجلين من رائحتهما الكريهة، وهو فوق ذلك كله، يلطف حرارة الجسم، ويزيل عنه الخمول والتثاقل، ويبعث فيه النشاط. فيكون جديرا بأن يقيم الصلاة على وجهها؛ إذ يعسر مثل ذلك في حال الفتور والاسترخاء والملل، الذي يعقب خروج الفضلات من البدن فالحاقن[10] من البول والحاقب[11] من الغائط، والحازق[12] من الريح كالمريض، كل منهم تكره صلاته على هذه الحال؛ أخذا من قول المصطفى : ((لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان))[13]، فإذا توضأ المرء المسلم، زال عنه ذلك كله فنشط وانتعش.
عباد الله، بالوضوء يخمد ثوران النفس، وتنطفئ نارها؛ لأن الغضب والتشنج من الشيطان، والشياطين، خلقت من نار، وأجدى ما يطفئ الناس هو الماء ولأجل ذا قال المصطفى : ((فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )) [رواه أحمد][14].
كما أنه قد صح عن النبي عند مسلم وغيره أنه (أمر بالوضوء من لحوم الإبل) [15] ولعل السر في ذلك والله أعلم، هو أن الإبل مخلوقة من الشياطين كما صح ذلك عند ابن ماجة وغيره فناسب إزالة الخيلاء والأنفة المنبعثين من الجان، بالوضوء بالماء، بل إن في الوضوء منجاة من جنس الشيطان، وقطعا لدابره، قال رسول الله : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة يضرب عليك ليلا طويلا، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان..)) [الحديث رواه البخاري ومسلم][16].
وفي رواية للبخاري: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه))[17].(/2)
وبعد عباد الله، فإن الوضوء المتجدد، يذكرنا بنعمة عظيمة، مَنَّ الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً [الفرقان:48]. وما ذلك إلا ليكون ريا للظمأ، وإنباتا للزرع، وإدرارا للضرع، وتطهيرا للأبدان وجمالا في المنظر. فهل بعد هذا الحديث عن الوضوء وفضائله وآثاره، يسوغ لنفس سوية، أن تحقر من شأنه، أو تقصر منفعته، أو أن تخوض في لجة مغرقة، من القول على الله بلا علم؟! سبحانك يا رب! سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
[1] صحيح مسلم ح (224).
[2] صحيح البخاري ح (135، 6954)، صحيح مسلم ح (225).
[3] صحيح، مسند أحمد (5/2760 ـ 277)، سنن ابن ماجه ح (278).
[4] صحيح مسلم ح (223) ولفظه: ((الطهور شطر الإيمان...)).
[5] صحيح البخاري ح (136)، وأخرجه أيضًا مسلم: كتاب الطهارة ح (35).
[6] صحيح مسلم ح (250).
[7] المصدر السابق ح (244).
[8] المصدر السابق ح (251).
[9] الرَّمص: وسخ يجتمع في الموق ، فإن سال فهو غمص وإن جمد فهو رمص (مختار الصحاح ، مادة رمص).
[10] الحاقن: الذي به بول شديد (مختار الصحاح ، مادة حقن).
[11] يقال: حَقِب أي : تعسّر عليه البول (القاموس ، مادة حقب).
[12] الحازق: من ضاق عليه خفه (القاموس ، مادة حزق) استعاره الخطيب للمعنى المذكور.
[13] المصدر السابق ح (560).
[14] ضعيف، مسند أحمد (4/226) وانظر السلسلة الضعيفة (582).
[15] صحيح مسلم ح (360).
[16] صحيح البخاري ح (1142)، صحيح مسلم ح (776).
[17] صحيح البخاري ح (3295)، وأخرجها أيضًا مسلم ح (238). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ممن قضى نحبه أو غبر.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الوضوء شأنه عظيم وأمره جسيم. وهو لم يكن مقتصرا يوما ما على رفع الحدث أو عند إرادة الصلاة، بل إنه مشروع في مواضع كثيرة خارجة عن الصلاة؛ كشرعيته عند الغضب، وكذا عند النوم، كما قال رسول الله للبراء بن عازب: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاةإ)) الحديث رواه البخاري[1]، وكذا يشرع عند الأكل لمن كان جنبا، فلقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ((كان رسول الله إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة )) [رواه مسلم][2].
وكذا قال فيما رواه مسلم: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ))[3].
والوضوء مشروع للعائن، ليصبه على من عانه. فلقد اغتسل سهل ابن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه فأخبر رسول الله بذلك فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت عليه، إن العين حق توضأ له))، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله . [رواه مالك في الموطأ][4].
عباد الله، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن الوضوء مرتع خصب، يجول الشيطان من خلاله على قلوب بني آدم، فقد يوسوس إليهم بالنية فتراه يقول: ارفع الحدث، أو يقول: استعد للصلاة، ونحو ذلك من ألفاظ جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس، يحبسهم عندها، ويعذبهم فيها، وربما لبس على بعضهم بكثرة استعمال المال، وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فاتته الجماعة، أو توضأ بما يعادل بركة ماء. صبا صبا ودلكا دلكا، تعذيبا لأنفسهم، وما علموا أن النبي كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وكان أبو الوفاء بن عقيل قد دخل رباطا فتوضأ فضحكوا لقلة استعماله بالصاع، وسأله رجل موسوس فقال: إني لأنغمس في النهر ثم أخرج منه، وأشك أن وضوئي قد صح، فقال له: سقطت عنك الصلاة؛ لأن رسول الله يقول: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتى يفيق))[5].
كل ذلك من استيلاء إبليس على الموسوسين، حتى إنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السُّفْسَطائية، الذين ينكرون حقائق الموجودات، فهؤلاء أحدهم يغسل عضوه غسلا يشاهده ببصره، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا، حتى إنه يعذب نفسه بكثرة استعمال الماء، وإطالة العرك، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، بل قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يرى أنه إذا توضأ رسول الله فوضوءه باطل. أعاذنا الله وإياكم من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.
[1] صحيح البخاري ح (247)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (2710).(/3)
[2] صحيح مسلم، كتاب الحيض ح (22).
[3] المصدر السابق ح (308).
[4] موطأ مالك (2/938) وإسناده صحيح.
[5] صحيح، أخرجه أحمد (1/118)، وأبو داود (4399)، والترمذي ح (1423) وقال: حسن غريب، والنسائي ح (3432)، وابن ماجه ح (2041). وانظر إرواء الغليل (297). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
لن يضيع الأقصى
خطبة الجمعة لفضيلة الشيخ جلال القدسي
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله القائل في محكم التنزيل "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز".
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد:
عباد الله: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
أيها المسلمون: بين جعجعة وأخرى، وبين كلمات وما في معناها، وبين مقالات وكتابات في صحف وغيرها لبعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض، أن القدس ضاعت ولن تعود، مما افاض على كثير من قلوب المسلمين القنوط واليأس من استردادها، وذلك لظنهم أن اليهود أصبحوا قوة عظيمة بالإضافة إلى حلفائهم. يطيب لنا الحديث وإظهار الحق للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فنقول: أيها المسلمون إن القدس لم تضع ولن تضيع لأن الله وعد بهذا، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون، فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون).
نعم أيها المسلمون: إن القائلين لهذه المقالة (أن القدس ضاعت ولن تعود من كفرة ومنافقين) إنما أرادوا إيقاظ اليأس ونشره في قلوب المسلمين، مع علمهم بأن القدس لم تضع. ولكننا نقول أيها المسلمون باستقراء كتاب ربنا الذي يغرس فينا -أهل الإسلام- حقائق الوحي، ومن ذلك أن قوم موسى حين كانت تُستحيى نساؤهم ويذبح أطفالهم وفرعون يقول: (وإنا فوقهم لقاهرون) نزل قول الله تعالى بعد ذلك كله (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون).
نعم عباد الله : هكذا وعد الله فلن تضيع القدس وذلك لأن الله كرمها بسكن الأنبياء فلن يرجعها لقتلة الأنبياء ولكن الأيام دول (وتلك الأيام نداولها بين الناس) مهما عمل اليهود وأتباع اليهود فالقدس عائدة وراجعة فلا تكونوا يائسين.
أيها المسلمون: المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، ولا تكونوا مثل من رأى العدو يتبجح ويتقوى وتحت ظل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا لن نغير من الواقع شيئا ولن نجني سوى التعب والمشقة فليس إذا في السعي فائدة، فإذا بكم تنظرون إليه متجهم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين راقعا راية "لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم عمر" حين يطلب منه خدمة دينه ولو بكلمة يقول: "أنت تؤذّن في خرابة ولا أحد حولك" ، "وتنفخ في قربة مقطوعة"، وغيرها من عبارات تصدأ بها الأفهام بعد سقالها، وترد ذكران العقول إناثا، هلك الناس في نظره وقد هلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحالة النفسية وصفا دقيقا بقوله كما ثبت عند مسلم: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم).
معاشر المؤمنين: مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين، والقوي لا يظل قويا أبد الآبدين (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون).
نعم يا عباد الله:
إننا نملك الإيمان بنصر الله لنا، وثقة بتأييده لنا، ويقينا بسنة الله تعالى في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون، واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به المؤمنين (وعد الله الذين آمنوا ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا). نعم يعبدونني لا يشركون بي شيئا، نعم عباد الله إنه وعد يشحذ الهمم ويستنفر العزائم ويملأ الصدور ثقة وإيمانا بأن الدور لنا لا علينا وأن التاريخ معنا لا علينا ،وإنا لنحن المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون.(/1)
سنة الله رب العالمين ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق منصورة لا يضرها من خالفها، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. وما أنتم أيها المسلمون إلا أجراء عند الله كيفما أراد أن يعمل عملتم وقبضتم الأجر ولكن ليس لكم ولا عليكم أن تتجه الدعوة إلى مصير، فذلك صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبكم أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل ومعه الرجلان والثلاثة ومن يأتي وليس معه أحد، ليس عليك هداهم، إن عليك إلا البلاغ.
وآية الآيات في هذا الدين يا عباد الله أنه أشد ما يكون قوة وأصلب ما يكون عودا وأعظم ما يكون رسوخا وشموخا حين تنزل بساحته الأزمات وتحدق به الأخطار وتشتد على أهله الكرب وتضيق بهم المسالك وتوصد عليهم المنافذ، حينئذ ينبعث الجثمان الهامد ويتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق فينتفض، يقول فيُسمع، ويمشي فيُسرع، ويضرب في ذات الإله فيوجع، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق، وإذا الجبان يتشجع، وإذا الضعيف يتقوى، وإذا الشديد يتجمع، وإذا بهذه القطرات المتتابعة والمتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلا عارما لا يقف دونه حاجزا ولا سدا.
لا يزخر الوادي بغير شباب وهل شمس تكون بلا شعاع
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، فلا تيئسوا، فإنكم ستردون عزّكم.
نعم يا مسلمون: فإن قراءة متأنية لتاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير.
فاسمعوا إلى ابن كثير رحمه الله وغيره من أهل السير وهم يسردون لكم ذلك الحدث العظيم في ضحى يوم الجمعة في شهر شعبان لسنة 492هـ: (دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس فصنعوا به ما تصنعه وحوش الغابة وارتكبوا فيه مالا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوع يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألف، منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون، وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من أعالي الأسطحة، جاسوا فيها خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيها الخنازير، ونودي من على مآذن لطال ما أطلق التوحيد من عليها، نودي إن الله ثالث ثلاثة –تعالى الله وتبارك عما يقولون علوا كبيرا- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق)، وتباكى المسلمين في كل مكان لهذا الحديث وظن اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبدا إلى حظيرة المسلمين.
كم طوى اليأس نفوسا لو رأت منبتا خصبا لكانت جوهرا
ويمضي الزمن.. وفي سنة 583هـ أعد صلاح الدين جيشا لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم "إن القوي بكل أرض يُتقى"
وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تعجّل له هذا الأمر وهذه المكرمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى تقول له:
يا أيها الملك للصلبان نكّس جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس
فصاح رحمه الله : وا إسلاماه ، وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل.
من ذا يغير على الأسود بغابها أو من يعوم لمسبح التمساح
وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم، فتصالح ملوك النصارى وجاءوا بحدهم وحديدهم وكانوا 63 ألف، فتقدم صلاح الدين إلى طبرية وفتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته ثم استدرجهم إلى الموقع الذي يريده هو، ثم لم يصل الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم، عندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان، واغبر وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبد الصلبان، عشية يوم الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد، إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر، وقوي العطش، وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كان تحت سنابك خيل الكفار، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان، وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفا.(/2)
وذكر أن بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في حبل خيمته، وباع بعضهم أسيرا لنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس له الغنم، ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم لفتح بيت المقدس, وفي هذه الاستراحة وقفة فكيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيئس يا ترى في هذه الاستراحة؟ إن الرؤوس يا عباد الله لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجد والمكان الذي يقال فيه إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من الجهة الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم بعشرة دنانير ويخرج ذليلا، وعن المرأة خمسة دنانير وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيرا للمسلمين فعجز منه 16 ألف كانوا أسراء للمسلمين فدخل المسلمين بيت المقدس وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير ونادى المسلمون بالأذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وفر القسيسون وأحضر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يد تلميذه صلاح الدين ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل الجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام 91 عاما فكان مما بدأ الخطيب خطبته بعد أن حمد الله فقال: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد الله رب العالمين، فلله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
معاشر المسلمين: إن الأقصى اليوم لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة، فالمؤمن لا يعرف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق في حق نفسه، ثم هو واثق بوعد الله له، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم، كالحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى طيبه.
إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات ولتعلم أن والوصول إلى القمة ليس الأهم ولكن الأهم البقاء فيها، وإن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة ولكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ، إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له بالاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من إرهاقه ويأسه، فبالإرادة الحرة القوية الأبية أيها المسلمون ممكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل له في أحد ما حصل - شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به ينقل المسلمين إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين كانوا حقا منتصرين ولولا ملاحقة المسلمين لهم لقضوا على البقية الباقية من المسلمين. وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة فإذا به ينقل الأمة من نقلة إلى نقلة ومن واقع إلى واقع في استعلاء على اليأس وترفع عن الهزيمة.
أيها المسلمون إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية وإنما هو بالعمل والبذل لله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لم يتخلف ولكنه لم يتحقق أبدا على أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله.
حقق الله لنا آمالنا، وعلى الله بلوغ الأمل ، واسمعوا عباد الله في الختام حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعلمنا أن هذه الأرض بيت المقدس بلاد الشام ستكون موئلا لأهل الإيمان، كلما تقارب الزمان، والحديث في مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم إذا رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فاتبعته ببصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتنة سيكون في الشام).
وأصرح من هذا ما رواه أبو يعلى كما في مجمع الزوائد وقال الهيثمي رجاله ثقات يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة).
نعم عباد الله هذه المبشرات فلن تضيع القدس فهذا كتاب ربنا وهذه سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تاريخنا.(/3)
لولا اللين ما ثبتوا ساعة
محمد جلال القصاص
كانت يهودُ تسكن الوادي جنوب المدينة المنورة، متجاورون في حصونهم... بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، ونزلت عليهم الأوس والخزرج 1بين الحرتين، وفي الشمال على بعد مئة ميل فقط من المدينة المنورة يهود خيبر ويهود وادي القرى ويهود فَدَك،.. جمع غفير من اليهود في حصونٍ على الجبال يملكون العدد والعتاد... تُساندهم قبائل غطفان وذراع من المنافقين داخل الصف المؤمن، ولك أن تقارن بين عدد المسلمين ( أقصى ما وصلوا إليه في حربهم مع اليهود كان ألف وأربعمائة يوم خيبر ) وبين عدد اليهود ( يهود قينقاع والنضير وقريظة وخيبر ووادي القرى وفدك. ومن عاونهم من غطفان)، ولك أن تقارن بين تجهيزات اليهود من حصون وآلات حرب ووفرة في المال والمئونة، وبين حال المسلمين وهم مائتا فارس2 ليس معهم إلا السيوف والحراب وبعضهم حاسر لا شيء عليه. وهم يقاتلون على جميع الجبهات.
لم أقصد أن أنبه على أن العدد ليس من الأهمية بمكان، ولكن لاحظت من تدبري لحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع يهود في القتال وفي الدعوة باللسان، أنهم لم يخرجوا إليه أبدا لا بالسيوف ولا بالشبهات.
اتفقوا على مخالفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعداوته، ولم يخرجوا إليه، بل قلَّبوا الأحزاب حتى أحاطوا بالمدينة ولم يشاركوا معهم بجيش... فقط غدرت قريظة حين بدى لها أن معسكر المسلمين في خطر قد يذهب به.
وكان المنطق يقول أن يبدؤوه بالقتال حين هاجر إلى المدينة، وأن يقضوا على الدعوة في مهدها، ولكنها يهود.
بل لم يتعاونوا مع بعضهم حين كان النبي يقاتل فريقا منهم. وتدبر :
أُجْلِيَت بنو قينقاع، وجيرانُهم من بني قريظة والنضير يتفرجون ولم يحركوا ساكنا.
وحدث ذات الشيء مع بني النضير ولم تتحرك قريظة لنصرتهم.
وحوصرت قريظة ورضيت بالتحكيم ( وهي تعلم أنه الذبح3 ) ولم تقاتل.
ويهود خيبر كانوا وراء الجدر يرمون بالسهام، وحين التحمت الصفوف لم يثبت إلا نفر أو نفران ـ وهي قلة لا يُقاس عليها ـ وفرَّ الباقون إلى الحصن المجاور ثم الذي يليه حتى نزلوا على الصلح، ورضوا بالزرع وأذناب البقر.
وفي أمر الشبهات، لم تكن يهود تذهب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحاوره هي بنفسها ـ إلا قليلا جدا ـ وإنما احتضنت المنافقين وأمدتهم بالشبهات كيما يتكلمون هم به4.
ـ ويلاحظ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان شديد الخشونة في التعامل مع يهود حين تتطاول، ولك أن تطالع كتب السير وكل من كتب عن الوقائع بين الرسول واليهود، لترى أنه ليس بين كشف عورة المرأة في سوق بني قينقاع وبين حصارهم أي شيء، لا يوجد أي كلام بين حادث الغدر ـ كشف عورة المرأة ـ وبين الحصار والإصرار على قتلهم لولا وقاحة ابن سلول في شفاعته لهم.
وحين حاولت يهود بني النضير اغتيال رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتكلم ولم يفاوض ولم يُظهر اعتبارا لهم ولحصونهم، ولا لأعوانهم المندسين بين الصفوف، وقد ساندوا بني قينقاع بالأمس وشفعوا فيهم فلم يقتلوا ـ أعني المنافقين ـ، بل وتسربت الأخبار أنهم تراسلوا في الخفاء وتقاسموا على النصرة 5، ولا لجيرانهم من إخوانهم بني قريظة ولا لأهل خيبر ووادي القرى وفدك وحلفائهم من غطفان.... لم يلتفت لهذا كله. كان الرد حازما جدا، وسريعا جدا.
وغدرت قريظة فذبحت وما أمهلت قدر صلاة.
ثم تحرك لخيبر وهو يعلم جيدا مناعة حصونها وعدد رجالها وأن ورائهم غطفان... وكان ما كان.
إن يهود هي يهود... تجمع وتستكثر ، وتُجعجع وتزمجر أمام نساءها وصبيانها وأذنابها من المنافقين، وتكبر في حس كل مرجف جبان أحب الحياة الدنيا على الآخرة، فيملأ ( الفضاء ) بإرجافه، وحين ترى يهود الموت لا تحملها ساقُها وتلقي سلاحَها وإن كانت مستيقنة من أنه الذبح ـ وليس إلا الموتُ يرجعها ـ.
فوالله لو لا اللين لما ثبتوا ساعة، فليسوا بأشجع من مَرَحَبْ وبن أخطب. واقرؤوا التاريخ.
وفي المقابل حين تظهر يهود تقتل النساء والصبيان والشيوخ والشبان... وكتابهم يأمرهم بهذا 6
خندقُ اليهود لا يقف فيه اليهود وحدهم بل يقف فيه الأحمق المطاع بجيشه الجرار ( عُيَيَّنَة بن حصن بالأمس وبوش اليوم ) ويقف فيه المنافقون الذين يحملون أسماء إسلامية ويدّعون الانتساب للإسلام وأنهم يفعلون ذلك من باب العقلانية وخشية الدوائر. والكل يرمي على الصف المؤمن.
________________________________________
1 ذكر ذلك بن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ( دخل علي رسول الله صلى الله علهي وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث... الحديث ). البخاري.كتاب الجمعة /897
2 قاله بن القيم في زاد الميعاد في ذكر غزوة خيبر وهو يتكلم عن تقسيم الغنائم.
3 ذكر ذلك أهل السير على لسان أحد سادتهم وهو كعب بن أسد.
4 انظر للكاتب حبال اليهود الممدوة من يقطعها... منشور بموقع المسلم وصيد الفوائد.(/1)
5 ونزل في ذلك قول الله تعالى : {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } الحشر : 11
6 انظر للكاتب ( تحبونهم ولا يحبونكم ) موقع المسلم.وصيد الفوائد، والشبكة الإسلامية ومواقع أخرى.(/2)
ليكن شعارنا دائماً
كاتبه: سلطان العمري
العلاج هو" رفع الهمم"
لعلك إذا نظرت إلى واقع كثير من المسلمين والمسلمات ترى ضعف الهمم والعزائم في الارتفاع بالنفس وبالأمة إلى الكمال .
وتتعجب عندما توقن بأن كثير من الناس أصابة الهوان والضعف والتخلي عن نصرة هذا الدين ، سواء نطق بذلك أم كان من الصامتين.
بحثت عن دواء لهذا الداء الذي عم وانتشر وطبق العالم كله إلا أفراداً قلة ، فرأيت أن من أحسن الأدوية لمن أصيب بهذا الداء هو " رفع الهمم " ..
فأين أصوات الدعاة والكتاب والخطباء والعلماء والأدباء الذين يستنهضون الهمم ويحركون المشاعر لكي تستيقظ النفوس الغافلة من النوم ، ولكي تسير في طريق الأبطال لكي تصل إلى بلاد المعالي....
ما أحوجنا إلى لسان صادق يطلق عبارات الصدق لكي تتفجر الطاقات المعطلة .
كم نشتاق إلى خطيب جمعة يحرك النفوس ويوقظ الكسالى بكلمات تخرج من قلب يتوقد همة .
أين نجد ذلك القدوة في همته وعلمه وأدبه ودعوته وإنفاقة ، إنه يصنع الحياة من حوله ولو لم يشعر بذلك .
" رفع الهمم"
ليكن شعارنا دائماً " أيقظ الغافل " وما أكثرهم .
أيقظ العملاق الذي بداخلك ...
إن أمتنا مليئة بالأبطال والقادة وأصحاب المواهب ولكن من يوقظهم ؟ من يستخرجهم من " غثاء المسلمين".
كنت في إحدى الثانويات وفي مكتب " التوعية الإسلامية " فقال لي المدير : هنا طالب في أول ثانوي يحفظ ألف حديث ، فتعجبت ، ثم جلست مع الطالب وتبين لي أنه ليس هناك من يهتم به أو يعتني به ، فقررت العناية به وصناعته ورفع همتة ....
وأنا أجزم أن هناك مئات مثله ، لم يجدوا من يحرك همتهم ، أو يعتني بهم .....
"رفع الهمم "
وهكذا علمتني الحياة أن رفع الهمم طريق لصلاح الأمم لأن الأمم مجموعة أفراد ، فإذا كان الأفراد أصحاب همم وطاقات عالية فإن الأمة بمجموعها ستبلغ العلياء وستصل إلى السماء ......
" صناعة الأبطال"
يا أمة الإسلام : أرفعو الهمم ، اشحذوا النفوس ...
يا أيها المدرس وأنت أيها الداعية .... يا أصحاب المنابر ... يا أيها الدعاة رجالاً كنتم أو نساءً " ارفعو الهمم وسينتصر الدين ..
" رفع الهمم "
إن لتحريك الهمم فنون وطرق ووسائل :
1ـ أن تكون قدوة في علو الهمة .
2ـ الجلوس مع الشباب وشخذ الهمم .
3ـ سرد القصص التي تحتوي على نماذج من الهمم العالية .
4ـ على خطباء الجوامع طرح هذا الموضوع والعناية به .
5ـ ضبط الهمم بالحماس المعتدل.
6ـ أخذ الشباب معك في أعمالك البارزة والقيمة.
7ـ على الأديب والشاعر المساهمة بالكتابة في بيان علو الهمة وفضلها وشرفها .
9ـ تحفيز النوابغ وإكرامهم بالجوائز " تكرمة لهم".
10ـ حرص وزارة الشؤون الإسلامية على إقامة دورات مكثفة في رفع الهمم ، وأنواع الهمم وأسبابها ..
11ـ حرص الأخوات على رفع المعنويات لدى الفتيات ليصبحن قادرات على صناعة الحياة في عالم النساء ، ليخرج لنا جيلاً من النساء العابدات الداعيات اللواتي يربين الرجال ليقود الأمة ...
12ـ القراءة في سير الأبطال ذو الهمم العالية حتى تحذو على حذوهم.
محبكم في الله سلطان العمري(/1)
ليلة القدر فضائلها وعلاماتها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله قد اختص هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم بخصائص عديدة، وفضائل كثيرة، ومن هذه الخصائص والفضائل أنه - سبحانه - لما قدر أعمار أبناء هذه الأمة بسنين قليلة عوضهم عن ذلك بأوقات ثمينة، ومن هذه الأوقات رمضان، فإن الحسنات فيه تضاعف، بل إنه من كرمه على هذه الأمة جعل لهذه الأمة ليلة جليلة القدر، هذه الليلة هي ليلة القدر، فجعل العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وبضعة أشهر.
وقد ذكر العلماء في سبب تسميتها بليلة القدر عدة تعليلات؛ فقال بعضهم: سمت يذلك لأنها ليلة عظيمة القدر عند الله، وقيل: لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة؛ قال - تعالى-: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }سورة الدخان(4)، وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر، وقيل: لأنها نزل فيها كتاب ذو قدر، بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وأمة ذات قدر، وقيل لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وقيل: لأن من أقامها وأحياها صار ذا قدر، ولا مانع من حملها على جميع تلك المعاني - والله أعلم -.
وقد جاء الكتاب والسنة بذكر فضائلها، وتعديد مزاياها؛ فمن ذلك:
أولاً: أن الله أنزل سورة كاملة فيها وهي سورة القدر، وبيان أن الأعمال فيها خير من الأعمال في ألف شهر فيما سواها.
ثانياً: أن الله أنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
ثالثاً: أن الله فخم أمرها وعظمها فقال - تعالى-: { وما أدراك ما ليلة القدر }.
رابعاً: أنها خير من ألف شهر، أو ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة.
خامساً: أن الملائكة فيها تتنزل، والملائكة لا تتنزل إلا بالخير والبركة والرحمة.
سادساً: أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب.
سابعاً: أنَّ من قام هذه الليلة إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رواه البخاري ومسلم.
ولذلك فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في تحريها، بل كان يعلن النفير العام في بيت النبوة في العشر الأواخر من رمضان طمعاً في الفوز بليلة القدر، فهذه عائشة تقول: "كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر" رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وأما المسلمون اليوم - هدانا الله وإياهم - فإن المشاهد أنه إذا دخلت العشر دب إلى قلوب بعضهم الضعف، وقلَّ نشاطهم، وفترت همتهم، بل تجد البعض ينفرون بنسائهم وأطفالهم إلى الأسواق لشراء متطلبات العيد.
وهذه الليلة - أيها الأحبة - في رمضان قطعاً؛ لأن الله - تعالى- أنزل القرآن فيها، وقد أخبر - سبحانه - أن إنزاله في شهر رمضان؛ قال - تعالى-: { إنا أنزلناه في ليلة القدر }، وقال - تعالى-: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }، وهي في العشر الأواخر آكد، وخاصة أوتارها، وأرجى ليلة وآكدها ليلة سبع وعشرين؛ فهذا الصحابي الجليل أبي بن كعب - رضي الله عنه - يحلف أنها ليلة سبع وعشرين؛ كما جاء عنه أنه قيل له: إن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبي: "والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني -، ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها" رواه مسلم.
فعلينا جميعاً أن نحرص على تحري ليلة القدر في هذه الليالي العشر، وأن نكثر فيها من تلاوة القرآن، والصلاة بالليل والناس نيام، وأن نصل الأرحام، وأن نزيل من قلوبنا الشحناء والخصام، وأن نكثر من الصدقة، وأن ندعو رب العزة والجلال، وأن نسأله العفو عن الآثام، وأن يعز أهل الإسلام، وأن نلح على الله بالدعاء ونكثر من دعائه، وخاصة بذلك الدعاء الذي علمنا نبينا - عليه الصلاة والسلام -: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" كما جاء ذلك في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتَ إن وفقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم(2789).
وهذه الليلة - يا أخوتاه - لها علامات مقارنة، وعلامات لاحقة؛ كما ذكر ابن عثيمين - رحمه الله -: فمن العلامات المقارنة:
1. قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة: وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان في البر بعيداً عن الأنوار.(/1)
2. الطمأنينة: أي طمأنينة القلب، وانشراح الصدر من المؤمن، فإنه يجد راحة وطمأنينة وانشراح صدر في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي.
3. أن الرياح تكون فيها ساكنة فلا تأتي فيها عواصف أو قواصف، بل بكون الجو مناسباً.
4. أنه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام كما حصل ذلك لبعض الصحابة - رضي الله عنهم -.
5. أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي.
ومن العلامات اللاحقة:
1. أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام، ويدل على ذلك حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه قال: أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها" رواه مسلم.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يفوز بالجنان، والحور الحسان، والنظر إلى الملك الديان، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار(/2)
مأساة مبتعث في بلاد العم سام
أحمد عبد العزيز العامر
يكفل الدستور الأمريكي في تعديلاته المعروفة باسم (وثيقة الحقوق) للأفراد حقوقهم وحرياتهم، وهذه الوثيقة التي أضيفت للدستور الأمريكي عام 1791م تتضمن نصوص حرية القول والصحافة والعبادة، وحقوق المواطنين في عقد الاجتماعات السلمية، وحرمة المساكن ضد التفتيش بغير موجب، أو احتجاز من فيها من أشخاص أو ما تحويه من ممتلكات، وإن من حق كل شخص توجه إليه تهمة خرق القانون أن يحظى بمحاكمة سريعة أمام هيئة محلفين مشكلة من مواطنين عاديين.
وجاء في وثيقة إعلان استقلال الأمريكيين: «إننا نعتبر هذه الحقائق بديهية وهي أن الناس جميعاً خلقوا متساوين، وأن خالقهم منحهم حقوقاً ثابتة غير قابلة للتصرف بها، وأن من بينها حق الحياة والحرية ونشدان السعادة» فما مدى صحة ما جاء في تلك النصوص؟ وما مدى صحة تطبيقها في الواقع المعاش؟ هذا ما سنراه في هذه المأساة(1).
أمامنا قضية الأخ (حميدان التركي) الطالب السعودي المبتعث من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لنيل درجة الدكتوراه في الصوتيات بعد نيله درجة الماجستير بامتياز من جامعة (بولدر) بولاية كلورادو، بعد اتهامه بمزاعم بدأت بدعوى مخالفة أنظمة الإقامة ودعوى الإرهاب؛ ففي شهر نوفمبر 2004 اقتحم منزله ثلاثون من مكتب التحقيقات الفدرالية ورجال مكتب الهجرة وبادروا على الفور بتهديد زوجته مع تصويب السلاح إلى رأسها مستفسرين عن مكان سلاح زوجها المزعوم! ثم قاموا باعتقال زوجته الفاضلة (سارة الخنيزان) وفُرِّق بينها وبين أطفالها الخمسة 12 يوماً ثم سمح لها بالخروج لبلدها بشرط تنازلها عن حقوقها القانونية!! وانتهت قضية الأخ حميدان التركي باتهامات مزعومة في حق العاملة الأندونيسية لديه، ونحسب تلك التهم لا يمكن أن يرتكبها شاب مسلم مثله، وهو يعيش مع زوجته وأطفاله والعاملة بمنزل واحد، والأعجب أن التحقيقات مع العاملة تكررت (12 مرة) من قِبَل المباحث الفيدرالية وكانت في كل مرة تشيد بمعاملة تلك العائلة معها، وفي المرة الـ (13) تغيرت أقوالها بنسبة 180درجة، هل تدرون ما السبب؟ ذلك يعود في نظرنا لما يلي:
1ـ العداء للمسلمين كما هو معروف بعد أحداث 11 سبتمبر خاصة.
2 ـ العنصرية الممقوتة التي يتبنّاها بعض الأمريكان من رجال القضاء الذين ناقشوا تلك الحادثة بتلك الخلفيات.
3 ـ قيام (دار البشير) التي يملكها المتهم بجهد ريادي في الدعوة والتعريف بالإسلام ودحض شبهات الإرهاب عنه، فضلاً عن التأثير الإيجابي (لموقعه الإلكتروني: www.al-basheer.com) على الجالية الإسلامية في أمريكا.
4 ـ أما المخفي والأعظم فقد تحدثت عنه الأكاديمية السعودية (أميمة الجلاهمة) في مقال لها عن هذه الواقعة نشرته صحيفة الوطن في العدد 2108 الصادر في 12/6/1427هـ الموافق 8/7/2006م، وحيث إن علم الصوتيات أثبت أن البصمة الصوتية الأصلية تختلف عن البصمة المصطنعة، وهذا العلم قد يكون له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالشؤون الأمنية، وما ذكر من أن مكتب التحقيقات الفدرالية سبق أن عرض على الأخ الباحث التعاون معه لكنه رفض، والنتيجة هي ما حصل من معاناة تفضح عدالة القوم وديمقراطيتهم ذاتها.
فقد أسيء لهذه الأسرة من السجن إلى الإقامة الجبرية ثم تفريق أطفالهما الخمسة عن والديهم بما يخالف أدنى حقوق الإنسان، والأغرب أن يسمح الأمريكان لزوجته بالعودة لبلادها بشرط تنازلها عن حقوقها القانونية، مع أن للطالب جهوداً متميزة بتعرية العنف والفكر المتطرف كما هو واضح في موقعه الإلكتروني.
لكن القضاء الأمريكي أنهى تلك المسرحية بالإدانة بعدما أعلن المحلَّفون أن المتهم مذنب بتهم من قبيل الاختطاف والتآمر على الاختطاف والتحرش؛ مع وعد بالنطق النهائي في 31/7/2006م، حيث لوَّحوا بالسجن المؤبد للمتهم والتي قال عنها المحامي (راتشيلينو) إن الحكم يتعارض مع قوانين العدالة، وأن المحاكمة باطلة لخروجها عن المسار المحدد لها؛ فالديمقراطية والقضاء الأمريكيان بهذا الحكم أو بهذه المهزلة سقطا بامتياز، مع العلم أن تقرير منظمة (هيومان رايتس ووتش) لعام 2006 اتهم الإدارة الأمريكية، بأنها في ديمقراطيتها الكاذبة تضعف تيار الدفاع عن حقوق الإنسان عبر العالم، حينما جعلت التعذيب والسلوكيات والمعاملة السيئة، جزءاً مكملاً لاستراتيجيتها المناهضة لما يسمى بالحرب على الإرهاب. ألا ترون موقفهم من الحرب الهمجية النازية ضد الفلسطينيين وتأييدهم لها؟ هل هذه هي الديمقراطية الأمريكية؟ خاب وخسر من يطلب الخير في مثل تلك الديمقراطية.
ويوضح ذلك بصورة جلية شهادة المفكر الأمريكي الشهير (نعوم تشومسكي) في زيارته الأخيرة للبنان حيث هاجم الديمقراطية الأمريكية ووضح عوارها بما لا مزيد عليه.
ونحن على ثقة أن الباطل لا يدوم (وحسبنا الله ونعم الوكيل).
________________________________________(/1)
(1) انظر: كتاب (هذه هي أمريكا) من منشورات وكالة الإعلام الأمريك(/2)
( مؤامرة تمييع الدين (1) )
عناصر الموضوع :
1. خطر تمييع الدين وثوابته
2. إنكار الأمور الغيبية
3. إنكار معجزات الأنبياء
4. تمييع قضية الحكم على المرتدين
5. تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام
6. إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر
7. نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا
مؤامرة تمييع الدين (1):
معاول الهدم في العقيدة الإسلامية كثيرة، ومنها التمييع لكثير من القضايا الخاصة بهذا الدين، ومن هذا التمييع: إنكار الأمور الغيبية والمعجزات الخاصة بالرسل.. تمييع قضية الحكم على المرتدين.. تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام.. تمييع الحواجز بين المسلم والكافر..
خطر تمييع الدين وثوابته:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإننا معشر المسلمين مطالبون شرعاً بالدفاع عن حياض الإسلام، والذود عن هذه الشريعة المطهرة، ولأن ديننا أعز شيء لدينا، وجُبل الإنسان على الدفاع عن أغلى شيء عنده، وعن النفيس مما لديه، فلابد للمسلم أن يضع نُصب عينيه الدفاع عن شريعة الإسلام، وأن يجعل له ذلك وظيفةً، وألا يقصر في القيام في هذا الأمر، يسعى لله بالحجة والبيان، وينافح عن الإسلام، وعندما يكون المسلمون في ضعف يتكاثر الطاعنون، ويرفع أهل الضلال رءوسهم، يريدون النيل من هذا الدين القويم. ونحن لا ننكر أيها الإخوة! في مرحلة الاستضعاف التي نعيشها أننا نتعرض لحملة شرسة من أعداء الدين، وأن هناك كثيراً من الخراب في الفكر والعقيدة الذي تسلل إلى نفوس بعض المسلمين ممن حملوا معاول الهدم، يشعرون أو لا يشعرون، ولكنك لا يمكن أن تغمض عين البصيرة عن الروابط التي تربط أعداء الدين في الخارج مع أعداء الدين داخلنا وبيننا؛ لأن الإغماض عن ذلك نوع من الغفلة، لا يمكن أن يليق بمسلم صاحب بصيرة. ومعاول الهدم كثيرة في هذه العقيدة التي هي صامدة في نفوس أبنائها مهما حصل، ومن ذلك أيها الإخوة موضوع خطير جداً يدندن حوله، ويراد تقريره، وهو موضوع التمييع، تمييع عدد من أحكام الدين، وشعائر الدين، وعدد من المسلمات والثوابت في هذه الشريعة المطهرة. لقد تولى إفك التمييع وهذا المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام، الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة يريدون أن يقلعوا الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم يفعل ما يفعل عن تعمد واستمداد من أهل الباطل والكفر وصناديده. وهذا التمييع أيها الإخوة! أمرٌ جد خطير؛ لأنه قد حصل بسببه التباس عند كثير من المسلمين الذين تأثروا بهذه الأفكار المطروحة، وهذا التمييع صار في جوانب متعددة، ولنأخذ بعض الأمثلة تحت بعض العنوانين لنبين ما هو المقصود بقضية التمييع.
إنكار الأمور الغيبية:(/1)
إن هؤلاء الطاعنين في شريعتنا، يميعون على سبيل المثال كثيراً من أمور الغيب والعقيدة؛ ولأن عقولهم لا تقبل وجود أشياء غيبية كالملائكة والجن مثلاً؛ لأنهم لا يحسون بها ولا يرونها، فيريدون إنكارها. ولذلك فإنهم يدندنون حول قضية إمكانية أن يعيش المسلم بسلوك الإسلام دون أن يعتقد ببعض الأمور الغيبية، ويقولون: إن المهم هو فقه الشريعة، وأما فقه العقيدة فإنه مسألة فيها حرية وسعة، وأن المسلم يمكن أن يعيش بسلوك الإسلام، حتى ولو أنكر بعض الرموز والخيالات الموجودة في هذا الدين، يقول محمد أركول من ضُلال هذا العصر: لابد من أن نقر أن الذي حرك القبائل أيام النبي محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- وهو لم يقل: صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان كما ورد في القرآن، والتصورات الأخروية من وعد ووعيد، التي دخلت عقول الناس وجعلتهم يؤمنون بها كحقائق واقعية، وليس كخيال ورموز، ونحن ننظر إليها في هذا العصر كخيال ورموز. وكذلك يقول حسن حنفي : ألفاظ الجن والملائكة والشياطين ألفاظ تتجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس. وكذلك يرى زكي نجيب محمود : إن الغيب والإيمان به خرافة. ويقول واحد آخر ممن يحسب على المشيخة والمشايخ، يقول عن إحدى صفات الله تعالى: إن العقائد لا تُخترع ولا تُفتعل على هذا النحو المضحك، عقيدة أن لله رجلاً ما هذا؟! فيريد إنكار القدم أو الساق أو اليد أو الوجه من صفات الرب عز وجل التي أثبتها لنفسه في كتابه سبحانه وتعالى، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]. وكذلك أثبت صفة القبضة له سبحانه وتعالى، وأثبت صفة اليد له عز وجل، أثبتها له سبحانه، وهو المتصف بها، ونحن لا نعرف إلا ما أخبرنا به في كتابه، وما حدثنا به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]. وهذا يقول: هذا سخف، لله كذا، هذا شيء مضحك! استهزاء بصفات الله، والذي قبله يقول: العوالم الغيبية رموز وخيالات، والذي بعده يقول: الشياطين والملائكة ليس لها وجود، لا يقبلها كل عقل، ثم يقولون: فكيف إذاً يلتقي المسلمون الذين يؤمنون بهذه والذين لا يؤمنون، يمكن أن يلتقوا على السلوك الإسلامي، وعلى الأخلاق الإسلامية، أما هذه العقائد والأمور الغيبية فلا يلزم الجميع أن يؤمنوا بها. سبحان الله! ما هي أول صفة وصف الله بها المؤمنين في سورة البقرة؟ الم * < ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * < الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. [البقرة:1-3] بل إقامة الصلاة: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * < وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ..)[البقرة:3-4] أعادها وكررها: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ [البقرة:4] وما فيها من المشاهد الغيبية، من الحوض والصراط والميزان والجنة والنار، وعرش الرحمن وكرسي الرحمن، والمنابر من نور عن يمين الرحمن، وظل العرش: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] أولئك المؤمنون حقاً أيها الإخوة: أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فإذا لم يؤمنوا ببعض هذه الأشياء، فليسوا على هدىً من ربهم، وليسوا بالمفلحين، وليسوا هم المؤمنون حقاً. فهل رأيتم إذاً وتراً من الأوتار الذي يعزف عليها هؤلاء في قضية تمييع هذه الأمور؟
إنكار معجزات الأنبياء:(/2)
ومن الأشياء التي يريدون التخلص منها معجزات الأنبياء، لماذا أيها الإخوة؟ لأنها غيب، وعقولهم لا تتحمل الغيبيات، عقل فاسد وضيق، لا تتحمل عقولهم الغيبيات، فهذا أحدهم يقول: الذي ادعى أنه يحمل الجمع في الفقه بين القرآن والسنة، وألف كتاباً خطيراً جداً في السنة النبوية، يريد أن يزلزلها وينسف ثوابتاً فيها، يقول: على أنه لا صلة للعقيدة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يُغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق. لاحظ معي يقول: إذاً لا صلة للعقيدة بقضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته الغمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق، إذاً يمكن أن يكون الرجل صاحب مكانة في الدين، وهو ينكر هذه الخوارق، والله تعالى هو الذي أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وهو الذي أعطاها له ردءاً وتأييداً منه سبحانه؛ ليتبين قومه أنه نبي فعلاً ولا يقولوا: كذاب، لقد انشق القمر وأراهم القمر شقين، ورأوا أموراً عجيبة، ورأى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الخوارق ما زاد إيمانهم، ومن المعجزات ما أكد يقينهم وثبتهم: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. فرأوا تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الأكل وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر بمكة ، فكانت المعجزات تأييداً له ولأصحابه وبرهاناً على نبوته أمام الكفار، ومات صلى الله عليه وسلم وأبقى لنا هذه المعجزة الخالدة، وهي القرآن الكريم. أيها المسلمون! إن الله عز وجل لا يعجزه أن يؤيد رسولاً من رسله بأن تمشي إليه شجرة أو يحيي له ميتاً، أو يخرج له ناقة من صخرة، أو ينبع الماء من بين أصابعه، أو يرزقه فاكهة الشتاء في الصيف، أو يحا له طائراً قد ذبح وقطّع، فالله يؤيد أنبياءه بالمعجزات، ويعطي الكرامات لأوليائه، وليس ذلك على الله بعزيز، والله على كل شيء قدير، ولما رأى إبراهيم الخليل هذه الطيور التي قطّعت وذبحّت ووزعت على الجبال، ثم دعاها فجاء عنق هذا إلى جسده، ورجلا هذا إلى بقية الجسد وتركبت وطارت إليه، وقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] وأن الله عزيز حكم، كما قال ذلك عزير وقالها إبراهيم. إذاً أيها الإخوة! هؤلاء الذين ينكرون الجن اليوم، ويقولون: إنهم غير موجودين، وإن الصرع لا يمكن أن يحدث، وإن الشياطين ليس لها تسلط على البشر، والله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك بقوله عز وجل: إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] وأن الشياطين تمس الناس، نعم لم يجعل الله لهم سلطاناً عاماً على الإنس يصرعون من يشاءون ويلتقون كيف شاءوا، كلا، إن ذلك يحدث على نطاق ضيق وعدد قليل، ولكنه يحدث، ونقر أنه يحدث، ولا نقول: عقولنا لا تقبل ذلك.
تمييع قضية الحكم على المرتدين:
ومن التمييع الذي يمارسه هؤلاء: تمييعٌ في قضية الحكم على المرتدين الذين نطقوا بالكفر، فهذا أحدهم وهو فهمي هويدي يعتذر عن نزار قباني الشاعر الملحد الضال، الذي نطق شعره بالكفر صراحة، فينقل عنه عبارة كفرية واضحة، يقول فيها نزار:
لا تسافر مرة أخرى
لأن الله منذ رحلت
دخل في نوبة بكاء عصبية
وأضرب عن الطعام!
ثم قال: وبعت الله!(/3)
هذا الذي قاله الأفاك الأثيم الذي ذهب إلى الله، والله سيتولاه، فماذا قال صاحبنا في الدفاع عنه، يقول: فالكلام الذي صدر عن نزار لا يدخل في إطار إنكار الله بطبيعة الحال، وإن تمنينا أن يتسم حديثه عن الله بالقدر الواجب من الإجلال، إلا أننا نقول: إنه غلب على نزار اعتبار صنعة الشعر، والأوزان والقوافي وكذلك هذه الموهبة، وأطلق العنان للتعبير، فجاء كلامه على ذلك النحو غير المستحب. غير المستحب!! واحد يقول: بعت، ويقول: نحو غير المستحب!! واحد يقول: إنه سبحانه أضرب عن الطعام! ودخل في نوبة بكاء عصبية! ثم تقول أنت عنه: صنعة الشعر غلبته فجاء الأسلوب غير المستحب! سبحان الله! هذا هو التمييع أيها الإخوة! أن نأتي إلى واحد قد صرح بالكفر الذي لا يوجد أشد منه، ثم نعتذر إليه بأن صنعة الشعر جاءت في كلامه على الأسلوب غير المستحب، وكنا تمنينا أن يأتي بالأسلوب الآخر، وكنا تمنينا أن يحاكم مرتداً وتقطع رقبته، وتمنينا نحن المسلمين، هذا الذي نتمناه في أي واحد يهاجم الله عز وجل أن يحاكم شرعاً بالردة، فإذا أقر ولم يرجع أن تضرب رقبته بالسيف انتصاراً لله تعالى، هذا الذي تمنينا. نتمنى هدايته ولكن لو لم يهتد، فإذاً ماذا نتمنى؟ أن يقام عليه حد الردة: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13] هذا هو الله عز وجل : وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] سبحانه وتعالى! هذا رعده وبرقه: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13].
تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام:
من التمييع كذلك: تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام التي جاءت بها الأحكام، فيقول أحدهم وهو محمد عبده في موضوع الوضوء بالكولونيا: ومن أين جاء أن ماء الزهر والورد لا يصح الوضوء به، وماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء، فإنه يمنع آثار المرض، قاله في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام ، والذي يدافع فيه عن أحد كبار المنافقين في هذا العصر وهو جمال الدين الأفغاني ، وقد ذهبا إلى الله، وليس عندنا علم هل تابا أم لا، فالله يتولاهما، ولا نحكم على مصيرهما في الدار الآخرة، أمرهما إلى الله. لكن نحن نأخذ العبرة، ونريد أن نعرف ما هي الأساليب التي يمشي بها هؤلاء بين المسلمين، من الذي قال: إن الوضوء بالكولونيا لا يجزئ، فماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء. نقول: الذي قال هم أئمة الدين من فقهاء المسلمين سلفاً وخلفاً، أنه لا يجزئ الوضوء إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطهارة بالماء، وفي حالة فقده يتيمم بالتراب، هذا الذي جاءت به الأحاديث، الماء طهور وبه يتوضأ ويرفع الحدث الأكبر والأصغر، وإذا عدم فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] ولم يقل: كولونيا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]. والعاقل والبليغ والمثقف والعامي والفلاح والدكتور كلهم يعرفون معنى لفظة الماء: (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )) وأي عاقل يفرق بين الماء والعصير، والماء والشاي، والماء والكولونيا، والماء والزعفران، وماء الورد وماء الزهر، كل ذلك بينه فرق بيّن.
موقفهم من الربا:
أما الموقف من حكم الربا، فماذا يقولون؟ يقول ذلك الرجل: والفقهاء مسئولون في التشديد على الأغنياء في الربا، فاضطروا الفقراء للاستدانة من الأجنبي، بأرباح فاحشة استنزفت الثروات، ويجّوز بعضهم كما جّوز ذلك جمال الدين الأفغاني الذي قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال. فإذاً جرى على ذلك أذنابهم بعد ذلك بعشرات السنين، ووضحوا قولهم وأصلوه، وقالوا: الربا المعقول، يقول ربنا عز وجل الذي نحن نؤمن بشرعه وقدره، وبما أراده واصطفاه لنا من الشريعة والدين، يقول في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة:27] ما بقي ½%، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] وأنت تقول: ربا معقول! ما هو الربا المعقول؟ الذي نعقله ما جاء في هذه الشريعة، وكل شيء يخالف الشريعة غير معقول وسخيف، وتافه وترهات وباطل، لا يوجد شيء اسمه ربا معقول، هناك في هذه الشريعة شيء قطعي وهو تحريم الربا.
موقفهم من الحدود:(/4)
ثم انصب كلامهم في تميع الحدود الشرعية بعد الأحكام الفقهية، على قضية حد الردة، وإبطال حد الردة، وأن الإنسان حر إذا غير دينه، يا أخي! إذا غير دينه هو حر، لماذا يقتل؟! كيف يكون حراً في اختياره، ولا حرج عليه ولا تبعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي نؤمن به وبشرعه الذي جاء به من عند ربه يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) من بدل دينه: أي: الإسلام، وليس من ترك النصرانية و اليهودية إلى الإسلام، المقصود واضح من بدل دينه، أي: الشرع الحكيم الصحيح الإسلام والتوحيد (من بدل دينه فاقتلوه) نص في المسألة. كيف يقال: إن عقوبة الإعدام لا تتناسب مع القرن العشرين، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، فيجب إلغاء عقوبة الإعدام. ولذلك يدندنون في الفضائيات والبرامج التي تبث، في مسألة رجم الزاني المحصن أنها غير صحيحة، ويقولون: لم تُذكر في القرآن، سبحان الله! فقد ثبتت في السنة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده كما يقول عمر ، وحتى لا يقول قائل، فقد قالها عمر رضي الله عنه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة قال: أن يأتي أناس يقولون: ما وجدناها في كتاب الله. وجاءوا فعلاً في كثير من الأوقات، وفي هذا الوقت بالذات وقالوا: ما وجدناها في كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز و الغامدية ، ورجمُت شراحة الهمدانية ، ورجم عمر رضي الله عنه و علي ، ورجم أبو بكر ، ورجم الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، دلالة على أن ذلك الحكم ليس منسوخاً ولا باطلاً. الزاني المحصن الذي وطأ وذاق حلاوة الحلال في عقد صحيح إذا زنا وثبت عليه باعترافه أو بأربعة شهود؛ يرجم حداً من الله تعالى. ثم يقولون: لا يناسب العصر الحاضر، لأنه ليس موجوداً في كتاب الله. فإذا قلنا لهم: حد السرقة موجود في كتاب الله، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ [المائدة:38] يقول قائلهم: إن الشريعة لا تريد أن يتحول المجتمع إلى أناس مشوهين، هذا مجلود، وهذا مقطوع اليد، وهذا مفقوء العين، وهذا مكسور السن بقضية القصاص، اسجنه وامش، أو أي عقوبة مالية ، فنقول: هذا موجود في كتاب الله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] موجود، قالوا: هذه همجية لا تصلح في هذا القرن. وهكذا ترون أيها الإخوة! قضية صب الكلام على تمييع الحدود الشرعية التي أنزلها الله؛ من حد الردة وحد الزنا للمحصن، وحد السرقة، أنهم يريدون إبطال ذلك، وإقناع المسلمين أن ذلك كان في عهدٍ مضى ولا يناسب هذا الزمان. هذه قليل جداً جداً مما يقولونه في بعض هذه المسائل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتمسكين بالحق والدين، ومن الحريصين على تنفيذ شرعه المبين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر:(/5)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل الكتاب، والحمد لله الذي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم والأصحاب، وهزم الأحزاب، والحمد لله مجري السحاب، أشهد أن لا إله إلا هو الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم سيد البشر وأولي الألباب، جاءنا بالحق والصواب، وأشهد أن من تبعه بإحسان إلى يوم الدين هم أولوا النهى والألباب، صلى الله عليه وعلى من تبعه. عباد الله: من أخطر أنواع التمييع الذي يقوم به هؤلاء ممن يسمون بالعقلانيين وأصحاب الفكر المستنير -يسمون أنفسهم بالتنويريين- من أخطر ما يقومون به تمييع الحواجز الدينية بين المسلم والكافر، المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، والذي هو من خير أمة أُخرجت للناس، الموحد لربه، المطيع لنبيه الذي يعتمد الشرع، ويُوفي له، المسلم الذي لا يتحايل على الدين، المسلم الذي يطبق الإسلام، يريدون التمييع في الحد بينه وبين أرباب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم من أنواع المشركين. التمييع بين المسلم الحنيفي وبين اليهودي الذي هو من الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت، والغدر والمكر والحيل، وقتل الأنبياء، وأكل السحت والربا، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم إلى النقمة، عاداتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، أهل السحر والكذب والحيل، هؤلاء الذين سبوا ربهم، فقالوا: تعب يوم السبت وارتاح، وقالوا: إنه بخيل: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] والذين عادوا نبينا صلى الله عليه وسلم بعدما تبين لهم أنه نبي الله، وقامت الأدلة عندهم، وطابق الوصف المذكور في كتبهم، عادوه وناصبوه إلى أن دسوا له السم في الشاة. التمييع بين المسلم وبين النصراني الذي هو من الأمة المثلثة، أمة الضلال وعبّاد الصليب، الذين سبوا الله مسبة لم يسبها أحد، وقالوا كلاماً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، والمسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى ما جرى، وأن هؤلاء عبّاد الصلبان وعبّاد الصور المنقوشة بالألوان في الحيطان، الذين يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا، دينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستحلال الخبائث، كيف يمكن أن تميع الحدود بين المسلم وبين مثل هؤلاء؟ واليهود والنصارى أهل الكتاب أحسن حالاً من الهندوس والبوذيين وبقية مشركي الأرض، فما بالك بالبقية أيضاً. إن الدعوة إلى تمييع الحواجز الدينية بين هذه الديانات الثلاث، قد جرت على خطة مرسومة من هؤلاء باسم وحدة الأديان تارة، أو الملة الإبراهيمية تارة، أو وحدة الدين الإلهي وأرباب الكتب السماوية تارة أخرى، وكلمة العالمية ووحدة الأديان، يريدون صهر الأديان الثلاثة في بوتقة واحدة، كيف يجتمع الذي يقول: لا إله إلا الله، هو الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، مع من يقول: إن عيسى هو الله أو عيسى ابن الله، أو عزير ابن الله؟! كيف يجتمع قتلة الأنبياء، والذين مسخهم الله قردة وخنازير تحت مظلة واحدة مع من هم خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجتمعون؟! كيف يجتمع الذين قال الله عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] مع من يقول: لا إله إلا الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؟ كيف يجتمع هذا مع هذا في قضية الملة الإبراهيمية أو وحدة الأديان؟! إن الجمع بين هؤلاء ردة ظاهرة وكفر صريح ولاشك، ثم هؤلاء من جلدتنا وبألسنتنا يقولون: إن اجتماع هؤلاء من أجل أن يكون السلام عاماً في العالم هو هدفنا الذي نسعى إليه، وأن تزول العداوات بين أهل الأديان، فهل الإسلام جاء لإزالة العداوات بين أهل الأديان؟ هل جاء الإسلام ليعيش أهل الأديان كلهم متآلفين؟ سؤال خطير جداً أيها الإخوة! لأن عدداً من الناس يظن الجواب: نعم، هل جاء الإسلام لكي يتصافى المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والبوذيون، يتصافون ويكونون على قلب رجل واحد. أم جاء الإسلام بقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] أليس الإسلام قد جاء لأجل هذا، إذا كنا نحن لا نستطيع أن نطبقه الآن، ولا نستطيع أن نجاهدهم؛ لأنه ليس عندنا قوة، فإن المبدأ يجب أن يبقى سليماً، وهي عداوتهم ما بقينا، وكرههم لأجل الله ما حيينا، أن نكرههم وأن نبغضهم، حتى لو لم نستطع أن نقاتلهم، يجب أن تكون العقيدة في هذه المسألة واضحة. ثم انظر إلى ما يقوله صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ، يقول: ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، والعربي الصحيح -وإن لم يكن مسلماً وضع هذه الجملة الاعتراضية في الاعتراض- وإن لم يكن مسلماً فله موقف كريم من إخوانه المسلمين. سبحان(/6)
الله! معروف أن النصارى العرب من ألعن أنواع النصارى، إن لم يكونوا هم ألعن أنواع النصارى على الإطلاق، وما ابتليت الأمة في هذا الزمان بمثلهم، والتاريخ معروف. ثم كيف يقال: له موقف كريم من إخوته المسلمين؟! ما هي الأخوة أيها الإخوة؟! أي نوع من الأخوة هذه؟ كيف نشأت رابطة أخوة بيننا وبينهم؟ قال: وإن وقف -أي:هذا النصراني- إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم، فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه. قل لي: كيف لن يبخسه حقه إذا لم يؤمن به رسولاً خاتم الأنبياء؟! كيف لم يبخسه حقه إذا كان يقول: لا أؤمن بنوبته، أو يقول: نبي مثل غيره، لا ميزة لشريعته، ولا ينسخ نبوة من قبله، وليس دينه خاتم الأديان ولا نبوته خاتم النبوات، أليس هذا من البخس العظيم؟! أما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) ؟ ثم يقول هذا: فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة، ومؤسس نهضتها الكبرى. هل النبي عليه الصلاة والسلام بعث ليكون سيد العروبة أم سيد الناس والعالم؟ هل كانت المشكلة بين محمد عليه الصلاة والسلام وكفار قريش العروبة؟! هل كانت القضية أنهم إذا اجتمعوا معه على العروبة انتهت القضية، أو كانت المشكلة والقضية هي: لا إله إلا الله التي رفضوا أن يقولوها؟ أليس هذا هو محور الصراع والحرب التي قامت بينه وبين قريش؛ العرب الأنقياء من جهة العروبة، الحرب قامت بينه وبينهم في بدر و أحد والخندق وفتح مكة وغيرها، قامت حرب أريقت فيها الدماء، أمن أجل أن يكون سيد العروبة؟ إذاً فلماذا امتدت فتوحاته إلى خارج الجزيرة ؟ ولماذا ذهب إلى تبوك بلاد النصارى؟
نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا:
هذا التمييع أيها الإخوة! هذا الذي يقرأه كثير من الناس في الوسائل السيارة، ويسمعونه في هذه الوسائل المسموعة والمنظورة، هذا الكلام الذي نقوله هو ما يُدس للمسلمين، فهل نعقل ونميز؟ وهل نكون على مستوى الوعي؟ إن هذه مسألة خطيرة أيها الإخوة؛ لأن الله قال: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] فلا بد أن تكون هناك بينة؛ لتبين للناس ما نزّل إليهم، البينة والبيان، والله لا يرضى أن يختلط الحق بالباطل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] لا بد أن يميز الخبيث من الطيب ، هذا التمييز الذي نريده أن يكون موجوداً في حس المسلم وعقله، وأن يكون عنده علم يدفع به الشُبهات، العلم يا إخوان هو الذي تعرف به، هل ما يعرض عليك حق أم باطل؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا من أهل الهدى والتقوى، ومن المتمسكين بالعروة الوثقى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجمع شملنا على التوحيد يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحببت، ونبغض من أبغضت إنك سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان في بلادنا وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، ثَبِّتْ علينا الأمن والإيمان، إنك أنت سميع الدعاء يا رحمن. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/7)
ما أحوجنا في هذا العيد لتأكيد الثوابت
التأصيل الشرعي للمقاومة
(ليزداد الذين آمنوا إيمانا)
هذه الكلمات موجهة لعدة فئات :
- فهي أولا موجهة للمؤمنين المجاهدين في سبيل الله الذين يقدمون أرواحهم ودماءهم رخيصة في سبيل الله تعالى (لا يخافون في الله لومة لائم)، وهي موجهة كذلك للمؤمنين الذين لم يجدوا حيلة للجهاد بأنفسهم فهم يجاهدون بأموالهم وألسنتهم، إلى هؤلاء الشرفاء الأنقياء نقدم هذه الكلمات (ليزداد الذين آمنوا إيمانا).
- ونوجهها إلى أصحاب الأصوات المهزومة في الأمة، التي رأت في أمريكا ملجأ ومستعاذا من دون الله تعالى، فرفعت الراية البيضاء مستسلمة مستجدية، أولئك الذين (يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، نقدم لهم هذه الكلمات تحذيرا من غضب الله الجبار (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهمون . فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون).
- وإلى ولاة أمور المسلمين نوجهها، تذكيرا لهم بواجباتهم أمام الله أولا وأمام شعوبهم ثانيا، رجاء أن يرفع الله الظلم عن أهلنا في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين على أيديهم، وإلا فليحذروا وعيد الله تعالى (وإن تتولوا يسبتدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
- وبعد ذلك نوجهها إلى العقلاء في العالم الغربي، حتى لا ينساقوا خلف المزاعم الصهيونية والأمريكية الباطلة، التي تقود العالم اليوم نحو طريق الهاوية، وتفرض عليهم منطق الغاب، الذي يوقع الظلم والاضطهاد على الضعفاء دون أي اعتبار لمبادئ وقيم، إلى هؤلاء نقول كما قال ربنا سبحانه (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
أين نحن من هذه الآيات ؟
1- وجوب رد العدوان : يقول الحق تبارك وتعالى :
(أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير).
(وأخرجوهم من حيث أخرجوكم).
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).
فالآيات السابقة توجب على كل مظلوم أن يسعى جاهدا لرفع الظلم والعدوان الواقع عليه، بل إن المقصر في ذلك يكون آثما في الآخرة ذليلا في الدنيا، ومن صور العدوان الواجب دفعها كما جاء في الآيات :
أ - تعرض المعتدَى عليه للقتل وكل ما يؤدي القتال إليه من جراحات وأسر وانتهاكات للأعراض ونهب للأموال وتدمير للمتلكات، فهم كما أخبر ربنا تعالى (يقاتَلون) أي فرض القتال عليهم.
ب - إخراجهم من بيوتهم وأوطانهم رغما عنهم بالقهر وقوة السلاح.
ت - تعرضهم لمختلف أنواع الفتن، في دينهم ومعاشهم، والآن مقدسات المسلمين تنتهك وتستباح، حتى سميت هذه الانتفاضة المباركة التي نعيش أحداثها بانتفاضة الأقصى المبارك، لرد العدوان عن مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن جميع الشرائع السماوية (لا أقول تجيز بل) توجب على المظلوم المعتدى عليه أن يفعل ما بوسعه لرد العظلم والعدوان، فكيف إذا كان العدوان واقعا على أمة بأسرها ؟
وكذلك فإن الفطرة السليمة تقتضي أن يهب المظلوم في وجه الظالم ليسترد حقه منه، ولا يوجد في تاريخ البشرية قانون وضعي يمنع ذلك أو يدينه .
2- جزاء المعتدين :
إن الله تعالى العادل قضى في محكم التنزيل، وقوع الغضب والذلة والصغار على المعتدين ولو بعد حين. قال تعالى:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
(ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين).
(فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم).
(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
(ألقيا في جهنم كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب).
هذا هو حكم الله تعالى في المعتدين، وبينا قبل ذلك حكمه تعالى في المعتدى عليهم، فكيف ببعض أبناء جلدتنا يغيرون حكم الله عز وجل، فيجعلون حكم المعتدى عليه الرضوخ والاستسلام والقبول بالأمر الواقع !! ويجعلون حكم المعتدي الظالم الاعتراف بسيادته فيتعاملون معه اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا بل واجتماعيا ؟؟!!
وأخيرا من أحب أن يقتدي بالرسول الخاتم (الأسوة الحسنة) صلى الله عليه وسلم، فليعد العدة لرد العدوان وطرد المحتلين، وإن مات دون ذلك فهو شهيد (أحياء عند ربهم يرزقون) وإنما هي إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة،
ومن مات دون أرضه فهو شهيد.
ومن مات دون ماله فهو شهيد.(/1)
فكيف بمن مات دفاعا عن كرامة الأمة وشرفها ؟
إننا نردد في أيام العيد التكبير والتهليل .. الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وما ذاك إلا لنتذكر أن الله هو أكبر من أي طاغوت مستكبر، وهو أكبر من قهر المعتدين، وهو أكبر من استسلام المتخاذلين. لا إله إلا الله ، فلا معبود يستحق العبادة سواه، والخضوع لا يكون إلا للمعبود الحق. وعند ذبح أضحياتنا فلنعلم أن إراقة الدم شكر لله على النعم، وإن إراقة دم المعتدين أحب عند الله من إراقة دم الأضاحي على ثبوت فضلها. فهل نحن فاعلون ؟
فإلى المقبلين على العدو أبشروا برضوان الله تعالى ورددوا كما فعل الصحابة الكرام "غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه" .
وإلى المدبرين عن العدو توبوا إلى الله وأنيبوا، من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون.
(الخطبة الثانية) توصيات :
1- التأكيد على إحياء روح التكافل بين المسلمين (خاصة ونحن نعيش أجواء العيد).
2- التذكير بحال المسلمين في فلسطين وكيف يحتفلون بالعيد (بالتأكيد على حقهم في المقاومة) فأطفال فلسطين لا يعرفون الألعاب والملاهي، لقد استبدلوها بالحجارة والزجاجات الحارقة، معلنين بذلك أن فرحتهم لن تكتمل إلا بطرد المعتدي المحتل.
3- دعوة النساء خاصة للتبرع بهدية العيد تعبيرا عن تضامنها مع أخواتها في فلسطين، وما أخواتها إلا أم شهيد أو معتقل أو مجاهد أو أخته أو زوجه أو ابنته.
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم مهنا
ملحق الخطبة :
* حقائق وأرقام:
بحسب اعتراف العدو الصهيوني وعلى لسان قائد الشرطة الصهيوني فإن الهجمات الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني كانت كما يلي :
جدول يبين عدد الهجمات الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني بالنسبة للسنوات
السنة ... عدد الهجمات
1999 ... 279
2000 ... 401
2001 ... 1749
أي بمعدل خمس هجمات يوميا في عام 2001 وبارتفاع بنسبة 337% مقارنة مع العام الماضي.
جدول يبين تفصيل الهجمات الفلسطينية ضد الحتلال الصهيوني في عام 2001
عدد الهجمات ... نوع الهجوم
31 ... استشهادي
236 ... بالأسلحة الرشاشة
367 ... قصف بالهاون
574 ... بالعبوات الناسفة(/2)
ما رأيكم بمصير هذا الظالم ؟
الحمد لله قاهر الظالمين والمنتقم من الجبارين لا إله إلا هو رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله والتابعين .
أحبتي :
ربي جل وعلا بين في كتابه أن الميزان عنده ليس بالذرة فحسب ، فهذه الذرة مع صغرها لكن ربي العدل يجزي بمثقال الذرة .
" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ًيرى ومن يعمل مثقال ذرة شرا ًيره " .
هاتان الآيتان ختام سورة الزلزلة من قصار السور في القرآن ومع أن أبناءنا يحفظونهما ويرددونهما لكن ما نقول في كبير لا يهتم لهما .
إن ربي جل وعلا يجزي بمثقال ذرة خير ٍ خيرا كثيرا .
وإن ربي يملي للظالم بظلمه حتى إذا أخذه لم يفلته .
" ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون "
" فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام "
حتى إذا آن أوان مجازاة الظالم فلا قوة على وجه الأرض بل ولا في الكون كله يمكن أن تمنع " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " .
الظلم ظلمات يوم القيامة ، والمظلوم له رب ينصره في الدنيا قبل الآخره .
تنام عيناك والمظلوم منتبه ٌ يدعو عليك وعين الله لم تنم
فبالله عليك كيف تجرؤ على أن تبيت ظالما ؟ !
لقد ساق الله في كتابه ما يكفي للاعتبار . ولكن سنن الله في الكون تأبى إلا أن ترينا مصارع الظالمين .
سأحدثك بقصة هذا الظالم فلعلها تطير النوم من عين كل ظالم ، وما أظن والله أن من له قلب يستطيع أن ينام بظلمه ، ومن يدري فرحمة الله واسعة فلعل ظالم يقرأها فلا ينتظر المبيت بل يبادر من وقته إلى من ظلمه ليتمنى منه المسامحة فمن يدري متى تنزل عقوبة الظالم .
هذه القصة حدثت في حي كان يسكن فيه خالي الدكتور أبو عبد الله وعاصرها بنفسه ورواها لي ، وقد ذكرت مصدرها لأؤكد أنها واقعية وليست نسجا من خيال .
رجل استأجر أجير فجعل الأجير يعمل ثم لا أجر ثم يعمل ثم لا أجر ثم يعمل ولا أجر .
طالب الأجير بماله فلم يعطيه ، ويبدو أن الرجل قد تعود الظلم نعوذ بالله من الران على القلب .
لجأ الأجير إلى تخويف صاحب العمل بالجبار جل في علاه ، ولكن لم يجدي .
بدء المظلوم يتكلم وراح الخبر ينتشر ، فزاد الظالم في ظلمه ظانا ً أنه سيتخلص من هذا الأجير المزعج وتنتهي القصة .
لفق صاحب العمل للأجير تهمه تم على أثرها القبض عليه وثبتت التهمه المحبوكة وتم ترحيل الأجير المظلوم من بلد هذا الظالم .
فرح الظالم بظلمه ولم يدرى أن دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويقول وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين .
ركب الظالم سيارته الجديدة جدا ً ذات الدفع الرباعي وانطلق يشق الرمال في الصحراء والله عز وجل قد أنظره إلى تلك اللحظة وهاهو العقاب نازل وأمر لله للسيارة نازل قفي ، فمن يستطيع أن يحركها خطوة واحدة ؟ !
السيارة الجديدة تقف ؟ ! نعم إنه بأس ربك " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " ؟ .
وأين وقفت في وسط الرمال في صحراء مقفرة ، ولكن مازالت فرصة النجاة موجودة .
أخرج هاتفه المتحرك ، ولكنه لا يعمل .
كيف انقطع الإرسال فجأة ؟ !
إنه أمر الله وعفوك يا ربي عفوك .
بقي هذا الظالم يوما كاملا يحاول النجاة فلم يستطع حتى فتح محرك سيارته وشرب ماء تبريد المحرك ليعجل موته قبل أن تكون أسرته قد تحركت للبحث مع الجهات الرسمية ليجدوه في اليوم التالي ميتا ً بجوار سيارته .
ميتة شنيعة أليس كذلك ؟
فما بالكم بعذاب الآخرة ؟ .
" ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون "
" ولعذاب الآخرة أشد وأبقى "
والله يتمنى الإنسان أن لو خرج من كل مظلمة من مظالم العباد ولو بمال الدنيا .
يا رب سلمنا في هذه الدنيا من ظلم العباد .
يا رب إنا نخاف إن عصيناك عذاب يوم عظيم ، فأجرنا يا ربي منه .
وصل وسلم يا ربي على المبعوث بالعدل النبي أحمد وعلى آله ومن تعبد .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com
اضف تعليق(/1)
ما لا يجوز فعله في المسجد
(2)
الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذه البقاع المقدسة، و الأماكن الطاهرة، قد يطرأ عليها من الأمور المخلة بها، وذلك من قبل العامرين لها، والذين يجهلون أحكامها، وما يتنافى مع قدسيتها وطهارتها، أو ما يفعل فيها من الأمور المخالفة لما شرعه الله من الأمور التعبدية، والتي لم يشرعها سبحانه، بل هي مما ابتدعه الجهّال، جهلاً بمكانتها وقدسيتها ومن هذه الأمور:
1. الزيادة على الأذان المشروع:
لقد زاد الناس في الأذان، وابتدعوا فيه مالم ينزل به سلطان، ومما زاده الناس في الأذان، قراءة بعض آيات القرآن قبل وبعد الأذان، ومنها على سبيل المثال قرأة بعض المؤذنين قبل الأذان: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} الإسراء (111) وقرأة بعضهم قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت(33). وبعدها الصلاة والسلام على النبي وأله، وغير ذلك من بدع الأذان، وذلك مما لا يجوز فعله في المساجد في الأذان، وذلك لأنه ابتداع واختراع لم يأذن به الله، ولم يعمله الصحب الكرام، بل لقد نص العلماء على عدم جواز ذلك كما قال في شرح العمدة: يكره قول المؤذن قبل الأذان: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} وكذلك إن وصله بعد ذكر، لأنه محدث، ويكره قوله قبل الإقامة: (اللهم! صل على محمد) ونحو ذلك من المحدثات.
وقال ابن حجر في فتاويه: قد أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عقب الأذان(1).
ولكن يجب أن يعلم أنه ليس المقصود النهي عن الصلاة والسلام على الرسول بعد سماع الأذان، كما قد يفهمه بعض العوام، وإنما المقصود بالنهي للمؤذن نفسه أن يقول ذلك عبر مكبرات الصوت، فليتنبه لمثل هذا الكلام، وليوضع الكلام في موضع الذي وضع له.
ومما أحدثه الناس في الأذان التسبيح والنشيد، ورفع الصوت بالدعاء في المآذن، في آخر الليل وأول النهار، وقبل صعود الإمام إلى المنبر يوم الجمعة لخطبة الأنام، وقد نص على عدم جواز ذلك علماء الإسلام، فقد قال ابن الجوزي - رحمه الله- في تلبيس إبليس: وقد رأيت من يقوم بليل كثير على المنارة، فيعظ ويذكر، ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع، فيمنع الناس من نومهم، ويخلط على المتهجدين قراءتهم، وكل ذلك من المنكرات.
وقال ابن الحاج في المدخل: وينهى المؤذنون عمّا أحدثوه من التسبيح بالليل، وإن كان ذكر الله - تعالى- حسناً سراً وعلناً، لكن في المواضع التي تركها الشارع - صلوات الله وسلامه عليه-، ولم يعين فيها شيئاً معلوماً.
وقال أيضاً: وينهى المؤذنون عما أحدثوه من التذكار يوم الجمعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – لم يفعله، ولا أمر به، ولا فعله أحد من بعده من السلف الماضيين - رضي الله عنهم – بل هو قريب العهد بالحدوث.
وأما في أثناء الأذان فقد أضاف الناس كلماتٍ وألفاظٍ ليس عليها دليل، وليس عندهم من الله فيها برهان، ومنها زيادة لفظة (سيدنا) في ألفاظ الإقامة، وزيادة (حي على خير العمل) عند الأذان والإقامة، وزيادة بعضهم جملة كاملة في ألفاظ الأذان (أشهد أن علي ولي الله) وهذا مما لا يجوز زيادته في الأذان، وكأنهم يتهمون النبي بعدم البيان،والدين بالنقصان، ولأن الأذان عبادة مستقلة لا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان، وفي هذه المسألة يقول الشيخ القاسمي : إن ألفاظ الأذانين مأثورة متعبد بها، رويت بالتواتر خلفاً عن سلف، في كتب الحديث الصحاح والحسان والمسانيد والمعاجم، ولم يرو أحد قط استحباب هذه الزيادة- يقصد لفظة (سيدنا)- عن صحابي ولا تابعي، بل ولا فقيه من فقهاء الأئمة ولا أتباعهم.
وإنك لتعجب من حال بعض مساجد البدعة، تجد الأذان و الإقامة يستغرقان وقتاً أكثر من وقت الصلاة نفسها، بدءً من قراءة الآيات قبل الأذان، ثم الأذان بثمانية عشرة لفظة، ثم بعد ذلك الصلاة والسلام على رسول الله، ثم بعد ذلك الإقامة نفس الأذان، بل قد تستغرق أكثر من وقت الصلاة، أضف إلى ذلك التمطيط والتطريب والتلحين في الأذان، بل ربما بعضهم لا يحسن الآذان، فتجده يمدّ ما لا يستحق المدّ في لفظ الأذان والذي قد يغير المعنى عند مده لألفاظ الأذان، ومن جهله يظن أنه يحسن صنعاً، وهذا ما عانيته بنفسي في بعض مساجد البدعة؛ حتى أن الناس ملّوا الصَلاة في ذلك المسجد، وكرهوا الإمام- ولله الحمد-.
ثم بعد ذلك تراه ينقر الصلاة نقر الغراب، فلا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا خشوعاً!.(/1)
ويظل الإنسان حيراناً من أين أتى الناس بهذه البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان؟- ولاحول ولاقوة إلا بالملك العلام- .
2. إنشاد الضالة:
إن مما عمت به البلوى، وانتشر في الآونة الأخيرة أن الناس إذا ضاع منهم شيئاً، أول ما يتبادر إلى أذهانهم الإعلان عنه في المساجد، وذلك لجهلهم بحقوق وحرمات المساجد، فتجد الواحد منهم يسأل عن ساعة فقدها، والآخر عن محفظة فقدت منه، وثالث يسأل عن طفلة ضاع عليه، ورابع عن شاة نفرت منه، فمن وجدها فله كذا وكذا، وهذا مما لا يجوز فعله في المسجد، فلقد دعى النبي على صاحب الجمل الأحمر، بعدم رده إليه، وعلمنا أن ندعوا على من أنشد ضالة في المسجد بعدم ردها إليه، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ إن المساجد لم تبين لهذا"2.
والمقصود أن المساجد لم تبن للإعلانات وما يتعلق بأمور الدنيا، وإنما بنيت للصلاة، وقراءة القرآن، والذكر والدعاء، وتعلم العلم.
3. اتخاذ المساجد مكاتب وأماكن للمقيل:
قد يستغرب كثير من الناس هذا الأمر، ولكن أقول لا تستغرب فالواقع خير شاهد، وعليك بزيارة أحد مساجد المبتدعة في أحد المدن اليمنية لترى أن بعض المبتدعة قد اتخذ المسجد مكاناً للتكسب والتخزين-وهو ما يعرف عند اليمنيين بأكل القات- وتعاطي ما يتنافى مع تعاليم الإسلام القويم، وما لأجله بنيت المساجد- ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.
4. توسيخ المسجد وتقذيره:
لقد حرص الإسلام على النظافة، وجعلها من الإيمان، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغد فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" 3" وهذا يدل على حرص وعناية الإسلام بكل ناحية من نواحي الحياة.
وكان الإسلام أحرص ما يكون على نظافة المسجد، والتحذير من توسيخه وتقذيره، فلقد كان لمسجد النبي خادم - أو خادمة - يقوم - أو تقوم - بتنظيفه وكنسه، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه –أن رجلاً أسود- أو امرآة سوداء-كان يقم المسجد، فمات فسأل النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: مات، قال: " أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره- أوقبرها- فأتى قبره فصلى عليه"4. وقد بوب الأمام البخاري – رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان. وذكر الإمام ابن حجر - رحمه الله - من فوائد الحديث: الترغيب في تنظيف المسجد.
وذكر الشيخ القاسمي – رحمه الله- : أن من واجبات نظار المساجد أن يتعاهدوا على المدى حال المسجد كيلا يقصر خادمه في كنسه وتنظيفه وحفظ فرشه وحصيره.5
ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه عرضت عليه محاسن ومساوئ أعمال أمته، فرأى في مساوئها النخامة في المسجد لا تدفن، وأخبر أن البزاق في المسجد خطيئته وكفارة ذلك دفنها، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها"6 .
وهذا يكون فيما إذا كان المسجد رملياً أو ترابياً، وأما إذا كان مبلطاً ومفروشاً فلا يجوز البزاق ولا التلف فيه مطلقاً؛ لأنه حينئذٍ يتعذر دفن ذلك، وإن الإنسان ليتعجب حين يرى بعض مساجد المسلمين اليوم قد أصابها ما أصابها من الأذى، فنرى بعضها مرمية فيها قشر ما يسمى عند العامة بالزعقة، وبعض الأتربة، وما أشبه ذلك، وهذا كله مما لا يجوز، بل يجب نظافة المساجد والعناية بها، فلقد أحمرّ وجه المعصوم - صلى الله عليه وسلم - حينما رأى نخامة في قبلة المسجد فقام فحكها بيده الشريفة، ثم قال: " إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه – ون ربه بينه وبين القبلة- فلا يبزقنّ أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه" ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: " أو يفعل هكذا "7.
وفي رواية عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكّها فقال: " إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمنّ قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى" 8.
وقصة الأعرابي وبوله في المسجد خير شاهد على اعتنائه - صلى الله عليه وسلم – بنظافة المسجد، فإنه أمر أصحابه بأنه يهر يقوا عليه ذنوباً - أو سجلاً - من ماء9.
5. القصائد الشعرية والمدائح النبوية:(/2)
المقصود بالقصائد الشعرية التي يجب تجنبها في المسجد، هي القصائد التي فيها أباطيل وكذب وشرك وكفر، وفيها وصف للمرأة، وخدودها وقدودها، وما أشبه ذلك، أو في ذم لقبيلة، فهذه القصائد لا تجوز أصلاً أن تقال في خارج المسجد، فضلاً عن داخله، وعليه تنزل نصوص ذم الشعر والشعراء، قال الله - تعالى-: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ() وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} سورة الشعراء (224- 22- 226).
وقوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } سورة يس(69).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد، فقولوا: فضّ الله فاك (ثلاثاً)"10.
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لأن يمتلئ جوف الرجل قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا " إلا أن حفصا لم يقل يريه.11 .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:" نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد " 12.
أما الشعر الذي فيه نصرٌ للحق وأهله، ودفاع عن الرسول وشرعه، ففيه تنزل نصوص مدح الشعر والشعراء، ومنها دعائه - صلى الله عليه وسلم - لحسان: "يا حسان ! أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اللهم أيده بروح القدس " 13.
وبالجملة فالشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فما كان منه حسناً قيل في المسجد وفي خارجه، وما كان منه قبيحاً منع في المسجد وخارجه.
وأما المدائح النبوية، والتي يرددها أهل البدع، حباً للنبي، -كما زعموا- فهي مما لا يجوز في المسجد،وذلك لما فيها من الأذية للآخرين،هذا إن سلمت من البدع والشر كيات، وهي لم تسلم من ذلك، فلقد قرأنا وسمعنا بعض تلك المدائح التي فيها الشرك الصريح، وإليك مثالاً على ذلك ما ذكره صاحب البردة، حيث قال في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم – كما زعم- :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... **** ... سواك عند حدوث الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... **** ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... **** ... ومن علومك علم اللوح والقلم.
فماذا أبقى هذا وأمثاله لله؟!!
وهذا فيض من غيض تلك المدائح النبوية التي فيها الشرك والكفر الصريح ولمؤول - والعياذ بالله-.
6. الأذية للناس عموماً:
المقصود بالأذية للناس أي نوع من أنواع الأذى الذي يكون للناس في خارج المسجد، فضلاً عن داخله فإن ذلك مما لا يجوز، فلقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم – بعدم الأذية للناس في أسواقهم وأماكن تجمعاتهم، فعن جابر بن عبد الله قال: مر رجل في المسجد، ومعه سهام، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك بنصالها"14.
وذلك لأن السوق مكان يجتمع فيه كل الناس، فلا يجوز أذية المسلمين بأي شكل من أنواع الأذى، فعن ابن عمر قال : صعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على المنبر فنادى بصوت رفيع فقال :" يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"15.
فيا ليت أصحاب المحلات الغنائية التي ترتفع منها تلك الأغاني الماجنة، بتلك الأصوات المؤذية المسلمين يعوون هذا الأمر، ويتقون الله في ذلك، فيفعلون ما يرضى الله، ويتركون ما يغضب الله، وهذا في الأذية في غير المسجد.
أما في المسجد فالأذية تكون أشد تحريماً من غيره، وذلك أن المسجد ليس محلاً للمشاجرة والمخاصمة والأذية، فالجرم يعظم في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وذلك بحسب الأفضلية، وبما أن المساجد أحب البقاع على الله، ومن أفضلها وأقدسها عند المسلمين، كان تحريم الأذية فيها أشد من غيره، ولذلك فقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم – إذا مر أحدنا بمسجد، وفي يديه نبل فليأخذ بنصالها؛ حتى لا يسفك بها دماً، فعن أبي بردة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلماً"16.
وعن عمرو - رضي الله عنه – أن رجلاً مر في المسجد بأسهم، وقد أبدى نصولها، فأمر أن يأخذ على نصالها كي لا يخدش مسلما ً"17 .(/3)
وكم تحدث اليوم في مساجد المسلمين من الأذية، فالأطفال الغير المميزين من جهة، وعوام الناس وجهلتهم من جهة أخرى، فترتفع الأصوات في الشجار والخصام في بيوت الله!! فأين تعظيم بيوت الله؟ فلو أن أناساً ارتفعت أصواتهم أو تشاجروا أو تخاصموا في بيت أحد الأمر أو الوزراء أوشيخ القبيلة؟ فماذا عساه أن يكون؟ وما الذي سيفعله ذلك الأمير أو الوزير أو شيخ القبيلة؟ لا شك أنه ستنتفخ أوداجه، ويحمر وجهه، ويشتد غضبه، وذلك لأنه حصل شيء من الأذية والمشاجرة والمخاصمة في بيته، فكيف بالأذية والمخاصمة والمشاجرة في بيوت رب العالمين!!
والأدهى والأمر من ذلك أذية أصحاب الأهواء والبدع للمسلمين في المساجد، وما يلقونه عليهم من الأباطيل والخزعبلات، والكذب والأقاويل، فيخدشون بها عقيدة المسلمين، التي هي أشد وأخطر من خدش أجسامهم الذي نهى النبي الكريم عن ذلك، كما سبق أن ذكرنا في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم – وفيه: " كي لا نخدش مسلماً".
فنقول لأهل الأهواء والبدع كفوا عن أذية المسلمين، وخدش عقيدتهم وأفكارهم، واتقوا يوماً لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وصاحب القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والذنب والمعصية.
واعلموا أنكم ستقفون أمام ربكم، وتسألون عن افترائكم عن رب العالمين، وعن كذبكم عن سيد المرسلين، وعن تأويلاتكم لنصوص الوحي المبين، وعن سوء ما كنتم تعملون، فماذا عساكم أن تجيبون؟! قال الله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} سورة الصافات} (24- 25).
ومما يدخل في الأذية إتيان المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً، وما في معناها من الروائح الكريهة؛ كأصحاب السجاير، والعمال الذين تنبعث منهم روائح كريهة نتيجة عملهم، فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا - أو ليعتزل مسجدنا- وليقعدن في بيته"18 .
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " من أكل البصل أو الثوم أو الكراث فلا يقربنّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 19
كل ذلك منعاً للرائحة الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والمصلون.
وقد جاء الترغيب في السنة في التطيب ليوم الجمعة، كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: أشهد على رسول - صلى الله عليه وسلم – قال: " الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد"20 .
وعن سلمان الفارسي قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بينه وبين الجمعة الأخرى"21.
وأمر الله بأخذ الزينة عند الذهاب إلى المسجد فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف.
كل ذلك منعاً للأذية، وتهيئة للنفوس للخشوع في الصلاة، والإقبال على الله.
ومما يدخل في الأذية، وقد انتشر في هذه الأيام، تلك الرنات والنغمات التي تنبعث من الهاتف المحمول- الجوال - فإن فيها أذية للمسلمين بالتشويش عليهم في صلواتهم، وسلب لخشوعهم، وإهانة لبيوت الله، وعدم المبالاة بتعظيمها وتكريمها وتشريفها، قال الله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } سورة الحج 32 .
وقال:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} سورة الأحزاب58. وقال:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. سورة النور 36.
ورفع المساجد يكون بتطهيرها، والعناية بنظافتها، وتقديسها، وعدم أذية روادها، والقادمين إليها، وعدم ارتكاب أي عمل ينافي الأدب معها.
وهناك أمر أخطر من كل ما سبق في قضية الجوال – ألا وهي- عدم إغلاقه وقت صلاة وسماع خطبة الجمعة، مما يضطر صاحب الجوال إلى إغلاقه وذلك في وقت سماعه للخطبة، وبفعله ذلك يكون قد تسبب في إهداره لأجر الجمعة، فعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا وأنصت واستمع غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا " 22.
حتى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من دعائم الدين القويم، حث الشارع على عدم الأمر بالمعروف في وقت سماع الخطبة، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"23 وقد فسر العلماء اللغو في الجمعة أنه لا ثواب له، ولكن جمعته صحيحة وعليه الإثم.(/4)
والذي يغلق تلفونه في وقت سماع الخطبة يكون قد ارتكب فعلاً أكبر من الذي مس الحصا.
والأدهى والأمر أن بعض جهال المسلمين، وٍالذين يأتون للجمعة عادة، أو ما أشبه ذلك، ربما يرن جواله، فيقوم بالكلام والتحادث مع من اتصل به والإمام يخطب، وهذا ما شاهدناه بأم أعيننا، وخاصة إذا كان في خارج المسجد – صرح المسجد- ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيجب على كل مسلم يحب الله، ويرجو عفوه ومغفرته، أن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وأن يعظم حرماته وشعائره، وأن يحافظ على المساجد من العبث فيها، وأذية المسلمين الخاشعين الراكعين الساجدين فيها، وأن يقطع كل وسائل الاتصالات بينه وبين الناس، وأن يتصل مع الله – جل وعلا- وذلك بمحافظته على الصلوات الخمس في المساجد مع الجماعة، مع العناية الشديدة بخشوعها، ولا يتأتى ذلك إلا بترك كل ما يشغل عن الله.
فالله الله في احترام المساجد وتعظيمها، وعدم أذية المسلمين العمار لها. والله أعلى وأعلم، ولحمد الله رب العالمين. وإلى الحلقة الثالثة- إن شاء الله-.
________________________________________
1- انظر إصلاح المساجد للقاسمي ص133-134.
2 - رواه مسلم.
3 - أخرجه مسلم والنسائي والترمذي والدارمي وأحمد عن أبي مالك الأشعري.
4 - رواه البخاري.
5 - إصلاح المساجد ص(188)
6 - رواه البخاري ومسلم.
7 - رواه البخاري من حديث أنس.
8 - رواه البخاري
9 - الحديث رواه البخاري وغيره.
10 - رواه النسائي وغيره.
11 - أخرجه البخاري ومسلم
12 - رواه أبو داود وحسنه الألباني في الإ رواء 363/7 وصحيح أبي داود 991 .
13 - أخرجه البخاري ومسلم .
14 - رواه البخاري.
15 - أخرجه الترمذي وابن حبان وحسنه الألباني في غاية المرام رقم (420).
16 - رواه البخاري.
17 - رواه البخاري.
18 - رواه البخاري ومسلم.
19 - رواه البخاري ومسلم.
20 - رواه البخاري
21 - رواه البخاري.
22 - رواه مسلم.
23 - أخرجه البخاري ومسلم .(/5)
ما ميز الله به الجنسين عن بعضهما
{وليس الذكر كالأنثى }
"أبو أحمد الزهراني"
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد فقد أثار الكفار اليوم ومن شايعهم من المنافقين والمنافقات قضية يعلم منها إعلان المناقضة لكتاب الله وهي الدعوة لعدم التميز بين الرجل والمرأة وهذه الدعوة بهذا الإطلاق دعوة كافرة تناقض صريح القرآن والسنة المطهرة كما سيأتي، إلا أنه في البداية ينبغي أن يتنبه المسلم أن هناك نوع من التميز بين الرجل والمرأة حرمه الله وألغاه وهو ما كان مصدره البشر وتشريعهم الذي لم ينزل الله به من سلطان، بل هو من الظلم والكبر الذي حرمه الله قال تعالى {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (139) الأنعام، فهذا التميز وما شابهه محرم وأما التميز الذي أنزله الله وشرعه فهذا إنكاره كفر، وإليك عدد من الآيات والأحاديث التي تبين أن الله ميز بين الرجل والمرأة وجعل لكل واحد منهما ميزات تخصه : قال تعالى : { لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } آل عمران. وقال تعالى {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} النساء. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حاول من الرجال إلغاء ميزته أو من النساء كذلك، فروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل ومن أعظم ما تميز به الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل ما لأحدهما عند الآخر من الحقوق فقد قسم الله الحياة بينهما كل يقوم بعمل حتى يتكاملا في بناء مملكة الأسرة، ولو قام كل واحد منهما بنفس العمل الذي يقوم به الآخر لفسدة الحياة الأسرية وبقي فيها جوانب معطلة أو تحتاج إلى أطراف مستأجره لتقوم بها وهذا خلاف الأصل.(/1)
فمن الأعمال التي أوجبها الله على الرجل وميزه بها وهي تناسب فطرته وخلقته النفقة والسكنى والرعاية والحماية : قال تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى(6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} الطلاق. ومما أوجبه الله على المرأة وميزها به وهو يناسب خلقتها وفطرتها : الحمل والرضاع والعناية بالأولاد : قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ} الأعراف وقال { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة وبما أن الحياة لا تستقيم بغير قائد فلا بد من تعيين القائد فعين الله الرجل قائداً للأسرة فأعطاه من القدرات والصلاحيات والميزات ما يقود به مملكته : فقال { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } النساء. ومما ميز الله به الرجل عن المرأة أن ميزه في العقل فجعل شهادة الرجل تعدل شهادة أمرأتين. وميزه في الميراث فجعل له ضعف ما للمرأة فقال تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ } النساء.
ولحفظ هذه المملكة أمر بحمايتها من الدخلاء فحرم على الجنسين كل طريق للفحش فقال { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ()إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ()فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } المؤمنون. ولتكون الحماية حقيقية حرم عليهم كل سبيل يؤدي إلى هتكها فأمر الجنسين بغض البصر كما قال تعالى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ () وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } النور. وبما أن المرأة عملها في البيت أكثر وخروجها أقل خصها الله بأمرها بالحجاب حفظاً لها من الرجال وحفظاً للرجال منها أن تفتنهم فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الأحزاب .وبما أن القائد الرجل ولم يكن هناك إشكال في تعدد رعيته أجاز له تعداد الزوجات في حدود قدرته فميزه عن المرأة في هذا فقال {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} النساء.(/2)
وبما أن كل فرد من أطراف المملكة قد يستغل ما ميزه الله به لظلم الآخر جاء التحذير لكل طرف بما قد يجور فيه فقال صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه البخاري. وحذر النساء أيضاً قال : قال صلى الله عليه وسلم " يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار،فقلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل قلن بلى قال فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن بلى قال فذلك من نقصان دينها " رواه البخاري.
هذا والله نسأل التوفيق والسداد وأن يرد عن المسلمين كيد الخائنين والخائنات قال تعالى: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} التوبة وقال تعالى :{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا() لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا() مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} الأحزاب(/3)
ما هو القرآن ؟
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حديثنا عن القرآن موصولٌ في سياق بيان صلاح أحوالنا برجوعنا إلى الكتاب والسنة ، وقد أسلفنا القول تصويراً من النصوص القرآنية وتذكيراً بالحوادث من السيرة النبوية عن كون القرآن كان محور حياة الأمة الإسلامية وقلبها النابض ومرجعها الوحيد ومحركها المؤثر .
ولعلنا في حاجة أن نقف أيضاً وقفة لنتعرف على القرآن ، ولعل هذه الوقفة يدور بخلد بعضنا أننا لسنا في حاجة لها وهل نحن لا نعرف القرآن ؟
والحق الذي أحب أن أذكر به نفسي وإخواني أن معرفتنا ربما كانت قاصرة ، وأنها لو كانت من الناحية العلمية أو العقلية كاملة فإنها من الناحية القلبية والعاطفية غير مؤثرة ولو كانت كذلك كاملة ومؤثرة ؛ فإنها ربما يعتريها في بعض الأحوال ما يشوش على المعرفة أو ما يضعف التأثير والعزائم والهمم الماضية لتحمل كتاب الله - عز وجل - في القلوب ولتنطق به الألسن ولتطبقه في واقع الحياة سلوكاً فردياً ، ونظاماً اجتماعياً ، وحكماً تشريعياً يشمل الأمة كلها .
فلنتعرف إلى القرآن تعرّفاً من آيات القرآن يجعلنا ندرك عظيم المنة الربانية علينا بهذا الكتاب العظيم .. يجعلنا ندرك أننا نملك بين أيدينا أعظم وأثمن وأغلى شيءٍ في هذا الوجود .. يجعلنا نوقن يقيناً أننا لسنا في حاجة إلى أي شيءٍ بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن المتأمل يحتاج إلى أن يعمق هذا اليقين من خلال المعرفة القريبة عبر الآيات القرآنية القرآن كتاب الله القرآن كتاب الرحمن هذا وحده يجعل لهذا القرآن قيمة ليس لها مثيل مطلقاً .
إنه كلام رب الأرباب ملك الملوك جبار السماوات والأرض .. إنه نداء الرب سبحانه وتعالى إلى عباده المؤمنين بل إلى الخلق والبشرية والناس كلهم أجمعين .
والله سبحانه وتعالى يقول : { كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير } .
منه سبحانه وتعالى هو الذي أهداه لنا ، وهو الذي أنزله على رسوله وهو الذي جعل فيه ما جعل من الهداية والنفع والفائدة وهو القائل جل وعلا : { وإنك لتُلقّى القرآن من لدن حكيمٍ عليم } .. { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } .
رسالة الله إلى البشرية نحن نعلم أن الإنسان إذا جاءته رسالة من شخصٍ يُعظمه أو يُقدره أو من إنسانٍ له عليه حقوق عظيمة وكثيرة ، أو له عليه حق الطاعة والاستجابة كما تأتي الرسالة من مدير الدائرة تعميماً أو توجيهاً ؛ فإنها تُقرأ مرة بعد مرة ، وإنها توضع نصب الأعين ، وإنها تُتخذ منهاجاً لابد من العمل به ، وإن الإنسان إذا جاءته مثل هذه الرسائل أولاها اهتماماً فأنزله من قلبه منزلة عظيمة ، وأودعها في عقله تفكيراً وتأملاً وتدبراً ، وأنزلها في حياته سلوكاً وتطبيقاً وعملاً .. والقرآن رسالة الله إلينا وكلامه لنا وتوجيهه وإرشاده وحكمه فينا سبحانه وتعالى .
وانظر إلى التعظيم أكثر وأكثر ؛ فإن الناقل لهذا القرآن هو جبريل أمين الوحي وعظيم الملائكة عليه السلام : { إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين } .
انظر إلى العظمة المتضاعفة ! انظر إلى المتلقي المبلغ - عليه أفضل الصلاة والسلام - خير الخلق وخاتم الرسل والأنبياء هو الذي تلقى القرآن كيف تلقاه لهفة ومحبة وشوقاً وحرصاً : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه } .. { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } .
كان من شدة تعلقه ومن عظيم حرصه - عليه الصلاة والسلام - يسابق الوحي ترداداً للآيات رغبة في حفظها في الصدر ، وينشغل به تلاوة وهو الذي أمره الحق سبحانه وتعالى كما في قوله جل وعلا : { وأُمرت أن أتلو القرآن } .
وأمره الله - جل وعلا - فقال : { يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } .
فأي شيءٍ فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - دوّى بالقرآن شرقاً وغرباً ، وقرأه ليلاً ونهارا تهجّد به في جوف الليل ، وصدح به في وضح النهار ، علّمه الصحابة - رضوان الله عليهم - كما قال أُبي وكما قال ابن مسعود وكما قال غيرهم من الصحابة .
هذا ابن مسعودٍ يقول : " حفظت من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة من القرآن " ، وإذا برسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن إماماً للمسلمين ، ثم يطلب منهم سماعه فيقول لابن مسعود : اقرأ عليّ القرآن ، فيقول : أقرأ عليك وعليك أُنزل ؟! فيقول : إني أحب أن أسمعه من غيري .
كان يحب تلاوته ويحب سماعه يشنف به الآذان ، ويُحيي به القلوب ، ويرّطب به النفوس ، ويهدي به البصائر ، ويقوّم به السلوك ، فكان لذلك جعله حياة الناس وحياة الأمة .(/1)
فما بالنا كتاب من ربنا ينزل به جبريل على خير الخلق - عليه الصلاة والسلام - ويصدح به النبي في الصحابة ، وتتناقله الأمة أجيالاً بعد أجيال ، يحمله الأئمة العدول والحفاظ الكرام والعلماء الأفذاذ ..كل ذلك يأتي إلينا نعمة من الله ومنّة من الله ، فما بالنا لا نقدّر النعمة قدرها ولا نعرف للمنة عظمتها هل ندرك تماماً هذه المعاني ونجعلها حيّة في قلوبنا .
هل نحن ندرك بعد ذلك أيضاً ما أودعه الله - عز وجل - بين دفتي المصحف من خير عميم وفضل عظيم وكرم منه سبحانه وتعالى ؟ .
فلئن كان هذا شرف القرآن في مصدره وفي ناقله وفي مبلّغه عليه الصلاة والسلام ، فلننظر إلى عظمة القرآن في مضمونه .. هذا القرآن الذي جاء شاملاً لكل شيء جاء يتناول كل شيء في الإنسان وكل شيءٍ في الحياة ، بل يتناول هذه الحياة وما بعد هذه الحياة .
والحق - سبحانه وتعالى - يخاطب رسوله – صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } .
وانظر إلى هذا التعميم العجيب { تبياناً } تنكيرٌ مع التنوين ، ثم كل التي تستغرق كل شيء ثم التعميم مرة أخرى بشيء كل شيءٍ من صغيرٍ وكبيرٍ من أمر ومن تصورٍ معنوي ، أو من حقيقة عملية { تبياناً لكل شيء } ، لسنا في حاجة إلى أي شيء بعد أن جاء في القرآن تبيان كل شيء ، وهذا أيضاً قول الحق سبحانه وتعالى : { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } .
هذا سلمان - رضي الله عنه - يقول : " ما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلا وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبرا " .
هذا ابن عباس - ترجمان القرآن حبر الأمة ومفسر القرآن - يقول مبيناً يقينه الحقيقي بشمولية القرآن لكل شيء وتناوله لكل حُكم : " لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله " .
ليس كلاماً على سبيل المبالغة ، ولكنها حقيقة على سبيل اليقين ..كانوا يعرفون أن في القرآن كل شيءٍ فيعملون عقولهم تدبراً وتأملاً واستنباطاً واستنتاجاً فيستخرجون من قواعده الكلية ، ومن ألفاظه العامة كل ما تحتاجه الأمة من أحكام وتوجيهات وإرشادات .
هذه امرأة جاءت إلى ابن مسعود رضي الله عنه تنكر عليه ما كان يقوله من لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة قالت : إني استظهرت ما بين اللوحين - أي دفتي القرآن - فما وجدت ما تقول فيه ، فقال : ولكني استظهرته فوجدته ، قالت : وأين وجدته يا ابن مسعود ؟ قال : في قوله سبحانه وتعالى : { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، وما دام هذا قد بلغنا عن رسول الله فالاستجابة له واجبة بأمر كتاب الله عز وجل .
هكذا فقهوا شمول القرآن فلجئوا إليه في كل معضلة ، ورجعوا إليه لاستنباط كل حكم .. { تبياناً لكل شيء }.. تفصيلاً لكل شيء يشمل كل الجوانب عقيدة .. شريعة .. أخلاقاً .. {فاعلم أنه لا إله إلا الله } تثبيتٌ للعقيدة : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ، بيان للحجج العقلية والمناظرة الحجية التي ينقطع بها لسان الخصم ويعي عقله ويسّلم للحقيقة القرآنية والبرهان الرباني : { أم خُلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون } ، ليس هناك احتمالٌ إلا هذا أو ذاك ، إما أن يُخلقوا من عدم وهو باطل ، أو أنهم خلقوا أنفسهم وهم يقرون ببطلان ذلك فلم يبقى إلا أن الله - جل وعلا - هو الذي خلقهم : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يُخرج الحي من الميت ويُخرج الميت من الحي ومن يُدبر الأمر فسيقولون الله } .
أقام الله - عز وجل - في القرآن البراهين القاطعة الساطعة على وجوده وعلى وحدانيته وعلى ألوهيته وربوبيته سبحانه وتعالى مما يستسلم له كل عقل منصف ويستجيب له كل قلب متقبل .
والشريعة أيضاً كل ما جاء في القرآن يشمل أحكاماً كثيرة تفصيلية وبعضها كلية أحكام صلاة وزكاة وصوم وحج ومواريث وبيوع ومعاملات وحدود وشؤون للأسرة كل شيءٍ جاء في القرآن الكريم أخلاق : { وإنك لعلى خُلقٍ عظيم } .. { واصبر وما صبرك إلا بالله } .
واستمع لآيات صفات عباد الرحمن وصفات المؤمنين ، لترى الأخلاق كلها تتجسد في منهجٍ متكامل عندما يتأملها المرء المسلم .. انظر إلى هذا الشمول الكامل الذي جاء بوعدٍ ووعيد وقصص وأمثال وكل ما يتنوع به البلاغ والبيان والهداية والإرشاد في كتاب الله - عز وجل - وعدُ : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين } .. وعيدٌ : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عن ما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } .. قصص وأمثال : { نحن نقص عليك أحسن القصص } .. { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } .(/2)
كم جاء في القرآن من قصص الرسل الأنبياء والأقوام الكافرين ؟ كم جاء لنا من قصصٍ كثيرة حتى عن الحيوانات قصة الهدهد عظة وعبرة وغيرها ،وغيرها : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } .. { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل لعلهم يتذكرون } .
أمثال عجيبة تعيها القلوب قبل العقول ، وتتفاعل معها النفوس إذا أقبلت على القرآن وعرفت ما فيه وما هو مشتملٌ عليه من أنواع الهداية .
هل أصابك مرضٌ في قلبك ؟ وهل نزلت بك علة في نفسك ؟ وهل جآءك غم واكتئاب أو حيرة واضطراب ؟ لئن حل بك شيءٌ من ذلك فاعلم أن العلاج والدواء في القرآن الكريم ، هذا قول الحق - سبحانه وتعالى - يبيّن أن هداية الحيران في كل أمر من الأمور وفي كل مسألة من المسائل إنما هو في القرآن : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين } .
يهدي للتي هي أقوم في كل شأن من شؤون الحياة .. في شأن الفرد والمجتمع والأمة .. في شأن الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقضاء وغير ذلك ، والله سبحانه وتعالى يقول : { وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين } .
ويقول ابن القيم - رحمه الله - شفاء معنوي وحسي فهو طمأنينة القلوب وسكينة النفوس وهداية العقول واستقامة السلوك ، وهو راحة النفس ولذة الروح ، وهو الذي يقع به للمرء من الهناء والسعادة ما لا يكون إلا به وبالارتباط معه وباليقين بما جاء فيه وبترطيب اللسان بتلاوته وبتشنيف الآذان بسماعه ، وبإحياء القلوب بالتفاعل معه وبتشغيل العقول بالتدبر والتأمل فيه : { وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة } .
وتأمل هذا التعبير أو هذه الآية القرآنية وهي تبيّن نزول القرآن على مرضى القلوب والنفوس ، فإذا به كأنما هو غيثٌ أو مطرٌ يصيب أرضاً قاحلة فيليّن قاسيها ويفجر الخيرات منها ويجعلها تورق وتخضر وتزهر بإذن الله سبحانه وتعالى : { قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لِما في الصدور } .
كل حيرة كل شك كل ضلال كل ذلك يُشفيه بإذن الله - عز وجل - القرآن لمن ارتبط به وآمن وأقبل وتدبر وعمل بإذنه سبحانه وتعالى .
هل رأيت نفسك يوماً تسير في ظلماء ليس فيها نورٌ ولا ضياء كيف يُمكن أن تتحرك لا تستطيع أن ترفع قدمك لأنك لا تدري أين تضعها إنك ترفع يدك ولا تستطيع أن تراها أنى لك النور في ظلمات الجهل وأنى لك الضياء في سُجف الشبهات المتكاثفة وأنى لك البصيرة في ظل الفتن والأهواء والشهوات والشبهات المختلطة في هذا الزمن العجيب ، وهذا العصر الغريب والله - سبحانه وتعالى - يقول : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء } .
النور الذي يُبدد لك الظلمات إنما هو في تلك الآيات : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها } .
نحن ربما كنا في بعض الأحوال يصدق فينا قول القائل :
كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ **** والماء فوق ظهورها محمولُ .
نحن بين أيدينا النور ونبقى في الظلمات ، وعندنا العلاج ونبقى في ألم المرض ، وعندنا الحياة ونبقى مشلولين مقعدين كأننا أموات .. نحن بأيدينا ليس خيرنا وليس هدايتنا بل خير البشرية وهدايتها نحن بهذا القرآن نملك أعظم شيءٍ في هذا الوجود ، ونملك أعظم دواءٍ وشفاءٍ لكل العلل والأمراض ليست علل النفوس وأمراض القلوب فحسب ، بل علل الاقتصاد ومشكلات السياسة وكل المعاني التي يُقال إنها إنسانية جاء فيها وجاء بها القرآن الكريم : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } .
هذا القرآن الذي بيّن حياة الفرد ونظام المجتمع ومسيرة الأمة كل ذلك ضمن القرآن الكريم بيّن لنا الولاء والبراء والعداء بيّن لنا كل شيء : { إنما المؤمنون إخوة } .
أخوة الإيمان التي توحد بيننا وتجمعنا وتجعلنا قوة بدلاً من أن نكون متفرقين :
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً **** وإذا افترقن تكسرت أحادا .
{ إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } .
ثم انظر : { يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } .
كل شيءٌ ظاهرٌ بيّن حجة قائمة وهداية تامة كاملة :
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } .
فهل نحن نعرف القرآن العظيم حق المعرفة ؟ وهل ندرك قيمته ونعرف عظيم المنة والنعمة به ؟ نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا وأن نكتشف جهلنا وقصورنا وتفريطنا .
نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى دينه ردّاً كريماً ، ونسأله - عز وجل - أن يجعلنا مؤمنين بالقرآن التالين له المتدبرين في آياته العاملين بأحكامه الناشرين لدعوته .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :(/3)
القرآن العظيم مأدبة الله ومن أراد أن يكلّم الله كفاحاً من غير ترجمان فليقرأ القرآن .. هذه الفضائل وهذه النعم التي تُجسد لنا عظمة النعمة التي بين أيدينا وقال الرسول : { يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } .
فهل أحيينا به قلوبنا ؟ وهل تأملناه وتدبرنا في معانيه بعقولنا ؟ وهل ألزمنا أنفسنا بتطبيق أحكامه في سلوكنا ؟ وهل جعلناه مهيمناً على كل شيء في حياتنا ؟ وهل جعلناه لذة في سماعنا ؟ وحباً في تلاوتنا وتحديداً لأطفالنا ؟ وعمراناً وإحياءً لبيوتنا ؟ فإن البيت التي لا يُذكر فيه الله كالبيت الخرب .
وهذا القرآن العظيم الذي جعله الله - عز وجل - لنا نبيّن هذه المعاني لننظر إلى عظمته من وجوه كثيرة ليس ما ذكرته إلا أقل القليل منها ، فهو الذي يكون به قناعة العقل وهو الذي تحصل به عاطفة القلب ، وهو الذي أيضاً يؤثر في النفس ، وهو الذي يُحدد المسار تحديداً يستطيع به المرء أن يمضي على بيّنة من ربه ، فهو يبدأ من قناعة العقل وعاطفة القلب إلى سلوك الفرد .. إلى تنظيم المجتمع .. إلى إحكام مسيرة الأمة .. إلى معاملتها مع كل الناس من حولها ، بل قد جاء فيه كل شيء - كما أخبر سبحانه وتعالى - في هذا الشأن ، والذي يتأمل يجد هذه الحقيقة جليّة واضحة .
ولعلنا نقف وقفة أخيرة مع ما يحصل عندما لا نعرف هذه القيمة ولا نقدر هذه النعمة ، ولا نجعل القرآن محور حياتنا ، ولا نجعله شاغل ألسنتنا وقلوبنا وعقولنا ومجالسنا : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربي لِما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى } .
تأملوا هذه الآيات في شطر آية من كتاب الله يفسر الله - جل وعلا - سبب النكد والبلاء والشقاء هماً في القلب وضيقاً في الصدر وحيرة في العقل كل ذلك : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } .
ضنك الاقتصاد الذي يُعاني منه العالم كله في زمن تقدّم فيه العلم حتى استخرج من الأرض خيراتها ، واستنزل من السماء كثيراً مما يُنتفع به ، ومع ذلك مجاعات وموت وقتل ودمار وشقاء عجيب وتعاسة عظيمة : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } .. { ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين } .
من أعرض عن ذكر الرحمن كان قرينه الشيطان هو الذي يكون راكباً فوق رأسه .. هو الذي يُحدد مساره .. هو الذي يوسوس في قلبه .. هو الذي يُهمس في أذنه .. هو الذي يُهيّج الشهوة في قلبه .. هو الذي يرسم مسيرة حياته ، وحسبك بامرئ أو بأمة أو بمجتمع يقوده إبليس عليه لعنة الله : { ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين } .
يبقى معه دائماً وأبداً فلا تبقى عنده فرصة لهداية ولا مجالٌ لسعادة إلا أن يفيء ويرجع إلى ظلال القرآن ، وإلى كلام الرحمن - سبحانه وتعالى - فهذا هو القرآن من الله مبلّغاً عن طريق جبريل متلّقى من الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - منشوراً ومبلغاً بلسانه - عليه الصلاة والسلام - وبيانه وهذا هو القرآن الذي فيه كل شيء وهذا هو القرآن الذي أُمرنا بتدبره وتأمله .
فعسى الله - عز وجل - أن يربطنا بكتابه ، وأن يُحيي قلوبنا به ، وأن يشغل ألسنتنا بتلاوته وآذاننا بسماعه وعقولنا بتدبره وجوارحنا بالعمل به .(/4)
ما هى الغفلة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، واشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الفاتحين
رب يسر ولا تعسر
يقول الله تعالى ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأثيهم من ذكر من
ربهم محدث الا استمعوة وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) الانبياء
ويقول النبي صلى الله علية وسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنة ( اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا الا حرصا ولا يزدادون من الله الا بعدا) صحيح الجامع
وقد اصيبت الامة بهذا المرض العضال والداء المخوف الا من رحم الله الا وهو الغفلة فاحببت ان اتكلم عنها عسى الله ان ينفع بكلامي انة ولي ذلك والقادر علية فاتكلم عن
1- تعريف الغفلة وحقيقتها
2-اسباب الغفلة
3- أنواع الغفلة
4-مراتب الغفلة من حيث القوة والضعف
5-نتيجة الغفلة
6- علاج مرض الغفلة والله المستعان
تعريفها : سهو يحدث للانسان نتيجة عدم التحفظ والتيقظ
وأما حقيقتها : فهو الانغماس في الدنيا والشهوات ونسيان الاخرة بحيث يصير الانسان لة قلب لا يفقة ولة عين لا ترى ولة اذن لا تسمع فيصير كالانعام بل هو اضل ، فيجتهد في تعمير الدنيا وتخريب الاخرة الباقية، فيكرة لقاء الله واليوم الاخر لانة يكرة ان ينتقل من العمران الى الخراب، فتراه يبني على الارض القصر وينسى القبر ، تراة يملأ بطنة مما لذ وطاب حلالا كان او حراما وينسى يوم الحساب، تراه متلبس بالنعمة وينسى شكر رب النعمة، تراة منغمس في الذنوب والمعاصي وقلبة من عدم ذكر الله قاسي، تراة هلوعا جزوعا منوعا فهو في الشهوات منغمس وفي الشبهات منتكس، وعن الناصح معرض وعلى المرشد معترض، عقلة مسبى في بلاد الشهوات، واملة موقوف على اجتناء اللذات، وسيرتة جارية على اسوأ العادات وهمتة واقفة مع السفليات، ودينة مستهلك بالمعاصي والمخالفات .
قال تعالى ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون) الاعراف
خلق الله خلقا كثيرا للنار والسبب ان لهم قلوب لا يفقهون بها اي لا يعلمون بها الحق والهدى والبحث عن دلائلة ولهم أعين لا يبصرون بها بصر اعتبار وتأمل وتلمس طرق الرشاد كما قال تعالى (وإن يرو سبيل الرشدلا يتخذوة سبيلا وإن يروسبيل الغي يتخذوه سبيلا )
ولهم آذان لا يسمعون بها القران والمواعظ سماع تدبر وتفكر وتذكر بل مثلهم ( كمثل الذي ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) البقرة
أولئك كالانعام في همتها الموقوفة على الاكل والشرب والتمتع بالشهوات كما قال تعالى (والذين كفرو يتمتعون ويأكلون كما تاكل الانعام والنار مثوى لهم ) محمد
بل هم أضل ، لماذا كانو أضل من البهائم وهذا من اجل سببين :
الاول : أن البهائم تميز بين الضار والنافع فتأتي ما ينفعها ولا تأتي ما يضرها ابداً وإن حملت علية قهرا ( كفيل ابرهه ) أما هؤلاء الغافلون فترى أحدهم بتركه اعمال نعمة الفكر والعقل يقدم على النار ولا يبالي فكانو بفعلهم هذا أضل من الانعام قال تعالى مخبر عن تحسر اهل النار ووندمهم في يوم لا ينفع الندم (وقالو لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفو بذنبهم فسحقاً لاصحاب السعير ) الملك
الثاني : أن الانعام تذكر الله وتسبحة وتصلي الية كما قال تعالى (كل قد علم صلاتة وتسبيحة)
أما هؤلاء الغافلون فترى أحدهم لا يذكر الله تعالى في اليوم ولو مرة فصارو اضل من الانعام
فلو أن هذا الغافل النائم ، الذي هو في كل واد هائم ، تجرد من نفسة ، ورغب في مشاركة ابناء جنسة ، وخرج من ضيق الجهل الى فضاء العلم ، ومن سجن الهوى الى ساحة الهدى، ومن نجاسة النفس الى طهارة القدس ، لعلم معنى قولة تعالى ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ما اريد منهم من رزق وما اريد ان يطعمون ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين )
وأما عن اسباب الغفلة فهو حب الدنيا وليس ثمة ثان فحب الدنيا راس كل خطيئة كما في الحكمة المشهورة والغفلة هي ثمرة حب الدنيا قال تعالى ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون ) الروم
قال الحسن البصري ( والله ليبلغ أحدهم من علمة بدنياه ان يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنة ولا يحسن يصلى )
يقول بن كثير في تفسيرة ( فأن أكثر الناس ليس لهم علم الا بالدنيا وأكسابها وشؤونها فهم فيها حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها وهم غافلون عن امور الدين وما ينفعهم في الدار الاخرة كام أحدهم مغفل لا ذهن لة ولا فكرة ) انتهى كلامه رحمه الله(/1)
يقول صلى الله علية وسلم ( إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب في الاسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الاخرة ) صحيح الجامع
كأنة لم يخلق للعبادة وإنما خلق للدنيا وشهواتها فأنة إن فكر فالدنيا وإن أحب فالدنيا وإن عمل فالدنيا فيها يخاصم ويزاحم ويقاتل ، وبسببها يتهاون ويترك كثيراً من أوامر الله عز وجل وينتهك المحرمات من أجلها حتى أن أحدهم مستعد أن يترك الصلاة أو أن يؤخرها عن وقتها من أجل ثفقة أو اجتماع عمل أو مبارة كرة قدم أو موعد مهم ونحو ذلك وهم عن الاخرة هم غالفون .
الناس يجلسون مع بعضهم البعض كل حديثهم عن الدنيا ، عن المال ، عن النساء ، عن الشهوات ، عن الربح عن الخسارة وهم عن الاخرة هم غافلون .
الناس تحفظ الاغاني واسماء الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات الاحياء منهم والاموات وهم عن الاخرة هم غافلون
ولئن سالتهم عن الصحابة والتابعين أو العلماء والزاهدين لا يعرفون شيئا الا من رحم الله ، تقول لاحدهم كم تحفظ من القرآن يقول المعوذتان ، تسأله كم تحفظ من حديث المصطفى العدنان يقول حديثان الاول ( إن هذا الدين يسر ) الثاني ( من أم بالناس فليخفف ) والى الله المشتكى .
وهم بعملهم هذا يزعمون أنهم يبحثون عن السعادة والراحة وهم لن يجدو الا الشقاء والتعاسة فقد حكم الله تعالى حكما أزليا لا راد ولا معقب لة فقال تعالى ( ومن أعرض عن ذكري فأن لة معيشة ضنكا ونحشرة يوم القيامة أعمى قال رب لما حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك اياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى ) طه
ولقد أخبرنا الله حقيقة الدنيا وضرب لها المثل فقال تعالى ( اعلمو أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباتة ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور ) الحديد
ولقد حذر منها النبي صلى الله علية وسلم فقال ( احذرو الدنيا فأنها حلوة خضرة ) صحيح الجامع
ولقد خشي النبي علينا منها فقال صلى الله علية وسلم ( أبشرو وأملو ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) صحيح الجامع
وضرب لها المثل ثم بين انا لا شيئ فقد صح عن النبي صلى الله علية وسلم أنه مر على شاة ميتة فقال لاصحابة ( أترون هذة الشاة هينة على اهلها ) قالو من هوانها عليهم القوها قال صلى الله علية وسلم ( والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذة الشاة على اهلها )
وقد صح عن النبي صلى الله علية وسلم أنة قال ( لو أن الدنيا تساوي عن الله جناح بعوضة ماسقى منها كافر شربة ماء ) صحيح
ولا تفرح أذا أعطاك الله من الدنيا وأنت مقيم على معصيته فقد صح عن النبي صلى الله علية وسلم أنة قال ( إذا رايت الله يعطي العبد ما يحب من الدنيا وهو مقيم على معصيتة فأنما ذلك منه استدراج ) ثم تلى النبي قول الله تعالى ( فلما نسو ما ذكرو به فتحنا عليهم أبواب كل شيئ حتى إذا فرحو بما أوتو أخذناهم بعتة فأذا هم مبلسون ) الانعام . صحيح الجامع
وقد حكم النبي على الدنيا باللعن فقال صلى الله علية وسلم ( الدنيا ملعونة ملعون مافيها الا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم ) صحيح الجامع
وقد حكم النبي على من جعل الدنيا همة ومبلغ علمة باشد العقوبات فقال صلى الله علية وسلم (من بات والدنيا همة فرق الله علية شملة وجعل فقرة بين عينة ولم ياتة من الدنيا الا ما كتب لة ، ومن بات والاخرة همة جمع الله علية شملة وجعل غناه في قلبة وأتته الدنيا وهي راغمة ) صحيح الجامع
ونحن لا نقول بترك الدنيا تماما ولزوم المسجد ليل نهار ولكن فرق كبير بن قول الله تعالى ( هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشو في مناكبها وكلو من رزقة والية النشور ) الملك . وبين قولة تعالى ( وسارعو الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض ) ال عمران . وقوله تعالى (وسابقو الى جنة عرضها كعرض السماء والارض ) الحديد
ولكن يوجد ضوابط شرعية عند التعامل مع الدنيا ومنها :-
1- أن تكون الدنيا في ايدينا وليست في قلوبنا وأن تكون وسيلة وليست غاية :
يقول ابو سليمان الداراني ( اذا كانت الاخرة في القلب جائت الدنيا تزاحمها واذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الاخرة لانها كريمة والدنيا لئيمة ) كتاب الزهد
وان تكون وسيلة لما يقربنا الى الله تعالى بالصدقة والزكاة وكف النفس عن السؤال واعطاء ذي القربى والتوسيع على الاهل الى غير ذلك ولا تكون هي غايتنا بهدف التجميع والتكديس والتكنيز قال تعالى ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم ) التوبة . ويقول تعالى (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعددة يحسب ان مالة اخلدة ) الهمزة ، وفي قراءة جمع بتشديد الميم(/2)
2- اذا تعارضت الدنيا مع الاخرة نقدم الاخرة :
قال تعالى ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح لة فيها بالغدو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله يخافون يوما تتقلب فية القوب والابصار ) النور
وقال تعالى ( يا ايها الذين امنو لا تلهكم امواكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون ) المنافقون
وقال تعالى (وإذا رأو تجارة او لهو انفضو اليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ) الجمعة
3- الاجمال في الطلب وعدم التنافس في الدنيا :
يقول صلى الله علية وسلم ( اجملو في الطلب فأن كل ميسر لما خلق له ) صحيح الجامع
والاجمال هو عدم الحرص والتكالب على الدنيا فأن رزقك مقدر محتوم لن تزيد فية ولن تنقص منة شيئا .
وعدم التنافس لقول رسول الله صلى الله علية وسلم في الحديث السالف الذكر ( ولكن اخشى عليكم الدنيا وفية فتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم فتهلككم كما اهلكتهم ) صحيح
يقول الحسن البصري ( من نافسك في دينك فنافسة ومن نافسك في دنياك فألقها في نحرة )
قال تعالى لما ذكر ما لاهل الجنة من الثواب قال بعدها ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )
4- عدم النظر الى من هو اعلى منك في الدنيا :
فالانسان لا ينظر الى من هو اعلى منة في الدنيا ولكن ينظر الى من هو اعلى منة في الطاعة لقول النبي صلى الله علية وسلم (انظرو الى من هو اسفل منكم ولا تنظرو الى من هو فوقكم فهو أجدر الا تزدرو نعمة الله عليكم ) صحيح الجامع
ويقول النبي صلى الله علية وسلم ( لا حسد الا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار ) صحيح الجامع
والمقصود بالحسد في الحديث الغبطة وهو تمني أن يكون لك مثل نعمة الله على غيرك حتى تفعل مثلة من غير أن تزول منة .
5- تحري الحلال ناهيك عن حرام :
يقول صلى الله علية وسلم ( الدنيا حلوة خضرة فمن أصاب منها شيئ من حله فذاك الذي يبارك الله فيه ) صحيح الجامع
6-الرضا بالقليل وشكر الكثير :
يقول صلى الله عليه وسلم ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ) صحيح الجامع
وقد اخبر النبي صلى الله علية وسلم مايكفي من الدنيا فقد صح عنة انة قال ( انما يكفي احدكم من الدنيا كما يكفي المسافر من الزاد ) صحيح
ولتعلم أن الدنيا كلها عندك ولكن انت لا تشعر فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من بات آمناً في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها ) صحيح الجامع
ولتكن أخي راضيا عن ربك في السراء والضراء فقد قال بعض السلف ( لا أبالي أفتقرت أم أغتنيت فأن افترقت فالصبر وتلك عباده يحبها الله وإن اغتنيت فالشكر وتلك عباده يحبها الله )
ثالثاً أنواع الغفلة:
الغفلة كما قدمنا مرض مزمن وداء عضال ونهايتها أخطر فلذا كان الواجب على العاقل أن يستيقظ من هذا الثبات العميق ويحرص على ما ينفعة في الدنيا والاخرة .
وأما عن أنواع الغفلة فثلاثة وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن :
1- غفلة عن التفكر في ايات الله :
ينظر الغافل إلى آيات الله في كل مكان من فوقه ومن تحتة وعن يمينه وعن شماله ولكن قد أعمته غفلتة عن الرؤية وعن الاعتبار قال تعالى ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم معرضون ) يوسف .
فكان جزاء هؤلاء كما أخبر سبحانه ( فانتقمنا منهم فاغرقناهم في اليم بأنهم كذبو بآياتنا وكانو عنها غافلين ) الاعراف
فلما غفل الانسان عن التفكر في ايات الله ( المقروءة والمنظروة ) ازداد مرضة مرضاً فانتقل الى النوع الثاني من انواع الغفلة :
2-غفلة عن ذكر الله :
فلا يذكر الغافل ربة الا قليلا وربما ماذكرة ابدا فلا يرجوة ولا يخاف منة يقول الله تعالى محذراً نبية من ذلك ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ) الأعراف
فلما غفل الانسان عن ذكر الله ازداد مرضة مرضا فانتقل الى النوع الثالث من انواع الغفلة :
3-غفلة عن الموت والاخرة والمصير :
قال تعالى ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد ) ق
قال تعالى ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) مريم
وبالجملة فهو غافل عن الغاية التي خلق من اجلها غافل عن المصير الذي ينتظرة لذا فأن من اشد الامراض التي تصيب الانسان هو مرض الغفلة والى الله المشتكى والله المستعان وعلية التكلان .
رابعا مراتب الغفلة من حيث القوة والضعف :
الاولى غفلة لحظية:
فيغفل الانسان فأذا ذكر تذكر فيعود ويستغفر وهذا معنى قول الامام بن القيم ( لابد لك من سنة الغفلة ومن رقدة الهوى ولكن كن خفيف النوم ) الفوائد
الثانية غفلة متوسطة :(/3)
وهي غفلة الذي يصلي ويصوم ويزكي وينتهي عن كبائر المحرمات ولكنة يقع في كثير من صغائر الذنوب والمكروة وربما وقع في بعض الكبائر ولا يدري وعندة من الانغماس في المباح ما يلحقة بالغافلين .
قال صلى الله علية وسلم ( إياكم ومحقرات الذنوب فانها تجتمع على الرجل فتهلكه ) صحيح
ويقول صلى الله علية وسلم ( ان الشيطان يأس ان يعبد في جزيرة العرب ولكن رضي بما تحقرون ) صحيح
فهذة صغائر الذنوب التي يحقرها الناس رضي بها الشيطان والشيطان لا يرضى الا بما يدخل الانسان النار قال الله ( إنما يدعو حزبة ليكونو من أصحاب السعير ) لقمان
ومن التحقير ايضا تحقير الحسنات يقول الانسان هذا الامر سنة وليس فرضا وكانة ان فعلة لن يأخذ على ذلك حسنات فكيف بك يوم القيامة وانت تبحث عن حسنة واحدة فتقول يا ليتني لم احقر سنة كذا او فعل كذا او قول كذا . فيجب التنبة من هذة الغفلة فان اكثر الخلق قد وقع فيها والله المستعان .
الثالثة غفلة التسويف والتمني :
إنسان فية من الخير الكثير ولكنه يقع في مرضين يلحقوة بالغافلين :
الاول مرض التسويف وهو الذي كلما همت نفسة بفعل الخير يعيقها ( بسوف ) فلا يزال على ذلك حتى يأتية الموت فيقول ( رب ارجعون لعلي اعمل صالحا فيما تركت ) فيأتية قول الحق ( كلا ، إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزح الى يوم يبعثون ) المؤمنون
الثاني مرض التمني والتمني بحر لا ساحل لة يدمن ركوبة مفاليس العالم ، وبضاعة ركابة مواعيد الشيطان وخيالات المحال والبهتان ، فلا تزال أمواج الاماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبة كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس خسيسة سفلية ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية بل اعتاضت عنه بالاماني الكاذبة ، فيتمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسة وقد فاز بوصلة والتذ بالظفر بة فبينما هو على هذة الحال إذا استيقظ فأذا يدة والحصير .
وصدق من قال :
وانتبه من رقدة الغفلة *** فالعمر قليل
واطرح سوف وحتى *** فهما داء دخيل
الرابعة غفلة الاعراض وانتهاك الكبائر :
وهي غلفة الذي اعرض عن أوامر الله بالكلية فلا يصلي ولا يذكر الله وان فعل عبادة تكون عادة من عوائد نفسه مع وقوعة في الكبائر والصغائر فهي غفلة التخبط والتلون وترك الواجبات واقتراف الكبائر واستيلاء الشهوات على القلب وتنعمة بمرارة البعد عن الله والى الله المشتكى نسال الله العفو والعافية وصدق من قال ( اذا رايتم اهل البلاء فاسالو الله العافية قالو ومن اهل البلاء قال اهل الغفلة ) والله المستعان
الخامسة غفلة اهل البدع والاهواء :
وهي غفلة اهل البدع والضلالة وهو الغافل الجاهل الثقيل البغيض الذي لا يحسن ان يتكلم فينفعك ولا يحسن أن يسكت فيستفيد فلا يعرف قدر نفسة فيضعها في موضعها ولا يعرف قدرك فينزلك منزلتك ، بل إن تكلم فكلامه كالعصا على قلوب السامعين مع اعجابة بنفسة وفرحه بها ، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى الثقيلة التي لا يستطاع حملها ولا جرها على الارض فاذا جلس بجوارك رايت جنبك الذي بجانبة يميل ، ومع ذلك يظن نفسه من المهتدين وهو في الضلال المبين ، ومن نكد الدنيا أن يتلى الانسان بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته . ( العلمانين ) .
ومنهم اهل البدع والاهواء الصادون عن سنة رسول الله صلى الله علية وسلم الداعون الى ما يخالفها ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ، فيجعلون السنة بدعة والبدعة سنة والمنكر معروفا والمعروف منكراً ، إن جردت التوحيد قالو تنقصت جناب الاولياء والصالحين وإن جردت المتابعة قالو تنقصت واهدرت حق الائمة المعتبرين ، وإن وصفت الله بما وصف بة نفسة ووصفة بة رسولة قالو من المشبهين ومع ذلك هم يظنون أنفسهم من المهتدين والاولياء الصالحين وصدق الله تعالى إذ يقول ( فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذو الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) الاعراف
وقال تعالى ( قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) الكهف ( الصوفية)
فهذا الضرب من الناس فاهرب منهم فأن لم تفعل فالموت لقلبك او المرض المخوف بل كن معهم كما قال العالم الرباني :
يا أيها الرجل المريد نجاته *** إسمع مقالة ناصح معوان
كن في أمورك كلها متمسكا *** بالوحي لا بزخارف الهذيان
وانصر كتاب الله والسنن التي *** جاءت عن المبعوث بالفرقان
واضرب بسيف الوحي كل معطل *** ضرب المجاهد فوق كل بنان
واحمل بعزم الصدق حملة مخلص *** متجرد لله غير جبان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى *** فإذا أصبت ففي رضا الرحمن
واجعل كتاب الله والسنن التي *** ثبتت سلاحك ثم صح بجنان
من ذا يبارز فليقدم نفسه *** أو من يسابق يبد في الميدان
واصدع بما قال الرسول ولا تخف *** من قلة الأنصار والأعوان
فالله ناصر دينه وكتابه *** والله كاف عبده بأمان
ولا تخش من كيد العدو ومكرهم *** فقتالهم بالكذب والبهتان(/4)
فجنود أتباع الرسول ملائك *** وجنودهم فعساكر الشيطان
شتان بين العسكرين فمن يكن *** متحيرا فلينظر الفئتان
وأثبت وقاتل تحت رايات الهدى *** واصبر فنصر الله ربك دان
وادرأ بلفظ النص في نحر العدا *** وارجمهم بثواقب الشهبان
لا تخش كثرتهم فهم همج الورى***وذبابه أتخاف من ذبان
واشغلهم عند الجدال ببعضهم *** بعضا فذاك الحزم للفرسان
وإذا هم حملوا عليك فلا تكن *** فزعا لحملتهم ولا بجبان
واثبت ولا تحمل بلا جند فما *** هذا بمحمود لدى الشجعان
فاذا رأيت عصابة الاسلام قد *** وافت عساكرها مع السلطان
فهناك فاخترق الصفوف ولا تكن *** بالعاجز الواني ولا الفزعان
وتعر من ثوبين من يلبسهما*** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالانصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع *** نصح الرسول فحبذا الأمران
وتمسكن بحبله وبوحيه*** وتوكلن حقيقة التكلان
خامساً نتيجة الغفلة :
لكل مرض نتجية مستقبلية ان لم يتدراكة الانسان بالدواء الشافي وكلما كان المرض خطير كانت النتيجة خطيرة ولما كان مرض الغفلة من اشد الامراض وأخطرها كانت نتيجتة من اخطر النتائج وأشدها يقول الله عز وجل ( إن الذين لا يرجون لقائنا ورضو بالحياة الدنيا واطمأنو بها والذين هم أياتنا غافلون أولئك مؤاهم النار بما كانو يكسبون ) يونس
يخبر الله تعالى ان من لا يرجو لقائة يعني لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا بل رضى بالحياة الدنيا بديلا عن الاخرة واطمئن بها وظن أنه خالد فيها ولم يعمل ليوم يموت فية وينقطع عنها وهو عن ايات الله كلها غافل لاهي فأن هذا الضرب من الناس مؤاه النار على سوء عملة وقبح اكتسابة . فيا ايها الغافل انتبة انها أما جنة أو نار فاختر لنفسك فأن وجدت خيرا فاحمد الله عز وجل وإن وجدت غير ذلك فلا تلومن الا نفسك . قال تعالى ( يا ايها الناس اتقو ربكم واخشو يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) لقمان .
وصدق من قال ( عجبت لمن علم ان النار تسعر تحتة والجنة تزين فوقة كيف ينام بينهما ) والله المستعان .
سادسا علاج مرض الغفلة :
اعلم ان لعلاج المرض يستلزم رغبة صادقة في العلاج و معرفة بالداء وبالدواء ثم بعد ذلك الصبر على مرارتة والزمن جزء من العلاج فالواجب الصبر والاستعانة بالله تبارك وتعالى فكل هذة الاشياء هي اضداد مسببات المرض وهي الطريق للشفاء باذنة تعالى والموفق من وفقة الله والناس في هذا الباب على اربعة اقسام :
1- من يعرف مرضة ويعرف العلاج فيسارع بأخذ الدواء ويتحمل مرارتة رغبة منة في الشفاء لانة يعلم مدى الم المرض ونتيجتة.
2- من يعرف المرض ويعرف العلاج ولكن لا يأخذة لعدم تحملة مرارة الدواء ولجهلة بنتيجة المرض فيهمل مرضة حتى يتمكن منة نعوذ بالله من الخذلان .
3- من يعرف العلاج ولكنة لم يقف على حقيقة مرضة فلا يعرفة فهذا يحتاج الى طبيب حاذق حتى يشخص مرضة فاذا عرف مرضة اخذ العلاج الذي يعرفة . ومن هؤلاء بعض طلبة العلم ولعلة اصيب بالمرض لكثرة نظرتة الى عيوب غيرة فاهمل النظر الى نفسة .
4- من لا يعرف مرضا ولا علاجا فهو جاهل بهما معا وربما لا يشعر انة مريض فهذا يحتاج الى من ينبة ويدلة على الطبيب حتى يشخص مرضة ويصف لة الدواء الشافي بأذن الله
واما عن علاج مرض الغفلة :
1-تذكر الموت والاخرة :
قال رسول الله صلى الله علية وسلم ( اكثرو من ذكر هاذم اللذات ) صحيح
فان تذكر الموت يقطع على الانسان التفكر في الدنيا ويمنع عنه شهواتها ولذاتها الباطلة
فيحدث للانسان يقظة وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين ، فأذا استيقظ اوجبت لة اليقظة فكرة فتنفتح في قلبة عين يرى بها انعام الله علية وكرمه واحسانة ، ويرى بها قبح فعلة واكتسابة ، ويرى بها حقيقة الدنيا وحقراتها وهوانها عند الله ، ويرى بها مشاهد الدار الاخرة من القبر وحسابة وانة سيكون في ظلمة القبر وحدة ويشاهد اهوال يوم القيامة من البعث والنشور والعرض والحساب والصراط فينتقل الى العزم وهو عزم القلب على التوبة والرجوع والانابة ومفارقة كل قاطع ومعوق ومرافقة كل معين وموصل .
2- دمعة من عين القلب في جوف الليل عندما ينزل الله تعالى بلا كيف نحو السماء اذا مضى الثلثان فيقول هل من سائل فأجيبة هل من منيب طالب الغفران عندها فيكون من هؤلاء الناس ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه يستغفر ويبكي بدمع الندم على ما فرط في جنب الله تعالى يناجي ربة ويقول :
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدو *** وقمت أشكو الى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي من كل نائبة *** ومن علية في كشف الضر أعتمد
أشكو اليك أمورا أنت تعلمها *** مالي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل معترفا *** اليك يا خير من مدت الية يد
فلا تردها يارب خائبة *** فبحر جودك يروي كل من يرد(/5)
حينها يأتيك صوت الغفور الرحيم ( قل يا عبادي الذين أسرفو على أنفسهم لا تقنطو من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنة هو الغفور الرحيم ) الزمر . يقول لك يا عبدي جئتني تقول ربي أثقلت ظهري ذنوب أمثال الجبال ونسيت قولي ( ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتى ) طه . عبدي (إنك ما دعوتني و رجوتني غفرت لك على ما كان منك و لا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك و لا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) حسن . فتخرج من صلاتك وقد غفر لك الله الذنب وستر عليك العيب وفرج عنك الهم والكرب ، تخرج من صلاتك لك قلب جديد وعين جديدة واذن جديدة قلب يفقة وعين تبصر واذن تسمع فترى الاشياء وكانك اول مرة تراها وتسمع الاصوات وكانك اول مرة تسمع فتخرج من رداء الغافل وتلبس رداء التائب المنيب
3- الصحبة الصالحة المعينة على الثبات على الطريق قال تعالى ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفنا قلبة عن ذكرنا واتبع هواه وكان امرة فرطا ) الكهف .
وقد صح عن النبي صلى الله علية وسلم انة قال (إنما مثل الجليس الصالح و جليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك و إما أن تبتاع منه و إما أن تجد منه ريحا طيبة و نافخ الكير إما أن يحرق ثيابك و إما أن تجد ريحا خبيثة ) صحيح
والصاحب ساحب كما قيل لذا فاحذر من صديق السوء فان مرض الغفلة معدي .
4- علو الهمة في طلب علم الكتاب والسنة .
5- الدعاء
أخي قد بالغت في نصحك ولم ادخر جهدا عسى الله ان ينفع بكلامي انة ولي ذلك والقادر علية واصلي واسلم على الرحمة المهداة محمد صلى الله علية وسلم وسلام على المرسلين واخر دعوانا أن الحمد للة رب العالمين .
مساله
مسالة علمية هامة في علم مختلف الحديث ومشكلة :
قد يسال سائل كيف تجمعون بين قول النبي ( الدنيا حلوة خضرة ) وقولة ( الدنيا ملعونة ) نقول بأذن الله تبارك وتعالى أن الحديث الاول يبين ظاهر الدنيا وما تغر بة العباد فهي حلوة خضرة في ظاهرها لمن ينظر اليها اما حقيقة الدنيا فهو ما وضحة النبي صلى الله علية وسلم في قولة ( الدنيا ملعونة ) فهو اخبار عن حقيقتها من الباطن وبهذا يزول الاشكال والحمد للة اولا واخيرا وصدق من قال :
ما في النقول معارض للعقل بل ***** فية تحار قرائح الاذهان
المراجع :
1- كتاب الله وسنة رسولة الصحيحة
2- مجموعة من كتب الامام ابن القيم منها ( تهذيب المدراج ، الشافية الكافية ، الفوائد )
3- علو الهمة للشيخ اسماعيل المقدم
4- الامور المعينة على قيام الليل للشيخ وحيد عبد السلام بالي
5- كتب الزهد لامام اهل السنة احمد بن حنبل
6- نونية السعداني في نظم عقيدة اهل السنة والجماعة
7- شرح فيض القدير على جامع السيوطي الصغير وزيادتة .
والله اسال ان يجزي كل من اعاننا على هذا العمل بسؤال واجابة او اعانة بالكتب وغيرة خير الجزاء وان يجزل لة العطاء وان يجعلة من المهتدين المتقين انة ولي ذلك والقادر علية .
ربنا لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم ، ربنا انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما .
والحمد للة اولا واخيرا .(/6)
ماذا أستطيع فعله في الأزمات؟
تمرّ الأزمات بنا متتابعة متتالية، ويَرِد السؤال ويتكرر: ماذا أستطيع فعله في الأزمات؟
والبعض يُلقي بالعبء الأكبر على غيره، ليقول: ما بيدي شيء، أو يقول: ليس لي من الأمر شيء
وما علِم أن بيده خيراً كثيراً . وربما تنصّل من المسؤولية محتجاً بمقارفة الذنوب، وما علِم أن هذا لا يُعفيه، بل قد أضاف ذنباً على ذنوب !
إذاً ماذا بأيدينا؟وماذا بوسعنا أن نُقدّم ؟ وكيف ؟ ومتى ؟
فأقول : بوسعنا الكثير، سواء كان على ذلك مما يعم أو مما يخص، ومن ذلك:
1- سهام الليل والسلاح المعطّل الذي انتصر به رُسل الله عليهم الصلاة والسلام:
وهو سِلاح فعّال لا يملكه سوى المسلم الموقن بوعد الله ونصره، ومع ذلك كثيراً ما نترك هذا السلاح أو نُفرّط فيه ونهمله، فنتكاسل أن نرفع أيدينا، وهذا غاية العجز، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: [ أََعْجَزُ النَّاس مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعَاءِ] رواه ابن حبان وغيره، وحسنه الألباني .
أين نحن من أوقات الإجابة؟
[ بين الأذان والإقامة – في السجود – قبل السلام من الصلاة – في جوف الليل – آخر ساعة من يوم الجمعة ... ] إلى غير ذلك من الأوقات والأحوال التي هي مظانّ إجابة الدعاء .
2- مجاهدة الكفار:
وليست المجاهدة مُقتصرة على السلاح، بل هي باليد وباللسان، وبالمال وبالقلب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] رواه أبو داود والنسائي والدارمي وأحمد.
وقال عليه الصلاة والسلام: [ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ] رواه مسلم . فمن عجز عن جهاد الكافرين بيده؛ جاهدهم بلسانه وماله، وأضعف الإيمان أن يُجاهدهم بقلبه .
فالجهاد باللسان بالدعوة والمحاجة..والدعوة بالأموال بدعم إخواننا المضطهدين، ولا يُتركون لقمة سائغة للصليب يُنصّرهم كيف شاء..فالجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس في كتاب الله، ومن هذا الباب تحديث النفس بالغزو، لقوله عليه الصلاة والسلام: [مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ] رواه مسلم .
3- النكاية بالكافرين وإغاظتهم: كيف ذلك؟
أشد ما تكون النكاية بأئمة الكفر أن تتزايد أعداد المسلمين على حساب تعداد الكافرين أياً كانوا !
فمن وقف مواقف الدعوة إلى الله ، ولو بكلمة، أو جهد، أو كتاب، أو شريط، أو محاجة، أو بيان حق؛ فقد وطئ موطئاً يغيظ الكفار .
أما أغاظوك يوم تسلّطوا على ديار ورقاب المسلمين؟
إذاً أغظهم أنت بالدعوة إلى دين الله عز وجل، بل أغظهم بصلاح نفسك، والرجوع إلى الله.
أما سمعت قول الله عز وجل في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم:{ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...[29]}[سورة الفتح]. ؟
ثم إن الإصلاح مما يدفع العقوبات: تأمل قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل: اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: [ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ] رواه البخاري ومسلم .
والخبث إذا كثُر، والمنكر إذا ظهر، والمعاصي إذا فشت، والفجور إذا انتشر، كان ذلك سببًا في الهلاك، وهو أعظم من الحرب، قال عليه الصلاة والسلام: [ إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَة فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَاب اللَّه] رواه الحاكم، وصححه. وقال: [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد . فالصلاح في النفس، والإصلاح في الغير مما يدفع الله عز وجل به العقوبة .
4- توعية الناس بالقضية، وتعرية مزاعم قوى الكفر:
وتبصير الناس بحقائق دعاوى الكفار، كتبجّحهم بالديموقراطية والعدل والمساواة إلى غيرها مما أُلغيت في التعامل مع قضايا المسلمين في سائر أقطار الأرض!
وهذه الحرب قد أسقطت الكثير من الأقنعة، وتبين لكثير من الناس – حتى مَن خُدِعوا فيهم – الوجه الكالح لأمم الكفر، ولأئمة الكفر !
ويتبع ذلك تبنّي قضايا الأمة، وليست قضية الساعة، فإحياء قضايا الأمة مما يقض مضاجع الأعداء؛ لأنهم يُشغلون الأمة بقضية عن قضايا .
5- تحقيق التوكل وعدم الإرجاف، وإخافة الناس بالوهم !(/1)
فإن الإرجاف والتخويف سمة من سمات المنافقين، فاحذر أن تكون ممن قال الله فيهم:{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا[60]مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا[61]}[سورة الأحزاب].
وربّ إرجاف وتخويف أورث الضعف والهوان، وإنما كان قول المؤمنين على مر الزمان:{...كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [249]}[سورة البقرة] .
6- الالتفاف حول العلماء، والصدور عنهم تنفيذاً للتوجيه الرباني:
{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...[83]}[سورة النساء] . وعدم التفرّق والتناحر والتنازع؛ لأن الضعف مرهون بالتنازع:{...وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال] .
وتفويت الفرصة على المنافقين المتربصين الذين يتحيّنون الفُرص لبث سمومهم، والعدو إنما يدخل من خلال الثغرات التي يصنعها له الطابور الخامس؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد، وحسنه الألباني
7- ضبط الحماس، وطرح التصرفات الفردية ؛ لأنها تضرّ أكثر مما تنفع:
فالعاطفة إذا لم تُضبط بالشرع صارت عاصفة ! - كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله-. وعدم التطلّع للفتن والاستشراف لها، قال عليه الصلاة والسلام: [سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ] رواه البخاري ومسلم . 8- الإقبال على العبادة، وإصلاح النفس، وترك القيل والقال، ونبذ الشائعات:
والإكثار من العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: [الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ] رواه مسلم .
قال الإمام النووي:' الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس. وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا, وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا, وَلَا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلَّا أَفْرَاد'.
9- صدقة السر:
لأن صدقة السر لها أثر عجيب، وبها يدفع الله عن العباد والبلاد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ الْسُّوءِ، وَصَدَقَةُ الْسِّرِ تُطْفِيءُ غَضَبَ الْرَّبِّ] رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني .
فإن لم يتصدّق فليكفّ يده ولسانه:عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: [الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ] قَالَ قُلْتُ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: [أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا] قَالَ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ: [تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ] قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ قَالَ : [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ] رواه البخاري ومسلم .
ألا ترى أن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم من بكى حينما لم يجد ما يُنفق، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه؟!
حتى عُرفوا بـ ' البكائين ' وسُطّرت أخبارهم في كتاب الله عز وجل، فقال سبحانه فيمن رُفع عنهم الحرج:{ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[92]}[سورة التوبة].
حتى جاء في سيرة علبة بن زيد أنه خرج من الليل فصلى وبكى، وقال:' اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغّبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد، أو عرض'
فهذه إشارات لما نستطيع عمله..وصاحب الهمة ليس بحاجة إلى أن يُشار له نحو القمّة ! والمعصية ليست عُذراً للتخلّف عن ركب السائرين، ولا القعود عن مشاركة العاملين، بل الاحتجاج بالمعصية والتعذّر بها عن خدمة هذ االدين ذنب يُضاف إلى ذنوب صاحب العُذر، والله أسأل أن يُهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشدًا .(/2)
من :' ماذا أستطيع فعله في الأزمات؟' للشيخ/عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
مفكرة الإسلام
...
...
ماذا أستطيع فعله في الأزمات؟
تمرّ الأزمات بنا متتابعة متتالية، ويَرِد السؤال ويتكرر: ماذا أستطيع فعله في الأزمات؟
والبعض يُلقي بالعبء الأكبر على غيره، ليقول: ما بيدي شيء، أو يقول: ليس لي من الأمر شيء
وما علِم أن بيده خيراً كثيراً . وربما تنصّل من المسؤولية محتجاً بمقارفة الذنوب، وما علِم أن هذا لا يُعفيه، بل قد أضاف ذنباً على ذنوب !
إذاً ماذا بأيدينا؟وماذا بوسعنا أن نُقدّم ؟ وكيف ؟ ومتى ؟
فأقول : بوسعنا الكثير، سواء كان على ذلك مما يعم أو مما يخص، ومن ذلك:
1- سهام الليل والسلاح المعطّل الذي انتصر به رُسل الله عليهم الصلاة والسلام:
وهو سِلاح فعّال لا يملكه سوى المسلم الموقن بوعد الله ونصره، ومع ذلك كثيراً ما نترك هذا السلاح أو نُفرّط فيه ونهمله، فنتكاسل أن نرفع أيدينا، وهذا غاية العجز، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: [ أََعْجَزُ النَّاس مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعَاءِ] رواه ابن حبان وغيره، وحسنه الألباني .
أين نحن من أوقات الإجابة؟
[ بين الأذان والإقامة – في السجود – قبل السلام من الصلاة – في جوف الليل – آخر ساعة من يوم الجمعة ... ] إلى غير ذلك من الأوقات والأحوال التي هي مظانّ إجابة الدعاء .
2- مجاهدة الكفار:
وليست المجاهدة مُقتصرة على السلاح، بل هي باليد وباللسان، وبالمال وبالقلب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] رواه أبو داود والنسائي والدارمي وأحمد.
وقال عليه الصلاة والسلام: [ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ] رواه مسلم . فمن عجز عن جهاد الكافرين بيده؛ جاهدهم بلسانه وماله، وأضعف الإيمان أن يُجاهدهم بقلبه .
فالجهاد باللسان بالدعوة والمحاجة..والدعوة بالأموال بدعم إخواننا المضطهدين، ولا يُتركون لقمة سائغة للصليب يُنصّرهم كيف شاء..فالجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس في كتاب الله، ومن هذا الباب تحديث النفس بالغزو، لقوله عليه الصلاة والسلام: [مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ] رواه مسلم .
3- النكاية بالكافرين وإغاظتهم: كيف ذلك؟
أشد ما تكون النكاية بأئمة الكفر أن تتزايد أعداد المسلمين على حساب تعداد الكافرين أياً كانوا !
فمن وقف مواقف الدعوة إلى الله ، ولو بكلمة، أو جهد، أو كتاب، أو شريط، أو محاجة، أو بيان حق؛ فقد وطئ موطئاً يغيظ الكفار .
أما أغاظوك يوم تسلّطوا على ديار ورقاب المسلمين؟
إذاً أغظهم أنت بالدعوة إلى دين الله عز وجل، بل أغظهم بصلاح نفسك، والرجوع إلى الله.
أما سمعت قول الله عز وجل في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم:{ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...[29]}[سورة الفتح]. ؟
ثم إن الإصلاح مما يدفع العقوبات: تأمل قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل: اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: [ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ] رواه البخاري ومسلم .
والخبث إذا كثُر، والمنكر إذا ظهر، والمعاصي إذا فشت، والفجور إذا انتشر، كان ذلك سببًا في الهلاك، وهو أعظم من الحرب، قال عليه الصلاة والسلام: [ إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَة فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَاب اللَّه] رواه الحاكم، وصححه. وقال: [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد . فالصلاح في النفس، والإصلاح في الغير مما يدفع الله عز وجل به العقوبة .
4- توعية الناس بالقضية، وتعرية مزاعم قوى الكفر:
وتبصير الناس بحقائق دعاوى الكفار، كتبجّحهم بالديموقراطية والعدل والمساواة إلى غيرها مما أُلغيت في التعامل مع قضايا المسلمين في سائر أقطار الأرض!
وهذه الحرب قد أسقطت الكثير من الأقنعة، وتبين لكثير من الناس – حتى مَن خُدِعوا فيهم – الوجه الكالح لأمم الكفر، ولأئمة الكفر !
ويتبع ذلك تبنّي قضايا الأمة، وليست قضية الساعة، فإحياء قضايا الأمة مما يقض مضاجع الأعداء؛ لأنهم يُشغلون الأمة بقضية عن قضايا .
5- تحقيق التوكل وعدم الإرجاف، وإخافة الناس بالوهم !(/3)
فإن الإرجاف والتخويف سمة من سمات المنافقين، فاحذر أن تكون ممن قال الله فيهم:{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا[60]مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا[61]}[سورة الأحزاب].
وربّ إرجاف وتخويف أورث الضعف والهوان، وإنما كان قول المؤمنين على مر الزمان:{...كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [249]}[سورة البقرة] .
6- الالتفاف حول العلماء، والصدور عنهم تنفيذاً للتوجيه الرباني:
{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...[83]}[سورة النساء] . وعدم التفرّق والتناحر والتنازع؛ لأن الضعف مرهون بالتنازع:{...وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال] .
وتفويت الفرصة على المنافقين المتربصين الذين يتحيّنون الفُرص لبث سمومهم، والعدو إنما يدخل من خلال الثغرات التي يصنعها له الطابور الخامس؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد، وحسنه الألباني
7- ضبط الحماس، وطرح التصرفات الفردية ؛ لأنها تضرّ أكثر مما تنفع:
فالعاطفة إذا لم تُضبط بالشرع صارت عاصفة ! - كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله-. وعدم التطلّع للفتن والاستشراف لها، قال عليه الصلاة والسلام: [سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ] رواه البخاري ومسلم . 8- الإقبال على العبادة، وإصلاح النفس، وترك القيل والقال، ونبذ الشائعات:
والإكثار من العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: [الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ] رواه مسلم .
قال الإمام النووي:' الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس. وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا, وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا, وَلَا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلَّا أَفْرَاد'.
9- صدقة السر:
لأن صدقة السر لها أثر عجيب، وبها يدفع الله عن العباد والبلاد .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ الْسُّوءِ، وَصَدَقَةُ الْسِّرِ تُطْفِيءُ غَضَبَ الْرَّبِّ] رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني .
فإن لم يتصدّق فليكفّ يده ولسانه:عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: [الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ] قَالَ قُلْتُ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: [أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا] قَالَ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ: [تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ] قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ قَالَ : [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ] رواه البخاري ومسلم .
ألا ترى أن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم من بكى حينما لم يجد ما يُنفق، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه؟!
حتى عُرفوا بـ ' البكائين ' وسُطّرت أخبارهم في كتاب الله عز وجل، فقال سبحانه فيمن رُفع عنهم الحرج:{ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[92]}[سورة التوبة].
حتى جاء في سيرة علبة بن زيد أنه خرج من الليل فصلى وبكى، وقال:' اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغّبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد، أو عرض'
فهذه إشارات لما نستطيع عمله..وصاحب الهمة ليس بحاجة إلى أن يُشار له نحو القمّة ! والمعصية ليست عُذراً للتخلّف عن ركب السائرين، ولا القعود عن مشاركة العاملين، بل الاحتجاج بالمعصية والتعذّر بها عن خدمة هذ االدين ذنب يُضاف إلى ذنوب صاحب العُذر، والله أسأل أن يُهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشدًا .(/4)
من :' ماذا أستطيع فعله في الأزمات؟' للشيخ/عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
مفكرة الإسلام
...
...(/5)
ماذا تفعل في الحالات التالية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد فإن المسلم يتعرض في حياته لعدد من الحالات الطارئة ، التي يحتاج فيها لوجود جواب فوري يعمل بمقتضاه عند حصول الحالة المعينة ، وكثيراً ما يصعب أو يتعذر وقتها البحث عن الحكم الشرعي أو السؤال عنه .
وهذا يؤكد أهمية التفقه في الدين ومعرفة أحكام الشريعة حتى إذا ما احتاج المسلم للحكم وجده عنده فأنقذ نفسه أو غيره من إخوانه المسلمين من الوقوع في المحرمات أو الأخطاء، وكثيراً ما يؤدي الجهل إلى فساد العبادة أو الوقوع في الحرج ، ومن المؤسف أن يقوم إمام إلى الخامسة سهواً في صلاته بالجماعة فلا تجد في المسجد واحداً يعرف الحكم الشرعي في هذه المسألة ، أو يأتي مسافر وقت إقلاع الطائرة وهو ينوي العمرة ويكتشف فجأة أنه قد نسي لباس الإحرام ، وليس هناك وقت لتوفيره ثم لا يوجد في المطار من المسلمين من يخبره بماذا يفعل في هذه الحالة الطارئة ، ويدخل شخص المسجد وقد جمعوا للمطر وهم في صلاة العشاء وهو لم يصل المغرب فيقع في حيرة من أمره ، وقل مثل ذلك من الحالات التي يختلف المصلون فيها ويتناقشون بجهلهم ، فيقع الاضطراب والتشويش في مساجد المسلمين وجماعتهم ، وفي كثير من الأمور الشخصية والفردية ، فإن الجهل يوقع في الحرج وربما الإثم وخصوصاً إذا كان المرء في موقف يجب عليه فيه أن يتخذ قراراً وليس عنده علم يبني عليه قراراه .
وإذا كان أهل الدنيا يضعون الإجابات المسبقة للتصرف السليم في الحالات الطارئة ؛ كحصول الحريق ، وانتشال الغريق ، ولدغة العقرب ، وحوادث الاصطدام ، والنزيف والكسور ، وسائر إجراءاتهم في الإسعافات الأولية وغيرها ، يعلمون ذلك للناس ويقيمون الدورات لأجل ذلك ، فأهل الآخرة أولى أن يتعلموا ويعلموا أحكام هذا الدين .
ومما ينبغي الانتباه له هنا التفريق بين المسائل الافتراضية التي لا تقع أو نادرة الوقوع وبين المسائل الواقعة فعلاً ، التي علم من التجربة وحال الناس أنها تحدث ويقع السؤال عنها .
فأما القسم الأول : فالبحث فيه من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً وقد حذرنا من هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم …) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم برقم 1337 ج : 2 ص : 975 .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث : ( فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه .. وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء ) جامع العلوم والحكم ابن رجب 1/240 ت : الأرناؤوط .
وعلى هذا المعنى يحمل كلام جماعة من السلف كما جاء عن زيد بن ثابت ، رضي الله عنه ، أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول كان هذا ؟ فإن قالوا لا قال : دعوه حتى يكون . أورده ابن رجب المرجع السابق 1/245 وانظر آثاراً مشابهة في سنن الدارمي 1/49 ، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/174 .
أما القسم الثاني : وهي المسائل التي تقع فالسؤال عنها محمود ( وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها كما قالوا له: إنّا لاقو العدو غداً وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم ، وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها ) جامع العلوم والحكم 1/243 فهذا يدل على جواز السؤال عما هو متوقع حصوله .
وهذا عرض لبعض المسائل الشرعية التي يتعرض لها الناس في حياتهم ، وهي من المسائل الواقعية التي حصلت وتحصل لبعض الناس مع كل مسألة جوابها مقروناً بذكر المصدر من أهل العلم الثقات ، وقد يكون في المسألة أقوال لكن جرى الاقتصار في الغالب على قول واحد معتبر بدليله مع الإيجاز طلباً للتسهيل والاختصار خشية التطويل والله أسأل أن ينفعني بهذا وإخواني المسلمين في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد وأن يجزي بالخير من ساهم في هذا إنه جواد كريم والله أعلم وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أولاً : الطهارة
إذا وجد في أصابعه طلاء أثناء الوضوء فهل الاشتغال بحكه وإزالته يقطع الموالاة ويلزمه إعادة الوضوء ؟ .
الجواب : لا تنقطع الموالاة بذلك - على الراجح - ولو جفت أعضاؤه لأنه تأخر بعمل يتعلق بطهارته ، وكذلك لو انتقل من صنبور إلى صنبور لتحصيل الماء ونحو ذلك .
أما إذا فاتت الموالاة بأمر لا يتعلق بوضوئه ، كإزالة نجاسة من ثوب ، أو أكل أو شرب ونحوه ، ونشفت الأعضاء فحينئذ ينبغي عليه أن يعيد الوضوء . فتاوى ابن عثيمين 4/145-146 .
إذا كان الإنسان مجروحاً في أحد أعضاء الوضوء ولا يستطيع وضع لاصق فليتوضأ ثم يتيمم للعضو المجروح المغني مع الشرح الكبير 1/282 ، ولا يجب عليه غسل مكان الجرح مادام يتضرر بالماء .(/1)
إذا رأى في ثوبه أثر جنابة وقد صلّى عدة صلوات ولم يكن يدري فإن عليه أن يغتسل ويعيد الصلاة من أحدث نومة نامها في هذا الثوب إلا إذا عرف أن الجنابة من نومة قبلها فيعيد الصلاة من آخر نومة يظن أن الجنابة حصلت فيها ، المغني مع الشرح الكبير 1/199 . والأدلة على وجوب الاغتسال من الجنابة لأجل الصلاة كثيرة منها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) سورة النساء /43 . وحديث علي رضي الله عنه قال : كنت رجلاً مذاء فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو ذكر له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا فضحت الماء فاغتسل ) فضخت أي صببت والمقصود خروج المني ، رواه أبو داود رقم 206 وصححه الألباني في إرواء الغليل رقم 125 . فدل ذلك على أن المني يجب منه الغسل والمذي يكفي فيه غسل الفرج والوضوء .
إذا كان مسافراً بالطائرة في رحلة من الرحلات الطويلة فأصابته جنابة ، ولا يستطيع الاغتسال ، وليس في الطائرة شيء يجوز التيمم عليه ، ولو انتظر حتى يصل إلى البلد الآخر لخرج وقت الصلاة التي لا تجمع كالفجر أو وقت جمع الصلاتين كالظهر والعصر، لأنه قد يسافر قبل الفجر ولا يصل إلا بعد طلوع الشمس أو يسافر قبل الظهر فلا يصل إلا بعد المغرب فماذا يفعل ؟ .
الجواب : إذا سلمنا انه لا يستطيع الاغتسال في الطائرة فإن هذه المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة فاقد الطهورين ، وقد تباينت أقوالهم فيه ورأي الإمام أحمد وجمهور المحدثين أنه يصلي على حاله وهذه قدرته واستطاعته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والدليل الخاص في هذه المسألة ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء ( لعدم وجود الماء ) فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم صحيح مسلم 367 . ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولا أمرهم بإعادة ، فدل على أنها واجبة ولأن الطهارة شرط فلم تؤخر الصلاة عند عدمها . المغني مع الشرح الكبير 1/251 . ومثل هذه الحالة قد تقع لبعض المرضى الذين لا يستطيعون تحريك أعضائهم مطلقاً أو السجناء في بعض الأوضاع كالمقيد والمعلّق .
والمقصود أن يؤدي الصلاة ولا يخرجها عن وقتها بحسب حاله ولا إعادة عليه على الصحيح وما جعل الله علينا في الدين من حرج .
إذا أسقطت المرأة ونزل عليها الدم فهل تصلي أم لا ؟ .
هذه المسألة مبنية على نوع الدم هل هو نفاس أو استحاضة وقد ذكر العلماء الضابط في ذلك فقالوا : " إذا رأت الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان فهو نفاس .. وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس " المغني مع الشرح الكبير 1/361 .
وفي هذه الحالة تكون مستحاضة تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها وتصلي ، أما إذا كان الذي سقط جنيناً متخلقاً أو فيه آثار لتخطيط أحد الأعضاء كيد أو رجل أو رأس فإنه نفاس، وإن قالت إنهم أخذوه في المستشفى فرموه ولم أره فقد ذكر أهل العلم أن أقل زمن يتبين فيه التخطيط واحد وثمانون يوماً من الحمل . مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 4/292 . بناء على ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - فقال : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكاً يؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد .. ) هذا السياق في البخاري فتح 6/303 .
فمثل هذه تجتهد وتستعين بتقديرات الأطباء حتى يتبين لها حالها .
وأما الدم النازل قبيل الولادة إن كان مصحوباً بآلام الطلق فهو نفاس وإلا فلا . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس ، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس " . مجموع فتاوى ابن عثيمين 4/327 .
ثانياً : الصلاة
إذا تعرض المصلي لوسوسة الشيطان في صلاته يلبس عليه القراءة ويأتي له بالخواطر السيئة ويشككه في عدد الركعات فماذا يفعل ؟ .
لقد حصل هذا لأحد الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه ، فجاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول : إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ ؟ { أي يخلطها ويشككني فيها } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً ) ، قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني . صحيح مسلم رقم 2203 .
فتضمن هذا الحديث أمرين لدفع شيطان الصلاة ، الأول : الاستعاذة بالله من شره فيتلفظ بها المصلي ولا حرج ، والثاني : التفل عن الشمال ثلاثاً وهو نفخ الهواء مع شيء من الريق بشرط أن لا يؤذي من بجانبه ولا يقذر المسجد .(/2)
إذا نابه شيء في صلاته ، فإذا كان رجلاً فليسبح ، وإن كان امرأة فلتصفق ، والدليل على ذلك ما جاء عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نابكم في صلاتكم شيء فليسبح الرجال وليصفح النساء ) رواه أبو داود ، ولفظ الصحيحين : ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) . التصفيح هو التصفيق ، سنن أبي داود 941 ، وفي صحيح البخاري ط.البغا 1145 ، وفي صحيح مسلم 106 .
إذا أقيمت الصلاة وحضرت حاجة الإنسان ، فليذهب إلى الخلاء ، ويقضي حاجته ولو فاتت الجماعة .
الدليل : عن عبد الله بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء ) رواه أبو داود رقم 88 وهو في صحيح الجامع 373 .
إذا شك المصلي هل احدث أم لا ؟ أو أحس بحركة في بطنه فهل ينصرف أم يواصل ؟ .
إذا تيقن من الحدث يخرج من الصلاة ، أما إذا شك ولم يتيقن فلا يخرج إلا بيقين ، وهو سماع الصوت أو وجود الريح ، فإن وجد ذلك فلينصرف ، وإلا فلا يلتفت .
والدليل : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أم لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) رواه أبو داود 177 وهو في صحيح الجامع 750 .
وهذا من التشريعات الإسلامية العظيمة في علاج الوسوسة .
إذا كان يصلي الوتر وأثناء صلاته أذن المؤذن لصلاة الفجر فهل يكمل وتره ؟ .
نعم إذا أذن وهو أثناء الوتر فإنه يتم الصلاة ولا حرج عليه . ابن عثيمين فتاوى إسلامية 1/346 والمسالة داخلة في قضية وقت الوتر هل هو إلى طلوع الفجر أم إلى انتهاء صلاة الصبح وقول الجمهور إلى طلوع الفجر . إسعاف أهل العصر بما ورد في أحكام صلاة الوتر فيحان المطيري ص : 33 .
إذا فاتته صلاة العصر مثلاً فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت فماذا يفعل ؟ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : يصلي المغرب مع الإمام ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة ، لكن هل يعيد المغرب فيه قولان :
أحدهما : يعيد وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه .
الثاني : لا يعيد وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر من مذهب أحمد .
والثاني أصح فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع . والله أعلم . مجموع فتاوى ابن تيمة 22/106 .
إذا أتى مسافر على جماعة يصلون لكنه لا يدري هل الإمام مسافر فيدخل معه بنية القصر أم مقيم فيتم وراءه ، فالأظهر أنه يعمل بما ترجح لديه من القرائن كرؤية حلية المسافر وآثار السفر على الإمام ، فإن رجح أنه مقيم ، فيتم .
الدليل : ما رواه الإمام أحمد بسند عن ابن عباس أنه سئل : " ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم ؟ فقال : تلك السنة " وفي رواية أخرى " تلك سنة أبي القاسم " الحديث سكت عنه الحافظ في التلخيص 2/50 ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند 3/260 . وإن رجح أنه مسافر فصلى معه بنية القصر ركعتين ، وبعدما سلم مع الإمام تبين له أن الإمام مقيم وأن الركعتين اللتين صلاهما هما الثالثة والرابعة للإمام ، فيقوم ويأتي بركعتين ليتم بهما الصلاة ، ويسجد للسهو . المجموع للنووي 4/356 . ولا يضره ما حصل من الكلام والسؤال لمصلحة صلاته .
إذا عجز المصلي عن القيام فجأة أثناء الصلاة أو كان عاجزاً عن القيام فصلى قاعداً ثم استطاع القيام أثناء الصلاة فماذا يفعل ؟ .
قال ابن قدامة رحمه الله : " متى قدر المريض أثناء الصلاة على ما كان عاجزاً عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته ، وهكذا لو كان قادراً فعجز في أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحاً فيبني عليه كما لو لم يتغير حاله " . المغني مع الشرح الكبير 1/782 وكذلك المجموع للنووي 4/318 . والدليل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، فقال : ( صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ) رواه البخاري فتح 2/587 .
إذا طرق على المصلي الباب أثناء الصلاة وهو يصلي أو رأت الأم ولدها يعبث بمصدر الكهرباء ونحو ذلك مما يطرأ فما العمل ؟ .
الجواب : إذا احتاج المصلي لعمل يسير أثناء الصلاة مثل فتح باب ونحوه ، فلا بأس بشرط أن لا يغير اتجاهه عن القبلة .
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي ثم رجع إلى مصلاه - وذكر أن الباب كان في القبلة . سنن ابي داود رقم 922 وصحيح سنن أبي داود 815 .(/3)
وكذلك لو احتاجت الأم وهي تصلي أن تبعد ولدها عن خطر أو إيذاء ونحو ذلك فالحركة اليسيرة يميناً أو شمالاً ، أماماً أو وراءً لا تضر بالصلاة وكذلك لو سقط الرداء فللمصلي أن يرفعه وإذا انحل الإزار فله أن يشده ، وقد أباحت الشريعة للمصلي في بعض الحالات الحركة الكثيرة ولو كان يتغير اتجاهه عن القبلة كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب ) سنن ابي داود رقم 921 وفي صحيح سنن أبي داود 814 .
إذا ألقي السلام على المصلي في صلاته ، فإنه يرد السلام بالإشارة كما جاء عن صهيب رضي الله عنه قال : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد إشارة . سنن أبي داود 925 وصحيح سنن ابي داود 818 . وقد وردت صفة الإشارة في أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه ، قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي قال فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي ، قال : يقول هكذا وبسط كفه ، وبسط جعفر بن عون ( أحد الرواة ) كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق . سنن ابي داود 927 وصحيح سنن أبي داود 820 .
إذا دخل الرجل المسجد والإمام يصلي فهل يدخل مع الإمام مباشرة أو ينتظر حتى يرى الإمام هل سيقوم أو سيجلس ؟ الصحيح الذي يدل عله الدليل أنه يدخل مع الإمام في أي حال يكون فيه الإمام ساجداً أو قائماً أو راكعاً أو قاعداً ، والدليل هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ) سنن أبي داود 893 وصحيح سنن أبي داود 792 . وعن معاذ قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام ) سنن الترمذي 591 وهو في صحيح سنن الترمذي 484 . ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( فما أدركتم فصلوا ) .
إذا أقيمت الصلاة والإنسان في طريقه إلى المسجد فلا يسرع في مشيته ، بل يمشي بسكينة ووقار لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون عليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) رواه البخاري فتح 2/390 .
إذا أحدث الرجل في صلاة الجماعة فماذا يفعل في هذا الموقف المحرج ؟ .
الجواب : عليه أن يأخذ بأنفه فيضع يده عليه ثم يخرج .
والدليل : عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف ) سنن أبي داود 1114 وهو في صحيح سنن أبي داود 985 . قال الطيبي : أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف وليس هذا من الكذب بل من المعاريض بالفعل ورخص له في ذلك لئلا يسول له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس أ.هـ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/18 .
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه ، فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه ، وكذلك من فوائد هذا التوجيه النبوي قطع وساوس الشيطان بأن يبقى في الصف مع الحدث أو يواصل مع الجماعة وهو محدث وهذا لا يرضي الله ، وكيف يبقى وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالانصراف ، هذا ويجوز له اختراق الصفوف أو أن يمشي إلى الجدار ثم يخرج فيتوضأ ويعود للصلاة .
وإذا صلّى إنسان في مسجد ثم أتى مسجداً آخر لدرس أو حاجة فوجدهم يصلون فإنه يدخل معهم في الصلاة ويحتسبها نافلة حتى لو كان في وقت من أوقات النهي لأنها صلاة ذات سبب ، والدليل ما رواه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في سننه في باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة من حديث يزيد بن الأسود رضي الله عنه ، قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف ، فلما قضى صلاته انحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه ، فقال : عليَّ بهما ، فجيء بهما ترعد فرائصهما { أي يرجفان ويضطربان خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم والفريصة : هي اللحمة التي بين الجنب والكتف تهتز عند الفزع } فقال : ( ما منعكما أن تصليا معنا ) ، فقالا : يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا ، قال : ( فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) رواه الترمذي رقم 219 وهو في صحيح الجامع 667 .(/4)
وفي الحديث انهما أتيا بعد صلاة الفجر وهو وقت النهي . وأخرج مالك في الموطأ في باب ما جاء في إعادة الصلاة مع الإمام بعد صلاة الرجل لنفسه عن محجن رضي الله عنه أنه كان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ورجع ومحجن في مجلسه لم يصل معهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم ؟ ) قال : بلى يا رسول الله ! ولكني قد كنت صليت في أهلي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت ) موطأ مالك 1/130 ، وهو في السلسلة الصحيحة رقم 1337 .
إذا دخل الرجل المسجد فصلى السنة فأقيمت الصلاة فأحسن ما يقال في ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة والرجل في الركعة الثانية فإنه يتمها خفيفة وإذا كان في الركعة الأولى فيقطعها ويدخل مع الإمام . فتاوى ابن عثيمين 1/345 . والأصل في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) مسلم 1/394 . فإذا أنهى ركوع الركعة الثانية فيتمها وإن كان قبل ذلك يقطع الصلاة لأن ما بقي من السجود والتشهد لا يسمى صلاة ، وقطع الصلاة يكون بغير سلام بل بمجرد النية خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس .
إذا كان جماعة يصلون وأثناء الصلاة تبين لهم أن القبلة إلى جهة أخرى فعند ذلك يتحولون جميعاً إلى جهة القبلة ، وكذلك المنفرد وما مضى من صلاتهم صحيح ، ودليل ذلك : ما رواه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ) سورة البقرة ، الآية 144 . فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى : ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة. رواه مسلم رقم 527 .
أما إن تبين لبعضهم ولم يتبين للآخرين فإن الذي تبين له يستدير إلى الجهة التي يعتقدها جهة القبلة ، فإن كان المختلفون في جهة واحدة فمال بعضهم يميناً وبعضهم شمالاً فيصح اقتداء بعضهم ببعض وإن اختلفت الجهة بالكلية فقد اختلف العلماء في صحة اقتداء بعضهم ببعض ، وإن كان فيهم من لم يتبين له شيء فإنه يختار أوثقهم معرفة جهة القبلة ويقلده . المغني مع الشرح الكبير 1/473 . ومن خفيت عليه جهة القبلة فيلزمه السؤال إن استطاع وإلا اجتهد إن كان يستطيع الاجتهاد ، فإن لم يستطع فإنه يقلد غيره ممن يصح تقليده ، فإن لم يجد فليتق الله ما استطاع وليصل وصلاته صحيحة ، وهذا يحدث كثيراً لمن يُبتلى بالسفر إلى بلاد الكفار وليس حوله أحد من المسلمين ولا عنده أحد يخبره ولا وسيلة تمكنه من معرفة اتجاه القبلة . فأما إن كان بإمكانه أن يعرف جهة القبلة ، ولكنه أهمل ولم يبذل ما يستطيعه وصلى ، فعليه الإعادة لأنه مفرط . المغني مع الشرح الكبير 1/490 .
إذا كان يصلي في جماعة فانقطع مكبر الصوت أو نعس وهو يصلي وسبقه الإمام بركن أو أكثر ثم تنبه أو رجع الصوت فالعمل أن يأتي بما فاته من الأركان ثم يلحق بالإمام وهذه المسالة لها عدة صور منها : أن يقرأ الإمام آية فيها لفظة سجود ويتوهم بعض المأمومين أنها سجدة وليست كذلك فيكبر الإمام للركوع بعد انتهاء الآية ويركع ويظن بعض المأمومين خصوصاً ممن هم في أطراف الصفوف أنه كبر لسجدة التلاوة فيسجدون ثم يقول الإمام سمع الله لمن حمده فيقوم هؤلاء من السجود فاتهم مع الإمام الركوع والرفع منه فعلى هؤلاء أن يأتوا بما فاتهم ويلحقوا بالإمام لأنهم ليسوا بمتعمدين ، فأما من تعمد التخلف عن الإمام كمن يطيل في السجود بحجة الدعاء حتى يفوت الركن الذي بعد السجود ، فقول الجمهور فيمن فاته ركنان متواليان بغير عذر : إن صلاته باطلة ويأثم . كشاف القناع 1/467 والموسوعة الفقهية 6/29 . والأصل في وجوب متابعة الإمام قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإن ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا : ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) صحيح البخاري رقم 689 .
إذا أحدث الإمام وهو يصلي بالناس أو تذكر أثناء الصلاة أنه ليس على طهارة فإنه يخرج من الصلاة وله أن يستخلف من يتم بالناس الصلاة كما ورد عن عمر وعلي وعلقمة وعطاء . وإن لم يستخلف وصلوا فرادى جاز ذلك وهو اختيار الشافعي أي صلاتهم فرادى . وإن قدموا رجلاً منهم ليتم بهم الصلاة جاز ذلك .(/5)
والدليل ما ورد عن عمر رضي الله عنه لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة . رواه البخاري فتح 7/60 . ووجه الاستدلال أن عمر فعل ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم ولم ينكر منكر فكان إجماعاً . أحكام الإمامة . المنيف ص : 234 . وإن تذكر أنه ليس على طهارة فأشار إليهم أن يبقوا كما هم فذهب فتطهر ثم عاد فكبر وصلى بهم صح ذلك ، والدليل ما رواه أبو داود عن أبي بكرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم ) سنن أبي داود رقم 233 ، وهو في صحيح سنن أبي داود 1/45 . وعنون عليه أبو داود باب : في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس ، وقال الخطابي في شرح الحديث : في هذا الحديث دلالة على أنه إذا صلّى بالقوم وهو جنب وهم لا يعلمون بجنابته أن صلاتهم ماضية ولا إعادة عليهم وعلى الإمام الإعادة . سنن أبي داود ومعه معالم السنن للخطابي ت : الدعاس 1/159 .
إذا كان في صلاة الجماعة وراء الإمام فرأى عورة الإمام غير مستورة لشق في ثوبه أو كان الثوب رقيقاً شفافاً فإن أمكنه أن يتقدم فيسترها أو يغطيها بشيء فليفعل وإلا فعليه أن ينصرف من صلاته ويخرج فينبه الإمام كأن يقول له غط العورة أو احفظ ما تكشف منها ولا يجوز له السكوت ومواصلة الصلاة لأنه علم أن صلاة الإمام غير صحيحة وائتمامه به غير صحيح . من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة .
إذا كان يصلي ( إماماً أو مأموماً أو منفرداً ) فتذكر أثناء الصلاة أنه مسح على الخفين بعد انتهاء مدة المسح فعليه أن يخرج من الصلاة لأن طهارته غير صحيحة وقد نص عليه الإمامان أحمد والشافعي . المغني 2/505 .
إذا قرأ الإمام في الصلاة ما تيسر من القرآن ثم نسي تكملة الآية ولم يفتح عليه أحد من المصلين فهو مخير إن شاء كبر وأنهى القراءة وإن شاء قرأ آية أو آيات من سور أخرى إذا كان ذلك في غير الفاتحة أما الفاتحة فلا بد من قراءتها جميعها لأن قراءتها ركن من أركان الصلاة . ابن باز فتاوى إسلامية 396 .
إذا خرج الناس إلى صلاة الاستسقاء أو أرادوا الخروج فنزل المطر فهذه المسألة على حالتين :
إن تأهبوا للخروج فسقوا قبل أن يخرجوا شكروا الله تعالى على نعمه ولم يخرجوا .
وإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلوا شكراً لله تعالى . المغني مع الشرح الكبير 2/296 .
إذا نعس الإنسان وهو يستمع إلى خطبة الجمعة فيستحب له أن يتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه ولا يتكلم بل يشير إليه إشارة . والدليل : حديث سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مقعد صاحبه ويتحول صاحبه إلى مقعده ) . رواه البيهقي 3/238 وهو في صحيح الجامع 812 . وكذلك حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره ) رواه أبو داود 1119 وهو في صحيح الجامع 809 .
ثالثاً : أحكام السهو
إذا شك الإنسان في صلاته هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً فالعمل على ما ترجح لديه فإن لم يترجح لديه شيء فليبن على اليقين وهو الأقل ثم يسجد للسهو . والدليل : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ؟ ثلاثاً أو أربعاً ؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلّى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان . صحيح مسلم رقم 571 .
إذا تذكر الإمام في التشهد الأخير أنه قد قرأ التحيات في القيام في الركعة السرية بدلاً من الفاتحة فإنه يقوم ليأتي بركعة صحيحة بدلاً من الركعة غير الصحيحة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) رواه البخاري رقم 723 . وينبغي على المأمومين أن يتابعوه ولو كانت الخامسة لهم فإن لم يتفطنوا ولم يقوموا وجعلوا يسبحون أشار إليهم بيديه يميناً وشمالاً أن قوموا ليعلمهم أنه جازم في قيامه غير ناس ولا ساه .
وإذا وقع مثل ذلك للمأموم خلف إمامه فصلاته صحيحة ما دام خلف إمامه . والدليل : حديث أبي بكرة لما دخل راكعاً ولم يقرأ الفاتحة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) رواه البخاري رقم 750 . فالمأموم إذا نسي قراءة الفاتحة أو جهل وجوبها عليه أو أدرك الإمام راكعاً فإنه في هذه الأحوال تجزئه الركعة وتصح صلاته ولا يلزمه قضاء الركعة لكونه معذوراً بالجهل والنسيان وعدم إدراك القيام وهو قول أكثر أهل العلم . ابن باز فتاوى إسلامية 1/263 . وهذا مما يتحمله الإمام عن المأموم كما قال الناظم :
ويحمل الإمام عن مأموم ***** ثمانية تعد في المنظوم
فاتحة كذا سجود السهو ******* وسترة مع القنوت المروي
وسمع الله مع السجود في ****** تلاوة الإمام سراً فاكتفي(/6)
وهكذا تلاوة المأموم ******* خلف الإمام فافهمن منظومي
تشهد أول عمن سبق ******* بركعة من أربع فكن محق
إذا ركع ثم رفع رأسه فتذكر أنه لم يقل سبحان ربي العظيم في ركوعه فإنه لا يعود إلى الركوع لأن التسبيح قد سقط برفعه من الركوع فلو عاد إلى الركوع عمداً أبطل صلاته لأنه يكون قد زاد ركنا وهو هذا الركوع الثاني وإن عاد جاهلاً أو ناسياً لم تبطل الصلاة وعليه في مثل ذلك أن يسجد للسهو إن كان منفرداً أو إماماً لأن التسبيح واجب يجبره بسجود السهو ، أما إن كان مأموماً فيسقط عنه الواجب بسهوه عنه . المغني مع الشرح الكبير 1/679 .
إذا نسي التشهد الأول وقام للثالثة وابتدأ الفاتحة فقول أكثر أهل العلم أنه لا يرجع وإن رجع عالماً أن نزوله لا يجوز تبطل صلاته لشروعه في ركن آخر وأما الواجب الذي فاته فإنه يجبره بسجود السهو ، والدليل ما روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو ) رواه أبو داود رقم 1036 وهو في السلسلة الصحيحة 321 .
فالخلاصة : أن من قام إلى الثالثة ناسياً التشهد فله ثلاث حالات :
أن يذكره قبل اعتداله قائماً فيلزمه الرجوع إلى التشهد .
أن يذكره بعد اعتداله قائماً وقبل شروعه في قراءة الفاتحة فالأولى له أن لا يجلس وإن جلس فصلاته صحيحة .
أن يذكره بعد الشروع في الفاتحة فلا يجوز له الرجوع . المغني مع الشرح الكبير 1/677 . وهذه الحالات مستنبطة من الحديث السابق .
إذا سلم الإمام فقام المأموم ليتم ما فاته فإذا بالإمام يسجد للسهو بعد السلام فإن كان المأموم لم ينتصب قائماً فإنه يرجع ويسجد للسهو مع إمامه وإن انتصب قائماً فإنه لا يرجع فإذا أتم صلاته سجد للسهو الذي فاته . ودليل هذه المسألة هو دليل المسألة السابقة . المغني مع الشرح الكبير 1/697 .
إذا سها الإمام في الصلاة وترك ركناً وجعل المأمومون يسبحون وهو لا يفهم مقصودهم ولا يدري أين الخطأ وينتقل إلى أركان ليس بينها الركن المتروك فلأهل العلم عدة أقوال في إفهامه ، من أمثلها أن يجهروا بالذكر الخاص بالركن المفقود فإن كان ركوعاً قالوا : سبحان ربي العظيم ، وإن كان سجوداً قالوا : سبحان ربي الأعلى ، وإن كان الجلسة بين السجدتين قالوا : رب اغفر لي وهكذا . المغني مع الشرح الكبير 1/707 .
أحكام متفرقة
إذا نسي ملابس الإحرام وأقلعت به الطائرة فإن استطاع أن يتدبر أمره بإزار ورداء من أي لون أو صنف من الشراشف أو المناشف ونحوها فعل ذلك وإن لم يجد أزال من المخيط وغطاء الرأس وأحرم في ثيابه إذا حاذى الميقات من الجو ولا يجاوز الميقات بغير إحرام فإذا وصل إلى مكان يستطيع فيه استبدال ملابسه بإزار ورداء فعل ذلك وعليه فدية ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين وهو مخير في فعل أي واحدة منها وإحرامه صحيح . من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة .
إذا كان الرجل في الطواف أو السعي فعرضت له حاجة كأن عطش وأراد أن يشرب أو فقد أحد من أهله فتوقف للبحث عنه أو تعب واحتاج أن يستريح فإن كان التوقف يسيراً عرفاً فإنه يتابع الطواف ويبني على ما سبق . أما إذا أقيمت الصلاة فقطع الطواف وصلّى فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة والأحوط عند إكماله الأشواط الباقية أن لا يعتد بالشوط الأخير الذي لم يكمله وقطعه لأداء الصلاة . ابن باز فتاوى الحج والعمرة ص : 80 ، والمجموع للنووي 8/49 .
أما مسألة الاستراحة في الطواف والسعي فهي مبنية على مسألة اشتراط الموالاة في الطواف والسعي .
فأما السعي فلا تشترط فيه الموالاة على القول الراجح . المغني مع الشرح الكبير 3/414 . فعليه لو سعى الإنسان عدة أشواط ثم توقف ليستريح ثم عاد ليكمل جاز ذلك . وأما الموالاة في الطواف فقد اختلف فيها أهل العلم على قولين :
القول الأول : وجوب الموالاة فيبطل الطواف بالتفريق الكثير بغير عذر .
القول الثاني : أن الموالاة سنة فلا يبطل الطواف وإن طالت المدة . اختاره النووي في المجموع 8/47 . والعمل بالقول الأول أحوط .
إذا توفي رجل في سفينة في البحر فيقول الإمام أحمد : ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعاً ( كجزيرة في البحر أو شاطيء ) يدفنونه به حبسوه يوماً أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد ، فإن لم يجدوا غسل وكفن وحنط وصلى عليه ويُثقل بشيء ويلقى في الماء . المغني مع الشرح الكبير 2/381 .(/7)
إذا كان لدى رجل ورقة من فئة الـ 50 ريالاً مثلاً واحتاج إلى صرفها عشرات فذهب إلى آخر ليصرفها فلم يكن لدى صاحبه إلا ثلاث عشرات مثلاً فهل يجوز أن يعطيه الخمسين ويأخذ منه ثلاث العشرات والعشرين الباقية تبقى ديناً له على صاحبه يستوفيها منه بعد ذلك ؟ رغم شيوع مثل هذه الصورة وانتشارها في الواقع إلا أن كثيراً من الناس يتعجبون إذا قيل لهم هذا ربا والعلة أن التفاوت موجود فيما قبضه كل منهما وشرط التبايع والصرف في الأوراق النقدية إذا كانت من جنس واحد أن تكون مثلاً بمثل يداً بيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تُشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) رواه البخاري رقم 2068 . { تشفوا من الاشفاف وهو التفضيل والزيادة - الورق : أي الفضة - غائباً : أي مؤجلاً - بناجز : أي بحاضر } والحديث فيه النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة .
فإن قيل فما هو المخرج والبديل والناس دائماً يحتاجون إلى صرف الأوراق النقدية :
فالجواب : إن الحل في ذلك أن يضع الخمسين رهناً عند صاحبه ويأخذ منه الثلاثين ديناً وسلفاً ثم يسدد الدين بعد ذلك ويفك الخمسين المرهونة ويأخذها . من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة .
إذا أمر الرجل في وظيفته بأمر فعليه أن ينظر فإن كان الأمر ليس فيه معصية لله فإنه يفعل ما أمر به ، أما إن كان في الأمر معصية فلا يطع حينئذ وإلا كان مشاركاً في الإثم والوزر ، قال عليه الصلاة والسلام : ( لا طاعة لبشر في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) الحديث في البخاري الفتح 13/121 ، وأحمد 1/94 والسياق من السلسلة الصحيحة رقم 181 . وقال الله تعالى : ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) .
سنن وآداب
إذا تجددت للمسلم نعمة أو اندفعت عنه نقمة فيستحب له أن يسجد سجود الشكر . المغني مع الشرح الكبير 1/654 ، فعن أبي بكرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله تعالى ) رواه أبو داود 2774 وهو صحيح : تخريج المشكاة 1494 . ولا تشترط الطهارة واستقبال القبلة ولكن إذا توضأ واستقبل القبلة فهو أفضل . مجموع فتاوى ابن عثيمين 4/216 .
إذا أتاك مال حلال من شخص أو من جهة دون طلب منك ولا مد يد ولا إذلال ولا تطلع فخذه والدليل : عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ) رواه البخاري 1404 .
إذا وضع للمسلم طعام في بيت أخيه المسلم فتحيَّر في أمر اللحم هل هو حلال أم لا ؟ فيجوز له الأكل دون السؤال لأن الأصل في المسلم السلامة . والدليل : قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه فإن سقاه شراباً من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه ) رواه أحمد 2/399 وهو في السلسة الصحيحة 627 . وكذلك فإن في السؤال إيذاء للمسلم وجعله في مجال الشك والريبة .
إذا كان يمشي في نعليه وانقطع أحدهما فلا يمش في نعل واحدة والأخرى حافية فإما أن يصلحها ويمشي بهما أو يخلعهما ويحتفي والاحتفاء أحياناً سنة . والدليل : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يمشي أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً ) رواه البخاري 5518 ، وأما العلة في ذلك فقد ذكر العلماء أقوالاً أصحها دليلاً ما ذكره ابن العربي وغيره أن ( العلة أنها مشية الشيطان ) فتح الباري 10/310 . ودليل ذلك : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة ) السلسلة الصحيحة 348 .
إذا رأى المسلم رؤيا حسنة أو صالحة يستحب فعل ما يلي :
أن يحمد الله عز وجل .
يعبرها لنفسه أو يخبر عالماً يعبرها له .
لا يخبر بها إلا ناصحاً أو لبيباً أو حبيباً ولا يخبر حاسداً . والدليل : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها ) رواه البخاري 6584 ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقصوا الرؤيا إلا على عالم أو ناصح ) رواه الترمذي 2280 وهو في السلسلة الصحيحة 119 . لأنهما يختاران أحسن المعاني في تأويلها بخلاف الحاسد والجاهل .
إذا رأى المسلم حلماً سيئاً فإنه يفعل ما يلي :
يبصق عن يساره ثلاثاً .
يستعيذ بالله من الشيطان ثلاثاً .
يستعيذ بالله من شرها .
أن يقوم فيصلي .
يغير الجنب الذي كان نائماً عليه إذا أراد مواصلة النوم ولو كان تحوله إلى الشمال لظاهر الحديث .
لا يخبر بها أحداً من الناس .(/8)
لا يفسرها لنفسه ولا يطلب تفسيرها . والدليل : عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) رواه مسلم 2262 . وفي رواية ( وليعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره ) فقال - أي الراوي - إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل ، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها . رواه مسلم 2261 . وعن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : ( لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك ) رواه مسلم 2268 . وفي رواية ( فمن رأى ما يكره فليقم فليصل ) رواه الترمذي 2280 وهو في صحيح الجامع 3533 .
إذا وقع بصر المسلم على امرأة أجنبية وبقي أثر ذلك في نفسه فإن كان له زوجة فليذهب إلى بيته وليأت أهله ليرد ما وجد في نفسه . والدليل : عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه ) رواه مسلم 1403 .
إذا صار مجلسه بين الشمس والظل فليتحول عن مجلسه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أحدكم في الفيء فقلص عنه الظل وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم ) رواه أبو داود 4821 وهو في صحيح الجامع 748 . والعلة في ذلك أنه مجلس الشيطان ، والدليل : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس بين الضح والظل وقال : ( مجلس الشيطان ) . رواه أحمد 3/413 وهو في صحيح الجامع 6823 .
إذا أصاب أهل الرجل الوعك فيستحب له أن يفعل كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ( كان إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا منه وكان يقول إنه ليرتق فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسر إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها ) . { يرتق أي يشد القلب لأن الحزن يرخيه ، ويسروا أي : يكشف ويجلو - رواه الترمذي 2039 وهو في صحيح الجامع 4646 } .
إذا كذب أحد أبناء الرجل أو أحد أفراد أهله فإنه يعالج هذا الموقف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة ) السلسلة الصحيحة 2052 وصحيح الجامع 4675 .
إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه أو ينقذ معصوماً أو يخرج من حرج عظيم أو يتخلص من موقف عصيب فهل من طريقة غير الكذب ينجو فيها من الحرج ولا يقع في الإثم ؟ .
الجواب : نعم توجد طريقة شرعية ومخرج مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو التورية أو المعاريض وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه ( باب المعاريض مندوحة عن الكذب ) صحيح البخاري كتاب الأدب باب 116 .
والتورية هي الإتيان بكلام له معنى قريب يفهمه السامع ومعنى آخر بعيد يقصده المتكلم تحتمله اللغة العربية ويشترط أن لا يكون فيها إبطال حق ولا إحقاق لباطل وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان :
ذكر عن حماد رحمه الله أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه قال متوجعاً : ضرسي ، ضرسي ، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير .
وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه ، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب ، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له أنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله .
وكان الإمام أحمد في داره ومعه بعض طلابه منهم المروذي فأتى سائل من خارج الدار يسأل عن المروذي والإمام أحمد يكره خروجه فقال الإمام أحمد : ليس المروذي هنا وما يصنع المروذي ها هنا وهو يضع إصبعه في كفه ويتحدث لأن السائل لا يراه .
ومن أمثلة التورية أيضاً :
لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه ، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً : فقلت : والله لن أكلمه ، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح . وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله ، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي . يعني اللاعب . إغاثة اللهفان : ابن القيم 1/381 وما بعدها 2/106-107 ، وانظر بحثاً في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/14 . هذا مع التنبيه هنا أن لا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ ولذلك لأمور منها :
أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب .(/9)
فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا ؟ .
أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم يكون الموري عنده كذاباً وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً
أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين.
وفي خاتمة هذه الرسالة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا ويعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/10)
ماذا فعلنا للأقصى
1546
القتال والجهاد
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
ملخص الخطبة
1- نجدة المعتصم ونفيره نجدة لمسلم في المشرق. 2- ضياع قضية فلسطين بين المطاولات وزحمة المدرجات الرياضية وأنواع أخرى من صور الضياع. 3- تذكير الدعاة والعلماء بدورهم في المحنة. 4- التشنيع على دور وسائل الإعلام في صرف الاهتمام إلى قضايا تافهة. 5- معركة اليهود في فلسطين معركة عقائدية يحركهم فيها التوراة والتلمود. 6- النصر على اليهود مرهون بعودتنا إلى ديننا وإيماننا وفريضة الجهاد الغائبة.
الخطبة الأولى
الحمد لله جعل قوة هذه الأمة في إيمانها,وعزها في إسلامها, والتمكين لها في صدق عبادتها, أحمدُه سبحانه وأشكره, وأتوب إليه وأستغفره, وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, دعا إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه, كانوا في هذه الأمة قدوتها ومصابيحها, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون إن كنتم مؤمنين.
طغى الجنود وقادتهم وأحرقوا البلاد ودنسوا المساجد وتجبروا في بلاد المسلمين وثغورها وهاجموا إحدى بلدان المسلمين فانتهكوا الأعراض وسبوا الديار, ودنسوا المقدسات وشردوا الأهل, لكن امرأة واحدة ـ نعم امرأة واحدة ـ رأت بارقة أمل في أحد قادة المسلمين فصرخت: وامعتصماه, فلبى صرختها خليفة المسلمين حينذاك المعتصم لبيك أختاه, وحين حاول أصحابه المنجمون والمثقفون والسياسيون أن يثنوه عن عزمه ضرب بكلامهم عرض الحائط فذهب بنفسه إلى تلك البلاد وحرَّرها وأنقذ أهلها, ثم حارب الروم حتى وصل إلى عمورية فأحرقها ونصر المسلمين, فسطر التاريخ نُصرتَه تلك بمداد لا تنسى,وذهبت القوافي تتبارى في تذكر ذلك النصر وحاجة المسلمين إليه فكان قول أبي تمام ردًا مفحمًا للمخذلين:
السيفُ أصدقُ إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعب
أين الرواية بل أين النجومُ وما صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
وخوَّفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكبُ الغربي ذو الذيب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ ما دارَ في فلكٍ منها وفي قطب
فتجاوب الشعر مع ذاك الحدث حتى يومنا هذا, وتثور قرائح الشعراء بعد أن نرى خذلان أمة الإسلام عن نصرة بعضها البعض, وكثير من النساء تصرخ ولا مجيب, الأعراض انتهكت, والديار أحرقت, والمقدسات دنست.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمْسك المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عاتبًا ببقايا كبرياءِ الألمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظلِّ الحرمِ
كيف أغضيت على الذلِّ ولم تنفضي عنك غبار التهم
أو ما كنت إذا البغيُ اعتدى موجة من لَهَبٍ أو من دميِ
اسمعي نوحَ الحزانا واطرَبي وانظريِ دمع اليتامى وابسمي
رُبَّ وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تُلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحملُ طهر الصنم
لا يلامُ الذئبُ في عدوانه إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
أيها الأخوة المؤمنون: كثيرةٌ هي التساؤلات ونحنُ نرى النكبات التي تتقلب فيها الأمة العربية المسلمة خلال خمسين سنة سيَّما مع اليهود في فلسطين. فلسطين التي يَدْمَى جرُحهَا كلَّ يوم فماذا فعلنا لها؟ فماذا قدّمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! هل بحثنا في أسباب هذه الهزائم والخسائر الفادحة؟ هل أذكاها عَوجٌ خلقي؟ أو خللٌ سياسي أو غش ثقافي؟ أو انحرافٌ عقدي؟ إن من المحتم على كل أصحاب الألسن وحملة الأقلام ألا يقترفوا خيانات قاتلة بتجاهل هذه القضية, هذا التجاهل الذي يُؤخُر يومَ النصر.
وإن قضية فلسطين وغيرها من قضايا المسلمين الدامية يختلطُ فيها الشجو بالرضا, والتهنئة بالتعزية, رضا وتهنئة حينما يستحضر الإنسان مرأى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه الصهيونية الحاقدة, فسارعوا إلى ملاقاة ربهم, ودماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم تُرفع لتَبْقى وسامًا فوق صدورهم.
وشجوٌ وتعزيةٌ حينما يقعُ ما يقع على مرْأى من أهل القبلة ومسمعٍ فلا يحيرون جوابًا ولا يحركون ساكنًا إلا من رحم الله, تقع أمامهم الحوادث وتدلهم الخطوب فلا يأنون لمتألم, ولا يتوجعون لمستصرخ, ولا يحنُون لبائس.
أين أقل النصرة الواجب لإخواننا المسلمين؟ ليست فقط في فلسطين التي تشتد جراحُها هذه الأيام, بل في سائر بقاع المسلمين, الشيشان وكشمير والفلبين.
ليس من معنى لأمةٍ ترى شعوبها تُنتهكُ حرماتها وتُدنَّسُ مقدساتها وتنهبُ باسم السلام والشرعية الدولية ثم ترى كثيرًا من أفرادِ هذه الأمة وهو عاكفٌ على اللهو والعبث, فهذه كرةٌ يتابعونها باسم كأس آسيا,وهذه حفلاتٌ غنائية يقيمونها,وسهوٌ وغفلةٌ وكأنَّ ما يحدث لا يمسُّ أرضهم ولا يقتلُ إخوانهم ولا يؤذي جيرانهم.(/1)
إلى الله المشتكى فكيف يستطيع أن يهنأ صاحبُ الترفه بطعامه وشرابهِ, بل كيف يُدلِّل صبيانه ويمازحُ أهله وهو يرى في فلسطين صبيةً مثل عيالهِ برءاءُ ما جنوا ذنبًا, أطهارٌ ما كسَبت أيديهم إثمًا, يبكون من الحيف ويتلمضون من الجوع, ويواجهون مدرعات وجنود صهيون بصدورهم وأحجارهم, يقتلون في حجر آبائهم, أفلا يكون للمسلم السهمُ الراجح في العطف عليهم كفكفة دموعهم ودمعهم بما يستطيع ليواجُهوا هؤلاء الأعداء بدلاً منه, كيف أصبح إخواننا في فلسطين تحت سيطرة يهودٍ الحاقدين وهم يلجئون إلى مكبرات أصوات المساجد يستغيثون بالمسلمين وقد سالت عليهم حِممُ القنابل وأريقت دماؤهم, وإلى المساجد وقد هُدمت, وإلى الحرمات وقد انتهكت, فماذا فعلنا للأقصى؟!
تُرى أين دورُ المثقفين والكُتاب في وصف القضية وتحليلها, والخروج بالدروس والعبر منها, والكتابة عن دور السلام المزعوم أمام قومٍ وصفهم الله بأنهم ينقضون كل عهد وميثاق, أم أنهم أكثرهم سخروا الأقلام لتقويض دعائم الحياة الفاضلة والأخلاق الفاضلة, وأورثوا فوضى فكرية لا معروف فيها ولا منكر, وإنما هي انتهازية وإقليمية وباتوا مرتزقة يستجدون الساسة والأثرياء بكتاباتهم.
أليس الدور المطلوب منهم الآن توضيح أبعاد القضية والمكر الخفي, وألاّ يكونَ كثيرٌ منهم أمعاتٍ يُردِّدون ما يُقال بلا توضيح للحقائق.
ترى هل يكون روبرت فيسك الكاتبُ البريطاني أكثرُ مصداقية من كثير من كتابنا حين يصف اليهود بالخونة وما يُسمى السلام زائفًا والإعتداء من جهة إسرائيل ؟!
أين دورُ العلماءِ والفقهاء وهم قادة الناس ومُوجهيهم, ويَنتظر منهم المسلمون النصرة لإخوانهم فإن العلماء الذين سطر التاريخُ أمجادهم كان الناسُ يلجأون إليهم بعد الله عندما تدلهم المصائب وتكثرُ الأزماتُ ليجدُوا عندهم الحلَّ والتوجيه وقيادة الركب, فلا معنى لعالمٍ أو طالب علم يكون في وادٍ أو برج عاجي وأمته وقضاياها في وادٍ آخر.
حينما دخل التتارُ إلى بغداد ودمشق وعاثوا فيهما فسادًا كان الفقهاء حينذاك كما يروي التاريخ يناقشون قضايا فقهية ليس ذاك وقتها, فهل عرفنا التاريخ بأسمائهم, لقد حفظ لنا التاريخ أسماء بارزة من أمثال ابن حنبلٍ ومالك وابن تيمية الذي جاهد التتار وتقدَّم الجيوش فأصبح رجل الناس المحبب إليهم, يصدرون عن رأيه ويرجعون إليه, ويفقدونه إذا غاب أو غُيِّب, إنه ليس من معنى أن ترى بعض المبتدعة أو الرافضة من العلماء وهم في مواقفهم أشدُ قوة وأكثرُ وضوحًا من علماء المنهج الصحيح الذين انشغلوا عن القضية بنقاشات وفلسفات بعيدة عن مُصاب الأمة.
ثم إننا نتساءل عن دور التجار وأصحاب الأموال في دعمهم لقضية فلسطين وكثيرٌ منهم قد تجمعت أموالهم وتراكمت من خلال الأسهم والبنوك, وإخوانهم في أشد حاجة إليها, فأصبح المال الإسلامي طاقة مهدرة تُحركها بنوكُ الغرب ومصارفه, وتجدُ أن أحدهم يضع العراقيل أمام تبرعه إن بذله.
العجب لحال أهل الإسلام حين يرضى بالقعود أولو الطول والمقدرة ممن يملكون وسائل الجهاد والبذل, ولا يذودون عن حرمةٍ, ولا ينتصرون لكرامةٍ, وإن من وراء حب الدعة وإيثار السلامة سقوط الهمة وذلة النفس وانحناء الهمة والتنكصُ عن المواجهة بالمال والنفس, فأين استخدام سلاح الاقتصاد والنفط في مقاطعة أعداء الإسلام وبضائعهم ومن عاونهم وترك الشراء منهم وإبرام الصفقات معهم.
ترى أن دور قنواتنا الإعلامية العربية التي ملأت فضاءنا؟ هل برامجها المعروضة تدلُّ على مصاب الأمة في أبنائها وفاجعتها في مقدساتها, وفي ذات الوقت التي تعبث فيه مروحيات اليهود وطائراتهم في سماء فلسطين وتقصف الآمنين فإن جل هذه القنوات باتت ترقص على جراحات الأمة عبر عروضها الغنائية الفاضحة, والمسابقات الفنية والكروية, ومسابقات الجمال,وترى اليهود يقصفون فلسطين ومقدساتها وتعرض هذه القنوات افتتاح دورة رياضية وغنائها
وتجد أن هذه القنوات في ذات الوقت تُلغي برامجها الترفيهية المحرمة للبكاء وقراءة القرآن أيامًا على بعض الزعماء أو لتغطية حدثٍ مهم, وكأن مقتل المسلمين في فلسطين لا يعنيهم في قليل أو كثير, على أننا نستثنى من تلك التفاهات بعضًا من القنوات التي غطت أخبار المسلمين وبينتها لهم مع ما يصاحب ذلك من ملاحظات كالموسيقى الصاخبة التي لا تناسبُ الحدث, أو إثارة للفتن بلا سبب, بل قد تعود بالضرر لا بالنفع.
أيُها المؤمنون:(/2)
وإن نقدنا لهذه التصرفات والأدوار الهزيلة لا يعني أن الأمة خلت, فالخير فيها ممتدٌ إلى قيام الساعة, وأكبر دليل على ذلك ما رأيناه وسمعنا عنه من تلك المظاهر الشعبية في بلدان العالم الإسلامي التي تحترف للقضية, ولمرأى شهداء الأقصى وتلك الجموع البشرية التي تريدُ صادقة التضحية بنفسها في سبيل ال,له وكذلك الدعمُ المالي الذي بدأه قادة هذه البلاد وأهلها وهو ما رأيناه مما يُفرحنا ويسرنا في حملة جمع التبرعات الأيام الماضية, كيف رأينا الشعب بفئاته ومسؤليه وهم يُبادرون إلى التبرع, كلُّ بما يملك صغارًا أو كبارًا, رجالاً أو نساءً, نسأل الله أن يتقبل منهم وأن يُوصل تبرعاتهم للمستحقين من المسلمين المجاهدين الصابرين في أسرع وقت. وإن هذا الشعور لهو شعورٌ أصيل يناسب القضية.
لكننا نستغربُ أخوتي ونحن نرى ذلك الجبن في النفوس والقلوب في المفاوضات على الطاولات لدى المخذلين والتابعين فيما يُسمى غرف العلميات لتطويق وحصار هذه الانتفاضة المباركة, إنها انفعالية في السوء والتصرفات المصلحية الشخصية وغرامٌ بالمتع الرخيصة في أدق الساعات وأحلك الأيام, وافتتان من العامة كذلك بالملاهي والكرة والمعازف, فجمع ذلك لهم حبُ الدنيا وكراهية الموت, فأصبحت كثير من قيادات الأمة ومناضليها المزعومين مظلمة الروح جوفاء القلب, ضعيفة اليقين, قليلة الدين, نافذة الصبر والجلد, فاقدة للخلق والإرادة, تبيع الحق والأمة بمنافع شخصية, جاه موهوم, وعزٌ مصطنع في أهواء مشتتة وأهداف متفرقة, ولئن كانوا زعزعوا في الأمة روح التدين وشريف الخلق فلقد سلكوا في قضية فلسطين وعبر السنين مسالك المنظمات والتجمعات والحزبيات والهيئات التي تتأرجح بين يمينٍ ويسار بشعارات زائفة من العلمانية والوطنية والقومية, اجتماعاتهم وتنظيماتهم وقراراتهم تعدُ ولا تنجز, وتقولُ ولا تفعل, وتشجبُ ولا تقاوم قلوبٌ شتى ووجوهٌ متباينة, فصمُوا العري بعد توثيقها, ونقضُوا الأيمان بعد توكيدها, وفرقوا الكلمة بعد توحيدها, وفي قضيتهم تركوا الدين الذي يحلها, وعلقوا آمالهم على تشكيل لجنة دولية للتحقيق في المتسبب في القضية وكأنّ حل فلسطين ومقدساتها موقوف على هذه اللجنة.
وفي ذات الوقت الذي يسعى فيه الأعداء إلى هذا القتل لأهلينا في فلسطين والهدم لمقدساتنا فإن يهود جادون في بناء أنفسهم, استمدادًا من تاريخهم واعتمادًا على تراثهم, يجمعون بني قومهم من شتات الأرض شُذَّاذ الآفاق باسم الدين وإسرائيل والتوراة والتلمود.
لقد أشربهم تلمودهم أحقادًا زرقاء ينفخ فيها أحبارُ السوء بوصايا الزيف من التوراة المحرفة ليتنادوا عليها وكأنها حقائق مسلماتٌ إنها طبائع الملعونين من أسلافهم, قسوة في القلب كالحجارة أو أشد, وشرةٌ في النفوس, وأكلُ سحت, وفسادُ معتقد وبغيٌ في الأرض, وتطاول على الخلق وربِّ الخلق, هذا سبيلهم في الزعزعة والهدم, أما سبيلهم في المفاوضات والمحادثات فسبيل المخادعة والتضليل والتلاعب بالأسماء والمصطلحات والالتفات على التوصيات والقرارات وإذا تأزمت الأمور وخيف من إفلات الزمام وأسر ثلاثة من جنودهم أو قليل غيرهم بينما هم يقتلون الأبرياء الذين هم لا يحملون السلاح, إذا حصل كل ذلك كونت لجان وتراسل المندوبون بأسماء وألوان ومبادرات ومهدئات, امتصاصًا للغضب وتهدئة للأوضاع وتحقيقًا لمكاسب يهود.
أيها المسلمون: هذه هي القضية, وذلكم هو وضعها, ولا بد من ردها إلى أصلها في صراع المسلمين مع اليهود حتى تصبح قضية قوية تتأبّى على الوأد والاحتواء, لابد أن تعود القضية إلى امتدادها الإسلامي بكل آفاقه وأعماقه, فهو أمرٌ فصلٌ ليس بالهزل, فهو صراع عقائدي ومعركة مع أشدِّ الناس عداوة للذين آمنوا.
على الأمة أن تدرك أن تفوق يهود سيظل خنجرًا هامزًا غامزًا في لحوم الشاردين وجنوبهم حتى يؤبوا إلى القرآن شرعة ومنهاجًا.
إذا عاد الشاردون إلى الحق عاد اليهودُ بإذن الله إلى حجمهم وذلتهم المضروبة عليهم, وينقطع بهم حبلُ الناس ويبطلُ السحر والساحر, ويأتي وعدُ الحق فلا ينفعُ اليهودي شيء ولا يستره اتقاءٌ خلف حصى, ولا يقيه حجر, ولا يحميه سلاحٌ ولا شجر, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهودَ فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) [متفق عليه].
هذا هو النداء يا مسلمُ! يا عبد الله, ولا نداء غيره, فهو محور القضية, وليستيقن الجاهلون أنهم لن يروا نصرًا ولن يحفظوا أرضًا ماداموا مُصرين على الألقاب الضالة, ومناهج الإلحاد الصارخة وسلام الشجعان الهزيل, إن هذا الركام كلَّه نبت الشيطان وغرسُ الكفار, وهذا هو الذي يحجبُ نصرَ الله ويمدُّ في حبالِ اليهود وحمايتهم, وكأنه الغرقد شجرُ اليهود.(/3)
إننا يجب أن نفهم طبيعة اليهود وأشياعهم, فهما قرآنيًا وأن نتعامل معهم تعاملاً ليس تقريرًا سياسيًا يتلونُ بالمنافع والمتغيرات, ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .
إن الكفاح في الطريق المملوء بالعقابات الكئود لدى ذي الجدِّ والكرامة ألذُّ وأجملُ من القعود والتخلفُ من أجل راحة ذليلة لا يليقُ بهمم الرجال, وإن فرصتنا كبيرة بهذه الانتفاضة المباركة مع عظم مصابها فيمن قُتل أو جرح؛ لأن الأمة إنما تنجح بالجهاد الذي يوحد صفوفها على أعدائها وينصرها بإذن الله.
أما خيارُ السلام الهزيل والمفاوضات وطلب الهيئات واللجان الدولية الكاذبة فهو ترك للتناصر في الإسلام والأخذ بعزائم الأمور أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور .
اللهم ربنا عزَّ جارُك وتقدست أسماؤك, اللهم لا يردُّ أمرك, ولا يُهزم جندك, سبحانك وبحمدك, اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وكل مكان, اللهم آمن خوفهم, وفك أسرهم, ووحد صفوفهم, وحقق آمالنا وآمالهم وبارك في حجارتهم, واجعلها حجارة من سجيل على رؤوس اليهود الغاصبين, اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة, واجعل جهادهم عبادة اللهم احفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم, وطهر المقدسات من دنس اليهود المتآمرين والمنافقين والمتخاذلين, اللهم فرج هَمّ المهمومين, وفُكَّ أسر المأسورين والمعتقلين, وكن لليتامى والأرامل والمساكين, واشف مرضاهم ومرضى المسلمين, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, اتقوا الله تعالى عباد الله وبعد:
إن الناظر فيما أصاب المسلمين من ابتلاءٍ هذه الأيام يرى اختلافًا في مواقف الناس من صابر ثابت, وجَزعٍ خائف, ظهر في بعض مسالك أقوام تعلق بغير الله واعتمادٌ على أسباب لا تغني عنهم من الله شيئًا, ومنهم آخذ بالأسباب على وجهها, معتمدٌ على ربه فيما وراء ذلك, ومن هنا فحقيقٌ بالأمة أن تعي حالها وتنظر في واقعها لمستقبلها, لقد حقق الأعداء من جراء ذلك التخاذل كثيرًا من مراداتهم, إن الناشئة في كثير من بلاد المسلمين يزودون عن كتاب الله ذودًا, دينهم تعكر منابعه, وتاريخهم تُشوَّه مصادره, لازال في وقت ومال وجهد كثير من شباب الأمة الفراغ لمتابعة الكرة الآسيوية أو العالمية, وإقامة حفلاتها الغنائية البائسة التي ترقص على جراح الأمة, يضحكون ولا يبكون, ينطلقون إلى المنتديات يلعبون ويتجمعون في أماكن اللهو يعبثون.
إن أولى الهزائم هزيمة الإيمان في القلوب والجدب في المُثل والأخلاق, أين هم من نموذج صاحب النجدة والقوة وباذل التضحية أنس بن النضر رضي الله عنه حين قال لرسول الله :
((أما والله لئن التقينا بالمشركين ليرين الله ما أصنع)), إنها يمين من ورائها إيمانٌ عميقٌ ليس قوله هذا مزايدة أو في مظاهرة أو خطاب سياسي, ولقد ثبت رضي الله عنه في أحد حتى قتل فما عرفه من جروحه أحدٌ إلا أخته من خلال أصبعه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً .
أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن هذه الأمة أمةٌ جهادٍ ومجاهدة, والجهادُ فيها أرفعُ العبادات أجرًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي : "ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه, قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا وهو يقول: لا تستطيعونه: وقال في الثالثة: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفترُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) متفق عليه. وإن من الجهاد الجهادُ بالمال بدعم هؤلاء الصابرين.
إن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العدد والعُدة الظاهرة بين المؤمنين وعددهم سيما اليهودُ الجبناء, فيكفي المؤمنين أن يُعدّوا ما استطاعوا من القوى وأن يتقوا الله ويثقوا بنصره ويثبتوا ويصبروا وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا , وإن الانتصار على النفس وشهواتها والخذلان وآفاته انتصارٌ على الشح والغيظ والذنب, والرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين فيه النصر على الهزائم والنكبات التي طالت في الأمة, وإن الأعداء ما كانوا أعداء إلا لمخالفتهم أمر الله فإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة فليس هناك مزية فالمؤمن حين يعادي ويعارُك ويجاهدُ فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهدُ في سبيل الله.(/4)
أيها الأخوة المؤمنون: إن المأساة أليمة والخطب جسيمٌ لكنما يحدث هو مسؤولية على كل من رآه أو علم به, وإننا والله مسؤولون عن مناظر القتل التي يمارسها يهود على إخواننا فلسطين, وكثير منا لا يحرك ساكنًا بل لديهم الوقت لمتابعة كرة آسيوية أو حفلات غنائية, والله إننا نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة لهم, إن أسلحة المال والدعاء لها أعظم الأثر بإذن الله في دعم إخواننا المسلمين ودحر اليهودِ الغاصبين, وإنه ليس من عذر لأحدٍ منا اليوم يرى مقدساته تنتهك, ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في حجر آبائهم ويهود متسلطون ثم لا يدعم إخوانه هناك ويتأثر لمصابهم, ألم تروا كم من امرأة مسلمة عفيفة محجبة, وجنود صهيون يخلعون حجابها وعلى مرأى من العالم ومسمع, ألم تروا جنائز الشهداء؟! ألم يؤثر بكم بكاء أم طفل خرج إلى الطريق ببراءته ففقدته بجوار الأقصى.
محمدًا أي ذنب جئت تحمله حتى قتلت على عين الملايين
محمدًا أي جرح صُغت في كبدي وما الذي بعد هذا الخطب يبكيني
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا .
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرةٌ تواقة لجنان الحور والعين
يا غيْرتي أين أنت أين معذرتي ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزة الإسلام من خلدي ما بالها لم تعد تغذو شراييني
أيها الأخوة المؤمنون لازلنا نستقبل تبرعاتكم لانتفاضة الأقصى المباركة عبر مكتب هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية, والتي وصلت بعض تبرعاتها بأسرع وقت ممكن.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ويجعل بذلكم وجهدكم في ميزان حسناتكم, اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.(/5)
مبادئ عامة لعملية الإشراف
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإشراف علمية ليست بالعملية السهلة؛ كما قد يتصوره البعض، إنها عملية شاقة وتحتاج إلى موارد وطاقات بشرية متمكنة، ولأهمية علمية الإشراف فقد ألفت فيها كتباً متعددة، وصنفت فيه مصنفات متفاوتة في حجمها. وإسهاماً منا في توضيح معالم ومبادئ عامة لعلمية الإشراف كان لنا هذه الوقفة- إن شاء الله- في الحديث عن المبادئ العامة لعملية الإشراف، وخاصة الإشراف على الحلقات القرآنية، فمن هذه المبادئ العملية للإشراف على الحلقات القرآنية ما يلي:
1. تعيين الأهداف وتوضيحها: لا شك أن المشرف الذي يستطيع أن يعرف أهدافه ويفهمها يستطيع بسهولة الإسهام بنجاح في تصميم وتنظيم محتويات البرامج التي تعمل على نمو المدرسين، ومساعدتهم على تأدية مسؤولياتهم المهنية على أحسن وجه ممكن. وفي الغالب لا تستطيع – أخي المشرف- تحقيق أهدافك مرة واحدة، بل ينبغي عليك أن تقسم أهدافك الرئيسة إلى أهداف مرحلية جزئية.. إن عملية الإشراف ليست عملية مرتجلة، بل هي عملية موضوعية تقوم على خطة واضحة، يمهد لها المشرف ويشترك فيها من يشرف عليه.
2. الخطة الزمنية: يجب عليك- أخي المشرف- أن تضع جدولاً زمنياً لمساعدة من تشرف عليه سواء أكان موظفاً أم متطوعاً أم طالباً من طلاب الحلقات القرآنية؛ كما عليك أن تساعد من تشرف عليه على وضع جدول زمني لمساعدة الطلاب على حفظهم للقرآن الكريم على أن يقسم الزمن في كل حالة إلى ثلاثة أقسام: أولها للبداية، أي بداية عملية الحفظ والمتابعة، والقسمين الآخرين للوسط والنهاية. وإن على من يقوم بالإشراف أن يضع الجدول الزمني، ثم يقف بين الحين والآخر لعمل تقييم للمشروع، وعلى ضوء هذا التقييم يمكن تقويم وتعديل الجدول الزمني بما يلائم ظروف كل حالة.
3. التركيز على المستفيدين من الإشراف وهم طلاب الحلقات، " فهم هدفنا" وذلك في كل خطواتنا الإشرافية ابتداءً من تحديد الأهداف إلى التخطيط والمتابعة، فإن المقصود الأول من كل عملية الإشراف هم الطلاب الذين نريد منهم أن يتخرجوا بمواصفات ومعايير قرآنية معينة.
4. تقدير مشاعر المعلمين والاستجابة لها، وتشجيع جميع العاملين على تطوير أنفسهم وتحسين مهاراتهم، بالوسائل والأساليب المتعددة لذلك عن طريق الدورات، أو الاطلاع على الكتب والنشرات.
5. سر نجاح الإشراف في تكوين علاقة إشرافية جيدة1..فينبغي عليك- أخي المشرف- أن تعمل في هذه المقابلة على إيجاد وتكوين علاقة طيبة بينك وبين من ستشرف عليه، وأن تسهم في تنمية العلاقة الإشرافية اللازمة لعملية التعليم بينكما، وأساس تمكين هذه العلاقة هو تقبلك لمن ستشرف عليه كما هو، وحسب قدراته ومستوياته العملية2.
6. الإيمان بكرامة العاملين والاعتراف بفروقهم الفردية، فإن ذلك من الفلسفة التي تقوم عليها علمية الإشراف.
7. التقييم والتقويم باستمرار.
8. فهم الجميع فهماً واضحاً لطبيعة العمل الذي يقومون به... وما هو المطلوب منهم بالتحديد.
9. إعداد دليل إرشادي للعاملين يسترشدون به في أعمالهم كلها، ويتضمن ذلك الدليل التعليمات الدقيقة لخطوات العمل، وكيفية استعمال الوسائل المتاحة لتطوير العمل، وتفتح الآفاق أمام الآخرين للإبداع والتحسين والتطوير.
10. الإشادة بالعمل الجيد، فالمشرف الناجح هو الذي يجيد توقيت إشادته بعمل من الأعمال -علناً-، وهو الذي يعلم أن من طبيعة النفس البشرية أنها تحب أن تمدح، وأن ذلك يزيد من الجهود المبذولة لتقديم أفضل النتائج.
11. النقد البناء للإنتاج الضعيف، ولأي خلل يحدث مهما كان صغيراً، دونما أي مجاملات أو اعتبارات سوى المحافظة على العمل القرآني، وتخريج أفضل المستويات، وذلك بأسلوب النصيحة وآدابها.
12. إتاحة الفرصة للمدرسين ليظهروا فيها كفاءاتهم، وبراعاتهم، وإبداعاتهم...فإتاحة الفرصة تكشف على القدرات الكامنة، والمشرف الناجح هو الذي يترك مساحة مرنة للمدرس للقيام بنشاط ذاتي، ثم يرقب هذه القدرات بطرف خفي، ويسجلها في سجلاته الخاصة.
13. العمل في جو عام مريح يبعث على الاستقرار والاطمئنان بعيداً عن القلاقل والمشكلات3. وغير ذلك من مبادئ الإشراف العامة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
00000000000
1 - راجع فن الإشراف صـ(30).
2 - المصدر السابق صـ(91) وما بعدها.
3 - انظر : " فن الإشراف على الحلقات والمؤسسات القرآنية صـ(29- 32).(/1)
مبارك للعروسين
الكاتب: فايز بن سالم السهلي الحربي
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أيها الأخ المبارك هذه وصايا أزفها إليك ، قطفتها من معين الكتاب والسنة ومن هدي سلف الأمة. وصايا لمن أراد الزواج ، جمعت فيها من الآيات ، ومن الأحاديث أصحها ، ومن الأبيات أعذبها ، ومن المواعظ أرقها ، أردت بها نصح أمتي ، هذه الأمة المباركة ، ليتبصر بها من أراد الزواج ، ويستنير بها من أراد النصح والإرشاد.
فهي وصايا موجزة ، ولمحات خاطفة ، وهدايا متواضعة ، لك أيها القارئ صفاؤها ، وعليَّ كدرها ، ولك غنمها وعليَّ غرمها.
وأخيراً ، فما كان صواباً فمن الله ، وما كان من خطأ أو زلل فمن نفسي والشيطان ، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والمعصوم من عصمه الله.
فاللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً ولا تحرمني أجرها.
اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أخوك الناصح لك
فايز بن سالم السهلي الحربي
28/ 8/ 18 4 1 هـ
ص ب: 7201 جدة 21462
نعم للزواج الشرعي ....... لا لحياة العزوبية
أخي المبارك..
اسمح لي بأن أهمس في أذنك بحديث يخصك ، نعم هو من شؤون حياتك وعلاقاتك الخاصة ، لكن لمَّا كان المسلم أخو المسلم لا يقف عن نصحه وإرشاده ، ولا يتردد في إنقاذه ما استطاع ، أريد أن أقول لك: لماذا تتأخر عن الزواج؟؟؟
لماذا تحرم نفسك الاستقرار؟؟؟
نعم أخي لقد حرمت نفسك من خير متاع الدنيا ، وكيف لا يكون الزواج من خير متاع الدنيا ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) يقول: « حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة » [صحيح الجامع: 3124]
وليت شعري أرضيت لنفسك العنوسة عن الزواج ، وأنت تعلم وتسمع قول الودود الرحيم سبحانه:-
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21].
نعم آيات لقوم يتفكرون في هذا الزواج الذي جعله الله سكناً ومودة ومحبة ورحمة ، فيا الله كم من المودة والمحبة والألفة والرحمة التي تكون في قلب كلا الزوجين ، ألم تر إلى الفتاة تكون في بيت أبيها لا تريد الخروج منه ، ثم ما أن تدخل بيت زوجها وتبدأ بينهما المودة والرحمة حتى يكون هذا العش الجديد السعيد أحب إليها من بيت أبيها.
ثم أخي ألم تسمع إلى قدوتنا وحبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حين نادى الشباب إلى الزواج وحثهم عليه فقال: « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » [صحيح ابن ماجه: 1495] وكيف أيها المحب لو علمت أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عاتب من عزف عن الزواج من أجل التعبد فضلاً عن ما يدّعيه بعض الشباب والفتيات من إكمال الدراسة ونيل الشهادات العليا ، فعن أنس -رضي الله عنه- أن نفراً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) قال بعضهم لا أتزوج ، وقال بعضهم أصلي ولا أنام ، وقال بعضهم أصوم ولا أفطر. فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: « ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ، لكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » [صحيح النسائي: 3016]
وقد يزداد الأمر سوء حينما يكون هذا العزوف من فتاة شابة وما ذلك إلا لإكمال الدراسات العليا وأخذ الوظيفة المثلى أو الحصول على فتى الأحلام الذي رسمته لنفسها ، إمَّا عن طريق أضغاث أحلام أو صور أفلام الغرام.
و ما تكون اليقظة منها إلا عندما يفوتها القطار أو بذهاب ريعان الشباب ، فكم نقرأ بين الحين والآخر في الصحف اليومية أو المجلات الدورية صرخات امرأة تقول:-
** خذوا شهاداتي ومعطفي وكل مراجعي ، وأسمعوني كلمة ماما
قالت إحداهن والبكاء يقطع أحشاءها:
لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة فقد قيل ، فما نالني من مقالها ..
فقل للتي كانت ترى فيَّ قدوة هي اليوم بين الناس يرثى لحالها ....
وكل مناها بعض طفل تضمه فهل ممكن أن تشتريه بمالها ....
أختاه ولو أن المرء منا يدرك ما يتمنى لقلت لك امض على ما تودين أن يكون لك ، لكن كما قال الشاعر:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فإن الصغير يكبر ، والجديد يقدم ويبلى ، والعمر يمضي ، والشيخوخة تقبل.
فاحذري أختي المسلمة حتى لا تقعي في شباك العنوسة ، وتندمي حين لا ينفع الندم.
وأخيراً أدعوك أخي الشاب وأختي الشابة أن نقول معاً بقلب قانع وصدر منشرح ، وعقل متزن:
نعم للزواج الشرعي..... لا لحياة العزوبية
من فوائد الزواج :(/1)
كم في الزواج من فوائد غفل عنها كثير من المسلمين ومنها:-
1- البعد عن الوقوع في الفواحش والمنكرات التي حرمها الله عز وجل ، فإن الشاب تتهيج غريزته مع فوران شبابه وطيشه فيكون عندها على خطر مقحم بل على استعدادٍ أن يقع في شباك الرذيلة والدعارة -إلا من رحم الله- فإذا تزوج أمن بإذن الله من ذلك ونجا بنفسه. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان فليتق الله في النصف الباقي » [صحيح الجامع: 6148]
2- الزواج مجلبةٌ للمال والرزق الحلال:
قد تقول وكيف يكون ذلك ومع الزواج تزداد المصاريف والنفقات ، مأكل ومشرب وإيجار منزل وغير ذلك مما يقصم الظهر ولا أستطيع حمله فكيف يكون الزواج مجلبة للمال.
أقول لك رويداً أيها المؤمن بقضاء الله وقدره ، واسمع إلى ما يقوِّي إيمانك ويهدئ من روعك.
قال الله عز وجل: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور: 32]
قال ابن عباس (رضي الله عنهما): " رغبهم في التزويج وأمرهم به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله" .
ولعلّي أن أهديك هذا الحديث المطمئن لقلبك والشادِّ لأسرك وهو قوله (عليه الصلاة والسلام): « ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف » [صحيح الجامع: 3050]
3- تكثير أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فبالكثرة تقوى الأمة وتهاب بين الأمم وتكتفي بذاتها عن غيرها إذا استعملت طاقتها فيما وجهها إليه الشرع المطهر. إضافة إلى تحقيق مباهاة النبي (صلى الله عليه وسلم) القائل: « تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم » [صحيح الترغيب: 1921]
وهناك الكثير الكثير من فوائد الزواج غير أني لم أذكرها مخافة الإطالة والسآمة عليك
راض بالقليل من غير عدلٍ علَّ القليل يرضي ويقنع
قبل الدخول في عش الزوجية..
هذه وصايا ونصائح إليك أخي قبل دخولك في عش السعادة والمودة ، عش الزوجية.......
أولاً: من هي زوجتك.....؟!
من هي الزوجة التي ستكون لك أنساً ومودةً ورحمة..؟!
من الزوجة التي ستكون حاملةً لهمومك وغمومك..؟!
من الزوجة التي ستكون أمينة سرك وحافظة عهدك..؟!
من الزوجة التي ستكون أمَّا وراعية لفلذات كبدك..؟!
من الزوجة التي ستكون معك فيما بقي من حياتك أو حياتها.؟ نعم إنها أسئلة تدور في أذن كل شاب يريد أن يبني بيته وعشه الذي يتمنى أن يكون عشاً عامراً بالسعادة والمحبة ولذيذ العيش.
حقاً لك أن تسأل هذه الأسئلة...
إليك هذا الدواء الشافي الكافي في باقةٍ عبقة قالها المصطفى (صلى الله عليه وسلم):
روى البخاري ومسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:« تنكح المرأة لأربع لمالها , ولحسبها ولجمالها , ولدينها , فاظفر بذات الدين تربت يداك » [صحيح الجامع: 3003]
فهل علمت من هي زوجتك التي تختار..!!
كلاَّ إنها ليست الغنية كثيرة المال ، وليست الجميلة الحسناء ، وليست صاحبة النسب العالي.
كلاَّ أخي كلاَّ..
فالغنى بلا دين ضياعٌ ومذلة
والجمال بلا دين تكبرٌ وفساد
والنسب بلا دين سرابٌ وزوال
وكم من الذين تعرفهم ونعرفهم بحثوا عن الغنى والجمال والحسب والنسب ولكنهم بعد فترة من الزمن انقلبوا خاسرين لحياتهم الزوجية.
وكم من الذين تزوجوا من ذات الدين فجمعوا السعادة تحت أطناب بيوتهم
من خير ما يتخذ الإنسان في دنياه كيما يستقيم دينه
قلبٌ شكورٌ ولسانٌ ذاكرٌ وزوجةٌ صالحةٌ تعينه
فهل علمت من هي الزوجة التي تختار؟؟
أخي وكما أن الزوج يبحث عن الزوجة الصالحة ومطالب بها ، فإنه يجب على وليِّ أمر المرأة أن يحسن اختيار الرجل المناسب لموليته.
وإنه لمن المؤسف أن يستحوذ السؤال عن المنصب والمكانة والوظيفة على ذهن الوليِّ ويتناسى الدين الذي لا يجوز التنازل عنه البتة. وليس اهتمامه بالأمور الأخرى مضر إلا إذا اقتصر عليها وتنازل عن رأس الأمر كله وهو الدين ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلاَّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير » [غاية المرام: 219]
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
رحمه الله..
عن أهم الأمور التي على أساسها تختار الفتاة زوجها فأجاب:.(/2)
(أهم الأوصاف التي ينبغي للمرأة أن تختار الخاطب من أجلها هي الخلق والدين ، أمَّا المال والنسب فهذا أمرٌ ثانوي لكن أهم شيء أن يكون الخاطب ذا دين وخلق ، لأنَّ صاحب الدين والخلق لا تفقد المرأة منه شيئاً إن أمسكهَا أمسكها بمعروف وإن سرَّحهَا سرَّحها بإحسان ثمَّ إنَّ صاحب الدين والخلق يكون مبارك عليها وعلى ذريتها تتعلم منه الأخلاق والدين ، أمَّا إن كان غير ذلك فعليها أن تبتعد عنه لاسيما بعض الذين يتهاونون بأداء الصلاة أو من عرف بشرب الخمر والعياذ بالله ، أمَّا الذين لا يصلون أبداً فهم كفار لا تحل لهم المؤمنات ولاهم يحلون لهن ، والمهم أن تركز المرأة على الخلق والدين. أما النسب فإن حصل فهذا أولى لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: « إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه » [إرواء الغليل: 1868], ولكن إذا حصل التكافؤ فهو أفضل).
وسأل رجلٌ ((الحسن البصري)) فقال: يا إمام عندي ابنة فلمن أزوجها ، فقال له: (زوجها التقي فإنَّه إن أمسكها برَّها وإن طلَّقها لم يضرَّها).
ثانيا: رؤيتك للمخطوبة...
.... « فإنَّه أحرى أن يؤدم بينهما »..
سئل سماحة الشيخ العلاَّمة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- عن عدم رؤية الزوج للمرأة قبل الدخول عليها ، وما هو تعليقه حول هذا الموضوع؟
فأجاب:-
(( لاشك أنَّ عدم رؤية الزوج للمرأة قبل النكاح ، قد يكون من أسباب الطلاق ، إذا وجدها خلاف ما وصفت له ، ولهذا شرع الله- سبحانه- للزوج أن يرى المرأة قبل الزواج ، حيث أمكن ذلك ، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): « إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل ، فإنَّ ذلك أحرى إلى أن يؤدم بينهما » ..
وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنه خطب امرأة ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): « انظر إليها فإنَّه أحرى أن يؤدم بينكما » [صحيح الترمذي: 868]
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً ذكر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنَّه خطب امرأة ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « أنظرت إليها؟ » [غاية المرام: 211]
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على شرعية النظر للمخطوبة قبل النكاح ، لأن ذلك أقرب إلى التوفيق وحسن العاقبة.
وهذا من محاسن الشريعة ، التي جاءت بكلِّ ما فيه صلاحٌ للعباد ، وسعادةٌ للمجتمع في العاجل والآجل ، فسبحان الذي شرعها وأحكمها! وجعلها كسفينة نوح ، من ثبت عليها نجا ومن خرج عنها هلك )).
أعلمت أخي فوائد النظر إلى المخطوبة قبل النكاح وكيف يجمع المودة بين الزوجين بعد الزواج ، ويكفيك أيها المسلم أن تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حثَّ على ذلك ورغَّب فيه ولكن يجب أن تعلم أنَّ النظر إلى المخطوبة لا يعني الخلوِّ بها والاجتماع بها عند غير أهلها أو المقابلة في الحدائق والمنتزهات أو الحديث عبر سماعة الهاتف ساعات تلو الساعات كلاَّ ثم كلاَّ لأنَّ مثل هذا دعوة للرذيلة والفاحشة وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة فإنَّ الشيطان ثالثهما » [مشكاة المصابيح: 3054]
ولك أن تتخيل حال رجل وامرأة التقيا على غير طريقة شرعية وكان الشيطان ثالثهما يأزهما إلى الحرام أزاً.
وبهذا نعلم خطأ الذين يجعلون من أيام الخطبة أيام للخلوِّ والنزهة ولربما للسفر والمتعة.
يقول ابن قدامة في كتابه المغني (ولا يجوز للخاطب الخلوة بالمخطوبة لأنَّها محرَّمة ، ولم يرد الشرع بغير النظر ، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور)
يزعم الذين انحرف بهم المسار عن دين الله وشرعه أنَّ مصاحبة الخاطب للمخطوبة ، والخلوة بها ، والسفر معها ، أمرٌ لابد منه لأنَّه يؤدي إلى تعرّف كلاً من الخاطبين إلى صاحبه.
من نظر في مسيرة الغرب في هذه المسألة وجد أنَّ سبيلهم لم يؤد التعارف والتآلف بين الخاطبين ، فكثيراً ما يهجر الخاطب خطيبته ، بعد أن يفقدها شرفها ، وقد يتركها ، ويترك في رحمها جنيناً تشقى به وحدها ، وقد ترميه من رحمها من غير رحمةٍ حتى الذين توصلهم الخطبة إلى الزواج كثيراً ما يكتشف كلٌ من الزوجين أنَّ تلك الخطبة الطويلة لم تكشف له الطرف الآخر. ذلك أنَّ كل واحد منهما كان يتكلف غير طباعه أثناء تلك الفترة حتى إذا استقر بهما المقام بالزواج عاد كل واحد منهما طباعه الحقيقية ، ولذلك يصاب كثير من الأزواج بصدمة بعد الزواج يشعر أنَّ الطرف الآخر قد مكر به.
والكشف عن أخلاق الطرف الآخر وطباعه يمكن التعرف عليها ممن جاوروا الفتاة وأهلها ، أومن عرفهم عن طريق الصداقة والقرابة.
فهل عرفت أخي المبارك كيف يكون النظر للمخطوبة على سنَّة خير الأنام (صلى الله عليه وسلم)؟.. إذا عرفت فالزم.
وأسأل الله أن يقرَّ عينك وييسر لك أمرك.
ثالثا:- لا تخطب على خطبة أخيك المسلم...(/3)
اعلم بارك الله فيك أنه لا يجوز لك أن تخطب على خطبة أخيك المسلم فقد نهاك المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عن هذا فقال: « لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك » [إرواء الغليل: 1816]
فاحذر أيها الخاطب أن تخطب أو تهمس إلى امرأة قد خطبها رجلٌ قبلك حتى ينكح ، فتبارك له ، ويعوضك الله خيراً منها إن شاء الله ، وإن تركها فعند ذلك إن أردت خطبتها فتقدم لها واسأل الله التوفيق والصلاح.
رابعاً:- إياك ثم إياك...
إنَّ من الخطأ الجلل الذهاب إلى الكهَّان والعرَّافين والمنجَّمين وضاربي الودع والرمل من قبل الخاطب أو المخطوبة ، لمعرفة نجم الخاطب أو المخطوبة ، ولكشف سر هذا الزواج وما يحدث بعده ، فإن ذكر له أن فيه خير قدم على الزواج وإن كان العكس أحجم عنه. ونسي هؤلاء الجهلة دعاء الاستخارة الشرعية التي علمنا إيَّاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعلِّم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن. [صحيح أبي داود: 1361]
وفات أولئك الجهلة أنَّه لا يجوز الذهاب إلى السحرة والكهَّان والعرَّافين ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « من أتى كاهناً أو عرَّافاً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد » [شرح الطحاوية: 768], وقال أيضا: « من أتى كاهنا فسأله عن شيءٍ لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة »
فاحذر أيها الأخ المبارك أن تتبع أهواء المضلِّين عن سبيل الله.
خامسا:- عادةٌ سيئةٌ منتشرة...
لا شك أيها الخاطب أنَّ العادات والتقاليد منها ما هو حسن ، وطيب, وموافق لهدي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فهذا لا بأس به إن شاء الله. ومنها ما هو مخالفٌ لهدي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فهذا معلوم حرمته عند من أراد النجاة يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
ومن هذه العادات المنتشرة بين بني الإسلام وللأسف هي:-
خاتم الخطبة (الدبلة):
وهي عادة من عادات النصارى القديمة ، حيث كان العريس يضع الخاتم على رأس إبهام العروسة اليسرى ، ويقول: باسم الأب ، فعلى رأس السبابة ويقول: باسم الابن ، فعلى رأس الوسطى ، فيقول: باسم روح القدس ، وأخيراً يضعه في البنصر -حيث يستقر- ويقول: آمين.
والعجيب أنَّ هناك من المسلمين من أصبح يقلِّدهم في لبس هذه الدبلة.
بل إنَّ بعض الناس يعتقد أنَّ أمر العقد مرتبط بهذه الدبلة ، فإن أبقاها بقيت زوجته ، وإن نزعها نزع زوجته من عصمته. ومنهم من إذا سألته: (هل أنت متزوج..؟) قال لك: (انظر إلى الدبلة إنَّها في اليسرى). والآخر يقول لك: (انظر إلى الدبلة إنَّها في اليمنى فأنا خاطب).
فقل لي من أين أتوا بهذه الدبلة والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: « من تشبَّه بقوم فهو منهم » [صحيح الجامع: 6149] ونهى أن نحدث في دين الله ما لم يشرع فقال: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [صحيح ابن ماجه: 14]
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-:- ما حكم لبس ما يسمى بالدبلة في اليد اليمنى للخاطب واليسرى للمتزوج ، علماً أنَّ هذه الدبلة من غير الذهب؟
فأجاب: ( لا نعلم لهذا العمل أصلاً في الشرع ، والأولى ترك ذلك سواء كانت من الفضة أو غيرها لكن إذا كانت من الذهب فهي حرام على الرجل لأنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن التختم بالذهب ) [صحيح الجامع:6869]
خير الصداق أيسره
سئلت عائشة كم كان صداق نساء النبي (صلى الله عليه وسلم), قالت: "صداقه في أزواجه اثنتي عشرة أوقيه ونشا , هل تدري ما النش؟ هو نصف أوقية وذلك خمس مائة درهم" [صحيح ابن ماجه:1531]
وعن أبي العجفاء ، واسمه هرم بن نسيب ، قال: سمعت عمر يقول: ((لا تغلوا صداق النساء فإنَّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ما أصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته ، أكثر من اثنتي عشرة أوقية)).
وكما هو معروف ، الأوقية أربعون درهم ، والدرهم الإسلامي مقداره ربع ريال سعودي ، فخمسمائة درهم مجموعها مائة ريال سعودي فضة وخمسة وعشرون ريالاً. هذا هو مقدار صداق الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه وبناته.
والله سبحانه يقول:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21]
فالمغالاة في الصداق ليست مكرمة في الدنيا ، ولا تقوى في الآخرة ، بل إسراف والله لا يحب المسرفين.
وعن أنس -رضي الله عنه- أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم ) رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال ما هذا أو مه فقال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب, فقال: « بارك الله لك أولم ولو بشاة » [صحيح ابن ماجه: 1548](/4)
هذا صداق عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ، مع العلم أنَّه من أغنياء الصحابة ، والمراد بالنواة ، هي نواة التمر ، وقدَّرها بعض العلماء بربع دينار ، والدينار أربع أسباع جنيه سعودي ، وربع الدينار قيمته خمسة دراهم ، والدراهم الخمسة ، هي ريال وربع ريال سعودي من الفضة ، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «خير الصداق أيسره» [صحيح الجامع: 3279].
فيا سبحان الله العظيم أين هذه الأمثلة العالية الرفيعة مما يسمع في هذا الزمن من التنافس في غلاء المهور ، وكسر ظهور الشباب الذين يريدون الزواج من أجل العفاف؟
رجلٌ يطلب لابنته مهراً بمئات الآلاف ، وآخر يشترط لنفسه سيارة أو منزلاً ، وغيرها من الشروط التي تنفِّر الشاب من الزواج ، حتى إذا تزوج تحمَّل بالديون الثقال إلى سنين طوال بل إن بعضهم يبلغ ولده إلى سن الحلم وهو حتى الآن لم ينته من تلك الديون. والله المستعان.
وهذا سؤال أوجِّهه إلى كل وليِّ أمر ولاَّه الله رعاية أمة من إمائه فأقول:
هل تريد أن تكون حياة ابنتك بعد الزواج مع زوجها ، حياةً سعيدة ، بعيدةً عن هم الديون والفقر؟.
أم تريد أن تكون حياتها بعد الزواج مع زوجها ، حياةً ممتلئةً بالأحزان والهموم ، والمطالبة بالديون ، بل ربما حاول زوجها الانفصال عنها حتى يسدد الديون التي كانت من وراء زواجه منها؟
لاشك ولا ريب أنَّ الأب الحنون المؤمن بالله والسائر على سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يريد إلاَّ الحياة السعيدة المطمئنة ، لابنته ولزوجها.
فإذا كان هذا فاتبع هدي الحبيب (صلى الله عليه وسلم) في صداق ابنتك وكن كما قال (صلى الله عليه وسلم): « يسِّروا ولا تعسِّروا » [صحيح الترغيب: 2674]
وإليك هذه القصة التي سجلها التاريخ ، وتحدث الناس بها ، إنها قصة ذلك العالم الجليل ، النقيِّ التقيِّ ، سيد التابعين ، وفقيه المدينة النبوية ، إنه سعيد بن المسيب (رحمه الله).
( قال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته ، على درهمين لكثير بن أبي وداعة ، وكانت من أحسن النساء ، وأكثرهم أدباً ، وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وأعرفهم بحق الزوج ، وكان زوجها فقيراً فأرسل إليه خمسة آلاف ، وقيل بعشرين ألفاً وقال: استنفق هذه ، وقد كان عبد الملك خطبها لابنه الوليد فأبى سعيدٌ أن يزوجه بها ).
فرحم الله سعيد بن المسيب فإنَّه لم يزوِّج ابنته من أجل المال والرياء والسمعة ، وإنما زوجها من أجل الدين والستر والأخلاق الفاضلة والاستقامة ، وهكذا ينبغي أن يزوج الأولياء مولياتهم إن كانوا رجالاً مؤمنين ناصحين.
وقد سئل فضيلة الشيخ العلاَّمة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- ، فيمن يغالون في المهور ويطلبون عند تزويج بناتهم مبالغ كبيرة إضافةً إلى المشترطات الأخرى... فهل هذه الأموال حلال أم حرام؟
فأجاب:- ( المشروع تخفيف المهر وتقليله وعدم المنافسة في ذلك عملاً بالأحاديث الكثيرة الواردة في ذلك ، وتسهيلاً للزواج ، وحرصاً على عفة الشباب والفتيات ، ولا يجوز للأولياء اشتراط أموال لأنفسهم لأنه لاحق لهم في ذلك ، بل الحق للمرأة وحدها إلاَّ الأب خاصة فله أن يشترط مالا يضرّ بالبنت ولا يعيق تزويجها ، وإن ترك ذلك فهو خيرٌ له وأفضل ، وقد قال تعالى: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور: 32]
وقال (صلى الله عليه وسلم) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- : « خير الصداق أيسره » [صحيح الجامع: 3279].
وقال (صلى الله عليه وسلم) لمَّا أراد أن يزوج أحد أصحابه ، امرأةً وهبت نفسها له (صلى الله عليه وسلم): « التمس ولو خاتماً من حديد » فلمَّا لم يجد زوَّجه إيَّاها على أن يعلَّمها من القرآن سوراً عدّدها الخاطب. [صحيح أبي داود: 1856]
وكانت مهور نسائه (صلى الله عليه وسلم) خمسمائة درهم تعادل اليوم مائة وثلاثين ريالاً تقريباً. ومهور بناته أربعمائة درهم تعدل اليوم مائة ريال سعودي تقريباً ، وقد قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب من الآية: 21] وكلما كانت التكاليف أقل وأيسر سهل إعفاف الرجال والنساء وقلَّت الفواحش والمنكرات وكثرت الأمة.
وكلَّما عظمت التكاليف وتنافس الناس في المهور قلَّ الزواج وكثر السفاح وتعطل الشباب والفتيات إلاَّ من شاء الله.
فنصيحتي لجميع المسلمين في كلِّ مكان تيسير النكاح وتسهيله والتعاون في ذلك والحذر كل الحذر من المطالبة بالمهور الكثيرة والحذر أيضاً من التكاليف في الولائم والاكتفاء بالوليمة الشرعية التي لا تكلِّف الزوجين كثيراً أصلح الله حال المسلمين جميعاً ووفقهم للتمسك بالسنة في كلِّ شيء.
في صالة الأفراح(/5)
لا شك أن للزواج فرحته وبهجته ، وللزواج قيمته ونعمته ، وقد جاءت الشريعة الغرَّاء المطهرة لتقرير هذه الحقيقة ولتجعل من ليلة الزفاف ليلة سعادةٍ وأنسٍ ومحبة ، في حدود ما سنَّه لنا خير المرسلين صلى الله عليه وسلم.
فليس الإسلام الذي يمنعك من التمتع في ليلة عرسك وفرحتك. وليس الإسلام الذي يجعل من ليلة عرسك ، ليلةً جامعةً للأحزان.
وأيضاً...
ليس الإسلام الذي يبيح لك أن تقترف ما تشاء من المعاصي والآثام ، بحجة أن هذه هي ليلة الأفراح.
أخي إنَّ هذا الزواج قائم على أمر شرعي منذ التقدم للخطبة إلى أن يشهر الزواج بل وحتى بعد الزواج. فإذا علمت هذا بارك الله فيك فاعلم أيضاً أنَّ الوليمة التي تقام لهذا الزواج يجب أن تكون على ما يحبه الله ويرضاه ، حتى يبارك للعروسين في زواجهما وفي ذريتهما.
فإليك هذه الوصايا والنصائح من هدي الحبيب (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم- في وليمة العرس ، مع ذكر بعض المنكرات الواردة في هذا العصر داخل صالات الأفراح على سبيل الإيجاز لا الحصر والله المستعان:
أولاً: الدعوة إلى الوليمة...
من تدعو إلى حفل عرسك...؟
هل ستدعو الأغنياء والوجهاء.. وتنسى الفقراء والمساكين.. ولربما تقول لماذا أدعو الفقراء والمساكين ، وما الذي أستفيد وأرجو من ورائهم?
أقول لك تذكر قول حبيبك (صلى الله عليه وسلم) حينما قال: « شرّ الطعام طعام الوليمة , يدعى إليها الأغنياء ويترك المساكين , ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله » [صحيح الترغيب:2152]
فهل تريد أن يكون حفل عرسك من شرِّ الطعام.....
ولا تنس دعوة الصالحين من عباد الله أغنياءً كانوا أو فقراء فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « لا تصاحب إلاَّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاَّ تقيِّ » [صحيح أبي داود: 4045]
و احذر أيها الأخ الكريم من التكلِّف والمباهاة في كروت الدعوة حتى أنَّ هناك من الناس من يطبع كرت عرسه وفرحه بمئات الريالات ، ونسي أنَّ هذا الفعل من الإسراف والتبذير.
إذاً أخي بارك الله فيك ادعُ من شئت من أحبابك وخلاَّنك وأقربائك وجيرانك. ولكن احذر التبذير وطرد المساكين.
وينبغي عليك البعد عن استئجار قصور الأفراح الغالية التي ترهقك بكثرة أسعارها ، والاقتصار على مكانٍ آخر لا يكلِّف كثيراً ، و احذر بارك الله فيك من الرياء والسمعة في كلِّ ذلك فقد قال (صلى الله عليه وسلم): « من سمَّع سمَّع الله به ، ومن يرَاء يراء الله به » [صحيح الترغيب: 26]
ثانياً: لا تسرف في طعام الوليمة...
إنَّ مما يحزن ما نراه في كثير من الحفلات من الإسراف والتبذير في المأكولات والمشروبات. وليت شعري هل هذا الإسراف فيه شهامةٌ وكرامةٌ أو نخوةٌ وأصالة ، كلاَّ وربي ، بل فيه سخطٌ وندامةٌ ، ومحاسبةٌ وإهانة.
عجيبٌ حال أمتنا بعد أن كنَّا جياعاً لا نجد ما نأكل ، منَّ الله علينا فأغدق علينا نعمه ظاهرةً وباطنة ، فيا ليتنا صنَّا هذه النعمة وحفظناها ، ولكن أصبح الكثير منَّا يتفاخر بالإسراف فيها فالله المستعان.
فاحذر أخي من الإسراف في حفل عرسك ، واصنع من الطعام قدر الكفاية لمن دعوت ، واحذر أخي من سخط الله وعقابه ، ولا أظنه يخفاك قول الباري عز وجل: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف من الآية: 31], وقوله: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } [الإسراء: 27]
ثمَّ إن كان هناك فائضٌ من الطعام بغير قصدٍ منك ، فاصرفه على المساكين والفقراء ، أو إلى الجمعيات الخيرية لجمع الفائض من الطعام.
ثالثاً: كيف تحيي ليلة العرس..
لا بأس من إظهار الفرح والسرور في ليلة العرس , وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « فصل ما بين الحلال والحرام الدفّ والصوت في النكاح » [صحيح ابن ماجه: 1538], وعن عائشة أنَّها زفت امرأة إلى رجلٍ من الأنصار فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): « يا عائشة ما كان معهم من لهو؟ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو » [غاية المرام: 397]
وإلى مزيدٍ من الإيضاح ، استمع إلى كلام مفتي عام المملكة العربية السعودية ، سماحة الشيخ العلاَّمة: عبد العزيز بن باز -يرحمه الله- ، حيث قال في هذه القضية:-
( أمَّا الزواج فيشرع فيه ضرب الدفِّ مع الغناء المعتاد الذي ليس فيه دعوةٌ إلى محرَّمٍ ولا مدح لمحرَّم في وقتٍ من الليل للنساء خاصة لإعلان النكاح والفرق بينه وبين السفاح كما صحَّت بذلك السنة من النبي صلى الله عليه وسلم.
أمَّا الطبل فلا يجوز ضربه في العرس بل يكتفى بالدفِّ خاصة. ولا يجوز استعمال مكبرات الصوت في إعلان النكاح ويقال فيه من الأغاني المعتادة لما في ذلك من الفتنة العظيمة والعواقب الوخيمة وإيذاء المسلمين.(/6)
ولا يجوز أيضاً إطالة الوقت في ذلك بل يكتفى بالوقت القليل الذي يحصل به إعلان النكاح لأنَّ إطالة الوقت تفضي إلى إضاعة صلاة الفجر والنوم عن أدائها في وقتها وذلك من أكبر المحرَّمات ومن أعمال المنافقين) أ. هـ.
والملاحظ هنا أنَّ إحياء الزواج إنَّما يكون بالدفِّ وأنَّه خاصٌ بالنساء ، خالي من كلام الفحش , والرذيلة ، نقيٌّ من الغيبة والنميمة ، ولا يكون في أوقاتٍ طويلةٍ وساعاتٍ متأخرةٍ من الليل.
ولكن الذي نراه هذه الأيام في كثيرٍ من الأفراح شيئاً عجيباً.. توضع مكبرات الصوت ، ويؤتى بالمطربات ومعهنَّ الطبول والمزامير والعود ، وإذا تعبت المطربة وتعب صوتها فإنَّ إلى جانبها آلة التسجيل تفتحها وتضع الموسيقى والغناء ، ناهيك عن رقص النساء الكاسيات العاريات ، وقد حرَّم الله سبحانه وتعالى المزامير وحرَّم آلات الطرب فقال عز وجل: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ*وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان: 6, 7], يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حينما سئل عن هذه الآية : (الغناء ، والذي لا إله إلاَّ هو ، يرددها ثلاث مرات). وقال قتادة عن هذه الآية: (والله لعله لا ينفق فيه مالاً ، ولكن شراؤه استحبابه ، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وما يضرّه على ما ينفعه).
فأين من يقول إذا نصح عن جلب الغناء والمزامير في ليلة عرسه قال بقلبٍ قاسي:
(أتريد أن يكون فرحنا عزاءً)
فيا سبحان الله أ أصبح من يتمسك بما أمر الله به ويتجنب سخط الله أصبح فرحه عزاءً؟!
إذاً فماذا نقول في عرس صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل قبلهم عرس رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
أخي والله إنَّ العزاء والتعاسة فيمن لوَّث ليلة عرسه بهذه المنكرات ، ولا تكون هذه المقولة إلاَّ ممن انتكست فطرته وقلَّت مخافة الله في قلبه.
فاحذر أيها المؤمن بأحكام الله من أن تلوث ليلة عرسك بهذه المنكرات ومزامير الشيطان ، سواءً عند الرجال أو عند النساء.
وأسأل الله العليَّ العظيم أن يهدي قلوبنا وينوِّر صدورنا.
رابعاً: منكرٌ عظيمٌ وقبيح...
و احذر من أن تتبع أقوال الوشاة والمقلِّدين الذين يجرون وراء كلَّ ناهقةٍ وناعقة ويطالبون بأشياءٍ وتقاليدٍ تخالف عاداتنا وتقاليدنا وما مضى عليه آباؤنا من الحياء والغيرة فضلاً عمَّا يأمرنا به ديننا الحنيف من التعفف والحياء ، ولعلَّ من هذه المنكرات ، منكرٌ عظيمٌ وقبيح تتقذر منه النفوس المؤمنة لله وترفضه النفوس التي تربَّت على الشهامة والحياء والشجاعة والغيرة على المحارم. وهي ما تسمى (بالمنصة أو الزفة) حيث يخرج الرجل مع عروسه ليلة عرسه أو يجلس بجوارها مع رجالٍ ونساء أو نساءٍ فقط من غير محارمهم. لينظر الرجال إلى العروس وجمالها ، وينظر النساء إلى العريس وابتساماته. مما يزيد الطينة بلة أن يقف الرجل مع عروسه بين النساء وهنَّ من غير محارمه فينظر إليهنَّ وهنَّ يرقصن ويتمايلن ويغنين ولربما كنَّ كاشفات عن عوراتهنَّ بلباس الخنا والفجور لباسٌ خالي من المروءة والشيم. أضف إلى ذلك التصوير الذي يكشف عورات نساء المسلمين.
فقل لي بربك أيها المؤمن الغيور:
أين الحياء عند مثل هذه الحال...
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- :
(( ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمن وضع منصةٍ للعروس بين النساء ويجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات المتبرجات وربما حضر معه غيره من أقاربه أو أقاربها من الرجال ، ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير وتمكِّن الرجال الأجانب من مشاهدة الفتيات المتبرجات وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة. فالواجب منع ذلك والقضاء عليه حسماً لأسباب الفتنة وصيانةً للمجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المطهر )) أ. هـ .
أخي المقبل على الزواج والله ما أظنك إلا رجلاً غيوراً على عرضك وأعراض المسلمين محباً للحياء كارهاً لأعمال أهل السفور...
إذاً فلا تتبع مثل هذه المنكرات وحارب أهلها. وفقك الله لما يحبه ويرضاه.
في مخدع العروس...
وهنا ندخل معك أخي الكريم إلى قفصك الذهبي كما يقال. ولهذا أهدي إليك هذه الوصايا عسى أن تتذكرها عند دخولك على عروسك وهي نابعةٌ من منهل الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة رحمهم الله.
أولاً: ملاطفة الزوجة والأنس معها:(/7)
وذلك لما فيه من تآلف القلوب وانشراح الصدور وذهاب القلق والروع ويكفي في ذلك أن يكون لنا أسوة حسنة في قدوتنا وحبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث تقول أسماء بنت يزيد بن السكن: (إنِّي قيَّنت ((أي: زيَّنت )) عائشة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم جئته فدعوته لجلوتها ((أي: للنظر إليها مجلّوة مكشوفة)) فجاء ، فجلس إلى جانبها ، فأتى بعس لبن ، فشرب ، ثم ناولها النبي (صلى الله عليه وسلم) فخفضت رأسها واستحيت ، قالت أسماء: فانتهرتها ، وقلت لها: خذي من يد النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: فأخذت ، فشربت شيئاً ، ثم قال لها النبي (صلى الله عليه وسلم): « أعطي تربك » ((أي: صديقتك )) قالت أسماء فقلت بل خذه فاشرب منه ثم ناولنيه من يدك ، فأخذه فشرب منه ثم ناولنيه ، قالت: فجلست ، ثم وضعته على ركبتي ، ثم طفقت أديره واتبعه بشقي لأصيب منه شرب النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم قال لنسوةٍ عندي: ناوليهن ، فقلن: لا نشتهيه! فقال (صلى الله عليه وسلم): « لا تجمعن جوعا وكذبا ».
أخي .. تكون الملاطفة أيضاً بالحديث والمناقشة والضحكة والابتسامة لطرد الوحشة وإدخال الألفة.
ثانياً: لا تنسى الدعاء بمثل هذا...
وهو أن يدعو الله عز وجل بالبركة ، وذلك بأن يضع يده على مقدمة رأسها ، ويسمي الله تبارك وتعالى ، ويقول ما جاء في قوله (صلى الله عليه وسلم): « إذا أفاد أحدكم امرأةً أو خادماً أو دابة ، فليأخذ بناصيتها ، وليدع بالبركة. وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها ، وخير ما جبلت عليه ، وأعوذ بك من شرِّها ، وشرِّ ما جبلت عليه » [صحيح الجامع: 360]
ثالثاً: ابدأ حياتك الزوجية بالصلاة:
لا بأس أن تصلي مع زوجتك ركعتين ، وهذا منقول عن بعض السلف رحمهم الله. وذلك لما فيه من الألفة وجمع الشمل. فعن شفيق قال: جاء رجلٌ يقال له: أبو حريز ، فقال إنِّي تزوجت جاريةً شابةً بكر إنِّي أخاف أن تفركني ، فقال عبد الله بن مسعود: (إن الإلف من الله ، والفرك من الشيطان ، يريد أن يكرِّه إليكم ما أحلَّ الله لكم ، فإذا أتتك فأمرها أن تصلي وراءك ركعتين)
وروي أن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- تزوج امرأة ، فلما دخل عليها وقف على بابها ، فإذا هو بالبيت مستور فقال: ما أدري أمحمومٌ بيتكم أم تحوَّلت الكعبة إلى كندة؟ والله لا أدخل حتى تهتك أستاره!
فلما هتكوها... دخل... ثم عمد إلى أهله فوضع يده على رأسها... فقال: هل أنت مطيعتي رحمك الله؟ قالت قد جلست مجلس من يطاع ، قال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لي: « إن تزوجت امرأة فليكن أول ما تلتقيان على طاعة الله » فقومي فلنصل ركعتين ، فما سمعتني أدعو فأمِّني ، فصليا ركعتين وأمَّنت ، فبات عندها ، فلما أصبح ، جاءه أصحابه ، فانتحاه رجلٌ من القوم ، فقال: كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنه ، ثم الثاني ، ثم الثالث ، فلمَّا رأى ذلك صرف وجهه إلى القوم وقال: رحمكم الله ، فيما المسألة عما غيبت الجدران والحجب والأستار؟! بحسب امرئ أن يسأل عمَّا ظهر ، إن أخبر أو لم يخبر.
رابعاً: ما يقال حين الجماع:
هذه الكلمات إن قلتها قبل جماعك أهلك ، وكتب الله بينكما ولداً لم يضرَّه الشيطان أبداً. وهي:
« بسم الله, اللهمَّ جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا »
قال (صلى الله عليه وسلم): « فإنَّه إن قضي بينهما ولد من ذلك لم يضرَّه الشيطان أبداً » [صحيح الجامع: 5241]
وصية أمٍ لابنتها في ليلة زفافها...
قالت أمٌ لابنتها وهي في ليلة دخلتها:
أي بنية: إنَّ الوصية لو تركت لفضل أدبٍ لتركت ذلك لك ، ولكنَّها تذكرةٌ للغافل ومعونةٌ للعاقل ، ولو أنَّ امرأةً استغنت عن الزوج لغنى أبويها ، وشدة حاجتهما إليها ، كنت أغنى الناس عنه ، ولكنَّ النساء للرجال خلقن ولهنَّ خلق الرجال.
أي بنية: إنَّك فارقت الجوَّ الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت ، إلى وكرٍ لم تعرفيه ، وقرينٍ لم تألفيه ، فأصبح عليك رقيباً ومليكاً ، فكوني له أمةً يكن لك عبداً وشيكاً ، واحفظي له خصالاً عشراً ، يكن لك ذخراً...
أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة ، وحسن السمع والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ، ولا يشمَّ منك إلاَّ أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه ، فإنَّ تواتر الجوع ملهبةً ، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله ، والارعاء على حشمه وعياله ، وملاك الأمر في المال حسن التقدير ، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمراً ولا تفشي له سراً ، فإنَّك إن خالفت أمره أوغرت صدره ، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره..
ثمَّ إيَّاك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً ، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً.
مسك الختام(/8)
وفي نهاية المطاف وقبل الوداع ، أقول لك إن كنت تريد الحياة الزوجية السعيدة ، تريد الاستقرار وراحة البال ، تريد ذريةً صالحةً تحمل بعد الممات الدعوة الصالحة.
تريد أن تجمع السعادة تحت أطناب بيتك فعليك بتقوى الله عز وجل ومراقبته في كل صغيرةٍ وكبيرة ومعرفة ما لك وما عليك من حقوقٍ وواجبات.
فمن اتقى الله وقاه وكفاه وزاده عزاً في الدنيا والآخرة.
أما إذا أردت أن تعشش التعاسة في بيتك ، وتفرخ ، فاعص الله!!!
أخي إنَّ المعاصي تهلك دولاً وشعوباً , وتزلزل محيطاتٍ وقارات ، فلا تجعلها تدمر بيتك وتحرق سعادتك.
وقد كان أحد السلف الصالح يقول: (والله إنِّي لأرى أثر المعاصي على دابتي وزوجتي).
فاتق الله في أهلك وكن عونا لهم على طاعة الله وكن عند قول الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }. [التحريم: 6]
قال ابن كثير : أي تأمر نفسك وأهلك من زوجةٍ وولدٍ وإخوانٍ وقرابةٍ وإماءٍ وعبيد بطاعة الله. وتنهى نفسك وجميع من تعول ، عن معصية الله تعالى. وتعلِّمهم وتؤدِّبهم ، وأن تقوم عليهم بأمر الله ، وتأمرهم به وتساعدهم عليه. فإذا رأيت لله معصيةً ، قذعتهم وزجرتهم عنها. وهذا حقٌ على كلِّ مسلمٍ أن يعلِّم من هم تحت إمرته ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه.
فأوصيك أخي أن تتقي الله وتحافظ على أوامره وتجتنب نواهيه.
وأسأل الله العلي القدير أن يجمع لك شملك ويجعل التوفيق والرشاد حليفك
وبارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسول الله.
... هذه المقالة من موقع :إذاعة طريق الإسلام
http://www.islamway.com
عنوان هذه المقالة :
http://www.islamway.com/ara/articles.php?article_id=243 ...(/9)
متى تفسد صلاة الإمام دون المأموم؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
فهناك مسائل ذكرها العلماء في باب الإمامة والائتمام تبين الأحوال التي تفسد فيها صلاة الإمام دون المؤتم وتجب عليه إعادة التي صلاها، وكذلك الأحوال التي تفسد فيها صلاة الجميع، وتجب عليهم الإعادة جميعاً، وإليك تفصيل ذلك كما ورد عن علماء الإسلام -عليهم رحمة الله-:
قال الأحناف: إن كان بالإمام حدث أو جنابة أو مفسد للصلاة سابق على تكبيرة الإمام، أو مقارن لتكبيرة المقتدي، أو سابق عليها بعد تكبيرة الإمام، بطلت صلاة الإمام والمقتدي، لتضمن صلاة الإمام صلاة المؤتم صحة وفساداً، أي أن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي، فإذا صحت صلاة الإمام صحت صلاة المقتدي، إلا لمانع آخر، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه متى فسد الشيء فسد ما في ضمنه، فمن اقتدى بإمام ثم علم المقتدي أن الإمام على غير وضوء، أعاد الصلاة اتفاقاً؛ لظهور بطلانها.
أما لو طرأ المفسد أو خلل الشرط أو الركن فإن الصلاة تنعقد أولاً، ثم تبطل صلاة الإمام عند وجود الخلل أو الحدث مثلاً، ولا يعيد المقتدي صلاته، كما لو ارتد الإمام، أو سعى إلى الجمعة بعد ما صلى الظهر بجماعة، فسدت صلاته فقط.
وكذا لو عاد إلى سجود التلاوة بعدما تفرق المقتدون، ولو سلم القوم قبل الإمام بعدما قعد قدر التشهد، ثم عرض له الحدث، فإنها تبطل صلاته وحده.
ففي هذه المسائل تفسد صلاة الإمام، وتصح صلاة المؤتم، ولا تنتقض القاعدة السابقة (صلاة الإمام متضمنة لصلاة المؤتم) بذلك؛ لأن هذا الفساد طارئ على صلاة الإمام بعد فراغ الإمامة، فلا إمام ولا مؤتم في الحقيقة.
وقال المالكية: إذا صلى الإمام بجنابة أو على غير وضوء بطلت صلاته اتفاقاً في العمد والنسيان، وتبطل صلاة المأموم في العمد دون النسيان.
وقال الشافعية: إذا بان أن الإمام امرأة أو كافراً وجب على المقتدي إعادة الصلاة؛ لأنه مقصر بترك البحث عن الإمام الصالح؛ ولعدم أهلية الإمام للإمامة.
أما لو بان كون الإمام جنباً أو محدثاً أو ذا نجاسة خفية في ثوبه أو بدنه فلا تجب على المقتدي إعادة الصلاة لانتفاء التقصير، إلا في الجمعة إذا كان المصلون مع الإمام أربعين فقط مع المحدث أو ذي النجاسة. وتجب الإعادة على المقتدي إذا كانت النجاسة ظاهرة؛ لتقصيره في هذه الحالة. والنجاسة الظاهرة: ما تكون بحيث لو تأملها المأموم لرآها. والخفية بخلافها.
وقال الحنابلة: إذا بان أن الإمام امرأة أو كافراً وجبت إعادة الصلاة على المؤتم، كما قال الشافعية؛ إذ تمتاز المرأة بالصوت والهيئة وغيرهما، والكفر لا يخفى غالباً، فالجاهل بذلك مفرط.
ولا تصح إمامة محدث أو متنجس يعلم ذلك؛ لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة، فأشبه المتلاعب، ويجب على المقتدي في حال علم الإمام بحدثه أو نجسه أن يعيد صلاته، وإن كان جاهلاً بحال الإمام. أما لو كان الإمام جاهلاً بالحدث أو النجس، وكذلك المأمومون يجهلون ذلك حتى قضوا الصلاة فتصح صلاة المأموم وحده، دون الإمام؛ للحديث الوارد: (إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم).1
وعليه إذا صلى الإمام بالجماعة محدثاً أو جنباً غير عالم بحدثه، فلم يعلم هو ولا المأمومون حتى فرغوا من الصلاة فصلاتهم صحيحة اتفاقاً، وصلاة الإمام باطلة.2
فهذا ما ذكره العلماء بشأن اختلال صلاة الإمام وتأثيرها عليه وحده، أو عليه وعليهم؛ وبيان الأسباب في ذلك، وهي من المسائل التي تحتاج إلى اهتمام من قبل المسلم؛ إذ أنها تتعلق بصحة صلاته أو بطلانها، فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والمحافظة عليها وعلى قبولها دليل على قوة الإيمان..
والخلاصة أن الصلاة خلف المحدث أو المتنجس تصح بشرط أن يكون الإمام والمأموم جاهلين بذلك حتى تتم الصلاة .
وذلك لأنهم كانوا جاهلين فهم معذورون بالجهل وليس بوسعهم ولا بواجب عليهم أن يسألوا إمامهم هل أنت على وضوء أو لا ؟ وهل عليك جنابة أو لا؟ فإذا كان هذا لا يلزمهم وصلى بهم وهو يعلم أنه محدث فكيف تبطل صلاتهم ؟!!
وههنا قاعدة مهمة جداً وهي " أن من فعل شيئاً على وجه شرعي صحيح بمقتضى الدليل الشرعي، فإنه لا يمكن إبطاله إلا بدليل شرعي" لأننا لو أبطلنا ما قام الدليل على صحته لكان هذا قولاً بلا علم على الشرع. وإعناة للمكلف ومشقة عليه فهم فعلوا ما أمروا به من الإقتداء بهذا الإمام ولم يكلفوا به فإنه لا يلزمهم حكمه.(/1)
وعلى هذا فالصحيح أن صلاة المأمومين مع جهلهم بحاله صحيحة بكل حال حتى وإن كان الإمام عالماً؛ لأنه أحيانا ً يكون الإمام محدثاً ويستحي أن ينصرف وهذا حرام عليه ولاشك، لكن قد تقع من بعض الجهال، فإذا ذكر الإمام في أثناء الصلاة أنه محدث، أو علم أنه محدث وجب عليه الانصراف ويستخلف من يكمل بهم الصلاة؛ لن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، غلام المغيرة، بعد أن شرع في صلاة الصبح ، تناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة وهذا بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، إن لم يفعل وانصرف، فللمأمومين الخيار بين أن يقدموا واحداً منهم يكمل به نهم الصلاة أو يتموها فرادى ، لأن إمامهم لم يستخلف."3
أما الصلاة خلف المتنجس فالقول "الصحيح في هذه المسألة أنه إذا جهل النجاسة هو والمأموم حتى انقضت الصلاة فصلاتهم صحيحة جميعاً، والعذر للجميع الجهل والمصلي بالنجاسة جاهلاً بها على القول الراجح ليس عليه إعادة، وكذلك لو علم بها لكن نسي يغسلها فإن صلاته على القول الراجح صحيحة.
ومن هنا يتضح الفرق بين هذه والتي قبلها على القول لراجح أنه إذا جهل المصلي بالحدث أعاد الصلاة، ولا يعيد الصلاة إن كان جاهلاً بالنجاسة، والفرق بينهما أن الوضوء من الحدث باب فعل المأمور، واجتناب النجاسة من باب ترك المحظور، فإذا فعله جاهلاً فلا يلحقه حكمه.
ويدل لهذا القول الراجح " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذات يوم وعليه نعلاه فخلعهما، فخلع الصحابة نعالهم فلما انصرف سألهم: لماذا خلعوا ؟ قالوا رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً فخلعتهما "
وهذا صريح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لبس نعليه قذرتين، لكنه لم يكن عالماً بذلك ولو كانت الصلاة تبطل مع الجهل لاستأنف بهم النبي صلى الله عليه صلاته."4
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
________________________________________
1- أخرجه أبو سليمان محمد بن الحسن الحراني في جزء له عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- مرفوعاً، انظر المغني لابن قدامة (1/777)، وغيره من كتب الحنابلة.. وهو في مصنف ابن أبي شيبة (1/398) (باب: الرجل يصلي بالقوم وهو على غير وضوء) عن علي -رضي الله عنه- موقوفاً بلفظ مقارب له.
2- انظر كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) تأليف/ أ.د. وهبة الزحيلي.
3 - الشرح الممتع : 4/241-243
4 -الشرح الممتع: 4/244(/2)
متى يكون الموت مصيبة؟
تاريخ الإجابة ... 15/03/2005
موضوع الفتوى ... الزكاة
نص السؤال ... فى سورة المائدة آية 106 "فأصابتكم مصيبة الموت" فلم قال الله سبحانه وتعالى مصيبة الموت , ونحن نعلم أن المؤمن يبشر بالجنة عند موته حتى أن بعض الصالحين قال أن الموت عرس المؤمن فكيف يكون مصيبة؟ جزاكم الله خيرا
اسم المفتي ... مجموعة من الباحثين
نص الإجابة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالله سبحانه وتعالى سمى الموت مصيبة "ومن أصدق من الله قيلا" "ومن أصدق من الله حديثا"؟ فحقا الموت مصيبة كبرى ورزية عظمى وسماه الله تعالى مصيبة لما يقع معه من أهوال فأول مصيبة الموت آلام ونزعات ساعة الاحتضار وما يصحبها من فتن وغرغرة وسكرات، لا يقوى المحتضر من شدتها أن يخرج صراخا ولكنه يتأوه، روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، "كان يمسح وجهه بالماء ليخفف من وطأة الموت وشدته ويقول: (لا إله إلا الله ،إن للموت سكرات)" فسكرة الموت شديدة لأنها تأتي بالحق، والحق ثقيل.
فعند الموت يشعر الغافل أن الله حق وأن الحلال بيّن وأن الحرام بيِّن، وأن الظلم ظلمات وأن المعاصي مهالك وليست لذات، فقد ذهبت اللذات وبقيت الحسرات ، يتذكر عند الموت أنه كان مفرطا فتتعاظم الحسرة التي لا تنفع والندم الذي لا يقبل، ويتمنى لو يرجع، (قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها).
فمصيبة الموت أنه خاتمة الحياة والأعمال، حيث يقفل السجل ويغلق الديوان فلا عمل بعد الموت بل ينقطع إلا من ثلاث ولد صالح أو صدقة جارية أو علم ينتفع به..
ووصف الموت بأنه مصيبة فالحقيقة أن المصيبة تكون للأحياء وليس للميت أما الميت فقد يكون يوم موته هو يوم عرسه وهذا لمن وفقه الله تعالى لفعل الطاعات وترك المنكرات وقد يكون الموت مصيبة أيضا للميت إذا كان في غفلة عن لقاء ربه وانغمس في الشهوات والملذات فمن كان هذا حاله فموته مصيبة بل أعظم مصيبة .. نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
ويقول فضيلة الدكتور سعيد رمضان البوطي -من علماء سوريا-:
عندما وصف الله عز وجل الموت بالمصيبة في قوله: {فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 5/106].
فالمصيبة التي نعت الله عز وجل الموت بها ليست مصيبة الراحل عن حياتنا الدنيا، وإنما هي مصيبة أقرانه وأحبابه وأقاربه الذين يستوحشون للبعد عنه، فالأحياء الذين يودعون أحباباً لهم أقارب لهم يستوحشون ويتألمون ويحزنون ويجزعون، والمصيبة هي مصيبة الفراق، ولكن المصيبة تنحط على من؟ لا على الذي ارتحل، ولكن على الأحياء الذين فقدوا أحبابهم، أما الميت فالميْت هو الذي يضع في الموت معناه، إن شاء وضع في الموت معنى العرس، فهو من هذا العرس على ميعاد، وإن شاء وضع في الموت معنى المصيبة فهو من هذه المصيبة أيضاً على ميعاد. .
الموت بالنسبة للميْت ليس مصيبة، وإنما الحي هو الذي يرسم للموت معناه، إن شاء جعل من الموت عرساً أو شاء أن يجعل من الموت مصيبة، متى يرسم للموت هذا المعنى؟ في حياته الدنيا التي يعيشها، أنت الآن تملك الفرصة التي إن شئت جعلت خلالها، خلال هذه الفرصة من الموت عرساً تقبل إليه، وإن شئت جعلت منه مصيبة وأي مصيبة، كيف؟
إن عرفت كيفية السير إلى الله، وإن عرفت كيفية السلوك الذي يجمعك غداً مع الله عز وجل، وأنت سعيد، وأنت قرير العين، وأنت مطمئن البال. إن سلكت تضبط نفسك بالنهج الذي أوصاك الله عز وجل، وبيَّنَة لك، عملت الصالحات، لم تفسد في الأرض، لم تجعل من شهواتك وأهوائك قانوناً يُسَيِّرُك، شرعة تخضع لها كيانك، بل جعلت من شرعة الله، جعلت من أوامر الله سبحانه وتعالى منهجاً لك، فاعلم أنك قد وضعت بذلك في الموت حقيقة العرس، وإذا جاء الموت غداً فلسوف تكون قرير العين، ولسوف ترجل إلى الله عز وجل وأنت تتمتع بأجمل لحظة شعرت بها في حياتك أجمع.
أما إن جنحت عن هذا النهج، وأخضعت نفسك لما توحي به إليك شهواتك وأهواؤك، دواعي طغيانك، دواعي ظلمك، دواعي طمعك، دواعي انحرافك عن النهج الإنساني الذي أحبه الله لعباده، فاعلم أنك بذلك قد وضعت في الموت حقيقة المصيبة، وأي مصيبة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم، قالت له عائشة التي تروي هذا الحديث: أهو الموت يا رسول الله؟ فكلنا يكره الموت، قال: ((ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا دنا أجله بشر برضوان الله وجنته، فلم يكن شيءٌ أحب إليه من الموت ولقاء الله، وإذا دنا الموت من الكافر بشر بمقت الله وسخطه، فلم يكن شيء أبغض إليه من لقاء الله سبحانه وتعالى)).(/1)
هذه هي الحقيقة، وما أجمل ما قاله سلمة بن دينار أبو حازم رضي الله عنه، يوم زاره سليمان بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية، جلس إليه جلسة التلميذ بين يدي أستاذه، بل المريد بين يدي شيخه، قال له فيما قال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمَّرتم دنياكم، وخرَّبتم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من دار عمار إلى دار خراب. قال له: كيف القدوم على الله؟ فقال له: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيءُ فكالعبد الآبق - أي الفار - يُجَرُّ إلى مولاه.
=============
داليا
الموضوع ... العقيدة
العنوان ... هاجس الموت يطاردني في الأحلام
السؤال ...
أنا سيدة أبلغ من العمر 28 عاما ، أنتابنى العام الماضي إحساس رهيب بأن مكروها سيحدث لي أو لزوجي ، كما كنت أتخيل قبل النوم أحداث الوفاة بتفاصيل العزاء وغيره، وبالفعل توفى زوجي أثناء عمله . وأنا الآن في نفس التوقيت يسيطر على إحساس الموت بطريقة بشعة وأحلم أحلاما كثيرة لها نفس المدلول، حيث رأيت أن جارة لي في نفس الطابق توفيت، وكذلك أنني أرتدي فستان عرس . ويقولون إن تفسير هذه الأحلام دليل الموت .هذا الإحساس يكاد يطاردني مطاردة الأشباح حتى أنني أخشى النوم ؟أخاف من الموت خوفا شديدا خصوصا بعد وفاه زوجي ، وأخشي موت أي فرد من أفراد أسرتي؟ فهل تشير هذه الأحلام على موتي قريبا أو موت أحد أفراد أسرتي أم لا؟ وماذا أفعل كي لا أنشغل بهذه الهواجس ؟
المستشار ... الأستاذ مسعود صبري
الرد
بسم الله، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
الأخت الفاضلة :
من الطبيعي أن يخاف الإنسان الموت ، وأن يفر بعيدا عنه ، فتلك طبيعة بشرية جبل عليها الإنسان ، فحب الحياة من الغرائز المفطورة في نفوس البشر.
ولكن من رحمة الله تعالى أن جعل علم الموت خاصا به ، لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى ، قال تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت } (لقمان:34).
وكم من الأطباء قالوا لمرضاهم : لن تعيش أكثر من كذا يوم أو كذا شهر ، لحسابات طبية محسوسة معلومة ، ولكن الله تعالى يقضى شيئا آخر.
وكما قال الشاعر :
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فإن كانت التنبؤات الطبية تكذب ، فمن باب أولى أن تكذب الهواجس النفسية ، لأنه لا دليل عليها من عقل أو دين .
وما حدث لك ما هو إلا شيء قدره الله تعالى ، فصادف ما فكرت فيه ، وشعرت به ، ولعل هذا ابتلاء من الله تعالى .
ومن الواجب أن يسلم المسلم لأمر الله تعالى وقدره ، وأن يعلم أن الغيب لا يعلمه إلا هو، كما قال تعالى على لسان رسوله : { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء}( الأعراف: 188).
وإن زاد هذا الشعور في السيطرة عليك ؛ سيؤدي بك إلى القنوط من رحمة الله ، والاستسلام لليأس ، وكلها أمور نهى عنها الشرع ، بل يلفت أنظارنا قول النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا قامت القيامة وفي يد أحد فسيلة فإن استطاع أن يزرعها فليزرعها" ليبث الأمل في نفوس أمته، فماذا يجدي زرع الفسيلة - وهي النخلة الصغيرة - والناس سيحشرون إلى ربهم .
فالواجب عليك طرد هذه الوساوس ، وأن تعيشي حياتك كبقية البشر حياة طبيعية ، فالموت لا يشترط فيه أن يسبق بإذن ،{فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف:34).
كما على المسلم أن يصبر لقضاء الله تعالى وقدره ، وأن يتقبله بصدر رحب ، وبرضا ، فمن صبر ورضي ، رضي الله عنه ، ومن سخط فله السخط .
وقد عالج الإسلام الخوف من الموت ، بالاستعداد له ، فكل الناس سيموتون ، ومن هنا ، فمن الفطنة الاستعداد للموت ، لأنه قد يجيء في أية لحظة من لحظات الحياة ، وكما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم : "من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله ،كره الله لقاءه"، وكتب الله الموت على جميع عباده حتى أشرف الخلق على الله ، وهم الأنبياء ، وكتب لنفسه البقاء ، فقال تعالى: { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون }( القصص:88).
وكم يعيش الإنسان من العمر الطويل ، ولكنه بعدها يموت ، وينتقل إلى حياة البرزخ ، ثم إلى الحياة التي لا موت فيها بعد الحساب ، فسيجيء يوم لا يموت الإنسان فيه ، ولكن عليه أن يسعى أن يكون سعيدا يوم لا موت. وإن كان هناك خوف ، فليكن خوفا من الله تعالى، لا خوفا من شيء من الموت وهو أحد مخلوقاته.
كما أن ما يراه الإنسان في النوم ، قد يكون حديث نفس ، وقد يكون حلما ووسوسة منامية من الشيطان، عندئذ يستعيذ الإنسان بالله من شرها ، ولا تكون الأحلام هي التي تقود سفينتنا في الحياة ، لأن مصائرنا قدر بيد الله تعالى .(/2)
يقول الدكتور إيهاب خليفة من فريق مشاكل وحلول الشباب بالموقع : قد تكون هذه الأفكار علامة عن الإصابة بمرض القلق والتوتر بدرجات مختلفة. وقد يحتاج لتناول بعض المهدئات البسيطة ومضادات القلق تحت إشراف الطبيب النفسي ؛ أو قد يلزمك الاستعانة بأحد الأطباء النفسيين إذا صاحب هذا القلق أعراض أخرى، مثل : الأرق الشديد والأعراض الجسمانية المتكررة التي ليس لها سبب عضوي.
ويشير الدكتور محمد أبو رحيم من علماء السعودية إلى أن الخوف من الموت مرض يعتري الإنسان من الموت على سبيل العموم ، ومن الظواهر المتفرعة عنه : الخوف من الدفن حيا ، أو رؤية الدم وحالات الإغماء ، ومن منظر الأموات والجثث .
ويتحاشى المصاب بهذا المرض رؤية هذه المخاوف ، ويتجنب المشاركة في الدفن والذهاب مع الجنازات ، بل ويخشى من ذكر الموت لأنها تشترك مع حقيقة الموت ، وتوحي بشيء أليم في النفس الإنسانية .
وفرق علماء النفس بين هذا الخوف وبين قلق الموت من جهة العموم والخصوص ، حيث خصصوا قلق الموت بخشية الإنسان من موته هو .
ووصف الله سبحانه وتعالى أمثال هؤلاء فقال :{ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }
وإذا سألت أي إنسان عن سبب خوفه من الموت فلا يخرج جوابه عن الأمور التالية :
1- غموض حقيقة الموت .
2- الشعور بالخطيئة من الذنوب والمعاصي.
3- الافتراق عن الأحبة والملذات والآمال.
4- انحلال الجسد وفقدان القيمة الاجتماعية والمعنوية واستحالته إلى شيء مخيف وكريه.
ومن الصعب تخليص المريض من الخوف نهائيا لأن الخوف فطري ، لهذا كان القصد من العلاج التخفيف من الخوف بتجريد الموت من معظم ما فيه من الآلام النفسية. ولما كانت الأسباب المتقدمة هي أهم المنبهات كان من الضروري اللجوء إلى تحليل هذه الأسباب وتوضيحها وتعليلها لإسقاطها من ذهن المصاب والانتقال إلى مرحلة الإقناع بمجابهة حقيقة الموت بالرضي والقبول.
واسأل نفسك :هل الموت من لوازم الحياة الإنسانية ؟ وهل يمكن التخلص منه ؟
والجواب بديهي بالطبع ، إذ ليس من عاقل يعترض على كون الموت أمرا حتميا ، وضريبة على كل كائن حي .
قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون }.
وقال تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل }.
وقال تعالى: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } .
ولكن الموت في نظر العقلاء والمؤمنين انتقال من مرحلة مؤقتة إلى حياة أخروية دائمة.
وإذا كان كذلك فأي معنى بقي لفكرة انحلال الجسد واستحالته إلى تراب وعظام؟ إن كثيرا من الناس تشكل أجسادهم عبئا نفسيا عليهم ، فيلجأ بعضهم إلى أطباء التجميل رغم ما يعتوِر أفعالهم من آلام مبرحة تلحق الأجساد ، فكيف يكون شأن من أجريت له عملية تجميل دون أي شعور بألم ؟ ! .
ويكون ذلك يوم بعث الناس جميعا ، ويخص الله المؤمنين بتحسين الوجه والهيئة ، تبارك الله أحسن الخالقين ....
وقال تعالى واصفا وجوه المؤمنين : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } .
وقال تعالى : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } .
وقال تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } .
وقد يقول قائل : إن الموت يحمل معه فكرة الفراق والحرمان من مشاهدة الأحبة والالتقاء بهم؛ بما يعني فقدان التوازن النفسي للإنسان ......
أقول : نعم ، لكن الفراق لا ينبغي أن يترك خوفا في النفس من الموت ، بل غاية ما يتركه دمعة حزن تحمل الرحمة وطلب المغفرة.
فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم . فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله ؟ فقال : " يا ابن عوف إنها رحمة إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا و إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" .
فالفراق يترك الحزن في النفس ولا ينبغي له أن يترك الخوف من الموت ؛ لأنه فراق مؤقت يتبعه لقاء يوم القيامة ، لقاء يعقبه محبة ، ولقاء يعقبه لعنة وفراق أبدي.
أما لقاء المؤمنين فهو لقاء محبة وأنس ،وأما لقاء الكافرين والفاجرين والفسقة فهو لقاء بغضاء ولعنة وتبرؤ . قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } .
وهناك مندوبات ومستحبات تُسهم في تخفيف من عبء هذا المخوف على النفس الإنسانية:
1- ذكر الموت بزيارة القبور والمشاركة في الجنازات ، قال رسول الله صلىّ الله عليه وسلّم: "أكثر ذكر هادم اللذات".
2- تعريض المصاب لرؤية الجنائز والأموات والجثث والدماء ومناظر الإغماء يسهم في التغلب على هذه المخاوف الطبيعية ، وهي من الوسائل التربوية لكثير من أصحاب المذاهب الحديثة في التربية.
يقول أحد علماء النفس : ( افعل الشيء الذي تتهيبه فإذا موت الخوف محقق). وقيل : (اطلب الموت توهب لك الحياة ).
3- القيام برحلات طويلة منفردة للقضاء على الخوف من الفراق والذي يحمل معه دائما فكرة الموت وهذا جائز للضرورة .(/3)
وعلق ابن حجر رحمه الله-على قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحدة ". فقال : " وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة ". ولما كانت الضرورة تقضي بالسفر لا مانع من ذلك شريطة عدم وقوع ضرر أكثر من الخوف المطلوب علاجه.
4- المعالجة بطريقة العزل في بيوت الصحة منفردين عن عائلاتهم،وهي طريقة واير ميتشل.
ويماثل هذه الطريقة ما يقوم به الآباء من جعل غرف نوم خاصة لأطفالهم الصغار بعيدة عنهم حيث تعطي هذه الطريقة أُكلها باعتماد الطفل على نفسه وتخفف من وقع فراقه لأمه حتى يصبح الفراق أمرا طبيعيا.
=============
... ياسمين - أثيوبيا
الموضوع ... العقيدة
العنوان ... هل أموت يوم 25/9 ؟..الآجال بيد الله
السؤال ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. الأستاذة الأفاضل.. أنا فتاة أبلغ من العمر 23 سنة، والحمد لله محجبة وأصوم وأصلي الفروض في أوقاتها. بفضل الله لم أرتكب معاصي تغضب الله تعالى منى وأدعي دائما أن أكون جديرة برضا الله تعالى علي وعلى أفعالي سؤالي لكم هو أني منذ فترة تقريبا أسبوع كنت نائمة أو بالأصح نصف نائمة، وكنت أفكر بأمور كثيرة خاصة بي. فجأة أتت إلي مثل التنبيه أو لا أدري تماما ما كان الذي حدث لي، ولكن ما أتذكره أنه ارتسم في خيالي (رقم 25 /9) أي يوم 25 من الشهر الحالي وبالتحديد كان مع الرقم كلمة يوم السبت وأنا والله لم أكن أعرف أن يوم 25 سيوافق يوم السبت وتضامن مع الرقم هذا كان شخص يتحدث إلي وينبهني أنني سأموت في يوم 25 وهرعت إلى التقويم ووجدت فعلا أن يوم 25 يوافق السبت ومن يومها وأنا خائفة جدا ومرعوبة أن يكون هذا صحيح هل تكون رؤيا؟ أم أتوهم؟ لا أدري الرجاء من حضرتكم أن أجد لديكم إجابة أو تفسير حتى ولو كان ما رأيته صحيحا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
المستشار ... الأستاذ مسعود صبري
الرد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
الأخت الفاضلة..
ما يراه المسلم في نومه هو واحد من ثلاثة:
1- إما أن يكون رؤيا من الله تعالى، يبشره بخير، أو يحذره من شر.
2- وإما أن يكون حلما من الشيطان، يريد أن ينغص على الإنسان حياته.
3- أو يكون حديث نفس، كأن يسمع الإنسان سيرة الموت، أو أحدا مات، أو غيرها من الموضوعات الحياتية التي تشغل الناس عموما، فيفرغ ما في نفسه فيما يراه في منامه.
فلا يمكن أن نقطع أن هذه رؤيا من الله تعالى؛ لأن الله تعالى جعل الموت على عباده بغتة، والموت من الأمور الغيبية التي احتفظ الله تعالى بها لنفسه، قال تعالى: "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير".
وفلسفة الحياة قائمة على الابتلاء دون معرفة انتهاء حياة الإنسان، قال تعالى: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور"، فالإنسان لا يدري متى سيموت، ولا أين سيموت، وإنما هذه الأمور مردها إلى الله تعالى.
ولو كان الإنسان يدرك ميعاد موته، لكان له أن يفعل المعاصي ويجاهر بما يشاء من المخالفات، ثم قبلها يتوب إلى الله تعالى، واليقين بميعاد الموت يلغي فكرة الاختبار.
ثم إن المسلم لا يخاف من الموت ما دام يؤدي ما افترضه الله تعالى عليه، وهو يحب لقاء ربه سبحانه وتعالى؛ لأنه أدى ما عليه، وهو في انتظار الأجر والثواب عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه". فيجب أن نرد ميعاد الموت على وجه اليقين لصاحبه، وهو سبحانه وتعالى.
أما أن تحلمي بأنك ستموتين يوم الخامس والعشرين، وهو يوم السبت، وأنك رأيت هذا في "نتيجة التقويم"، فلا يجب أن يكون له أثر في حياتك، ولا تعيشي في وهم بعيد عن العقيدة الصحيحة، فسيمر يوم الخامس والعشرين، ولن يحدث شيء، ولكن لا تعيشي في الوهم ولا تجعليه يسيطر على حياتك، بل استمري في طاعة الله تعالى كما أنت، وعيشي حياتك، فإن نفس لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها، ودعي الأمر لصاحب الأمر، ولنشغل أنفسنا بما يجب علينا، ولا نكلف أنفسنا ما لا نطيق، وقد رفع الله تعالى ذلك عنا: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".
وأعلم أنه مع صغر سنك تخافين الموت، وأنت لم تأخذي حظك من الحياة، ولكن أقول لك: هذا الأمر ليس إليك أختي، وإنما هو لله، ويجب أن يوقن المسلم أنه صنعة الله تعالى، ولله تعالى أن يفعل بصنعته ما يشاء، إننا لا نملك لأنفسنا شيئا، وإنما الأمر كله لله، فربما يأتيك الموت قبل هذا الموعد، وربما بعده بشهر أو سنة أو عشر أو عشرات، الله أعلم بهذا.
فخففي عن نفسك، ولا تعيشي في هذه الحالة التي تكاد تفتك بنفسك، ولا تجعلي للشيطان عليك سبيلا، وكما ذكرت في رسالتك أنت دائما تتوجهين لله بالدعاء أن يرزقك الرضا، فأسأله أن يرزقك الرضا في كل شيء، وأنصحك بهذا الدعاء الجميل "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي".(/4)
وربما كان من الخير للإنسان أن يموت الآن، أو في الغد، أو أي وقت آخر، حسب علم الله تعالى، الذي يحب الخير لعباده.
وأذكرك أن الدنيا إنما هي دار ابتلاء واختبار، وليست دار راحة وقرار، وإنما الراحة في جنة الله تعالى، حيث ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالمرء في الدنيا يعيش دائما في كد وتعب، فليكن في سبيل الله، وليترك أمر الموت لله، يقضي فيه ما يشاء دون تحديد من أحد؛ لأن هذا افتئات على حق الله، وافتراء على شيء من علم الله.
نسأل الله تعالى أن يحيينا ما كانت الحياة خيرا لنا، وأن يتوفنا ما كانت الوفاة خيرا لنا، وأن يرزقنا دائما العمل الصالح الذي يرضى به عنا.
اللهم آمين.
===========
لمؤمن وحب الموت
تاريخ الإجابة ... 16/10/2000
موضوع الفتوى ... أخلاق
بلد الفتوى ... - تونس
نص السؤال ... هل للمسلم أن يحب الموت؟
نص الإجابة
المؤمن لا يحب الحياة حب الحريص على متاعها الأدنى، المتهافت على لذائذها، حباً يخيفه من الموت، ويلصقه بتراب الأرض، بل أحب المؤمن الحياة لأنه يقوم فيها بحق الله في الأرض، وأحب الموت لأنه يعجل به إلى لقاء ربه.
وفي الحديث: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" (متفق عليه).
وحينما خير الرسول بين لقاء ربه والبقاء في الدنيا قال: "أختار الرفيق الأعلى"!
وحينما أصابت علي بن أبى طالب رضي الله عنه ضربة عبد الرحمن ابن ملجم قال: فزت ورب الكعبة!
وحينما حضرت بلالاً الوفاة صرخت امرأته: واكرباه! فقال لها: بل واطرباه!! غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه!
وحينما أخذ المشركون في مكة خبيب بن زيد ليصلبوه كان نشيده الذي يترنم به على خشبة الصلب:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
وكان سيف الله خالد بن الوليد حينما يرسل إلى قائد من قواد الفرس أو الروم يختم رسالته بعد الدعوة إلى السلام والإسلام بقوله: وإلا ... رميتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة..!!!(/5)
( مجالات لخدمة الإسلام )
عناصر الموضوع :
1. طاقات معطلة عن العمل للدين
2. فروض الكفاية واهتمام العلماء بها
3. أمثلة على فروض الكفاية
4. قواعد فروض الكفاية
5. إشارات في بعض مجالات خدمة الإسلام
6. لا تحتقر الجهود والدعوات العامة
7. الأسئلة
مجالات لخدمة الإسلام:
إن دين الله سبحانه وتعالى منصور، لكنه يحتاج إلى بذل الأسباب الشرعية القولية والفعلية من قبل الدعاة إلى الله، فلابد لكل داعية وطالب علم أن لا يحتقر نفسه وأن يعرف ما يصلح أن يخدم به الدين، فالدعوة إلى الله لها مجالات متعددة منها ما هو فرض كفائي، ومنها ما قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات والأماكن ... وهكذا.
طاقات معطلة عن العمل للدين:(/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام، هو دين الله القويم، ومنَّ علينا بإرسال أفضل الأنبياء والمرسلين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وانقضت معظم أوقات المسلمين في البحث عن اللذات، والعمل للدنيا، وانشغل جمهور المسلمين عن الآخرة بأنواع من الملاهي، والشُغل بالنفس، فصار العمل لدين الله قليلاً أو نادراً، فلا شك أن هذه علامة ضعف وخطر، وهي من أسباب تقهقرنا وتخلفنا نحن المسلمين، إننا لا نرى جمهور المسلمين يعملون للإسلام، ولا يحملون هم الإسلام. ثم إننا إذا نظرنا إلى واقع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو المحسوبين على قطاع الدعوة إلى الله، والمتمسكين بالإسلام أو الذين ينتسبون إلى التمسك بالدين؛ لوجدنا أن هناك خللاً كبيراً أيضاً وتفريطاً عظيماً، وكما أن هناك غثاء في الأمة فهناك غثاء أيضاً في هذا القطاع الذين ظاهرهم التمسك بالدين. وذلك أن كثيراً من الشباب قد اتجهوا في الآونة الأخيرة لأنواع من الملاهي والانشغال عن العمل للدين، وصار همهم هو أنفسهم، وعملهم للدنيا، ودراستهم للدنيا، وسعيهم للوظائف، وبناء البيوت وتحصيل الأموال وغير ذلك، والانشغال بالأثاث والمتاع والرياش، وحتى الأماكن التي يذهب كثير منهم إليها، ويسافرون إليها ليست لتحصيل مصلحة في الدعوة لدين الله ولا لتحصيل علم شرعي، ولا لتربية النفس على الطاعة وإنما هي أشياء من ضياع الوقت واللذات، حتى أن كثيراً منهم يذهبون في رحلات للصيد ويصيدون من الدواب أحقرها وأسوأها. فصارت الهمة متدنية حتى فيما يصيدون، لم تعد كثير من تلك الجموع همها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله أو طلب العلم، وتراخى كثير من الذين كانوا من القدوات والعاملين للإسلام في يوم من الأيام حتى صاروا في آخر الركب في مؤخرة الناس، وتحول كثير من الطيبين إلى طاقات معطلة، لا تستفيد منها الأمة ولا تعمل لرفع شأن الدين، وأصيب عدد آخر منهم بالإحباط، وهم يقولون: ما هو السبيل وماذا عسانا أن نفعل؟ وعدد منهم قد أشغلتهم الأحداث عن التمعن في الدين والتفكر فيه وانساقوا وراء أغراض لأعداء الإسلام، انشغال عن حقيقة الدين واتباع للتوافه أو لأشياء يحسبونها عظيمة، وهي عند الله هينة لا خطر لها. وانطلت خدع أعداء الدين على عدد من هؤلاء؛ فصاروا يهتمون لا أقول بالقشور أو تحسبون أني أتكلم عن السنن؟ لا. معاذ الله، فإن من صلب ديننا التمسك بالسنة والعمل من أجلها، لكن المسألة -أيها الإخوة- صارت عند كثير من المسلمين وعند كثير من هؤلاء الذين كانوا يعملون للإسلام ويضحون من أجله، صار الانشغال بالتوافه واللعب واللهو، أو الدخول في أشياء من النقاشات والجدل العقيم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وصارت حتى المجتمعات والأندية التي يجلسون فيها خالية من ذكر الله، ومن العلم الشرعي وطرح الأفكار الجادة والأطروحات التي من شأنها رفع شأن الدين، وصارت القضية خلافات وجدل وأخذ ورد، وتفسخات في الجسد الإسلامي الذي ينبغي أن يكون جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. إن الذي يبحث وراء انشغال الكثيرين بالأمور التافهة أو بالأمور الدنيوية والمتاع الزائل، يجد أنهم لا يشعرون بالواجبات الشرعية التي أوجب الله عليهم القيام بها، الواجبات الدينية غير سائرة في الدماء، وليست خاطرة على البال في الوقت الحاضر، بل كانت تخطر في وقت عند البعض ثم أزيحت الآن، وليس هناك قلق يزعج نفوس هؤلاء وعقولهم إلى التفكير في وسائل جادة لخدمة الدين، ولا شك أن الواجبات الدينية والوظائف الشرعية كثيرة، لكنها غائبة عن أذهان الكثيرين، فمثلاً: من الوظائف الشرعية الإمامة والخطابة، والأذان، والقضاء، والفتيا، والجهاد، وكشف سُبل العدو، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والقيام على سد حاجات الفقراء، وإغاثة المنكوبين من المسلمين، فالواجبات الشرعية كثيرة جداً في هذا الزمن؛ لأن الثغرات المفتوحة في المجتمعات الإسلامية عموماً متعددة وواسعة، وتحتاج إلى همم كثيرة وجهود متظافرة للقيام بسد الخلل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ودفع عجلة العمل الإسلامي إلى الأمام، والنهوض بشأن هذا الدين ليعود إلى ممارسة دوره في الواقع.
فروض الكفاية واهتمام العلماء بها :(/2)
وهذا يقودنا أيها الإخوة! إلى مسألة مهمة ومفهوم مهم جداً؛ ألا وهو قضية فروض الكفاية، إن كثيراً من الشباب لا يدركون لهذا المفهوم حقه، وربما لم يطلعوا أصلاً على كلام العلماء في هذه القضية، هناك واجبات كثيرة في المجتمع الإسلامي وبلدان المسلمين، كلنا آثمون بتركها جميعاً إلا من سعى للقيام بها، وكأن الواحد يظن أن صلاحه في نفسه أو بعده عن بعض المنكرات والمعاصي هو الواجب عليه، وأنه لا يجب عليه أكثر من ذلك، لا يجب عليه أكثر من الامتناع عن سماع الأغاني، والامتناع عن الإسبال، والامتناع عن بعض المنكرات والمعاصي التي كان يفعلها في السابق، هذا كل ما من شأنه، والمداومة على صلاة الجماعة ومصاحبة بعض الأخيار ممن هو على شاكلته فقط. لكن المسألة أعمق من هذا بكثير، وكما قال ذلك الرجل الصالح: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26] يا ليت قومي يعلمون بالثغرات الموجودة والواجبات الشرعية في سدها، يا ليت قومي يعلمون بمعنى: فرض الكفاية الذي دندن حوله العلماء كابن تيمية رحمه الله و الشاطبي و القرافي و الموقري والعز بن عبد السلام ونحوهم، هؤلاء العلماء الذين عاشوا في فترة أو في أزمة صار فيها شأن المسلمين إلى تضعضع وانحسار، وشعروا بالثغرات الموجودة فتكلموا في كتبهم، وبالذات مواضع أصول الفقه من كتبهم على هذه الواجبات الشرعية، فروض الكفاية، الذي دعا العلماء إلى توضيحها شعورهم بوجود العجز في الأمة، وشعورهم بوجود الثغرات التي ليس هناك من يقوم بتغطيتها. ولذلك تكلموا في مسألة فروض الكفاية، والكلام عنها الآن في هذا الوقت من الأشياء المهمة والمهمة جداً؛ لأن الكلام عن فروض الكفاية هو الذي يشعرنا بتخاذلنا، وهو الذي يشعرنا بضعفنا وتقصيرنا فلعلنا نتحمس للقيام بالدور المطلوب.
تعريف العلماء لفرض الكفاية:
العلماء يُعرفون فروض الكفاية: بأنها إيقاع الفعل مع قطع النظر عن الفاعل، المهم أن الفعل يقع، بغض النظر عمن أنجزه، ويقولون: فعل البعض يكفي في سقوط الإثم عن الباقين. فرض الكفاية: إذا فعله البعض كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا كلهم، والذي يقوم بفعل فرض الكفاية مأجور، ويُسقط الإثم عن الباقين.
أمثلة على فروض الكفاية:(/3)
ومن الذين تكلموا عن موضوع فروض الكفاية الشافعي رحمه الله واستدل بقوله تعالى: إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً [التوبة:39] النفير للجهاد والقيام به واجب، هذا فرض على الأمة يجب أن تقوم به لحماية الثغور ونشر الدين، وتحطيم الطواغيت ومقارعة جيوش الكفر لئلا يكون هناك فتنة ويكون الدين كله لله، ولئلا يوجد عوائق تحول دون انتشار الدين. الجهاد واجب إذا قام به البعض سقط عن الباقين، استدل الشافعي بقوله تعالى إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً [التوبة:39] أي: أنه إذا لن تنفر الأمة أثمت كلها، ويعذبهم الله عذاباً أليماً، فهو فرض على الأمة -فرض الكفاية- فرض عام على الأمة يجب أن تقوم به, فإذا قام به بعضهم بكفاية سقط الإثم عن الباقين وثبت الأجر لمن انتدب لإيقاعه وإلا أثم، من الذي يأثم؟ أثم من كان يستطيع القيام به فلم يفعل، لأن بعض فروض الكفاية يوجد من المسلمين أناس عجزة لا يستطيعون القيام بها، فإذا لم تقم الأمة بها أثم الجميع، ولكن من المقصود بالجميع؟ المقصود القادر على أن يقوم بالعمل ولم يقم به، وليس المشلول والأعمى، فإنهما لا يأثمان إذا تركوا الجهاد لأن الله عذرهم، وإذا نفر الكفاية حصل المطلوب وأنُقذت الأمة من الإثم، ومن كلام العلماء في فرض الكفاية: أنه ليس فرض الكفاية أن يقوم به البعض كما اتفق أي: على أي صورة حتى لو لم تكون صحيحة مجزئة، وإنما يجب أن يكون هذا البعض قادراً على تحقيقه، فيمكن مثلاً أن يقوم بعض الناس بإنكار المنكرات، لكن عددهم قليل جداً لا يكفي، فهل يكون الإثم قد سقط عن الباقين؟ الجواب: لا. ليس القضية أن يقام به بأي طريقة، بل لا بد أن يقام به بطريقة صحيحة كافية تغطي العجز وتقوم بالمطلوب، إن لم يحصل فإن البعض الذين قاموا بالجزء من العمل لا يُسقطون الإثم عن الباقين، هم مأجورون ولكن لأنه مازال يوجد عجز فالباقون كلهم آثمون حتى يقوموا بهذا الواجب. ومن أمثلة فروض الكفاية التي ضربها أهل العلم مثلاً: صلاة الجنازة، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، رد السلام إذا رد السلام واحد أجزأ عن الجماعة، وقال الإمام أحمد رحمه الله عن فرض الكفاية: واجب على الجميع، ويسقط إذا قام به من تقوم به الكفاية ويأثمون إذا تركوه جميعاً، وهذا الإثم مقيد بالاستطاعة والطاقة فغير المستطيع والقادر لا يأثم، ونص على ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى. ومن القواعد المهمة في فروض الكفاية -هذا الكلام مقدمة قبل الدخول في مسألة المجالات أو الحقول لخدمة الإسلام- لأن المسألة الآن مهمة في تنشيط الكسالى، وإعادة الذين انحرفوا عن جادة العمل وركنوا إلى الدعة والكسل إلى حقل الدعوة والعمل مرة أخرى، وهذه مسألة مهمة.
قواعد فروض الكفاية:
سقوطه عن العاجز:
الأول: أن العاجز يسقط عنه.
أن فروض الكفاية تتعين على البعض:(/4)
الثاني: أن فروض الكفاية تتعين على بعض الناس في بعض الأوقات، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد التاسع عشر في: مجموع الفتاوى قال: وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، يعني مثل الفروض التي فيها صلاة وصيام وحج مثلاً، كذلك فروض الكفايات تتنوع بتنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، إذا وجد أحد في موقع ورأى ثغرة في المسلمين يجب عليه أن يقوم بها إذا لم يكن هناك من يقوم بها غيره، ربما تجد منكراً أمامك أنت الذي رأيته، سيفوت لو ذهبت تستدعي غيرك مثلاً، يجب عليك أن تنكر أنت بالقواعد والضوابط الشرعية ما لم يترتب عليه منكر أكبر إلى آخر ذلك، المهم أنه في بعض الأحيان والأوقات يكون فرض الكفاية متعيناً على هذا الشخص المعين في الوقت المعين في المكان المعين. قال شيخ الإسلام : فقد تتعين في وقت ومكان وعلى شخص وطائفة، قد تكون متعينة على شخص، قد تكون متعينة على طائفة وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعده كلاماً في المستحبات، وأنها تتنوع بشكل أبلغ، وأنه قد يستحب في حق فلان شيء أكثر مما يستحب في حق فلان، الذي صوته جميل يستحب في حقه الأذان أكثر من غيره، صاحب الحفظ والإتقان في القراءة ومراعاة أحكام الصلاة يتعين في حقه الإمامة أكثر من غيره، وصاحب الفصل بين المتخاصمين والعلم بالقضاء والقدرة على تمييز الحق من الباطل فهذا متعين عليه القيام بالقضاء أكثر من غيره. الشخص الذي عنده قدرة على الحفظ والفهم يتعين عليه التفرغ لطلب العلم أكثر من غيره، صاحب الرأي السديد في القتال وصاحب النجدة والمروءة والمسارعة والقوة الجسدية والعقلية والمهارات القتالية يستحب في حقه الجهاد أكثر من غيره.. وهكذا، وحتى صاحب القدرة على التجارة الذي ينفع المسلمين وليس الذي يغوص في التجارة وينسى العلم والدعوة، وينسى الدين! لا. وإنما صاحب القدرة على القيام بسد حاجة المسلمين من المال بأن يكون ماهراً بالتجارة قادراً عليها مثلاً، فهذا يتعين في حقه أكثر من غيره ، من غير المجربين والذين ليس لهم سابق خبرة بالتجارة. ومن الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: الجهاد واجب على الكفاية ، لكن وجوبه على المرتزقة الذين يُعطون مال الفيء للجهاد أوكد، الجيوش النظامية الإسلامية التي تُعطى من مال الفيء يعطون مرتبات من بيت المال، لأجل التفرغ للقتال، الجهاد عليهم أوكد هذا كلامه رحمه الله. فإذاً القضية تتعين على طائفة أو على شخص في زمان أو مكان، هذه القضية تختلف باختلاف الأحوال، وقال رحمه الله: وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، صورة: أي: يحفظون النصوص، القرآن والأحاديث، والمعنى: الفقه في النصوص، وأهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموماً على الكفاية، واجب عيني على كل مسلم أن يعلم كيف يحج إذا أراد الحج، وكيف ينكح إذا أراد الزواج، وكيف يطلق إذا أراد الطلاق، وكيف يبيع إذا أراد التجارة، هذا واجب عيني على كل واحد أن يعلم، لكن على أصحاب العلم الذين لهم نظر ثاقب وفهم وفقه ودقة وحفظ الإلمام بالأشياء العلمية والتبحر في العلم هذا عليهم أوجب من غيرهم، وجوب ذلك عيناً وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه، أو رزقوا عليه أوجب منه على غيرهم، لأنه واجب بالشرع عموماً، وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم، وهذا من أوجه التعيين. ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فروض الكفاية قد يتعين على بعض الناس في بعض الأوقات، ومن قواعد فروض الكفاية: أنه يلزم السلطان ما لا يلزم غيره بشأن فروض الكفايات، أي: واحد عنده قدرة وقوة يلزمه من فروض الكفايات مالا يلزم غيره، هذا شيء طبيعي بدهي، فإن لم يقم به صاحب القدرة أو السلطان وجب على غيره من المسلمين القادرين أن يقوموا به. ولذلك ابن تيمية رحمه الله في وقت غزو التتار قام بعدد من فروض الكفاية مثل إقامة بعض الحدود هو وتلاميذه رحمه الله، كانوا يجلدون شُرَّابَ الخمور، أقاموا الحدود لما لم تقم في البلد وصارت فوضى؛ نتيجة هجوم التتار وذعر الناس وخوفهم واضطربت الأمور. كان هو وتلاميذه رحمه الله تعالى ممن يقيمون شرع الله في البلد، وكانوا يقومون بوظيفة السلطان في الحدود؛ لأن أمر الحدود إلى السلطان، لكن لما ذهبت مع ذلك الواقع المختل قام بها شيخ الإسلام رحمه الله وتلاميذه، وأقاموا بعض الحدود.
إذا تزاحمت الفروض قدم أوكدها:(/5)
وكذلك فإن فروض الكفايات إذا تزاحمت فما هو الحل؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما في الوقت نفسه فيقدم أوكدهما إذا صار هناك فرضا كفاية لا تستطيع أن تجمع بينهما أو واجبان عموماً لا تستطيع الجمع بينهما فأنت تقوم بالأوكد والأوجب منهما في هذه الحالة ، ولايكون الآخر عليك واجباً ، ولذلك لا تأثم بتركه، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا بد من ارتكاب أحدهما، فإنك ترتكب الأدنى لدفع الأسوأ، ترتكب المحرم الأخف لدفع المحرم الأثقل والأسوأ، وفي هذه الحالة لا تكون آثماً بارتكاب المحرم الأخف.
متى يسقط فرض الكفاية:
متى يسقط فرض الكفاية؟ ذكر القرافي رحمه الله تعالى: أنه لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل ولكن غلبة الظن تكفي، أي: إذا غلب على ظنك أن هناك طائفة قد قامت به أو شخص آخر قام به سقط عنك، وإذا غلب على ظنك أنه لم يقم به أحد وهذا مفيد في علاج قضايا المنكرات، بعض الناس يقول: ربما يوجد غيري يقوم بها، ربما غيروه وأنا ما أدري، ربما قام به أحد وغيره، نقول: ما الذي يسقط عنك المسئولية أمام الله عز وجل؟ إذا غلب على ظنك أن طائفة أو شخصاً قد قام به سقط عنك، وإذا غلب على ظنك أنه لم يقم به أحد فإن التعيين باقٍ عليك، يتعين عليك القيام به.
أن فرض الكفاية حسب الاستطاعة :(/6)
وكذلك من قواعد فروض الكفايات: أن فرض الكفاية حسب القدرة والاستطاعة، بعض الناس عنده قدرة أكثر من غيره، ولذلك فإن بعض أصحاب الاستطاعة أو القوة والقدرة يكون إثمهم عند الله ومسئوليتهم أشد من غيرهم من الضعفاء، والدخول في المجالات التي تمكن من القيام بفرض الكفاية إذا تعين طريقاً واجب، يجب الدخول فيها لأجل القيام بفرض الكفاية، وكان هناك عدد من العلماء لهم وجهة نظر في تولي الولايات، مثل: إسماعيل بن علية رحمه الله فإنه أخذ ولاية الصدقات، تولى ولاية الصدقات وظيفة في بيت المال، يجمع الصدقات ويصرفها في مستحقيها، هذا اجتهاده رحمه الله وإن أنكر عليه من أنكر لكن رأيه دخل فيها لأجل إقامة هذا الفرض، وكذلك خالد بن الوليد لما قُتل الثلاثة الأمراء الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم تقدم هو لسد الثغرة وحمل اللواء كل على حسب طاقته وكل بحسب موقعه. من الأشياء اللطيفة التي أشار إليها الشاطبي رحمه الله في المسألة الحادية عشرة في المجلد الأول من كتاب: الموافقات في مسألة فروض الكفاية، بعد أن ساق الأدلة في قضية فروض الكفاية: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] على أحد المعنيين في تفسير الآية ذكر أن القيام بالشيء هو بحسب القدرة والاستطاعة، وأن الذي يأثم هو صاحب القدرة والاستطاعة إذا لم يقم، واستدل بحديث أبي ذر : (يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأَمَرَنَّ على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) وقال الشاطبي رحمه الله: وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك فقد نهاه عنها، أي: تولي مال اليتيم من فروض الكفاية لئلا يضيع، وكذلك الإمارة من فروض الكفاية، لا يصبح الناس فوضى لا سراة لهم. قال: ومع ذلك فقد نهاه عنه، لأنه يعلم أنه لا يطيق القيام بهذه المسئولية، فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله، يعني: إذا لم يقم بهما العجزة أصلاً على القيام ليس عليهم حرج ولا يدخلون في الحرج، قال: وعلى هذا النهي جرى في تقليل كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو؟ قال: أما على كل الناس فلا، أي: الزائد عن الفرض العين، كل واحد عليه أن يعلم إذا أراد أن يطلق كيف يطلق، إذا أراد أن يبيع كيف يبيع، لكن طلب العلم كله والتفقه في الدين ليس بفرض، لما سُئل مالك قال: أما على كل الناس فلا، وقال أيضاً: أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب. عموماً: الشاطبي رحمه الله أشار إلى نكتة بديعة في القضية وهي مسألة تهيؤ الناس لأداء فروض الكفاية، قال: الذين ليس عندهم قدرة للقيام بها يجب عليهم أن يدفعوا غيرهم على القيام، وأن يساعدوا غيرهم للقيام بها، قال: ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام به. أبٌ ما يستطيع أن يطلب العلم ولمس في ولد من ولده القدرة، إذاً يجب عليه أن يدفعه لهذا لأجل سد الثغرة الموجودة عند الناس في قضية الإمامة في العلم والفُتيا والتعليم، ولذلك قال رحمه الله: فإذا فُرض أن واحداً من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع، ميل به نحو ذلك القصد الذي هو طلب العلم، وجهنا الصبي هذا لطلب العلم، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة؛ مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم، إذاً يجب على ولي الصبي أن يوجهه لهذا المجال إذا أَنَسَ من الولد القدرة، يجب أن يدفعه إلى هذا المجال أو إلى هذا الحقل لأجل أن يغطي في المستقبل، إذاً هذه قضية بعض الأشياء المتعلقة بفروض الكفاية. وقد كان السلف رحمهم الله قد قاموا بذلك خير قيام، وكان كل واحد يقوم على قدر طاقته، هذا شبير في معركة القادسية واحد من المسلمين قزم قصير كانوا ربما استهزءوا به، تقدم واحد من فرسان الفرس للمبارزة والتحدي ما خرج إليه أحد، فهذا المسلم القصير قام وخرج حتى ضحك به ذلك الرجل وأمسكه وأنزله من الفرس ودقه في الأرض، ولكن تعلقت قدم ذلك الفارس بشيء فسقط على الأرض فقعد عليه شبير فذبحه بسيفه والناس ينظرون بين تكبيرة المسلمين وتأوهات الفرس الملاعين، كانوا يستشعرون أهمية القيام بالقضية، هذا كان على مستوى الضعفاء. أما على مستوى الوزراء: انظر مثلاً في ترجمة الوزير ابن هبيرة رحمه الله يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسين هذا الرجل العظيم ولد في ربيع الآخر سنة (499هـ) وكان معاصر لنور الدين الشهيد ، والرجل هذا نشأ فقيراً محتاجاً فدخل في بعض أعمال الخليفة حتى صار وزيراً، لكن الرجل هذا ما ضاع في متاهات المناصب والقصور والغنى والثراء، وإنما حافظ على دينه. ولذلك لما تولى الوزارة مازال(/7)
يطلب العلم وقد كان يطلبه وهو شاب، وتخرج على عدد من العلماء، صنف كتاباً وهو في الوزارة، وهذا الكتاب المشهور باسم: الإفصاح عن معاني الصحاح ، اعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث أنفق على ذلك مائة وثلاثة عشر ألف دينار، وحدث به واجتمع خلق عظيم لسماعه عليه، وبُعث إلى الأطراف بنسخ منه حتى السلطان نور الدين الشهيد واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم يدرسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون ويحفظ منه الفقهاء. لكنه ما غصبهم عليه أو أنه استغل منصبه لفرض كتابه بالقوة أبداً، لكن كان يستعين بحكم منصبه بالفقهاء ويستقدمهم على نفقته ويتيح المجال لمناقشة ما في الكتاب والتصحيحات، وهو رجل عالم قبل أن يكون وزيراً، وكان هذا الرجل من فقهه يقول: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء فإن الله سمى هارون وزيراً، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه أبو بكر و عمر ، وقال: (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعلهم وزراء وأنصاراً) ولا يصح أن يقال عني: أني سيد فهؤلاء السادة. وهذا الشخص لما ولي الوزارة وكنيته أبو المظفر ابن هبيرة رحمه الله، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع، وقال مرة في وزارته: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله، فسعيه للمال أو المنصب من أجل خدمة أهل العلم، وكان مع كونه وزيراً يُنفق أمواله في سبيل الله. ولذلك قال مرة: ما وجبت عليَّ زكاة قط، وقال ابن الجوزي : كان يتحدث بنعم الله عليه ويذكر في منصبه شدة فقره القديم فيقول: نزلتُ يوماً إلى دجلة وليس معي رغيفٌ أعبر به، وكان من ورعه لا يلبس ثوباً فيه الإبريسم وهو الحرير على القطن ولو كان مخلوطاً بالقطن، فإن شك في ذلك سل طاقته ونظر في نسجه هل دخل فيه الحرير أم لا! ونظر هل القطن أكثر أم الإبريسم، إذا دخل فيه شيء من الحرير نظر أيهما أكثر، فإن استويا لم يلبسه. قال: ولقد ذكر يوماً في بعض مجالسه فقال له بعض فقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا جاز لبسه في أحد الوجهين عند أصحابنا، قال: إني لا آخذ إلا بالأحوط، والشاهد أنه كان مُكرماً لأهل العلم ويقرأ عنده الحديث ، وعلى الشيوخ في حضوره ويجني من البحث والفوائد ما يكثر ذكره، وكان مقرباً لأهل العلم والدين كريماً طيب الخلق، وكان شديد الإيثار لمجالسة أرباب الدين والفقراء، بحيث كان يقول لبعض الفقراء: لأنت أخي والمسلمون كلهم إخوة، وكان أكثر ما يحضره الفقراء والعميان إذا مد السماط، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقي رجل ضرير يبكي، ويقول: سرقوا مداسي ومالي غيره، والله ما أقدر على ثمن مداسي، وما بي إلا أن أمشي حافياً وأصلي، فقام الوزير من مجلسه ولبس مداسه وجاء إلى الضرير فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه وقال: إلبس هذا وأبصره على قدر رجلك؟! فلبسه وقال: نعم. لا إله إلا الله كأنه مداسي قال: خذه، فأعطاه إياه. الرجل هذا لما مات رحمه الله تعالى من شدة كرمه وحلمه وخُلقه الحسن وخِدمته للمسلمين غُلقت أسواق بغداد وخرج جمع عظيم في الأسواق وعلى السطوح وعلى شاطئ دجلة وكثر البكاء عليه رحمه الله. الشاهد من الكلام: أنهم كانوا يبذلون للدين على قدر طاقاتهم ومناصبهم وولاياتهم واستطاعتهم وأموالهم، وربما يكون الواحد ما عنده شيء فكان يوقف نفسه لأحد العلماء، كما جاء في سيرة القرافي أنه لما دخل بلداً جاءه شاب قال: وقفت نفسي عليك هذا اليوم، ماذا تريدني أن أفعل فعلت، كانوا يعملون ولو لخدمة العلماء إذا لم يجد ما يقدمه قام في خدمة أهل العلم، فهذا يكون مبلغاً في حلقة حديث لأنه صاحب صوت قوي مشترك في التبليغ، الأعرابي يشترك في تثبيت الإمام أحمد ، حتى اللصوص في السجن سعوا في تثبيته رحمه الله تعالى، كل واحد كان يبذل ما يستطيع، هذه القضية الغائبة الآن عنا، كل واحد يبذل ما يستطيع. ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة قال: أقيموني مع السارية وأعطوني العلم لأني أعمى ما أفر، ما أرى ما حولي أمسك لكم العلم، والشاهد -أيها الإخوة- أننا نحن الآن في مشكلة كبيرة وهي قضية عدم خدمة الإسلام من المواقع التي نحن فيها، والواحد إذا كان في موقع صغير احتقر نفسه قال: مالي شيء ولا أستطيع أن أخدم الإسلام في شيء، احت
إشارات في بعض مجالات خدمة الإسلام:
والآن ندخل في موضوع: فرص لخدمة الإسلام ولنسم هذا الدرس: فرص لخدمة الإسلام. إشارات سريعة لبعض المجالات التي يمكن للإنسان أن يقدم فيها خدمات للدين، أن يخدم الدين ويقوم بحمل الدين، مع التذكير مرة أخرى.
طلب العلم:(/8)
أيها الإخوة! لئلا نحقر أنفسنا الآن لا شك أن أعظم مجالات خدمة الدين طلب العلم، وقد تكلمنا سابقاً في موضوع طلب العلم، وطرق تحصيله والمنهج في ذلك، والحفظ والرحلة وبعض آداب الطلب، ولا شك أن تحصيل الدين والعلم من أعظم الخدمات التي تقدم لدين الإسلام، لأن المسلمين لا يمكن لهم الانتصار مطلقاً وهم يعيشون حالة جهل عام بدينهم، وهناك الملايين الملايين من المسلمين الذي يجهلون أبسط الأشياء والأساسيات في الدين الإسلامي. فيجب على كل واحد منا أن يقوم بما يستطيع القيام به في التعلم وتعليم الغير، وربما يكون طالب علم في مكان فإذا انتقل إلى قرية صار شيخاً، لما يُوجد من التقصير عندهم. فعلى الإنسان أن يقدر الأمر حق قدره، وأن يقوم بالمسئولية، وهناك أشياء كثيرة يمكن معرفتها بالكتب، الواحد إذا لم يكن عنده فقه أو لم يكن عنده طاقة في الحفظ، فيمكن أن يعمل أشياء كثيرة يخدم بها العلماء، كما حصل لذلك الشاب مع القرافي رحمه الله حيث وقف نفسه عليه، خدمة العلماء، القيام بشئونهم سواء ما يتعلق بالعلم أو بتوفير الوقت لهم لأجل تحصيلهم للعلم والتعلم، وكفايتهم الأرزاق مثلاً أو القيام بشئونهم الخاصة حتى يتوفر لهم الوقت. وكان مع الإمام أحمد رحمه الله محمد بن نوح شاب ما عنده فقه، ليس ذا فقه وعلم كبير، لكن كان مع الإمام أحمد في محنته، كان يصبره ويصبر معه، محمد بن نوح رحمه الله، ولما مات في طريقه إلى المأمون صلى عليه الإمام أحمد ودفنه، وأثنى عليه ثناءً عاطراً، فالقيام مع أهل العلم في أحوالهم وفي شئونهم فضيلة.
مساعدة أهل العلم وطلابه:(/9)
كذلك مساعدة طلبة العلم وأهل العلم -مثلاً- يمكنك يا أخي المسلم! أن تجرد بعض المطولات في الكتب قراءة ، ما تحتاج إلى قضية فقه وتثقيف وحفظ لا تطيقه إذا قلت أنني لا أطيقه، واستخراج العبر والعظات وجمعها في أوراق مستقلة وتقديمها لطلبة العلم، يمكنك أن تحضر خطبة أو عناصر موضوع تفيد به طالب علم أو محاضراً أو خطيباً من الخطباء، ألا تستطيع ذلك؟ بلى ولا شك، استخرج القصص في الصدق، القصص في ذم الكذب، القصص في الزهد، القصص في العبادة على سبيل المثال، قصص في تربية الأولاد من سيرة السلف هذا تستخرجه من كتب السير وغيرها. انظر -مثلاً- إلى الفهرس الموجود في آخر كتاب: نزهة الفضلاء مختصر كتاب: سير أعلام النبلاء ، وسر على منواله في تجميع هذه القصص والشواهد والأشياء الجيدة التي تساعد بها غيرك من المفوهين أو القادرين على الإلقاء إذا لم تكن أنت صاحب قدرة على الإلقاء. وإذا كنت صاحب قدرة على الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن عليك القيام بترجمة بعض الرسائل الصغيرة إلى الأعاجم الذين يتكلمون باللغات المختلفة، إذا استطعت، هناك أشرطة عند بعض الجاليات لما راجعها بعض طلبة العلم وجدوا فيها بدعاً وخرافات وشركيات، وتوزع عليهم وتعطى لأجل أنه لا يوجد غيرها، ويأتيكم الحجاج كل سنة مئات الألوف من أنحاء العالم، ماذا فعلنا من أجلهم؟ ماذا قدمنا لهم؟ ماذا خدمناهم في قضية تعليم الدين؟ وهم قد جاءوا إليك لا تكلف أنت بالنفقة للذهاب، حضروا عندك، لو أردت أن تكلمهم تزورهم، ربما تنفق الآلاف المؤلفة والأوقات لتلف حول العالم من أجل أن تزورهم، وهم قد حضروا عندك فماذا فعلنا إذاً لتعليمهم ولتثقيفهم؟ زيارتهم، معرفة ظروفهم، تقديم النصائح التي تصلح شأنهم، مراسلتهم ومواصلتهم بعد الحج. هناك أيضاً من المجالات العلمية بعض الكتب العلمية التي ليس لها فهارس يمكنك عمل فهارس لها، وهذه قضية لا تحتاج إلى مزيد من العلم أو الفقه حتى تقوم بها، ثم توزع على طلبة العلم الذين عندهم مثلاً هذه الكتب حتى يستفيدوا منها، وأشرطة بعض المشايخ التي شرحوا فيها المتون الفقهية هذه لو أنك قمت بتفريغها وإصلاح شأنها، وعرضها على الشيخ، ولسنا ندعو أبداً إلى قضية تسرع الشباب في التأليف، هذه من الأشياء التي فيها خطر عظيم، أو نقول: أنزلوا إلى ميدان تحقيق الأحاديث والتخريخ، فتخرج علينا بعد ذلك كميات من الأوراق الغثائية المملوءة بالأشياء العجيبة؛ نتيجة لتسرع بعض هؤلاء الشباب في التأليف والكتابة والتحقيق والتخريج وهم ليسوا بأهل ولا درسوا قواعد الجرح والتعديل، ولا تخرجوا على علماء هذا الشأن، علماء الحديث، ثم بعد ذلك يكتب عليه تخريج وتحقيق فلان، فهذا من المصائب، وتكثير الأغلفة والعناوين دون فائدة، وينتج من المفاسد إضاعة كتب كثير من أهل العلم الحقيقية، فنحن نقول: خدمة كتب العلماء أو السعي إلى خدمة العلماء أنفسهم أو طلبة العلم. هناك مشاريع علمية كثيرة لو أراد الشخص أن يعمل مشاريع علمية يمكن أن يدل عليها، سواء كان طالب علم أو كان إنساناً ما عنده علم لكن يريد أن يخدم في مجال طلب العلم. وكذلك ترجمة بعض المقالات التي تفيد المسلمين من العلوم الأخرى الطبية أو الإنسانية أو الإدارية التي يسمونها العلوم الإنسانية مثلاً، دون أن يضطر الإنسان إلى الوقوع في معاصي أو يدخل في متاهات، لأن بعض الذين يراجعون هذه الكتب يطلعون على صور منحرفة وسيئة أو مقالات منحرفة، ربما تنطلي عليهم، فيحتاج الإنسان إلى شيء من الثقافة الإسلامية التي تبين له حكم الإسلام في هذه النظريات الوافدة أو الحديثة.
المشاركة في الدورات العلمية:(/10)
والمجالات كثيرة إذا أردنا أن نسرد من غير ترتيب، فنقول: المشاركة في الدورات العلمية التي تقام مثل فصل الصيف تقام فيه دروس ودورات علمية، يأتي مشايخ أو علماء إلى المنطقة أو بعض المساجد في بعض المناطق، فأين الناس الذي يزعمون الاهتمام بطلب العلم؟! وأنهم يريدون المنهج لطلب العلم! وأنهم حريصون على طلب العلم! فإذا جاء الشيخ أو العالم وبدأ في تدريس الكتاب رأيت هؤلاء يصدون عنك صدوداً، وقد تبخروا كما يتبخر الماء فوق النار، ويختفي هؤلاء الأشخاص فجأة بعد ما كانوا يطالبون ويلحون يقولون: نريد حِلق علم، نريد مشايخ، نريد علماء يأتون وبعد ذلك يهربون إذا جاء هؤلاء الصادقون المخلصون أو طلبة العلم. الإنسان يتتلمذ على طلبة العلم إذا ما وجد العلماء، فيحصل خيراً كثيراً، وربما يكون عند بعض طلبة العلم من القدرة على الشرح أكثر مما عند بعض العلماء الكبار، أو ربما يستطيع أن يبسط القضية للمبتدئين بتبسيط جيد، فعند ذلك التخرج على هؤلاء يكون من الأفكار أو الأشياء الصائبة، وتقوم كثير من الهيئات الخيرية الإغاثية أو التي تساعد الفقراء في البلد، يحتاجون إلى تجميع الصدقات وتجميع الطعام من الولائم، والذهاب به إلى هؤلاء الفقراء، وإلى بيوتهم والتعرف على بيوت الفقراء، والقيام بإعانة الهيئات الرسمية في كل ما من شأنه دعم الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خدمة الحجاج:
وكذلك كما سبق أن أشرنا في قضية خدمة الحجاج حتى في غير القضايا العلمية، لما صار هناك زحام في عرفة انتدب بعض الشباب أنفسهم بتوزيع بعض العصير والماء البارد على الحجاج، الحجاج كثيرون جداً، فكان لذلك أثر كبير على الناس، ليست القضية فقط تقديم العلم وإنما حتى تقديم الأشياء الأخرى التي فيها سد جوعة وزوال عطش.
إهداء الهدايا وتوزيع الكتيبات:
وإهداء الهدايا الجميلة كثير من هؤلاء الذين قلنا: أنهم يخرجون إلى البر، ولو كانوا يخرجون لضياع الوقت ولتزجية الوقت ماذا عليهم أنهم لو اصطحبوا معهم من هذه الأشياء الموجودة في المكتبات والمطبوعة ما يفيد الناس في دينهم، وما يستمعون به إلى الدروس المفيدة والمحاضرات القيمة؟ أين هؤلاء الذين يقيمون الدروس لأهلهم في البيت ويشرحون لهم الأحكام المتعلقة بالعبادات كالطهارة والصلاة، ويشرحون لهم شيئاً مبسطاً في العقيدة الإسلامية، ويذكرونهم من خلالها بالتوحيد وما يناقضه من الشرك، ويذكرونهم أيضاً باليوم الآخر؟!! لأنه لا يمكن فصل قضية البعث والنشور والتذكير باليوم الآخر عن مسألة العقيدة فهي من صلب العقيدة، فلا ينصرف الذهن إلى مسائل الأسماء والصفات ونترك قضايا اليوم الآخر لا نذكر بها الناس، لا شك أن هذا قصور كبير في تعليم الناس العقيدة.
السفر إلى الخارج للدعوة وغير ذلك:
كذلك بعض الذين يسافرون إلى الخارج لنقل: إنهم عصاة يسافرون إلى بلاد الكفار للسياحة، لو أنه صنع أشياء لتكفير ذنوبه مثلاً، ونحن لا نحثه على الذهاب أصلاً لكن من باب تكفير بعض الذنوب على الأقل أن يشارك في شيء من دعم المسلمين هناك، أو اصطحاب بعض ما ينفعهم إلى هناك، ثم لو خرج مضطراً لعلاج أو خرج لمصلحة شرعية كدعوة إلى الله مثل بعض الذين يذهبون ليؤمون المساجد في المراكز الإسلامية في رمضان أو في غيرها؛ أو يذهبون مع البعثات العلمية التي توفدها بعض الجامعات في هذا البلد، تقوم جامعة الإمام مثلاً بدور مشكور وعظيم جداً في إرسال البعثات إلى بلاد المسلمين مثل الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي سابقاً أو غيرها. وأنشطة كثيرة تقوم بها بعض الهيئات الخيرية كما قد تقوم به في ألبانيا وغيرها، وهذه لا شك تحتاج إلى سواعٍ وإلى جهود وطاقات إدارية، وطاقات تنظيمية، وطاقات تجمع التبرعات وتقوم بالاتصالات، وهذه أشياء ينبغي أن يكون هناك شباب يقومون بها، وحتى لو رافق الإنسان أهله في رحلة داخل البلد وذهب معهم للصيد في الطائف أو أبها أو الباحة أو المناطق التي يغشاها الناس لاعتدال الجو فيها فسيلاقي هناك من المصطافين الكثير، وحتى الذين يأتون هنا في أوقات الإجازات إلى الشواطئ يجب أن نستشعر دورنا تجاههم، وأن نقوم بدورنا في النصح والتوجيه وإقامة الصلاة لهم مثلاً بأماكن قد لا توجد فيها مساجد، أو القيام بنصحهم إذا ارتكبوا منكرات، أو ارتفعت الأصوات في الغناء ونحو ذلك، وعقد درس لهم قد يستفيدون منه في تبيان بعض أحكام السفر أو غير ذلك من الأشياء الوعظية.
سد الثغرات والقيام بالواجب :(/11)
المسلم خير أينما حل انتفع به، وهو كالشجرة إذا رمي رمى بالتمر، فهو صابر على ما يصيبه من البلاء والأذى من الناس السفهاء من أجل تعليم الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك كثير من القرى والهجر محتاجة إلى إقامة المواعظ والدروس، وهناك مجال للتعاون مع كثير من الهيئات لأجل القيام بما يحتاج إليه هؤلاء، والمساجد قد تحتاج إلى عناية وصيانة، تحتاج إلى تنظيف وإصلاح أشياء، ينبغي أن يكون هناك في كل حي وفي كل مسجد من الناس ممن حوله من يقوم بهذه المهمات، ويوجد هناك حلقات تحفيظ قد يغيب مدرس التحفيظ، يكون هناك من يقوم مقامه، إذا غاب الإمام يكون هناك من يقوم مقامه، إذا غاب الخطيب يكون هناك من يخطب بدلاً منه. إذاً: سد الثغرة والقيام بما يجب، ومن الخطأ أننا نسمع أحياناً أن جماعة من الناس في مسجد لم يحضر الخطيب، فصلوا صلاة الظهر ما فيهم واحد يستطيع أن يمسك مصحفاً ويصعد المنبر، ويحمد الله ويثني عليه ويتشهد بالشهادتين، ويقرأ آيات من المصحف ويجلس، ويقوم الخطبة الثانية يفعل شيئاً مشابهاً ويدعو للمسلمين وينزل، ومع ذلك تجد تراجعاً عن القيام بمثل هذه الأدوار؛ والسبب ولا شك أنها هزيمة نفسية وعدم جرأة مطلوبة ومحمودة في هذا الموطن، وتخاذل عن القيام بفرض الكفاية. مسجد في البلد كيف لا تصلى فيه صلاة الجماعة؟ وهناك كثيرون من غير المسلمين من العمال الأجنبيين الموجودين يحتاجون إلى من يكلمهم بلغتهم، ويتحرك بينهم لتوعيتهم، وخصوصاً أنه يوجد عندهم كثير من التقبل، وكذلك المستشفيات التي فيها أصحاب الأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى مزيد من التصبير كأصحاب العاهات والشلل، العاهات المزمنة أو الدائمة، وكذلك ربما يكون هناك مجال للتعاون مع مستشفيات الأمل أو غيرها.
زيارة الإخوان وطلاب العلم:
ماذا بالنسبة للزيارات الأخوية؟ زيارة الإخوان في الله حتى لو كانوا في بلد آخر والتعرف عليهم والتعاون معهم والتناصح، وزيارة المشايخ وطلبة العلم في بيوتهم أو في مكاتبهم، لا شك أن مثل هذه الأشياء مما يُملأ به الوقت وهي فرص لعمل الخير.
المراسلة عبر الكمبيوتر:
وكذلك فإننا نحتاج أيها الإخوة! إلى سد عدد من الثغرات مثل مراسلة بعض الذين يكتبون في ركن التعارف، ونصحهم خصوصاً أنهم في الغالب يريدون تعرف الشاب بالفتاة أو الفتاة بالشاب، وقد آتت كثير من الثمار الدعوية في هذا المجال أكلها، ووجد هناك من الناس من جرب الاتصال بالكمبيوتر عبر جهاز الموديم في بعض الأجانب الذين عندهم أجهزة في بلدان أخرى، ودعوتهم إلى الإسلام وقد أثمرت بعض هذه الجهود. يوجد أيضاً أيها الإخوة! ثغرات في الأحياء، التعرف على الجيران، جذبهم إلى المساجد، نصحهم وتقديم ما ينفعهم وينفع أسرهم.
تصميم أشياء شرعية وإخراجها:
وعندنا إشكالات في قضايا تحتاج إلى تصميم وإخراج، ما أكثر المنكرات الموجودة في ألعاب الأطفال، وفي أفلام الكمبيوتر، ألا يكون هناك من أولي الألباب من أصحاب القدرة والطاقات المكدسة الموجودة التي تسرح وتمرح وتلعب بالألعاب من يصمم أشياء تنفع أطفال المسلمين من شرح العبادات مثلاً؟ أو عرض تفسير سور قصيرة ونحو ذلك من الأشياء، بدلاً من ترك هذه الأشياء تغزو عبر الأجهزة أدمغة أطفالنا.
دعوة الأعاجم والتجمعات:
وكذلك فإن الإنسان المسلم يمكن أن يُوصل خيره إلى مجموعات كبيرة من العمال الأعاجم إذا أتاهم بواحد فقط منهم، يستطيع أن يتفاهم معه، قد اصطحبه وعقد معه آصرة الأخوة الإسلامية، وقام بتعليمه وإيصال الخير له، وهذا الرجل يكون رسولاً إلى بني قومه، وقد يأتيك بأسئلة من عندهم، وأنت بدورك تتصل بأهل العلم للمجيء بالإجابات عليها، ألا يكون هناك ممن ينتدب نفسه للإتيان إلى محلات الانتظار كصالونات الحلاقة والمستوصفات وأماكن النقل الجماعي والدوائر التي يكون فيها كثرة مراجعين ينتظرون؛ مستشفيات.. جوازات وغير ذلك، ويقوم بالإتيان بهذه الكتب التي طبعت ورخصت رسمياً، لكي تعطى لهؤلاء الأشخاص ليستفيدوا منها، فيكون هناك نشر عظيم للخير. هناك من العوائل من يكون لهم ديوانيات أو مجتمعات خاصة للأسرة خاصة بالعائلة، ألا يكون هناك من ينتدب نفسه لعمل مجلة لهذه العائلة، فيها أخبار العائلة والأسرة، ومن سار ومن حضر ومن تزوج ومن توفي ونحو ذلك، ومن سافر ومن رجع ومن تخرج ثم تطعم هذه المجلة بالفتاوى والمقالات المناسبة وأشياء مفيدة وخيرة؟!
استغلال المناسبات الاجتماعية:(/12)
وهناك أيضاً مجال للمشاركة في المجلات، كتابة المقالات الإسلامية وإرسالها، هذه أشياء وأشياء كثيرة جداً، وهناك مجال أيضاً لقضية استغلال المناسبات الاجتماعية، كالعقيقة وغيرها وإذا حضر الإنسان يكون مفيداً في المجلس. بعض الناس إذا أتوا إلى مجلس يكونون في غاية التقوقع، ما يقدم شيئاً ويترك المجال للعابثين لاستلام وإدارة زمام هذا المجلس، وهو قادر على أن يقوم بإلقاء كلمة أو فتح حوار مناسب. أيها الإخوة! إن هناك عدداً من المناسبات الاجتماعية التي يمكن استغلالها لخدمة الدين وتعليم الناس وعلى الأقل إزالة ما فيها من المنكرات، كولائم الأعراس أو دعوة العقيقة وغيرها، كم نحن نهدي هدايا بمناسبات مختلفة، إذا جاء إنساناً مولود أهديناه هدية، وإذا نزل إنسان بيتاً جديداً أهديناه هدية، وإذا تزوج أهديناه هدية، وإذا رجع من سفر قد تخرج مثلاً أهديناه هدية، لماذا لا نرفق مع الهدية شيئاً مفيداً يقرؤه أو شيئاً طيباً يستمع إليه؟ ويمكن كذلك أن تؤخذ هذه الكميات من الأشياء التي سبقت وأن قرئت، والأشياء التي سبق وأن سمعت وصارت مستخدمة وهي عرضة للتلف لأن تؤخذ ويعاد توزيعها إلى من يستمع إليها ويقرأ فيها، وكذلك فإن الشاب الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن لا تخلو سيارته أو جيبه من شيء يقدمه لغيره، إذا التقى مفاجأة في مناسبة من المناسبات أو سوق أو دكان ونحو ذلك بما يفيد الآخر، وهذا يعتمد ولا شك على حنكة هذا الداعية وتقديره للواقع، فإنه إذا ذهب إلى مكان يتوقع أن يوجد فيه منكر من المنكرات اصطحب معه فتوىً لأهل العلم في الموضوع نصح بها ذلك الشخص أو قدمها إليه، أو دلالة على خير يدل بها بعض الناس إلى خير، كما إذا زار بعض أرباب الأموال مثلاً قدم إليهم نصيحة عن المجالات التي يمكن أن يضعوا فيها أموالهم في خدمة الدين، والأماكن الموثوقة التي يمكن أن يعطوا تبرعاتهم وزكواتهم وصدقاتهم إليها.
أصحاب الوظائف ودورهم في الدعوة:
ولا ننسى أن هناك كثيراً من الأماكن التي لا يصل إليها النصر ولا يصل إليها الخير، وكأنها موقوفة على أهل الرذيلة والفساد، ولكن إذا كان الإنسان مجتهداً في الدعوة إلى الله فيمكن أن يصل إليها، وأن تكون بؤرة خير، والمدرس في مدرسته يستطيع أن يعمل للإسلام وهو في فصله يعمل للإسلام، والطبيب في عيادته يعمل للإسلام، ويستطيع الموظف في الدائرة أن يعمل للإسلام يستطيع الإنسان في أي موقع من المواقع أن يعمل للإسلام، وأصحاب الوظائف الدينية عليهم المسئولية الكبرى كأئمة المساجد والخطباء الذين لا بد أن يقدموا للناس ما يفيدهم، حتى من الأشياء التي ربما لا تكون شرعية بحتة، وإنما هي داخلة في الدين، لكن ليست مما يتعلق بالعلم الشرعي، كبعض النصائح أو الأشياء المفيدة طبياً واقتصادياً أو اجتماعياً مثلاً. وكذلك هناك أشياء تحتاج إلى تجارة وضبط كأوقاف المسلمين التي ضاعت في كثير من المحلات والأماكن، وعندنا مجالات واسعة للعمل للدين حتى في الورش والمحلات التي ربما لا يغشاها إلا بعض الناس من أصحاب الأجور المتدنية، أو يعملون فيها، هؤلاء لنا واجب معهم، يذهب الواحد منا لإصلاح سيارته في الورشة أو يشتري طعاماً من المطعم، ونحو ذلك ربما يرى منكراً أو فرصة للخير والأمر بالمعروف يسأل هذا العامل عن اسمه، أمسلم أو كافر، فإن كان مسلماً نصحه بنصيحة أو علمه شيئاً أو سأله عن بعض أحوال بلده. فربما قال له شيئاً فيه بدعة فعلمه أنها بدعة مثلاً، أو إذا كان كافراً دعاه إلى الإسلام ألقى كلمة: (لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) على الأقل يقيم الحجة.
المجالات النسائية:(/13)
وعندنا مجالات كثيرة منها المجالات النسائية، النساء عليهن أيضاً مسئوليات عظيمة، المرأة تعلم المرأة التي لا تجيد تلاوة القرآن، وتعلم المرأة الأخرى تلاوة القرآن حتى لا نقع في حرج أن تجلس أو تتعلم امرأة عند رجل أجنبي ولو من وراء حجاب ثم تزين صوتها وتجوده، نقول: عندنا من النساء من يكون عندها علم بالتجويد وإتقان للتلاوة، على هؤلاء النساء فرصة ومسئولية كبيرة في تعليم النساء الأخريات. وكذلك الرجال كل واحد يعلم النساء من محارمه طريقة التلاوة الصحيحة وأحكام التلاوة التي لا بد منها، أما أن يوجد عند أمك وأختك وخالتك لحن جلي في القراءة يُفسد المعنى ويغيره، وأنت لا تغير شيئاً ولا تحرك ساكناً فلا شك أن هذا من العجز والتفريط العظيم جداً. وهؤلاء النساء في مراكز تحفيظ القرآن عليهن واجبات كثيرة، وداخل الأسر والعوائل، يمكن أن تلقى المرأة المتعلمة الملتزمة بالدين درساً لقريباتها، ونشر الحجاب. المدرسات في المدارس نصائح مهمة جداً ربما تكتشف طالبة عندها عن منكر كصور، مراسلات، معاكسات هاتفية وأشياء من هذا القبيل، يجب عليها أن تقوم بواجب النصح والتحذير وتأليف القلوب على الدين، وأن إهمال القضيةلمجردإلقاء المنهج وأخذ الراتب لا شك أنه قصور عظيم في فهم مسئولية المرأة المسلمة، المسئولية عن هذا الدين: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف: 4 ].
السفر إلى بلاد أخرى ومجال الدعوة فيها:
ونحن ندخل المحلات التجارية وقد يكون فيها أشياء كثيرة تحتاج إلى نصح أصحابها أو استبدالها بأشياء طيبة فلا نتكلم ولا ننبس ببنت شفة، لا شك أن ذلك من الأشياء التي تُوجع القلب، عندما تحين الفرصة للسفر إلى بلاد أخرى فيها جاليات إسلامية لنصحهم، وهذه مهمات فبعض الناس عنده هواية للسفر، نقول: هناك مجالات للسفر إلى بلاد المسلمين فيها جهل عظيم تحتاج إلى إغاثة وعمل مشاريع ولو صغيرة، تحتاج إلى إقامة دروس، الذين طافوا تلك البلدان تأثروا جداً باستقبال أهلها لهم عندما علموا أنهم من بلاد الحرمين ومهبط الوحي، وتأثروا لما قدموا لهم من النصائح وتجمعوا عليهم بأعداد كبيرة يسألون عن أشياء في أساسيات الدين. فإذا كان هؤلاء عندهم قدرة وعندهم رغبة في الإفادة فعلاً، ويقولون: لابد من السفر نقول: إذاً اذهبوا إلى تلك الأماكن فإن في العمل فيها خير عظيم جداً، ولو اصطحب معه بعض التبرعات لإقامة مسجد أو حفر بئر أو عمل شيء، المشاركة مع غيره في خدمة طبية أو علاج اصطحب معه من الأدوية المتداولة التي لا شك أن الناس يحتاجون إليها في كل مكان، كأدوية الحرارة والصداع مثلاً وغير ذلك. ألا يكون في تقديمها أيضاً أجر ومساعدة وسبق لنشاط الجمعيات التنصيرية في بلدان المسلمين؟!! هذه الجهود ولو كانت بسيطة وفردية، لكن الله سبحانه وتعالى يبارك فيها ولا شك أيها الإخوة. وكذلك فإن الإنسان المسلم يحاول دائماً أن يبرز الخير، وأن يعلن عن دين الإسلام وعن الأحكام الشرعية، إذا جاءت مناسبات عشر ذي الحجة، رمضان، عاشوراء، يوم عرفة، أشياء فيها فضائل يحتاج الناس فيها إلى تذكير في المساجد أو غيرها، وإعطاء الناس ما كتبه أهل العلم في فضائل هذه الأيام مثلاً، نحن الآن مقبلون على عشر ذي الحجة، إشاعة أهمية عشر ذي الحجة بين الناس، وأجر العمل في هذه العشر، والناس كثير منهم فيهم خير أو رغبة في الخير أو على الأقل يفتحون لك المجال للكلام، يستمعون إليك. فأين عملك أنت في هذه المناسبة؟! كل واحد في موقعه، نكون في مواقع مختلفة، يمكن أن نذكر في تلك المواقع أناساً يحتاجون للسؤال عن أشياء من الدين لا يجدون، لكن أنت لو فتحت المجال وسألوا وأنت تنقل لهم فتاوى أهل العلم.
لا تحتقر الجهود والدعوات العامة :(/14)
وأعود وأقول أيها الإخوة! لا يصح أن نحتقر أنفسنا أو مجهوداتنا، ويجب أن نقدم، وهذه قصة شاب أبكم لا يتكلم، قصة لا شك أن فيها عبرة، كان يذهب إلى أماكن الورش، الأماكن التي فيها الصناع والعمال من هؤلاء المسلمين الذين كثير منهم لا يعلمون أشياء كثيرة عن الدين، فيعطيهم ما تيسر من الأشياء المقروءة والمسموعة التي فيها مواعظ والتي فيها تذكير وتعليم، وفي يوم من الأيام ذهب إلى ذلك المكان؛ ليقدم ما عنده فخرج إليه عامل ذو لحية واعتنقه وقبله وقال: ألا تعرفني.. ألا تذكرني.. أنت مررت بي ذات يوم وأعطيتني شريطاً قبل فترة طويلة، وكان سبب هدايتي، وهذا شاب أبكم كلامه عسير لا يتكلم، لكن شعوره بواجب التبليغ وواجب الدعوة دفعه إلى أن يقدم شيئاً. نعود للمسألة ونقول: ماذا قدمنا للإسلام؟ هل قيامنا بهذه الفروض الكفائية موجود؟ وقد رغب في عرض بعض الأصول الشرعية للمسألة حتى لا يظن بعض الناس أن المسألة كلام، أو أن المسألة مجرد عرض للمجالات ليس لها مستند على أصل شرعي نقول: إنها مستندة على أصول شرعية موجودة في كتب العلماء، هناك وظائف إسلامية وشرعية يجب أن نعد أنفسنا للقيام بها، وتغطية هذه الثغرات الموجودة في المدن والقرى والأحياء والمساجد وأماكن الناس، وأن نعلمهم دين الله سبحانه وتعالى، نحن رسل خير وهداية، ونقفو آثار الأنبياء وهكذا ينبغي أن نكون. أما أن تذهب أوقات الشباب سدى وتذهب في مجالس الغيبة والنميمة، والشجار والعراك، والجدل العقيم والتقوقع بدون فائدة، تكديس طاقات بدون أن تنطلق في خدمة هذا الدين ، وكذلك فإننا نذكر أنفسنا بقضية المسئولية في العمل، نذكر أنفسنا أن هناك واجبات كفائية لا بد من القيام بها، ونذكر أنفسنا أن الدعوة إلى الله أياً كان مجالها وأياً كانت الوسيلة التي تسلك فيها، هي مسئولية سنسأل عنها، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44] سنسأل عن هذا، صحيح أن هذا شرف، الانتساب إلى الإسلام شرف عظيم، كثيرون يعبدون البقر وآخرون يعبدون الجواميس ويعبدون تمثال بوذا، ويعبدون الشيطان وبعضهم يعبدون المال، ويعبدون أهوائهم وشهواتهم، فضلك الله عليهم بأن جعلك مسلماً توحد الله عز وجل، لكن هذا الشرف له تكليف، لا بد للتشريف من تكليف، إذا شرفك الله بأن كنت من أهل الدين فماذا قدمت لرفع شأن الدين إذاً؟! فانقسم الكلام في موضوعنا السابق عن واجبات كفائية يجب السعي لسدها والإعداد، لأن السبق قد لا يكون حاصلاً الآن، لكن الإعداد لسد الثغرات. وكذلك تنبيه على بعض الوسائل التي تستخدم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي تعين على سد بعض الثغرات، لكن القضية الأساسية قضية تحقيق فروض الكفاية، على أن لا يعيب المسلمون على بعضهم، ولا يحتقر بعضهم بعضاً في المجهودات التي يقدمونها، طلبة العلم لا يحتقرون الذين يقومون مثلاً بدعوة العامة ووعظهم، مع أن الذي يقدم المواعظ ما عنده علم، لكن يستطيع بهذا التقديم بفضل الله عز وجل أن ينقل أناساً من معسكر أهل الشر والضلال إلى طريق الهداية، ولا يعيب طلبة العلم ولا الوعاظ مثلاً على من يشتغل في خدمة قضايا المسلمين، وقضايا الجهاد وقضايا الإغاثة مثلاً. الثغرات كثيرة جداً، ونحن نحتاج إلى عمل متكامل، المسلمون يكمل بعضهم بعضاً، ولا يعيب بعضهم على بعض، هناك حد أدنى من العبادة يجب أن يكون موجوداً، هناك حد أدنى من العلم، ما يصلح إغاثي ولا مجاهد أن يعمل لهذا الدين وهو ما عنده الأساسيات التي يعبد الله سبحانه وتعالى بها، يصلي ويصوم ويحج وينكح ويبيع خطأ لا يجوز له ذلك حتى لو كان مشتغلاً بعمل آخر غير قضية العكوف على طلب العلم. فإذاً: أهل الحسبة والجهاد والعلم والوعظ والإغاثة، هذه الفروض الكفائية يجب أن تسد وأن يقوم لكل ثغر منها من يطيق القيام به، ويكون صاحب خبرة فيه ويستطيع أن يقدم فيه، ولا يعيب بعضهم على بعض، فبهذه الطريقة تجتمع الجهود، والقضية في النهاية نصرة الإسلام والعمل لدين الله سبحانه وتعالى.
الأسئلة :
الجمع بين طلب العلم والدعوة:
السؤال: إذا رأى الإنسان أن موقعه يستطيع من خلاله خدمة الإسلام ولكن نفسه تتوق لطلب العلم، فهل الأفضل له ترك موقعه والتفرغ لطلب العلم؟ الجواب: كيف كان العلماء يفعلون؟ أي: ابن المبارك ما كان يذهب للمرابطة في الثغور؟ ما فائدة طلب العلم أليس التبليغ وتعليم الناس؟!!. فإذاً: لماذا الفصل المقيت بين المهمات المختلفة؟ ونقول: طالب العلم هذا لا يصح له مطلقاً أن يجمع تبرعات لعائلة فقيرة لماذا؟ هذا فصل مذموم، ولذلك ينبغي علينا أن نرتقي بهممنا حتى نستطيع الجمع بين أكثر من باب من أبواب الخير.
خدمة الإسلام في المدارس والجامعات:(/15)
السؤال: كيف نقوم بخدمة الإسلام في المدارس والجامعات؟ الجواب: نقول: لا شك أن المدارس والجامعات هي مجمع يجمع أعداداً من الطلاب، ولا شك أنه يحصل في هذه الأماكن اجتماع بهم لفترات طويلة خصوصاً عندما يكون هناك سكن داخلي مثلاً في الجامعة، فأنت لا تلتقي بهم فقط في الفصل الدراسي، تلتقي بهم في السكن وتلتقي بهم في المطعم وتلتقي بهم في أماكن مختلفة. إذاً لا أقل من كلمة خير؛ نصيحة عابرة لهذا الشخص، فأقول: إن الشخص مادام موجوداً في مجمع من الناس، فإنه ينبغي أن يقدم ما يستطيع تقديمه في هذا المجال، ولا شك أن هذا الاحتكاك ينبغي أن يستثمر لصالح الإسلام، بأن تكون مصاحبة هذا الشخص في المدرسة والجامعة طريقة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وهدايته أو إنقاذه من أهل الشر، ربما يكون جلوسك عنده مانعاً لأصحاب السوء من الإتيان إليه لأنهم إذا رأوك موجوداً عنده في مسكنه ما جاءوا إليه، مرة ومرتين وثلاثاً وفي النهاية يتركونه، فأنت تكون قدمت خدمة غير مباشرة عن طريق منع المنكر هذا.
عوائق في طريق خدمة الدين:
السؤال: إنني معلمة وأريد أن أخدم الدين في هذا المجال، فإذا كان يوجد لدي عوائق من إدارة المدرسة فماذا أفعل؟ الجواب: أقول: لا أقل من الصلة الشخصية بالطالبات، لو لم تستطيعي أن تقدمي لهن شيئاً لا في الحصة ولا في الفسحة، فلا أقل من أن يكون هناك ارتباط شخصي، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى -أيها الإخوة- هي تأثير شخصي، في كثير من الأحيان النجاح يكون وليد التأثير الشخصي؛ علاقات تقوى، إكرام الشخص، الدخول إلى قلبه، كسب محبته هذا هو الطريق للتأثير ، بحيث في النهاية إذا قلت له الحكم نفذ، وإذا قلت له نصيحة قبل واستمع.
لا إيثار في القرب:
السؤال: إذا تساويت أنا وشخص في الطاقة أمام مجال من مجالات خدمة الإسلام، هل أتقدم لأنال الأجر أم أوثره لغيري؟ الجواب: لا، تقدم يا أخي تقدم أنت، لماذا تترك الأجر هذا ربما يكون دليلاً على عدم الحرص.
الدعوة في الأهل والأقارب أولى:
السؤال: كثير من الشباب فاشل في أسرته وتراه كالنحلة مع إخوته؟ الجواب: صحيح.. وهذا مثل جيد وتشبيه واقعي لعدد من الناس الذين عندهم هذه القضية وهي: أنهم فاشلون مع آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، وأعمامهم وعماتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأجدادهم وجداتهم، أقرب الناس: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] هذا لا يعمل معهم شيئاً البتة، لو أنه جرب وقال: ما ما استطعت وقال: هم أكبر مني سناً ما تقبلوا، طردوني وأغلقوا فمي، وأسكتوني واحتقروني، لقلنا: أنت قمت بالواجب وبلغت وما تقبلوا منك فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد، لكن أنت مجهوداتك مع إخوانك وتنسى أهلك وأسرتك، وهذا لا ينبغي مطلقاً لشاب يفقه دين الله سبحانه وتعالى.
الدعوة بالمراسلة:
السؤال: ما رأيك في المراسلة لدعوة بعض الشباب المنحرفين؟ الجواب: وسيلة مجربة وناجحة، والشخص يمكن إذا ناقشته أن يجادلك وأن يضيع وقتك، وأن يسكتك وربما يفحمك إذا كان هو أقوى بالجدل، لكن إذا أرسلت له برسالة فإنه لن يقوم بهذا الجدال والمراء لأنه يقرأ شيئاً جامداً لا مجال للاعتراض، فربما تكون الرسالة أكثر تأثيراً مع بعض الأشخاص.
سبب موت الهمم وعلاجه:
السؤال: هل ترى أن قلة التوجيه وانعدامه عند بعض الدعاة هو السبب الرئيسي في موت الهمم والانشغال بالصغائر عن معالي الأمور؟ الجواب: نعم، لا شك في ذلك، لكن كونه ما وجد أحداً يُوجهه هل نعفيه من المسئولية؟ الجواب: لا. ينبغي هو أن ينصح نفسه بنفسه، وأن يدل نفسه على الخير وأن يبحث عن أبواب الأجر وأن يقوي همته، ما معنى هذا الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه؟ هل أحد وعظه؟ هل أحد ذكره بالله؟ هل أحد تلا عليه آيات العذاب؟ لا، هذا رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فنريد نحن من الشباب أن يذكروا الله وهم في خلواتهم، ويذكروا أنفسهم بالمسئولية تجاه الدين، فربما يحيا في أنفسهم واعظ الله عز وجل فيقومون للعمل بدلاً من الجلوس والكسل وتعطيل الطاقة.
تسخير الشِّعْر في نصرة الإسلام:(/16)
السؤال: أنا شاعر فكيف أجعل شعري لنصرة الإسلام؟ الجواب: وجه شعرك بأن تكتبه، تجعل هذه الأوزان والقوافي محملة بالمعاني الدينية والشرعية، وبالأحكام وبالأخلاق، وبالرقائق وبالآداب وبالذب عن الدين وبمهاجمة أعداء الدين (اهجهم وروح القدس معك) هكذا كان حسان بن ثابت يهجو كفار قريش، وكان شعره أشد عليهم من بعض سهام وسيوف المسلمين، عرض المآسي، استدرار العواطف، إيقاظ الهمم، إلهاب المشاعر، هذه أشياء يطيقها الشعراء. فإذا وجه هذا إليهم بعض القصائد المؤثرة عن التوبة كان لها الأثر في نفوس الناس، قصائد عن التوبة وقصائد عن الموت واليوم الآخر والزهد في الدنيا وقصر الأمل، هذه كان لها آثار كبيرة على النفس، هي أبيات شعرية لكن آثارها كبيرة على النفس، بدل من الانشغال بألوان الجناس والطباق والبديع والأشياء التي هي أشبه ما تكون بالطرف الشعرية، والألغاز والأحاجي الشعرية، بدلاً من هذه لنسكب هذه المعاني الإسلامية في أشعارنا لمن كان يعمل الشعر.
إقامة الحجة واجبة:
السؤال: أنا طالب جامعي أعيش في مدينة تكثر فيها البدع والمعاصي، وأنا شخص ليست لدي حجة وبيان، ولا أستطيع النصح والدخول في مناقشات مع بعض السفهاء؟ الجواب: لا بد أن نقوم لله بالحجة، أن نتكلم فإذا اعترض واحد وسفه الآخر، واستهزأ الثالث يكون قد قمت بالواجب، ثم ماذا لقي الأنبياء من أقوامهم؟ هل لقوا الكلام الجميل والثناء العاطر والشكر الجزيل والإكرام؟ لا. أكثرهم لقي الصدود والإعراض والاستهزاء، وقالوا عنه شاعر ومجنون وأفاك وبه جنة، قالوا عنهم أشياء كثيرة جداً، فإذا كان هذا سيتوقع أنه إذا نصح وعلم أنه سيقابل بالإكرام والحفاوة والترحاب، فلا شك أنه قد غابت عن باله دعوة الرسل، ثم إذا كنت لا تستطيع الكلام مطلقاً قدم شيئاً مسموعاً أو مكتوباً يستفيد منه وتقام به الحجة عليهم.
كيفية الدعوة في الدول الأجنبية:
السؤال: أنا شخص أدرس في آخر السنة ومسافر إلى أمريكا فما هي المجالات التي أفعلها هناك؟ الجواب: أولاً: ينبغي أن تتأكد من شرعية ذهابك إلى بلاد الكفار، وأن هناك حاجة للمسلمين في ذلك، وأن عندك عقلاً تدفع به الشهوات، وعلماً تدفع به الشبهات، وبعد ذلك تسافر فإذا سافرت فلا شك أنك ستجد من الأقليات الإسلامية هناك من تتعاون وتتناصر معهم، وتصطحب معك من الأشياء المفيدة ما يحتاجون إليه هناك، ولا شك أنك ستكون واحداً في خلية من المسلمين الذين يحمون أنفسهم من التأثيرات الكفرية في تلك البلاد، ولا شك أنك ستذكر نفسك كثيراً بقضية غض البصر عن الأشياء الموجودة هناك.
بعض الثغرات التي لم تسد:
السؤال: معلوم أن من فروض الكفاية دعوة أهل الكتاب، وبحكم وجود بعض النصارى فقد تجرد بعض الشباب لدعوتهم للإسلام، فهل تظن أن هذه الثغرة قد سدت؟ الجواب: لا. لأنهم أكثر بكثير من هؤلاء الشباب الذين يدعونهم إلى الإسلام. هذا عن بعض الفرص الدعوية، ذكرت أشياء وهناك أشياء أيضاً موجودة في كتاب كتبه بعض الأفاضل وهو إبراهيم بن عثمان الفارس عن اثنين وتسعين وسيلة أو طريقة دعوية، فأيضاً يمكن الرجوع إليه، وعنه نقلت بعض النقاط.
معنى التفرغ لطلب العلم:
السؤال: التفرغ لطلب العلم ماذا تعني هذه الكلمة؟ الجواب: إذا ذهب الإنسان إلى جامعة شرعية، تكون دراسته واختباراته مذاكرته وواجباته وبحوثه كلها شرعية، فهذا نوع من التفرغ، وإذا كان يأخذ مكافأة شهرية فماذا يريد أكثر من ذلك، لكن لو قال: وترك الدعوة إلى الله هل تعني ترك إنكار المنكر؟ الجواب: لا. بطبيعة الحال، وإلا صار العلم الذي تتعلمه وبالاً عليك، ماذا استفدت من العلم إذا كنت ستترك الواجبات الشرعية.
كيفية المحاسبة للنفس:
السؤال: هل يشترط في معاتبة النفس أن يتحدث الإنسان مع نفسه بصوت مسموع، أم يكفي التفكير والمعاتبة داخل النفس؟ الجواب: يكفي التفكير والمعاتبة داخل النفس ولا يشترط أن يكون الكلام مسموعاً، وخصوصاً إذا كان حوله أشخاص فإنه لا يكون من الإخلاص في المحاسبة أن يرفع صوته.
أهمية التقيد بالأذكار الشرعية:
السؤال: هل يجوز أن يقول الإنسان بعد الأكل أو الشرب: اللهم جزاؤك الحمد والشكر، بدلاً من قولك: لك الحمد والشكر؟ الجواب: جزاؤك الحمد والشكر؛ بعض العبارات قد تكون صحيحة من ناحية المعنى، لكن لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمثل هذه الأذكار أذكار الطعام والشراب، والعطاس والسلام وغيرها، ينبغي أن تكون مقيدة بما ورد في السنة، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله بحثاً في الاستعاذة من الشيطان عند التثاؤب في كتاب الأدب من صحيح البخاري فليرجع إليه.
حكم دخول الحائض المسجد:
السؤال: هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد لسماع المحاضرة؟ الجواب: قد اختلف أهل العلم في دخول الحائض إلى المسجد، الأحوط للحائض أن لا تدخل المسجد، وهذا المشهور من فتاوى علمائنا.
صلاة النافلة في المسجد من أجل الأذان:(/17)
السؤال: أستيقظ مبكراً لكي أصلي من الليل فلا أستطيع، ولكي أتمكن من أداء أذان صلاة الفجر أضطر للذهاب للمسجد، وأصلي هناك لكي أسبق غيري بالأذان، فهل أصلي في بيتي؟ الجواب: لا بأس أن يذهب إلى المسجد ليصلي ما تبقى له من قيام الليل لكي يكون هو الذي يؤذن.
طريقة السؤال في الدرس:
السؤال: أحضر حلقة تجويد ولا أجيد فهم الدرس، وأخشى أن أسأل الشيخ فأعطل زملائي وأضيع وقتهم؟ الجواب: أقول: اجعل السؤال في آخر الدرس بعد انتهاء الدرس، اسأل الشيخ حتى لا تعطل الزملاء من القراءة وحتى لا تفوت عليك الفائدة.
بدعية محاسبة النفس بالكتابة:
السؤال: ما حكم محاسبة النفس بالكتابة على ورقة وعمل جدول يومي؟ الجواب: هذا الجدول المعمول عند بعض الناس في بعض الأوراق ومكتوب فيه (صح وخطأ) وعلامات أو أرقام ليس من فعل السلف ، وهو طريقة مبتدعة للمحاسبة، لكن الإنسان يذكر نفسه بما فعل من التقصير الذي حصل، أو بالذنوب، أو بما ترك من الواجبات، أو بما ترك من الأوراد المستحبة لكي يأتي بعوض عنها.
تقديم شارب الدخان في الإمامة:
السؤال: إذا اجتمع شخص يشرب الدخان وآخر يحلق لحيته فمن يتقدم لصلاة الجماعة؟ الجواب: إذا فرض أنه لا يوجد إنسان مطبق للسنة بهم، فإن الذي يتقدم هو الذي أطلق لحيته ولو كان مدخناً لأن منكره غير مستمر، بخلاف الذي حلق لحيته.
كل ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء:
السؤال: هل كل خارج من السبيلين يعتبر ناقضاً للوضوء ولو حصاة صغيرة ؟ الجواب: هذا المشهور من كلام الفقهاء، أن كل خارج من السبيلين فهو ناقض للوضوء حتى لو كان شعراً أو حصىً أو دوداً أو دماً فإنه يعتبر ناقضاً للوضوء.
مس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء:
السؤال: هل إذا لمس الإنسان دبره ينقض الوضوء؟ الجواب: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم فقال بعضهم: إنه ينقض لأنه فرج، وتعريف الفرج: أنه ما انفرج وأن فتحة الدبر مما انفرج، وقال في الحديث (من مس فرجه فليتوضأ) لكن الراجح والله أعلم أن لمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء وأن الفرج قد ورد مشروحاً ومبيناً في حديث آخر بقوله: (مس ذكره) فإذاً الراجح أن لمس حلقة الدبر لا ينقض الوضوء.(/18)
مجتمعنا والصيف
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
على أبواب الصيف يتجدد الحديث عن مجتمعاتنا والصيف .. ذلك أن أموراً وأحوالاً وأوضاعاً كثيرة ربما يقع فيها كثيرون وهي مما ينبغي أن ينتبه له المسلم وأن يحذر منه المؤمن ذلك أنه لا يليق به ولا تناسب مع غاياته وأهدافه ومع سماته وصفاته .
وكثيرٌ من الأخوة قد أشار إلى التنبيه إلى بعض هذه الأمور لأهميتها ، وحرصاً على أن نكون بإذن الله - عز وجل - في موضع طاعته سبحانه وتعالى ، وفي أسباب طلب العز والنصر والقوة لهذه الأمة التي لحق بها كثيرٌ من الضعف ، وتمزّقت أوصالها ، واختلفت آرائها ، وحل بها كثيرٌ من غضب الله - سبحانه وتعالى - بسبب تفريطها في طاعته وتقصيرها في التزام منهجه .
إن هناك ظواهر كثيرة أحب أن أقف على بعضِ منها بشيءِ من الوضوح والصراحة وبتسليط الضوء على الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظواهر ومن خلال رؤيةِ إلى بعض صور العلاج لها .
أولاً : تعطل العلم والعمل
وكثيراً ما يرتبط بالأذهان أن إجازة الصيف هي خلو عن أي عمل وتركن لأي طلب أو أخذ أو زيادة في العلم ، وهذا يظهر أكثر في صفوف طلاب وطلبة المدارس و الجامعات الذين تتوقف دراستهم ، فيرى أحدهم أن نظره في كتاب أو أن مطالعته في مسألة أو أن مراجعته لمنهج من المناهج كبيرةٌ من الكبائر ، وعظيمةٌ من العظائم ، وتسلّق في أذهان كثيرٍ من أبنائنا وشبابنا أن هذه الفترة رغم امتدادها وطولها ، ورغم وجود الفراغ فيها ورغم تهيأ كثيرِ من الأسباب النافعة خلالها .
أنه ينبغي لهم أن يكونوا عطلاً من كل علمٍ وعمل ، ونجد ذلك يتمثل في صورٍ عملية وظواهر اجتماعية كثيرة منها :
أ - السهر والعبث
فنحن نرى كثيرون في هذه الأوقات لا ينامون إلا بعد الفجر ، أو ربما بعد انبثاق النور وبداية النهار وذلك ليناموا بعد ذلك سحابة يومهم لأنه ليس ورائهم عمل .
ونجد هذا السهر عابثاً ليس فيه شيء ينفع ويفيد في غالب الأحوال ، بل فيه لغوٌ باطل ، وكلام لا نفع فيه ، ربما فيه اجتماعٌ على بعض صور وأعمال من معاصي الله - عز وجل - ربما يكون فيه كثيرٌ من أسباب الأذى .
ولذلك نجد هذه الصورة تبرز لنا لتدل لنا على هذا التعطل والبطالة .
وصورةَ أخرى نراها أيضاً تابعةَ لها وهي
ب- النوم والكسل
ولا انشغال بعمل ، ولا ارتباط بهدف ، ولا سعي لإنجاز مهمة ، بل لو كان هناك وقتٌ غير النوم ؛ فإنه يقضى في الفراغ الذي لا جدوى فيه ولا نفع فيه .
ونجد أيضاً صورةً ثالثة وهي :
ج - صورة التفاهة والأذى
التي نجد فيها كثيراً من الشباب والشابات رغم سهرهم وعبثهم ورغم نومهم وكسلهم يفيض الوقت لكثرته فلا يقضونه إلا في أمورِ تافهة يفكر أحدهم في ملا بسه أو في سيارته وتفكر الأخرى في زينتها أو في أسواقها أو غير ذلك .
ويلحق من وراء ذلك أذىً والظمأ بما يقع من الأذى للناس أو بما يقع من التجريح لهم أو بما يقع من آثار الاجتماعات والتجمعات التي يقضون فيها أوقاتهم فنجد حينئذِ تجسداً لهذه الصورة التي لا تليق بالمسلم فضلاً عن شباب الأمة الذين هم أملها المرتقب .
ونحن نرى ذلك تدفعه أسبابَ وتهيأه أوضاع ذلك أن هناك تربيةَ أسرية تكرس هذه المعاني .
فنجد كثيراً من الآباء والأمهات يغرسون في نفوس أبنائهم هذا المعنى أنه لا ينبغي أن يقرأ ولا أن يتعلم ولا أن يعمل شيئاً ولا أن تسند إليه المهمة ولا أن يقوم بأي شيء وكذلك نجد أمراً آخر يساعد على ذلك وهو :
د - البيئة الاجتماعية
أي الأوسع من دائرة البيئة الأسرية ، فنحن نرى حديث الناس في الصيف عن قضاء الأوقات أو عن قتلها أو عن اتفاقات اللهو والعبث أو عن ذلك من الصور التي تكرس هذا المعنى .
وأمرٌ أيضاً وهو :
هـ - الدعاية الإعلامية
التي تعمق هذا المفهوم فهناك دعوةَ دائما للسياحة ولقضاء أوقات الفراغ ولتنزه ولغير ذلك من الأمور التي قد يكون أصلها ليس محضوراً ولا محرماً لكن تعميقها وجعلها غايةً وصرف الأوقات والأموال فيها هو الأمر الذي ينبغي أن يترفع عنه المسلم .
إننا حينما نتصور أو نجسد هذه الصورة نقف على خطرٍ عظيم ، ذلك أن هناك وقتاً طويلاً يمتد إلى أشهر وأعداداً من شبابنا وشاباتنا وطلابنا وطالباتنا تصير إلى الملايين ، وهناك أوضاعاً وأحوالاً متنوعة متعبدة كلها تكون بلا جدوى ولا ثمرة .(/1)
ونحن أمةٌ نحتاج إلى مزيدٍ من مضاعفة الجهد والعمل ، وإلى مزيدٍ من تحصيل الثقافة والعلم لندرك من سبقنا في أبواب كثيرةٍ من أبواب التقدم والعلم ونحو ذلك ، ولنحصل كثيراً مما فاتنا ومما سبقتنا إليه أمم أخرى ، ومع ذلك نجد هذا على هذا النحو بل إننا نجد شكوى نعومةً من بعض الشباب في أوقات الدراسة وهم يأملون ويطمحون ويؤجلون كل آمالهم وطموحاتهم إلى هذه الفترة ، فتجد أحدهم لا يجد فرصةً للعبادة والطاعة بحجة انشغاله بالدراسة ، وآخر لا يجد متسعاً من الوقت للثقافة والإطلاع وزيادة المعلومات بسبب الانشغال بالتحصيل والاختبارات ، وثالث أيضاً لا يرى فرصةً لتنمية المهارات أو ممارسة الهوايات فأين هذا كله في هذه الفترة .
نحن نسأل عن الليل أين قيام الليل من هذا السهر العابث واللهو التافه الذي يقضى فيه كثير من الأوقات .. أين قول الله عز وجل : { وبالأسحار هم يستغفرون } ؟ .
أين أنت أخي المسلم أخي الشاب من قول الله عز وجل : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيل } .
ألا تذكروا صحب النبي – صلى الله عليه وسلم - صغار الصحابة الشباب كيف كان يقضي ليله وهو في النهار من المجاهدين ومن العاملين ! لا من النائمين والكسالى الذين تتاح لهم فرصة للراحة .. نعلم قصة ربيعة بن كعبِ رضي الله عنه لما سأله النبي – صلى الله عليه وسلم - عن أمينته ليدعوا له بها فقال : " أسألك مرافقتك في الجنة " . قال : ( أو غير ذلك ؟! ) ، قال : " ليس إلا هو " ، قال : ( فأعني عل نفسك بكثرة السجود ) .
فلم يكن - رضي الله عنه - يدع قيام الليل بعد ذلك وهو في الرابعة عشر من عمره .
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في الصحيح البخاري جاءه النبي عليه الصلاة والسلام
فقال له : " ألم أخبر أنك تصلي فلا تنام وتصوم فلا تفطر وتقرأ القرآن في كل ليلة ؟! " ، قال : نعم يا رسول الله .
هذا الخبر الذي بلغ النبي - عليه الصلاة والسلام - عن حال عبد الله بن عمر الشاب الذي كان في مقتبل العمر كان يصلي فلا ينام يصوم فلا يفطر يقرأ القرآن في كل يوم مرة حتى رده النبي - عليه الصلاة والسلام - للاعتدال فذكر له صيام يومِ وإفطار يوم وأن ينام نصف الليل وأن يقوم ثلثه وأن سدسه الأخير كما علمه النبي عليه الصلاة والسلام - وأن يختم القرآن في خمسِ أو في سبعِ كما في بعض الروايات .
نحن نقول لإخواننا ولأنفسنا ولآبائنا أيضاً : إن هذا الوقت الذي يفرغ فيه الإنسان أو يفرغ فيه الشاب من هذا الارتباط بالدراسة أو التحصيل أو غير ذلك .
ينبغي أن يقابله هذا الاستثمار في العبادة والطاعة أين الذكر والتلاوة كثير من الشباب لا يجدون كما يقولون وقتاً في تلاوة القرآن وذكر الله - عز وجل - في أوقات الدراسة أفليس جديراً بهم أن يقرأوا جزءاً من القرآن في أول نهارهم وجزءاً في آخر يومهم أو أكثر من ذلك كما كان شباب صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم - يفعلون .
أين المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى المساجد والصلوات ؟ أين هذا كله الذي كان يترك بعضه أو كثير منه بحجة الانشغال بالدراسة والتفرغ لها ؟ .
فما بالنا نشكوا هذه الشكاوى المزعومة وندعي هذه الدعاوى الموهومة ثم إذا جاء الوقت وحانت الفرصة لم نجد لهذه الدعوة الصورة الحقيقية الصادقة لها .
وأمرٌ آخر غير العبادة والطاعة أمر الثقافة والاطلاع
لماذا لا يستثمر الوقت في مثل هذا المجال لتحصيل مزيد من العلم أو تهيأ للعام القادم أو مراجعة مما مضى من التحصيل ، أو توسيعاً للمدارك أو زيادةً في أبواب من الفهم أو العلم يميل إليها الشاب أو الشابة كأنه كما أشرت من قبل ينبغي أ لا يكون خلال هذه المدة الطويلة في الإجازة الصيفية أي لا قراءةِ ولا إطلاع ولا كتاب ولا مقال ولا حتى سطراً واحداً ، نجد ذلك كأن الإنسان إنما جعل له هذا الوقت ليبدده من غير فائدة .
ونحن نعلم ما كان من سلقنا - رضوان الله عليهم - كيف نقلوا لنا سنة النبي - كيف نقلوا لنا القرآن الكريم ؟ كيف نقلوا لنا هذه الثروة الهائلة من العلوم الإسلامية والمؤلفات الضخمة ؟ لم يكن أحدهم ينام ملء عينيه ، ويأكل ملء ماضغيه ، ويطمئن إلى الدنيا ، وينشغل باللهو والعبث بل كانوا على جد وعمل .
فهذا بن عقيل الحنبلي يقول : " إنه ما يترك إلا وهو ينشغل بالقراءة ؛ فإن لم يكن فبي كتابه فإن تعب تمدد وشغل فكره في مسألةً من المسائل وكان بعض السلف وبعض علماء الأمة من أمثال إمام الحرمين الجويني لا ينام إلا مغلوباً ليس له وقت في النوم وإنما يقرأ ويطالع ويدرس ويعمل حتى يرهق فينام ، فإذا نام نومةً قصيرةً كانت أو طويلة إذا استيقظ واصل عمله جدَ ودأبَ واستثمارَ واستغلال " .
فما بالنا نحن في هذه الظروف اليسيرة التي هيأ الله فيها أسباباً من النعم كثيرة نفرط مثل هذا التفريط وندع مثل هذه الفرص دون اغتنام .(/2)
ونجد أيضاً أن هناك ضعفاً فيما ينبغي أن يقدم للشباب في هذه الأوقات فلا نرى كثيراً من البرامج التي تحثهم على القراءة والإطلاع لا نجد المسابقات الثقافية التي تتناسب مع وقت الفراغ حتى يشغل فيما ينفع ويثمر .
لا نجد أيضاً التوجيه الإعلامي المناسب الذي يعمق هذا التوسع الفكري والإطلاع الثقافي لدى شبابنا ، حتى إننا نجد صوراً منسوخةً لا يعرف فيها أحدهم حتى ما درسه من المناهج بل لا يعرف أحدهم أن يجيد كتابة اسمه فضلاَ عن أن يكون صاحب علمِ ومعرفة .
وأمر آخر أيها الأخوة الأحبة الهوايات والمهارات :
كسب العمل والتدرّب على المهن للفرص التي تتاح في هذا الوقت للشباب .
لماذا لا يُستغل العمل والجد وتحمل المسؤولية ؟ لماذا يبقى شبابنا حتى التخرج من الجامعة وهو كما يقولون لا يزالوا غير قدرِ على تحمل المسؤولية .
ألم يكن من صحابة المصطفى – صلى الله عليه وسلم - من قادوا الجيوش وهم في السابعة عشر من عمرهم ؟ ألم يكن منهم من تولّى الأمارة ومن عمل أعمالاً وقام بمهماتٍ عظام كمهمة نقل القرآن وكتابته - كما قام به زيد بن ثابت وهو شابٌ غضٌ طري - ما لا نعود أبنائنا على تحمل المسؤولية لم لا يشتغلون ويعملون ؟لم يعيشون على كد آبائهم وحسب دون أن يتهيئوا لحمل المسؤولية والقيام بالعمل .
لقد كان عمر بن الخطاب ينظر إلى الرجل فتعجبه عبادته وتعجبه طاعته فيسأل عن عمله وعن نفقته فيقال له :
" إنه لا عمل له وإن أخاه أو أباه ينفق عليه " فيسقط من عينه ؛ لأن الإنسان بلا عمل بلا مسؤولية بلا مهمة لا قيمة له كيف يعيش بل هذه الأمور التي هي كدح الحياة والتي هي استثمارها ، والتي هي التهيؤ وأخذ الأسباب التي تعينه على طاعة الله عز وجل بها .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( ما أكل ابن أدم طعاماً قط خيرٌ من أن يأكل من عمل يده ) .
ونعلم توجيهه - عليه الصلاة والسلام - عندما جاءه الرجل الذي يسأله فأعطاه ثم جاء يسأله فأعطاه ثم قال له :
أليس عندك من شيءِ من مال ؟! ، قال : لا إلا قصعة ، قال : فأتني بهما فنادى بهما النبي – صلى الله عليه وسلم - للبيع فبيعا بدرهمين فقال : كل بدرهم واشتري بدرهمِ فأساً أو قدوماً ثم اذهب فعمل فاحتطب ، فذهب فعمل فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام .
وبيّن شرف العمل وقيمته في هذا الدين والإتقان فيه ، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاَ أن يتقنه ) .
لا بد أن نجد هذه فرصة في هذا الوقت لنشغل أبنائنا ونشغل فتياتنا بما ينفع ويعود عليهم بالفائدة .
ونحن نعلم أن هناك فرصاَ من العمل تتاح للطلبة على وجه الخصوص ، ليشغلوا أوقاتهم وليكتسبوا بعد الخبرات ، ولكن أيضاً هناك بطالةٌ مقنعة كما يقولون بعضهم يأخذوا أعمالاً أو وظائف لمجرد أن يأخذ بعض الأموال دون أن تكون هناك مهمة ولا عمل ولا اكتساب خبرة هذا أيضاً نوعٌ ليس مرغوباً فيها .
ونجد أيضاً فرصاً أخرى تتيحها معاهد التدريب المهني لاكتساب الخبرة والتدريب في كهرباء أو ميكانيكة أو في غير ذلك من الأمور النافعة التي - كما يقولون -تجعل الإنسان عنده صنعةُ في اليد تدفع عنه إن شاء الله - عز وجل - بعمله الفقر هذا وهو أمرٌ متاحٌ معروف ، وقد رأيت له إعلانات كثيرة تدعوا الشباب إلى أن يشتركوا في هذه الدورات المجانية بغير مقابل .
فاذهبوا وانظروا مدى الإقبال عليها فإنكم واجدون صورةَ أو حالةَ تحتاج إلى إعادة نظر .
وهناك فرصٌ أخرى كثيرة ينبغي أن تستثمر لأجل العمل والأجل تحمل المسؤولية ، ومن ذلك أيضاً المراكز الصيفية التي تجمع بين كثيرٍ من هذه المنافع في استغلال الأوقات ، وفي الدفع والتشجيع على العبادة والطاعات ، وفي زيادة العلم والثقافة ، وفي اكتساب المهارة وغير ذلك ، ونعرف أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد بيّن لنا أنه ما من نبيٍ إلى وقد رعى الغنم وأخبر عن نفسه أنه كان يرعاه لأهل مكة على قراريط ؛ ليبين لنا شرف العمل ، وكان علمائنا منهم الفراء ، ومنهم الخياط ، ومنهم البزاز .. ألقابهم تدل على مهنهم ، اشتغلوا بالعمل وبالعلم وتحملوا المسؤولية ، فينبغي لنا أن نلغي هذه الصورة من ترك العمل والعلم خاصةَ في صفوف أبنائنا وشبابنا : { وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن من أعظم التقوى الحرص على نعم الله - عز وجل - وتقيدها بشكرها علماً وعملاً .
وننتقل إلى صورةِ أخرى من صور واقعنا الاجتماعي وهي صورة تتعلق بتبديد الثروات من مالٍ ووقتٍ وجهد ، ويرتبط هذا التبديد إلى حدٍ كبيرٍ بوقت الصيف والإجازة التي فيه ونرى لذلك أيضاً صوراً عديدة :
أولها : كثرة السفر إلى خارج البلاد .
وثانيها : كثرة الأفراح وما يقع فيها من إسراف .
وثالثها : بذل الأموال للأبناء في الهدايا والمصاريف وغيرها .(/3)
وأقف وقفاتٍ سريعة ليس المقصود منها أن نفصل القول في هذه الجوانب ، ولكنها ومضاتٌ يكفي القليل منها ؛ لتنبه إلى ما يقع من خذلٍ ، وما قد يستتبع من خطر ، فنحن نجد كثيرين يتنادون إلى السفر من هذه البلاد إلى غيرها من بلادٍ أخرى ، وكثيرون يذهبون أيضاً إلى بلاد الكفر التي لا تقيم وزناً لخلق ولا ترفع شعاراَ من إيمان ولا شيئاَ من ذلك .
وهنا يتعرض المسلم في سفره هذا إلى مخاطر عدة .. إلى المخاطر الإعتقادية حيث يفتن بعض الناس أو بعض الشباب على وجه الخصوص بأهل الكفر فيعظمونهم ويرون فيهم مثلاً يحتدا ويرون في صورة حياتهم قدوةَ ينبغي أن تطبق في حياتنا وقد يفتنون في دينهم فيتشككون في بعض عقائدهم .
وفتنةٌ أخرى في الجانب السلوكي ، حيث يرون صوراً من التحلل والإباحية وشرب الخمور وكثرة الخنا والفجور ونحو ذلك مما نعلمه ولا يخفى على أحدٍ ولا يحتاج إلى بيان .
وخطر ثالث وهو الخطر الأمني الذي نسمع عنه في الاعتداء على الأموال أو في الخطف أو الاعتداء بالضرب ونحو ذلك مما وقع لكثيرين وليم يعتذروا أو ولم يعتبر غيرهم .
وخطرٌ رابعٌ أيضاً وهو الخطر الاقتصادي الذي يجعل كثيرون من الناس يتفننون في التبذير في الأموال في غير ما حاجة في أسباب هذا السفر أو ذلك اللهو ونحو ذلك فينفع بذلك أعداء الأمة ويضعف مواردهم المادية واقتصاد بلادهم .
وهذا أيضاً كله صورةُ مصغّرة عندما تلتفت ما هي الدعوة في ذلك ؟ هي أننا نريد أن نرفه عن أنفسنا أننا خلال فترةِ طويلة لم يكن عندنا فرصةُ لهذا الترفيه .
وأقول هذا أيضاً تصورُ غير صحيح فنحن في كل أسبوعِ عندنا يومان من أيام العطلة والإجازة كما تسمى ، وعندنا عطلةُ في الربيع عندنا عطلةُ في الأعياد وعندنا عطلةُ في رمضان وثالثةُ في الحج وكثيرون من الناس يقضون هذه العطل فيما يقولون إن ترفيه عن أنفسهم أو تجديد لنشاطهم .
فهل يضاف إلى ذلك ثلاثة أشهرِ ربما تكون ربع العام فيكون ترفيهنا أكثر من نصف العام إذاَ فأين علمنا وأين عملنا وأين جهدنا وجهادنا ؟
إذا كان نصف عمرنا يقضى فيما نجعله ترفيهاَ أو نحو ذلك ، وإذا كنا نجد أننا بحاجةٍ إلى ذلك ينبغي ألا يصاحب ذلك شيءُ من المحرمات ولا الوقوع في معاصي الله عز وجل وينبغي ألا يكون ذلك سبباً مبرراً لكل هذه التجاوزات والترخصّات بحجة أننا نريد أن نرفه عن أنفسنا .
وأمورٌ أخرى كثيرة تجيء في هذا الباب ، ونحن نريد إذا أردنا أن نرفه عن أنفسنا فإن هناك مواضع كثيرة في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد التي يقل فيها هذا الفساد ولا يوجد فيها مثل ما في بلاد لكفر فإذا كنت ولابد فاعلاَ فاقتصر في الوقت واقتصر في الإنفاق ؛ لأن هذا كله ينبغي أن يقابل بأمرِ أخر نحتاج إليه ونستفيد منه أكثر من هذا .
ونعرف أيضاً أحوال إخواننا المسلمين في بلادِ كثيرة في البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي غيرها أفيكون لنا كل الاطمئنان والسعادة في أن نبذل وننفق ونلهو ونلعب ونمرح ونفرح دون أن نتذكر إخواننا باقتطاع شيئاً من أموالنا أو باقتطاع شيءِ من وقتنا لنتفقد أحوالهم أو نزورهم في بلادهم أو غير ذلك مما ينبغي أن نشغل به أنفسنا وأفكارنا وعقولنا .
أين نحن أيضاً من سفر العبادة لم لا يكون هذا الموسم موسماً لمجاورة بيت الله الحرام في مكة المكرمة ولزيارة مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة وقتٌ هنا ووقتٌ هناك الانتقال والتغير للمكان وللناس هو أيضاً نوعٌ من التجديد أفلا يكون ترفيهاَ أفلا يكون تجديداَ أفلا يكون زيادةَ للإيمان أفلا يكون أي صورةِ من صور الانتفاع إلا أن يكون هذا السفر إلى خارج البلاد .
هذا أيضاً أمرُ ينبغي أن يكون الإنسان منه على ذكر علماً بأن المسلم ليس عنده في الحقيقة فراغ حتى يقول أريد أن أبدد هذا الوقت وهو قيمة الحياة :
والوقت أنفس ما عليت بحفظه **** وأراه أسهل ما عليك يضيع
لما تفرط في هذا الوقت والله عز وجل يخاطب نبيه – صلى الله عليه وسلم - يقول : { وإذا فرغت فانصب } .
إذا فرغت من شأن الدنيا وأعمالها فانصب لطاعة الله عز وجل فليس هناك فراغ في الحقيقة فالدنيا مزرعةُ وحرثُ للآخرة وكل وقتِ يمكن أن تستثمره في طاعة الله عز وجل ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى هذا المعنى .
ونجد الصورة الأخرى في الأفراح وما يصاحبها من إسرافٍ وتبذير بدعوة الأعداد الكبيرة وتهيئة الأطعمة الوفيرة واشتراط تغير الملابس للناس وغير ذلك من أمورِ ينفق فيها من الأموالِ ما ينبغي أن يدخر وان يبذل في أبوابِ من الخير أخرى أو أن ينتفع به لأمورِ أعظم من هذا واشرف وإذا كان يقترن مع هذا محرمات فيكون الإنفاق في هذا الباب إنفاقاَ محرما وغير ذلك من الصور التي تقترن في أمور الأفراح وهي كثيرة جدا .(/4)
وكذلك الأموال التي يعطيها الآباء لأبنائهم ليشتروا ويرفهوا عن أنفسهم دون أن يسألوهم في أي شيءٍ صرفاً هذا المال وقد يصرفونه فيما يضرهم وقد يكون مدخلاَ لهم عدما يكون المال في أيديهم إلى شيءٍ من المحرمات أو إلى شيءِ كالمخاطر الكبرى كالمخدرات وغيرها إن الشباب والفراغ والجدة مفسدةُ للمرء أي مفسدة فينبغي الترشيد والانتباه .
ولذا ألخص قولي في دعوةٍ صادقة لنا جميعاً - أيها الإخوة - أن نحرص حرصاً أكيداً على طاعة الله ، وأن نستثمر الأوقات التي أتاحها الله - عز وجل - لنا لا لشيءٍ إلا لذكره ولشكره سبحانه وتعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سرجاَ وقمراَ منيرا * هو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } .
دعوةٌ صادقة أولاً لترشيد الإنفاق والتبرع في سبيل الله .. رشدوا في السفر .. رشدوا الأفراح وابذلوا وزيدوا في سبيل الله عز وجل .
ثانياً : المحافظة على الأوقات والعمل بطاعة الله - عز وجل - أكثروا من الذكر والتلاوة وطلب العلم وانشغال الوقت في هذه الفرصة المتاحة .
ثالثاً : ترك البطالة والانشغال بالعمال .
وأخيراً : تقوية الأواصل والتعاون على الخير ..لما لا تكون فرصةٌ عظيمة لصلة الأرحام والتزاور وتقوية الأواصر ، والقيام المشاريع الخيّرة بين أهل الحي والجيران ؟! لما لا نستثمر هذه الأوقات في طاعة الله عز وجل !.(/5)
محاذير في لباس الرجال
إعداد/ محمد فتحي
أولاً: الإسبال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الإسبال هو أن ينزل ثوب الرجل عن كعبيه (الكعب: العظم النّاتئ عند ملتقى الساق والقدم). والثوب يشمل الإزار والسراويل والقميص ونحوها.
وقد وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الأطهار والأئمة الأخيار تحذر من الإسبال والتهاون في ذلك، وهي كثيرة جداً بلغت حد التواتر المعنوي، وقد رواها ما يقارب الثلاثين من الصحابة، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن والمسانيد، ومنها ما هو في دواوين السنة الأخرى.
والإسبال له حالتان:
الأولى: أن يكون إسبال الثوب خيلاء، فهذا مجمع على تحريمه وكونه كبيرة من كبائر الذنوب، لم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم المعتبرين.
والأصل في ذلك قوله تعالى: إن الله لا يحب كل مختال فخور، وقوله تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا وقوله سبحانه: الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس. فذم الله سبحانه وتعالى الخيلاء، والمرح والبطر.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة أيضاً في تحريم ذلك والتحذير منه.
فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا».
وعن محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة».
وعن سالم بن عبد الله رضي الله عنه أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا؛ من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».
هذه جملة من الأحاديث وغيرها كثير كلها من أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى البخاري ومسلم وكلها صريحة في تحريم إسبال الثوب وإطالته إلى ما تحت الكعبين على سبيل الخيلاء، وأن فاعل ذلك متوعد من الله تعالى بأنه لا يكلمه ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.
الحالة الثانية: أن يكون إسبال الثوب من غير خيلاء، فهذا حرام أيضاً وفاعله متوعد بالعقاب يوم القيامة بأن تنال النار ما غطاه الثوب من قدميه تحت الكعبين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار».
قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن بدن لابسه ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة.
وخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد أن نافعًا سئل عن ذلك؟ فقال: وما ذنب الثياب؟!! بل هو من القدمين.
نخلص من ذلك أن جر الثوب تحت الكعبين ممنوع مطلقاً سواءً كان فعله خيلاء أم عن غير قصد الخيلاء.
ومن المعلوم عند أهل العلم أنه يحمل المطلق على المقيد، فالتسوية بين الحالتين غير مسلمة لتنوع الوعيد.
قال ابن حجر في شرح حديث أم سلمة: ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلا الإسبال من أجل ستر العورة لأن جميع قدمها عورة فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال.
وقال في حديث صلاة الكسوف: قوله: فقام يجر ثوبه مستعجلاً فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي، فيشعر بأن النهي يختص بما كان للخيلاء لكن لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء حتى أجاز لبس القميص الذي ينجر على الأرض لطوله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(/1)
غير أن هنا مسألة يجب التفطن لها والتنبيه عليها وهي أن الإسبال نفسه مظنة المخيلة، وباب من أبوابها فحسم الشارع الحكيم مادتها، وصار ذلك حكماً عاماً حتى لا تترك المسألة للأهواء.
قال ابن حجر: ويتجه المنع أيضا في الإسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول: لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكمًا أن يقول: لا أمتثله، لأن تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره. وحاصله: أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء.
كما يجب التفطن إلى أنه لا فرق بين الإزار والقميص والسراويل فالإسبال في كل ذلك واحد.
سئل سالم بن عبد الله بن عمر عما جاء في إسبال الإزار أذلك في الإزار خاصة فقال بلى في القميص والإزار والرداء والعمامة.
قال شيخ الإسلام: طول القميص والسراويل وسائر اللباس إذا تعدى ليس له أن يجعل ذلك أسفل من الكعبين كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبي وقال: الإسبال في السراويل والإزار والقميص، يعنى نهى عن الإسبال.
قال ابن حجر:وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك.
وعن يزيد بن أبي سمية قال: سمعت ابن عمر فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص يعني ما تحت الكعبين من القميص في النار كما قال في الإزار.
بل إن كثيراً من العلماء أدخل الأكمام والعمامة وكل ما يلبس في ذلك، ومنع فيه الإسبال.
قال الصنعاني: وكذا تطويل أكمام القميص زيادة على المعتاد كما يفعله بعض أهل الحجاز إسبال محرم، وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. قلت: وينبغي أن يراد في المعتاد ما كان في عصر النبوة.
وبعد؛ فإن تعجب فعجب من رجال ونساء أبوا إلا مخالفة هدي نبيهم وترك سنته ومخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، من إسبال الرجال لأثوابهم وقد أُمروا بالتشمير، وتشمير بعض النساء عن سوقهن وقد أمرن بإسبال ذيولهن ذراعاً، أفلا يخاف أولئك الوعيد الشديد والتهديد الأكيد الذي توعد الله تعالى به، وهو أصدق القائلين: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، قال الإمام أحمد: (الفتنة الشرك، لعله إن ترك بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك).
وإليك هذا الأثر من الصدر الأول لهذه الأمة لتقفو أثر القوم وتتبع هديهم في سرعة استجابتهم وامتثالهم وطاعتهم، وعدم تكبرهم ومجادلتهم.
عن جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم أنه كان جالسًا مع ابن عمر إذ مر فتى شاب عليه جُبّة صنعانية يجرها مسبلاً قال: يا فتى هلم، قال له الفتى: ما حاجتك يا أبا عبد الرحمن قال: ويحك أتحب أن ينظر الله إليك يوم القيامة قال: سبحان الله وما يمنعني أن لا أحب ذلك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: لا ينظر الله إلى عبد يوم القيامة يجر إزاره خيلاء قال: فلم ير ذلك الشاب بعد ذلك اليوم إلا مشمرا حتى مات.
قال القرطبي رحمه اللَّه: فما بال رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقائدة العجب وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء» ولفظ الصحيح: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لست ممن يصنعه خيلاء فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي واستثنى الصديق فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء وليس ذلك لهم.(/2)
محاضرة: سحائب المغفرة
فضيلة الشيخ: محمد مختار الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا.
(صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا)
أما بعد فأحييكم بتحية الإسلام، بتحية من عند الله مباركة طيبة.
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم في بداية هذا اللقاء أن يجعل اجتماعنا اجتماعا مرحوما وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما.
أيها الأحبة في الله:
من الذي يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ؟
من الذي ينادي في كل ليلة هل من تائب فأتوب علية، هل من مستغفر فأغفر له ؟
من الذي ينادي: يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي ؟
من الذي ينادي : يا عبادي إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم ؟
من الذي ينادي: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
من الذي يرحم التائبين ويشملهم بعفوه ومغفرته وهو خير الغافرين ؟
من الذي عجت ببابه الأصوات فلهجت بالمعذرة والمسائل والحاجات فكان الله ولم يزل بها رحيما ؟
أيها الأحبة في الله:
يغفر الله للعبد ذنوبه ويستر له عيوبه، يغفر الله وهو خير الغافرين، ويرحم الله وهو أرحم الراحمين.
يغفر الله للعباد مغفرة لا تدع للعبد ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا محته، وتلك المغفرة التامة، مغفرة لما تقدم وما تأخر غفرها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً).
يغفر لله للعبد ذنبه فلا يبقي له خطيئة أبدا.
جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يحمل الذهب والفضة، فصبها في حجر النبي (صلى الله عليه وسلم) صدقة لوجه الله، فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأخذ الذهب بيديه، وقلبه بكفه فقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.
وجاء حاطب ابن أبي بلتعة فوقف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قصته المشهورة وكتابه لأهل مكة، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه:
يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فقال (صلى الله عليه وسلم):
دعه يا عمر، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
يغفر الله للعبد مغفرة تامة كاملة فلا يبقي له ذنبا ولا خطيئة، وبذلك يمشي على وجه الأرض مبشرا بالجنة.
يغفر الله للعبد ذنوبه فيرحمه إذا رحم خلقه:
مرت بغي من بغايا بني إسرائيل، كانت على المعاصي والفجور، فمرت على كلب يلهث الثرى فانكسر قلبها وأرادت أن ترحمه، فنزلت إلى البئر فملأت خفها ماء وسقت الكلب فشكر الله لها فغفر ذنوبها.
ومر رجل على غصن شوك في طريق المسلمين، فلما رآه قال والله لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه عن طريقهم فزحزحه الله عن نار جهنم وغفرت ذنوبه.
الله أكبر إذا غفر الله لعبده، والله لا يُسأل عن أمره، ولا يعقّب في حكمه سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله، يقف العبد بين يدي الله، يقف العبد بين يدي سيده ومولاه، يناديه رباهُ رباه، يناديه بعد الذنوب والخطايا، والعيوب والرزايا.
وقد أقضت مضجعه وآلمته وأكربته فلم يجد ملجأ ومنجى إلا إلى الله، فيقف بين يدي الله وقد أحزنته ذنوبه وأهمته عيوبه وأسرته خطاياه بعد أن ذهبت اللذة، وانقضت الشهوة وأعقبها العذاب والهوان، وأصابته بلية المعصية:
من فقر في يديه.
وسوء في حاله.
ومرض في بدنه.
وأحاط به ضيق المعاصي.
آلمته وأقضت مضجعه ,أقلقلته، عندها نظر يمينا وشمالا.
فإذا بالنفس الأمارة بالسوء قد خذلته، وإذا بالشيطان المريد قد خذله، فلم يجد إلا ربه لكي يقف بين يديه معتذرا، ويقف بين يديه نادما تائبا منكسرا.
فينادي ربه من صميم قلبه وفؤاده، وهو يعتقد أن لا أرحم من الله بخلقه.
ينادي ربه وهو على يقين أن الله أحلم وأرحم، وأن الله أوفى وأكرم، وأنه وإن كانت ذنوبه كبيرة فالله أكبر من كل شيء، وإن كانت عيوبه كثيرة فالله أرحم وهو الغفور الحليم.
فوقف بين يدي الله منكسرا، أسيرا حسيرا كسيرا مؤمنا بربه موقنا برحمته، فيناديه:(/1)
يا ربِ يا رب، وإذا بالله جل جلاله لا ينظر إلى ما مضى من إساءته ولكن يفرح بإنابته وتوبته، فتفتح أبواب السماوات وتصعد الكلمات والدعوات، فتنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي، فينادي أرحم الراحمين، وينادي خير الغافرين:
يا ملائكتي علم عبدي أن له رب يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنوب، قد غفرتُ لعبدي.
وقد يكون العبد أبن ستين وسبعين فيغفر له في طرفة عين، فيتولى الشيطان وهو يحثُ على نفسه التراب ويقول: يا ويلي أغويته من ستين وسبعين وغفر له في طرفة عين.
فإذا غفرت الذنوب، وسترت العيوب، وزالت الخطايا، فرح العبد بتوبة ربه عليه، ورأى بشائر فضله وإحسانه أمامه وبين يديه، رأى الكرم والجود، والحلم والرحمة فأزداد فرحا بالله، وإنابة إلى الله، وثقة بالله جل جلاله، وأصبح لسان حاله يقول:
يا رب أسئت في ما مضى فأحسن لي في ما بقي من عمري، وأحسن لي في ما بقي من أجلي.
فتغشته سحائب المغفرات، وأفاض الله عليه جزيل وجميل الرحمات، ففتح في وجهه أبواب البر، فانطلق ذلك العبد الموفق إلى أبواب الخير والطاعات فرحا بتوبة ربه عليه، وإنابته وإحسانه إليه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده أراه بدل له سيئاته حسنات.
الله أكبر، إذا بدلت الذنوب، وبدلت الخطايا والعيوب، بدلت حسنات من أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وخير الغافرين سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله:
من بيننا وبين الله؟ من الذي بيننا وبين ربنا؟
ليس بيننا وبين الله أحد، ليس بيننا وبين الله ترجمان ولا حجاب ولا جن ولا إنسان، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
يناديه العبد بالذنب لا يعلمه إلا هو سبحانه الرب، فيستره ويرحمه في الدنيا والآخرة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
إن الله يدني العبد يوم القيامة ثم يلقي عليه كنفه ثم يكون في ستر لا يسمع ما يقول إلا الله وحده لا شريك له فيقول له:
يا عبدي عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا.
فيقول نعم يا رب.
فيقول عبدي عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا.
فيقول نعم يا ربي، حتى إذا كشفت العيوب وكشفت الذنوب، وأشفق العبد على نفسه.
قال الحليم الرحيم، عبدي سترتها عليك في الدنيا وها أنا أسترها عليك اليوم، فيستره الله بستره، ويشمله بعفوه ومغفرته، ويدخله الجنة.
ليس بين العبد وبين الله أحد، لا يستطيع أحد أن يحرمك من رحمة ربك، ولا يستطيع أحد كائن من كان أن يقفل أبواب فضل الله عليك..
اختار الله منك الندم والشجى والحزن والألم على ما سلف وكان من العصيان لكي يشملك بعفوه.
ومن دلائل التوبة النصوح ثلاث علامات.
إذا رزقها الله العبد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، وزالت عن خطاياه.
أولها وأجلها وأعظمها ندم الجنان.
ثم استغفار اللسان.
ثم الإقلاع وصلاح حال الجوارح والأركان.
فأما ندم القلب والجنان فلا يرزقه الله إلا لعبده الذي يحبه، العبد المرحوم المغفور هو الذي ينكسر قلبه لله، وإذا انكسر قلبه لله عز وجل شمله الله برحمته، وعمه بعفوه ومغفرته.
إذا تحرك الندم في القلوب جاءت رحمة علام الغيوب.
إذا تحرك الندم في القلب فلا يحركه إلا الله، وإذا تحرك الندم في القلب فإنه بشارة لتوبة الله على العبد، يتحرك هذا الندم حينما يحدث الإنسان نفسه، فتلومه نفسه، ويلومه قلبه قائلاً:
ما كان ينبغي أن تقول كذا.
ما كان ينبغي أن تفعل كذا.
ما كان ينبغي أن يكون منك هذا الشيء.
فإذا ندم جنانه تحرك لسان وقال:
ربي أغفر لي، فإذا ندم الجنان وصدق في الندم، ونطق اللسان وبث الحزن والألم فتح الله أبواب السماوات، وصعدت هذا الكلمة: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).
فإذا قبل الله استغفار العبد، وقبل الله توبته أصلح حاله وجاءت العلامة الثالثة والأمارة الثالثة وهي الإقلاع عن الذنوب والمعاصي ومقتها في جنب الله سبحانه وتعالى.
فإذا جاءت هذه العلامات الثلاث: ندم الجنان، واستغفار اللسان، وصلاح الجوارح والأركان.
فأعلم أن ثم توبة الله على العبد تامة كاملة، فإن كانت الذنوب بين العبد وبين الناس أنطلق إلى أهل الحقوق وأهل المظالم، حركه قلبه، وحركه فؤاده قائلا:
ظلمت أخاك المسلم حينما اغتصبت أرضه.
ظلمت أخاك المسلم حينما سببته وشتمته وانتهكت عرضه.
ظلمت أخاك في ألإسلام حينما ذكرت عيوبه وثلبته.
فيريد أن يذهب لكي يعتذر فيأتيه الشيطان المريد ويقول له:
من أنت حتى تعتذر؟
وكيف تعتذر لفلان، قد ذهب الزمان وأكلت حقه.
والناس تسخر منك،، الناس تقول، الناس تفعل، لا لا تفعل ما لك وماله، فلان أحقر من أن تأتيه، فلان أحقر من أن تسأله العفو والمغفرة عن ما كان منك من إساءة إليه.
فعندها: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ عدو الله فإنك لن تقف معي بين يدي الله لو اقتص أخي من مظلمته.(/2)
فيدحر الشيطان وينطلق بكل شجاعة وإيمان لكي يقف على أخيه المسلم وقد أحاطت به الدنيا من جميع جوانبها تخذله وتخوفه، وإذا به يتشجع ويتجاسر لأنه يخاف الآخرة ويخاف القصاص من رب لا يغفل عن الجِنة والناس، ويأتي إلى أخيه ويقول:
يا أخي ظلمتك في مالك وها أنا أسألك أن تعفو عني.
يا أخي أسأت إليك وأسألك أن تغفر لي.
يا أخي اعتديت حدود الله في أمرك وأسألك أن تصفح عني.
فيقول له أخوه إن كان موفق قد غفرت لك يا أخي.
وإن أمتنع وقال له أريد حقي، قال له سمعا وطاعة، فالدنيا أهون عندي من أن تغضب ربي علي، والدنيا أحقر عندي من أن تحول بيني وبين رحمة الله، فيأتيه بحقه كاملا لا يبالي أرضي الناس أم سخطوا، شاءوا أم أبوا لأنه يريد الفكاك من النار.
يحرك الندم الشعور بالآخرة وتذكر القصاص بالذنوب والمعاصي، وتذكر أن هذا الكون لم يخلق عبثا، وأن هذا الكون لم يوجد سدى.
وما من عبد تائب صادق في توبته، وما من عبد يذنب ويريد أن يصدق في توبته إلا حركه إلى الله خوفه من الآخرة: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ).
من علم أنه سيقف بين يدي الله حافيا عاريا.
وأنه سيقف بين يدي الله لا مال ولا بنون.
وأنه سيقف بين يدي الله لا ينظر الله إلى حسبه ولا إلى نسبه ولا إلى غناه ولا إلى عزه، ولكن ينظر إلى مظالم خلقه عنده فيأمره بأدائها.
فإذا تذكر أن سيقف بين يدي الله، حرص كل الحرص على أن يخرج من الدنيا خفيف الظهر والحمل من الذنوب والمعاصي.
ولذلك كان السلف الصالح، والتابعون لهم بإحسان يخففون من الذنوب ويخففون من الأحمال على ظهورهم:
حضرت الوفاة رجلا صالحا، فأجتمع أبناءه وأولاده فقال:
يا أولادي أسألوا جاري أن يسامحني في حقه.
قالوا وما حق جارنا عندك؟
قال: إني أصبت طعاما في السمن والودك فأردت أن أغسل يدي فحككت جدار جاري فنزل الطين منه فغسلت يدي، فأسالوه أن يسامحني في حقه.
شيء يسير ولكنه عند الله كبير حينما: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
أيها الأحبة في الله:
التوبة الصادقة، التحلل من الذنوب، التحلل من الحقوق والمظالم للصغير والكبير، والجليل والحقير.
فهنيئا ثم هنيئا لمن أصابته رحمة الله عز وجل.
سحائب المغفرة من خير الغافرين، سحائب المغفرة من أرحم الراحمين، أحب الله أهل الإيمان وشملهم بالعفو والصفح والبر والإحسان.
الله أكبر ما أرحم الله بعباده، ألم تعلم أنه صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
أنه ما من مسلم يقرّب وضوئه (أي الماء الذي يتوضأ به) فيغسل وجهه إلا خرجت خطايا وجهه مع الماء أو مع أخر قطر الماء، وأنه إذا غسل يديه خرجت خطايا يديه مع الماء أو مع أخر قطر الماء، وأنه إذا غسل رحليه خرجت كل خطيئة مسسها رجلاه مع الماء أو مع خر قطر الماء.
وفي الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
أنه ما من عبد يقف بين يدي الله في الصلاة مع الجماعة فيؤمن فيوافق تأمينه تأمين الملائكة وفي رواية تأمين الإمام إلا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وما من عبد يسجد لله سجدة إلا حطت عنه خطيئة ورفعت له بها درجة.
وما من عبد يقول دبر كل صلاة مكتوبة سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين كل واحدة، ثم يقول تمام المئة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله وهو على كل شيء قدير إلا غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
وما من عبد يخرج من بيته إلى بيت من بيوت الله فيرفع قدما أو يضع أخرى إلا تحاتت عنه ذنوبه.
وما من عبد يتوضأ في شدة الحر أو شدة البرد فيجد حر ذلك وبرده فيسبغ الوضوء إلا تحاتت عنه خطاياه.
وما من عبد يصلي صلاة في بيت من بيوت الله، ثم يجلس في المسجد ينتظر الصلاة بعدها إلا تحاتت ذنوبه ومحيت خطاياه.
قال (صلى الله عليه وسلم) ألا أنبأكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرت الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط..
وما من عبد يحب مسلما لله، ويحب أخا له في الله، فيخرج من بيته ليزوره لله وفي الله إلا بشر بالمغفرة من الله.
ففي صحيح مسلم أن رجلا خرج إلى أخ له في الله يزوره في قرية، فأرسل الله إليه ملكا على مدرجته (في طريقه) فقال له إلى أين أنت ذاهب؟ قال إلى هذه القرية، قال ومالك فيها؟ قال لي فيها أخ في الله، قال لك عليه من نعمة تردها عليه؟ قال لا، إلا أنه أخي في الله، قال إني رسول الله إليك أن الله غفر لك بممشاك إليه.
وما من عبد يذكر الله عز وجل فيتلو كتابه،ويتأثر بآياته، وينكسر لعضاته، فتحرك في قلبه عظمت الله عز وجل وتوحيده، والإيمان به وتمجيده إلا غُفرت ذنوبه.(/3)
وإن من أعظم أسباب المغفرة الإيمان بالله: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * ِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
فجعل مغفرة الله له بعد قوله (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)، فلو نظرت إلى حجر أو شجر أو مدر فنظرت في ملكوت الله، ونظرت في هذا الكون الذي يأخذ بمجامع قلبك إلى الإيمان بالله وتعظيم الله، ثم جلست ساعة تتأمل فيه وفي عظمت الله، فأنكسر قلبك فقلت لا إله إلا الله خالصة من قلبك إلا غفرت ذنوبك..
وما من عبد يخرج من بيته إلى بيت من بيوت الله فيجلس في مجلس يذكر في الله، جلس لله وفي الله، ولربما لم يجبس قبل ذلك مجلس ذكر.
فإذا جلس معهم صعدت الملائكة، فسألهم الله عز وجل عن عباده وهو أعلم، فيقولون ما كان من شأنهم، فيقولون أتيناهم وهم يسبحونك ويمجدونك،.
قال ماذا يسألونني؟.
قالوا يسألونك الجنة.
قال هل راؤها؟ قالوا لا.
قال فكيف لو راؤها لكانوا أشد شوقا إليها.
ثم يقول مما يستعيذون؟
قالوا يستعيذون من نارك،.
فيقول وهل رءوا ناري؟
قالوا لا.
قال فكيف لو راؤها لكانوا أشد فرقا منها، قد غفرت لهم.
فتقول الملائكة، إن فيهم فلانا عبدا خطأ كثير الذنوب مر فجلس معهم.
قال أرحم الراحمين، قال الله وهو خير الغافرين، وله قد غفرت هم القوم لا يشقى به جليسهم.
وما من قوم يجلسون في مجلس ذكر لله إلا نادى مناد الله طبتم وطاب ممشاكم، قوموا قد بُدلت سيئاتكم حسنات.
سحائب مغفرة من أرحم الراحمين، سحائب مغفرة من خير الغافرين.
ومن لنا غير الله، ومن لنا غير الذي لا إله سواه ولا رب عداه، من لنا غيره لو أغلقت أبوابه وحاشاه.
من لنا غيره لو ابتعدنا عنه وهو صاحب الفضل والكرم.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بعفوه وأن يعمنا بإحسانه وبره.
أيها الأحبة في الله:
لا أسعد من اللحظة التي يحس الإنسان فيها أن ربه قد تاب عليه، ولا أسعد من اللحظة التي ينكسر فيها العبد لربه وسيده، تلك اللحظة التي يتمناها.
ولو سألت التائب عن أسعد لحظة مرة عليه في عمره، قال اللحظة التي تبت فيها إلى ربي.
ولو سألت عبدا صالحا عن أسعد لحظة مرة به في حياته، قال حينما رحمني الله بالإنابة إليه، وفي ذلك كله عز الدنيا وسعادتها.
وفي ذلك كله أنس من الوحدة وتبديد لها.
من تابَ تاب الله عليه، ومن أناب إلى الله أحبه الله وآواه.
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
أيها الأحبة في الله:
من سحائب المغفرة التي تُمطر على العبد فيغفر الله بها ذنوبه، ويستر بها عيوبه أن يكون العبد كثير الاستغفار، كثير الإنابة إلى الله الحليم الغفار.
من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية.
كان (صلى الله عليه وسلم) يستغفر الله في اليوم أكثر من مئة مرة، وقال أيها الناس توبوا إلى الله فإني أستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.
كثرة الاستغفار باب من أبواب الرحمة.
فاستغفر الله قائما وقاعدا، استغفر الله ذاهبا وراجعا.
إن ذهبت وأنت تطلب رزقك استغفرت الله عند خروجك لأنه ربما حُرم العبد الرزق بسبب الذنب.
وإن رجعت إلى بيتك وأويت إلى أهلك أكثرت من الاستغفار لربك خشيت أن تكون ظلمت أو أست أو أخطأت، فترجع إلى بيتك وأنت مغسول من الذنوب والخطايا.
فأكثر من الاستغفار لله فإن الاستغفار سبب من أسباب الرحمة، ولذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستغفر الله، ويستفتح الصلاة بالاستغفار، ويسأل ربه أن يغسله من الذنوب والخطايا بالماء والثلج والبرد.
ومن علم أن الذنوب شؤمها عظيم، وبلائها وخيم وعاقبتها سيئة:
فكم من ذنب قاد إلى حرمان الرزق.
وكم من ذنب أظلم به القلب.
وكم من ذنب طمست به البصيرة.
وكم من ذنب فسدت به العيال.
وكم من ذنب ذهبت به الأموا.
وكم من ذنب كان سببا في سوء الخاتمة والعياذ بالله وسوء الحال.
الذنوب بريد إلى الكفر، وطريق إلى الكفر، فعلى العبد أن يفر منها إلى أرحم الراحمين، وخير الغافرين، وأن يستيقن أن الله حليم رحيم: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت من باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة.(/4)
ومن الأسباب التي تعين على مغفرة الله للعبد بره لوالديه، وصلته لرحمه، وحسن ظنه بالمسلمين، وسلامة صدره، وما يكون منه من الإحسان كالعطف على الفقراء والضعفاء، وقضاء ديون المعسرين، وتفريج الكربات عن المكروبين فإنها سحائب رحمة من أرحم الراحمين.
يقف العبد بين يدي الله يوم القيامة، فتعظم عليه الذنوب وتكثر منه الخطايا والعيوب، فيقول الله عز وجل: إنه كان يتجاوز عن المعسرين، ونحن أحق بالتجاوز عنه، قد غفرت لعبدي وتجاوزت عنه.
قال (صلى الله عليه وسلم) أنه كان في من كان قبلكم رجل يديّن (يقرض) الناس، وكان يقول لغلمانه: إذا رأيتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال (صلى الله عليه وسلم): فوقف بين يدي الله، فقال الله عز وجل لملائكته: نحن أحق بالعفو من عبدي، قد غفرت لعبدي، وفي رواية قد تجاوزت عنه فاذهبوا به إلى الجنة.
فمن أسباب الرحمة رحمة العباد، والإحسان إليهم، وشملهم بالعفو والمغفرة، فمن عامل الناس بالسماحة عامله الله بالرحمة، والراحمون يرحمهم الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن لا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور.
اللهم أرحم ضعفنا واغفر ذنبنا، اللهم اغفر ذنبنا ما تقدم وما تأخر، وما ظهر وما بطن.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وفرج كروبنا وأحسن خاتمتنا وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واعف عنا، وأرحم في موقف العرض يا أرحم الراحمين ذل مقامنا.
أقول قولي هذا وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم العفو والمغفرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
…………………………………
الأسئلة:
سؤال:
فضيلة الشيخ ما نصيحتكم لشخص عاص لوالدته لا يطيعها ويرفع صوته عليها وجزاكم الله خيرا.
جواب:
اللهم إنا نعوذ بك من العقوق، وأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أوصي الجميع ونفسي ببر الوالدين، وأن لا ينسى الإنسان عهودا مضت، وأياما خلت من أم حليم رحيم طالما أحسنت إليه وأكرمته، وأن لا يقابل الإحسان إلا بالإحسان فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
يا هذا:
كم تعبت أمك، وكم شقيت وكم عانت، وكم رأت من شدائد وأهوال لا يعلمها إلا ذي العزة والجلال.
حملتك فكان بطنها لك وعاء، وثديها لك سقاء، وحجرها لك حواء.
كم عانت من أجلك، وكم كابدت في سبيل خروجك ورأت الموت أمام عينيها.
وما زلت كل يوم تزداد ثقلا إلى ثقل، وهي فرحة بقدومك مستبشرة بمجيئك لعل الله أن يقر عينها بك، فتبرها عند الكبر، وتحسن إليها عند الضعف، وتذكرها عند المشيب والكبر.
فلما دنت ساعة والدتك دنى الموت منها، فأشفقت على نفسها ورأت الأهوال فاستغاثت بربها حتى لو خيرت بين أن تموت وتخرج أنت سالما لاختارت موتها.
فلما خرجت وصحت صيحتك تبددت أحزانها وزالت أشجانها، وفرحت بك واستبشرت فنسيت جميع ما رأت وجميع ما كابدت، وكلها أمل أن تذكر منها ذلك ولا تنساه، وأن تقابله بالإحسان ولا تقابله بالإساءة، وأن تقابله بالكرامة لا بالمهانة.
فلما رق عظمها، وشاب شعرها، وخارت قواها وقفت في آخر عمرها فإذا بك قد وليتها ظهرك وأسمعتها ما يكون من عقوقك.
فويل لك من الله إن لم تتب إلى الله.
ويل لك من الله إن لم تُنب إلى ربك، وتقبل على أمك فتحسن من بعد إساءة، وتجثو على ركبتيك عندها وتقول:
أماه سامحيني في مضى، واغفري لي ما كان.
و إلا ستصيبك نقمة من الله.
قال يا رسول الله أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان وأريد الجنة.
قال (صلى الله عليه وسلم) أتريد الجنة؟
قال نعم، قال أرجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ولك الجنة.
فارجع إلى أمك فأضحكها كما أبكيتها، وأحسن إليها ولا تسيء إليها.
بر الوالدين وخاصة الأم دين لا يستطيع الإنسان أن يقضيه، حتى ولو ماتت وخرجت من الدنيا فإنها أحوج ما تكون إلى دعوة صالحة، يذكرها أبنها والصالح من أولادها لعل الله أن يفسح لها في قبرها، فأسأل ربك لها الرحمة وأحسن إليها حية وميتة، وبرها صحيحة ومريضة والزم رجلها فإن الجنة ثم.
يا هذا:
باب من أبواب الجنة جعله الله لك فلا تغلقه في وجهك، أمك وما أدراك ما أمك، إن بررتها وخرجت من عندها وهي راضية عنك، فدعت لك دعوة فتحت لك بها أبوب السماوات.
أحسن إلى أمك لعل الله أن يحسن إليك، وأدعوك أن تنيب إلى ربك وأن تتذكر ما كان من فضلها عليك.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم البر وأن يعيذنا من العقوق.
اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا إله الأولين والآخرين، ويا أرحم الراحمين، نسألك في هذا المجلس المبارك أن تسبغ شآبيب رحماتك على قبور آبائنا وأمهاتنا.
اللهم أشملهم بعفو منك وبر، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن لا تدع واحدا منهم ضيقا في قبره إلا أفسحت له فيه وزدته نورا وفرحا وسرورا.
يا أرحم الراحمين اللهم اجزهم عن إحسانهم إلينا إحسانا، اللهم أحسن إليهم كما ربونا صغارا.(/5)
اللهم لا يغرف معروفهم إلا أنت، ولا يجزي إحسانهم أحد غيرك، اللهم أجعل درجاتهم في المهديين، واخلفهم في عقبهم في الغابرين، ونر لهم قبورهم وأفسح لهم فيها يا أرحم الراحمين.
اللهم ومن كان منهم حيا فأحسن خاتمته، وأطل في الطاعة أجله، وبارك في عمره وقوله وعمله يا رب العالمين، وأجزهم عنا خير الجزاء وأحسنه يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
واحات الهداية / http://www.khayma.com/ante99/index.htm(/6)
محبة الله تعالى
إن الله سبحانه وتعالى خلق العباد لغاية عظيمة ومقصود واضح ألا وهو عبادته جل جلاله ، ولكي تتحقق هذه الغاية ويتم هذا المقصود لابد أن تكون العلاقة بين العبد ومعبوده قائمة على أساس واضح ومتين ، ومبنية
على تصور متبادل من المحبة بين العبد وخالقه ، لأن المعبود إنما استحق العبادة لصفاته وكماله وأهليته للعبادة, التي جعلت العبد متعلق به في كل شيء ويحتاجه في أدق أمور حياته ولا يمكنه الاستغناء عن خالقه أبدا 0 ولا يتحقق الصدق في العبادة وإخلاصها إلا بعد أن يتم الحب من العبد لمن يعبد وكلما ارتقى العبد وزاد في محبته لخالقه زادت العلاقة وثوقا وتماسكا بين العبد وخالقه .
عباد الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم وضح لنا بصفته باب الهداية للخلق جميعا هذا الطريق ، بل انه صلى الله عليه وسلم أعطانا المفاتيح التي نفتح بها باب محبة الله سبحانه وكان أول هذه المفاتيح إنما هو اتباع هديه صلى الله عليه وسلم والسير على سنته فقال الله سبحانه (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)) ومن هنا اخوة الإسلام إن أول برهان على محبة الله تعالى إنما هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتزام الدين الذي جاء به عليه الصلاة والسلام أيها المسلمون : كثيرون هم الذين يدّعون حب الله ورسوله ، والكلام في هذا سهل على اللسان ولكن السؤال المفروض هل كل من ادعى ذلك صادق ؟! لا شك عباد الله أن الذي يدعي محبة الله لا بد من صفات تظهر عليه ولا بد لأفعاله أن تصدق أقواله ، لأن الذي يسير في المعاصي والمحرمات ولا يدع طريقا للشر إلا ويسلكه ثم يدعي بعد ذلك محبة الله تعالى هذا كاذب لا محالة ، إذ يتنافى ادعاء محبة الله مع ارتكاب المعاصي ولا يلتقيان أبدا ورحم الله من قال :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه لعمري هذا في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن أحب مطيع
لذلك أخوة الإسلام أول ما يصدق العبد بمحبته لله هو قيامه بالفرائض المفروضة عليه ثم بعد ذلك الزيادة في النوافل والسنن حتى يرتقي العبد بدرجته عند الله فيصبح وليا من أولياء الله تعالى يعلن الله تعالى الحرب على من عاداه ويصبح ذلك العبد يتكلم ويتحرك ويفعل بنور الله تعالى فيكون عبدا ربانيا بحركته وسكونه؛ واسمع إذا ما شئت قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزة فيقول (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب اليّ عبدي بشيء أحب اليّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنّه )) .
أخوة الإسلام : إن الواحد منا يستطيع أن يقيس مدى محبة الله له بنفسه ويكون ذلك بالنظر إلى مقدار محبة المجتمع المحيط به له ، فإن كان العبد محبوبا ممن حوله ويلقى قبولا من الناس الذين يتعامل معهم فليعلم عندها أن الله تعالى يحبه أما إذا كان ممن ينفرمنه الناس ولا يجد في قلوبهم مكانا فإنه مبغوض من أهل السماء والأرض حتى وان صام وصلى وزعم أنه مؤمن ، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ((إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل : فقال اني أحب فلانا فأحببه ، فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول ان الله يحب فلانا ، فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه ، فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض ))(/1)
عباد الله : إن العبد الحريص على دنياه وآخرته عليه أن يبحث عن محبة الله سبحانه حتى تسير أموره في الدنيا ويفوز وينجو في الآخرة ، وان الذي يحب أي صفة أو اسم من أسماء الله سبحانه وصفاته يكون محبا ويستحق بذلك محبة الله سبحانه وتعالى فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب(( قل هو الله أحد )) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله عليه وسلم فقال سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ فسألوه فقال (( لأنها صفة الرحمن )) فأنا أحب أن أقرأ بها فقال صلى الله عليه وسلم : أخبروه أن الله تعالى يحبه )) وليعلم كل واحد منا أنه إذا لم نسع لنيل محبة الله تعالى ورضاه وسرنا في الطرق التي تؤدي الى بغضه سبحانه لنا, من موالاة الكافرين, وترك الجهاد في سبيل الله, واقتراف جميع أنواع الذنوب, فان الله تعالى سيذهب بنا ويأتي بالذين يحبهم ويحبونه وبهذا أخبر جل جلاله في محكم التنزيل فقال (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )) فالله سبحانه وتعالى عد موالاة الكافرين والسير على نهجهم ردة عن الدين وتخل عن محبة الله ورسوله وهذه جريمة عقوبتها عند الله أن يستبدل هؤلاء القوم بآخرين وصفهم الله تعالى بدقة للأمة فكانت أولى صفاتهم أنهم يحبون الله ويحبهم الله سبحانه؛ فهذه أول صفة لقوم يرفضون الذل ويأبون الظلم والضيم لأن محبة الله تعالى دافع للمسلم أن يكون كل فعل وكل قول يقوم به أو يتكلم به إنما هو لله فلا يبحث عن غير الله أبدا؛ والصفة الثانية لهؤلاء العباد الذين يأتي بهم الله تعالى أنهم أذلة على المؤمنين فهم يخفضون الجناح لكل مؤمن ، متواضعين بذلك لله لا يبحثون عن الإنتصار للنفس والانتقام الهوائي من المسلمين والمؤمنين بل انهم أبعد الناس عن هذا الخلق فيما بين إخوانهم في الدين والعقيدة, ومع كل هذه الرحمة والتواضع للمؤمنين ينقلب الأمر تماما في حالهم بتعاملهم مع أعدائهم فهم أعزة على الكافرين إذا تم الاعتداء عليهم من عدوهم, يضربون بيد من حديد وكان عندها شعارهم الصفة التالية يجاهدون في سبيل الله ، هؤلاء هم الذين يأتي بهم الله ليس لأعدائهم عندهم إلا المقاومة والجهاد لا يقبلون الدنية في دينهم ويرفضون الهوان والاستسلام والتخاذل لأعدائهم دون أن يحسبوا للحسابات المادية ولموازين القوى عظيم حساب, ودون أن ينافقوا أو يجاروا هذا أو ذاك في عقيدتهم فهم لا يخافون في الله لومة لائم وهم الجريئون في الحق ولو وقف العالم كله بوجههم وكيف لا يكون ذلك هم عباد الله تعالى المحبين له الذين اختارهم الله تعالى لحمل هذه الرسالة وذلك كله فضل الله تعالى يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو جل جلاله الواسع في عطائه العليم بمن ولمن يعطي هذا الفضل .
عباد الله : لو نظرنا إلى واقعنا بإنصاف ماذا نجد ؟ هل نجد صفات الله منطبقة على أنظمتنا ومسؤولينا ؟! الذين يترامون في أحضان أعدائنا يسارعون فيهم ، أم أننا نجد هذه الصفات تنطبق بشكل كامل على مجاهدينا وحركات المقاومة المسلمة في أنحاء العالم الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم ويعلنون بكل صراحة أن معركتهم مع أعداء الله من الكافرين فيتعاملون معهم بعزة منقطعة النظير ويحرمون دم المسلمين على أنفسهم وجهادهم, وإن كان بعض هؤلاء المسلمين من الظلمة والمنافقين؟! إلا أنهم رحماء بكل مسلم ولا تأخذهم في الحق لومة لائم وهم أصحاب الفضل من الله تعالى وهذا ما حباهم إياه العليم جل في علاه .
أخوة الإسلام : إن محبة الله تعالى هي التي توصل العبد إلى مبتغاه كائنا ما كان ذلك المبتغى لأن الله سبحانه إذا أحب العبد يسر له وأعطاه وتكفل بذلك جل جلاله خاصة إذا كان ذلك العبد مجاهدا فقال تعالى (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين )) فللمجاهدين الهداية بكل السبل الدنيوية والأخروية المادية والعقائدية ، ولنعلم أخوة الإسلام أنه من كان الله معه فلن يضره شيء في الأرض ولا في السماء, ومن كان الله عليه فلن ينفعه شيء أو أحد ، وما علينا سوى محبة الله والتوكل عليه (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره )) وكل ما نراه في أيامنا إنما هو غرور الشيطان والغلبة لهذا الدين بإذن الله ولن يدوم للظالمين طغيانهم فان لم يتحقق ذلك على أيدينا , نكون قد قمنا بواجبنا وتركنا الأمانة لمن بعدنا دون تفريط أو خيانة أو هوان, والله اعلم بما تصنعون فعلينا العمل والنتائج على الله 0((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين )) صدق الله العظيم(/2)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• مقدمة .
• مفهوم المحبة .
• حكم المحب .
• دواعي هذه المحبة .
• مظاهر المحبة وعلاماتها .
• الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم .
• مواقف المحبين .
• ثمار المحبة .
• محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء .
مقدمة
الحديث عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - منزلة رفيعة ، والحديث عن محبته - عليه الصلاة والسلام - متعة عظيمة ! أما الألسنة فتترطب بذكره ، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، وأما الآذن فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه عليه الصلاة والسلام ، وأما العقول فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام ، وأما الجوارح والأعضاء فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم ..
حياتنا مرتبطة بهدية وسيرته وسنته عليه الصلاة والسلام ، وما عسى أن يكون الحديث عن محبته صلى الله عليه وسلم ! وهل يمكن أن يوفى مثل هذا الموضوع حقه في سويعاتٍ من الزمان أو في بضع محاضراتٍ وإن كثرت ؛ فإن حقّه وقدره ومقامه والواجب له عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك كله .
ولكن حسبنا - أيها الاخوة الأحبة - أن يكون لنا في مثل الأوقات ما يحيي قلوبنا ، وينشط عزائمنا ، ويقوي هممنا ، ويبعث نشاطنا ، ويحرك مشاعرنا ، ويؤجج عواطفنا ؛ لترتبط ارتباطً أوثق ، ونتبع اتباعاً أكمل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ؛ لننال خير الدنيا والآخرة ، وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة بإذن الله عز وجل .
وكما قلت عندما نظرت في هذا الموضوع رأيته كمحيطٍ متلاطم الأمواج قعره عميق ، ودرره كثيرة وعظيمة ، فعسى أن نقتبس شيئاً من ذلك وننتفع به بعون الله سبحانه وتعالى .
وقفات نبدأها بمفهوم ومعنى محبة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ونعرج من بعد على حكم هذه المحبة ، ثم نقف مع دواعيها التي تحث عليها وتقرب إليها ، ثم نتوقف عند الأسباب التي تجلب تلك المحبة ؛ لنخلص منها إلى الصور والمظاهر التي تبديها لنا وتكشف لنا في واقع مشاعرنا وكلماتنا وأفعالنا ، ثم وقفة قبل الختام في ثمار هذه المحبة وخيراتها وآثارها ؛ للننتهي إلى المحبة بين الغلو والجفاء .
ولعلنا نستطيع أن نلمّ بذلك - وإن كان في الأمر عسر - فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال القائل :
أبر بني الدنيا وأعظم من شكر **** وأكرم مخلوقٍ على سائر البشر
به الله قد أهدى إلى الناس رحمةً **** ومنه ضياء الحق في الكون قد ظهر
تبارك ربي إذ أعد محمداً **** وزكّاه بالتقوى وبالعلم والخبر
فباتوا اعتقاد الحق من أخلاقه **** وخير عباد الله أقدر من صبر
جهيراً بأمر الله يدعوا مبشراً **** وينصح من لاقاه بلأي والنذر
حلي بإصلاح الفساد ومرشداً **** إلى سبل الخيرات في البدو والحضر
دعا الناس للتوحيد والحب والوفا **** وجاد بالحسنى وأقنع بالأثر
ذر الهمة القعساء بعض صفاته **** وأقدم مقدامٍ وأحلم من قدر
رعاه إله الكون خير رعايةٍ **** فأنبت نبتاً طيب الأصل والثمر
مفهوم المحبة :
المحبة في مفهوم العرب يعرفونها بضدها ؛ لوضوحها وجلائها ؛ فإن ذهبت إلى جلّ المعاجم وجدتهم يقولون : " المحبة ضد الكره والبغض ، وأحبه أي : أوده " .
وشخّص بعضهم هذا المعنى تشخيصاً أوسع ، فقال : أحببت فلاناً في الأصل ، بمعنى أصبت حبة قلبه أي : نحو شغاف قلبه وكبد قلبه وفؤاده " .
والمقصود أن المشاعر تتسلل في هذه الموافقة والمجانسة والميل إلى أعماق الفؤاد ، وسويداء القلب فتصيب حبته - أي جوهره وأصله - ومكمنه ، فتكون حينئذٍ ليست عرضاً ظاهراً ولا صوراً جوفاء ، بل حقيقة تنبض بها خفقات القلب ، وتظهر في مشاعر النفس ، بل تبدو في بريق العين ، وفي قسمات الوجه ، وفي ابتسامة الثغر ، وفي حسن الثناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذه المحبة كما قال ابن القيم بعض – رحمه الله - في مقالة جميلة ، ووافقه ابن حجر قال : " المحبة لا تحد - أي لا يذكر لها تعريف - إذ هي أمر ينبعث بنفس يصعب التعبير عنه " .
ولعمري هو كلام دقيق ، فهل تستطيع أن تقول إني أحب فلاناً عشرة كيلو ، وهذا عشرين كيلو .. كلا ! لا تستطيع ، وهل تستطيع أن تكتشف للحب سبباً ؟ بعض الناس تلقاه فترة ، فكأن فؤادك قد مالَ إليه ، وقلبك قد هفا له ، وبعض الناس قد تعاشره دهراً وما يزال في قلبك انقباض عنه ، وفي نفسك وحشةً منه ! والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
فالمحبة سرٌ عظيم ، هو من أعظم ما تتجلى به عظمة خلق الله في هذا الإنسان ..
ما بين غمضة عين وانتباهتها **** يبدل الله من حالٍ إلى حال
فكم من محبوبٍ لكلمةٍ أو لموقفٍ ربما تغير القلب عليه ، ونفرت النفس منه ، ولذلك هذه العواطف والمشاعر لا تضبط بهذه الكلمات والتعريفات وإن كان قد ذكر العلماء للمحبة تعريفات اصطلاحيةً كثيرة .(/1)
من ذلك ما قاله القاضي عياض – رحمه الله - في شفائه عندما قال : " المحبة الميل إلى ما يوافق المحبوب " ، عندما توافقه وتجالسه وتميل إليه وتتبعه ، فذلك دليل محبة ، لكن لو وقفنا لوجدنا أن هذا التعريف ليس تعريف للمحبة ، بل هو وصفٌ لأثرها ؛ فالمحبة انبعثت في القلب فمال الإنسان إلى من يحبه ووافقه ، وهذا أمره واضح وبيّن .
ثم المحبة - أحبتي الكرام - لها جوانب منها محبة الاستلذاذ بالإدراك ، كحب الصور الجميلة والمناظر والأطعمة والأشربة .. تلك محبة فطرية ، أو تكون محبة بإدراك العقل ، وتلك المحبة المعنوية التي تكون لمحبة الخصال الشريفة ، والأخلاق الفاضلة ، والمواقف الحسنة .
وهناك محبة تكون كذلك لمن أحسن إليك ، ولمن قدم لك معروفاً ، فتنبعث المحبة حينئذٍ ؛ لتكون ضرباً من ضروب الحمد والشكر ، فينبعث الثناء بعد ذلك ترجمة لها وتوضيحاً لمعانيها .
قال الإمام النووي - رحمه الله - في كلمةٍ ضافيةٍ جميلة ، قال : وهذه المعاني كلها موجودة في النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جمع من جمال الظاهر والباطن ، وكمال الجلال ، وأنواع الفضائل وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياه إلى الصراط المستقيم ، ودوام النعم والإبعاد من الجحيم .
فإن نظرت إلى وصف هيئته - صلى الله عليه وسلم - فجمال ما بعده جمال ، وإن نظرت إلى أخلاقه وخلاله ، فكمال ما بعده كمال ، وإن نظرت إلى إحسانه وفضله على الناس جميع وعلى المسلمين خصوصاً فوفاء ما بعده وفاء .
فمن هنا تعظم محبته - صلى الله عليه وسلم - ويستولي في المحبة على كل صورها وأعظم مراتبها ، وأعلى درجاتها ، فهو - صلى الله عليه وسلم - الحري بأن تنبعث محبة القلوب ، والنفوس له في كل لحظةٍ وثانيةٍ وحركةٍ وسكنةٍ وقولٍ وصمتٍ ، وفي كل تقلبات حياتنا ، ولذلك ينبغي أن ندرك عظمة هذه المحبة ، ويقول ابن تيميه: " وليس للخلق محبةً أعظم ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم ، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجهٍ إلا الله تعالى ، وكل ما أحب سواه فمحبته تبعٌ لحبه ؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله ".
وذلك ما سنفيض القول فيه في بعض تلك الأحوال ، وحسبي أن أعرّج على هذه المعاني، وهنا وقفة نتمم بها هذا ، فنحن نتعلق ونرتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم من جوانب شتى ، في جانب العقل معرفةً وعلماً، نقرأ ونحفظ سيرته وحديثه وهديه وسنته ، والواجب منها والمندوب منها ونحو ذلك ، ومحبةً بالقلب ، وهي عاطفة مشبوبة ، ومشاعر جياشة ، ومحبة متدفقة ، وميلٌ عاصف تتعلق به النفس والقلب برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لما فيه من المعاني الحسية والمعنوية .
ثم محبة بالجوارح تترجم فيها المحبة إلى الاتباع لسنته وعمله وفعله عليه الصلاة والسلام ، فلا يمكن أن نقول إن المحبة إتباعٌ فحسب ! فأين مشاعر القلب ؟ ولا يصلح أن نقول إنها الحب والعاطفة الجياشة فأين صدق الإتباع ؟ ولا ينفع هذا وهذا ! فأين المعرفة والعلم التي يؤسس بها من فقه سيرته وهديه وأحواله عليه الصلاة والسلام .
لذا فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس ، وبالعقل والفكر ، وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال فتكمل حينئذٍ المحبة ؛ لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية ، فتكتمل من كل جوانبها ؛ لنؤدي بعض حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا .
حكم المحبة
وأنتقل إلى النقطة الثانية : حكم المحبة
ما عسى أن يكون حكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الوجوب ! فهي واجبة على كل مسلمٍ قطعاً ويقيناً ، والأدلة على ثبوت وجوبها كثيرة ، ومن ذلك قول الله - سبحانه وتعالى - الذي جمع فيه في آيةٍ واحدة كل محبوبات الدنيا ، وكل متعلقات القلوب ، وكل مطامع النفوس ووضعها في كفةٍ ، وحب الله وحب رسوله في كفةٍ ، قال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
قال القاضي عياض رحمه الله : فكفى بهذا حض وتنبيه ودلالة وحجة على إلزام محبته ، ووجوب فرضها وعظم خطرها ، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم ، إذ فرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله : { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } ، ثم فسقهم بتمام الآية فقال : { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } ، وأعلمهم أنه ممن ضل ولم يهده الله عز وجل " .
فهذه آيةً عظيمة تبين أهمية ووجوب هذه المحبة .(/2)
ويأتينا كذلك دليلاً آخر وهو عظيم وموجز وبليغ في قول الحق جل وعلا : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } ، ويبين ابن القيم - رحمه الله - الدلالة على وجوب المحبة في هذه الآية من وجوهٍ كثيرة ضمنها أمرين اثنين .
الأول : أن يكون أحب إلى العبد من نفسه ؛ لأن الأولوية أصلها الحب ونفس العبد أحب إليه من غيره ، ومع هذا يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به منها - أي أولى به من نفسه وأحب إليه من نفسه - فبذلك يحصل له اسم الإيمان ، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم ، وسائر لوازم المحبة من الرضى بحكمه ، والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه .
وأما الجانب الثاني : أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً ، بل الحكم على نفسه لرسول صلى الله عليه وسلم ، يحكم عليه أعظم من حكم السيد على عبده ، أو الوالد على ولده فليس له في نفسه تصرف إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى به من نفسه ، أي بما جاء به عن الله عز وجل ، وبلغهم من آياته وأقامه ونشره من سنته صلى الله عليه وسلم .
والآيات في هذا كثيرة - أحبتي الكرام - والإيجاز هو مقصدنا في هذا ؛ وإلا فإن قوله سبحانه وتعالى : { قال إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } هو كذلك من هذه الأدلة العظيمة الشاهدة على وجوه محبة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لا نزاع في أن محبة الله واجبة ، وأن أتباع النبي ومحبته طريق إلى محبة الله كما سيأتي ( من أحبني فقد أحب الله ) كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم .
وكما قلنا الآيات تكثر من أن تحصر في هذا المقام ، وأما أحاديثه صلى الله عليه وسلم فصريحة جلية واضحة في الدلالة على وجوب هذه المحبة ، ومن ذلك الحديث المشهور المأثور الصحيح من حديث أنسٍ - رضي الله عنه - أخرجه البخاري قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله ووالده وولده والناس أجمعين ) .
وكلنا يعرف الحديث الصحيح المشهور في قصة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيءٍ إلا من نفسي ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال عمر : فإنه الآن - والله - لأنت أحب إلي من نفسي ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( الآن يا عمر ) . ولم يكن قول عمر الأول أنه ليس محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه ، إنما أخبر عن مقتضى الأصل الطبعي في الإنسان أن أحب شيءٍ إليه نفسه ، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمصطلح الإيماني أقرّ عمر بأنه بالمعنى الإيماني يفضل النبي ويحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه ، فقال له حينئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا عمر ) ومما يستدل به كذلك من هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) .
ثم إن حبّ الإنسان نفسه طبع ، وحب غيره اختيار - كما ذكر ذلك الإمام الخطابي - ولذلك عمر جوابه الأول ذكر الطبع ، ثم بعد ذلك ذكر الاختيار الذي هو مقتضى الإيمان .
ومن هنا ذكر العلماء أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين : أحدهما فرض ، وهو المحبة التي تقتضي الإيمان بنبوته وبعثته وتلقي ما جاء به بالمحبة والقبول والرضى والتسليم .
ودرجةً ثانية هي : محبة مندوبة ، وهي تقصي أحواله ومتابعة سنته ، والحرص على التزام أقواله وأفعاله قدر المستطاع والجهد والطاقة .
ومن الأدلة كذلك ما ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم - وهو المشهور المحفوظ - : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) ، وهذه أحاديث كثيرة أخرى ، منها حديث أنس عن الرجل الذي جاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله متى الساعة ؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام ثم عاد إليه فقال : ما أعددت لها ؟ قال : حب الله ورسوله ، فقال : ( فإنك مع من أحببت ) .
وفي الرواية الأخرى قال أنس : " ما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنك مع من أحببت ) ، فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكرٍ وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم " .
ومن ذلك أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه - وهو حديث جميل رائع - أخرجه مسلم في صحيحه ، وليس من المشتهر المتداول بين الناس قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رأني بأهله وماله ) .(/3)
وحديث ابن عباسٍ أيضاً ، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحب الله لما يغدوكم به من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي ) . رواه الترمذي في سننه وحسنه ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال : " أي أحب الله لما يغدوكم به من النعم لنعمه الكثيرة عليكم ، وأحبوني بحب الله عز وجل وأحبوا أهل بيتي لحبي " ، فكلنا محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وجوبٍ ، ومحبة اختيارٍ وتعظيمٍ له عليه الصلاة والسلام ، وأمر هذا الوجوب لا يحتاج للأدلة ، ولكننا نريد أن نعظم هذه المحبة في قلوبنا ونحن نرى الآيات التي تتلى إلى قيام الساعة توجب إلى هذه المحبة وتبرزها عظيمةً عاليةً في مقامها ، مقترنةً بمحبة الله عز وجل ، راجحةً بكل ما تتعلق به القلوب من أنواع المحبة والمحاب الدنيوية في شتى صورها وأنواعها .
فلعلنا حينئذٍ ندرك هذا ، وندرك أيضاً عظمة هذا الوجوب عندما ندرك هذه النصوص القاطعة الواضحة في أن محبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة النفس التي بين جنبيك ، وأنفاسك التي تتردد ، وقلبك الذي يخفق ، فضلاً عن محبة الزوج والأبناء أو الأمهات والآباء ، فما أعظم هذه المحبة التي هي أعظم محبةٍ لمخلوقٍ من بني آدم في الدنيا ، وفي الخليقة كلها ، وهي التي استحقها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ووجبت على كل مؤمنٍ مسلمٍ با لله سبحانه وتعالى
دواعي هذه المحبة
ومعنى ذلك أننا نقول : لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ طبعاً لا نقول هذا السؤال كأننا لا نريد هذه المحبة ! ونسأل لماذا على سبيل عدم الرغبة كلا ! وإنما نريد مرةً أخرى أن نهيج القلوب والمشاعر لهذه المحبة ، وأن نؤكدها ، وأن نحرص على غرسها في سويداء القلوب والنفوس حتى تتحرك بها المشاعر ، وتنصبغ بها الحياة وتكون هي السمت والصبغة التي يكون عليها المسلم في سائر أحواله بإذن الله عز وجل .
أولاً : حب رسول الله صلى الله عليه وسلم تابع لحب الله
ونحن نحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه حبيب الله عز وجل فمن أحب الله أحب كل من أحبه الله وأحب كل ما أحبه الله وأعظم محبوب من الخلق لله - عز وجل - هو رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( ولكن صاحبكم خليل الرحمن ) .
يعني نفسه - صلى الله عليه وسلم - والخلة هي أعلى درجات المحبة لماذا قالوا ؟ لأنها تتخلل في القلب وفي كل شيءٍ في هذا الإنسان فيصبح كأن كل خليةٍ منك ، وكأن كل نفسٍ منك ، وكأن كل كلمةٍ منك ، وكأن كل عاطفةٍ منك كلها تخفق بهذه المحبة وتؤكدها ؛ لأنها - كما قلنا - محبة لما أحبه الله عز وجل واصطفاه من بني خلقه جميعاً كما أخبر عليه الصلاة والسلام ، قال : ( فأنا خيارٌ من خيار من خيار ) هو صفوة الله من خلقه أجمعين ، وكما ورد في الحديث الذي صححه أهل العلم ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إني من نكاحٍ وليس من سفاح في كل الأصلاب ) . أي منذ الخليقة الأولى حتى من لم يكن مسلماً لو من يكن من أجداده كلهم لم يكن في نسبه ولا في أصله عليه الصلاة والسلام سفاحٌ ، بل نكاح صحيح ، وذلك من طيب محتده ، وعراقة أصله ، وطهارته التي اصطفاه الله عز وجل له لأجلها ، واختارها ووضعها له عليه الصلاة والسلام .
وثانياً : لأن الله سبحانه وتعالى أظهر لنا كمال رأفته وعظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته
نحن نحب الإنسان متى إذا وجدناه بنا رحيماً ، وعلينا شفيقا ، ولنفعنا مبادراً ، ولعوننا مجتهداً .. أحببناه من أعماق قلوبنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو في هذا الباب أعظم من رحمنا ورأف بنا ، وإن كان بيننا وبينه هذه القرون المتطاولة .
قال تعالى : { لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } .
ولو أردنا أن نذكر أمثلةً لذلك طال بنا المقام ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً كان يقول: ( لولا أن أشق على أمتي .. ) . وكم من الأحاديث الذي ورد فيها رقته ورحمته بأمته ، كما ورد في الحديث عن الذين جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، يقول راوي الحديث : وكنا شبيبة متقاربين ، فمكثنا في المدينة نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى أنا قد اشتقنا لأهلنا - وكان أرحم بنا من أنفسنا - قال : ( ارجعوا إلى أهليكم ، وليؤمكم أكبركم ، وعلموا من ورائكم ) رحمة بهم .
بل تعرفون كان إذا سمع بكاء الصبي يخفف من صلاته رأفةً وشفقةً على قلب أمه به ، وذلك من كمال رحمته وشفقته عليه الصلاة والسلام .(/4)
ونحن نعلم مواقف كثيرة في يوم حنين يوم قسمت الغنائم ، ووجد بعض الأنصار في أنفسهم شيئاً ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقسّم لهم ، وقسّم للمؤلفة قلوبهم ، فلما جاءهم إلى مكانه ذكر لهم عليه الصلاة والسلام بعض فضله عليهم ، بما فضله الله عز وجل عليه قال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم ؟ ووجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم ؟ قالوا : بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل ؟ قال : أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدقتم، أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك . أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت قوماً ليسلموا ؟ ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .
قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .
وهذا من أعظم ما يظهر فيه كذلك أثر أوداع محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك كمال نصحه لأمته وعنايته على تعليمهم ، حتى قال الصحابة - كما روى بعضهم - في سنن أبي داود قال : ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ) ، أي حتى قضاء الحاجة ، علم أمته كل شيء ، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع فرصةً إلا ويعلمهم ، ولا يدع فرصةً إلا ويقول : ليبلغ الشاهد الغائب ، حتى جئنا إلى أيامنا هذه وإلى ما بعدها ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نراه في يقظته ومنامه وحله وترحاله وسلمه وسفره ، بل نحن نعرف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من سيرته أكثر مما نعرف عن أنفسنا .. لم يعرفوا منكم عن صغره من يعرف منكم حاله في نومه أو يقظته رصدت حياته صلى الله عليه وسلم ورصد لنا وصفه وشعره كم شعرةً بيضاء في لحيته كل ذلك في وصفٍ دقيقٍ بليغٍ ، حتى كأن كل شيءٍ في حياته كأنما ورد في وضح النهار وفي رابعة الشمس كما يقولون .
وكذلك من دواعي المحبة خصائصه وخصاله العظيمة ، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل : { وإنك لعلى خلق عظيم } .
وكم اجتمع فيه - عليه الصلاة والسلام - ما تفرق من وجوه الفضائل والأخلاق والمحاسن في الخلق كلهم ، فكان هو مجتمعه المحاسن عليه الصلاة والسلام ، وحسبنا ذلك في هذه الدواعي ، وإلا فالأمر كثير ؛ فإن الذين مالت قلوبهم ، وملئت حباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحابه ، إنما سبى قلوبهم ، واستمال أنفسهم بما كان عليه من الخلق وحسن المعاملة ، وكمال الرحمة ، وعظيم الشفقة ، وحسن القول إلى غير ذلك من ما هو معلوم من شمائله عليه الصلاة والسلام .
مظاهر المحبة وعلاماتها
لأن لكل شيءٍ دليل ، ولكل إدعاءٍ برهان ، ولكل حقيقةٍ في الباطن أثرٌ وبرهانٌ وصورةٌ في الظاهر .
ومن هنا نذكر بعض هذه المعالم العظيمة المهمة من مظاهر وعلامات محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ومن أولها : محبته باتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم
تعصي الإله وأنت تزعم حبه **** هذا لعمري في القياس شنيع
إن كان حبك صادقاً لأطعته **** إن المحب لمن يحب مطيع
وكما قال ابن الجوزي مستشهدً بقول مجنون ليلى :
إذا قيل للمجنون ليلى تريد **** أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها **** أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها
قال ابن الجوزي : " وهذا مذهب المحبين بلا خلاف ، فكل محبٍ يكون أدنى شيءٍ من محبوبة أعظم إليه من كل شيءٍ في دنياه ، فكان أدنى شيءٍ من الله ، ومن رسوله أعظم وأحب إلى كل مؤمن من كل شيءٍ في دنياه " .
وحسبنا في ذلك ما جاء في كتاب الله في قصة يوسف عليه السلام : { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } ، أحب السجن ؛ لأنه في مرضات الله وفي العصمة من معصية الله ، ولا أحد يحب السجن بظلمته وأسره وقيده ، لكنه كان محبوباً لقلبه لما كان في محبة ربه وسلامتهم من معصيته .
وهكذا نجد النصوص تتضافر في ذلك ، استمع إلى هذا الحديث يرويه أنس رضي الله عنه - وأنس تعلمون أنه خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين - عند الترمذي وقال عنه : حسن غريب .
يقول : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط لشيءٍ فعلته لما فعلته ،ولا لشيء لما أفعله لما لا أفعله " ، كيف كان يأمره وينهاه وهو خادمه ؟ لو أردنا أن نفعل ذلك مع أحدٍ من خدمنا لا نستطيع أن نفعل ذلك ، ولو عشرة أيام وليس عشر سنوات .(/5)
هذا أنس يقول : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غشاً لأحدٍ فافعل ) . ثم قال لي : ( يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة ) رواه الترمذي.
معادلةً واضحة ، المحبة في هذا الإتباع ظاهرة
قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم كلاماً جميلاً : " فمن أحب الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه ، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكره الله ورسوله ، ويرضى ما يرضى الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ؛ فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله ، أو ترك بعض ما يحب الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه ، دلّ ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة " .
وهنا ملحوظة مهمة تتعلق بمن عصى أو قصر في الواجب فهذا دليل – كما ذكر ابن رجب – على نقصان محبته ، لكنها لم تزل ! ولذلك بعض الناس يتعجب حينما يرى العاصي فيقول : إنه مبغض لرسول الله ، أو كاره لرسول الله ، تلك تهمة عظيمة وفرية كبيرة ! حسبكم في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ، في الرجل الذي كان يشرب الخمر فأوتي به فجلد ، ثم شرب مرةً أخرى فأوتي به فجلد ، ثم ثالثةً فأوتي به فجلد ، فقال رجل من الصحابة : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه ؛ فإنه يحب الله ورسوله )
أثبت لهم النبي المحبة مع وقوعه في كبيرة من الكبائر ، فلا تهجموا على الناس بنفي المحبة ؛ فإنها نفي إيمانٍ وإخراج من الملة ، إن كنت تقصد نزعها بالكلية والعياذ بالله .
ثانياً : الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه
لا شك أيها الاخوة أن من أحب إنساناً أكثر ذكره ، وأكثر من ذكر محاسنه ، فتجد بعض الناس إذا أحب إنساناً لا يجلس مجلساً إلا ويقول : " انظر ماذا فعل فلان .. قال كذا وكذا .. فلان جزاه الله خيراً .. فلان لا يمكن أن نقدر قدره .. " ، ونحن ينبغي أن نطيب ونعطر مجالسنا في كل وقتٍ وحينٍ بذكر مآثر النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيرته وأحواله وشمائله ، وهذا ذكر هو الذي يهيج هذه المحبة ويبعثها ، وكثرة الصلاة عليه الصلاة والسلام تترك هذا المعنى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } .
وفي ذلك امتثال لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ، ثم صلوا عليّ ؛ فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه به عشرا ) .
وحديث أُبّي بن كعب رضي الله عنه حينما قال : يارسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي ؟ فقال: ماشئت، قلت الربع ؟ قال: " ماشئت ؛ فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف ؟ قال: ماشئت ؛ فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالثلثين؟ قال: ماشئت ؛ فإن زدت فهو خير لك ، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تُكفى همك ويغفر ذنبك . أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، والترمذي في سننه ، وصحح إسناده الحاكم في مستدركه ووافقه الذهبي .
قال الشراح : كان أُبّي يقصد أن له وردٌ من الدعاء دائم ، فكان يصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن آداب الدعاء أن يقدّم بالحمد والثناء على الله ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كم أجعل لك من ذلك ؟ قال زد حتى لو كان الحمد والثناء والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه وإن قلّ الدعاء يكون فيها ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم : إذاً تكفى همّك ويغفر ذنبك " .
ثالثاً : تمني رؤيته والشوق إليه
وقد كان ذلك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم رأوه لكنهم إذا افتقدوه اشتاقوا إليه ، وأتوا في ذلك من الأحوال ما سنذكره في وقفة خاصة ، لكن هذا الشوق شوق حقيقي ، كلكم يعلم من كان يحب زوجته وأبنائه كيف يكون حاله إذا اغترب عنهم ؟
إذا أراد أن يخلد إلى نومه تجلّت له صورهم ، تذكر أحوالهم ، كأنما يسمع أصواتهم ترن في أذنيه ، كأنما يراهم يتلاعبون ويتحركون بين يديه ، وما تزال زفراته تتابع ، وربما عبراته تتوالى شوقاً إلى لقياهم ، فإذا التقى به ربما طاش عقله ، وربما تخلى عن وقاره فهفا إليهم معانقاً ومحباً ! تلك بعض مشاعر المحبة في درجةٍ دنيا وأعظم منها الدرجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في محبته .
وقد قلنا لكم الحديث عند مسلم : ( من أشد الناس حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رأني بأهله وماله ) .
وخذ هذه أيضاً الأمثلة والأحاديث من رواية أبو هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمدً بيده ليأتين على أحدكم يوم لا يراني ، ثم لئن يراني معه أحب إليه من أهله وماله ) أوكما قال صلى الله عليه وسلم .(/6)
وهذا الحديث رواية من الروايات عند مسلمٍ في صحيحه أن بلالاً رضي الله عنه يوم ذهب إلى بلاد الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان بلال يقول : لم أطق أن أبقى في المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا أراد أن يؤذن إذا جاء بقوله : " أشهد أن محمداً رسول الله " تخنقه عبرته فيبكي رضي الله عنه وأرضاه ، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين ، ورجع بعد سنوات ، ثم دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحان وقت الأذان فأذن بلال فبكى وأبكى الصحابة بعد انقطاعٍ طويل غاب فيه صوت مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتذكروا بلالاً وأذانه ، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان بلال رضي الله عنه عند وفاته تبكي زوجته بجواره ، فيقول : " لا تبكي غدً نلقى الأحبة محمداً وصحبه " ، فكان يشتاق للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو واحد من المبشرين بالجنة كما ثبت ذلك في الحديث لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة ؛ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة ؟ قال بلال : ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي .
وهكذا روي عن حذيفه ابن اليمان وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين كلهم روى أو ذكر القاضي عياض في الشفاء أنهم قالوا : " غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه " .
وهذا الشوق في حياة الصحابة يأتي ذكراً وطرف في صور محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : محبة الكتاب الذي أنزل عليه ، والذي بلّغه لأمته
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص بمعجزنه الخالدة إلى قيام الساعة ، وهي كلام الله - عز وجل - وكتابه العظيم كتاب الله الذي فيه الهدى والنور ، لماذا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في القرآن حال المرتحل ، ما معنى الحال المرتحل ؟ لا يختم حتى يبدأ ختمه جديدة ، وكان كما قالت عائشة : " خلقه القرآن " ، وهو أعذب وأمتع من قرأ القرآن ، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب القرآن والتعلق به .
خامساً : محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماءٍ بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ثم قال : ( ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، ثم قال: وأهل بيتي اذكركم الله في أهل بيتي ) .
وآل بيته هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفرٍ ، وآل عباس هؤلاء حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهم آله ، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه والأحاديث في هذا كثيرة ، ولها دلالات عظيمة .
ولذلك ذكر أهل العلم في هذا المعنى أقوالً كثيرةً وقال ابن تيميه رحمه الله : وآل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هم الذين حرّمت عليهم الصدقة " ، وهكذا قال الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيره من العلماء ، والأحاديث في فضله مبسوطة ، كما هو في نساء النبي في آله كما في قوله جل وعلا : {يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء } ، وكما في قوله : {النبي أولى من المؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } ، وكما في قوله عز وجل : {ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } ،
والأحاديث في فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي آل بيته عظيمة ؛ لأن الله عز وجل قال : { محمدً رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } .
وذكر الترضي على الصحابة ، فمن أحب النبي عليه الصلاة والسلام أحب صحابته ، ومن أبغض أحداً من صحابته فقد كذب في حبه في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أبغض بعضاً ً أو واحدةً من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب في محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وأعظم على الله وعلى رسوله الفرية ! وكان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه سعيد الخدري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام : ( لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ) .
وقال في حديث أنس الصحيح : ( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغضهم ) ، فحب الصحابة وحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك من الإيمان ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم .(/7)
قال أبو زرعه الرازي في وصفه وكلامه على معتقد أهل السنة والجماعة : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ؛ ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة .
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله : " عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نص القرآن ، ومن ذلك الآيات الكثيرة ، قال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } إلى غيرها من الآيات " .
وقال ابن حجر : " اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدولٌ ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذاً من المبتدعة " .
وقال صاحب العقيدة الطحاوية رحمه الله : " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ بأحدٍ منهم ، ونبغض من أبغضهم وبغير الحق يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإحسان ، وبغضهم كفر وطغيان " .
فهذا من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة البينة ، وهي مما ينبغي أن يكون معلوماً ومعروفاً ، والأمر في ذلك كثير وعظيم .
الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم
الطريق الذي يعيننا الوسائل التي تقربنا الأعمال التي تذكرنا بهذه المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
أولها : تعظيم محبة الله
كلما ازددت صلةً بالله كلما ذكرك ذلك بحب رسول الله لماذا ؟ ما هي صلتك بالله ؟ ستقرأ القرآن ن ستصلي الصلاة ، ستؤدي زكاة ، ستخرج مالاً وصدقة .. كل فعلٍ من محبتك وصلتك بالله سيذكرك بتعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذاً أنت له متابع وموافق .
فهذا يهيج على ذلك تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على هوى النفس ، وراحة البدن .. عندما تسمع " الصلاة خير من النوم " ، والفراش لذيذ ، والهواء بارد ، والجسم متعب ، أين انبعاثك لتكون مع الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة ) ؟
وتذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على أمته ورأفته بهم ودوام ذكر سيرته .
ثانياً : قراءة سيرة صلى الله عليه وسلم
اقرأوا السيرة - أيها الأحبة - صباح مساء .. علموها أبنائكم ، كما قال السلف : " كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا الآية من القرآن " .
أين سيرة النبي في بيوتنا ؟ أين هي عن أبنائنا ؟ أين أحواله عليه الصلاة والسلام في سائر تقلبات حياته من أن نسمعها صباحاً ومساءً ؟
إن بعض أجيالنا اليوم قد يعرفون عن سقطة الناس وسفلتهم من الممثلين أو الممثلات أكثر ما يعرفون من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام !
كيف نعظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا ذكر سيرته ؟ حتى نرى هذه العظمة ، ونرى تلك الرحمة ، ونرى تلك النعمة التي منّ الله بنا علينا ببعثته ونبوته صلى الله عليه وسلم .
ثالثاً : تذكر الأجر العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : تولى الصحابة رضوان الله عليهم والأكثار من ذكر سيرتهم
فكلما عظمنا الصحابة وذكرنا شيئاً من سيرتهم ؛ فإنما ذلك يدلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كلهم من رسول الله ملتمس ، وكلهم من نوره - عليه الصلاة والسلام -مقتبس .
خامساً : تعظيم السنة النبوية والآثار المصطفويه
حتى إذا قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون منك ما كان من الصحابة .. يقول الراوي - وسيأتينا حديث عن هذا في محاضرة أخرى في عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم - : كانوا إذا قيل : قال النبي صلى الله عليه وسلم : اشرأبت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وأصغت الأسماع .. لا انصراف ولا التفات ولا تحرك ، بل احترام وتقدير وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذاك ما سيأتي لنا عنه حديث .
سادساً : إجلال المحبين للسنة والعاملين بها
هو أيضاً مما يذكرنا ويقربنا من محبة النبي صلى الله عليه وسلم .. كل محدّثٍ ، وكل عاملٍ بسنه ، وكل ملتزمٍ للسنة نحبه ؛ لأنه يذكرنا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وليس كما يحصل اليوم نرى من يلتزم بالسنة في بعض الهيئات وصف بأنه متشدد ، وقد يفرّ الناس منه لقصر في ثوبه أو نحو ذلك .. سبحانه الله ! كيف تقلبت الظروف ؟
كلما رأينا من يتبع السنة ؛ فإنما نرى صورة تذكرنا بحديث الرسول ، وبسنة الرسول ، وفعل الرسول فيكون ذلك عوناً لنا على محبة النبي صلى الله عليه وسلم .
سابعاً : الذبّ عن السنة والدفاع عنها
فكم - وللأسف الشديد - من عدوان يعتدى فيه على ذات الرسول عليه الصلاة والسلام من مسلمين وغير مسلمين ، وكثيراً مالا تجد أحداً يذب عن ذلك ويرد عنه !
مواقف المحبين(/8)
وليس هناك أكثر محبةً ولا أصدق ولا أعظم محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته .. خذوا هذه المواقف ، وكل واحدٍ منها حري بنا أن نعيده ، وأن نكرره ، وأن نحفظه ، وأن نتذكره ؛ لنرى كيف كانت محبة القوم رضوان الله عليهم .
هذا عمرو بن العاص يقول مخبراً عن نفسه : " ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملئ عيني منه إجلالاً له ، ولو سوئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه "
من هيبته لم يكن يستطيع أن يتأمل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن محبته كان يتوق إليه ويشتاق .
خذوا هذا الوصف من ابن عمه وزوج ابنته والفصيح البليغ علي ابن أبي طالب حينما سئل : كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ " وهذا من مآثر الصحابة رضوان الله عليهم .
وحسن أولئك رفيقاً
روى الشعبي والحديث بطرقه حسنه أهل العلم : أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي ، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت !
أي أنت أحب إلي ولئن هناك فرصة فآتي فأراك فتسكن نفسي ، ولو كنت أتصور أني لا أراك سأموت .
ثم بكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما أبكاك ؟ قال : ذكرت يا رسول الله أنك ستموت فترفع مع النبيين ، ونحن إذا دخلنا الجنة كنا دونك ! أي لن أراك في الجنة ، فلم يخبرهم بشيء حتى نزل قوله عز وجل :{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } ، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يكون معه ما دام قد أحبه .
كل مصيبة بعدك جلل
ومن أعظم هذه المواقف : لما كان يوم أحد وأشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار فاستقبلت بخبرموت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها يعني كلهم ماتوا واستشهدوا - رضوان الله عليهم - ، فكلما مرت على أحدهم قالت : من هذا ؟ قالوا أبوك .. أخوك .. زوجك .. ابنك .. وهي تقول : ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : أمامك ! وهي تمضي - تركت الزوج والابن والأخ والأب - لم تقف ، ما زالت تمضي ، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذت بثوبه ثم قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب .
وفي روايةٍ أخرى لسعد ابن أبي وقاص في قصة هذه المرأة قالت: ما فعل رسول الله ؟ قال بخير يا أم فلان - هو بحمد الله كما تحبيه - قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبةٍ بعدك جلل ، أي هينة .
محبة الصدّيق
وأبو بكرٍ - رضي الله عنه - في مكة ، يوم اجتمع كفار قريش يريدون أن يضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أبو بكرٍ يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فتركوا الرسول وتوجهوا إلى أبي بكر وضربوه بنعالهم ، قال ابن هشام : وحرفوا نعالهم في وجهه حتى سقط مغشياً عليه ، ما يعرف وجهه من أنفه - أي من شدة التورم - قال ثم حمل ما يشك في موته أحد - من شدة ما لقي من الضر - قال : فلما أفاق كان أول ما قال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : هو بخيرٍ كما تحب ! قال : حتى أراه ، فحمل يهادى بين رجلين ، فلما رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه وفرح رضي الله عنه وأرضاه .
وهذا من مواقف الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ما أحب أن تصيبه شوكة
ومن هذه المواقف العظيمة ما كان من قصة زيد بن الدثنه رضي الله عنه الذي أسره أهل مكة ثم خرجوا به ليصلبوه فقال له أبو سفيان - كان إذ ذاك على كفره - : أتحب أن محمداً مكانك وأنت في أهلك وولدك ؟ أنت الذي اتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم ، فجاءك هذا الموقف ، والآن ستصلب فهل تحب أن يكون محمد مكانك ، وأنت في أهلك وولدك ؟ فماذا كان الجواب ؟
قال : والله ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكةٍ وأنا آمن في أهلي وولدي .
فقال أبو سفيان : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً - صلى الله عليه وسلم - !!
وهناك مواقف كثيرة لا بد من ذكرها لبعض السلف من التابعين لنعرف أن هذه المحبة هي كما قلنا جوهر إيماننا وأساس من أسس إسلامنا ..
هذا مالك ابن أنسٍ يقول عن أيوب السختياني - رحمه الله - : ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أوثق منه - أي في مكانه عالية - قال مالك : وحج حجتين ، وحججت معهم ، فكنت أرمقه ولا أسمع منه - أي لا يسمع منه الحديث - قال : غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه ! فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه - أي أخذ عنه الحديث - لما رأى من إجلاله ، وفعل محبته وتأثره بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم .(/9)
وهذا مصعب بن عبد الله يروي عن مالك يقول : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينتحني حتى يصعب ذلك على جلسائه - أي يشفقون عليه - فقيل له يوماً في ذلك! فقال : لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون .
وذكر الإمام مالك عن محمد بن المنكدر - من أئمة التابعين وكان سيد القراء – قال : لا نكاد نسأله عن حديثٍ أبداً إلا يبكي حتى نرحمه رحمه الله .
والحسن البصري جاءنا بمثلٍ جميل - وهذا باب ضاق المقام عن أن أذكره لكم - حب الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أحد جبل نحبنا ونحبه ) .. الجذع الذي كان يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ، فلما بني المنبر طلع يخطب على المنبر ، فإذا الجدع يحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمع له الناس حنيناً ، فنزل النبي من على المنبر فوضع يده على الجدع فسكنه فسكن .
كان الحسن البصري - رحمه الله - إذا ذكر حنين الجذع وبكائه يقول : " يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه !" .
ويقول بعض السلف : كنت آتي صفوان بن سليم - وكان من المتعبدين المجتهدين - فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم عنه الناس ويتركوه .
وهذا كما قلت باب واسع عظيم فيه مآثر ، أختمها بهذه القصة وأذكرها بطولها ، ذكرها الذهبي رحمه الله في " سير أعلام النبلاء " وهي جميلةٌ رائعة ، والذهبي إمام من أهل السنة ، وجهبذ من جهابذة النقد من أئمة الجرح والتعديل ، لا يقول كلاماً عاطفياً دون أن يكون له الأساس والعلم ، يقول في ترجمة عبيدة بن عمر السلماني - من التابعين من أصحاب علي ابن أبي طالب رضي الله عنه – يقول : قال محمد : قلت لعبيدة : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قِبل أنس بن مالك ، فقال : لئن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض .
أي أحب إلي من كل ذهبٍ وفضةٍ في الأرض ، قال الذهبي : " قلت : هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب ، وهو أن يؤثر شعرةً نبوية على كل ذهبٍ وفضةٍ بأيدي الناس .
ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة ، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعرٍه بإسنادٍ ثابت ، أو شسع نعلٍ كان له ، أو قلامة ظفرٍ ،أو شقفة من إناء شرب فيه ، فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء في ذلك عنده أكنت تعده مبذراًً أو سفيهاًً ؟
كلا ! فابذل مالَكَ في زورة مسجده الذي بنى فيه بيده ، والسلام عليه عند حجرته في بلده ، والتذّ بالنظر إلى أُحُده وأحبّه ، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه ، وتملأ بالحلولِ في روضته ومقعده ، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم ، وقبّل حجراً مكرماً نزل من الجنة ، وضَع فَمَك لاثماً مكاناً قبّله سيد البشر بيقين ، فهنأك الله بما أعطاك ، فما فوق ذلك مفخر .
ولو ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول صلى الله عله وسلم إلى الحَجَر ثم قبّل محجنه ،لحُقّ لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل ، ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل محجنه ونعله .
وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها ، ويقول : يدٌ مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فنقول نحن إذ فاتنا ذلك : حجرٌ معظّم بمنزلة يمين الله في الأرض ، مسّته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له ، فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه وقل : فمٌ مسّ بتقبيل حجراً قبّله خليلي صلى الله عليه وسلم " .
وهذا من نفائس القول لأئمتنا وعلمائنا رحمة الله عليهم ورضوان الله عليهم أجمعين ، والباب في هذا يطول كما ذكرت .
ثمار المحبة
يكفينا فيها ثمرتان :
أن هذه المحبة في الدنيا عون على الطاعة ، والإكثار من العبادة ، وخفة ذلك على النفس وإقبال الروح على مزيدٍ من الطاعات .
وأما في الآخرة فحسب المحبة أن تكون نجاته من النار ، ولحوقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال : ( المرء مع من أحب ) ، وفي الدنيا كذلك إعانة على هذه الطاعات ؛ لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن محبة الله وموافقة رسوله في الحديث القدسي : ( كنت يده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ... ) إلى آخر ما هو معلوم .
وقفة أخيرة أيها الاخوة الأحبة :
محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء
هذه المحبة التي قلناها ما بال بعضنا يفسدها بغلوٍ يخرج عن حد الاعتدال ، أو جفاءٍ يبتعد فيه المسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم محبته عليه الصلاة والسلام ؟(/10)
الأمر في هذا يطول كثيراً ، والخلاف والخروج عن مقتضى سنته ، ومقتضى محبته في هذا الباب كثير ، وخير الأمور أوسطها .. الغلو خرج به قوم إلى صورٍ كثيرة لا تخفى عليكم من حيث الواقع ، ولكني أذكرها من حيث المنهج والمبدأ .
من يجعل المدح مدخلاً لذكر ما هو خاص مستحق لله عز وجل لا يجوز أن يشاركه فيه غيره ، ولا أن يوصف به غيره ، ولو كان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يُدعى رسول الله عليه الصلاة والسلام ما هو من حق الله ، وخصائص الله سبحانه وتعالى ، وهذا يأباه النبي صلى الله عليه وسلم !
وقد علّمه للناس في وقته وفي زمانه ، كما قال : ( لا تقل : ما شاء الله وشئت ، ولكن قل : ما شاء الله ثم شئت ) بعضهم يقولون لك هذه الألفاظ تعبير عن المشاعر ، ولا نقصد بها عين الألفاظ ! نقول : سبحان الله ! هل أنتم أعلم أو أحكم من رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ لِمَ ترك التنبيه على الألفاظ إذا كانت ليست مؤثرة ، وليست بذات تأثيرٍ في النفس ، وتأثير في الفكر والعقل !!
وكان الصحابة يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويثنون عليه ، وهو يقول عن نفسه : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ، ولكنه يقول : ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ) كيف أطروه ؟ قالوا : هو الله ! خرجوا به عن حد بشريته ، وخرجوا به عن حد نبوته ، وعن حد تعظيمه الذي يناسب مقامه ومكانه ، فهذا غلو ليس مطلوباً بحال .
وضرب آخر من الغلو وهو : الإتيان بالمخالفات - عملية وفعلية - لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء للمحبة ، أو في أوقات وأفعال وأحوالٍ تُدعى فيه محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالاجتماع لمحبته مع وجود الاختلاط ، أو وجود ما هو مذموم من الغناء والخروج عن حد الاعتدال أو ما هو مذموم من ادعاء أمورٍ الغيبية من حلول روحه ، أو من تجسد روحه ، أو من رؤيته ، ونحو ذلك .. وهذه الأمور التي لا تثبت ، بل يثبت في عموم الأدلة وبعض الأحوال في خصوصها من يناقضها ويعارضها ، حتى هذا الادعاء ليس له دليل ، وليس له حجة .
ثم أمر ثالث أيضاً في هذا الغلو وهو : الإدعاء والاختراع لأمورٍ وأقوال وأحوال لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
النبي عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة عليه ، ووردت لنا في أحاديثه صيغ كثيرةٍ من الصلوات ، وهناك صيغ فيها إطلاق للصلاة عليه والسلام مثل : " الصلاة عليه عدد قطر الأمطار " ومثلها لا بأس ، ولكن أن نخصص صلوات معينة ، لا بد أن تحفظ ، وأن تذكر بعددٍ من المرات ، من أين لنا هذا ؟ ومن أين لنا أن نوجب على الناس ، أو أن نسنّ لهم ، أو أن نشرّع لهم ما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلامه أوثق وأقوى ، وهو الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام .
ونجد كذلك هناك ادعاءات كثيرة فيما يتعلق بالأقوال والأحاديث ، بعضها ضعيف ، وبعضها موضوع ، وبعضها لا يثبت ، ومع ذلك كل هذا يقال وينسب لرسول صلى الله عليه وسلم بادعاء الرغبة في المحبة ! أو التحليل ، وهذا كله خارج حد الاعتدال .
ويمكن أن نقول هناك تنبيهان أساسيان في هذا :
أولهما : أنه يجب على المسلم المعظم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين ما هو حق لله عز وجل لا يجوز أن يوصف ، ولا أن ينسب لأحدٍ إلا لله عز وجل ، وبين ما هو حق لرسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم له ، فالالتجاء وطلب كشف الضراء وغير ذلك أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل ، وبين في نصوص القرآن أصل ما يدل على ذلك .
والأمر الثاني : التفريق بين صور التعظيم المشروع - أو الداخل في دائرة المشروع – وبين ما هو معلوم وظاهر أنه يخالف هدي وسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما الجفاء فكذلك إن كنا ننكر الغلو ونحذر منه فكذلك الجفاء كثيراً أو بعضاً من الناس في قلبه شيء من الجفاء ، ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ، ولا يصلي على رسول الله على الصلاة والسلام إذا ذكر ، وإذا ذكر مرة صلى ، فإذا تكرر ذكره ثانيةً أو ثالثةً لم يصلي ! كأن الصلاة تشق عليه أو تثقل على لسانه !
هذه مسائل خطيرة ، وهذه الصور من الجفاء - حتى بترك زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ترك السلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام - وبترك التعلق بسنته ونحو ذلك كثيرٌ من الصور يمكن أن نذكر بعضاً منها صور جفاء منها : البعد عن السنة باطناً وظاهراً ، ترك سنن النبي عليه الصلاة والسلام ضربٌ من الجفاء ، ومجانبة لمحبته عليه الصلاة والسلام .
ولذلك - أيها الاخوة الأحبة - ليست المحبة الادعاء ؛ فكثير من أحوالنا ظاهراً وباطناً فيها مخالفة للرسول ، فكيف لا نشعر أن هذا نقص ؟ إن في هذا نقص لمحبتنا رسول الله عليه الصلاة والسلام .(/11)
أيضاً الموقف من السنة والأحاديث الثابتة ، كردّ الأحاديث الصحيحة ضرب كبير من الجفاء ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ألا يوشك رجلٌ شبعان متكئٌ على أريكته يقول : الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله - أي ليس هناك مكان أو اعتبار لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم - ألا إنما أحلّ رسول الله كما أحل الله ، وإنما حرّم رسول الله كما حرم الله ) .
ثم كذلك نرى الآن كثير من الناس يتحدثون بموجب مقتضيات عقولهم ، يقول لك : نعم هذا حديث ! لكن هذا لا يعقل ، وهذا لا يصلح في هذا الزمان ! هذا كله ضربٌ من المخاطر العظيمة في شأن المحبة ، بل في شأن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
العدول عن سيرته .. عدم الهيبة والتعظيم والإجلال عند ذكره أو ذكر حديثه .. وهذا باب طويل كما قلت سيأتينا ذكر له إن شاء الله تعالى .
ولذلك نزل قول الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } .
وعرف الصحابة ذلك ، فكان موقف ثابت بن قيس أن اعتزل مجلس النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه جهوري الصوت .
و موقف عمر بن الخطاب حينما رأى رجلين جلسا إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بجوار قبره ، ورفعا أصواتهما : " لولا أنكما من غير أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً " ، ثم قال : اخفضا صوتكما ؛ فإن حرمته حياً كحرمته ميتاً عليه الصلاة والسلام .
من هذا الجفاء كذلك : هجر السنن المكانية
بأن نهجر زيارة مسجده ، وزيارة مسجد قباء ، والأماكن الذي كان يتنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لعل قدماً توافق قدماً ، أو جبهةً توافق جبهة ، وتستشعر وأنت في الروضة ، وأنت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنت في أحد كل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، تحيي في قلبك هذه المعاني .
فما بال كثيرٍ منا - والأمر متيسر - ربما تمر لا أقول عام بل أعوام كثيرة ، بل وجدت أمراً لا يتصور ! وجدت شباباً في الجامعات لم يذهبوا إلى المدينة مطلقاً - وهم من أهل هذه البلاد - بل يرو مسجده ، ولم يزوروا قبره ،ولم يصلوا في روضته ، ولم يشهدوا قباء ، ولم يرو أُحداً !!
كيف يكون هذا ؟ والناس يضربون - لا نقول أكباد الإبل - وإنما يطيرون بالطائرات مسافات واسعة لحج بيت الله الحرام ، وزيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ، والسلام عليه بقبره عليه الصلاة والسلام .
مسائل مهمة كذلك لا ينبغي أن يكون عندنا هذا الجفاء ، وبعض الناس عنده نقطة مهمة جداً ، وهي الحساسية المفرطة من ذكر أمر النبي عليه الصلاة والسلام والصلاة عليه ، وذكر مآثره ، وذكر ما ثبت في تعظيمه . يقول لنا : لا نريد هذه المبالغة حتى نسد باب الذرائع !
أخي ليس ذلك كذلك ! تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام واجب ، ومحبته واجبة ، وما دام ذلك قد ثبت في الأحاديث وفي سنه النبي صلى الله عليه وسلم ، في معجزاته تفجر الماء من بين يديه ، وانشقاق القمر ، وفي خصائصه وشمائله لكثيرة المأثورة المذكورة المنشورة التي امتلأت بها صحاح كتب السنة .
لماذا لا نعظم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لماذا لا نثير هذه السيرة والمواقف ؛ لتكون المحبة أعظم في القلوب ؟ ليس هناك من حرج ولكن حساسية ، وإن كان هناك من يغلو أو يجنح فلا يدفعنا ذلك إلى أن نسد أو نوقف هذه ، أو نمنع هذه الأحاديث والأحوال بحجة سد باب الذريعة . كلا ! فما ثبت لا بد أن يقال وأن يعاد وأن يعلم ويشهر ، وأن يذكر ؛ حتى يكون مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته على الوجه الذي أراده الله عز وجل لنا ، وأراده لنا رسوله صلى الله عليه وسلم .
من أعظم الهجر والجفاء لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم : الابتداع
كل مبتدعٍ يتلبس بدعةً يخالف فيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضرب من الجفاء ، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له أفعل كذا ، وهو يفعل غيره ونقيضه ! وهذا أمرٌ عظيمٌ جداً .
من أهم الأمور في الجفاء : ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
وكذلك : عدم معرفة قدر الصحابة وذمهم
كيف تدعي حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تذمّ أصحابه الذين كانوا عن يمينه وعن يساره ، الذين فدوه بأرواحهم ، وجعلوا صدورهم دروعاً تتلقى السهام ؛ ليجودوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ كيف يمكن لأحدٍ أن يدعي المحبة وهو يذمّ أو يتهم أو يشنع على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ؟
كل هذا ضرب من الهجران والجفاء المبغوض المذموم ، الذي هو من أشد وأفظع ما يرتكبه مسلم في بعده عن دين الله عز وجل ، وعن مقتضى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
من الجفاء : عدم العناية بالسيرة النبوية وعدم معرفة الخصائص والخصال(/12)
أحبتي الكرام : خصال النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه عظيمة جداً ، أكثرها لا يعرفها الناس ، ولا يقرؤونه ، ولا يعرفون أحاديثه الثابتة ، حتى الأمور المادية كالمعجزات المادية ، من المهم أن نذكرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع تسبيح الحصى ، وقال - كما في صحيح مسلم - : ( إني لأعرف حجراً كان يسلّم عليّ بمكة ) ، هذا قبل بعثته قد ثبتت به الأحاديث ، وهناك فصل كامل في محبة الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما قال العلماء هي محبة حقيقية لا نعرف كنهها .. ( أُحُد جبل يحبنا ونحبه ) والجذع كما قلنا في ذلك سابقاً .
فينبغي لنا أن ننتبه لهذا وأن نكون في هذا الميدان الوسط ، ميدان بعد عن الغلو وخروجٍ عن حد الاعتدال وبعد كذلك عن الجفاء ، والقيام بما ينبغي لرسول الله عليه الصلاة والسلام من محبةٍ وإجلال .
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم محبة رسوله في قلوبنا ، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عندنا من محبة أنفسنا وأهلنا وآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وبناتنا ، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم طمأنينة قلوبنا ، وانشراح صدورنا ، وأن يجعل محبته عوناً لنا على طاعة الله عز وجل ، وحسن الصلة به ، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه .(/13)
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثرها في عبادة المرء
95
الإيمان بالرسل, الاتباع
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
ملخص الخطبة
1- العلاقة الوثيقة بين المحبة والفعل. 2- أمور ثلاثة تحقق حلاوة الإيمان. 3- المحبة مرهونة بالطاعة. 4- محبة الصحابة للرسول. 5- محبة الرسول ليس كلمة تقال.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، إن هذه الأجساد التي نحملها والأعضاء التي تحركها لا يكمن أن نسيرها إلا بحسب مشاعرها، فهي للمشاعر تبع، ولا يمكن أن تعرف محبًا لشيء ولا مبغضًا له إلا بفعله تجاهه وموقفه منه، لا بكلامه وإن كثره وزيَّنه وحلف عليه، ولكن ذلك الفعل والموقف محكوم بمشاعره نحوه، فإن أحبه أقبل عليه أيما إقبال، وإن أبغضه نفر منه كل نفور، وإن لم يجد له في قلبه حبًا ولا بغضًا كان مستويًا عنده قربه وبعده، إن أمكن منه قرب اقترب وإن حال دونه حائل ابتعد، وقس على هذا التفصيل أعظم أمورك وأحقرها، فما أحببته منها فعلته راغبًا ومشتاقا غير متعتع ولا وانٍ، وما كرهته منها تركته غير مهتم ولا مبال مهما كانت دواعيه وأسبابه، وما كان منها غير محبوب ولا مكروه فليس له في قلبك دافع وليس له فيه مانع، فما تزال تجريه كيفما اتفق، إن تيسر فعلته غير محب ولا كاره، وإن تعسر تركته غير مبال ولا نادم.
وما من شك أن أعظم الأمور وأهمها الاستجابة لله ولرسوله وهي ذات وجوه متعددة، من صلاة وزكاة وصيام وذكر وقراءة وترك محرّم، وغير ذلك من أعمال البر، وهو كما قال تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ وَءاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءاتَى الزكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، ولكن تلك الأعمال كلها لا يمكن أن تباشرها الأعضاء وتنشط إليها الأجساد إلا بعدما تكون مُحِبة لها حبًا صادقا، ويجعلها في شوق إليها، ورغبة في ممارستها وتلذذ بصنيعها، وراحة بعد الفراغ منها، انظر إلى قول رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))[1]، إن تلك المرتبة العالية ـ وهي أن يجد المرء حلاوة الإيمان بالله ـ لا بد لها من ثلاثة أمور.
أولها: أن لا يكون شيء مهما عظم أحب إليه من الله ورسوله حتى والده وولده والناس أجمعين كما ثبت عنه حين قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))[2]، بل حتى نفس المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر حين قال له: يا رسول الله، إنك أحب إلي من كل أحد إلا نفسي، فقال: ((لا يا عمر حتى نفسك))، فقال عمر : الآن ـ يا رسول الله ـ لأنت أحب إلي من نفسي، فقال : ((الآن يا عمر))، والله يقول: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
والثانية: أن يحب المرء حبًا صادقا، لا لأنه جلب له نفعًا ولا دفع عنه ضرًا ولا لسبب ولا نسب، ولكنه لا يحبه إلا لله أي لما يرى منه من عبادة وصلاح فيحبه لذلك والله تعالى يقول: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ))، وفي السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).(/1)
والثالثة: أن يشعر بأهمية ما هو عليه من الدين والهدى والحق وأن يكره الخروج منه إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار بل أعظم من ذلك، فإن المؤمنين الصادقين عرضوا على النار لتحرقهم أو يتحولوا عن دينهم فاختاروا أن يرموا في النار ولا يرجعوا عن دينهم كما فُعِل بأصحاب الأخدود وغيرهم.
ثم انظر لترى أن تلك الأمور الثلاثة التي يجد المرء بها حلاوة الإيمان ليس فيها عمل بدني، وإنما هي كلها مشاعر في قلب العبد والأمة، فما معك منها؟! غير إن وجود تلك المشاعر ليس بالأمر الهين، بل دونه خرط القتاد وشيب الغراب، إلا لمن منَّ الله به عليه.
ثم إن المقصود من تلك المشاعر هو ما يتبعها من العمل بمقتضاها والاستجابة التامة هو دليل وجودها في قلب العبد أو الأمة، أما الادعاء والكلام المجرد فمركب سهل وكلٌّ يركبه، وكم زعم المنافقون أنهم يحبون الله ورسوله وكم حلفوا على ذلك، ولكن دليل الصدق هو العمل والاتباع كما قال تعالى في آية المحنة التي امتحن بها من يدّعون محبة الله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31، 32]، وبقدر محبتك لله ورسوله تكون استجابتك ومحبتك لتنفيذ ما أمر به الله أو رسوله ، وما تفريطك في بعض ما أمر به أو رسوله إلا لنقص في محبتك لله ورسوله علمت ذلك أو لم تعلم، فتلك هي الحقيقة دون أدنى نظر إلى ما تدّعيه من المحبة ادّعاءً، فمن أحب الله ورسوله أطاع الله ورسوله، ومن نقصت محبته نقصت طاعته، إن المحب لمن يحب مطيع. فمن أحب الله ورسوله أحب الصلاة؛ لأن الله يحب منه أن يصلي، وأحب الاستغفار؛ لأن الله يحب منه أن يستغفر، وأحب الذكر والقرآن؛ لأن الله يحب منه أن يذكر ويقرأ، ومن أحب الله ورسوله أبغض الزنا؛ لأن الله يبغضه، وأبغض الربا والفحش والمعازف والملاهي وسائر المحرمات؛ لأن هذا عبد محب، فهو ينظر ما يحبه مولاه فيحبه، وما يبغضه مولاه فيبغضه. وهكذا كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، لقد كانت محبتهم لرسول الله ضربًا من العجب؛ لأنهم يعلمون ما خصه الله به من الفضائل العظام وما كان عليه من الخلق العظيم.
وحسبك أن تعلم وجهًا واحدًا مما اختصه الله به من الفضائل: انظر إلى اجتماعات الناس الكبرى، حين يجتمعون في مناسباتهم وأعيادهم، وكل يرى في نفسه من الكبراء والوزراء والأمراء والزعماء أنه مهم، وأن حضوره ذو بال، وغيابه خسران على أهل الاحتفال، مع أنه في زمن محدود وجمع معدود، وهنيئا حين ذاك لمن لا يجد هذا في نفسه تواضعًا، ولكن رسول الله في ذلك الموقف العظيم والجمع العميم يوم يجمع الله الأولين والآخرين سيكون الشافع المشفع، حين يقول أولياء الله المصطفون: نفسي نفسي، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((أنا لها)). فأي شرف بعد هذا؟! وأي كرامة فوق هذ؟! ومع ذلك ومع أنه أعظم المخلوقين شرفا وأعلاهم منزلة فهو أكثرهم تواضعًا وأشدهم حياءً، حتى كان يصغي الإناء للهرة لتشرب فلا يرفعه حتى تروى، وتستتبعه الأَمَةُ والمسكين فيتبعهما إلى حيث يريدان، وكان لا ينزع يده من يد من سلم عليه حتى يكوه المُسَلّم هو الذي ينزع يده، فانظر كيف جمع الله له المكارم من أطرافها، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولذا فإن محبته تختلف باختلاف معرفة قدره وخُلُقِه، وقد عرف ذلك صحابته والتابعون فأحبوه أعظم الحب وأصدقه.
وإن الحديث عن محبتهم رسول الله وآحاده ضرب من العجب كما تقدم، وخليق أن يفرد بخطبة خاصة، ولكننا نكتفي بذكر مواقف معدودة لنرى كيف كانت محبتهم لرسول الله :
هذا خبيب بن عدي مصلوبًا على خشبة القتل عند قريش، يقولون له: أتحب أنك سالم في أهلك وأن محمدًا مكانك؟ فيقول: والله، ما أحب أني سالم في أهلي وتصيب محمدًا شوكة. إنه لا يجعل قتله كفاء لقتله، ولكنه يرى موته هو أهون عليه من أن يصاب رسول الله بأدنى أذى حتى الشوكة.
وتلك أم سُلَيْم حين قال عندها رسول الله [3]، فجعلت تسلت العرق عن جنبه الشريف في قارورة معها، فاستيقظ بفعلها فقال: ((ما تصنعين يا أم سليم؟)) قالت: عرقك ـ يا رسول الله ـ نجعله في طيبنا.
ويقول سهيل بن عمرو: لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر فما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا.(/2)
وقد كان هو يحبهم أيضًا، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (60).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (13).
[3] أي: نام عندها وقت الظهيرة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الفضل المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين وخير الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على رسوله المصطفى فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، إن محبة رسول الله ليست نفلاً يتنفل به المسلم أو المسلمة، ولكنها شرط للإيمان، فلا إيمان للعبد إلا بها كما قال في الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))[1]، وكلما زادت محبته في قلب عبد كان أتم لإيمانه، حتى يجد بذلك حلاوة الإيمان كما تقدم معنا من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) الحديث[2].
غير أن القلوب غيوب، فلا يعلم ما بها إلا الله تعالى، ولا دليل عليه إلا بالعمل، فمن كان أكثر طاعة لله ورسوله فهو أكثر حبًا لله ولرسوله، حتى يصدق حبه فتكمل استجابته، ومن كان أقل طاعة فهو أقل حبًا، حتى تعدم المحبة فتعدم الاستجابة، وإن قال بلسانه ما قال وحلف على مزاعمه، فإن القول بلا عمل يصدّقه من أبطل الباطل، فكيف بقول يخالفه فعل قائله؟! إياك ثم إياك أن تغرك الأقوال وأنت ترى الأفعال، أمَا قال الحق تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]؟! فما دليل شدة خصومته وعداوته مع أنه قوله معجب؟! الدليل أنه وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]. فالدليل على كذب قوله ما تراه من فعله أنه يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، بل لا يقبل مجرد كلمة خير تقال له، فإذا قيل له: اتق الله اعتزّ بإثمه وباطله وأصر عليه، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].(/3)
إن الناس ربما اتفقت أقوالهم في الخير والجمال، ولكن العبرة في الأفعال، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، ألم يقل المنافقون: آمنا بالله وبالرسول؟! أوَلم يقولوا: سمعنا وأطعنا؟! أولم يقولوا: نشهد إنك لرسول الله؟! أتظن أن أولئك انتهوا وليس لهم في الناس أمثال؟! أوَتظن أن المنافقين انقطعوا في هذا الزمان؟! وَيِقُولُونَ امَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ % وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ % وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ % أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ % إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ % وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون [النور:47-52]، فأين محبة رسول الله ممن يدعيها بلسانه فإذا دعي إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أعرض وتثاقل، وإذا سمع: حي الصلاة حي الفلاح لم يجب بلسانه ولا ببدنه، وإذا قيل له: إن الله حرم هذا من قول أو فعل قال مستنكرا: كل شيء حرام؟! كل شيء حرام؟! لا تريدون أن نتكلم ولا نجلس ولا نفرح؟! فهل ترى ذلك صادقا فيما يدعيه؟! وما دليل صدقه من كذبه؟!
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري فِي القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لِمن يُحب مطيع
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
[1] تقدم تخريجه.
[2] تقدم تخريجه.(/4)
محرمات استهان بها الناس
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى فرض فرائض لا يجوز تضييعها ، وحد حدودا لا يجوز تعديها ، وحرم أشياء لا يجوز انتهاكها .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية ، فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية [ وما كان ربك نسيا ] . ) [ رواه الحاكم 2/375 وحسنه الألباني في غاية المرام ص: 14 ]
والمحرمات هي حدود الله عز وجل ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) الطلاق/1 وقد هدد الله من يتعدى حدوده وينتهك حرماته فقال سبحانه : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) سورة النساء/14
واجتناب المحرمات واجب لقوله صلى الله عليه وسلم ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ) [ رواه مسلم : كتاب الفضائل حديث رقم 130 ط. عبد الباقي]
ومن المشاهد أن بعض متبعي الهوى ، ضعفاء النفوس ، قليلي العلم إذا سمع بالمحرمات متوالية يتضجر ويتأفف ويقول : كل شيء حرام ، ما تركتم شيئا إلا حرمتموه ، أسأمتمونا حياتنا ، وأضجرتم عيشتنا ، وضيقتم صدورنا ، وما عندكم إلا الحرام والتحريم ، الدين يسر، والأمر واسع ، والله غفور رحيم .
ومناقشة لهؤلاء نقول :
إن الله جل وعلا يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير فهو يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء سبحانه ، ومن قواعد عبوديتنا لله عز وجل أن نرضى بما حكم ونسلم تسليما .
وأحكامه سبحانه صادرة عن علمه وحكمته وعدله ليست عبثا ولا لعبا كما قال الله : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) الأنعام/115
وقد بين لنا عز وجل الضابط الذي عليه مدار الحل والحرمة فقال تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) الأعراف/157 فالطيب حلال والخبيث حرام .
والتحليل والتحريم حق لله وحده فمن ادعاه لنفسه أو أقر به لغيره فهو كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله .. ) الشورى/21
ثم إنه لا يجوز لأي أحد أن يتكلم في الحلال والحرام إلا أهل العلم العالمين بالكتاب والسنة وقد ورد التحذير الشديد فيمن يحلل ويحرم دون علم فقال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب .. ) سورة النحل/116
والمحرمات المقطوع بها مذكورة في القرآن وفي السنة كقوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق .. الآية ) سورة الأنعام/151
وفي السنة كذلك ذكر لكثير من المحرمات كقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . [ رواه أبوداود 3486 وهو في صحيح أبي داود 977 ]
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) . [ رواه الدارقطني 3/7 وهو حديث صحيح ]
وقد يأتي في بعض النصوص ذكر محرمات مختصة بنوع من الأنواع مثلما ذكر الله المحرمات في المطاعم فقال : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام .. الآية ) المائدة/3
وذكر سبحانه المحرمات في النكاح فقال : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم .. الآية ) النساء/23
وذكر أيضا المحرمات من المكاسب فقال عز وجل : ( وأحل الله البيع وحرم الربا .. الآية ) البقرة/275
ثم إن الله الرحيم بعباده قد أحل لنا من الطيبات مالا يحصى كثرة وتنوعا ولذلك لم يفصل المباحات لأنها كثيرة لا تحصر وإنما فصل المحرمات لانحصارها وحتى نعرفها فنجتنبها فقال عز وجل : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ..) الأنعام/119
أما الحلال فأباحه على وجه الإجمال مادام طيبا فقال : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) البقرة/168 فكان من رحمته أن جعل الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم ، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى ومن توسعته على عباده فعلينا الطاعة والحمد والشكر .
وبعض الناس إذا رأوا الحرام معددا عليهم ومفصلا ضاقت أنفسهم ذرعا بالأحكام الشرعية وهذا من ضعف إيمانهم وقلة فقههم في الشريعة فهل يريد هؤلاء يا ترى أن يعدد عليهم أصناف الحلال حتى يقتنعوا بأن الدين يسر ؟ وهل يريدون أن تسرد لهم أنواع الطيبات حتى يطمئنوا أن الشريعة لا تكدر عليهم عيشهم ؟(/1)
هل يريدون أن يقال بأن اللحوم المذكاة من الإبل والبقر والغنم والأرانب والغزلان والوعول والدجاج والحمام والبط والوز والنعام حلال وأن ميتة الجراد والسمك حلال ؟.
وأن الخضراوات والبقول والفواكه وسائر الحبوب والثمار النافعة حلال
وأن الماء واللبن والعسل والزيت والخل حلال
وأن الملح والتوابل والبهارات حلال
وأن استخدام الخشب والحديد والرمل والحصى والبلاستيك والزجاج والمطاط حلال
وأن ركوب الدواب والسيارات والقطارات والسفن والطائرات حلال
وأن استعمال المكيفات والثلاجات والغسالات والنشافات والطاحونات والعجانات والفرامات والمعاصر وسائر أدوات الطب والهندسة والحساب والرصد والفلك والبناء واستخراج المياه والنفط والمعادن والتنقية والتحلية والطباعة والحاسبات الآلية حلال
وأن لبس القطن والكتان والصوف والوبر والشعر والجلود المباحة والنايلون والبوليستر حلال
وأن الأصل في النكاح والبيع والشراء والكفالة والحوالة والإجارة والمهن والحرف من النجارة والحدادة وإصلاح الآلات ورعي الغنم حلال
وهل يمكن يا ترى أن ينتهي بنا المقام إذا أردنا المواصلة في العد والسرد فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟
أما احتجاجهم بأن الدين يسر فهو حق أريد به باطل فإن مفهوم اليسر في هذا الدين ليس بحسب أهواء الناس وآرائهم وإنما بحسب ما جاءت به الشريعة فالفرق عظيم بين انتهاك المحرمات بالاحتجاج الباطل بأن الدين يسر ـ وهو يسر ولاشك ـ وبين الأخذ بالرخص الشرعية كالجمع والقصر والفطر في السفر ، والمسح على الخفين والجوربين للمقيم يوما بليلته وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، والتيمم عند الخوف من استعمال الماء وجمع الصلاتين للمريض وحين نزول المطر ، وإباحة النظر إلى المرأة الأجنبية للخاطب ، والتخيير في كفارة اليمين بين العتق والإطعام والكسوة ، وأكل الميتة عند الاضطرار وغير ذلك من الرخص والتخفيفات الشرعية .
وبالإضافة لما تقدم فينبغي أن يعلم المسلم بأن في تحريم المحرمات حكما منها : أن الله يبتلي عباده بهذه المحرمات فينظر كيف يعملون ومن أسباب تميز أهل الجنة عن أهل النار أن أهل النار قد انغمسوا في الشهوات التي حفت بها النار وأهل الجنة صبروا على المكاره التي حفت بها الجنة ، ولولا هذا الابتلاء ما تبين العاصي من المطيع . وأهل الإيمان ينظرون إلى مشقة التكليف بعين احتساب الأجر وامتثال أمر الله لنيل رضاه فتهون عليهم المشقة وأهل النفاق ينظرون إلى مشقة التكليف بعين الألم والتوجع والحرمان فتكون الوطأة عليهم شديدة والطاعة عسيرة .
وبترك المحرمات يذوق المطيع حلاوة : من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ويجد لذة الإيمان في قلبه .
وفي هذه الرسالة يجد القارئ الكريم عددا من المحرمات التي ثبت تحريمها في الشريعة مع بيان أدلة التحريم من الكتاب والسنة [ وقد صنف بعض العلماء في المحرمات أو في بعض أنواعها كالكبائر ومن الكتب الجيدة في موضوع المحرمات كتاب تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس الدمشقي رحمه الله تعالى ] ، وهذه المحظورات مما شاع فعلها وعم ارتكابها بين كثير من المسلمين ، وقد أردت بذكرها التبيان والنصح ، أسأل الله لي ولإخواني المسلمين الهداية والتوفيق والوقوف عند حدوده سبحانه وأن يجنبنا المحرمات ويقينا السيئات والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
المحتويات
الشرك بالله
عبادة القبور
الذبح لغير الله
تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله
السحر والكهانة والعرافة
الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس
اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق كذلك
الرياء بالعبادات
الطيرة
الحلف بغير الله تعالى
الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم
ترك الطمأنينة في الصلاة
العبث وكثرة الحركة في الصلاة
سبق المأموم إمامه في الصلاة عمدا
إتيان المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما أو ماله رائحة كريهة
الزنا
اللواط
امتناع المرأة من فراش زوجها بغير إذن شرعي
طلب المرأة الطلاق من زوجها لغير سبب شرعي
الظهار
وطء الزوجة في حيضها
إتيان المرأة في دبرها
عدم العدل بين الزوجات
الخلوة بالأجنبية
مصافحة المرأة الأجنبية
تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال
سفر المرأة بغير محرم
تعمد النظر إلى المرأة الأجنبية
الدياثة
التزوير في انتساب الولد لأبيه وجحد الرجل ولده
أكل الربا
كتم عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها
بيع النجش
البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة
القمار والميسر
السرقة
أخذ الرشوة وإعطاؤها
غصب الأرض
قبول الهدية بسبب الشفاعة
استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره
عدم العدل في العطية بين الأولاد
سؤال الناس المال من غير حاجة
الاستدانة بدين لا يريد وفاءه
أكل الحرام
شرب الخمر ولو قطرة واحدة
استعمال آنية الذهب والفضة والأكل والشرب فيها
شهادة الزور
سماع المعازف والموسيقى
الغيبة
النميمة
الاطلاع على بيوت الناس دون إذن(/2)
تناجي اثنين دون الثالث
الإسبال في الثياب
تحلي الرجال بالذهب على أي صورة كانت
لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء
وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء
تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
صبغ الشعر بالسواد
تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق ونحو ذلك
الكذب في المنام
الجلوس على القبر والوطء عليه وقضاء الحاجة في المقابر
عدم الاستتار من البول
التسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون
سوء الجوار
المضارة في الوصية
اللعب بالنرد
لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن
النياحة
ضرب الوجه والوسم في الوجه
هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي
الشرك بالله
وهو أعظم المحرمات على الإطلاق لحديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا) قالوا قلنا بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله .. متفق عليه البخاري / رقم 2511 ط. البغا ) وكل ذنب يمكن أن يغفره الله إلا الشرك فلا بد له من توبة مخصوصة قال الله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء/48
والشرك منه ما هو أكبر مخرج عن ملة الإسلام ، صاحبه مخلد في النار إن مات على ذلك .
ومن مظاهر هذا الشرك المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين :
ـ عبادة القبور واعتقاد أن الأولياء الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات والاستعانة والاستغاثة بهم والله سبحانه وتعالى يقول : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ... ) سورة الإسراء/23 ، وكذلك دعاء الموتى من الأنبياء والصالحين أو غيرهم للشفاعة أو للتخليص من الشدائد والله يقول : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .. أإله مع الله ) النمل/62 وبعضهم يتخذ ذكر اسم الشيخ أو الولي عادته وديدنه إن قام وإن قعد وإن عثر وكلما وقع في ورطة أو مصيبة وكربة فهذا يقول يا محمد وهذا يقول يا علي وهذا يقول يا حسين وهذا يقول يا بدوي وهذا يقول يا جيلاني وهذا يقول يا شاذلي وهذا يقول يا رفاعي وهذا يدعو العيدروس وهذا يدعو السيدة زينب وذاك يدعو ابن علوان والله يقول : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ... ) سورة الأعراف/194 وبعض عباد القبور يطوفون بها ويستلمون أركانها ويتمسحون بها ويقبلون أعتابها ويعفرون وجوههم في تربتها ويسجدون لها إذا رأوها ويقفون أمامها خاشعين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم وحاجاتهم من شفاء مريض أو حصول ولد أو تيسير حاجة وربما نادى صاحب القبر يا سيدي جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني والله عز وجل يقول ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) سورة الأحقاف/5 وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار ) رواه البخاري الفتح 8/176 ، وبعضهم يحلقون رؤوسهم عند القبور ، وعند بعضهم كتب بعناوين مثل : "مناسك حج المشاهد" ويقصدون بالمشاهد القبور وأضرحة الأولياء ، وبعضهم يعتقد أن الأولياء يتصرفون في الكون وأنهم يضرون وينفعون والله عز وجل يقول : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ...) سورة يونس/107 ، وكذلك من الشرك النذر لغير الله كما يفعل الذين ينذرون الشموع والأنوار لأصحاب القبور .
ــ ومن مظاهر الشرك الأكبر الذبح لغير الله والله يقول : ( فصل لربك وانحر ) سورة الكوثر/2 أي انحر لله وعلى اسم الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله من ذبح لغير الله ) رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه رقم 1978 ط. عبد الباقي ، وقد يجتمع في الذبيحة محرمان وهما الذبح لغير الله والذبح على غير اسم الله وكلاهما مانع للأكل منها ، ومن ذبائح الجاهلية - الشائعة في عصرنا - " ذبائح الجن " وهي أنهم كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو حفروا بئرا ذبحوا عندها أو على عتبتها ذبيحة خوفا من أذى الجن ( انظر تيسير العزيز الحميد ط. الإفتاء ص : 158 )(/3)
ــ ومن أمثلة الشرك الأكبر العظيمة الشائعة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو اعتقاد أن أحدا يملك الحق في ذلك غير الله عز وجل ، أو التحاكم إلى المحاكم والقوانين الجاهلية عن رضا واختيار واعتقاد بجواز ذلك وقد ذكر الله عز وجل هذا الكفر الأكبر في قوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) التوبة/31 ولما سمع عدي بن حاتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يتلوها قال : فقلت : إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال : ( أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم ) رواه البيهقي السنن الكبرى 10/116 وهو عند الترمذي برقم 3095 وحسنه الألباني في غاية المرام ص:19 ، وقد وصف الله المشركين بأنهم ( لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .. ) سورة التوبة/29 ، وقال الله عز وجل : ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) سورة يونس/59
ــ ومن أنواع الشرك المنتشرة السحر والكهانة والعرافة :
أما السحر فإنه كفر ومن السبع الكبائر الموبقات وهو يضر ولا ينفع قال الله تعالى عن تعلمه ( فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) البقرة/102 ، وقال ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) طه/69 ، والذي يتعاطى السحر كافر قال الله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) البقرة/102
وحكم الساحر القتل وكسبه حرام خبيث ، والجهال والظلمة وضعفاء الإيمان يذهبون إلى السحرة لعمل سحر يعتدون به على أشخاص أو ينتقمون منهم ومن الناس من يرتكب محرما بلجوئه إلى الساحر لفك السحر والواجب اللجوء إلى الله والاستشفاء بكلامه كالمعوذات وغيرها .
أما الكاهن والعراف فكلاهما كافر بالله العظيم لادعائهما معرفة الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وكثير من هؤلاء يستغفل السذج لأخذ أموالهم ويستعملون وسائل كثيرة من التخطيط في الرمل أو ضرب الودع أو قراءة الكف والفنجان أو كرة الكريستال والمرايا وغير ذلك وإذا صدقوا مرة كذبوا تسعا وتسعين مرة ولكن المغفلين لا يتذكرون إلا المرة التي صدق فيها هؤلاء الأفاكون فيذهبون إليهم لمعرفة المستقبل والسعادة والشقاوة في زواج أو تجارة والبحث عن المفقودات ونحو ذلك وحكم الذي يذهب إليهم إن كان مصدقا بما يقولون فهو كافر خارج عن الملة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الإمام أحمد 2/429 وهو في صحيح الجامع 5939 أما إن كان الذي يذهب إليهم غير مصدق بأنهم يعلمون الغيب ولكنه يذهب للتجربة ونحوها فإنه لا يكفر ولكن لا تقبل له صلاة أربعين يوما والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " صحيح مسلم 4/1751 ، هذا مع وجوب الصلاة والتوبة عليه .
ــ الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس :
عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية ـ على أثر سماء كانت من الليلة ـ فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب . وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب " رواه البخاري أنظر فتح الباري 2/333 . ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات فإن اعتقد ما فيها من أثر النجوم والأفلاك فهو مشرك وإن قرأها للتسلية فهو عاص آثم لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك بالإضافة لما قد يلقي الشيطان في نفسه من الاعتقاد بها فتكون وسيلة للشرك .
ــ ومن الشرك اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق عز وجل كذلك كما يعتقد بعضهم في التمائم والعزائم الشركية وأنواع من الخرز أو الودع أو الحلق المعدنية وغيرها بناء على إشارة الكاهن أو الساحر أو اعتقاد متوارث فيعلقونها في رقابهم أو على أولادهم لدفع العين بزعمهم أو يربطونها على أجسادهم أو يعلقونها في سياراتهم وبيوتهم أو يلبسون خواتم بأنواع من الفصوص يعتقدون فيها أمورا معينة من رفع البلاء أو دفعه وهذا لاشك ينافي التوكل على الله ولا يزيد الإنسان إلا وهنا وهو من التداوي بالحرام وهذه التمائم التي تعلق في كثير منها شرك جلي واستغاثة ببعض الجن والشياطين أو رسوم غامضة أو كتابات غير مفهومة وبعض المشعوذين يكتبون آيات من القرآن ويخلطونها بغيرها من الشرك وبعضهم يكتب آيات القرآن بالنجاسات أو بدم الحيض وتعليق كل ما تقدم أو ربطه حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من علق تميمة فقد أشرك ) رواه أحمد 4/156 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 492 .(/4)
وفاعل ذلك إن اعتقد أن هذه الأشياء تنفع أو تضر من دون الله فهو مشرك شركا أكبر ، وإن اعتقد أنها سبب للنفع أو الضرر ، والله لم يجعلها سببا ، فهو مشرك شركا أصغر وهذا يدخل في شرك الأسباب
ــ الرياء بالعبادات :
من شروط العمل الصالح أن يكون خالصا من الرياء مقيدا بالسنة والذي يقوم بعبادة ليراه الناس فهو مشرك وعمله حابط كمن صلى ليراه الناس ، قال الله تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) النساء/ 142 ، وكذلك إذا عمل العمل لينتقل خبره ويتسامع به الناس فقد وقع في الشرك وقد ورد الوعيد لمن يفعل ذلك كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به " رواه مسلم 4/2289 . ومن عمل عبادة قصد بها الله والناس فعمله حابط كما جاء في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " رواه مسلم رقم 2985
ومن ابتدأ العمل لله ثم طرأ عليه الرياء فإن كرهه وجاهده ودافعه صح عمله وإن استروح إليه وسكنت إليه نفسه فقد نص أكثر أهل العلم على بطلانه .
ــ الطيرة :
وهي التشاؤم قال تعالى : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) الأعراف/131 .
وكانت العرب إذا أراد أحدهم أمرا كسفر وغيره أمسك بطائر ثم أرسله فإن ذهب يمينا تفاءل ومضى في أمره وإن ذهب شمالا تشاءم ورجع عما أراد وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذا العمل بقوله : " الطيرة شرك " رواه الإمام أحمد 1/389 وهو في صحيح الجامع 3955 .
ومما يدخل في هذا الاعتقاد المحرم المنافي للتوحيد : التشاؤم بالشهور كترك النكاح في شهر صفر ، وبالأيام كاعتقاد أن آخر أربعاء من كل شهر يوم نحس مستمر أو الأرقام كالرقم 13 أو الأسماء أو أصحاب العاهات كما إذا ذهب ليفتح دكانه فرأى أعور في الطريق فتشاءم ورجع ونحو ذلك فهذا كله حرام ومن الشرك وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء فعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير ولا تطير له ولا تكهن ولا تكهن له ( وأظنه قال :) أو سحر أو سحر له " رواه الطبراني في الكبير 18/162 انظر صحيح الجامع 5435 . ومن وقع في شئ من ذلك فكفارته ما جاء في حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك قال أن يقول أحدهم : " اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك " رواه الإمام أحمد 2/220 السلسلة الصحيحة 1065 .
والتشاؤم من طبائع النفوس يقل ويكثر وأهم علاج له التوكل على الله عز وجل كما في قول ابن مسعود : " وما منا إلا ( أي : إلا ويقع في نفسه شئ من ذلك ) ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود رقم 3910 وهو في السلسلة الصحيحة 430 .
ــ الحلف بغير الله تعالى :
الله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وأما المخلوق فلا يجوز له أن يقسم بغير الله ومما يجري على ألسنة كثير من الناس الحلف بغير الله والحلف نوع من التعظيم لا يليق إلا بالله عن ابن عمر مرفوعا : " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " رواه البخاري انظر الفتح 11/530 . وعن ابن عمر مرفوعا : " من حلف بغير الله فقد أشرك " رواه الإمام أحمد 2/125 انظر صحيح الجامع 6204 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف بالأمانة فليس منا " رواه أبو داود 3253 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 94 .
فلا يجوز الحلف بالكعبة ولا بالأمانة ولا بالشرف ولا بالعون ولا ببركة فلان ولا بحياة فلان ولا بجاه النبي ولا بجاه الولي ولا بالآباء والأمهات ولا برأس الأولاد كل ذلك حرام ومن وقع في شيء من هذا فكفارته أن يقول لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح : " من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله .. " رواه البخاري فتح 11/536
وعلى منوال هذا الباب أيضا عدد من الألفاظ الشركية والمحرمة التي يتفوه بها بعض المسلمين ومن أمثلتها : أعوذ بالله وبك ـ أنا متوكل على الله وعليك ـ هذا من الله ومنك ـ مالي إلا الله وأنت ـ الله لي في السماء وأنت لي في الأرض ـ لولا الله وفلان ـ أنا بريئ من الإسلام ـ يا خيبة الدهر ( وكذا كل عبارة فيها سب الدهر مثل هذا زمان سوء وهذه ساعة نحس والزمن غدار ونحو ذلك وذلك لأن سب الدهر يرجع على الله الذي خلق الدهر ) ـ شاءت الطبيعة ـ كل الأسماء المعبدة لغير الله كعبد المسيح وعبد النبي وعبد الرسول وعبد الحسين
ومن المصطلحات والعبارات الحادثة المخالفة للتوحيد كذلك : اشتراكية الإسلام ـ ديموقراطية الإسلام ـ إرادة الشعب من إرادة الله ـ الدين لله والوطن للجميع ـ باسم العروبة ـ باسم الثورة .(/5)
ومن المحرمات إطلاق لفظة ملك الملوك وما في حكمها كقاضي القضاة على أحد من البشر ـ إطلاق لفظة سيد وما في معناها على المنافق والكافر ( سواء كان باللغة العربية أو بغيرها) ـ استخدام حرف لو الذي يدل على التسخط والتندم والتحسر ويفتح عمل الشيطان ـ قول اللهم اغفر لي إن شئت ـ [ وللتوسع انظر معجم المناهي اللفظية : بكر أبو زيد ]
الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم :
يعمد كثير من الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم إلى مجالسة بعض أهل الفسق والفجور بل ربما جالسوا بعض الذين يطعنون في شريعة الله ويستهزئون بدينه وأوليائه ولاشك أن هذا عمل محرم يقدح في العقيدة قال الله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) الأنعام/68
فلا يجوز الجلوس معهم في هذه الحالة وإن اشتدت قرابتهم أو لطف معشرهم وعذبت ألسنتهم إلا لمن أراد دعوتهم أو رد باطلهم أو الإنكار عليهم أما الرضا أو السكوت فلا ، قال الله تعالى : ( فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) التوبة/96
ترك الطمأنينة في الصلاة :
من أكبر جرائم السرقة السرقة من الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله : وكيف يسرق من صلاته قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها " رواه الإمام أحمد 5/310 وهو في صحيح الجامع 997 . وإن ترك الطمأنينة وعدم استقرار الظهر في الركوع والسجود وعدم إقامته بعد الرفع من الركوع واستوائه في الجلسة بين السجدتين كل ذلك مشهور ومشاهد في جماهير المصلين ولا يكاد يخلو مسجد من نماذج من الذين لا يطمئنون في صلاتهم . والطمأنينة ركن والصلاة لا تصح بدونها والأمر خطير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" رواه أبو داود 1/533 وهو في صحيح الجامع 7224 . ولا شك أن هذا منكر يستحق صاحبه الزجر والوعيد ، عن أبي عبد الله الأشعري قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينقر في سجوده فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ من مات على هذا مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم ، إنما مثل الذي يركع وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا التمرة والتمرتين فماذا تغنيان عنه " رواه ابن خزيمة في صحيحه 1/332 وانظر صفة صلاة النبي للألباني 131 ، وعن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود قال : ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا صلى الله عليه وسلم رواه البخاري انظر الفتح 2/274 . وينبغي على من ترك الطمأنينة في الصلاة إذا علم بالحكم أن يعيد فرض الوقت الذي هو فيه ويتوب إلى الله عما مضى ولا تلزمه إعادة الصلوات السابقة كما دل عليه حديث ارجع فصل فإنك لم تصل .
العبث وكثرة الحركة في الصلاة :
وهذه آفة لا يكاد يسلم منها أعداد من المصلين لأنهم لا يمتثلون أمر الله ( وقوموا لله قانتين ) البقرة/238 ، ولا يعقلون قول الله ( قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ) المؤمنون/1-2 ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن تسوية التراب في السجود قال " لا تمسح وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصى " رواه أبو داود 1/581 وهو في صحيح الجامع 7452 ، وقد ذكر أهل العلم أن الحركة الكثيرة المتوالية بغير حاجة تبطل الصلاة فكيف بالعابثين في صلواتهم يقفون أمام الله وأحدهم ينظر في ساعته أو يعدل ثوبه أو يلقم إصبعه أنفه ويرمى ببصره يمينا وشمالا وإلى السماء ولا يخشى أن يخطف بصره وأن يختلس الشيطان من صلاته .
سبق المأموم إمامه في الصلاة عمدا :
الإنسان من طبعه العجلة ( وكان الإنسان عجولا ) الإسراء/11 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( التأني من الله والعجلة من الشيطان ) رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/104 وهو في السلسلة 1795 . وكثيرا ما يلاحظ المرء وهو في الجماعة عددا من المصلين عن يمينه أو شماله بل ربما يلاحظ ذلك على نفسه أحيانا مسابقة الإمام بالركوع أو السجود وفي تكبيرات الانتقال عموما وحتى في السلام من الصلاة وهذا العمل الذي لا يبدو ذا أهمية عند الكثيرين قد جاء فيه الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار " رواه مسلم 1/320-321 .(/6)
وإذا كان المصلي مطالبا بالإتيان إلى الصلاة بالسكينة والوقار فكيف بالصلاة ذاتها وقد تختلط عند بعض الناس مسابقة الإمام بالتخلف عنه فليعلم أن الفقهاء رحمهم الله قد ذكروا ضابطا حسنا في هذا وهو أنه ينبغي على المأموم الشروع في الحركة حين تنقطع تكبيرة الإمام فإذا انتهى من ( راء ) الله أكبر يشرع المأموم في الحركة لا يتقدم عن ذلك ولا يتأخر وبذلك ينضبط الأمر وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في غاية الحرص على عدم استباق النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم وهو البراء بن عازب رضي الله عنه إنهم كانوا يصلون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم أر أحدا يحني ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض ثم يخر من وراءه سجدا ) رواه مسلم رقم 474 ط. عبد الباقي .
ولما كبر النبي صلى الله عليه وسلم وصار في حركته نوع من البطء نبه المصلين خلفه فقال ( يا أيها الناس إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود .. ) رواه البيهقي 2/93 وحسنه في إرواء الغليل 2/ 290 ، وعلى الإمام أن يعمل بالسنة في التكبير إذا صلى وهو ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع .. ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس ) رواه البخاري رقم 756 ط. البغا ، فإذا جعل الإمام تكبيره مرافقا ومقترنا بحركته وحرص المأموم على الالتزام بالكيفية السابق ذكرها صلح أمر الجماعة في صلاتهم .
إتيان المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما أو ما له رائحة كريهة : -
قال الله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ... ) الأعراف/31
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو قال : فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته " رواه البخاري انظر الفتح 2/339 ، وفي رواية لمسلم " من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " رواه مسلم رواه 1/395 . وخطب عمر بن الخطاب الناس يوم الجمعة فقال في خطبته : " ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين : هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخا " رواه مسلم 1/396 .
ويدخل في هذا الباب الذين يدخلون المساجد بعد أعمالهم مباشرة والروائح الكريهة تنبعث من آباطهم وجواربهم .
وأسوأ من هذا المدخنون الذين يتعاطون التدخين المحرم ثم يدخلون المساجد يؤذون عباد الله من الملائكة والمصلين .
الزنا :
لما كان من مقاصد الشريعة حفظ العرض وحفظ النسل جاء فيها تحريم الزنا قال الله تعالى : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) الإسراء/32 ، بل وسدت الشريعة جميع الذرائع والطرق الموصلة إليه بالأمر بالحجاب وغض البصر وتحريم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك .
والزاني المحصن يعاقب بأشنع عقوبة وأشدها وهي رجمه بالحجارة حتى يموت ليذوق وبال أمره وليتألم كل جزء من جسده كما استمتع به في الحرام والزاني الذي لم يسبق له الوطء في نكاح صحيح يجلد بأكثر عدد في الجلد ورد في الحدود الشرعية وهو مائة جلدة مع ما يحصل له من الفضيحة بشهادة طائفة من المؤمنين لعذابه والخزي بإبعاده عن بلده وتغريبه عن مكان الجريمة عاما كاملا .
وعذاب الزناة والزواني في البرزخ أنهم يكونون في تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار يكونون فيه عراة فإذا أوقدت عليهم النار صاحوا وارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا أخمدت رجعوا فيها وهكذا يفعل بهم إلى قيام الساعة .
ويزداد الأمر قبحا إذا كان الرجل مستمرا في الزنا مع تقدمه في السن وقربه من القبر وإمهال الله له فعن أبي هريرة مرفوعا : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " رواه مسلم 1/102-103 . ومن شر المكاسب مهر البغي وهو ما تأخذه مقابل الزنا ، والزانية التي تسعى بفرجها محرومة من إجابة الدعوة عندما تفتح أبواب السماء في نصف الليل [ الحديث في صحيح الجامع 2971 ، وليست الحاجة والفقر عذرا شرعيا مطلقا لانتهاك حدود الله وقديما قالوا تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها فكيف بفرجها .(/7)
وفي عصرنا فتح كل باب إلى الفاحشة وسهل الشيطان الطريق بمكره ومكر أوليائه واتبعه العصاة والفجرة ففشا التبرج والسفور وعم انفلات البصر والنظر المحرم وانتشر الاختلاط وراجت مجلات الخنا وأفلام الفحش وكثر السفر إلى بلاد الفجور وقام سوق تجارة الدعارة وكثر انتهاك الأعراض وازداد عدد أولاد الحرام وحالات قتل الأجنة فنسألك اللهم رحمتك ولطفك وسترك وعصمة من عندك تعصمنا بها من الفواحش ونسألك أن تطهر قلوبنا وتحصن فروجنا وأن تجعل بيننا وبين الحرام برزخا وحجرا محجورا .
اللواط :-
كانت جريمة قوم لوط هي إتيان الذكران من الناس قال الله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) العنكبوت/29 .
ولشناعة هذه الجريمة وقبحها وخطورتها عاقب الله مرتكبيها بأربعة أنواع من العقوبات لم يجمعها على قوم غيرهم وهي أنه طمس أعينهم وجعل عاليها سافلها وأمطرهم بحجارة من سجيل منضود وأرسل عليهم الصيحة
وفي هذه الشريعة صار القتل بالسيف ـ على الراجح ـ هو عقوبة الفاعل والمفعول به إذا كان عن رضا واختيار فعن ابن عباس مرفوعا : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه الإمام أحمد 1/300 وهو في صحيح الجامع 6565 .
وما ظهر في زماننا من الطواعين وأنواع الأمراض التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا بسبب الفاحشة كمرض الإيدز القاتل يدل على شئ من حكمة الشارع في تعيين هذه العقوبة البليغة .
امتناع المرأة من فراش زوجها بغير عذر شرعي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " رواه البخاري انظر الفتح 6/314 .
وكثير من النساء إذا صار بينها وبين زوجها خلاف تعاقبه - بظنها - بمنعه حقه في الفراش وقد يترتب على هذا مفاسد عظيمة منها وقوع الزوج في الحرام وقد تنعكس عليها الأمور فيفكر جادا في الزواج عليها
فعلى الزوجة أن تسارع بإجابة زوجها إذا طلبها امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتجب وإن كانت على ظهر قتب " انظر زوائد البزار 2/181 وهو في صحيح الجامع 547 والقتب ما يوضع على ظهر الجمل للركوب . وعلى الزوج أن يراعي زوجته إذا كانت مريضة أو حاملا أو مكروبة حتى يدوم الوفاق ولا يقع الشقاق .
طلب المرأة الطلاق من زوجها لغير سبب شرعي :-
تسارع كثير من النساء إلى طلب الطلاق من أزواجهن عند حصول أدنى خلاف أو تطالب الزوجة بالطلاق إذا لم يعطها الزوج ما تريد من المال وقد تكون مدفوعة من قبل بعض أقاربها أو جاراتها من المفسدات وقد تتحدى زوجها بعبارات مثيرة للأعصاب كقولها إن كنت رجلا فطلقني ومن المعلوم أنه يترتب على الطلاق مفاسد عظيمة من تفكك الأسرة وتشرد الأولاد وقد تندم حين لا ينفع الندم ولهذا وغيره تظهر الحكمة في الشريعة لما جاءت بتحريم ذلك فعن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " رواه أحمد 5/277 وهو في صحيح الجامع 2703 . وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : " إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " رواه الطبراني في الكبير 17/339 وهو في صحيح الجامع 1934 . أما لو قام سبب شرعي كترك الصلاة أو تعاطي المسكرات والمخدرات من قبل الزوج أو أنه يجبرها على أمر محرم أو يظلمها بتعذيبها أو بمنعها من حقوقها الشرعية مثلا ولم ينفع النصح ولم تجد محاولات الإصلاح فلا يكون على المرأة حينئذ من بأس إن هي طلبت الطلاق لتنجو بدينها ونفسها .
الظهار :-
من ألفاظ الجاهلية الأولى المنتشرة في هذه الأمة الوقوع في الظهار كأن يقول الزوج لزوجته أنت علي كظهر أمي أو أنت حرام علي كحرمة أختي ونحو ذلك من الألفاظ الشنيعة التي استبشعتها الشريعة لما فيها من ظلم المرأة وقد وصف الله ذلك بقوله سبحانه :( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور ) المجادلة/2
وجعلت الشريعة الكفارة في ذلك مغلظة مشابهة لكفارة قتل الخطأ ومماثلة لكفارة الجماع في نهار رمضان لا يجوز للمظاهر من زوجته أن يقربها إلا إذا أتى بالكفارة فقال الله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ) المجادلة/3-4 .
وطء الزوجة في حيضها :-(/8)
قال تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة/222 ، فلا يحل له أن يأتيها حتى تغتسل بعد طهرها لقوله تعالى : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله .. ) البقرة/222 ، ويدل على شناعة هذه المعصية قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الترمذي عن أبي هريرة 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 .
ومن فعل ذلك خطأ دون تعمد وهو لا يعلم فليس عليه شيء ومن فعله عامدا عالما فعليه الكفارة في قول بعض أهل العلم ممن صحح حديث الكفارة وهي دينار أو نصف دينار ، قال بعضهم هو مخير فيهما وقال بعضهم إذا أتاها في أول حيضها في فورة الدم فعليه دينار وإن أتاها في آخر حيضها إذا خف الدم أو قبل اغتسالها من الحيض فعليه نصف دينار والدينار بالتقدير المتداول 25,4 غراما من الذهب يتصدق بها أو بقيمتها من الأوراق النقدية .
إتيان المرأة في دبرها :
بعض الشاذين من ضعاف الإيمان لا يتورع عن إتيان زوجته في دبرها ( في موضع خروج الغائط ) وهذا من الكبائر وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل هذا فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " رواه الإمام أحمد 2/479 وهو في صحيح الجامع 5865 ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه الترمذي برقم 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 . ورغم أن عددا من الزوجات من صاحبات الفطر السليمة يأبين ذلك إلا أن بعض الأزواج يهدد بالطلاق إذا لم تطعه ، وبعضهم قد يخدع زوجته التي تستحي من سؤال أهل العلم فيوهمها بأن هذا العمل حلال وقد يستدل لها بقوله تعالى ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) البقرة/223 ، ومعلوم أن السنة تبين القرآن وقد جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يجوز أن يأتيها كيف شاء من الأمام والخلف مادام في موضع الولد ولا يخفى أن الدبر ومكان الغائط ليس موضعا للولد . ومن أسباب هذه الجريمة الدخول إلى الحياة الزوجية النظيفة بموروثات جاهلية قذرة من ممارسات شاذة محرمة أو ذاكرة مليئة بلقطات من أفلام الفاحشة دون توبة إلى الله . ومن المعلوم أن هذا الفعل محرم حتى لو وافق الطرفان فإن التراضي على الحرام لا يصيره حلالا .
عدم العدل بين الزوجات :-
مما وصانا الله به في كتابه العزيز العدل بين الزوجات قال الله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) النساء/129 ، فالعدل المطلوب هو أن يعدل في المبيت وأن يقوم لكل واحدة بحقها في النفقة والكسوة وليس العدل في محبة القلب لأن العبد لا يملكها وبعض الناس إذا اجتمع عنده أكثر من زوجة ينحاز إلى واحدة ويهمل الأخرى فيبيت عند واحدة أكثر أو ينفق عليها ويذر الأخرى وهذا محرم وهو يأتي يوم القيامة بحال جاء وصفها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " رواه أبو داود 2/601 وهو في صحيح الجامع 6491 .
الخلوة بالأجنبية :-
الشيطان حريص على فتنة الناس وإيقاعهم في الحرام ولذلك حذرنا الله سبحانه بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر .. الآية) النور/21 ، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومن سبل الشيطان في الإيقاع في الفاحشة الخلوة بالأجنبية ولذلك سدت الشريعة هذا الطريق كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " رواه الترمذي 3/474 انظر مشكاة المصابيح 3118 . وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان " رواه مسلم 4/1711 . فلا يجوز لرجل أن يختلي في بيت أو حجرة أو سيارة بامرأة أجنبية عنه كزوجة أخيه أو الخادمة أو مريضة مع طبيب ونحو ذلك وكثير من الناس يتساهلون في هذا إما ثقة بنفسه أو بغيره فيترتب على ذلك الوقوع في الفاحشة أو مقدماتها وتزداد مأساة اختلاط الأنساب وأولاد الحرام .
مصافحة المرأة الأجنبية :(/9)
وهذا مما طغت فيه بعض الأعراف الاجتماعية على شريعة الله في المجتمع وعلا فيه باطل عادات الناس وتقاليدهم على حكم الله حتى لو خاطبت أحدهم بحكم الشرع وأقمت الحجة وبينت الدليل اتهمك بالرجعية والتعقيد وقطع الرحم والتشكيك في النوايا الحسنة ... الخ، وصارت مصافحة بنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة وزوجة الأخ وزوجة العم وزوجة الخال أسهل في مجتمعنا من شرب الماء ولو نظروا بعين البصيرة في خطورة الأمر شرعا ما فعلوا ذلك . قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " رواه الطبراني 20/212 وهو في صحيح الجامع 4921 . ولا شك أن هذا من زنا اليد كما قال صلى الله عليه وسلم " العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني " رواه الإمام أحمد 1/412 وهو في صحيح الجامع 4126 ، وهل هناك أطهر قلبا من محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك قال " إني لا أصافح النساء" رواه الإمام أحمد 6/357 وهو في صحيح الجامع 2509 ، وقال أيضا " إني لا أمس أيدي النساء" رواه الطبراني في الكبير 24/342 وهو في صحيح الجامع 7054 وانظر الإصابة 4/354 ط. دار الكتاب العربي . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام [ رواه مسلم 3/1489 ] . ألا فليتق الله أناس يهددون زوجاتهم الصالحات بالطلاق إذا لم يصافحن إخوانهم .
وينبغي العلم بأن وضع حائل والمصافحة من وراء ثوب لا تغني شيئا فهو حرام في الحالين .
تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال :
وهذا مما فشا في عصرنا رغم التحذير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " أيما امرأة استعطرت ثم مرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية " رواه الإمام أحمد 4/418 انظر صحيح الجامع 105 . وعند بعض النساء غفلة أو استهانة يجعلها تتساهل بهذا الأمر عند السائق والبائع وبواب المدرسة ، بل إن الشريعة شددت على من وضعت طيبا بأن تغتسل كغسل الجنابة إذا أرادت الخروج ولو إلى المسجد . قال صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد ليوجد ريحها لم يقبل منها صلاة حتى تغتسل اغتسالها من الجنابة " رواه الإمام أحمد 2/444 وانظر صحيح الجامع 2703 . فإلى الله المشتكى من البخور والعود في الأعراس وحفلات النساء قبل خروجهن واستعمال هذه العطورات ذات الروائح النفاذة في الأسواق ووسائل النقل ومجتمعات الإختلاط وحتى في المساجد في ليالي رمضان وقد جاءت الشريعة بأن طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه نسأل الله أن لا يمقتنا وأن لا يؤاخذ الصالحين والصالحات بفعل السفهاء والسفيهات وأن يهدي الجميع إلى صراطه المستقيم .
سفر المرأة بغير محرم :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم " رواه مسلم 2/977 . وسفرها بغير محرم يغري الفساق بها فيتعرضون لها وهي ضعيفة فقد تنجرف وأقل أحوالها أن تؤذى في عرضها أو شرفها، وكذلك ركوبها بالطائرة ولو بمحرم يودع ومحرم يستقبل ـ بزعمهم ـ فمن الذي سيركب بجانبها في المقعد المجاور ولو حصل خلل فهبطت الطائرة في مطار آخر أو حدث تأخير واختلاف موعد فماذا يكون الحال والقصص كثيرة . هذا ويشترط في المحرم أربعة شروط وهي أن يكون مسلما بالغا عاقلا ذكرا .
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها " رواه مسلم 2/977 .
تعمد النظر إلى المرأة الأجنبية :
قال الله تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ) النور /30 ، وقال صلى الله عليه وسلم " ...فزنا العين النظر ..." ( أي إلى ما حرم الله ) رواه البخاري انظر فتح الباري 11/26 . ويستثنى من ذلك ما كان لحاجة شرعية كنظر الخاطب والطبيب . ويحرم كذلك على المرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي نظر فتنة قال تعالى ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) ويحرم كذلك النظر إلى الأمرد والحسن بشهوة ، ويحرم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة وكل عورة لا يجوز النظر إليها لا يجوز مسها ولو من وراء حائل . ومن تلاعب الشيطان ببعضهم ما يفعلون من النظر إلى الصور في المجلات ومشاهدة الأفلام بحجة أنها ليست حقيقية وجانب المفسدة وإثارة الشهوات في هذا واضح كل الوضوح .
الدياثة :
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث " رواه الإمام أحمد 2/69 وهو في صحيح الجامع 3047 .(/10)
ومن صور الدياثة في عصرنا الإغضاء عن البنت أو المرأة في البيت وهي تتصل بالرجل الأجنبي يحادثها وتحادثه بما يسمى بالمغازلات وأن يرضى بخلوة إحدى نساء بيته مع رجل أجنبي وكذا ترك إحدى النساء من أهل البيت تركب بمفردها مع أجنبي كالسائق ونحوه وأن يرضى بخروجهن دون حجاب شرعي يتفرج عليهن الغادي والرائح وكذا جلب الأفلام أو المجلات التي تنشر الفساد والمجون وإدخالها البيت .
التزوير في انتساب الولد لأبيه وجحد الرجل ولده :
لا يجوز شرعا لمسلم أن ينتسب إلى غير أبيه أو يلحق نفسه بقوم ليس منهم وبعض الناس يفعلون ذلك لمآرب مادية ويثبتون النسب المزور في الأوراق الرسمية وبعضهم قد يفعله حقدا على أبيه الذي تركه وهو في صغره وكل ذلك حرام ويترتب على ذلك مفاسد عظيمة في أبواب متعددة كالمحرمية والنكاح والميراث ونحو ذلك وقد جاء في الصحيح عن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما مرفوعا : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " رواه البخاري انظر فتح الباري 8/45 . ويحرم في الشريعة كل ما فيه عبث بالأنساب أو تزوير فيها وبعض الناس إذا فجر في خصومته مع زوجته اتهمها بالفاحشة وتبرأ من ولده دون بينة وهو قد جاء على فراشه وقد تخون بعض الزوجات الأمانة فتحمل من فاحشة وتدخل في نسب زوجها من ليس منه وقد جاء الوعيد العظيم على ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت آية الملاعنة : " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين " رواه أبو داود 2/695 انظر مشكاة المصابيح 3316 .
أكل الربا :
لم يؤذن الله في كتابه بحرب أحد إلا أهل الربا قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) البقرة / 278-279 ، وهذا كاف في بيان شناعة هذه الجريمة عند الله عز وجل .
والناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود والعجز عن تسديد الديون وشلل الاقتصاد وارتفاع مستوى البطالة وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات وجعل ناتج الكدح اليومي وعرق العمل يصب في خانة تسديد الربا غير المتناهي للمرابي وإيجاد الطبقية في المجتمع من جعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا .
وكل من يشارك في الربا من الأطراف الأساسية والوسطاء والمعينين المساعدين ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فعن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " وقال : " هم سواء " رواه مسلم 3/1219 . وبناء عليه لا يجوز العمل في كتابة الربا ولا في تقييده وضبطه ولا في استلامه وتسليمه ولا في إيداعه ولا في حراسته وعلى وجه العموم تحرم المشاركة فيه والإعانة عليه بأي وجه من الوجوه .
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبيان قبح هذه الكبيرة فيما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " رواه الحاكم في المستدرك /37 وهو في صحيح الجامع 3533 . وبقوله فيما جاء عن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنهما مرفوعا : " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية " رواه الإمام أحمد 5/225 انظر صحيح الجامع 3375 . وتحريم الربا عام لم يخص بما كان بين غني وفقير كما يظنه بعض الناس بل هو عام في كل حال وشخص وكم من الأغنياء وكبار التجار قد أفلسوا بسببه والواقع يشهد بذلك وأقل ما فيه محق بركة المال وإن كان كثيرا في العدد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل " رواه الحاكم 2/37 وهو في صحيح الجامع 3542 ومعنى قل أي نقصان المال .
وليس الربا كذلك مخصوصا بما إذا كانت نسبته مرتفعة أو متدنية قليلة أم كثيرة فكله حرام صاحبه يبعث من قبره يوم القيامة يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس والصرع .
ومع فحش هذه الجريمة إلا أن الله أخبر عن التوبة منها وبين كيفية ذلك فقال تعالى لأهل الربا : "( فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) وهذا عين العدل .(/11)
ويجب أن تنفر نفس المؤمن من هذه الكبيرة وأن تستشعر قبحها وحتى الذين يضعون أموالهم في البنوك الربوية اضطرارا وخوفا عليها من الضياع أو السرقة ينبغي عليهم أن يشعروا بشعور المضطر وأنهم كمن يأكل الميتة أو أشد مع استغفار الله تعالى والسعي لإيجاد البديل ما أمكن ولا يجوز لهم مطالبة البنوك بالربا بل إذا وضع لهم في حساباتهم تخلصوا منه في أي باب جائز تخلصا لا صدقة فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولا يجوز لهم الاستفادة منه بأي نوع من الاستفادة لا بأكل ولا شرب ولا لبس ولا مركب ولامسكن ولا نفقة واجبة لزوجة أو ولد أو أب أو أم ولا في إخراج الزكاة ولا في تسديد الضرائب ولا يدفع بها ظلما عن نفسه وإنما يتخلص منها خوفا من بطش الله تعالى .
كتم عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها :
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال " ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ من غش فليس منا " رواه مسلم 1/99 ، وكثير من الباعة اليوم ممن لا يخاف الله يحاول إخفاء العيب بوضع لاصق عليه أو جعله في أسفل صندوق البضاعة أو استعمال مواد كيميائية ونحوها تظهره بمظهر حسن أو تخفي صوت العيب الذي في المحرك في أول الأمر فإذا عاد المشتري بالسلعة لم تلبث أن تتلف من قريب وبعضهم يغير تاريخ انتهاء صلاحية السلعة أو يمنع المشتري من معاينة السلعة أو فحصها أو تجريبها وكثير ممن يبيعون السيارات والآلات لا يبينون عيوبها وهذا حرام . قال النبي صلى عليه وسلم " المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له " رواه ابن ماجة 2/754 وهو في صحيح الجامع 6705 . وبعضهم يظن أنه يخلي مسئوليته إذا قال للمشترين في المزاد العلني .. أبيع كومة حديد .. كومة حديد ، فهذا بيعه منزوع البركة كما قال صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ". رواه البخاري أنظر الفتح 4/328 .
بيع النجش :
وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع غيره ويجره إلى الزيادة في السعر، قال صلى الله عليه وسلم "لا تناجشوا" رواه البخاري انظر فتح الباري 10/484 ، وهذا نوع من الخداع ولا شك وقد قال عليه الصلاة والسلام " المكر والخديعة في النار " انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1057 . وكثير من الدلالين في الحراج والمزادات ومعارض بيع السيارات كسبهم خبيث لمحرمات كثيرة يقترفونها منها تواطؤهم في بيع النجش والتغرير بالمشتري القادم وخداعه فيتواطؤن على خفض سعر سلعته أما لو كانت السلعة لهم أو لأحدهم فعلى العكس يندسون بين المشترين ويرفعون الأسعار في المزاد يخدعون عباد الله ويضرونهم .
البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة : -
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) الجمعة/9
وبعض الباعة يستمرون في البيع بعد النداء الثاني في دكاكينهم أو أمام المساجد ويشترك معهم في الإثم الذين يشترون منهم ولو سواكا وهذا البيع باطل على الراجح وبعض أصحاب المطاعم والمخابز والمصانع يجبرون عمالهم على العمل في وقت صلاة الجمعة وهؤلاء وإن زاد ربحهم في الظاهر فإنهم لا يزدادون إلا خسارا في الحقيقة ، أما العامل فإنه لابد أن يعمل بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لبشر في معصية الله " . رواه الإمام أحمد 1/129 وقال أحمد شاكر إسناده صحيح رقم 1065 .
القمار والميسر :-
قال الله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) المائدة/90 .
وكان أهل الجاهلية يتعاطون الميسر ومن أشهر صوره عندهم أنهم كانوا يشتركون في بعير عشرة أشخاص بالتساوي ثم يَضرب بالقداح وهو نوع من القرعة فسبعة يأخذون بأنصبة متفاوتة معينة في عرفهم وثلاثة لا يأخذون شيئا .
وأما في زماننا فإن للميسر عدة صور منها :
ـ ما يعرف باليانصيب وله صور كثيرة ومن أبسطها شراء أرقام بمال يجري السحب عليها فالفائز الأول يعطى جائزة والثاني وهكذا في جوائز معدودة قد تتفاوت فهذا حرام ولو كانوا يسمونه بزعمهم خيريا .
ـ أن يشتري سلعة بداخلها شيء مجهول أو يعطى رقما عند شرائه للسلعة يجري عليه السحب لتحديد الفائزين بالجوائز .
ـ ومن صور الميسر في عصرنا عقود التأمين التجاري على الحياة والمركبات والبضائع وضد الحريق والتأمين الشامل وضد الغير إلى غير ذلك من الصور المختلفة حتى أن بعض المغنين يقومون بالتأمين على أصواتهم .(/12)
هذا وجميع صور المقامرة تدخل في الميسر وقد وجد في زماننا أندية خاصة بالقمار وفيها ما يعرف بالطاولات الخضراء الخاصة لمقارفة هذا الذنب العظيم وكذلك ما يحدث في مراهنات سباق الخيول وغيرها من المباريات هو أيضا نوع من أنواع الميسر ويوجد في بعض محلات الألعاب ومراكز الترفيه أنواع من الألعاب المشتملة على فكرة الميسر كالتي يسمونها "الفليبرز" ومن صور المقامرة أيضا المسابقات التي تكون فيها الجوائز من طرفي المسابقة أو أطرافها كما نص على ذلك جماعة من أهل العلم .
السرقة :
قال تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) المائدة / 38 .
ومن أعظم جرائم السرقة سرقة حجاج وعمار بيت الله العتيق وهذا النوع من اللصوص لا يقيم وزنا لحدود الله في أفضل بقاع الأرض وحول بيت الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة صلاة الكسوف : ( لقد جئ بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها ، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه [ أمعاءه ] في النار ، كان يسرق الحاج بمحجنه [ عصا معقوفة الطرف ] فإن فطن له قال : إنما تعلق بمحجني ، وإن غفل عنه ذهب به .. ) رواه مسلم رقم 904 .
ومن أعظم السرقات السرقة من الأموال العامة وبعض الذين يفعلونها يقولون نسرق كما يسرق غيرنا وما علموا أن تلك سرقة من جميع المسلمين لأن الأموال العامة ملك لجميع المسلمين وفعل الذين لا يخافون الله ليس بحجة تبرر تقليدهم وبعض الناس يسرق من أموال الكفار بحجة أنهم كفار وهذا غير صحيح فإن الكفار الذين يجوز سلب أموالهم هم المحاربون للمسلمين وليس جميع شركات الكفار وأفرادهم يدخلون في ذلك ومن وسائل السرقة مد الأيدي إلى جيوب الآخرين خلسة وبعضهم يدخل بيوت الآخرين زائرا ويسرق وبعضهم يسرق من حقائب ضيوفه وبعضهم يدخل المحلات التجارية ويخفي في جيوبه وثيابه سلعا أو ما تفعله بعض النساء من إخفائها تحت ثيابها وبعض الناس يستسهل سرقة الأشياء القليلة أو الرخيصة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " رواه البخاري انظر فتح الباري 12/81 . ويجب على كل من سرق شيئا أن يعيده إلى صاحبه بعد أن يتوب إلى الله عز وجل سواء أعاده علانية أو سرا شخصيا أو بواسطة فإن عجز عن الوصول إلى صاحب المال أو إلى ورثته من بعده مع الاجتهاد في البحث فإنه يتصدق به وينوي ثوابه لصاحبه .
أخذ الرشوة وإعطاؤها :
إعطاء الرشوة للقاضي أو الحاكم بين الناس لإبطال حق أو تمشية باطل جريمة لأنها تؤدي إلى الجور في الحكم وظلم صاحب الحق وتفشي الفساد قال الله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنت تعلمون ) البقرة/ 188 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم " رواه الإمام أحمد 2/387 وهو في صحيح الجامع 5069 . أما ما وقع للتوصل لحق أو دفع ظلم لا يمكن إلا عن طريق الرشوة فلا يدخل في الوعيد .
وقد تفشت الرشوة في عصرنا تفشيا واسعا حتى صارت موردا أعظم من المرتبات عند بعض الموظفين بل صارت بندا في ميزانيات كثير من الشركات بعناوين مغلفة وصارت كثير من المعاملات لا تبدأ ولا تنتهي إلا بها وتضرر من ذلك الفقراء تضررا عظيما وفسدت كثير من الذمم بسببها وصارت سببا لإفساد العمال على أصحاب العمل والخدمة الجيدة لا تقدم إلا لمن يدفع ومن لا يدفع فالخدمة له رديئة أو يؤخر ويهمل وأصحاب الرشاوي الذين جاءوا من بعده قد انتهوا قبله بزمن وبسبب الرشوة دخلت أموال هي من حق أصحاب العمل في جيوب مندوبي المبيعات والمشتريات ولهذا وغيره فلا عجب أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم على الشركاء في هذه الجريمة والأطراف فيها أن يطردهم الله من رحمته فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنة الله على الراشي والمرتشي " رواه ابن ماجة 2313 وهو في صحيح الجامع 5114 .
غصب الأرض :-
إذا انعدم الخوف من الله صارت القوة والحيلة وبالا على صاحبها يستخدمها في الظلم كوضع اليد والاستيلاء على أموال الآخرين ومن ذلك غصب الأراضي وعقوبة ذلك في غاية الشدة فعن عبد الله بن عمر مرفوعا :" من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " رواه البخاري انظر الفتح 5/103 .
وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه مرفوعا : " أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره ( في الطبراني : يحضره ) حتى آخر سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس " رواه الطبراني في الكبير 22/270 وهو في صحيح الجامع 2719 .
ويدخل في ذلك تغيير علامات الأراضي وحدودها فيوسع أرضه على حساب جاره وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم بشرح النووي 13/141 .(/13)
قبول الهدية بسبب الشفاعة :-
الجاه والمكانة بين الناس من نعم الله على العبد إذا شكرها ومن شكر هذه النعمة أن يبذلها صاحبها لنفع المسلمين وهذا يدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " رواه مسلم 4/1726 . ومن نفع بجاهه أخاه المسلم في دفع ظلم عنه أو جلب خير إليه دون ارتكاب محرم أو اعتداء على حق أحد فهو مأجور عند الله عز وجل إذا خلصت نيته كما أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " اشفعوا تؤجروا " رواه أبو داود 5132 والحديث في الصحيحين فتح الباري 10/450 كتاب الأدب باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا .
ولا يجوز أخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة والدليل ما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا : " من شفع لأحد شفاعة ، فأهدى له هدية (عليها) فقبلها (منه) فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا " . رواه الإمام أحمد 5/261 وهو في صحيح الجامع 6292 .
ومن الناس يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه لتعيين شخص في وظيفة أو نقل آخر من دائرة أو من منطقة إلى أخرى أو علاج مريض ونحو ذلك والراجح أن هذا المقابل محرم لحديث أبي أمامة المتقدم آنفا بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق [ من إفادات الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة ] وحسب فاعل الخير الأجر من الله يجده يوم القيامة . جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة ؟ الآداب الشرعية لابن مفلح 2/176 .
ومما يحسن الإشارة إليه هنا الفرق بين استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها مقابل أجرة فيكون هذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية وبين أن يبذل جاهه ووساطته فيشفع مقابل مال فهذا من المحظور .
استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره :-
لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في سرعة إعطاء الأجير حقه فقال : " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة 2/817 وهو في صحيح الجامع 1493 .
ومن أنواع الظلم الحاصل في مجتمعات المسلمين عدم إعطاء العمال والأجراء والموظفين حقوقهم ولهذا عدة صور منها :
ــ أن يجحده حقه بالكلية ولا يكون للأجير بينة فهذا وإن ضاع حقه في الدنيا فإنه لا يضيع عند الله يوم القيامة فإن الظالم يأتي وقد أكل مال المظلوم فيعطى المظلوم من حسنات الظالم فإن فنيت أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار .
ــ أن يبخسه فيه فلا يعطيه إياه كاملا وينقص منه دون حق وقد قال الله تعالى : ( ويل للمطففين ) المطففين/1 ، ومن أمثلة ذلك ما يفعله بعض أرباب العمل إذا استقدم عمالا من بلدهم وكان قد عقد معهم عقدا على أجر معين فإذا ارتبطوا به وباشروا العمل عمد إلى عقود العمل فغيرها بأجور أقل فيقيمون على كراهية وقد لا يستطيعون إثبات حقهم فيشكون أمرهم إلى الله ، وإن كان رب العمل الظالم مسلما والعامل كافرا كان ذلك البخس من الصد عن سبيل الله فيبوء بإثمه .
ــ أن يزيد عليه أعمالا إضافية أو يطيل مدة الدوام ولا يعطيه إلا الأجرة الأساسية ويمنعه أجرة العمل الإضافي .
ــ أن يماطل فيه فلا يدفعه إليه إلا بعد جهد جهيد وملاحقة وشكاوى ومحاكم وقد يكون غرض رب العمل من التأخير إملال العامل حتى يترك حقه ويكف عن المطالبة أو يقصد الاستفادة من أموال العمال بتوظيفها وبعضهم يرابي فيها والعامل المسكين لا يجد قوت يومه ولا ما يرسله نفقة لأهله وأولاده المحتاجين الذين تغرب من أجلهم . فويل لهؤلاء الظلمة من عذاب يوم أليم روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " رواه البخاري انظر فتح الباري 4/447 .
عدم العدل في العطية بين الأولاد :(/14)
يعمد بعض الناس إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين وهذا على الراجح عمل محرم إذا لم يكن له مسوغ شرعي كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين كمرض أو دين عليه أو مكافأة له على حفظه للقرآن مثلا أو أنه لا يجد عملا أو صاحب أسرة كبيرة أو طالب علم متفرغ ونحو ذلك وعلى الوالد أن ينوي إذا أعطى أحدا من أولاده لسبب شرعي أنه لو قام بولد آخر مثل حاجة الذي أعطاه أنه سيعطيه كما أعطى الأول . والدليل العام قوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ) والدليل الخاص ما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني نحلت ابني هذا غلاما ( أي وهبته عبدا كان عندي ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلته مثله ؟ فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجعه " رواه البخاري انظر الفتح 5/211 ، وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع فرد عطيته الفتح 5/211 ، وفي رواية " فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور " صحيح مسلم 3/1243 . ويعطى الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله [ مسائل الإمام أحمد لأبي داود 204 وقد حقق الإمام ابن القيم في حاشيته على أبي داود المسألة تحقيقا بينا ] . والناظر في أحوال بعض الأسر يجد من الآباء من لا يخاف الله في تفضيل بعض أولاده بأعطيات فيوغر صدور بعضهم على بعض ويزرع بينهم العداوة والبغضاء . وقد يعطي واحدا لأنه يشبه أعمامه ويحرم الآخر لأنه فيه شبها من أخواله أو يعطي أولاد إحدى زوجتيه مالا يعطي أولاد الأخرى وربما أدخل أولاد إحداهما مدارس خاصة دون أولاد الأخرى وهذا سيرتد عليه فإن المحروم في كثير من الأحيان لا يبر بأبيه مستقبلا وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن فاضل بين أولاده في العطية " ...أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ..." . رواه الإمام أحمد 4/269 وهو في صحيح مسلم رقم 1623
سؤال الناس المال من غير حاجة :
عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال قدر ما يغديه ويعشيه" رواه أبو داود 2/281 وهو في صحيح الجامع 6280 ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه " رواه الإمام أحمد 1/388 انظر صحيح الجامع 6255 . وبعض الشحاذين يقفون في المساجد أمام خلق الله يقطعون التسبيح بشكاياتهم وبعضهم يكذبون ويزورون أوراقا ويختلقون قصصا وقد يوزعون أفراد الأسرة على المساجد ثم يجمعونهم وينتقلون من مسجد لآخر وهم في حالة من الغنى لا يعلمها إلا الله فإذا ماتوا ظهرت التركة. وغيرهم من المحتاجين الحقيقيين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا ولا يفطن لهم فيتصدق عليهم .
الاستدانة بدين لا يريد وفاءه
حقوق العباد عند الله عظيمة وقد يخرج الشخص من حق الله بالتوبة ولكن حقوق العباد لا مناص من أدائها قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم ولكن بالحسنات والسيئات والله سبحانه وتعالى يقول : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) النساء /58 ، ومن الأمور المتفشية في المجتمع التساهل في الاستدانة وبعض الناس لا يستدين للحاجة الماسة وإنما يستدين رغبة في التوسع ومجاراة الآخرين في تجديد المركب والأثاث ونحو ذلك من المتاع الفاني والحطام الزائل وكثيرا ما يدخل هؤلاء في متاهات بيوع التقسيط التي لا يخلو كثير منها من الشبهة أو الحرام .
والتساهل في الاستدانة يقود إلى المماطلة في التسديد أو يؤدي إلى إضاعة أموال الآخرين وإتلافها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا من عاقبة هذا العمل : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخاري انظر فتح الباري 5/54 . والناس يتساهلون في أمر الدين كثيرا ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، بل إن الشهيد مع ماله من المزايا العظيمة والأجر الجزيل والمرتبة العالية لا يسلم من تبعة الدين ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد في الدين والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه " رواه النسائي انظر المجتبى 7/314 وهو في صحيح الجامع 3594 . فهل بعد هذا يرعوي هؤلاء المتساهلون المفرطون ؟!
أكل الحرام :(/15)
من لا يخاف الله لا يبالي من أين اكتسب المال وفيم أنفقه بل يكون همه زيادة رصيده ولو كان سحتا وحراما من سرقة أو رشوة أو غصب أو تزوير أو بيع محرم أو مراباة أو أكل مال يتيم أو أجرة على عمل محرم ككهانة وفاحشة وغناء أو اعتداء على بيت مال المسلمين والممتلكات العامة أو أخذ مال الغير بالإحراج أو سؤال بغير حاجة ونحو ذلك ثم هو يأكل منه ويلبس ويركب ويبني بيتا أو يستأجره ويؤثثه ويدخل الحرام بطنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ... " رواه الطبراني في الكبير 19/136 وهو في صحيح الجامع 4495 . وسيسأل يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وهنالك الهلاك والخسار فعلى من بقي لديه مال حرام أن يسارع بالتخلص منه وإن كان حقا لآدمي فليسارع بإرجاعه إليه مع طلب السماح قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم ولكن بالحسنات والسيئات
شرب الخمر ولو قطرة واحدة :
قال الله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) المائدة/90 ، والأمر بالاجتناب هو من أقوى الدلائل على التحريم وقد قرن الخمر بالأنصاب وهي آلهة الكفار وأصنامهم فلم تبق حجة لمن يقول إنه لم يقل هو حرام وإنما قال فاجتنبوه !!
وقد جاء الوعيد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن شرب الخمر فعن جابر مرفوعا : " ... إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " رواه مسلم 3/1587 . وعن ابن عباس مرفوعا : " من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن " رواه الطبراني 12/45 وهو في صحيح الجامع 6525 .
وقد تنوعت أنواع الخمور والمسكرات في عصرنا تنوعا بالغا وتعددت أسماؤها عربية وأعجمية فأطلقوا عليها البيرة والجعة والكحول والعرق والفودكا والشمبانيا وغير ذلك وظهر في هذه الأمة الصنف الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله : " ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " رواه الإمام أحمد 5/342 وهو في صحيح الجامع 5453 . فهم يطلقون عليها مشروبات روحية بدلا من الخمر تمويها وخداعا ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) .
وقد جاءت الشريعة بالضابط العظيم الذي يحسم الأمر ويقطع دابر فتنة التلاعب وهو ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " رواه مسلم 3/1587 . فكل ما خالط العقل وأسكره فهو حرام قليله وكثيره [ حديث " ما أسكر كثيره فقليله حرام " قد رواه أبو داود رقم 3681 وهو في صحيح أبي داود رقم 3128 ] ومهما تعددت الأسماء واختلفت فالمسمى واحد والحكم معلوم .
وأخيرا فهذه موعظة من النبي صلى الله عليه وسلم لشراب الخمور ، قال عليه الصلاة والسلام : " من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا وإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة قالوا يا رسول الله وما ردغة الخبال قال : عصارة أهل النار . رواه ابن ماجة رقم 3377 وهو في صحيح الجامع 6313 .
استعمال آنية الذهب والفضة والأكل والشرب فيها :
لا يكاد يخلو محل من محلات الأدوات المنزلية اليوم من الأواني الذهبية والفضية أو المطلية بالذهب والفضة وكذلك بيوت الأثرياء وعدد من الفنادق بل صار هذا النوع من الأواني من جملة الهدايا النفيسة التي يقدمها الناس بعضهم لبعض في المناسبات ، وبعض الناس قد لا يضعها في بيته ولكنه يستعملها في بيوت الآخرين وولائمهم ، وكل هذا من الأمور المحرمة في الشريعة وقد جاء الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هذه الأواني فعن أم سلمة مرفوعا : " إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " رواه مسلم 3/1634 . وهذا الحكم يشمل كل ما هو من الآنية وأدوات الطعام كالصحون والشوك والملاعق والسكاكين وأواني تقديم الضيافة وعلب الحلويات المقدمة في الأعراس ونحوها .
وبعض الناس يقولون نحن لا نستعملها ولكن نضعها على رفوف خلف الزجاج للزينة ، وهذا لا يجوز أيضا سدا لذريعة استخدامها [ من إفادات الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة ] .
شهادة الزور :(/16)
قال الله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ) الحج/30-31 ، وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا " الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وجلس وكان متكئا ـ فقال : ألا وقول الزور قال فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " رواه البخاري انظر الفتح 5/261 .
وتكرار التحذير من شهادة الزور هنا لتساهل الناس بها وكثرة الدواعي إليها من العداوة والحسد ولما يترتب عليها من المفاسد الكثيرة فكم ضاع من الحقوق بشهادة الزور وكم وقع من ظلم على أبرياء بسببها أو حصل أناس على مالا يستحقون أو أعطوا نسبا ليس بنسبهم بناء عليها .
ومن التساهل فيها ما يفعله بعض الناس في المحاكم من قوله لشخص يقابله هناك اشهد لي وأشهد لك فيشهد له في أمر يحتاج إلى علم بالحقيقة والحال كأن يشهد له بملكية أرض أو بيت أو تزكية وهو لم يقابله إلا على باب المحكمة أو في الدهليز وهذا كذب وزور فينبغي أن تكون الشهادة كما ورد في كتاب الله : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) يوسف / 81 .
سماع المعازف والموسيقى:
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقسم بالله أن المراد بقوله تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ) هو الغناء [ تفسير ابن كثير 6/333 ] وعن أبي عامر وأبي مالك الأشعري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... " رواه البخاري انظر الفتح 10/51 . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا : " ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف " انظر السلسلة الصحيحة 2203 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والحديث رواه الترمذي رقم 2212 .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكوبة وهي الطبل ووصف المزمار بأنه صوت أحمق فاجر وقد نص العلماء المتقدمون كالإمام أحمد رحمه الله على تحريم آلات اللهو والعزف كالعود والطنبور والشبابة والرباب والصنج ولا شك أن آلات اللهو والعزف الحديثة تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن المعازف وذلك كالكمنجة والقانون والأورج والبيانو والغيتار وغيرها بل إنها في الطرب والنشوة والتأثير أكبر بكثير من الآلات القديمة التي ورد تحريمها في بعض الأحاديث بل إن نشوة الموسيقى وسكرها أعظم من سكر الخمر كما ذكر أهل العلم كابن القيم وغيره ولاشك أن التحريم يشتد والذنب يعظم إذا رافق الموسيقى غناء وأصوات كأصوات القينات وهن المغنيات والمطربات وتتفاقم المصيبة عندما تكون كلمات الأغاني عشقا وحبا وغراما ووصفا للمحاسن ولذلك ذكر العلماء أن الغناء بريد الزنا وأنه ينبت النفاق في القلب وعلى وجه العموم صار موضوع الأغاني والموسيقى من أعظم الفتن في هذا الزمان .
ومما زاد البلاء في عصرنا دخول الموسيقى في أشياء كثيرة كالساعات والأجراس وألعاب الأطفال والكمبيوتر وبعض أجهزة الهاتف فصار تحاشي ذلك أمرا يحتاج إلى عزيمة والله المستعان .
الغيبة :
صارت فاكهة كثير من المجالس غيبة المسلمين والولوغ في أعراضهم وهو أمر قد نهى الله عنه ونفر عباده منه ومثله بصورة كريهة تتقزز منها النفوس فقال عز وجل : ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) الحجرات/12 .
وقد بين معناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته " رواه مسلم 4/2001 .
فالغيبة ذكرك للمسلم بما فيه مما يكرهه سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو أخلاقه أو خلقته ولها صور متعددة منها أن يذكر عيوبه أو يحاكي تصرفا له على سبيل التهكم
والناس يتساهلون في أمر الغيبة مع شناعتها وقبحها عند الله ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه " السلسلة الصحيحة 1871 .
ويجب على من كان حاضرا في المجلس أن ينهى عن المنكر ويدافع عن أخيه المغتاب وقد رغب في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " رواه أحمد 6/450 وهو في صحيح الجامع 6238 .
النميمة :-
لا يزال نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم من أعظم أسباب قطع الروابط وإيقاد نيران الحقد والعداوة بين الناس وقد ذم الله تعالى صاحب هذا الفعل فقال عز وجل : ( ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ) القلم/11 .
وعن حذيفة مرفوعا : " لا يدخل الجنة قتات " رواه البخاري انظر الفتح 10/472 وفي النهاية لابن الأثير 4/11 : وقيل القتات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم .(/17)
وعن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط [ بستان ] من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذبان ، وما يعذبان في كبير - ثم قال - بلى [ وفي رواية : وإنه لكبير ] كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ... " رواه البخاري انظر فتح الباري 1/317 .
ومن الصور السيئة لهذا العمل تخبيب الزوج على زوجته والعكس وهو السعي في إفساد العلاقة بينهما وكذلك قيام بعض الموظفين في نقل كلام الآخرين للمدير أو المسؤول في نوع من الوشاية للإيقاع وإلحاق الضرر وهذا كله من المحرمات .
الاطلاع على بيوت الناس دون إذن :
قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) النور/27 ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا أن العلة في الاستئذان هي مخافة الإطلاع على عورات أصحاب البيوت : " إنما جعل الاستئذان من اجل البصر" رواه البخاري انظر فتح الباري 11/24 . واليوم مع تقارب المباني وتلاصق العمارات وتقابل النوافذ والأبواب صار احتمال كشف الجيران بعضهم بعضا كبيرا وكثيرون لا يغضون أبصارهم وربما تعمد بعض من في الأعلى الإطلاع من نوافذهم وأسطحهم على البيوت المجاورة أسفل منهم ، وهذه خيانة وانتهاك لحرمة الجيران ووسيلة إلى الحرام ، وحصل بسبب ذلك الكثير من البلاء والفتنة ويكفي دليلا على خطورة الأمر إهدار الشريعة لعين المتجسس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " رواه مسلم 3/1699 ، وفي رواية " ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص " [ رواه الإمام أحمد 2/385 وهو في صحيح الجامع 6022 .
تناجي اثنين دون الثالث :
وهذه من آفات المجالس ومن خطوات الشيطان ليفرق بين المسلمين ويوغر صدور بعضهم على بعض وقد قال عليه الصلاة والسلام مبينا الحكم والعلة " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس أجل ( أي من أجل كما ورد في بعض الروايات ) أن ذلك يحزنه " رواه البخاري انظر فتح الباري 11/83 ، ويدخل في ذلك تناجي ثلاثة دون الرابع وهكذا وكذلك أن يتكلم المتناجيان بلغة لا يفهمها الثالث ولا شك أن التناجي فيه نوع من التحقير للثالث أو إيهامه أنهما يريدان به شرا ونحو ذلك .
الإسبال في الثياب :
مما يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم الإسبال وهو إطالة اللباس أسفل من الكعبين وبعضهم يمس لباسه الأرض وبعضهم يسحبه خلفه
عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل ( وفي رواية : إزاره ) والمنان ( وفي رواية : الذي لا يعطي شيئا إلا منه ) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " رواه مسلم 1/102 .
والذي يقول إن إسبالي لثوبي ليس كبرا فهو يزكي نفسه تزكية غير مقبولة والوعيد للمسبل عام سواء قصد الكبر أم لم يقصده كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار " رواه الإمام أحمد 6/254 وهو في صحيح الجامع 5571 . فإذا أسبل خيلاء صارت عقوبته أشد وأعظم وهي ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه البخاري رقم 3465 ط. البغا ، وذلك لأنه جمع بين محرمين والإسبال محرم في كل لباس كما يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود 4/353 وهو في صحيح الجامع 2770 . والمرأة يسمح لها أن ترخي شبرا أو شبرين لستر قدميها احتياطا لما يخشى من الانكشاف بسبب ريح ونحوها ولكن لا يجوز لها مجاوزة الحد كما في بعض ثياب العرائس التي تمتد أشبارا وأمتارا وربما حمل وراءها .
تحلي الرجال بالذهب على أي صورة كانت
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا : " أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرم على ذكورها " رواه الإمام أحمد 4/393 انظر صحيح الجامع 207 .
وفي الأسواق اليوم عدد من المصنوعات المصممة للرجال من الساعات والنظارات والأزرار والأقلام والسلاسل وما يسمونه بالميداليات بعيارات الذهب المختلفة أو مما هو مطلي بالذهب طلاء كاملا ومن المنكرات ما يعلن في جوائز بعض المسابقات : ساعة ذهب رجالي !!
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه ، فطرحه ، فقال : " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ؟! " فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به قال : لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم 3/1655 .
لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء :-(/18)