ثم بين سبحانه وتعالى أحكام أهل الأعذار الذين لا يستطيعون الصيام إما لمرض أو لأجل سفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدده.
وأخبر سبحانه ـ وهو الرؤوف الرحيم بخلقه ـ أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة ولا يريد بها العسر؛ إذ الإسلام جاء بالسماحة في كل شيء.
ثم علل سبحانه القضاء لإكمال عدة الصيام، وللتكبير على الهداية، فإن من فعل هذا فعسى أن يكون من الشاكرين([34]).
نصوص ذات صلة:
1. عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال))([35]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه))([36]).
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))([37]).
4. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم برخصة الله الذي رخص لكم))([38]).
5. عن محجن الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)) ([39]).
6. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا، وسكّنوا ولا تنفروا))([40]).
7. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو([41]).
الفوائد:
1. فضيلة شهر رمضان لنزول القرآن فيه، واختصاصه بليلة القدر([42]).
2. وجوب صيام رمضان على جميع المكلفين([43]) .
3. الرخصة للمريض والمسافر الفطر في رمضان، ووجوب القضاء مكان الإفطار([44]).
4. يسر الشريعة الإسلامية، وخلوّها من العسر([45]).
5. مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه شكرًا لنعمة الهداية إلى الإسلام([46]).
* * *
3- الآية (186).
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
سبب النزول:
عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله تعالى ذكره {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}([47]).
وقيل: إنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي..}([48]).
المفردات:
{فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى}: أي كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات([49]) .
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}: أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم([50]) .
المعنى الإجمالي:
يوجه الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخبر المؤمنين الداعين المتضرعين بأنه منهم قريب، وشهيدٌ على أعمالهم، ومطلع على سرائرهم.
والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابده وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق، فمن دعا ربه بقلب حاضر، وتهيأت له أسباب الإجابة؛ فإنه سيحصل له ما أراد بإذن الله تعالى، وعلى المؤمن أن يستجيب لأوامر الله تعالى بالتطبيق ولنواهيه بالكف والامتناع، عله أن ينال الهداية والرشاد كما وعده ربه([51]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفًا ولا نهبط في وادٍ إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سمعيًا بصيرًا))، ثم قال: ((يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله))([52]).
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني))([53]).
3 ـ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرد))([54]).
الفوائد:
1 ـ مشروعية واستحباب الدعاء([55]) .
2 ـ أن قرب الله تعالى لا يستلزم المخالطة، بل هو قريبٌ في علو.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
وذكره للقرب والمعيّة لم ينف للعلوّ والفوقية
فإنه العليّ في دنوّه وهو القريب جلّ في علوه([56]) .
3 ـ كراهية رفع الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة([57]) .
4 ـ وجوب الاستجابة والإذعان لأوامر الله تعالى([58]) .
5 ـ أن الاستجابة لأمر الله تعالى يورث الهداية والرشاد([59]) .
* * *
4- الآية (187).(/133)
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ الا تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
أسباب النزول:
1 ـ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ....} [البقرة:187].
أ ـ عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرفة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فقالت: خيبة لك. فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ}([60]).
ب ـ وعنه رضي الله عنه لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}([61]).
ج ـ عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نمت، قال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ نِسكُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}([62]).
2 ـ قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ...} [البقرة:187].
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أنزلت: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ} ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار([63]). وفي رواية: فكان الرجل إذا أراد الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد ذلك: {من الفجر}([64]).
3 ـ قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
أ ـ قال مقاتل بن سليمان: نزلت في علي وعمار بن ياسر وأبي عبيدة بن الجراح، كان أحدهم يعتكف، فإذا أراد الغائط من السحر رجع إلى أهله فيباشر ويجامع ويغتسل ويرجع فنزلت([65]).
ب ـ وعن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتى نزلت: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}([66]).
القراءات:
قوله تعالى: {فالآن باشروهن... لكم}
قرأ الحسن البصر: (واتبعوا) بالعين المهملة من الاتباع([67]).
المفردات:
{الرَّفَثُ}: الجماع([68]).
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ}: كناية عن انضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب([69]).
{تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ}: خيانتهم كانت في أمرين أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم([70]) ثم نسخ هذا بعد ذلك، وعفا الله عنهم([71]).
{بَاشِرُوهُنَّ}: أي جامعوهن، بعد ما كان حرامًا([72]).
{وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}: أي انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى، والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية، وإعفاف الفرج، وحصول مقاصد النكاح([73]).
{الْخَيْطُ الأبْيَضُ}: الفجر اللصادق المعترض في الأفق، لا الفجر الكاذب الذي هو كذنب السِّرحان([74])([75]).(/134)
{الْخَيْطِ الاسْوَدِ}: سواد الليل([76]) والعرب تسمي الصبح خيطًا وظلام الليل المختلط به خيطًا([77]).
{عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي منقطعون للعبادة في المساجد([78]).
{حُدُودُ اللَّهِ}: جمع حد، وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركًا([79]).
المعنى الإجمالي:
كان المسلمون في بداية أمرهم يصومون إلى الغروب، فإذا غربت الشمس حل لهم الأكل والشرب والجماع ما لم يناموا، فإن ناموا حرم عليهم ذلك فأمسكوا حتى اليوم التالي، وكانوا يجدون في ذلك مشقة عظيمة.
ومن ثم فرج الله تعالى عنهم ذلك بعد وقوعهم في الحرج العظيم إزاء هذه العبادة فكانوا يختانون أنفسهم. فخفف الله تعالى عنهم بأن أباح لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام، وتاب عليهم وعفا عنهم ما سلف من أمرهم.
ثم يأمرهم سبحانه وتعالى أن يباشروا نساءهم، ويقصدوا بذلك تكثير سواد الأمة بالتوالد، والإعفاف عن تقحم الحرام، لا مجرد قضاء الشهوة وتصريفها، وما أجل التعبير القرآني إذ عمد إلى الكناية بدلاً من التصريح فيما يستحى من ذكره.
ثم ينهى سبحانه وتعالى عن المباشرة للمعتكف؛ إذ إنها تنقض الاعتكاف وتفسده، وبعدما ذكر هذه الأحكام العظيمة بين أنها حدود محددة لا يجوز تجاوزها ولا اقتحامها، فإن من امتثل لهذه الأحكام وطبقها فحري به أن يكون من المتقين([80]) .
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له))([81]).
2 ـ عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما خيطان؟ قال: ((إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين))، ثم قال: ((لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار))([82]).
3 ـ عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق))([83]).
4 ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم))([84]).
5 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. قالوا: إنك تواصل! قال: ((إني لست مثلكم، إني أطُعم وأسقى))([85]).
6 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) ([86]).
7 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: أشهد على رسول الله إن كان ليصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم([87]).
8 ـ عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما، إنها صفية بنت حيي))، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا ـ أو قال ـ: شيئًا))([88]).
9 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه))([89]).
10 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم([90]).
11 ـ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))([91]).
12 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله))([92]).
13 ـ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر))([93]).
14 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليَّ رأسه فأرجّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان([94]).
15 ـ وعنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه([95]).
الفوائد:
1. إباحة الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام بعد أن كان محرمًا بالنوم([96]).
2. وقت الصيام يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس([97]).
3. استحباب استعمال الكناية بدل التصريح فيما يستحيى من ذكره([98]).
4. مشروعية الاعتكاف في رمضان، والانقطاع للعبادة، وأن المعتكف لا يحل له أن يستمتع بزوجته حتى تنقضي مدة اعتكافه([99]).
5. حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده([100]).
6. ذكر الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود، وهي تقوى الله عز وجل([101]).
* * *
5- الآية (196).(/135)
قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
أسباب النزول:
1 ـ عن صفوان بن أمية أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخًا بالزعفران، عليه جبّة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين السائل عن العمرة؟)) فقال: ها أنا ذا، فقال له: ((ألق عنك ثيابك ثم اغتسل واستنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك)) ([102]) .
2 ـ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملاً، فقال: يؤذيك هوامك؟ قلت: نعم، قال: ((فاحلق رأسك)). أو قال: ((احلق)). فيّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} إلى آخرها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة، أو انسك بما تيسر))([103]).
القراءات:
قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
1 ـ {وأقيموا الحج والعمرة لله} وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلقمة([104]).
2 ـ {وأتموا الحج والعمرة إلى البيت} كما جاء في مصحف ابن مسعود([105]).
3 ـ {وأتموا الحج والعمرةُ لله} برفع التاء، وهي قراءة الشعبي وأبي حيوة([106]).
قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}
{حتى يبلغ الهَديُّ محلِّه} بكسر الدال مثقلة، وهي قراءة الأعرج([107]).
قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ}
{فصيامَ} بالنصب، أي: فليصم([108]).
قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
{وسبعةً إذا رجعتم} بالنصب، وهي قراءة زيد بن علي، وابن أبي علية([109]).
المفردات:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الإحصار يكون على معنيين:
1 ـ الإحصار بسبب العدو([110]) .
2 ـ الإحصار بسبب المرض وجميع العوائق([111]) .
{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}: أي حتى يبلغ بالذبح أو النحر محلّ أكله والانتفاع به في محل ذبحه ونحره([112]).
{أَوْ نُسُكٍ}: النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة([113]).
{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ}: أي فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل، وبقي في مكة ينتظر الحج، وحج فعلاً فالواجب أن يذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة([114]).
{ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أي من كان أهله من حاضر المسجد الحرام (مكة)، فليس عليه هدي، لعدم الموجب لذلك([115]).
المعنى الإجمالي:
يأمر الباري سبحانه عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه على أكمل وجه، وأتم صورة مخلصين له غير مرائين، ثم يخبر سبحانه أن من أحصر في مكان ما، وحال بينهم وبين إتمام شعيرة الحج أن يذبحوا ما تيسر لهم من الهدي وهو سُبع بدنة أو سُبع بقرة أو شاة، ويحلق بعد ذلك أو يقصر، ويحل من إحرامه.
ثم يُعلمهم سبحانه وتعالى أن من كان منهم مريضًا أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق رأسه أو لبس ثوبٍ أو تغطيةِ رأس، فالواجب عليه إن فعل شيئًا من ذلك أن يفتدي بواحد من ثلاثة على التخيير، وهي: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.
ثم يخبرهم سبحانه أن من حج متمتعًا عليه هدي، وهي شاة أو بقرة أو بعير، فإن ضاقت عليه حاله فلم يستطع الذبح صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم التاسع منه، وسبعة إذا رجع إلى بلاده، وهذا الحكم ينطبق على من ليس من أهل مكة.
ثم يأمر سبحانه بأن يتقي الإنسان في حجه هذا ربَّه سبحانه، ويذكرهم بأنه شديد العقاب([116]).
نصوص ذات صلة:
1. عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: ((حج عن أبيك واعتمر))([117]).
2. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلقين)) قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((اللهم ارحم المحلقين)). قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ((والمقصرين))([118]).(/136)
3. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة))([119]).
4. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من الفجور في الأرض، وكانوا يسمون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر([120]) حلت العمرة لمن اعتمر، قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رابعة مهلين بالحج وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة. قالوا: يا رسول الله، أيّ الحل؟ قال: ((الحل كله))([121]).
5. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة))([122]).
6. عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير، فقال لها: ((لعلك أردت الحج؟)) قالت: والله لا أجدني إلا وجِعةً. فقال لها: ((حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني))([123]).
7. عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟! قال: ((إني لبدت رأسي وقلّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر))([124]).
8. عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله))([125]).
9. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة...))([126]).
10. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر، ومن لم يكن صام تلك الأيام فليصم أيام التشريق أيام منى))([127]).
11. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهما بدأت))([128]).
الفوائد:
1. وجوب إتمام الحج والعمرة وأعمالهما لمن شرع فيهما([129]).
2. إن عرض للحاج أو المعتمر عارض حال دون الوصول إلى مكة وإتمام الحج أو العمرة، فالواجب عليهما ذبح هدي في محلهما([130]).
3. وجوب الإخلاص لله تعالى في الحج والعمرة([131]).
4. يسر الشريعة الإسلامية بالتخفيف على المريض أو من به أذى من رأسه أن يحلقه ويفتدي ذلك بصيام أو صدقة أو ذبح لله تعالى([132]).
5. جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوع والتمتع([133]).
6. لا متعة لأهل الحرم([134]).
7. الأمر والإلزام بتقوى الله تعالى، واستشعار عظمته وسطوته، فهو أدعى للإخلاص وقبول الأعمال([135]) .
* * *
([1]) رواه أحمد (5/ 246)، وأبو داود في الصلاة باب: كيف الأذان؟ (507) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2/ 274) وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (479) وانظر: جامع البيان للطبري (3/ 414)، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (1/ 429).
([2]) انظر جامع البيان للطبري (3/ 418)، وروي (يطّيّقونه) بفتح الياء، وتشديد الطاء والياء مفتوحتين. انظر: فتح القدير (1/ 278).
([3]) انظر روح المعاني للآلوسي (2/ 58).
([4]) انظر روح المعاني (2/ 58)
([5]) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 286).
([6]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 287)، وفتح القدير (1/ 278).
([7]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 287)، وفتح القدير (1/ 278).
([8]) انظر فتح القدير (1/ 278).
([9]) انظر جامع البيان للطبري (3/ 409).
([10]) انظر فتح القدير للشوكاني (1/ 277) وروح المعاني (2/ 57).
([11]) انظر تيسير الكريم الرحمن ص 68.
([12]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 276).
([13]) انظر تيسير الكريم الرحمن (ص 69).
([14]) انظر فتح القدير (1/ 278).
([15]) جامع البيان (3/ 443).
([16]) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 202 ـ 204) وتيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 68.
([17]) رواه الترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715) والنسائي في الصيام، باب ذكر اختلاف معاوية بن سلام وعلي بن المبارك (2275)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (667)، قال الترمذي: "حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن"، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (575). وانظر جامع البيان للطبري (3/ 435).
([18]) رواه البخاري في النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، ومسلم في النكاح، باب: استحباب النكاح (1400)، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 202).
([19]) رواه البخاري في الإيمان باب بني الإسلام على خمس (8)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام (16) وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 272).(/137)
([20]) رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (1/ 304) قال ابن حجر: فيه مجهول. انظر فتح الباري (8/ 178) وفتح القدير (1/ 279).
([21]) انظر جامع البيان (3/ 454).
([22]) الفوائد (2 ـ 7) ينظر تيسير الكريم الرحمن ص 68 ـ 69.
([23]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 274).
([24]) انظر فتح القدير (1/ 281)، وروح المعاني (2/ 59).
([25]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 299).
([26]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 301).
([27]) انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 305).
([28]) انظر: جامع البيان (3/ 448).
([29]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 205).
([30]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 299).
([31]) انظر: جامع البيان (3/ 449).
([32]) انظر: جامع البيان (3/ 459).
([33]) انظر: جامع البيان (3/ 476).
([34]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 204 ـ 205) وروح المعاني (2/ 61 ـ 63) وتيسير الكريم الرحمن ص 69، وأيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري (1/ 163 ـ 164).
([35]) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الأوابين (748)، وانظر فتح القدير (1/ 280).
([36]) رواه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها ـ باب الترغيب في قيام رمضان (760) وانظر فتح القدير (1/ 282).
([37]) رواه البخاري في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (759)، وانظر فتح القدير (1/ 282).
([38]) رواه مسلم في الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر (1115)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([39]) رواه البخاري في الأدب المفرد ص 124 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (260). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([40]) رواه البخاري في الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا...) (6125)، ومسلم في الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير (1734). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([41]) رواه البخاري في الجهاد والسير، باب: السفر بالمصاحف إلى أرض العدو (2990)، ومسلم في الأمارة باب النهي عن أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار (1869) واللفظ له، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 298).
([42]) انظر: جامع البيان (3/ 448).
([43]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 203).
([44]) انظر: فتح القدير (1/ 281 ـ 282).
([45]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 206).
([46]) انظر التفاسير (1/ 164).
([47]) رواه الطبري في جامع البيان (3/ 481)، وقال الشيخ أحمد شاكر: الإسناد صحيح إلى الحسن. ولكن الحديث ضعيف لأنه مرسل، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 308).
([48]) رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (1/ 314) وفيه الصلت بن حكيم: مجهول، انظر لسان الميزان لابن حجر (3/ 195).
([49]) انظر: فتح القدير (1/ 285).
([50]) انظر: روح المعاني (2/ 64).
([51]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 208) وفتح القدير (1/ 285) وروح المعاني (2/ 64).
([52]) رواه البخاري في القدر باب: لا حول ولا قوة إلا بالله (6610) ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704)، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 207).
([53]) رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب: فضل الذكر والدعاء (2675) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 207).
([54]) رواه ابن ماجه في الصيام باب في الصائم لا ترد دعوته (1753)، والحاكم (1/ 422) وضعفه الألباني في إرواء الغليل (921). وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 208)
([55]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 69.
([56]) انظر: معارج القبول (1/ 29، 204 ـ 207).
([57]) أيسر التفاسير (1/ 165).
([58]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 313).
([59]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 69.
([60]) رواه البخاري في الصوم، باب قول الله جل ذكره: أحل لكم ليلة الصيام (1915).
([61]) رواه البخاري في تفسير القرآن باب: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (4508) قال الشيخ مقبل الوادعي بعد ما ذكر الروايتين: "وظاهرهما التغاير، لكن لا مانع من أن تكون نزلت في هؤلاء وفي هؤلاء" انظر الصحيح المسند من أسباب النزول ص 18.
([62]) رواه أحمد في المسند (3/ 460) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في جامع البيان للطبري (3/ 497). وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 314) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 209). وفتح القدير للشوكاني (1/ 288).
([63]) رواه البخاري في الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين...} (1917).
([64]) رواه مسلم في الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1091). وانظر جامع البيان للطبري (3/ 513).
([65]) العجاب في بيان الأسباب (1/ 449).
([66]) جامع البيان (3/ 541).
([67]) انظر: فتح القدير (1/ 287).(/138)
([68]) انظر: جامع البيان (3/ 488).
([69]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 316)، وأيسر التفاسير (1/ 166).
([70]) انظر: جامع البيان (3/ 493).
([71]) انظر: فتح القدير (1/ 286).
([72]) انظر الجامع لحكام القرآن (2/ 317).
([73]) تيسير الكريم الرحمن ص 69.
([74]) السرحان: الذئب. انظر لسان العرب (6/ 232) مادة: سرح.
([75]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 319) وفتح القدير (1/ 287).
([76]) انظر: فتح القدير (1/ 287).
([77]) انظر: أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1/ 105).
([78]) انظر: فتح القدير (1/ 287).
([79]) انظر: أيسر التفاسير (1/ 167).
([80]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 208 ـ 215)، وتيسير الكريم الرحمن ص 69 ـ 70.
([81]) رواه الترمذي في الصوم، باب: لا صيام لمن لم يعزم من الليل (730)، والنسائي في الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة (2333)، وأبو داود في الصوم، باب النية في الصيام (2454) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (583).
([82]) رواه البخاري في تفسير القرآن باب قوله: {وكلوا واشربوا...} (4510) وانظر جامع البيان للطبري (3/ 513).
([83]) رواه الترمذي في الصوم باب ما جاء في بيان الفجر (706) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (568)، وانظر جامع البيان (3/ 515).
([84]) رواه البخاري في الصوم باب متى يحل فطر الصائم؟ (1954)، ومسلم في الصيام باب بيان وقت انقضاء الصوم (1100)، وانظر جامع البيان (3/ 533).
([85]) رواه البخاري في الصوم، باب الوصال، ومن قال ليس في الليل صيام (1962)، ومسلم في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم (1102)، وانظر جامع البيان (3/ 536).
([86]) رواه البخاري في الصوم، باب بكرة السحور من غير إيجاب (1923)، ومسلم في الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره (1095)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 210).
([87]) رواه البخاري في الصوم، باب: اغتسال الصائم (1932) ومسلم في الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (1109) من رواية أم سلمة وعائشة رضي الله عنها. وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 210).
([88]) رواه البخاري في بدء الخلق باب: صفة إبليس وجنوده (3281)، ومسلم في السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة... (2175). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 313).
([89]) رواه البخاري في الصوم، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا (1933)، ومسلم في الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 323).
([90]) رواه البخاري في الصوم، باب المباشرة للصائم (1927)، ومسلم في الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة (1106)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 324).
([91]) رواه مسلم في الصيام، باب: فضل السحور (1096) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 329).
([92]) رواه أبو داود في الصوم، باب: القول عند الإفطار (2357)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2066) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/331).
([93]) رواه مسلم في الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 331).
([94]) رواه البخاري في الاعتكاف باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة (2029)، ومسلم في الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها (297)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 334 ـ 335).
([95]) رواه مسلم في الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف (1173) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 336).
([96]) انظر: جامع البيان (3/ 464).
([97]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 318 ـ 319).
([98]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 315).
([99]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 213).
([100]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 213).
([101]) انظر: رزوح المعاني (2/ 69).
([102]) رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (1/ 334) وانظر العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (1/ 486) وهو في البخاري في الحج، باب: يفعل في العمرة ما يفعل في الحج (1789)، ومسلم في الحج باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح (1180) بدون ذكر نزول هذه الآية. وانظر فتح القدير (1/ 302).
([103]) رواه البخاري في الحج، باب: قول الله تعالى: {أو صدقة} وهي إطعام ستة.. (1815)، ومسلم في الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (1201) وانظر جامع البيان (4/ 59).
([104]) انظر: جامع البيان (4/ 7) وروح المعاني (2/ 79).
([105]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 369).
([106]) انظر: جامع البيان (4/ 14)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 369).
([107]) انظر: جامع البيان (4/ 35).
([108]) انظر: روح المعاني (2/ 82).
([109]) انظر: فتح القدير (1/ 302) وروح المعاني (2/ 83).
([110]) وهو الذي رجحه الشنقيطي في أضواء البيان (1/111).
([111]) انظر: فتح القدير (1/ 300).
([112]) انظر: جامع البيان (4/ 40).(/139)
([113]) انظر: جامع البيان (4/ 86) والجامع لأحكام القرآن (2/ 386).
([114]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/222) وأيسر التفاسير (1/ 176).
([115]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 74.
([116]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 73 ـ 74، وأيسر التفاسير (1/ 177).
([117]) رواه الترمذي في الحج (930) والنسائي في مناسك الحج باب وجوب العمرة (2621)، وأبو داود في المناسك باب الرجل يحج عن غيره (1810) وابن ماجه في المناسك باب الحج عن الحي إذا لم يستطِع (2906) وصححه الألباني في صحيح النسائي (2458)، وانظر: جامع البيان (4/ 18).
([118]) رواه البخاري عن الحج، باب: الحلق والتقصير (1727)، ومسلم في الحج باب: تفضيل الحلق على التقصير (1301) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 381).
([119]) رواه البخاري في الحج باب قول النبي صلى الله عليه وسلم العقيق (1534) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 389).
([120]) (برأ الدبر): يعنون ظهور الإبل بعد انصرافها من الحج، فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج. (عفا الأثر): أي درس وانمحى، والمراد: أثر الإبل وغيرها في سيرها، عفا أثرها لطول مرور الأيام. انظر شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 225).
([121]) رواه البخاري في المناقب باب: أيام الجاهلية (3832)، ومسلم في الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج (1240) وانظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 393).
([122]) رواه مسلم في الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج (1241)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 219).
([123]) رواه البخاري في النكاح، باب الأكفاء في الدين (5089)، ومسلم في الحج، باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض (1207) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 220).
([124]) رواه البخاري في الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.. (1566)، ومسلم في الحج، باب: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل (1229)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 220 ـ 221).
([125]) رواه مسلم في الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق (1141) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/222) وذكر أنه من رواية قتيبة الهذلي، وهو خطأ أو تحريف.
([126]) رواه البخاري في الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء (1556) ومسلم في الحج باب، بيان وجوه الإحرام (1211) وانظر: فتح القدير (1/ 299).
([127]) رواه الدارقطني في السنن (2/ 186)، وقال: يحيى بن أبي أنيسة ضعيف، وانظر فتح القدير (1/ 305).
([128]) رواه الدارقطني في السنن (2/ 284) والحاكم (1/ 643) وقال: والصحيح عن زيد بن ثابت قوله. وضعفه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 123)، قال أبو الطيب آبادي في تعليق على الدارقطني: الحديث في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، ثم هو عن ابن سيرين عن زيد وهو منقطع، ورواه البيهقي موقوفًا على زيد من طريق ابن سيرين أيضًا وإسناده أصح.
([129]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 365).
([130]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 373).
([131]) انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 73).
([132]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 221).
([133]) انظر: جامع البيان (4/ 83).
([134]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 223).
([135]) انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 74).
ثانياً: آية الصوم من سورة النساء:
الآية (92).
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92].
أسباب النزول:
1 ـ عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن أنيسة من بني عامر بن لؤي يعذّب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية فقرأها، ثم قال له: ((قم فحرّر))([1]).
وقيل: نزلت في أبي الدرداء رضي الله عنه.(/140)
2 ـ عن ابن زيد قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه، كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف. فقال: لا إله إلا الله. قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئًا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا شققت عن قلبه))، فقال: ما عسيت أجد! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟ قال: ((فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟)) قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟)) قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟)) حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال ونزل القرآن: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} حتى بلغ {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} قال: إلا أن يضعوها([2]).
قال الطبري بعدما ذكر الروايتين: "والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية ما على من قتل مؤمنًا خطأ من كفارة ودية، وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيلة، وفي أبي الدرداء وصاحبه، وأي ذلك كان فالذي عنى الله تعالى بالآية تعريف عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه"([3]).
وقيل: إنها نزلت في أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قصة قريبة من قصة أبي الدرداء رضي الله عنه([4]).
القراءات:
أ ـ {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}
1 ـ {إلا أن يتصدقوا} وهي قراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما([5]).
2 ـ {إلا أن تصَدّقوا} وهي قراءة أبي عبد الرحمن ونبيح([6]).
3 ـ {تصَّدَّقوا} وهي قراءة أبي عمرو([7]).
ب ـ {يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}
قرأ الأعمش {يقتل مؤمنًا إلا خطاء} ممدودًا([8]).
ج ـ {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
قرأ الحسن {وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ وهو مؤمن}([9]).
المفردات:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}: أي يستحيل ويمتنع أن يصدر من مؤمن قتلُ مؤمن آخر متعمدًا، إلا أن يكون خطأ كأن يرمي صيدًا أو نحوه([10]).
{رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}: الرقبة المؤمنة هي التي صلّت، وعقلت الإيمان([11]) وقيل: سواء كانت الرقبة صغيرة أو كبيرة إذا كانت بين المسلمين أو لمسلم فإنه يجوز([12]).
{وَدِيَةٌ}: الدية: ما يُعطى عوضًا عن دم القتيل إلى وليه([13]).
{مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}: أي مدفوعة إليهم على ما وجب لهم، موفرة غير منتقصة حقوق أهلها منها([14]).
{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي: إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل الدية. سمي العفو عنها صدقة ترغيبًا فيها([15]).
{مّيثَاقٌ}: عهد([16]).
{مُتَتَابِعَيْنِ}: أي: لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما([17]).
المعنى الإجمالي:
يخبر سبحانه وتعالى أن المؤمن يمنعه إيمانه من قتل أخيه المؤمن، ولا التعدي عليه، إذ الإيمان نور يكشف عن مدى قبح هذه الجريمة النكراء فيبني حول صاحبه سياجًا منيعًا يحول دون الإقدام على إزهاق نفسٍ مؤمنة تشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. لكن حينما تقع هذه الجريمة لا تقع إلا في حالة الخطأ، فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله.
ولأجل أنه قد ارتكب فعلاً شنيعًا، وصورته كافية في قبحه، وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة لا أي رقبة، بل يجب أن تكون هذه الرقبة رقبة مؤمنة وذلك فيما لو قتل مؤمنًا خطأ من قومٍ عدوٍ للمسلمين محاربين.
وإن كان المقتول من قوم كافرين وهو مؤمن، أو كافر ولكن بين المسلمين وبين قومه معاهدة، فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين توبة لله تعالى لا يقطع ما بينهما بإفطار إلا إن كان له عذر، فإن قطع التتابع بإفطار يوم واحد استأنف صيامه مرة أخرى.
وهذا كله تشريع من العليم بما يحقق مصالح العباد، الحكيم في تشريعاته وأحكامه([18]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم))([19]).
2 ـ عن أبي رقية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجني عليك ولا تجني عليه))([20]).
3 ـ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبدٍ أو أمة([21]).
4 ـ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فأسقطت، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف ندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسجعٌ كسجع الأعراب؟!)) فقضى بالغرة على عاقلة المرأة([22]).(/141)
5 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ([23]).
6 ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة))([24]).
7 ـ عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمةٍ سوداء وقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟)) قالت: نعم, قال: ((أتشهدين أني رسول الله؟)) قالت: نعم. قال: ((أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟)) قالت: نعم. قال: ((أعتقها))([25]).
8 ـ عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه لما جاء بجاريته قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))([26]).
9 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني خزيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالدُ يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: ((اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد)) مرتين([27]).
10 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ([28]).
الفوائد:
1. المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد لأخيه المؤمن إلا خطأ غير مقصود([29]).
2. حرمة دم المؤمن([30]).
3. إذا كان القتيل مؤمنًا، وكان من قومٍ كافرين محاربين فالجزاء تحرير رقبة مؤمنة فقط([31]).
4. إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق فالواجب الدية وتحرير رقبة مؤمنة([32]).
5. أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل([33]).
6. شرط عتق الرقبة أن تكون مؤمنة([34]).
7. لا يجوز قطع التتابع في الصيام إلا لعذر، فإن قطعه فأفطر، فعليه أن يستأنف الصيام من جديد([35]).
* * *
([1]) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (9/ 33)، والبيهقي في السنن الكبرى مختصرًا (8/ 72). قال ابن حجر: روى هذه القصة أبو يعلى مرسلة ـ ثم قال ـ وقيل في سبب نزولها غير ذلك مما لا يثبت. انظر فتح الباري (12/ 212). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([2]) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان (9/ 34)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([3]) جامع البيان (9/ 34 ـ 35).
([4]) انظر: صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96)، وانظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 473) وروح المعاني (5/ 113).
([5]) انظر: جامع البيان (9/ 38) والجامع لأحكام القرآن (5/ 323) وفتح القدير (1/ 752).
([6]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).
([7]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).
([8]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 313).
([9]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).
([10]) انظر: جامع البيان (9/ 30) وتيسير الكريم الرحمن ص 156.
([11]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 314).
([12]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 474).
([13]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 315).
([14]) انظر: جامع البيان (9/ 37)، وفتح القدير (1/ 751).
([15]) انظر: فتح القدير (1/ 751 ـ 752).
([16]) انظر: جامع البيان (9/ 44).
([17]) تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([18]) انظر: روح المعاني (5/ 113 ـ 114) وتيسير الكريم الرحمن ص 156 ـ 157.
([19]) رواه أبو داود في الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر (2751) وابن ماجه في الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم (2685) وقال الألباني في صحيح أبي داود (2390): حسن صحيح، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 314).
([20]) رواه أبو داود في الديات، باب: لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه (4495) والدارمي في الديات، باب لا يؤخذ أحد بجناية غيره (2389). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3773)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 320).(/142)
([21]) رواه الترمذي في الديات باب ما جاء في دية الجنين (1411) وأبو داود في الديات باب: دية الجنين (4579) وابن ماجه في الديات، باب: دية الجنين (2639)، وأصله في البخاري في الطب، باب الكهانة (5760) من حديث أبي هريرة، ومسلم في القسامة والمحاربين، باب: دية الجنين (1682) وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 321).
([22]) رواه النسائي في القسامة، باب: صفة شبه العمد (4825) وأبو داود في الديات، باب: دية الجنين (4568) وأصله في البخاري في الطب، باب: الكهانة (5758) ومسلم في القسامة، باب: دية الجنين (1681) عن أبي هريرة وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 322).
([23]) رواه مسلم في الإيمان, باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 324).
([24]) رواه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس} (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربين باب: ما يباح به دم المسلم (1676) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([25]) رواه أحمد (3/ 451) وعبد الرزاق في المصنف (9/ 175)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 162) وصححه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([26]) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة (537)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([27]) رواه البخاري في المغازي باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد (4339)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 507).
([28]) رواه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {ومن أحياها...} (6868)، ومسلم في الإيمان باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا)) (65)، وانظر تيسير الكريم الرحمن ص 156.
([29]) انظر: جامع البيان (9/ 30 ـ 31).
([30]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([31]) انظر: جامع البيان (9/ 31).
([32]) انظر: جامع البيان (9/ 38).
([33]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).
([34]) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 506).
([35]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 327) وتيسير الكريم الرحمن ص 157.
ثالثاً: آيات الصوم من سورة المائدة:
1- الآية (89).
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].
سبب النزول:
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ}.
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ}([1]).
2 ـ ورُوي أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل، فقال: أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك، فقال: لا والله لا آكله الليلة، فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل. وقال أيتامه: ونحن لا نأكل، فلما رأى ذلك أكل وأكلوا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: ((أطعت الرحمن وعصيت الشيطان)) فنزلت الآية([2]).
قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
3 ـ عن سعيد بن جبير في قوله : {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. قال: كانوا يفضلون الحر على العبد، والكبير على الصغير، فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}([3]).
القراءات:
قوله تعالى: {وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ}
1 ـ {عَقَدْتُم الأيمان}: وهي قراءة الكوفيين([4]).
2 ـ {عاقدتم الأيمان}([5]).
قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
1 ـ {أو كُسوتهم} بضم الكاف([6]).
2 ـ {أو كإسوتهم}، وهي قراءة سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني([7]).
قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}
{فصيام ثلاثة أيام متتابعات} وهي قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما([8]).
المفردات:
{اللَّغْوِ}: اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد كقوله: لا والله، وبلى والله. وقيل: إن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده فيظهر نفيه([9]).
{عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ}: تعمدتم وقصدتم([10]).(/143)
{أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}: أي المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، مما تعتادون أهليكم منه([11]).
{كِسْوَتُهُمْ} الكسوة هي الثوب، أو كل ما وقع عليه اسم كسوة([12]).
{وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم، أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها([13]).
المعنى الإجمالي:
في الآية الكريمة يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد تجاوز على من كانت يمينه لغوًا، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلاف ذلك.
وأما من عقد يمينه قاصدًا تحقيق ما عزم عليه فالواجب في حقه الإنفاذ، فإن حال دونه ودون الإنفاذ بأي سبب كان كفَّر عن يمينه كفارة اليمين، وهي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم من أوسط ما يطعم ويكسو به أهله، أو يحرر رقبة مؤمنة، فإن لم يجد واحدًا من هذه الثلاث؛ صام ثلاثة أيام فتلك هي الكفارة.
ثم يأمر الله سبحانه بحفظ الأيمان، وعدم تعريضها للعتب أو الحنث.
ثم يخبر تعالى بأنه كما بين لنا أحكام الأيمان وكفاراتها؛ بين لنا ووضح للعالمين أعلام دينه وشعائره وأحكامه ليشكر المؤمنون ربهم على أن هداهم ووفقهم([14]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه))([15]).
2 ـ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: ((الإشراك بالله))، قال: ثم ماذا؟ قال: ((ثم عقوق الوالدين)). قال: ثم ماذا؟ قال: ((اليمين الغموس)). قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب))([16]).
3 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت))([17]).
4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق))([18]).
5 ـ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير))([19]).
6 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله))([20]).
7 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليمين على نية المستحلف))([21]).
الفوائد:
1. الأيمان ثلاثة: لغو لا كفارة لها مثل قول: لا والله وبلى والله. الغموس، وهي أن يحلف متعمدًا الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المنعقدة: وهي التي تعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل ثم يحنث. فهذه الأخيرة هي التي ذكر الله تعالى كفارتها([22]).
2. الخيرة في الكفارات الثلاث وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة فمن لم يستطع أياً من هذه انتقل إلى صيام ثلاثة أيام([23]).
3. لا يشترط التتابع في الصيام([24]).
4. الإطعام يكون مفردًا لكل مسكين([25]).
5. لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة([26]).
6. اليمين لا يكون إلا بأسماء الله تعالى وصفاته([27]).
7. لا يجوز القسم بمخلوق([28]).
* * *
2- الآية (95).
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95].
سبب النزول:
رُوي أن أبا اليسر ـ واسمه: عمرو بن مالك الأنصاري ـ كان محرمًا عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}([29]).
القراءات:
أ ـ قوله: {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ}
1 ـ {فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم}: وهي قراءة عبد الله بن مسعود والأعمش([30]).
2 ـ {فجزاءُ مثلِ ما قتل من النعم} بإضافة الجزاء إلى "المثل" وخفض المثل([31]).
3 ـ {فجزاء مثلَ ما قتل من النعم}: بنصب "مثلَ" وهي قراءة عبد الرحمن([32]).
4 ـ {فجزاء مثل ما قتل من النعْم} بإسكان العين، وهي قراءة الحسن([33]).
ب ـ قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ}
{ذو عدل} وهي قراءة محمد بن جعفر([34]).
ج ـ قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}
{كفارةُ طعامِ مساكين} بالإضافة، وهي قراءة أهل المدينة([35]).(/144)
د ـ قوله: {أَو عَدْلُ ذالِكَ}
{أو عِدْل} بكسر العين([36]).
المفردات:
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: أي وأنتم محرمون بحج أو عمرة([37]).
{فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}: أي فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول مثل ما قتل من النعم([38]).
{ذَوَا عَدْلٍ}: أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين([39]).
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}: أي يذبح في الحرم([40]).
{أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً}: أي يقوّم الصيد حيًا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مدٍ يومًا([41]).
{وَبَالَ} سوء العاقبة.
المعنى الإجمالي:
ينهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين الحجاج والمعتمرين عن قتل الصيد والتعرض له، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه نهى المحرم عن أكل ما قتل أو صيد لأجله. وهذا كله تعظيم لهذا النُسك العظيم، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالاً له قبل الإحرام.
ثم يخبر سبحانه بأن من قتل الصيد متعمدًا فهو مخيّر بين ثلاث:
أولاً: إخراج المثل من النعم، يحكم به عدلان من المسلمين يعرفان الحكم ووجه الشبه، يرسل به إلى الحرم يذبح هناك.
ثانيًا: يقوّم الجزاء فيشتري بقيمته طعامًا، فيطعم كل مسكين مُدّ بُرٍ أو نصف صاع من غيره.
ثالثًا: يصوم بدل كل نصف صاع يومًا. وذلك جزاءً له لمخالفته.
ثم يخبر تعالى بأنه قد عفا عما بدر من تقصير قبل ظهور الحكم وبيانه لكنه توعد من عاد في الصيد مرة أخرى بعد تبين حكمه بالانتقام والعذاب الشديد، والكفارة للمرة الثانية غير مجدية([42]) .
نصوص ذات صلة:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور))([43]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لو رأيت الضباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين لابتيها حرام))([44]).
3. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها))([45]).
4. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً))([46]).
الفوائد:
1. حرمة قتل الصيد للمحرم بحج أو بعمرة([47]).
2. الخيار في الكفارات الثلاث([48]).
3. الدم والإطعام لا بد أن يكون بمكة، والصيام في أي مكان([49]).
4. جواز قتل الحيوان غير المأكول([50]).
5. الإحرام ينحل بالصيد إذا كان الصائد المحرم ذاكرًا عامدًا([51]).
6. الكفارة تجب على المتعمد بخلاف الناسي([52]).
7. أن من عاد في الصيد فلا كفارة عليه، وسينتقم الله تعالى منه([53]).
8. أن الصيام يكون بعدد المساكين المقدّر إطعامهم، فيصوم عن كل مدٍ يومًا([54]).
* * *
([1]) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (10/ 523).
([2]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 265).
([3]) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (10/ 541 ـ 542).
([4]) انظر جامع البيان (10/ 524).
([5]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 266)، وفتح القدير (2/ 104).
([6]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 279) وفتح القدير (2/ 105).
([7]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 279) وروح المعاني (7/ 13).
([8]) انظر جامع البيان (10/ 560).
([9]) انظر: أضواء البيان (2/ 107).
([10]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 267).
([11]) انظر: فتح القدير (2/ 104).
([12]) انظر جامع البيان (10/ 551).
([13]) انظر: روح المعاني (7/ 15).
([14]) انظر: جامع البيان (10/ 562) وتيسير الكريم الرحمن (ص 204 ـ 205).
([15]) رواه مسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمنيًا فرأى غيرها خيرًا منها (1650)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 267).
([16]) رواه البخاري في استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله (6920)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 268).
([17]) رواه البخاري في الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم (6646)، ومسلم في الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله (1646) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 271).
([18]) رواه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6107)، ومسلم في الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى (1647)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 271).
([19]) رواه البخاري في كفارات الأيمان، باب: الاستثناء في الأيمان (6718)، ومسلم في الأيمان، باب: ندب من حلف يمنيًا فرأى غيرها خيرًا منها (1649) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 275).(/145)
([20]) رواه مسلم في الأيمان، باب: النهي عن الإصرار على اليمين (1655)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 281).
([21]) رواه مسلم في الأيمان، باب: يمين الحالف على نية المستحلف (1653)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 282).
([22]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 265 ـ 267).
([23]) انظر: فتح القدير (2/ 105).
([24]) انظر جامع البيان (10/ 562).
([25]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 277).
([26]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 280).
([27]) انظر: أضواء البيان (2/ 110).
([28]) انظر: أضواء البيان (2/ 110).
([29]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 302) وروح المعاني (7/ 23).
([30]) انظر جامع البيان (11/ 13) والجامع لأحكام القرآن (6/ 309).
([31]) انظر: جامع البيان (11/ 13).
([32]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 309) وفتح القدير (2/ 113).
([33]) انظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 309).
([34]) انظر: روح المعاني (7/ 26).
([35]) انظر: جامع البيان (11/ 30).
([36]) انظر: روح المعاني (7/ 28 ـ 29).
([37]) انظر: جامع البيان (11/ 7).
([38]) انظر: جامع البيان (11/ 13).
([39]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 207.
([40]) انظر: جامع البيان (11/ 42).
([41]) انظر: فتح القدير (2/ 114).
([42]) انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 206 ـ 207.
([43]) رواه البخاري في الحج، باب: ما يقتل المحرم من الدواب (1828)، ومسلم في الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره (1199) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 305).
([44]) رواه البخاري في الحج باب: لابتي المدينة (1873) ومسلم في الحج، باب: فضل المدينة (1372) وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 306).
([45]) رواه مسلم في الحج، باب: فضل المدينة وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 306).
([46]) رواه البخاري في الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه (6755)، ومسلم في الحج، باب: فضل المدينة (1370) واللفظ له، وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 307).
([47]) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 93).
([48]) انظر: جامع البيان (11/ 37).
([49]) انظر: جامع البيان (11/ 40).
([50]) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 93).
([51]) انظر: فتح القدير (2/ 113).
([52]) انظر: أضواء البيان (2/ 116 ـ 117).
([53]) انظر: روح المعاني (7/ 29).
([54]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 316).
رابعاً: آيات الصوم من سورة المجادلة:
قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4].
أسباب النزول:
1- عن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها قالت: والله فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليّ يوماً فراجعته بشيءٍ فغضب فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني وامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه، قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ القرآن فتغشّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشّاه ثم سُرّي عنه، فقال لي: يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَ...} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:1-4]([1]).(/146)
2- وقيل: نزلت في سلمة بن صخر الأنصاري، فعنه أنه قال: كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي، حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك، إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ تكشّف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري، فقال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، قال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، قال: ((أنت بذاك؟)) قلت: أنا بذاك، وها آنذا فامض فيّ حكم الله، فإني صابر لذلك. قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربَ صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: ((فصم شهرين)) قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فأطعم ستين مسكيناً)) قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك)). قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ، فدفعوها إليّ([2]).
المفردات:
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ}: أي فمن لم يجد منكم من ظاهر من امرأته رقبة يحرّرها: فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا([3]).
{مُتَتَابِعَيْنِ}: الشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر([4]).
{مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}: المراد بالتماس هنا: الجماع، وقيل: المراد الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة([5]).
{حُدُودُ اللَّهِ}: أي محارمه، فلا تنتهكوها([6]).
المعنى الإجمالي:
أخبر سبحانه وتعالى قبل هذه الآية الكريمة بأن على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، أي: يعزمون على وطئهن بعد الظهار منهن، فالواجب عليهم قبل الوطء تحرير رقبة ذكراً كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة، لكن مؤمنة لا كافرة، ثم يتدرج سبحانه في الحكم في هذه الآية بأن من لم يجد رقبة لانعدامها، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع لعلّةٍ قامت به فالواجب إطعام ستين مسكيناً يُعطي كل مسكين مداً من بُرٍ أو نصف صاعٍ من غير البُرّ كالشعير والتمر ونحوهما، كلّ ذلك من قبل أن يتماسا.
ثم يبيّن الله سبحانه أن ما تقدّم من أحكام الظهار إنما شرعها للمؤمنين ليؤمنوا بالله ورسوله، إذ إن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبةٌ ومتحتّمة، ومعصيتهما من الكفران، ثم يبيّن أيضاً أن هذه الأحكام ما هي إلا حدود لا يجوز للمسلم تجاوزها وتخطيها، وإلا نال من عذاب الله تعالى الشيء العظيم الموجع([7]).
الفوائد:
1. بيان حكم الظهار وأنه محرّم، ومعصية لله تعالى([8]).
2. من ظاهر من امرأته فعليه عتق رقبة، فإن لم يستطع فعليه صيام شهرين متتابعين لا يقطعهما بفطر، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مدّ من بُرّ أو مُدين من غير البُر كالشعير والتمر([9])، وقيل: ما يُشبع من غير تحديد([10]).
3. الكفّارة هنا مرتّبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام([11]).
4. يجب إخراج الكفارة إذا كانت عتقاً أو صياماً قبل المسيس، كما قيده الله، بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها([12]).
* * *
([1]) رواه أحمد في المسند (6/410)، وحسنه الأرناؤوط في جامع الأصول (7/652)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (17/277).
([2]) رواه الترمذي في تفسير القرآن، باب: ومن سورة المجادلة (3299)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2628) وانظر تفسير القرآن العظيم (4/4998).
([3]) انظر جامع البيان (23/232) وروح المعاني (28-82).
([4]) انظر جامع البيان (23/232).
([5]) انظر فتح القدير (5/259).
([6]) انظر تفسير القرآن العظيم (4/502).
([7]) انظر فتح القدير (5/259) وأيسر التفاسير (5/285).
([8]) انظر فتح القدير (5/259).
([9]) انظر الجامع لأحكام القرآن (17/287) وأيسر التفاسير (5/285).
([10]) انظر روح المعاني (28/16).
([11]) انظر الجامع لأحكام القرآن (17/285).
([12]) انظر تيسير الكريم الرحمن (ص784).
خامساً: آية الصوم من سورة الأحزاب:(/147)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
أسباب النزول:
1- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟! قالت: فلم يرعني منه يوماً إلا ونداؤه على المنبر: ((يا أيها الناس))، قالت: وأنا أسرح رأسي فلففت شعري ثم دنوت من الباب فجعلت سمعي عند الجريد فسمعته يقول: ((إن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...})) هذه الآية([1]).
وفي رواية قالت: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء! فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}([2]).
2- عن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}([3]).
المفردات:
{َالْقَانِتِينَ}: القانت هو العابد المطيع([4]).
{َالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}: الخائفين والخائفات([5]).
{َالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ}: أي الحافظين فروجهم عن المحارم والمآثم إلا عن المباح([6]).
{َالذاكِرِينَ اللَّهَ}: أي بالألسنة والقلوب([7]).
المعنى الإجمالي:
نزلت هذه الآية الكريمة لما تساءلت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن له: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة.
تسامت همّة أولئك النسوة باللحاق بالرجال في الأجر والمثوبة، فأنزل الله هذه الآية تطييباً لنفوسهن التوّاقة للمنازل الرفيعة، فيقول: إن المسلمين والمسلمات الذين انقادوا لله ظاهراً وباطناً، والمؤمنين المصدقين بالله رباً وإلهاً، وبالنبي محمد نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً وشرعاً والمصدقات، والقانتين المطيعين لربهم والقانتات، والصادقين في أقوالهم وأعمالهم والصادقات، والصابرين الحابسين نفوسهم على الطاعات وعن المحرمات وعلى البلاء والصابرات، والخاشعين المتذللين الخائفين من ربهم والخاشعات، والمتصدقين المؤدّين للزكاة والصدقة والمتصدقات، والصائمين الفرائض والنوافل والصائمات، والحافظين فروجهم عن الفواحش والمحرمات والحافظات، والذاكرين الله تعالى في خلوتهم وجولتهم في الليل والنهار والذاكرات. أولئك جميعاً أعدّ الله تعالى لهم مغفرة عظيمةً للذنوب، وأجراً جزيلاً على أعمالهم وطاعاتهم، وأعظم الجزاء الفوز بجنات الخلد عند مليكٍ مقتدر([8]).
نصوص ذات صلة:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم))([9]).
2- عن معاذ بن أنس الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: أي الجهاد أعظم أجراً؟ قال: ((أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً))، قال: فأي الصائمين أعظم أجراً؟ قال: ((أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً))، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً))، فقال أبو بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكل خيرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل))([10]).
الفوائد:
1- الصائمون والصائمات في الآية قيل: في الفرض فقط، وقيل: في الفرض والنفل([11]).
2- الصوم أكبر عونٍ للإنسان على كسر الشهوة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))([12]).
3- قال مجاهد: "لا يكون ذاكراً لله تعالى كثيراً حتى يذكره قائماً وجالساً ومضطجعاً"([13]).
([1]) رواه أحمد في المسند (6/301) وانظر جامع ا لبيان (20/270).
([2]) رواه الحاكم في المستدرك (2/451)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وانظر تفسير القرآن العظيم (3/468).
([3]) رواه الترمذي في تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأحزاب (3211)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2565)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (14/185)، وفتح القدير (4/403).
([4]) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/185).
([5]) انظر جامع البيان (20/269).
([6]) انظر تفسير القرآن العظيم (3/469).
([7]) انظر روح المعاني (22/21).
([8]) انظر تيسير الكريم الرحمن (ص612)، وأيسر التفاسير (4/269-270).(/148)
([9]) رواه ابن ماجه في الصيام، باب: في الصوم زكاة الجسد (1745)، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (633)، والألباني في ضعيف ابن ماجه (341)، وانظر تفسير القرآن العظيم (3/469).
([10]) رواه أحمد في المسند (3/438)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/74): "رواه أحمد والطبراني وفيه زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات".
([11]) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/185).
([12]) رواه البخاري في الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزبة (1905)، ومسلم في النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت لنفسه (1400)، وانظر تفسير القرآن العظيم (3/469).
([13]) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/186).(/149)
فلسطين والقدس والأقصى
أولا: سبب تسمية مسجد بيت المقدس بالأقصى
الأقصى : لغة من القصو وهو البعد ، والأقصى: الأبعد .
واختلف في سبب تسميته قال أبو حيان: "سمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة عن الكعبة " وقال ابن عطية: "إن المراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصود إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة. (البحر المحيط 6/7).
تاريخ المسجد الأقصى:
والمسجد الأقصى هو ثاني المساجد التي وضعت على الأرض لعبادة الله عز وجل, وقد كان المسجد الحرام أول هذه المساجد : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين} [آل عمران:96]. وقد كان بناؤه على يد إبراهيم وإسماعيل عليها السلام {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } [البقرة:127].
وقد كان المسجد الأقصى ثاني المساجد، وبني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما ورد في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام ، قلت: ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة)).
ولذا يذهب بعض المحققين أن الذي بناه أيضاً هو إبراهيم عليه السلام, قال شيخ الإسلام: "فالمسجد الأقصى كان في عهد إبراهيم عليه السلام, لكن سليمان عليه السلام بناه بناءً عظيمًا, فكل من المساجد الثلاث بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس" [الفتاوى 27/ 351].
ويذكر المؤرخون في روايات لا يمكن توثيقها أن يعقوب عليه السلام أقام مسجدًا عند الصخرة.
ـ وفي عهد سليمان عليه السلام تم بناء هيكل لليهود لعبادة الله عز وجل, وسرعان ما أصبح المعبد بعد وفاته هيكلاً لعبادة الأصنام كما تذكر ذلك التوراة المحرفة, وهو صحيح.
ـ وفي عام (587 ق.م) غزا بختنصر ملك بابل بيت المقدس, ونهب أورشليم ودمر الهيكل وسبى من لم يقتله إلى بابل وكان ذلك عقوبة على ما صنعوه من إفساد وتحريف لدين الله {لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرًا } [الإسراء: 4].
ولما عاد اليهود إلى فلسطين عام (538 ق. م) أعادوا بناء الهيكل فيما سمي بالهيكل الثاني.
ـ وفي عام (20 ق.م) أعاد الحاكم الروماني هيرودس تجديد البناء, وقد كان المسجد قائمًا زمن المسيح عليه السلام، وقد جاء في الحديث أن الله أمر يحيى بخمس كلمات يبلغها بني إسرائيل قال صلى الله عليه وسلم: ((فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُرف)) [رواه الترمذي ح 3023].
ـ وفي عام (70 م) أقدم الأمبرطور طيطس على إحراق المدينة المقدسة وتدمير المعبد, ولكن طيطس حين دمر المدينة والهيكل ترك الحطام محله، وهذا آخر عهد بني إسرائيل بالهيكل.
ـ وفي عام (135م) أزال الأمبراطور أدريانوس كل معالم الهيكل وحطامه وحجارته،كما طمس معالم المدينة, وأقام محل الهيكل معبدًا وثنيًا سماه (جوبيتار), وهو اسم لرب الآلهة عند الرومان.
وعندما انتشرت النصرانية في فلسطين وفي أوائل القرن الرابع الميلادي, وفي عهد مؤسس المسيحية الجديد الإمبراطور قسطنطين تم تحطيم المعبد الوثني, وقد بني محله بناء، وهو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش عندما سألته عن علامة صدقه في قيامه برحلة الإسراء.
وإليه كان المسلمون يصلون بعد أن فرضت عليهم الصلاة إلى أن نزل قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام }.(البقرة 144)
وعندما قدم المسلمون أرض فلسطين فاتحين كان الروم قد جعلوا المكان موضعًا لرمي القذر, وذلك نكاية ببني إسرائيل.
وحين قدم عمر بن الخطاب بيت المقدس فاتحًا سأل عمر كعب الأحبار ـ وكان من جنود الفتح ـ عن مكان الصخرة, وكان الزبل والقذر قد علاها فأشار إلى مكانها, فجعل عمر والمسلمون يزيلون بأيديهم ما عليها.
وقرر عمر رضي الله عنه إعادة بناء المسجد فاستشار كعب الأحبار في محل بنائه فأشار أن يبنيه خلف الصخرة لتجتمع قبلتا موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فيه, لكن عمر أبى ذلك وقال: "ضاهيت اليهودية يا كعب" وأقام المسجد أمام الصخرة وجعلها في مؤخرته.
وقد تم تجديد بناء المدينة في عهد عبد الملك بن مروان, ومما تم تجديده يوم ذاك المسجد الأقصى ومسجد الصخرة, وتولي الإشراف على مهمة البناء العلامة رجاء بن حيوة, وقد أوقف عبد الملك خراج مصر سبع سنين لإتمام هذا البناء, وقد تم عام (73 هـ) .
ـ وفي عهد أبي جعفر المنصور وقع زلزال في بيت المقدس وتهدمت بسببه أجزاء من المسجد, فأمر بإعادة البناء على أحسن حال وذلك عام (154 هـ).
ـ وفي عام (158 هـ) قام المهدي بإصلاحات في المسجد وزاد في طوله.
ـ وفي عهد المأمون (198 هـ) جرت بعض الإصلاحات والترميمات في المسجد.
ـ وما زال المسجد الأقصى أرضًا إسلامية يتعاهدها المسلمون بالحماية والاهتمام.(/1)
ـ وفي عام (1967م) احتلت دولة العدو الإسرائيلي القدس الشرقية التي يقع فيها المسجد الأقصى, وأبقت ـ حرصًا على عدم استفزاز مشاعر المسلمين في العالم وفلسطين ـ أبقت منطقة المسجد الأقصى في نفوذ مؤسسات الأوقاف الإسلامية.
ثم ما لبثت تحاول السيطرة على هذه المنطقة محاولة إعادة بناء ما تسميه الهيكل الثالث.
ثانيا: المؤامرة على المسجد الأقصى وخطة بناء الهيكل مكانه: 1- منظمات إرهابية تهدف إلى هدم الأقصى وبناء الهيكل:
منذ أمد بعيد يخطط اليهود ويتداعون لإقامة ما يسمونه الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، وهذا الأمر يمتد إلى ماقبل سيطرتهم على أرض فلسطين المباركة، ولعل أبرز ما يبين ذلك تأسيس الحركة الماسونية العالمية.
تأسست الحركة الماسونية ولا يعرف على التحديد وقت تأسيسها ، وهي كما عرفها المستشرق الهولندي دوزي جمهور كبير من مذاهب مختلفة يعملون لغاية واحدة هي إعادة الهيكل الذي هو رمز دولة إسرائيل.
وكلمة ماسونية مأخوذة من الكلمة الإنجليزية freemason ومعناها: البناؤون الأحرار .
تقول دائرة المعارف الماسونية الصادرة في فيلادلفيا (1906م): "يجب أن يكون كل محفل رمزاً لهيكل اليهود ، وهو بالفعل كذلك".
ولما أقام اليهود دولتهم على أرض فلسطين عملوا على تنفيذ تلك المخططات، فقد أنشأ اليهود في فلسطين عدداً من المنظمات المعنية ببناء الهيكل على أنقاض الأقصى منها.
1- حركة الاستيلاء على الأقصى، وتأسست عام 1968م على يد موشي ليفنجر.
2- منظمة يشيفات أتريت كوهانين (ومعناه : التاج الكهنوتي) ولديها مخططات هندسية كاملة لما تسميه الهيكل الثالث.
3- جماعة جوش ايموفيم (ومعناها كتلة الإيمان) وأسسها موشي ليفنجر أيضاً عام (1973م).
4- جماعة أمناء الهيكل، وتقوم بأداء الصلوات بجوار المسجد الأقصى بانتظار أن تصلي في الهيكل بعد حين.
5- مؤسسة الهيكل المقدس، وأسسها ستانلي جولدفوت.
6- جمعية صندوق جبل الهيكل، وأسست عام(1983م) وأسسها الثري المسيحي تيري اونهوفر.
(سوى ذلك من المنظمات اليهودية والمسيحية البروتستانتية).
كما أنشأت الحكومة الإسرائيلية خمس مدارس دينية تعلم الطلاب عن الهيكل وطقوسه وتاريخه.
ـ وانعقد في القدس المؤتمر السنوي السابع لرابطة (إعادة بناء الهيكل) بمباركة ومشاركة حكومية، والرابطة تضم عشر منظمات كبرى اشتركت في تنظيم المؤتمر الذي عقد في(17/9/1998م) وضم آلافاً من اليهود المتدينين من منظمات أخرى يجمعهم قاطبة أنهم أعضاء في منظمات يهودية سرية وعلنية تدعو جهاراً إلى التعجيل بهدم الأقصى وبناء الهيكل.
وتقدر الأوساط الإسرائيلية عدد من حضروا المؤتمر بسبعة آلاف يهودي.
وكان الهدف من المؤتمر ـ الذي شاركت فيه شخصيات حكومية ـ تقسيم المهام من أجل الهدف الذي جعلوه عنواناً للرابطة وهو: (إعادة بناء الهيكل)، وقد ألقى نائب وزير المعارف (الإسرائيلي) (موشي بيلد) كلمة أشاد فيها بالحضور، وخاطب المؤتمرين قائلاً: (أدعوكم إلى مواصلة نشر قيم الهيكل وقيم التراث والثقافة اليهودية بين شباب (إسرائيل) في كافة مراحل التعليم). وأردف قائلاً: (إن الهيكل هو قلب الشعب اليهودي وروحه).
ثم قام زعيم منظمة (قائم وحي) ليتحدث عن المشاركين فقال: (إننا نرى دعماً رسمياً، ونأمل بأن يسهم في إعطاء انطلاقة جديدة لقضية إعادة المعبد اليهودي في القدس) (جريدة الحياة 17/9/1998م).
2- الاعتداءات اليهودية على المسجد الأقصى:
وقد تعرض المسجد الأقصى لاعتداءات آثمة متكررة، وقد قامت الجماعات اليهودية والجيش الإسرائيلي منذ عام 1967م ـ الذي احتل اليهود فيه القدس ـ وحتى العام 1990م بأكثر من أربعين عملاً عدائياً ضد المسجد الأقصى، وقد يُظن أن ما يسمى بـ (عمليات السلام) بعد هذا التاريخ قد خففت من حدة المشاعر اليهودية العدائية تجاه جيرانهم العرب (المسالمين)، ولكن الحقيقة أن هذا الوهم تكذبه الوقائع؛ فمنذ أن أُبرمت اتفاقيات مدريد وأوسلو، وأعمال الاعتداء تزداد وتيرتها؛ حتى بلغت قريباً من مئة محاولة، منها 72 محاولة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى منتصف عام 1998م.
ومن هذه الاعتداءات نذكر:
· الاستيلاء عليه وتدنيس حرمته عام 1967م وقد قال دايان وزير الدفاع حينذاك: اليوم فتحت الطريق إلى بابل ويثرب .
وقال وزير الأديان يوم ذاك الدكتور زيرخ فارهافتك : ((أنا لا أناقش أحداً في أن الهدف النهائي لنا هو إقامة الهيكل ، ولكن الأوان لم يحن بعد، وعندما يحين الموعد لابد من حدوث زلزال يهدم الأقصى ونبني الهيكل على أنقاضه)). وما الحفريات التي تجري في أساسات المسجد الأقصى وتحته إلا توطئة للزلزال الذي يحلم به اليهود.
· وفي (30/1/1967م) أقرت إحدى المحاكم الإسرائيلي بحق اليهود في الصلاة بساحات الأقصى في أي وقت يشاءون من النهار.
· وفي (31/اغسطس/ 1967م) استولى الجيش الإسرائيلي على مفتاح باب المغاربة لتيسير الدخول إلى حائط المبكى.(/2)
· وفي (15/ اغسطس/ 1967م) دخل الحاخام الأكبر شلومو غودين بالزي العسكري ساحة المسجد الأقصى برفقة عشرين من ضباط الجيش الإسرائيلي وأخذ المقاسات لساحة المسجد، وأعلن تحديد مكان الهيكل، وأنشأ ما سمى بـ((حركة إسرائيل الكبرى)).
· تم حرق المسجد الأقصى في (21/أغسطس/1969م) على يد الأسترالي دينيس مايكل ، وقد أفرج عنه فيما بعد بحجة أنه مجنون!!
· بدأ شق الأنفاق تحت المسجد الأقصى من جهته الجنوبية والغربية وذلك عام (1970م).
· وصلت الأنفاق إلى ما تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى عام (1977م).
· تم البدء في بناء معبد يهودي مصغر تحت المسجد الأقصى في عام (1979م) ، وقد افتتحه رئيس وزراء إسرائيل عام(1986م)، كما تم عام (1979م) إنشاء نفق واسع طويل يمر تحت المسجد من شرقه إلى غربه.
· وفي (2/3/1982م) قام 15 متعصباً من جماعة أمناء جبل الهيكل باقتحام أحد الأبواب الخارجية للمسجد الأقصى (باب السلسلة)، واعتدوا على الحراس واشتبكوا معهم.
· وفي (11/أبريل/1982م) اقتحم الجندي الإسرائيلي الآن جودمان المسجد الأقصى وأطلق النار على أحد حراس المسجد الأقصى بمساعدة جنود إسرائيليين تمركزوا خارج المسجد ، وقد أصيب في هذا الحادث ما يقرب من مائة مسلم.
· وفي (27/أبريل/1982م) قام الحاخام كاهانا ومعه مائة متطرف يهودي بمحاولة لاقتحام المسجد الأقصى، وحملوا صورة ضخمة تجعل الهيكل مكان الأقصى.
· وفي (1/أغسطس/1984م) اكتشف حراس الأقصى عدداً من الإرهابيين اليهود يعدون لعملية نسف المسجد الأقصى. يقول الشيخ العلمي مفتي القدس "لولا عناية الله لما بقي حجر على حجر من المبنى الشريف".
· وقد سمحت الحكومة الإسرائيلية خلال عامي 1995، 1996م لمؤسستين إسرائيليتين وهما: (شركة الآثار الإسرائيلية) و (شركة تطوير القدس) بإجراء المزيد من الحفريات.وتكمن خطورة هذه الحفريات في أنها تهدد أساسات المسجد الأقصى في المرحلة الحالية، وتسهل أو تكمل مشروع بناء الهيكل في المراحل التالية. وكانت قصة الافتتاح الرسمي لنفق (الحشمو نائيم) في )سبتمبر عام 1996م(، بمثابة لفت نظر لتبني الدولة اليهودية لمثل هذه المشروعات.
3- كيف سيهدم اليهود الأقصى:
نشرت جريدة (معاريف) في )أغسطس 98م( مقالاً بعنوان: (ثلاثة احتمالات للتهديدات) ذكرت فيه أن القيام بعمل ضد الأماكن الإسلامية قد يأخذ أحد الأشكال الثلاثة الآتية:
1- انتفاضة شعبية عارمة من مئات ألوف المتطرفين؛ حيث يقومون بسلسلة عمليات شغب عنيفة، لإشاعة جو من الفوضى يتم خلاله تنفيذ ما يريدون.
2- قد يقوم متطرف يهودي واحد دون شركاء، وبدون مساندة أو إعداد سابق بهذا العمل، مثل ما قام به (عامير) في قتل رابين، أو ) باروخ جولد شتاين( في مذبحة المسجد الإبراهيمي.
3- قد تقوم مجموعة من الأشخاص في خلية سرية بتوجيه ضربتها مستخدمة القنابل أو الصواريخ.
وهناك طريق رابع يضيفه بعض المتابعين للموضوع، وهو إمعان اليهود في المزيد من إضعاف أساسات المسجد وتفريغ الأرض من تحته عبر الأنفاق المختلفة، ثم الادعاء عند أي هزة أرضية طبيعية أو صناعية، أن المسجد هُدم قضاءً وقدراً!!-أي بغير فاعل- وهنا تعفى الحكومة الإسرائيلية من ويلات هذا الأمر.
· في هذا الصدد نشرت جريدة (يديعوت أحرونوت) في عددها الصادر في (1/9/98م( خبراً بعنوان: (يهودي مجنون قد ينسف الأقصى أو قبة الصخرة)، وجاء في الخبر: (يخشى قادة (الشاباك) (جهاز الأمن) أن يقوم متطرف من (اليمين الإسرائيلي) بالاعتداء على المسجد الأقصى أو قبة الصخرة بهدف الإجهاز على العملية السلمية نهائياً. وتذكر الصحيفة أن (سيناريو) الاعتداء عُرض على رئيس الوزراء (نتنياهو) في اجتماع حضره وزير العدل والأمن الداخلي والمالية، إضافة إلى رئيس بلدية القدس، ورئيس جهاز (الشاباك) والمفتش العام للشرطة، وأعربت الصحيفة عن تخوفها من أن يؤدي الاعتداء على المسجد الأقصى أو قبة الصخرة إلى إحراق المنطقة كلها.
ثالثا: منزلة فلسطين والقدس والأقصى عند المسلمين:
سمى الله أرض فلسطين بالأرض المباركة والأرض المقدسة في مواضع عدة في كتابه الكريم.
لما خرج نبي الله إبراهيم عليه السلام من أرض العراق قصد أرض الشام المباركة فكانت مهاجره، ثم كان موته عليه الصلاة والسلام في مدينة الخليل {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء:71].
ولما أراد موسى عليه السلام من اليهود دخول فلسطين قال لهم: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم}.
ثم دخلها بنو إسرائيل على يد نبي الله يوشع بن نون، فتحقق موعود الله لهم حين جاهدوا لإقامة دينه {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف:137].
ثم أكد القرآن بركة أرض فلسطين حين قال: {ولسليمان الريح عاصفة تجري إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء:81].(/3)
واكتملت البركة حين أسري بخاتم الأنبياء إلى بيت المقدس فصلى إماماً بالأنبياء هناك، يقول تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا * الذي باركنا حوله}.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن رحلة الإسراء والمعراج: ((أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم عرج بي إلى السماء)) [رواه مسلم ح162].
المسجد الأقصى أحد المساجد التي تشد لها الرحال قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) [البخاري ح1189، ومسلم 1397].
وفي حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد، لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)) [رواه ابن ماجه ح1408 وصححه الألباني].
وفلسطين قطعة من أرض الشام التي جاءت الأحاديث تشهد بمزيتها عن سائر بلاد المسلمين ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للشام، طوبى للشام قلت (أي زيد بن ثابت راوي الحديث): ما بال الشام قال: الملائكة باسطو أجنحتها على الشام)) [رواه الترمذي ح 3954، وأحمد 20621، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه].
وفي حديث ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال: ((أرض المحشر والمنشر)) [رواه أحمد في المسند ح26343 وفي إسناده ضعف].
ومما جاء في فضائل الشام وأهلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)) [رواه الترمذي ح 2192، وابن ماجه ح6 وصححه الألباني].
رابعاً: بنو إسرائيل والأرض المقدسة:
1- تاريخ الوجود اليهودي في فلسطين، وشرعية وجودهم زمن الأنبياء وإقامة الدين:
قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء:105].
بنو إسرائيل هم نسل نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
تبدأ قصة بني إسرائيل مع الأرض المقدسة حين هاجر نبي الله إبراهيم عليه السلام من أرض العراق إلى الشام، وولد له فيها إسحاق ثم ابنه يعقوب.
وفي أرض الشام أنجب يعقوب أبناءه الاثني عشر، وقد رحل بهم وبذرياتهم إلى أرض مصر بعد أن أصابتهم سنين جدباء، وكان ذهابهم إليها تلبية لنداء ابنه يوسف عليه السلام {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}
وبقي بنو إسرائيل في مصر ماقارب المائتي سنة، عانوا فيها الكثير من الاضطهاد على يد الفراعنة، وفي هذه الأثناء بعث موسى عليه السلام، ودعا فرعون وملأه إلى عبادة الله فاستكبر وأبى.
وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر قاصداً الأرض المقدسة وذلك حوالي سنة (1350ق.م)، وقد أمرهم موسى عليه السلام بدخولها فجبنوا عن مقاتلة سكانها الوثنيين {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين * يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين } [المائدة:20-26].
وهكذا تاه بنو إسرائيل في سيناء أربعين سنة، ومات موسى عليه السلام ولما يدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة ((فسأل الله تعالى أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر)) [البخاري 1339 ، ومسلم 2372].
وبعد مضي سنين التيه قام يوشع بن نون وصي موسى وخليفته في بني إسرائيل وأمر بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، فقاتلوا سكانها الوثنيين ((غزا نبي من الأنبياء.. فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه..)) [البخاري 3124].
وأمر الله بني إسرائيل حين دخولهم المدينة المقدسة أن يدخلوها سجداً مستغفرين شاكرين الله قال صلى الله عليه وسلم: ((قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا: حبة في شعرة)) [البخاري:3403].(/4)
{فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة:59].
وعاش بنو إسرائيل في الأرض المقدسة قرابة أربعمائة سنة ثم تغلب عليهم الفلسطينيون الوثنيون فطلبوا من أحد أنبيائهم أن يختار لهم ملكاً يقاتلون معه عدوهم {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلى قليلاً منهم والله عليم بالظالمين} [البقرة:246].
وقد تولى المملكة بعد طالوت داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام ثم انقسمت المملكة بعد سليمان إلى مملكتين شمالية وهي مملكة إسرائيل وعاصمتها نابلس، ومملكة يهوذا الجنوبية وعاصمتها أورشليم (القدس).
- وفي عام (721ق.م) سلط الله على بني إسرائيل سرجون الآشروي فدمر مملكة إسرائيل، وتحققت عقوبة الله في إفساد بني إسرائيل.
- وفي عام (587ق.م) زحف ملك بابل بختنصر إلى فلسطين وسيطر على أرضها ودمر أورشليم وأحدث فيها القتل والدمار، وساق من بقي من أهلها إلى بابل فيما عرف بالسبي البابلي {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً} [الإسراء:62].
- وفي عام (538ق.م) سمح الملك الفارسي قورش لبني إسرائيل بالعودة إلى فلسطين، وقد وقعوا بعد ذلك في حكم اليونان (320ق.م) واستمر حكمهم حتى احتل الرومان فلسطين سنة (63ق.م).
وفي السنين الميلادية الأولى بعث عيسى عليه السلام في بني إسرائيل مصدقاً لرسالات بني إسرائيل السابقة ومبشراً بالرسالة الخاتمة {وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6].
وقد جهد عيسى في دعوة قومه حتى كادوا له وأرادوا قتله، فنجاه الله من بني إسرائيل وقد كادوا أن يقتلوه كما قتلوا إخوانه من الأنبياء، وقد استحقوا بذلك عقوبة الله التي أوعدهم على لسان أنبيائه، {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } [آل عمران:112].
{وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }.
{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } [الأعراف:167].
2- انتقال أحقية الأرض المقدسة إلى أمة الإسلام ونشأة الصراع على فلسطين بين أهل الحق وأهل التحريف والتبديل:
- وفي شهر رجب 16هـ كانت القدس على موعد مع انتقال الأرض المقدسة إلى عهدة المسلمين، وقد تسلم عمر مفاتيح بيت المقدس بعد أن أعطى أهلها الأمان، وكان من شروط العهدة العمرية واشترطه نصارى بيت المقدس حينذاك على المسلمين أن لا يسمحوا لأحد من اليهود أن يدخل بيت المقدس" ولا يسكن بإيليا منهم أحد".
- وفي شعبان (492هـ) اقتحم الصليبيون المسجد الأقصى وقتلوا نحواً من سبعين ألفاً من المسلمين كما خربوا المسجد الأقصى.
- وقد استرده المسلمين في رجب (583هـ) استمرت فلسطين مقاطعة إسلامية حتى سقوطها في يد الإنجليز عام (1923م) في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
- بيد أنه في عام (1600م) بدأ النصارى البروتستانت بكتابة معاهدات تعلن أن على جميع اليهود العودة لفلسطين تحقيقاً للوعد التوراتي واعتبره أوليفر كرومويل راعي الكومنولث البريطاني في مقدمة لعودة المسيح إلى الأرض، وأكده بعد ذلك الألماني البروتستانتي بول فلجن هوفر عام (1655م).
- وفي عام (1799م) حاول نابليون احتلال فلسطين وقال في خطاب له مخاطباً لليهود "إن فرنسا تقدم لكم في هذا الوقت إرث إسرائيل. . فهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم بين شعوب العالم. ." واستمرت الدعوة إلى ذلك مرة بعد مرة.
- في عام (1897م) قرر مؤتمر الجمعيات الصهيونية في مدينة بال السويسرية بزعامة هرتزل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.(/5)
- وفي عام (1901م) قابل هرتزل مندوب الجمعيات الصهيونية السلطان عبد الحميد وعرض عليه مساعدتهم للدولة العثمانية على أن يمكنهم من أرض فلسطين،وتكرر العرض الصهيوني في عام (1902م) فكان جواب السلطان عبد الحميد لإحدى هذه المحاولات: "انصحوا الدكتور هرتزل بأن لا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع ، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض ، فهي ليست ملك يميني ، بل ملك شعبي ، لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. . . فليحتفظ اليهود بملايينهم ، إذا مزقت إمبراطوريتي فعلّهم يستطيعون آن ذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق أولاً في جثثنا ، وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
- وفي عام (1917م) أصدر وزير خاريجية بريطانيا بلفور وعده لليهود بالسماح لهم بإقامة وطن لهم في فلسطين وقال بلفور "إن التضحية بنحو 700ألف فلسطين لا يوازي مهابة الوعود التوارتية".
- في عام (1923م) وقعت فلسطين في قبضة الانتداب البريطاني في أعقاب هزيمة جيوش الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الثانية.
- وقد كان عدد اليهود قبل الانتداب في فلسطين لا يتجاوز 75 ألف يهودي، لكنهم بلغوا في نهاية الانتداب نتيجة للهجرات إلى فلسطين 750 ألف يهودي.
- في عام 1947م أعلن اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، وقد اعترفت بهم عدد من الدول، وتكلل هذا الجهد اليهودي بهزيمة العصابات الإسرائيلية للجيوش العربية السبعة، وإبرام اتفاقية رودس (1949م) ووقوف الجيوش العربية عند حدود التقسيم، ثم وقعت على اتفاقيتي الهدنة الأولى والثانية.
- في (23 يناير 1950م)، أعلنت دولة اليهود القدس الغربية عاصمة لها.
- وقد قامت ثورات عدة في ضد المعتدين أبرزها ثورة البراق عام (1929م) كما أحبطت بريطانيا واليهود ثورة بقيادة المجاهد عز الدين القسام وإخوانه عام (1935م)، وفي عام (1936-1939م) قامت الثورة الفلسطينية الكبرى.
- وفي عام (1967م) احتلت القوات الإسرائيلية سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع عزة، وكان مما احتلته القدس الشرقية التي يقع فيها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة.
- وفي (1979م)، أعلن مناحم بيجن رئيس الوزراء اليهودي أن القدس الموحدة (شرقية وغربية) هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ووصل عدد اليهود في القدس الشرقية إلى 19 ألف يهودي.
- وفي 8/12/1987م تفجرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في وجه العدوان والطغيان الإسرائيلي، وبلغ عدد الشهداء فيها ألفي شهيد فيما بلغ عدد الجرحى ثلاثة عشرألفاً.
3- مستقبل الصراع مع اليهود:
ولا ريب أن الصراع مع اليهود لم يبلغ نهايته وإن بلغ بداية النهاية له، فقد اجتمع اليهود من جديد في أرض فلسطين ليتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) [مسلم 2922، ونحوه في البخاري 2926].
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)) [مسند أبي يعلى، قال الهيثمي بمجمع الزوائد: رجاله ثقات (10/63)].
وفي حديث أبي أمامة ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: أين هم يا رسول الله ؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [أحمد في المسند، ورواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات (7/291)].
كما جاءت النصوص القرآنية َتعِد المؤمنين بنصر الله إن هم نصروه وتخلوا عن ولاءات الجاهلية وأفعالها، ومنها {إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون * فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون } [الصافات:172-175].
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج:40-41].
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر:51].
{إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} [آل عمران:160].
{ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم * يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد:4-8].
خامساً: إسرائيل والغرب في معركة فلسطين:
1- فلسطين أرض الميعاد اليهودي كما يؤمن النصارى واليهود:(/6)
لقد يتساءل المرء عن سر العلاقة الوطيدة بين الغرب وإسرائيل والتي يبرز بعضاً من صورها قول إسرائيل شاحاك "دافع الضرائب الأمريكي أرسل إلى إسرائيل خمسة مليارات دولار في عام 85.. فإن أمريكا تقدم لنا أكثر من 14 مليون دولار يومياً على مدار السنة من دون قيد أو شرط"، ومن صورها ما نراه من دفع أمريكا عن إسرائيل في المجامع الدولية حتى الإدانة والتنديد.
ولا ريب أن للأمر علاقة وطيدة بسياسة الغرب وأمريكا في المنطقة العربية، ولكن ذلك لن ينسينا الدافع الديني لهذا الموقف.
فالنصارى على اختلاف مللهم يؤمنون بنصوص التوراة المحرفة التي يتداولها اليهود – أسفار العهد القديم -.
ويؤمنون أيضاً بأحقية ما جاء فيها من وعود لشعب إسرائيل، وإيمانهم بها لا يختلف كثيراً عن إيمان اليهود بها.
يقول المبشر جيرير فولويل رئيس منظمة الأغلبية الأخلاقية، وهي منظمة مسيحية: إن الوقوف ضد إسرائيل هو وقوف ضد الله".
ويقول دوغلاس كريكر "إن الأصوليين الإنجليزيين مثل اليهود والأرثوذكس مغرمون بالأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته".
تقول مؤلفة كتاب عن حيا وزير خارجية بريطانيا بلفور، صاحب الوعد المشهور "إنه كان يؤمن إيماناً عميقاً بالتوراة، ويقرؤها ويصدق بها حرفياً، وإنه نتيجة لإيمانه بالتوراة أصدر هذا الوعد".
ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر "لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة مزيدة، إنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون، ونحن نتقاسم تراث التوراة".
2- النصوص التوراتية التي يؤمن بها النصارى واليهود ويعملون سويا في تحقيقها:
وأما النصوص التي اتفق النصارى واليهود على تحقيقها فهي نصوص التوراة المحرفة (أسفار العهد القديم) التي تعطي اليهود حقاً في ما بين الفرات والنيل كما تجعل من شعب فلسطين عبيداً لأمة بني إسرائيل.
وقد تكررت هذه النصوص من مواطن شتى في التوراة المحرفة منها:
أن نوحاً قال لسام (يعتبره اليهود أباهم): "ملعون كنعان (جد قبائل فلسطين الكنعانية) عبد العبيد يكون لأخويه، فقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم" (سفر التكوين/الإصحاح 9).
ويرى اليهود والنصارى أحقية بني إسرائيل المطلقة بأرض كنعان لأن الله قال لإبراهيم " أقيم عهدي بيني وبينك وبين نفسك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً" (سفر التكوين/الإصحاح 12).
ويرون أن هذا الوعد خاص بأبناء إسحاق دون أبناء إسماعيل.
فقد جاء في التوراة قولها: "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية" (سفر التكوين/الإصحاح17).
وفي نص آخر تقول التوراة: "يدعو اسمه إسحاق وأقيم معه عهداً وأبدياً لنسله من بعده" (سفر التكوين/الإصحاح17).
وتوضح التوراة حدود الأرض التي منحت لنبي إسرائيل "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (سفر التكوين/الإصحاح 15).
ولا يستطيع مؤمن بالتوراة – سواء كان يهودياً أو نصرانياً – إلا أن يعمل لتحقيق هذا الأمر المزعوم، وإلا فلسوف يكون ملعوناً من الله كما زعمت التوراة "كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومبارِكوك مباركين" (سفر التكوين/الإصحاح 27).
يقول القسس جيمي سويجارت: "إن الرب يقول: إنني أبارك من يبارك إسرائيل، وألعن من يلعنها، وبفضل الرب ما زالت الولايات المتحدة متفوقة، وأعتقد أنها لم تبلغ ما بلغت إلا بمساندتها لإسرائيل، وأدعوا الله أن يدوم دعمنا لإسرائيل".
ولذلك يؤيد النصارى استيطان اليهود في فلسطين، ويرون ذلك حقاً دينياً كيف لا والتوراة تقول عن أرض فلسطين "الشعب الساكن فيها مغفور الإثم" (سفر إشعيا/الإصحاح 33) لذا تقول جولد مائير رئيسة وزراء إسرائيل : "من يعيش داخل أرض إسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، وأما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له".
3- اليهود والنصارى ينتظرون قدوم مسيحهم الظافر في فلسطين:
وكما يؤمن النصارى بحق اليهود في فلسطين فإنهم يؤمنون بظهور المسيح ثانية في فلسطين ليقودهم إلى النصر المبين، ويرون أن قيام دولة إسرائيل شرط في رجوع المسيح الذي سيحكم أرض إسرائيل في رجوعه الثاني، فيما يعتبر اليهود أن القادم ليس هو مسيح النصارى بل آخر يأتي لأول مرة.
وفي التبشير بهذا القادم تقول التوراة "يُولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود (عرش فلسطين) وعلى مملكته ليثبتها ولا يعضدها، بالحق والبر، من الآن إلى الأبد، وغيرة رب الجنود تصنع هذا" (سفر إشعيا/الإصحاح التاسع).(/7)
يقول لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا النصراني عن نفسه: إنه صهيوني وإنه يؤمن بما جاء في التوراة في ضرورة عودة اليهود، وأن عودة اليهود مقدمة لعود المسيح".
ويقول حاخام إسرائيلي موجهاً خطابه للنصارى: "إنكم تنتظرون مجيء المسيح للمرة الثانية، ونحن ننتظر مجيئه للمرة الأولى (لأنهم لا يؤمنون بالمسيح عليه السلام)، فلنبدأ أولاً ببناء الهيكل، وبعد مجيء المسيح ورؤيته نسعى لحل القضايا المتبقية سوياً".
وفي المجمع العالمي الثاني للكنائس المسيحية في أفانستون عام 1954م قدم للمجمع تقرير جاء فيه " إن الرجاء المسيحي بالمجيء الثاني للمسيح لا يمكن بحثه عبر فصله عن رجاء شعب إسرائيل الذي لا نراه بوضوح فقط في كتب العهد القديم (التوراة) بل فيما نراه من عون إلهي دائم لهذا الشعب.. إننا نؤمن أن الله اختار شعب إسرائيل لكي يتابع خلاصه للبشرية..
ولذلك فإن شعب العهد الجديد (الإنجيل) لا يمكن أن ينفصل عن شعب العهد القديم (التوراة).
إن انتظارنا لمجيء المسيح الثاني يعني أملنا القريب في اعتناق الشعب اليهودي للمسيحية، وفي محبتنا الكاملة لهذا الشعب المختار".
ويقول المبشر المسيحي أوين "إن إرهابيين يهوداً سينسفون المكان الإسلامي المقدس وسيستفزون العالم الإسلامي للدخول في حرب مقدسة مدمرة مع إسرائيل، ترغم المسيح المنتظر على التدخل".
ويقول رونالد ريجان رئيس أمريكا الأسبق "أجد في التوراة أن الله سيلمُّ شمل بني إسرائيل في أرض الميعاد، وقد حدث هذا بعد قرابة ألفي سنة، ولأول مرة فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدد والمجيء الثاني للمسيح".
ومعركة مجدو هي (المعركة النهائية الفاصلة التي يتوقع النصارى أن ينتصروا فيها واليهود على عدوهم).
4- القول الحق في الوعد المزعوم لليهود:
يؤمن المسلمون بأن الله وعد إبراهيم عليه السلام ببركة واستخلاف في ذريته حين طلب ذلك من الله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } [البقرة:124].
وهكذا كان الوعد الإلهي لإبراهيم في ذريته مشروطاً بالصلاح، وقد تكرر ذلك الشرط عندما طلب من الله أن يرزق أهل بلده الحرام من كل الثمرات {إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} [البقرة:126].
وأكدت الآيات تميز أبناء إبراهيم باعتبار الصلاح والفساد، فتقول عن إسماعيل {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } [الصافات:113].
وعليه نقول : إن الصالحين من ذرية إبراهيم عليه السلام هم الذين يستحقون البركة والاستخلاف، خلافاً لما زعمه اليهود حين زعموا أن لهم امتيازاً على العالمين استحقوه من جهة نسبهم الشريف، وهذه الخصوصية – كما يرون – تجعل من الأرض المقدسة حقاً مشروعاً لهم إلى قيام الساعة، فهم أبناء الله وأحباؤه – زعموا -.
والله تعالى أكذبهم حين قال: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء:105].
فقد كان استخلاف بني إسرائيل في الأرض المقدسة مشروطاً بإقامة منهج الله {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} [الجاثية:17].
ثم تمضي الآيات لتقرر عصيان اليهود وعدم استحقاقهم لاختيار الله واصطفائه، وتقرر انتقال ذلك إلى أمة الإسلام {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية:18-19].
وانتقلت خيرية الله المخولة بالخلافة عنه في أرضه إلى الأمة التي تعبد الله وتقيم دينه وشرائعه {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران:110].
وتمضي الآيات توضح حال بني إسرائيل، والسبب الذي نزع لأجله الاصطفاء منهم فتقول: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران:112].(/8)
وإنا لنعجب لليهود والنصارى وهم يستدلون بنصوص التوراة المحرفة عن الوعد الإلهي لليهود في أرض فلسطين كيف يتغافلون عن نصوص أخرى جاء فيها ما يشير إلى أن الله سيذلهم وسينتقم منهم جزاء انتهاكهم حرمات الله، ولسوف يستبدلهم بأمة أخرى جاهلة فقالت التوراة عن بني إسرائيل "هم أغاروني بغير إله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب، وبشعب جاهل أغضبهم" (سفر التثنية/الإصحاح 32). فأغضبهم الله بأمة العرب وبأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصفهم الله فقال: { ليغيظ بهم الكفار } [الفتح:29].
المنبر(/9)
فن القيادة عند السلف الصالح
سلطان بن محمد الدويش
يزخر تاريخ الأمة الإسلامية بمواقف وقصص، المتأمل فيها يجدها نبراساً في طريقه للإصلاح، ولعلِّي أقدم من خلال هذه السطور نموذجاً من تلك القصص؛ فقد أورد الذهبي في السِّيَر: (عن محمد بن كعب، قال: جمع القرآنَ خمسةٌ: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأُبَيٌّ، وأبو أيوب.ِ
فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان (الأول): إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي برجال يُعلمونهم.
فدعا عمر الخمسة، فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا.
فقالوا: ما كنا لنتساهم؛ هذا شيخ كبير ـ لأبي أيوب ـ وأما هذا فسقيم ـ لأُبيّ ـ فخرج معاذ وعُبادة وأبو الدرداء.
فقال عمر: ابدؤوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يَلْقن؛ فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، ولْيَخْرُجْ واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين.
قال: فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس، أقام بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين)(1).
«وعن مسلم بن مِشكم: قال لي أبو الدرداء: اعدُدْ من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وستمائة ونيِّفاً. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة؛ فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً، فيُحْدِقون به يسمعون ألفاظه»(2).
«وقيل: الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقِّن، وكان أبو الدرداء يطوفُ عليهم قائماً، فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحول إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه ـ»(3).
بعد إيراد هذه القصة لعلك أخي القارئ تتساءل: ما أبرز الفوائد المستنبطة منها؟ فأقول مستعيناً بالله: إن هذه القصة تضيء للإخوة الدعاة والقادة طريقهم نحو الإصلاح؛ ففيها أسلوب التعامل مع الأتباع، وفن توجيه الناس للهدف المراد، وأسس صناعة الصف الثاني في العمل، وغيرها الكثير، وأدعك أخي القارئ العزيز تتأمل بعض ما تم استنباطه(4) من هذه القصة:
1 ـ علاقة القائد مع أتباعه هنا هي علاقة ود واحترام وتقدير؛ حيث نجد ذلك واضحاً في أسلوب طلب يزيد بن أبي سفيان عندما كتب: (إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنِّي برجال يُعلمونهم) حيث أبرز حيثيات الطلب، مع طلب العون في المساهمة لحل هذه القضية. كما نجد وضوح هذه العلاقة في عرض عمر ـ رضي الله عنه ـ على الخمسة، مع علمه بأن هذه المهمة تحتاج إلى مواصفات تنطبق على بعضهم؛ وذلك ليبادر القادرون على أدائها، ولا يُلزِمهم بها؛ كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني». قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله! فأعطاه إياه. وتتضح هذه العلاقة أيضاً في قوله: (فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا) فالقائد هنا يطلب العون من الأتباع، مع دعائه لهم بالرحمة.
2 ـ تهيئة الأتباع لتقبُّل أصعب المهام في الأزمات؛ فالناظر في هذه المهمة التي تتطلب فراق الأهل والأصحاب، يرى أنه بمجرد عرض الموضوع عليهم، بادر ثلاثة بالموافقة على أداء المهمة؛ وهذا يؤكد لنا أنه لا بد من تربية الأتباع لاستقبال المهام الشاقة في الرخاء، حتى إذا أتت المهمة الشاقة في الأزمات، يبادرون لأدائها، ولا يتقاعسون؛ كما في إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب؛ فإنه شاهد على ذلك.
3 ـ رجوع القائد للمصدر الرئيس في القضايا، فنجد عمر ـ رضي الله عنه ـ يرجع في حال إلى القرآن الكريم، وفي حالٍ آخر إلى السنة، وفي أخرى يرجع للمتخصصين ـ كما فعل هنا ـ مع وجود من هو أفضل منهم كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، إلا أنه رجع لهؤلاء الخمسة؛ لأنهم المرجع في هذه المسألة؛ وعليه فإنني أؤكد للقادة أن تكون الاستشارة بناء على الموضوع، وألا يخصصوا مستشاراً واحداً لكل المسائل، بل لكل موضوع أهله.
4 ـ رسم القائد رؤية واضحة، بعد دراسته للواقع وتبيينها لأصحاب المهمة؛ ففي قوله: (ابدؤوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة...) إلى قوله: (والآخر إلى فلسطين)، فكان فقه عمر ـ رضي الله عنه ـ للواقع واضحاً وجلياً، ولذا بدأ بحمص لوجود مشكلة في المنطقة يجب التغلب عليها قبل انتشارها؛ وهنا فسر سبب اختياره هذه المنطقة. إن رسم الخطط الاستراتيجية في العمل، وإطلاع العاملين علبها؛ يساهم في اختصار الجهود والأوقات، وزيادة الحماس للعمل.(/1)
5 ـ توجيه القائد لأتباعه بالبدء لصناعة صف ثانٍ في العمل، وهذه النظرة الثاقبة لعمر ـ رضي الله عنه ـ تؤكد لقادة العمل الخيري أهمية هذا الأمر؛ ولذا رسم لهم سياسة سير العمل، بانتقاء المميزين من الطلاب، كما في قوله: (منهم من يَلْقن(1)؛ فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس). ويأتي التطوير بعد الانتقاء، ثم التقييم، كما في قوله: (فإذا رضيتم منهم)، وهنا نجد اللفتة العمرية المهمة، بأن يكون التقييم جماعياً وليس فردياً. بالإضافة إلى ذلك نجد وضوح أسس التقييم بين القائد والعاملين، وبعدها يتم تفويضهم لإدارة العمل مع بقاء أحد القادة للمتابعة (فليقم بها واحد).
6 ـ القائد يرسم السياسات ويترك التفاصيل للعاملين؛ فعندما رسم خطة صناعة الصف الثاني، كما ذكرنا سابقاً، لم يحدد من يبقى ومن يذهب كما في قوله: (فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين). وفي هذا يقول أحدهم: (القائد ينقش الأهداف على الصخر، والوسائل على الرمل). إن إعطاء الصلاحيات للأتباع بتحديد الوسائل والبرامج، يساهم في زيادة الولاء للمنظمة.
7 ـ تقرير مبدأ الأولويات في العمل؛ فقد وجههم بالمسير إلى حمص ثم دمشق وفلسطين، كما في قوله: (ابدؤوا بحمص).
8 ـ إبقاء عدد من المتخصصين في العمل الأصلي، ولم يستهلك جميع الطاقات؛ لأن المدينة المنورة مركز القيادة والعلم؛ ولذا أبقى اثنين منهم.
9 ـ مراعاة القائد للعامل النفسي للأتباع، وذلك عندما أرسل ثلاثة؛ فهذا سيعطي لهم تسلية وقوة في العمل وأقدر على النجاح؛ حتى يتهيأ لكل واحد أتباع، ثم يفترقوا.
10 ـ السعي للاكتفاء بالموارد الداخلية في المنطقة؛ فإن التأكيد على الانتقال إلى دمشق وفلسطين يدل على أهمية الاكتفاء بأهل المنطقة من الموارد البشرية، وأؤكد على أهمية الموارد المالية؛ فمن المهم أيضاً السعي للاكتفاء بالموارد المالية من المنطقة.
11 ـ ارتباط تعليم القرآن بالفقه بالدين، كما في قوله: (واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم)، قال الضحاك: (حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً) وتلا قوله ـ تعالى ـ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79].
12 ـ استمرار بناء الإنسان لذاته، وألا يكون شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين، كما ذكر مسلم بن مِشكم في قوله: (فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً)، يجب على الدعاة والعاملين في الحقل الخيري أن يستمروا في التعلم؛ ومهما وصل الإنسان إليه من العلم؛ فمطلوب منه الاستمرار؛ فهذا أبو حنيفة قال: (قدمت البصرةَ فظننتُ أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبتُ فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة)(1). وفي دراسة على تسعين قائداً، تحدث هؤلاء القادة بأن أهم صفة للقائد هو التعلم المستمر، والله ـ عز وجل ـ يقول: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]. فكل كائن يكفُّ عن النمو يبدأ في الموت.
13 ـ تقدير حجم العمل وتقسيمه بناء على الموارد المتاحة؛ وذلك عندما قال: (اعدُدْ مَنْ في مجلسنا)، وفي قوله: (ولكل عشرة منهم ملقِّن) .
14 ـ المتابعة من أهم أسس نجاح العمل، كما جاء عن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (أرأيتم إن استعملت خيركم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم! قال: لا؛ حتى أنظر: أعمل بما أمرت، أم لا؟).
15 ـ التدرج في التعلم، كما في قوله: (فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحوَّل إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه)، حيث لم ينشغل أبو الدرداء بالجميع، بل ينتقل إليه من أحكم الحفظ.
أخيراً: فإن السيرة مليئة بالقصص والأحداث؛ فلنستفد منها، ونستخرج الكنوز من أعماقها. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
(ü) باحث ومدرب في العمل الخيري.
(1) نزهة الفضلاء من سير أعلام النبلاء، تأليف: محمد حسن عقيل موسى (مختصر موسوعة سير أعلام النبلاء للذهبي)، (158/4). (2) نزهة الفضلاء (159/3).
(3) نزهة الفضلاء (161/5). (4) تم استنباط عدد من الفوائد، بمشاركة مجموعة من قيادات العمل الخيري، وذلك أثناء حضور دورة صناعة الصف الثاني.
(1) جاء في لسان العرب: (غلامٌ لَقِنٌ: سريعُ الفهم. وفي حديث الهجرة ويَبيتُ عندهما عبدُ الله بن أَبي بكر وهو شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، أَي فَهِمٌ حسَنُ التَّلْقِين لما يسْمَعه. وفي حديث الأُخْدُود: انظروا لي غلاماً فَطِناً لَقِناً).
(1) نزهة الفضلاء (550/3).(/2)
فوائد المرض
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
إن الله تعالى خلق هذا الإنسان وأوجده في هذه الحياة ليبتليه قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) سورة الملك.والابتلاء تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(35) سورة الأنبياء. ومن ذلك الابتلاء بالمرض.
إن كثيراً ممن ابتلاهم الله تعالى بالمرض لجهلهم بفوائد المرض يتسخطون ويشكون ولا يصبرون على ذلك المرض؛ بل إن بعض المرضى الذين ابتلوا بأمراض مستعصية كالسرطان؛بلغ بهم اليأس مبلغاً عظيماً فتجد الواحد منهم قد ضعف صبره وكثر جزعه وعظم تسخطه وانفرد به الشيطان يوسوس له ويذكره بالمعاصي الماضية حتى يقنطه من روح الله، مع أن المريض لا خوف عليه مادام موحداً ومحافظاً على الصلاة، حتى ولو لم يصل إلا لما مرض، فإن من تاب توبة صادقة قبل الغرغرة تاب الله عليه، ولو وقع في كبائر الذنوب، فإنه يرجى لكل من مات من الموحدين ولم يمت على الكفر، ففي الحديث قال-صلى الله عليه وسلم-: (من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق، قال: (وإن زنى وإن سرق) أخرجه البخاري برقم1180، ومسلم برقم94، ويقول-صلى الله عليه وسلم- : (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل) رواه مسلم برقم2877، ويقول-صلى الله عليه وسلم-فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني)أخرجه البخاري برقم6970.
فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد فإن مع العسر يسراً، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، يقول أنس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على شاب وهو في الموت، فقال:(كيف تجدك؟ قال: أرجو رحمة الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال: (لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف)أخرجه الترمذي برقم983 وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم1612، فلا يسيء أحدنا العمل ونحن أصحاء بحجة هذا الحديث، فلعل الموت يأتيك بغتة. وعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بقضاء الله، فإن عاش لم يحرم الأجر، وإن مات فإلى رحمة الله إن شاء الله تعالى. فإذا تقرر هذا كله فلنرى ما هي فوائد المرض العظيمة وما يترتب عليه من مصالح ومنافع قلبية وبدنية.
من فوائد المرض ما يأتي:
1-أنه تهذيب للنفس، وتصفية لها من الشر الذي فيها: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)الشورى:30، فإذا أصيب العبد فلا يقل: من أين هذا، ولا من أين أتيت؟ فما أصيب إلا بذنب، وفي هذا تبشير وتحذير إذا علمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا، أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته)أخرجه مسلم برقم2573، وقال-صلى الله عليه وسلم- : (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة) أخرجه الترمذي برقم2399،وصحح الألباني في الصحيحة برقم2280، فإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن أو المرض، وفي هذا بشارة فإن مرارة ساعة وهي الدنيا أفضل من احتمال مرارة الأبد، يقول بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس1.
2- ومن فوائد المرض: أن ما يعقبه من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف ما يحصل له من المرض، فإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه أبو هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) أخرجه مسلم برقم2956، وأخرج الترمذي عن جابر مرفوعاً: (يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء) أخرجه الترمذي برقم2402 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم5484.
3- ومن فوائد المرض: قرب الله من المريض، وهذا قرب خاص، يقول الله: (ابن آدم، عبدي فلان مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده) رواه مسلم برقم 2569.(/1)
4- ومن فوائد المرض: أنه يعرف به صبر العبد، فكما قيل: لولا الامتحان لما ظهر فضل الصبر،فيمتحن الله صبر العبد وإيمانه به، فإما أن يخرج ذهباً أو خبثاً، والمقصود: أن حظه من المرض ما يحدث من الخير والشر، فعن أنس مرفوعاً: (إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، وفي رواية: (ومن جزع فله الجزع) رواه الترمذي برقم 2396 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم2110،قال الفضيل -رحمه الله-: فإذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه2. وخصوصاً إذا ضيع دينه، فإذا صبر العبد إيماناً وثباتاً كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدث له الرضا كتب في ديوان الراضين، وإن أحدث له الحمد والشكر كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيراً له، أخرج مسلم من حديث صهيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير) أخرجه مسلم برقم2999.
4- ومن فوائد المرض: انتظار المريض للفرج، وأفضل العبادات انتظار الفرج، الأمر الذي يجعل العبد يتعلق قلبه بالله وحده، وهذا ملموس وملاحظ على أهل المرض أو المصائب، وخصوصاً إذا يئس المريض من الشفاء من جهة المخلوقين وحصل له الإياس منهم وتعلق قلبه بالله وحده، وقد ذكر أن رجلاً أخبره الأطباء بأن علاجه أصبح مستحيلاً، وأنه لا يوجد له علاج، وكان مريضاً بالسرطان، فألهمه الله الدعاء في الأسحار، فشفاه الله بعد حين، وهذا من لطائف أسرار اقتران الفرج بالشدة إذا تناهت وحصل الإياس من الخلق، عند ذلك يأتي الفرج، فإن العبد إذا يئس من الخلق وتعلق بالله جاءه الفرج، وهذه عبودية لا يمكن أن تحصل إلا بمثل هذه الشدة {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} يوسف:110.
5- ومن فوائد المرض: أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير، فعن أبي هريرة مرفوعاً:(من يرد الله به خيراً يصب منه) رواه البخاري برقم5321، ومفهوم الحديث أن من لم يرد الله به خيراً لا يصيب منه، حتى يوافي ربه يوم القيامة،
6- ومن فوائد المرض: أن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة والتعرف على الله في الرخاء، فإنه يحفظ له عمله الصالح إذا حبسه المرض، وهذا كرم من الله وتفضل، هذا فوق تكفير السيئات، حتى ولو كان مغمى عليه، أو فاقداً لعقله، ففي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي-صلى الله عليه وسلم-:(ما من أحد من الناس يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه، فقال: اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي) أخرجه أحمد في مسنده برقم6482، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم800.
7-ومن فوائد المرض: أن يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وصحته، فإنه إذا تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى فلا يعرف مقدار النعمة، فلولا المرض لما عرف قدر الصحة، ولولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا هذه الأضداد لما عرفت كثير من النعم، {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}البقرة:216.
ومن ذاق ألم الأمراض عرف بعد ذلك قيمة الصحة، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين يا أرحم الراحمين. والحمد لله رب
-------------
1- صفوة الصفوة (4/38).
2 -حلية الأولياء ( 8/88).(/2)
فوائد الوضوء والطهارة الصحية ...
أهمية الطهارة
الاستنجاء
الاغتسال
الوضوء
قال تعالى: [ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا] (المائدة 6).
كما قال في سورة التوبة: [ فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين] (التوبة 108)
وقال سبحانه وتعالى: [ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ] (البقرة 222)
ويقول جل وعلا [ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به] (الأنفال 11)
كما قال في أول سورة المدثر: [ يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر]
وهكذا تكرر في القرآن الكريم تأكيد الخالق الحكيم سبحانه وتعالى على قيمة الطهارة بين عباده ،وجعلها واجبة على كل المسلمين في الوضوء لخمس صلوات في اليوم هي الفرائض، هذا غير النوافل، كما أنه جل وعلا افترض الغسل الشرعي لتطهير الجسد في مناسبات عدة للرجال والنساء، ويكفي بيانا لأهمية الطهارة في الإسلام أن أولى خطوات الدخول إلى الإسلام أن يغتسل المرء ثم يتلفظ بعد الغسل بالشهادتين.
وقد روي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطهور شطر الإيمان ". وروي الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: " طهروا هذه الأجساد طهركم
الله ". ولم يكتف الإسلام بالاهتمام بالطهارة للإنسان نفسه فقط بل اهتم بطهارة المجتمع بشكل عام. وكمثال على هذا ما رواه الطبراني عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبال في الماء الجاري". وعلى هذا فإن التبول في الماء الراكد أشد نهيا وتحريما، وقد تبين أن كثيرا من الأوبئة مثل الكوليرا والتيفود وشلل الأطفال والتهاب الكبد المعدي تنتقل عن طريق الماء وتعيش فيه، فكان النهي هنا واجبا لصحة الناس ومنع العدوى من تلك الأمراض،
ولأهمية الطهارة في الإسلام سر لطيف، يعيننا على إدراك قدرها، والسر في هذا هو أن هذا الدين يعلي من قدر أتباعه حين يقولون سمعنا وأطعنا، فيصيبهم من خير الأعمال الصالحة التي يتقربون بها إلى الله، والمسلم حين يتطهر إرضاء لله فإن الله يتم نعمته عليه فيسمو بنفسه وروحه، ويأخذه إلى آفاق من الطهر والنور، ويشبع أشواقه إلى السكينة والطمأنينة والهدوء النفسي بما لا تستطيع فعله كل عقاقير الأرض الكيماوية.
عن جابر رضي الله عنه في سبب نزول قول الله تعالى: [ فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم ؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، فقال: ذاكم فعليكموه "
الاستنجاء
لقد فطر الله جل وعلا الإنسان وجبله على أن يتخلص أولا بأول مما في أمعائه وفي مثانته من غائط وبول وغيرهما من نفايات الجسم، حتى يظل الجسم الإنساني في حالة من النقاء والصحة والقدرة على أداء الوظائف الطبيعية والحيوية التي يقوم بها.
وبعد عملية التخلص تلك فإنه يجب على المسلم أن ينظف هذه الأماكن بالماء، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تنزهوا من البول فإنه عامة عذاب القبر منه" متفق عليه، ومعنى التنزه هو التطهر والاستنجاء. ولهذه العملية فائدة طبية وقائية عظيمة، فقد أثبت الطب الحديث أن النظافة الذاتية لتلك الأنحاء تقي الجهاز البولي من الالتهابات الناتجة عن تراكم الميكروبات والجراثيم ، كما أنها تقي الشرج من الاحتقان ومن حدوث الالتهابات والدمامل، وفي حالة المرضى خصوصا مرضى السكر أو البول السكري فلأن بول المريض يحتوي على كمية كبيرة من السكر، فإذا بقيت آثار البول فإن هذا يجعل العضو عرضة للتقيح والالتهابات، وقد تنتقل الأمراض في وقت لاحق إلى الزوجة عند الجماع، وقد يؤدي إلى عقم تام.
كذلك استن الإسلام استعمال اليد اليسرى لإزالة النجاسة، حتى تظل اليد اليمنى المخصصة للطعام طاهرة نظيفة، وكذلك اشترط غسلها بعد التطهر، وقد يعجب البعض من اهتمام الإسلام حتى بهذه الأمور، ولكن لا عجب لمن يعرف لهذا الدين قدره، ومن يؤمن أنه الدين الذي أتمه الله وأكمله منهاجا أبديا للبشر إلى قيام الساعة، منهاجا لا يحمل إلا الخير لعباده المسلمين [ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ] (المائدة 3)
*
حدث غريب في إنجلترا:
في عام 1963 في دولة إنجلترا وبالتحديد في مدينة "داندي" حدث أن انتشر مرض التيفود بشكل عاصف مما أصاب السكان بالذعر الشديد، وبذل الجميع طاقاتهم في محاولات شتى لوقف انتشار المرض، وفي النهاية اتفق العلماء على إذاعة تحذير في مختلف وسائل الإعلام يأمرون الناس بعدم استعمال الأوراق في دورات المياه، واستبدالها باستخدام المياه مباشرة في النظافة وذلك لوقف انتشار العدوى.(/1)
وبالفعل استجاب الناس، وللعجب الشديد توقف فعلا انتشار الوباء وتمت محاصرته، وتعلم الناس هناك عادة جديدة عليهم بعد معرفة فائدتها، وأصبحوا يستخدمون المياه في النظافة بدلا من المناديل الورقية، ولكننا لسنا متأكدين ماذا يقول هؤلاء لو علموا أن المسلمين يفعلون هذا من أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ليس لأن التيفود تفشى بينهم ولكن لأن خالق التيفود وغيره من الأمراض أمرهم بكل ما يجلب لهم الصحة والعافية فقالوا سمعنا وأطعنا [ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ] (الملك 14)
أهمية الاغتسال:
يقول تعالى: [ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ] (النساء 43)
ويقول جل وعلا آمرا نبيه أيوب: [ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب] (سورة ص 42)
لقد اكتشف الإنسان على مدار التاريخ الأهمية العظمى لتنظيف بدنه عن طريق الاغتسال وعالج به كثيرا من الأمراض، ولكن لم يعرف التاريخ أمة جاء لها تنظيم لهذا الأمر أعظم من ذاك التنظيم الذي كرم به الله أمة الإسلام؛
فالمسلمون كما أمرهم الخالق الحكيم سبحانه وتعالى يجب أن يغتسلوا مع دخولهم هذا الدين لأول مرة وحتى قبل نطق شهادتي أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويجب أن يغتسلوا بعد كل مباشرة زوجية، وكذلك في صباح كل يوم جمعة وصباح العيدين ؛ وكذلك تغتسل المرأة بعد المحيض حتى تطهر، بل إنه يسن الغسل بين الجماعين كما جاء في صحيح مسلم: " إذا جامع أحدكم وأراد أن يعاود فعليه بالطهارة فإن ذلك أنشط " والحكمة في هذا أن الاستحمام يجدد النشاط للجسم والعقل ويعيد النظافة والتألق ويجعل المرء في أكمل حالاته النفسية والجسمية.
معلومات هامة عن الاغتسال:
- الاغتسال بالماء الساخن: الاغتسال بالماء الساخن وحمامات البخار يعمل على تفتح مسام الجسم جميعها، ويؤدي هذا بالتبعية إلى تنفس خلايا الجسم بشكل طبيعي، ومعروف أن خلايا جسم الإنسان تحتاج إلى عملية التنفس مثلها مثل أي كائن حي، وكذا يجدد الاغتسال بالماء الساخن الخلايا التالفة والمتهالكة فيكتسب الجسم النشاط والحيوية، وتهدأ الأعصاب، ولو كان الحمام الساخن في الليل فإنه يساعد على النوم الطبيعي العميق، والحمام الساخن يقلل من احتمالات الإسهال لأنه يعين على الهضم الجيد.
-الاغتسال بالماء البارد: الاغتسال بالماء البارد يجعل جميع خلايا الجسم بما فيها من شرايين وأوردة تعاود الانكماش بعد التمدد، وهذا يساعدها على اكتساب المرونة اللازمة التي تقيها الكثير من أمراض القلب والدورة الدموية؛ مما ينشط التنفس ويزيد من احتمالات اعتدال النبض والضغط، والحمام البارد يفيد لمن كان بدنه نشيطا ولا يعاني من مشكلات في الهضم، ويمكن أن يستعمل بعد الماء الساخن لتقوية البشرة وإمداد الجسم بالحيوية والنشاط، على ألا يكون الماء شديد البرودة. ولا يستعمل الحمام البارد عقب الجماع أو عقب الطعام مباشرة لما يسببه من أخطار.
- الاغتسال مع التدليك: والاغتسال مع التدليك يجدد نشاط الجسم بشكل مدهش، ويجدد الحيوية باستمرار ويساعد على النوم الصحي العميق، وكذا ينبه الحواس وينشط الدورة الدموية ويساعد على تخفيف العبء الواقع على القلب. ويستحسن الاغتسال باستعمال زيت الزيتون مع التدليك عقب ممارسة الرياضة.
الوضوء سلاح المؤمن:
قال تعالى: [ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون]
(المائدة 6)
إن الوضوء ليس مجرد تنظيف للأعضاء الظاهرة، وليس مجرد تطهير للجسد يتوالى عدة مرات في اليوم، بل إن الأثر النفسي والسمو الروحي الذي يشعر به المسلم بعد الوضوء لشيء أعمق من أن تعبر عنه الكلمات ، خاصة مع إسباغ الوضوء وإتقانه.
فللوضوء دور كبير في حياة المسلم، وهو يجعله دائما في يقظة وحيوية وتألق، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت الخطايا من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره"، وعنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن أبي أمامة: " من توضأ فأسبغ الوضوء وغسل يديه ووجهه ومسح على رأسه وأذنيه ثم قام إلى صلاة مفروضة غفر له في ذلك اليوم ما مشت إليه رجلاه وقبضت عليه يداه وسمعت إليه أذناه ونظرت إليه عيناه وحدث به نفسه من سوء "
الوضوء وأسراره الثمينة:(/2)
إن عملية غسل الأعضاء المعرضة دائما للأتربة من جسم الإنسان لا شك أنها في منتهى الأهمية للصحة العامة، فأجزاء الجسم هذه تتعرض طوال اليوم لعدد مهول من الميكروبات تعد بالملايين في كل سنتيمتر مكعب من الهواء، وهي دائما في حالة هجوم على الجسم الإنساني من خلال الجلد في المناطق المكشوفة منه، وعند الوضوء تفاجأ هذه الميكروبات بحالة كسح شاملة لها من فوق سطح الجلد، خاصة مع التدليك الجيد وإسباغ الوضوء، وهو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك لا يبقى بعد الوضوء أي أثر من أدران أو جراثيم على الجسم إلا ما شاء الله.
-المضمضة: أثبت العلم الحديث أن المضمضة تحفظ الفم والبلعوم من الالتهابات وتحفظ اللثة من التقيح، وكذا فإنها تقي الأسنان وتنظفها بإزالة الفضلات الغذائية التي تبقى بعد الطعام في ثناياها، وفائدة أخرى هامة جدا للمضمضة، فهي تقوي بعض عضلات الوجه وتحفظ للوجه نضارته واستدارته، وهو تمرين هام يعرفه المتخصصون في التربية الرياضية، وهذا التمرين يفيد أيضا في إضفاء الهدوء النفسي على المرء لو أتقن تحريك عضلات فمه أثناء المضمضة.
- غسل الأنف: أظهر بحث علمي حديث أجراه فريق من أطباء جامعة الإسكندرية أن غالبية الذين يتوضئون باستمرار قد بدا أنفهم نظيفا خاليا من الأتربة والجراثيم والميكروبات، ومن المعروف أن تجويف الأنف من الأماكن التي يتكاثر فيها العديد من هذه الميكروبات والجراثيم، ولكن مع استمرار غسل الأنف والاستنشاق والاستنثار بقوة - أي طرد الماء من الأنف بقوة - يحدث أن يصبح هذا التجويف نظيفا خاليا من الالتهابات والجراثيم، مما ينعكس على الحالة الصحية للجسم كله، حيث تحمي هذه العملية الإنسان من خطر انتقال الميكروب من الأنف إلى الأعضاء الأخرى في الجسم.
- غسل الوجه واليدين: ولغسل الوجه واليدين إلى المرفقين فائدة كبيرة جدا في إزالة الأتربة والميكروبات فضلا عن إزالة العرق من سطح الجلد، كما أنه ينظف الجلد من المواد الدهنية التي تفرزها الغدد الجلدية، وهذه تكون غالبا موطنا ملائما جدا لمعيشة وتكاثر الجراثيم.
- غسل القدمين: أما غسل القدمين مع التدليك الجيد فإنه يؤدي إلى الشعور بالهدوء والسكينة، لما في الأقدام من منعكسات لأجهزة الجسم كله، وكأن هذا الذي يذهب ليتوضأ قد ذهب في نفس الوقت يدلك كل أجهزة جسمه على حدة بينما هو يغسل قدميه بالماء ويدلكهما بعناية. وهذا من أسرار ذلك الشعور الطاغي بالهدوء والسكينة الذي يلف المسلم بعد أن يتوضأ.
- أسرار أخرى: وقد ثبت بالبحث العلمي أن الدورة الدموية في الأطراف العلوية من اليدين والساعدين، والأطراف السفلية من القدمين والساقين أضعف منها في الأعضاء الأخرى لبعدها عن المركز المنظم للدورة الدموية وهو القلب، ولذا فإن غسل هذه الأطراف جميعا مع كل وضوء ودلكها بعناية يقوي الدورة الدموية، مما يزيد في نشاط الجسم وحيويته. وقد ثبت أيضا تأثير أشعة الشمس ولا سيما الأشعة فوق البنفسجية في إحداث سرطان الجلد، وهذا التأثير ينحسر جدا مع توالي الوضوء لما يحدثه من ترطيب دائم لسطح الجلد بالماء، خاصة تلك الأماكن المعرضة للأشعة، مما يتيح لخلايا الطبقات السطحية والداخلية للجلد أن تحتمي من الآثار الضارة للأشعة.
...(/3)
فوائد من أحاديث الدجال
" سلمان بن يحي المالكي "
ظهور الدجال أحد أشراط الساعة الكبرى، وأعظم الفتن منذ خلق الله آدم ـ عليه السلام ـ إلى قيام الساعة ، قد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه في أكثر من ثلاثين موضعاً؛ مبيناً خطره تارة، ومحذراً منه حيناً، وذاكراً طرق السلامة منه تارة أخرى،وحديثنا هذه الليلة عن بعض الفوائد الواردة في أحاديث الدجال المنتقاة من فعل وقول الهادي البشير صلى الله عليه وسلم . وقبل الشروع في ذكرها لعلنا نقف على الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن الكريم، ولعل أحسن ما قيل في ذلك ما ساقه الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في فتح الباري (13/98) حيث قال: "وأجيب بأجوبة :
أحدها: أنه ذُكر في قوله :{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الأنعام:158، فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ رفعه " ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها".
الثاني : قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى عليه السلام في قوله ـ تعالى: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} النساء: 159، وفي قوله ـ تعالى (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) الزخرف: 61، وصح عنه أنه الذي يقتل الدجال، فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب: (المسيح) كعيسى عليه السلام؛ لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى عليه السلام مسيح الهدى.
الثالث : أنه ترك ذكره احتقاراً.
فوائد في التعامل مع الفتن :
1 ـ التزود بالطاعات والإكثار من الأعمال الصالحة حصن حصين من الفتن وزاد قوي في التصدي لها عند حلولها. عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال ستاً(اجتهدوا في الأعمال وسابقوا إليها) طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم (الموت كما في شرح مسلم للنووي) أو أمر العامة (القيامة كما في شرح مسلم للنووي)"( رواه مسلم ح 2947). فأوصى صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد في الأعمال الصالحة؛ بل والمسابقة إليها قبل حلول وقت الفتن . وذكر ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الفتح 13/98) ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه أنه "يخرج ـ يعني الدجال ـ في نقص من الدنيا وخفة من الدين وسوء ذات البين فيرد كل منهل، وتطوى له الأرض". فانظر ـ رعاك الله ـ إلى ضعف الدين وقلته في وقت خروجه.
2 ـ الحث على الائتلاف بين المسلمين وترك الخلاف والنزاع والفرقة ، وأن الفتنة أعظم في وقت الخلاف منها في وقت الائتلاف . ويشهد لهذه الفائدة الحديث السابق الذي رواه الحاكم، وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: "إن الأعور الدجال مسيح الضلالة يخرج من قِبَلِ المشرق في زمان اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض أربعين يوماً.."( رواه ابن حبان بإسناد صحيح، ح (موارد الظمآن 1904).
3 ـ الحذر والتحذير من الفتن قبل وقوعها . وهذا ظاهر في كل الأحاديث التي تحدثت عن الدجال، بل إن الأنبياء كل الأنبياء حذروا أممهم منه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال "ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب..."( رواه البخاري ح 31/7 ورواه مسلم ح 2933) .
4 ـ عدم الانخداع بالمظاهر خصوصاً وقت الفتن، بل وتحذير الناس من ذلك . ونلحظ ذلك في المظاهر الخادعة التي تصاحب الدجال، ومن ذلك : أن معه جنة وناراً، وأنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت(ستأتي أحاديث تدل على شيء من مظاهره الخادعة للعيان) ـ لكن كل هذا ـ بإذن الله تعالى ـ، ولو تمعن المتمعن لما انخدع.
5 ـ ضرورة الابتعاد عن مواضع الشبهات والفتن، وألا يعتقد المرء أنه على قدرة في مواجهة الشبهات والفتن، وخصوصاً مع قلة العلم والدين . عن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من سمع بالدجال فَلْينأَ عنه( أي يبتعد ) فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات"( رواه أحمد 4/431).
6 ـ لا يكفي تحذير الناس من الفتن ؛ بل الواجب توضيح السبل للخلاص منها . وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من السبل للخلاص من الدجال؛ ومنها:
أ ـ قراءة فواتح سورة الكهف: قال صلى الله عليه وسلم: "... فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف"( رواه مسلم ح 832) .(/1)
ب ـ قال صلى الله عليه وسلم " لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما: رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه؛ فإنه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين عليه ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: (كافر) يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب"( رواه مسلم ح 2934).
ج ـ التعوذ منه : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال"( صحيح البخاري، ح 832).
7 ـ الفتنة ليست شراً محضاً، نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عن العلماء أنهم قالوا "هذا من جملة فتنته التي امتحن الله ـ تعالى ـ به عباده ليحق الحق ويبطل الباطل، ثم يفضحه ويظهر للناس عجزه"( شرح مسلم ص 7188).
8 ـ الحق لا بد أن ينتصر وتُنهى الفتن ويظهر الحق، وهذه أعظم فتنة تمر على البشرية ثم تنتهي، وينزل عيسى عليه السلام ليهلك الدجال، كما ثبت في صحيح مسلم "... يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين... فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه.."( صحيح مسلم ح 2940).
9 ـ أهمية العلم الشرعي في مواجهة الفتن، فالمؤمن الذي يكشف زيف الدجال وكذبه مسلم متمسك بالعلم الشرعي المبني على الدليل الشرعي؛ لذا تجده يخاطب الدجال بلهجة الواثق كما في صحيح البخاري"... فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه..."( صحيح البخاري ح 7132) . فهو نَسَبَ عِلْمَهُ بالدجال لعلمه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم العلم الشرعي.
10 ـ ويتبع القاعدة الماضية سؤال أهل العلم عما أشكل وخصوصاً وقت الفتن . ومن ذلك ما تكرر من أسئلة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عن هذه الفتنة. فقد جاء في الحديث الذي ( رواه مسلم ح 2137) "... قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال "لا. اقدروا له قدره". قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض..." الحديث. ومن هذا الحديث أيضاً نرى حرص الصحابة على الصلاة وإقامتها في وقتها.
11 ـ الكثرة ليست دائماً دليلاً على الحق، والدجال باعتباره فتنةً عظيمة سيتبعه أناس كثيرون؛ فهل نقول إنه على الحق ؟ لا، بالطبع؛ فعلى المسلم أن يلزم الحق ولو كان وحده وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة"( رواه مسلم ح 2944). قال ابن حجر في الفتح (13/98) وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد ثقات التابعين في الحلية بسند حسن صحيح إليه قال: "لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة "وهذا لا يقال من قِبَلِ الرأي؛ فيحتمل أن يكون مرفوعاً أرسله، ويحتمل أن يكون من بعض أهل الكتاب.
فوائد وقواعد في الدعوة:
1 ـ التأكيد على أمور العقيدة من أهم المهمات:
وهذا يتضح من أحاديث الدجال في التركيز على عدة مهمات عقدية منها:
أ ـ غرس توحيد الأسماء والصفات: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور"( رواه البخاري ح 7131).
ب ـ إثبات رؤية الله ـ تعالى ـ في الآخرة وعدم رؤيته في الدنيا: روى الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس وهو يحذرهم فتنة الدجال: "تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه ـ عز وجل ـ حتى يموت"( المسند 5/433).
ج ـ حسن الظن بالله ـ جل جلاله : روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة أنه قال: ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: "ما يضرك منه؟" قلت: لأنهم يقولون: إن معه جبلَ خبزٍ ونهر ماء. قال: "بل هو أهون على الله من ذلك"( البخاري ح 7122). قال النووي ـ رحمه الله ـ: قال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ: المعنى: وهو أهون على الله من أن يجعل ما خلقه الله ـ تعالى ـ على يده مضلاً للمؤمنين ومشككاً لقلوبهم؛ بل إنه جعله له ليزداد الذين آمنوا إيماناً، ويثبت الحجة على الكافرين والمنافقين ونحوهم، وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك(شرح مسلم 5/795).
د ـ عظم التوكل على الله والالتجاء إليه :
قال صلى الله عليه وسلم: "إن من بعدكم الكذاب المضل، وإن رأسه من بعده حُبُكٌ حُبُكٌ حُبُكٌ(متكسر من الجعودة) ثلاث مرات، وإنه سيقول: أنا ربكم، فمن قال: لستَ ربنا؛ لكن ربنا الله عليه توكلنا وإليه أنبنا نعوذ بالله من شرك لم يكن له عليه سلطان"( رواه أحمد 22648).
2 ـ أن يعطي كل أمر حقه من العناية :(/2)
فينبغي أن يُحذَّر من الأمر الخطير بطريقة تختلف عن الأمر الأخف خطورة، وينبغي الأمر بالواجبات والفرائض بطريقة تختلف عن الحث على المسنونات والمستحبات، وللأسف فإن بعض الناس ـ هداهم الله ـ يجعل المكروه محرماً أثناء النهي، أو يجعل الصغيرة كبيرة، بل يتعدى بعضهم ذلك وذاك إلى أن يجعل أحد خوارم المروءة من المحرمات. وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحذر من الدجال بطرق وأساليب مختلفة متنوعة، ولماذا؟ لأن الدجال فتنة عظيمة! أي عظيمة! فهو يدَّعِي الربوبية، بل يظهر له من الفتن الشيء العظيم، ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم! فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه يقولان له: يا بني اتبعه؛ فإنه ربك. وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، ويمر بالحي فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبت، فتمطر حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظم، وأمده خواصر، وأدره ضروعاً"( رواه ابن ماجه ح 4075).
3 ـ لا بد من التوضيح والبيان وقت الحاجة : لذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الدجال وصفاً دقيقاً في أكثر من حديث بينت صفته وأفعاله وكذبه، وما يحتاجه المسلم لمواجهته، ومن أشملها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنذرتكم فتنة الدجال؛ فليس نبي إلا أنذر قومه أو أمته، وإنه آدَمُ، جعدٌ، أعور عينه اليسرى، وإنه يمطر ولا ينبت الشجرة، وإنه يسلط على نفس فيقتلها ثم يحييها ولا يُسلط على غيرها وإنه معه جنة ونار ونهر وماء وجبل خبز، وإن جنته نار وناره جنة، وإنه يلبث فيكم أربعين صباحاً يرد فيها كل منهل إلا أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والطور، ومسجد الأقصى، وإن شكل عليكم أو شُبِّه، فإن الله ـ عز وجل ـ ليس بأعور"( مسند الإمام أحمد 5/434).
4 ـ الصبر والثبات على الحق؛ لا سيما مع ظهور الفتنة : وانظر إلى ذاك الرجل المؤمن الثابت الذي ما زاده فرقُه له فرقتين إلا بصيرة به وتكذيباً. ففي صحيح مسلم: "فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فيؤشر بالمئشار(المنشار ) من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم فيستوي قائماً. قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة"(صحيح مسلم ح 7243). قال النووي ـ رحمه الله ـ نقلاً عن القاضي عياض: "فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره"( شرح مسلم ، ص 7187).
5 ـ الاهتمام بالنساء في الدعوة، والتأكيد على تعليمهن العلم الشرعي :
والمرأة إذا لم تُرشد للخير فقد تنساق مع الشر، ومع قلة الدين في زمن ظهور الدجال تجد أن أكثر أتباعه النساء اللاتي يغتررن بالمظاهر والفتن والشبهات. أخرج الإمام أحمد عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيكون أكثر من يخرج إليه النساء حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه"( مسند الإمام أحمد 2/67).
6 ـ الارتباط بالقرآن الكريم قراءة وحفظاً وحث الناس على ذلك : عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال"، وفي رواية: "من قرأ" الحديث (رواه مسلم ح 809) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/3)
فوائد من حادثة الإسراء والمعراج
4561
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
خالد بن الوليد
ملخص الخطبة
فوائد وعبر من حادثة الإسراء والمعراج
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن حادثة الإسراء والمعراج اشتملت على كثير من الفوائد والعبر، وهذه بعضها:
1- لما كان بيت المقدس مُهَاجَر كثير من أنبياء الله تعالى كان الإسراء بنبينا إليه؛ ليجمع له بين أشتات الفضائل. ومن حكم ذلك أن يعلم أن هذه الأمة المحمدية أولى بهذا البيت من غيرهم، ولكن بسبب إعراضنا عن شرع ربنا ضاع بيت المقدس منّا.
وإن من البشارات النبوية التي يحسن التنويه إليها هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَد؛ فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم.
2- كان الذهاب بالنبي إلى بيت المقدس ليلاً؛ لأنه زمن يأنس فيه المسلم بالله، منقطعًا عن الدنيا وشواغلها.
3- لما ذكر الله تعالى الإسراء نعت النبي بالعبودية فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]. ومن تأمل القرآن الكريم يجد أن الله تعالى نعت نبيه بنعت العبودية في أسمى أحواله وأرفع مقاماته، ففي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، ولما ذكر إنزال الكتاب عليه قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف:1]، وقال مخبرًا عن الوحي إليه: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال عن جميع المرسلين: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171، 172]. فالعزّ كل العزّ في أن تكون عبدًا لله تعالى.
4- اختلف العلماء في تأريخ الإسراء والمعراج اختلافًا عظيمًا، فذكر الإمام القرطبي المالكي رحمه الله في التفسير خمسة أقوال[1]، وذكر السيوطي رحمه الله لذلك خمسة عشر قولاً[2]. وهذه فائدة تتفرّع عنها الفائدة التالية:
5- أنه لا يشرع للإنسان أن يخص ليلة المعراج بقيام من بين الليالي، ولا نهارها بصيام من بين الأيام؛ إذ لو كان ذلك من الشرع في شيء لما اختُلِف في تحديدها هذا الاختلاف، إذ كيف تُشرَع عبادة في ليلة لا نص في تحديدها ألبتة، وإنما هي أقوال دون إثباتها خَرْطُ القَتَاد. قال ابن رجب الحنبلي: "و أما الإسراء فقيل: كان في رجب، و ضعّفه غير واحد"[3].
ولا يستشكلنّ أحد أن ليلة القدر لم تُحدَّد؛ لأنها في وتر العشر الأواخر من رمضان كما دلت عليه النصوص الصحيحة، وأما الليلة الموافقة لليلة الإسراء والمعراج فلا يصح في تحديدها إلا قول من قال: هي في إحدى ليالي العام. وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن أن يرتب الشرع عبادة عليها؟!
ثم إنه ينبغي أن نفرق بين فعل العبادة وبين تخصيصها بزمان أو مكان، فالذي اعتاد أن يصوم صومًا لو وافق صومه ليلة المعراج ـ لو فرضنا أن تأريخها معلوم ـ فله أن يصومها، لا لكونها ليلة المعراج، وإنما لكون صومه وافق ذلك، وهكذا قل في شأن القيام. أما أن يخص الإنسان ليلة أو يومًا بقيام أو صيام لم يدل الشرع على تخصيصها فهذا مما لا يُشرَع.
ومن الأدلة على التفريق بين فعل العبادة وبين تخصيصها بزمان أو مكان قول النبي : ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) أخرجه مسلم. فالنبي لا ينهى عن عبادة الصيام والقيام، وإنما ينهى عن تخصيص العبادة بيوم لم يشهد له الشرع باعتبار، ونحن لا ننهى عن الصيام والقيام، وإنما ننهى عن تخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بذلك.
6- من الواجب اعتقاده أن الإسراء والمعراج كان بجسد النبي وروحه، لا بروحه فقط؛ لما يلي:
ـ لأن هذا هو الذي يتماشى مع ظاهر النصوص، وليس من دليل يصرف هذه النصوص عن ظاهرها.
ـ ركوبه للبُرَاق، وهي دابة فوق الحمار ودون البغل. ولو كان الإسراء بروحه لم يكن من حاجة للركوب.
ـ قوله تعالى: أَسْرَى بِعَبْدِهِ ، فلو كان الإسراء بروحه لقال: روح عبده.
ـ لو كان بروحه لما كذبته قريش؛ فإن عقولهم لا تنكر أن الأرواح قد تجوب الآفاق في لحظة.
ـ قول الله تعالى: وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54].
7- أن أفضل الأنبياء نبينا ؛ لأنه تقدم عليهم وصلّى بهم، وبلغ في المعراج مبلغًا لم يبلغه أحد منهم. وهذا مما لا ينازع فيه أحد.(/1)
8- بعض الناس ـ هداهم الله ـ يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج، وقد اصطلحوا على أنها ليلة السابع والعشرين من رجب! وفي تقديري أنه لو كان لا بد من إبداء المشاعر لكان إبداء مشاعر الحزن أولى من إظهار الابتهاج والفرح؛ ذلك لأن النبي أسري به إلى بيت المقدس، فأين بيت المقدس الآن؟!
ثم إنا نستسمح المحتفلين أن نسأل سؤالاً: هل احتفل النبي وأصحابه بهذه الليلة؟ فإن قالوا: نعم قلنا: هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وإن قالوا: لا قلنا: ((أحسن الهدي هدي محمد )) أخرجه البخاري. فليسعنا ما وسع رسول الله وأصحابه.
9- لقي النبي في السماء الأولى: آدم، وفي الثانية: عيسى ويحيى، وفي الثالثة: يوسف، وفي الرابعة: إدريس، وفي الخامسة: هارون، وفي السادسة: موسى، وفي السابعة: إبراهيم عليهم صلوات الله وتسليماته.
والحكمة في اختيار هؤلاء الأنبياء ـ والله أعلم ـ أنه بمقابلة آدم عليه السلام يتذكر أنه أُخرِج من موطنه وعاد إليه، فيتسلّى بذلك إذا أخرجه قومه من موطنه. وأما عيسى ويحيى عليهما السلام فلِما لاقاه من شدة عداوة اليهود، وهذا أمر سيلقاه النبي في مدينته. وأما يوسف فلِما أصابه من ظلم إخوته له، فصبر عليهم، وقد طرد أهل مكة النبي ، وأرادوا قتله. وأما إدريس فلرِفْعة مكانه التي تَشْحَذ الهمة لنيل أعلى الدرجات عند رب السماوات. وأما هارون فلأن قومه عادوه، ثم عادوا لمحبته. وأما موسى فلشدة ما أوذي به من قومه، حتى إن نبينا قال في ذلك: ((يرحم الله أخي موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي ملاقاة إبراهيم عليه السلام في آخر السماوات مُسنِدًا ظهره للبيت المعمور إشعار بأنه سيختم عمره الشريف بحج البيت العتيق.
10- أن الهداية بيد الله، وأن من حجبها الله عنه فلن تجد له هاديًا ونصيرًا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لقد رأيتني في الحِجْر وقريش تسألني عن مَسْرَاي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به)) أخرجه مسلم. ومع ذلك كذّبوه وسفّهوا كلامه، بل ارتد بعض ضعاف الإيمان.
11- وفي قصة المعراج أن جبريل كان يستفتح أبواب السماء، فيقال له: من؟ فيقول: جبريل. ففيه دليل على أن المستأذن إذا قيل له: من؟ سمى نفسه بما يعرَف به، ولا يقول: أنا، وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي في دَيْن كان على أبي فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا!)) كأنه كرهها. أخرجه البخاري ومسلم.
12- وجد النبي أبواب السماء مغلقة وكانت تفتح لهما، وفي هذا من الإكرام له ما لا يخفى؛ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها كذلك[4].
13- حديث المعراج دليل من مئات الأدلة التي تدل على علو الله تعالى على جميع مخلوقاته؛ فقد رأى النبي حجابه بعد السماء السابعة.
14- وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ [المدثر:31]، فقد أخبر النبي بأن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه. فعدد ملائكة الرحمن لا يحيط به إلا هو سبحانه.
15- قبح الغيبة وبيان عاقبة أهلها، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يَخْمِشُون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) أخرجه أبو داود.
16- ومن دروس المعراج إثبات عذاب البرزخ للحديث السالف. وفي بعض طرق قصة المعراج ذكر لبعض المعذبين، إلا أن علماءنا طعنوا فيها؛ ولذا أعرضت عنها.
17- الحادثة بجملتها فيها تسلية للنبي بعدما امتلأت جوانب حياته بسحائب الكآبة والأحزان، فكانت هذه الحادثة التي اضمحلّت أمامها تلال الغموم الناتجة من ازدراء قومه له وتكذيبه. إن المرء إذا أراد أن يقنع الناس بمبدأ معين وتصدى أهله وعشيرته لتكذيبه والنيل منه بسبب ذلك واجه من الأحزان قدرًا لا يحيط به إلا الله تعالى؛ لأن باقي الناس ممن ليسوا بأهله أولى بتكذيبه واستهجان طرحه.
وظلم ذوي القُرْبَى أشدُّ مَضَاضَةً على الْمرء من وَقْعِ الْحُسَامِ المُهَنَّدِ
ومن هذا يستفاد أن مع العسر يسرًا، وأن من الضيق فرجًا، وبالشدة رخاءً.
18- مكانة الصلاة في دين الإسلام، فإن الله اختصها بأن فرضها على نبيه بلا واسطة.
19- أكثر أمة يدخلون الجنة الأمة المحمدية، فإن النبي لما أراد مفارقة موسى عليه السلام إلى السماء السابعة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. أخرجه البخاري ومسلم.
20- بركة النصح للمسلمين؛ فإنه بسبب نصح موسى لنبينا خفف الله عنه الصلاة المفروضة إلى خمس صلوات.(/2)
21- أن الله تعالى كلم نبينا كما كلم موسى عليه السلام، والذي يقف على الخصائص المحمدية على صاحبها أزكى صلاة وأتم سلام يعلم أن الله أكرمه بالآيات التي أُكرِم بها كثير من الأنبياء قبله، وزاده خصائص لم يُعطها أحد قبله.
22- عظيم رحمة ربنا بنا، قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
23- الاستحياء من الله هدي نبوي كريم، فإن نبينا قال لموسى عليه السلام لما طلب منه الرجوع بعدما صارت الصلاة خمس مرات: ((إني قد استحييت من ربي)). وقد أمر بذلك النبي بقوله: ((استحيوا من الله حق الحياء))، قالوا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله.، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
24، 25- خطورة الشرك، وعظيم فضل أواخر سورة البقرة، فعن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة[5]، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى قال: فَرَاش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المُقْحِمَات. أخرجه مسلم.
26- أن رسولنا لم ير ربه بعينه، وإنما رآه بفؤاده؛ لقول أبي ذر : سألت رسول الله : هل رأيت ربك؟ قال: ((نور أنى أراه)) أخرجه مسلم، ولقول أمنا عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرْيَة. أخرجه مسلم.
27- فضل أبي بكر الصديق الذي لم يخالج قلبه شك في صدق خبر النبي ، بل سارع إلى التصديق لما أخبرته قريش بخبر الإسراء بقوله: إن كان قالها فقد صدق، فرضي الله عنه وأرضاه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الجامع لأحكام القرآن (10/210).
[2] انظر كتابه: الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا، طبعة دار الحديث بالقاهرة (60-62).
[3] لطائف المعارف (1/101).
[4] الآية العظمى (ص71).
[5] قال النووي رحمه الله: "كذا هو في جميع الأصول: السادسة. وقد تقدم في الروايات الأخر من حديث أنس أنها فوق السماء السابعة. قال القاضي: كونها في السابعة هو الأصح، وقول الأكثرين، وهو الذي يقتضيه المعنى وتسميتها بالمنتهى. قلت: ويمكن أن يُجمع بينهما فيكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة " شرح صحيح مسلم (3/2).(/3)
فوائد ودروس وعبر من هجرة سيد البشر
1 ـ الهجرة من سنن الرسل الكرام :
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة ، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً في حياة الرسل لنصرة عقائدهم ، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها وتذود عنها ، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة .
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها ، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر ، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدي على مروءته وكرامته(1).
2 ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد :
وهو سنة إلهية نافذة ، قال عز وجل : ? الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولوا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ? (سورة الحج ، الآية:40).
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة : ? كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ? (المجادلة: الآية21) .
3ـ مكر خصوم الدعوة بالداعية أمر مستمر متكرر ، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض ، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله(2)، كما قال عز وجل: ? وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين? (سورة الأنفال: الآية 30) .
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حياً أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة ، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة مادياً بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمي الطريق على الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة(3) ، قال تعالى: ? إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ? (الأنفال : الآية 36) .
4ـ الإيمان بالمعجزات الحسية :
وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك ـ على ما روي ـ نسيج العنكبوت على فم الغار ، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم معبد ، وما جرى له مع سراقة، ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة أن لا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية، على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(4).
5 ـ جواز الاستعانة بالكافر المأمون :
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم ما داموا يثقون بهم ويأتمنوهم على ما يستعينون به معهم ، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها ، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وثقا به وأمناه ، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم ، كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كان قد قدمه الداعية لهم . أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب ، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص(5).
6 ـ دور المرأة في الهجرة :
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد : منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة ، وأم سلمة المهاجرة الصبور ، وأسماء ذات النطاقين(6) التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله ؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا)(7).(/1)
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين من الأعداء ، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟ وأما درسها الثاني البليغ ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة ، وقد ذهب بصره، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ، قالت : كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه ، فقال: لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئاً ، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك)(8).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها ، وسكنت قلب جدها الضرير ، من غير أن تكذب ، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج ، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال ، وورثهم يقيناً وثقه به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور ، ولا تلتفت إلى سفاسفها ، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر ، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن من أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله .
وظلت أسماء مع إخوتها في مكة ، لا تشكو ضيقاً ، ولا تظهر حاجة ، حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه ، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ، وسودة بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد ، وأم بركة المكناة بأم أيمن ، وخرج معهما عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ، فيهم عائشة وأسماء ، فقدموا المدينة ، فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(9).
7 ـ أد الأمانة إلى من ائتمنك كانت أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً ، فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه ، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به ، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(10) ، وصدق الله العظيم : ? قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ? (سورة الأنعام: الآية33).
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة ، رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب ، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره(11).
8 ـ اليد العليا في الدعوة خير من اليد السفلى :
لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر رضي الله عنه واستقر الثمن ديناً بذمته ، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات ، فهم مصدر العطاء في كل شيء .
إن يدهم إن لم تكن العليا فلن تكن السفلى ، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ? وما أسالكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ? (سورة الشعراء: الآية109) .
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد ـ إلا الله ـ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه وقد تعود الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال ، وما تأخر المسلمون وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة ، ينتظر الواحد منهم مرتبة ، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية والوضاءة ، وأصبح للأمر بالمعروف موظفون ، وأصبح الخطباء موظفين ، وأصبح الأئمة موظفين .
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة ، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديماً قالوا: ليست النائحة كالثكلى ولهذا قل التأثير وبعد الناس عن جادة الصواب(12).
9 ـ عفة الداعية عن أموال الناس :
لما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: (وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لي فيها)(13).
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس ، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم ، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى(14).
10 ـ جندية منقطعة النظير:(/2)
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأبو بكر رضي الله عنه عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية البخاري، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر ـ وهو الخبط ـ أربعة أشهر) . لقد كان يدرك بثاقب بصره رضي الله عنه وهو الذي تربى ليكون قائداً ، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ولذلك هيأ وسيلة الهجرة ، ورتب تموينها ، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكا من شدة الفرح وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن : فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ , إنها قمة الفرح البشري؛ أن يتحول الفرح إلى بكاء ، كما قال الشاعر عن هذا :
ورد الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور علي حتى إنني من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين من فرح ومن أحزاني
فالصديق رضي الله عنه يعلم أن معنى هذه الصحبة ، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشر يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز : أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(15)، وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته؛ فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين(16) ، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها؛ حين أجاب السائل : من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هاد يهديني السبيل ، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير ، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض فراراً من الحرج أو الكذب(17) وفي إجابته للسائل تورية وتنفيذ للتربية الأمنية التي تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الهجرة كانت سراً وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك(18) ، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام ، حيث فدى قائده بحياته ، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها ، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه ولكن علياً رضي الله عنه لم يبال بذلك, فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة(19).
11 ـ حسن القيادة والرفق في التعامل :
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص ، لم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية ، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع ، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القيادية الرشيدة ، فهو يسهر ليناموا ، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا ، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته ، في حياته الخاصة والعامة ، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسئولين في أمة الإسلام(20).
وصدق الشاعر الليبي عندما قال :
فإذا أحب الله باطن عبده ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح مال العباد عليه بالأرواح(21)
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها ، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود ، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه ، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبق إلا المستضعفين والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(22).
12 ـ استمرار الدعوة في أحلك الظروف :(/3)
أ ـ في الطريق أسلم بريدة الأسلمي رضي الله عنه في ركب من قومه :
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى ، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة ، والأمن مفقود ، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى ، هذا نبي الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زج به في السجن ظلماً ، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه ، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى : ? قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ? (سورة يوسف: الآيات37-40) .
وسورة يوسف عليه السلام مكية ، وقد أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله وذلك نجده صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً ، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته ، فقد لقي صلى الله عليه وسلم في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه في ركب من قومه ، فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا(23).
وذكر ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبدالله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة(24) غزوة وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام وفتح الله لقومه أسلم على يديه أبواب الهداية* ، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس(25) قال صلى الله عليه وسلم: (أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، أما والله ما أنا قلته ولكن الله قال)(26) .
ب ـ وفي طريق الهجرة أسلم لصان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لصان من أسلم يقال لهما المهانان ، فقصدهم صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان ، فقال : بل المكرمان ، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة(27) ، وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام ، فأسلما ، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص ، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف ، وفي اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين إلى المكرمين دليل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بسمعة المسلمين ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم .
وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعاً له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح(28).
13 ـ أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن :
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهم أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن ، وفي التأليف بين القلوب والأرواح ، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقدم به وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج ، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن ، وأغلقت ملف العقيدة في نفوس الأنصار ، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة ، وتآخوا معهم في مثالية نادرة ، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل ، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس .
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة وتقليل تأثيرها على نفوس المسلمين ، واندفاعهم المستمر نحو تذكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها ، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة(29).
14 ـ الحفاوة بالدعوة وحاملها :(/4)
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالماً فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم ، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً ، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً ، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم ، فلا عجب فيها ، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور ، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه ، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه ، وبالغيظ والحقد الأسود على من يسلبهم زعامتهم من الشعوب ، ويحول بينهم وبين سلب آمالهم باسم القروض ، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة ، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم ، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ، ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا ، ذلك دينهم ، وتلك جبلتهم(30).
ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية استقبال الأمراء والعلماء ، عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام ، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكماء في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف ، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعرض أن يكون رجاله حراساً له ، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين ، واحترامهم وخدمتهم(31).
15 ـ بين القدوة في الهجرة والتشريف في المعراج :
كانت الهجرة النبوية الشريفة على النحو الذي كانت عليه ، وسارت على الوضع الذي يسلكه كل مهاجر ، حتى توجد القدوة ، وتتحقق الأسوة ، ويسير المسلمون على نهج مألوف ، وسبيل معروف ، ولذلك ، فلم يرسل الله ـ عز وجل ـ له صلى الله عليه وسلم البراق ليهاجر عليه كما حدث في ليلة الإسراء ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم هجرته أحوج إلى البراق منه في أي وقت آخر؛ لأن القوم يتربصون به هنا ولم يكن هناك تربص في ليلة الإسراء ، ولو ظفروا به في هجرته لشفوا نفوسهم منه بقتله ، والحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن الهجرة كانت مرحلة طبيعية من مراحل تطور الدعوة ووسيلة من أهم وسائل نشرها وتبليغها ، ولم تكن خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان غيره من المؤمنين مكلفين بها ، حين قطع الإسلام الولاية(32) ، بين المهاجرين وغير المهاجرين القادرين على الهجرة ، قال تعالى: ? إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ? (سورة الأنفال : الآية 72) .
أما رحلة الإسراء والمعراج كانت رحلة تشريف وتقدير ، كما كانت إكراماً من الله ـ عز وجل ـ لنبيه ليطلعه على علم الغيب ويريه من آياته الكبرى ، فالرحلة من أولها إلى آخرها خوارق ومعجزات ومشاهد للغيبيات، فناسب أن تكون وسيلتها مشابهة لغايتها .
زد على ذلك أن رحلة الإسراء خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس لأحد من الناس أن يتطلع لمثلها ، ولسنا مطالبين بالاقتداء به فيها ، ولذا فإن حصولها على النحو الذي كانت عليه هو أنسب الأوضاع لحدوثها(33).
16 ـ وضوح سنة التدرج :
حيث نلاحظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم ، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل ، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء(34).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين ، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين ، وهكذا تم الأمر على تدرج ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم(35).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه ، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجاً وتربية ، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة ، واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره، واشتدت قواعده قوة وصلابة .
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية وإن الأمر الأول هو المضمون ، والأمر الثاني وهو بيعة الحرب هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون ، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم .(/5)
بعد عامين إذ تم إعدادهم حتى غدوا موقع ثقة وأهلاً لهذه البيعة ، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم ، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون ، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب(36).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده (أن لا يحملهم واجب القتال ، إلى أن توجد لهم دار الإسلام ، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه ، ويلوذون به ، وقد كانت المدينة المنورة أول دار الإسلام(37).
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد ، وبهذه العناصر الثلاثة : الإيمان بالله ، والهجرة ، والجهاد ، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى : ? إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير? (سورة الأنفال : الآية 72) ، وقال تعالى : ? والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ? (سورة الأنفال:75).
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة (الحسنة) وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة ، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله(38).
17 ـ التضحية في الهجرة :
كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)(39) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله في الحمى ، وكان واديها يجري نجلاً ـ يعني ماء آجناً ـ فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه ، قال : فكان أبوبكر، وعامر بن فهيرة ، وبلال في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب وبهما ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك(40)، فدنوت من أبي بكر فقلت : يا أبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
قالت : فقلت والله ما يدري أبي ما يقول : ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت : كيف تجدك يا عامر؟ فقال :
لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه(41) كالثور يحمي جلده بروقه(42)
قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول . قالت : وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته(43) ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيت ليلة بواد وحولي إذخر(44) وجليل
وهل أُرِدَن يوماً مياه مَجِنَة وهل يبدون لي شامة وطفيل(45)
قالت : فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة ، أو أشد ، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها واجعلها بالجحفة)(46).
ولا يخفى دور أم معبد رضي الله عنها في الهجرة، فكانت مكافأتها منه صلى الله عليه وسلم جزيلة. فقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم(47) .
18 ـ حسن المكافأة :
وقد روي أنها كثرت غنمها ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة ، فمر أبو بكر ، فرآه ابنها فعرفه ، فقال : يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك ، فقامت إليه فقالت: يا عبدالله من الرجل الذي كان معك؟ قال : أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال : هو نبي الله ، فأدخلها عليه ، فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها ـ وفي رواية : فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب ، فكساها وأعطاها ، قال : ولا أعلمه إلا قال : وأسلمت ، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها ، وأسلم أخوها حبيش، واستشهد يوم الفتح(48).
19 ـ هكذا يكون الأتباع :(/6)
قال أبو بكر الأنصاري رضي الله عنه : ( ولما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو ، فقلت له : يا نبي الله ـ بأبي أنت وأمي ـ إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فأظهر أنت فكن في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل . فقال : يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت قال : فلقد انكسر جب لنا فيه ماء ، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه(49).
20 ـ الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة :
كانت الهجرة النبوية في مكة المشرفة إلى المدينة المنورة أعظم حدث حول مجرى التاريخ ، وغير مسير الحياة ومناهجها التي كانت تحياها ، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات وعقائد و تعبدات وعلم ، ومعرفة ، وجهالة وسفه ، وضلال وهدى ، وعدل وظلم(50) .
?
(1) - انظر : الهجرة في القرآن الكريم ، ص175 .
(2) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص199 .
(3) - نفس المصدر السابق ، ص200 .
(4) - انظر : المستفاد من قصص القرآن (2/108) .
(5) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص206 .
(6) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص206 .
(7) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص126 .
(8) - انظر : السيرة البنوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح .
(9) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص128 .
(10) - انظر : فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان ص193 .
(11) - انظر : الهجرة في القرآن الكريم : ص364 .
(12) - انظر : معين السيرة : ص148 ، 149 .
(13) - المسند (1/3) تحقيق : أحمد محمد شاكر .
(14) - انظر : في ظلال الهجرة النبوية : ص58 .
(15) - انظر : التربية القيادية (2/191، 192) .
(16) - السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي ، ص71 .
(17) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص204 .
(18) - انظر : السيرة النبوية لأبي فارس ، ص254 .
(19) - انظر : السيرة النبوية للسباعي ، ص68 .
(20) - انظر : الهجرة النبوية لأبي فارس ، ص54 .
(21) - انظر : الحركة السنوسية في ليبيا للصلابي (2/7) والشاعر هو أحدم رفيق المهدوي .
(22) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص205 .
(23) - انظر : الهجرة النبوية لأبي فارس ، ص59 . شرح المواهب (1/405) .
(24) - انظر : الإصابة (1/146) .
* - وفتح الله لقوم أسلم أبواب الهداية على يديه . لعل العبارة هكذا أوضح مما هي عليه .
(25) - انظر : المستدرك على الصحيحين (4/92) رقم 6981 صحيح الإسناد .
(26) - صحيح الجامع الصغير (1/338) رقم 986 .
(27) - الفتح الرباني للساعاتي (20/289) .
(28) - انظر : التاريخ الإسلامي للحميدي (3/178) .
(29) - انظر : السيرة النبوية المباركة ، ص205 ..
(30) - انظر : السيرة النبوية للسباعي ، ص43 ، الهجرة في القرآن الكريم ، ص367 .
(31) - انظر : السيرة النبوية لأبي فارس ، ص358 ، 359 .
(32) - انظر : الهجرة في القرآن الكريم ، ص365 .
(33) - انظر : تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، محمد سيد الوكيل ، ص103 ، 104 بتصرف .
(34) - انظر : الهجرة النبوية المباركة ، ص202 .
(35) - انظر : بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة ، محمد توفيق ، ص119 .
(36) - نفس المصدر ، ص122 ، 123 .
(37) - انظر : فقه السيرة للبوطي ، ص172 .
(38) - انظر : الغرباء الأولون ، ص198، 199 .
(39) - الترمذي ، كتاب المناقب ، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925 .
(40) - الوعك : الحمى .
(41) - بطوقه : بطاقته .
(42) - بروقه : بقرنه .
(43) - عقيرته : صوته ، قال الأصمعي : إن رجلاً عقرت بجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح ، فصار كل من رفع صوته يقال له : رفع عقيرتهن وإن لم يرفع رجله .
(44) - الإذخر : نبات طيب الرائحة .
(45) - شامة وطفيل : جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة .
(46) - البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الدعاء يرفع الوباء والوجع ، رقم 6372 .
(47) - انظر : التربية القيادية (2/310) .
(48) - انظر السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489 ، 490) .
(49) - انظر : السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/220) .
(50) - انظر : محمد رسول الله ، محمد الصادق عرجون (2/423) . ...
http://www.aliman.org/(/7)
في أحوال الإنسان في هذه الدنيا
82
الزهد والورع
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
حكمة الخلق وإرسال الرسل , ووجوب المبادرة بالطاعة – أحوال ابن آدم في الدنيا : 1- نِعم تحتاج إلى شكر , وأركان هذا الشكر 2- محن وابتلاءات تحتاج إلى صبر , وأنواع الصبر 3- ابتلاء بالنفس والهوى والشيطان , وسبيل الخلاص – أهمية معرفة عيوب النفس - مراتب تعظيم الله عز وجل وعلاماتها – محبطات الأعمال – الدنيا وسرعة زوالها
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم ما خُلقتم عبثا، ولم تتركوا سُدى، خلقكم الله لعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته، وأوجدكم في هذه الدار، وأعطاكم الأعمار، وسخر لكم الليل والنهار، وأمدكم بنعمه وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، لتستعينوا بذلك على طاعة الله، وأرسل إليكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه ليبين لكم ما يجب وما يحرم، وما ينفع وما يضر وما أنتم قادمون عليه من الأخطار والأهوال لتأخذوا حذركم وتستعدوا لما أمامكم، جعل هذه الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وحذركم من الاغترار بهذه الدنيا والانشغال بها عن الآخرة، لأن الدنيا ممر. والآخرة هي المقر، وإذا لم تسر أيها العبد إلى الله بالأعمال الصالحة، وتطلب الوصول إلى جنته، فإنه يسار بك وأنت لا تدري، وعما قريب تصل إلى نهايتك من هذه الدنيا، وتقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [المنافقون:10-11].
ابن آدم: إنك في هذه الدنيا تتقلب بين أحوال ثلاث:
نِعَم تتوالى من الله عليك تحتاج إلى شكر، والشكر مبني على أركان ثلاثة:
الاعتراف بنعم الله باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وتصريفها في طاعة موليها ومعطيها. فلا يتم الشكر إلا بهذه الأركان، ولا تستقر النعم إلا بالشكران.
الحال الثاني: مما يجري على العبد في هذه الدنيا من محن وابتلاءات من الله يبتليه بها، فيحتاج إلى الصبر، والصبر ثلاثة أنواع: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى إلى الخلق، وحبس الأعضاء عن أفعال الجزع، كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعر، وأفعال الجاهلية. ومدار الصبر على هذه الأنواع الثلاثة فمن وفاها فله أجر الصابرين. وقد قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
والله سبحانه لا يبتلي العبد المؤمن ليهلكه، وإنما يبتليه ليمتحن صبره وعبوديته لله، فإذا صبر صارت المحنة منحة، واستحالت البلية في حقه عطية، وصار من عباد الله المخلصين الذين ليس لعدوهم سلطان عليهم، كما قال تعالى لإبليس: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الاسراء:65].
وقال تعالى: إنه ليس سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [النحل:99-100].
الحال الثالث: ابتلاؤه بالهوى والنفس والشيطان، فالشيطان العدو الأكبر، وهو ذئب الإنسان وعدوه، وإنما يغتاله ويظفر به إذا غفل عن ذكر الله وطاعته، واتبع هواه وشهوته، ولكن الله سبحانه فتح لعبده باب التوبة والرجوع إليه، فإذا تاب إلى الله توبة صحيحة تاب الله عليه وأخلصه من عدوه ورد كيده عنه.
وإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له باب التوبة والندم والانكسار والاستعانة بالله ودعائه والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، وأراه عيوب نفسه وسعة فضل الله عليه، وإحسانه إليه ورحمته به. فرؤية عيوب النفس توجب الحياء من الله والذل بين يديه، والخوف منه. ورؤية فضل الله توجب محبته والطمع بما عنده، فيكون بين الخوف والرجاء، ويكون من الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا .
عباد الله : إن الإنسان إذا طالع عيوب نفسه عرف قدرها واحتقرها . فلا يدخله عجب ولا كبر، وإذا نظر في فضل ربه عليه أحبه وعظمه.
وأول مراتب تعظيم الله سبحانه تعظيم أوامره ونواهيه، وذلك بفعل ما أمر الله به من الطاعات وترك ما نهى عنه من المعاصي والسيئات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: تعظيم الأمر والنهي ألا يعارضا بترخص جافٍ. ولا بتشدد غالٍ. ولا يُحملا على علة توهن الانقياد.(/1)
وقد وضح ابن القيم كلام شيخه هذا فقال: ومعنى كلامه: إن أولى مراتب تعظيم الله – عز وجل – تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه – عز وجل – برسالته التي أرسل بها رسوله – - إلى كافة الناس. ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله – عز وجل – واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع – - على المناهي. فليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي.
فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على فعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت صلاة الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت صلاته منفردا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا، ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء يفوته سبعة وعشرون دينارا لأكل يديه ندما وأسفا، فكيف: وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى، فإذا فوت العبد عليه هذا الربح وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها، فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجاهد عليه ولكانت قرعة . وكذلك الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته وكلما كثر الجمع كان أحب إلى الله – عز وجل - وكلما بعدت الخطى إلى المسجد كانت خطوة تحط خطيئة وأخرى ترفع درجة. وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتا أو جارية ميتة، فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره. فهكذا سواء الصلاة الخالية من الخشوع، والحضور، وجمع الهمة على الله تعالى فيها، فهي بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميتين اللذَيْن يراد إهداء أحدهما إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، فإنه ليس لعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السنن والمسند وغيره عن النبي – - أنه قال: ((إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها ...(حتى بلغ) عشرها )).
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فالرياء وإن دق محبط للعمل، وكون العمل غير مقيد باتباع السنة محبط له أيضا لقوله – -: ((من عمل عملا ليس عليها أمرنا فهو رد)). أي: مردود على صاحبه غير مقبول عند الله تعالى. والمن بالعمل على الله مفسد له. قال تعالى: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [الحجرات:17].
والمن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان مفسد لها. قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [البقرة:264].
وقد تحبط أعمال الإنسان وهو لا يشعر، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [الحجرات :2].
وحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله – - كما يجهر بعضهم لبعض وهم لا يشعرون بذلك، وليس ذلك بِرِدَّةٍ، بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها .
وقد يتساهل الإنسان بالشيء من المعاصي وهو خطير، وإثمه كبير، كما قال تعالى: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم [النور: 15].
وفي الحديث: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها عند الله طالباً ))، وقال بعض الصحابة : إنكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله – - من الموبقات.(/2)
عباد الله: ومن علامات تعظيم حرمات الله مناهيه أن يكره المؤمن ما نهى الله عنه من المعاصي والمحرمات، وأن يكره العصاة، ويبتعد عنهم ويبتعد عن الأسباب التي توقع في المعاصي، فيغض بصره عما حرم الله، ويصون سمعه عما لا يجوز الاستماع إليه من المعازف والمزامير والأغاني والغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، ويصون لسانه عن ذلك، وأن يغضب إذا انتهكت محارم الله فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقوم بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وأن لا يتبع الرخص والتساهل في الدين، ولا يتشدد فيه إلى حد يخرجه عن الاعتدال والاستقامة.
لأن من تتبع الرخص من غير حاجة إليها كان متساهلا . ومن تشدد في أمور الدين كان جافيا، ودين الله بين الغالي والجافي، وما أمر الله – عز وجل – بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فإنه يأتي إلى العبد، فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخصا ثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات، حتى ربما يترك هذا العبد أوامر الله جملة، وإن وجد عنده رغبة في الخير وحبا في العمل وحرصا على الطاعة وخوفا من المعاصي أمره بالاجتهاد الزائد حتى يزهده بالاقتصار على الحد المشروع، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم. كما يحمل الأول على القصور دون هذا الصراط ويحول بينه وبين الدخول فيه.
فاتقوا الله – عباد الله – أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتّخِذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر :5-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . .
الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، جعل الدنيا مزرعة للآخرة . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المؤيد بالمعجزات الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى الزاهرة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتأملوا في دنياكم، وسرعة زوالها، وتغير أحوالها، فإن ذلك يحملكم على عدم الاغترار بها، ويحفزكم على اغتنام أوقاتها قبل فواتها. يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله -: فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه، فليتدبر قوله – عز وجل -: كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [الأحقاف:35]. وقوله – عز وجل -: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوم أو بعض يوم فاسأل العادّين قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون [المؤمنون:112-114]. وقوله – عز وجل -: يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً [طه:102-104].
وخطب النبي – - صحابه يوما فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال، وذلك عند الغروب قال: ((إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه )).
فيتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي بقي من الدنيا بأسرها ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ بخس خسيس لا يساوي شيئا، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ هنيئا موفورا، وأكمل منه.
كما في بعض الآثار: (ابن آدم: بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعا، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعا).
وقال بعض السلف: ابن آدم: أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة فمر بنصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما.
فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أن الدنيا محطة تنزلون فيها في سفركم إلى الآخرة ؛ لتأخذوا منها الزاد لذلكم السفر فتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة:197].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله . . .(/3)
في أنواع من الطلاق
إعداد/ زكريا حسيني
* مجلة التوحيد / الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ
جِدٌّ وَهَزْ لُهُنَّ جِدٌّ: النكاحُ والطَّلاقُ والرَّجْعَةُ». هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق باب (في الطلاق على الهزل) برقم (2194)، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب الطلاق باب «ما جاء في الجدِّ والهزل في الطلاق، برقم (1184)، وكذا أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الطلاق باب «من طلق أو نكح أو راجع لاعبا» برقم (2039)، وحَسَّنَهُ الألباني في صحيح الجامع برقم (3027).
2 ـ وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تَجَاوَزَ لي عَن
أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيَانَ وما اسْتَكْرِهُوا عَلَيه». أخرجه ابن ماجه في
سننه في كتاب الطلاق باب (طلاق المكره والناسي) برقم (2043)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1731). وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب (طلاق المكره والناسي) برقم (2045)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1863).
3 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/276، وأبو داود (2193) في باب الطلاق على غلط، وابن ماجه في طلاق المكره والناسي برقم (2063) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7525).
4 ـ وذكر البخاري في صحيحه تعليقا؛ عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر رضي الله عنه: ألم تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ
رُفِعَ عن ثَلاثٍ: عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ».
5 ـ وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«وإن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم».«شرح الأحاديث»
تضمنت هذه النصوص مجموعة من أنواع الطلاق التي يوقعها الناس، وقد ابتلي بها كثير من المسلمين ولا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه استعمال الطلاق؛ حتى إن كثيرًا من المسلمين يَحُلُّون مشاكلهم بالطلاق فيقعون في مشكلة
قد لا يكون لها حل، فيعالج مشكلة بمشكلة هي أكبر منها، فحينئذ يكون (كالمستجير من الرمضاء بالنار).فلنعش مع هذه النصوص واحدًا واحدًا لنعرف النوع الذي تضمنه أو الأنواع، وحكم الطلاق فيه:
النوع الأول: طلاق الهازل
وهو المستفاد من حديث أبي هريرة «ثلاثٌ جِدُّهُن جِدٌّ وهزلهنَّ جدٌّ؛ النكاح والطلاق والرجعة» وفي رواية: «والعتاق» بدل «الرجعة» وفي رواية «واليمين» بدل الرجعة أيضا، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ثلاثة لا لعب فيها: الطلاق والعتاق والنكاح».والهازل: هو المازح، الذي يلعب، فيتلفظ بالطلاق لاعبا أو مستهزئا ولا يقصد المعنى، ومثل له بعض العلماء بأن تقول الزوجة لزوجها في معرض دلالٍ أو ملاعبةٍ أو استهزاءٍ: طلقني، فيقول لها لاعبًا أو مستهزئًا: طلقتك، أو أنت طالق، أو قال لها طلقتك مائة تطليقة أو نحو ذلك.
حكم وقوعه:
الجمهور من فقهاء الأمة ومحدثيها على وقوع طلاق الهازل؛ قال ابن قدامة في المغني: إن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية، بل يقع من غير قصد، ولا خلاف في ذلك سواء قصد المزح أو الجِد. قال ابن المنذر: أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء. اهـ وقال الخطابي في معالم السنن: اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤآخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعبًا أو هازلا، أو لم أنو به طلاقًا أو ما أشبه ذلك من الأمور. اهـ.وأدلة الجمهور في ذلك:
( أ ) الحديث الذي معنا: ثلاث جدهن جد وهزلن جد؛ النكاح والطلاق والرجعة».
(ب) وكذلك قالوا: إن الهازل يكفر لو نطق بالكفر قال تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة: 65-66].
النوع الثاني: طلاق المُكْرَهِ:
والمُكْرَهُ هو الذي يحمله غيره على فعلٍ أو قولٍ مهدِّدًا إياه إن لم يفعل أو يقل بقتل أو بإلحاق ضررٍ محقق، مع قدرة المكْرِهِ على تنفيذ ما هَدَّدَ به، ومع عدم قدرة المكرَه على دفع ما هُدِّدَ به بهرب أو استغاثة أو مقاومة.
حكم طلاق المكره:
اختلف الفقهاء في طلاق المكره؛ فجمهور فقهاء الأمة على أنه لا يقع، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود بن علي، وقد استدل القائلون بعدم وقوع طلاق المكره بما يلي:
1 ـ حديث أبي ذر الذي معنا، وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».(/1)
2 ـ كذا استدلوا بالحديث الثالث الذي معنا وهو حديث عائشة رضي الله عنها: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» وفيرواية «في غِلاق» قال أبو داود بعد أن ساق الحديث: الغلاق أظنه الغضب، وفسره أبو عبيد وغيره بأنه الإكراه. وفسره غيرهما بالجنون، وقيل: هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة، فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شيء. كغلق الرهن. حكاه أبو عبيد الهروي. قاله ابن القيم في زاد المعاد، ثم قال: قال شيخنا [يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله]: وحقيقة الإغلاق: أن يغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، قال: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال. اهـ[زاد المعاد 5/215]
3 ـ كذا استدلوا بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في عدم وقوع طلاق المكره، فمن ذلك:
( أ ) ما ورد عن عمر: أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا (أي ليخرجه من خليته)
فجاءت امرأته فقالت: لأقطعن الحبل أو لتطلقني، فناشدها الله فأبت، فطلقها، فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فقال له: ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق.[أورد هذا الأثر ابن حزم في المحلي]
(ب) ما روي عن عمر أنه قال: ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أخفته أو ضربته أو أوثقته.
(جـ) ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: طلاق السكران والمستكره غير جائز.
4 ـ أن المكره على النطق بالكفر لا يكفر بذلك لقوله تعالى: .. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.. [النحل: 106]، فكذلك لا يقع طلاقه، ما دام مكرها على ذلك.
5 ـ أن المكره على الإسلام لا يصح منه الإسلام، فكذلك لا يصح طلاقه بجامع عدم الاختيار في كل.ويرى الحنفية وهو قول أبي قلابة والشعبي والنخعي والزهري والثوري أن طلاق المكره يقع، واستدلوا بأدلة هي:
1 ـ روى الغازي بن جبلة عن صفوان بن عمران الأصم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له: طلقني أو لأذبحنك فناشدها فأبت فطلقها ثلاثا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا قيلولة في الطلاق». [رواه سعيد بن منصور في سننه]. والقيلولة هنا بمعنى الرفع والنسخ، وقد نفي رفع الطلاق ونسخه إذا كان واقعا عن إكراه فدل ذلك على وقوع طلاق المكره.
2 ـ روى عطاء بن عجلا عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله».
[ذكره ابن القيم في زاد المعاد ولم يعزه لأحد من أصحاب الكتب]
3 ـ روى سعيد بن منصور في سننه عن عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة استلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت له: والله لأُنْفِذَنَّك أولَتُطَلِّقَنِّي، فطلقها ثلاثا، فرفع ذلك إلي عمر بن الخطاب فأمضى طلاقها.
4 ـ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه.
5 ـ وقالوا: إن المكره بالغ عاقل وقد تلفظ بالطلاق عالما بما يقول مُؤْثِرًا له على ما هدد به، وهذا علامة على اختياره، وبناء على ذلك يقع طلاقه.ولقد أجاب الجمهور على أدلة أصحاب القول الثاني وفندوها على النحو
التالي:
أولا: حديث الغازي بن جبلة فيه ثلاث علل ـ كما قال ابن القيم ـ ضعف صفوان ابن عمرو، ولين الغازي بن جبلة، وتدليس بقية الراوي عنه، فمثل هذا لا يحتج به.قال ابن حزم: وهذا خبر في غاية السقوط.
ثانيا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال ابن القيم: هو من رواية عطاء بن عجلان وضعفه مشهور، وقد رمي بالكذب، قال ابن حزم: وهذا الخبر شر من الأول.
ثالثا: أثر عمر: قال عنه ابن القيم: الصحيح عنه خلافه كما تقدم (أي في أدلة الجمهور) ولا يعلم معاصرة المعافري
لعمر، وفرج بن فضالة فيه ضعف فلا حجة فيه.
رابعًا: أثر على: قال ابن القيم: الذي رواه الناس عن علي خلاف ذلك، فعن الحسن أن علي بن أبي طالب كان لا يجيز
طلاق المكره.
النوع الثالث: طلاق الغضبان وهو مستفاد من الحديث الثالث، حديث عائشة رضي الله عنها «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» وفي رواية «في غِلاق» وقد فسر الإغلاق بالغضب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وذكر أبو داود رحمه الله بعد أن ساق الحديث أنه يظن أنه الغضب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ـ كما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد ـ: حقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته، ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكلُّ من لا قصد
له ولا معرفة له بما قال.ولقد ذكر ابن القيم أن الغضب على ثلاثة أقسام:
الأول: الغضب الشديد الذي يزول معه العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه
بلا نزاع.(/2)
الثاني: الغضب الخفيف الذي يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول ولا يمنعه من قصده، فهذا يقع طلاقه.الثالث: الغضب المتوسط الذي يستحكم به ويشتد، ولكن لا يزيل عقله بالكلية بل يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال عنه الغضب، فهذا محل نظر، قال: وعدم الوقوع في هذه الحال قوي متجه.
النوع الرابع: طلاق السكران
السكر على نوعين:
أولهما: ما كان بغير إرادة من صاحبه ـ كأن يشرب شيئا لا يظن أنه مسكر فإذا به يسكره، أو أن يُكْرَه على الشرب من مسكر.وهذا طلاقه لا يقع باتفاق العلماء.
والثاني: المتعدي بسكره ـ أي أنه شرب المسكر بعلمه وبإرادته من غير إكراه من أحد، وهذا فيه خلاف بين العلماء على قولين:
الأول: قول جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب
الأربعة وهو قول سعيد ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وغيرهم، وروي
عن علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.واستدل هؤلاء على وقوع طلاق السكران
المتعدي بسكره بما يلي:
1 ـ أن السكران هو الذي تسبب في ذهاب عقله بتناول المسكر عمدًا فوجب أن يتحمل وزر سكره وعلى ذلك يقع طلاقه.
2 ـ أنه اختار تناول المسكر عمدًا، وهذا يقوم مقام إرادته لفظ الطلاق، فيجب زجره بإيقاع الطلاق عليه
عقوبة له.
3 ـ أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه، فإنهم قالوا: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون، فجعلوه كالصاحي عقوبة له.
4 ـ كذلك استدلوا بحديث: «لا قيلولة في الطلاق» وقد تقدم أنه لا حجة فيه.
5 ـ واستدلوا أيضا بحديث: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه» وقد تقدم أيضا أنه ضعيف، إلى غير ذلك من الأدلة، وقد ساقها ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ وعقب عليها بقوله: وليس في شيء منها حجة أصلا. ثم فندها واحدًا واحدًا.
القول الثاني: أن طلاق السكران الذي تعمد شرب المسكر لا يقع؛ وبهذا القول قال الطحاوي وزفر من الأحناف، وهو قول للشافعي والمزني، ورواية عن مالك، وأحمد في رواية عنه، كما أنه اختيار ابن تيمية وابن القيم وابن حزم، وصح عن عثمان رضي الله عنه.
وقد استدل أصحاب هذا القول بعدم وقوع الطلاق بما يلي:
1 ـ قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [النساء: 43] فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر.
2 ـ ما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمقر بالزنا أن يستنكه (أي تشم رائحة فمه) ليعتبر قوله أو يلغى.
3 ـ ما جاء في صحيح البخاري في قصة حمزة بن عبد المطلب لما عقر بعيرَيْ عليٍّ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف عليه يلومه. فَصَعَّدَ فيه النظر وصوَّبه وهو سكران، ثم قال هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرًا، ولم يؤاخذ بذلك حمزة فدل على أن طلاق السكران لا يقع.
4 ـ أن السكران كالمجنون، كل منهما فاقد العقل الذي هو مناط التكليف، وفاقد العقل لا طلاق له.
5 ـ أن السكران قدَّرَ له الشرعُ عقوبةً
محددة، وهي جلده أربعين أو ثمانين جلدة، فيجب الاقتصار عليها ولا تجوز الزيادة عنها بإيقاع الطلاق عليه، لأن هذا يكون زيادة في التشريع أولا، ثم إنه قد يتسبب في إيقاع عقوبة على من لا ذنب له من زوجة وأولاد، والله عز وجل يقول: ألا تزر وازرة وزر أخرى [النجم: 38]. إلى غير ذلك من الأدلة العقلية التي ترجح هذا القول. ولا شك أن هذا هو القول الراجح. والله أعلم. النوع الخامس: طلاق من يحدث نفسه بالطلاق
وهو مستفاد من الحديث الخامس، حديث أبي هريرة: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم». قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: تضمنت هذه السنة أن ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق أو يمين أو نذر عفوٌ غير لازم بالنية والقصد، قال: وهذا قول الجمهور، وفي المسألة قولان آخران: أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق عن معمر: سئل ابن سيريرن عمن طلق في نفسه، فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئًا.
الثاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك، وروي عن الزهري، وحجة هذا القول:
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات».
2 ـ أن من كفر في نفسه فهو كفر.
3 ـ قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله.
4 ـ أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها.
5 ـ أن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضى والعزم على الطاعة، ويعاقب على الكبر والحسد والعُعجبِ والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ، ثم فند حجج القائلين بوقوع الطلاق حجة حجة فيما ملخصه:(/3)
1 ـ حديث الأعمال بالنيَّات حجة عليهم؛ لأنه أخبر أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها.
2 ـ أما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرًا، كالعلم والجهل وكل نقيضين إذا زال أحدهما حل محله الآخر، ولا يجتمعان.
3 ـ وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه من أعمال، ثم هو مغفور له أو معذب. فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية؟
4 ـ وأما أنَّ المصر على المعصية فاسق مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن فعل المعصية ثم أصر عليها، فهذا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، وأما من عزم على المعصية ولم يعملها، فهو بين أمرين؛ إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل.
5 ـ وأما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق، والقرآن والسنة مملوآن به، ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن ما يعاقب عليه من أعمال القلوب هو
معاصٍ قلبية يستحق العقوبة عليها، إذ هي منافية لعبودية القلب، وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها، وهي أسماء لمعاني مسمياتها قائمة بالقلب، وأما الطلاق والعتاق فاسمان قائمان باللسان أو ما ناب عنه من إشارة أو كتابة، وليسا اسمين لما في القلب مجردًا عن النطق.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا الرشد، وأن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا وجميع المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.(/4)
في التحذير من آفات اللسان
87
آفات اللسان
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
1- تعظيم أمر اللسان وما يصدر منه من أقوال 2- من آفات اللسان : أ- الكلام فيما لا يعنى ب- الخوض في الباطل ج- الفحش والبذاءة د- كثرة المزاح هـ - السخرية والاستهزاء و- الغيبة والنميمة
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتحفظوا من ألسنتكم فإن كلامكم محفوظ عليكم، قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:18]، وقال تعالى: سنكتب ما قالوا [آل عمران:151]، وقال تعالى: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم [النور:15]. وقد أمر النبي بالصمت، إلا إذا كان الكلام خيرا، قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت ))، وقال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ، وقال رجل للنبي : ((دلني على عمل يدخلني الجنة، قال : أمسك عليك هذا، وأشار إلى لسانه فأعاد عليه، فقال: ثكلتك أمك هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ))، والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما رزع، فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرا من قول أو عمل حصد الندامة.
ومعصية القول باللسان يدخل فيها الشرك، وهو أعظم الذنوب عند الله، ويدخل فيها القول على الله بلا علم وهو قرين الشرك، ويدخل فيها شهادة الزور التي عدلت الإشراك بالله، ويدخل فيها السحر والقذف، ويدخل فيها الكذب والغيبة والنميمة، وفي: (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ))، وأخرجه الترمذي ولفظه: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار )).
أيها المسلمون: لقد كان خوف السلف الصالح من آفات اللسان عظيما كان أبو بكر يمسك لسانه يقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا أنك ستندم. فقيل له: يا ابن عباس ! لم تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا منه على لسانه، إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً. وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال الحسن: اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عف عفت.
أيها المسلمون: إن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب، كما روى الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغر ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي )).
وقال عمر : من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به. وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك. فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق ولا السكوت مأموراً به على الإطلاق، بل لا بد من الكلام في الخير العاجل والآجل، والسكوت عن الشر الآجل والعاجل، واللسان ترجمان القلب والمعبر عنه وقد أمرنا باستقامة القلب واللسان، قال : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ))، رواه الإمام أحمد في مسنده. وروى الترمذي: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا )).
أيها المسلمون: إن آفات اللسان كثيرة ومتنوعة:
فالآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني، وفي الحديث الصحيح: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )).
الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، والتحدث عنها بما يروجها بين الناس، ويشيع الفاحشة بينهم، ومن ذلك ما يقع في المجتمع من المخالفات التي يرتكبها بعض الأفراد، فإن التحدث عنها في المجالس يفرح الأشرار والمنافقين، ويشيع الفاحشة في المؤمنين وقد قال الله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
والواجب على من علم من أخيه زلة أن يستر عليه ويناصحه، أو يرفع أمره إلى ولي الأمر إذا اقتضت المصلحة ذلك، أما أن يتخذ من زلته موضوعا يتحدث عنه المجالس فإن ذلك من أقبح الخصال، وذميم الفعال قال النبي : (( لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته))، رواه الإمام أحمد.(/1)
الآفة الثالثة: التكلم بالفحش والسب والبذاءة والشتم، فإن بعض الناس يعتاد النطق بلعن الأشخاص والأماكن والدواب، فيكون النطق باللعنة أسهل الألفاظ عليه، وربما يواجه بها صديقه وصاحبه والعزيز عليه، وقد قال النبي : (( لعن المسلم كقتله ))، وقال عليه الصلاة والسلام: (( ليس المؤمن بالطعان واللعان ولا الفاحش ولا البذيء))، وقد لعنت امرأة ناقة لها فأمر النبي بأخذ ما عليها وتركها، وقال: (( لا تصحبنا ناقة ملعونة ))، وبعض الناس حينما يكون بينه وبين أخيه المسلم منازعة أو مشادة، فإنه يطلق لسانه عليه بالسب والشتم والتعيير، ورميه بما ليس فيه من قبيح الخصال، ولا يدري هذا المسكين أنه إنما يجني على نفسه ويحملها أوزار ما يقول، والله تعالى قد أمر من وجه إليه شيء من الشتائم والسباب أن يدفع ذلك الكلام بالكلام الحسن، قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا كان المعتدي عليه بالكلام السيئ مأمورا بدفعه بكلام حسن ابتعادا عن النطق بالفحش ولو قصاصا، فكيف الذي يبدأ بالفحش ويتفوه بالإثم؟!.
الآفة الرابعة: من آفات اللسان: كثرة المزاح فإن الإفراط في المزاح والمداومة عليه منهي عنهما، لأنه يسقط الوقار، ويوجب الضغائن والأحقاد، أما المزاح اليسير النزيه فإنه لا بأس به، لأن فيه انبساطا وطيب نفس، وكان النبي يمزح ولا يقول إلا حقا.
الآفة الخامسة: الاستهزاء والسخرية بالناس، وتتبع عثراتهم، والبحث عن عوراتهم، والتندر بذلك، وانتقاصهم، والضحك منهم، قال تعالى: ويل لكل همزة لمزة [الهمزة:1]، يعني الذي يزدري الناس وينقصهم قيل: الهمز بالقول، واللمز بالفعل، توعده الله بالويل وهو كلمة عذاب، أو واد في جهنم نعوذ بالله من ذلك.
الآفة السادسة والسابعة: الغيبة والنميمة، هما من كبائر الذنوب، والغيبة: ذكرك أخاك حال غيبته بما كره، والنميمة: نقل الحديث بين الناس على وجه الإفساد، وقد شبه الله المغتاب بآكل الميتة، وفي الحديث: ((إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل قد يزني ويتوب، ويتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه ))، وأخبر النبي أن النمام يعذب في قبره. وأخبر أن النمام لا يدخل الجنة يوم القيامة، فقد روى البخاري ومسلم: أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة نمام))، والنمام يفسد بين الناس، ويزرع في القلوب الأحقاد والأضغان، ويهدم البيوت، ويخرب الأوطان، وقد قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم [الظلم:10-12].
أيها المسلمون: تحفظوا من ألسنتكم، وزنوا أقوالكم، فإن الإنسان قبل أن يتكلم يملك كلامه، لكنه إذا تكلم ملكه كلامه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:16-18]، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].(/2)
في التذكير
141
فضائل الأعمال
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- وعد الله بالجنة للمؤمنين 2- ذكر بعض العبادات اليسيرة في فعلها العظيمة في أجرها
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، ومما يروى من وصايا النبي وبليغ عظاته أن قال: ((أيها الناس، أيقنوا من الدنيا بالفناء ومن الآخرة بالبقاء، واعملوا لما بعد الموت فكأنكم بالدنيا كأن لم تكن، وبالآخرة كأن لم تزل، إن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، وإن الضيف مرتحل والعارية مردودة، فرحم الله امرءا نظر لنفسه، ومهد لرمسه، ما دام سنه مرخى وحبله على غاربه ملقى قبل أن ينفد أجله وينقطع عمله، ألا وإن دنياكم سريعة الذهاب وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، بل اسعوا في عمران آخرتكم، واجتهدوا في تكمليها وتحسينها قبل انتقالكم؛ فإن قصور الجنة وبساتينها تعد وتهيأ بحسب ما تقدمون من صالح الأعمال والأقوال، ومن فاته منزله من الجنة فليس له إلا النار دار الإهانة والنكال، فإن الناس يوم القيامة يصيرون إلى فريقين؛ فريق في الجنة وفريق في السعير))[1]، وفي موعظة للنبي قال: ((فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار)) [2].
قال ـ تعالى ـ: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً % وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [النساء:29-30]. وصح عن النبي أنه قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري][3].
أيها المسلمون، وإاذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق فهو كقتله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي قال: ((ولعن المؤمن كقتله)) [4]، وفي سنن أبي داود عن النبي قال: ((إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم يجد مساغاً رجعت إلى الذين لُعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها)) [5]، وصح عن النبي أنه قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [متفق عليه][6]. وفي البخاري عن أبي ذر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) [7] وفي صحيح مسلم عنه : ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم)) [8]، وفي سنن أبي داود عن أبي خراش السلمي أنه سمع النبي يقول: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)) [9]، وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)) [10].
أيها المسلمون، أما أذية المسلمين بأخذ أموالهم فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم، قال : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))[11]، وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)). فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ((وإن كان قضيباً من أراك)) [12].
أيها المسلمون، ثبت في صحيح البخاري عن النبي قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [13]، وقال : ((إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته ـ يعني أوضح وأبين ـ من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإني أقطع له قطعة من النار)) [متفق عليه][14].
وقال : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري][15].
وأخبر أن الدَّيْن لا يكفره القتل في سبيل الله؛ وذلك لأنه من حقوق الناس[16].
فمن أخذ للناس شيئاً بغير حق فهو ظلم جزاؤه النار، سواء أخذه من طريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة.(/1)
أيها المسلمون، كثيراً ما يذكر الله ـ تعالى ـ أنواع الأعمال الصالحة، ثم يذكر ما أعد لأهلها من أصناف النعيم وألوان التكريم؛ من المساكن والغرف المبنية، والثمرات الدانية الشهية، والعيون والأنهار الجارية بالمشارب الهنية، وأكبر من ذلك رضوان الرب الكريم وجواره في دار التكريم، كل ذلك حثاً منه ـ سبحانه ـ لعباده على تحري الأعمال الصالحة، واغتنام الفرص والمواسم طلباً للتجارة الرابحة، كما قال ـ تعالى ـ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة :71، 72].
وكما قال ـ تعالى ـ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزكاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
وكما قال ـ سبحانه ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ % تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13].
وقال ـ جل ذكره ـ: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:20-22].
فرتب ـ سبحانه كريم ـ الثواب وحسن المآب على العمل الصالح وهجر المنكرات والإعراض عن القبائح، فاجعلوا آخرتكم لأنفسكم، وسعيكم لمستقركم، وفكركم وجهدكم فيما تبنون به منازلكم، وتغرسون به بساتينكم في الجنة.
روي أن نبينا لقي إبراهيم ـ عليه السلام ـ ليلة أُسْرِيَ به فقال له إبراهيم: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن بها قيعان، وأن غراسها ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر))[17].
وروي أن الملائكة تبني للمؤمن القصر في الجنة فربما وقفوا، فيقال لهم في ذلك فيقولون: حتى تأتينا النفقة[18]. فأعمالكم الصالحة في الدنيا نفقات لبناء قصوركم وغراس لبساتينكم في الجنة، فلا تكسلوا ولا تبخلوا؛ فإن نقص ذلك عائد عليكم.
معشر المؤمنين: وكم في سنة النبي من ذكر أعمال يسيرة يعطي الله أهلها أجوراً وفيرة وبيوتا في الجنة، ففي صحيح مسلم عن عثمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)) [19]، وفي صحيح مسلم أيضا وغيره عن أم المؤمنين أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله ـ تعالى ـ كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة))[20]، وروي عن أنس قال: قال رسول الله : ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة)) [21].
وفي فضل صبر المؤمن على موت ولده وحمده لربه واسترجاعه يقول الله ـ تعالى ـ لملائكته: ((ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) [22].
وفي سنن أبي داود بسند صحيح قال : ((أنا زعيم – يعني ضامن – ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) [23].(/2)
فيا عباد الله، بادروا اللحظات في استباق الخيرات، والمنافسة في جليل القربات قبل الفوات، وتزودوا من دار ممركم بما يصلح دار مستقركم، وقدموا خيراً يسركم؛ فإن الخير كله في اتباع الكتاب والسنة والسير على منهاج السلف الصالح من هذه الأمة، وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] لم أجدها.
[2] لم أجدها.
[3] صحيح البخاري ح (6469).
[4] صحيح البخاري ح (5700) ، صحيح مسلم ح (110).
[5] حسن ، سنن أبي داود ح (4905).
[6] صحيح البخاري ح (48) ، صحيح مسلم ح (64).
[7] صحيح البخاري ح (5698).
[8] صحيح مسلم ح (2587).
[9] صحيح ، سنن أبي داود ح (4915).
[10] صحيح ، سنن أبي داود ح (4914).
[11] أخرجه مسلم ح (2564).
[12] أخرجه مسلم ح (137).
[13] صحيح البخاري ح (2950).
[14] صحيح البخاري ح (2534) ، صحيح مسلم ح (1713).
[15] تقدم تخريجه قريباً.
[16] أخرج مسلم في صحيحه ح (1886) عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) ، وأخرج أيضاً عنه رضي الله عنه ح (1886) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدين)).
[17] حسن ، أخرجه الترمذي ح (3462) وقال : حسن غريب.
[18] لم أجده.
[19] صحيح مسلم ح (533) وليس فيه ذكر مفحص القطاة ، وورد ذكره عند أحمد (1/241) وابن ماجه ح (738). ومفحص القطاة: هو المكان الذي تحفره القطاة– وهو طائر- لتجلس فيه على بيضها. لسان العرب (فحص).
[20] صحيح مسلم ح (728).
[21] أخرجه الترمذي ح (473) ، وابن ماجه ح (1380) وفيه : موسى بن فلان بن أنس ، قال الحافظ: مجهول. التقريب (7076).
[22] أخرجه أحمد (4/415) ، والترمذي ح (1021) واللفظ له عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي. فيقولون : نعم ، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده. فيقولون : نعم ، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع . فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد)) . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وهو حديث حسن.
[23] سنن أبي داود ح (4800).
الخطبة الثانية
لم ترد.(/3)
في الحث على الإحسان
88
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
1- جزاء الإحسان في الآخرة 2- الإحسان في العلاقة مع الله 3-الإحسان في العلاقة مع الخلق 4- وجه من وجوه الإحسان
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن ذلك هو طريق النجاة، واعلموا أن الله سبحانه أمر بالإحسان في آيات كثيرة، وأخبر أنه يحب المحسنين، ولا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقال تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، قال ابن عباس وغيره في معنى الآية: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة؟.
وقال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [يونس:26].
وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة.
قال ابن رجب رحمه الله: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين:15]، فإن ذلك جزاء لحالهم في الدنيا لما تراكم من الذنوب على قلوبهم، فحجبهم عن معرفة الله ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم أن حجبوا عن رؤية الله في الآخرة.
عباد الله: والإحسان ضد الإساءة، قال تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم:31].
وهو أنواع كثيرة: منهما ما يكون في عبادة العبد لربه، كما بينه الرسول لما قال له جبريل عليه السلام: أخبرني عن الإحسان، قال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
ومعناه بأن يعبد ربه مستحضرا لقربه منه واطلاعه عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا إخلاص العبادة لله وتحسينها وإكمالها، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أعلى مراتب الدين.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان في العمل بأن يكون موافقا لما شرعه الله على لسان رسوله خاليا من البدع والمخالفات، قال تعالى: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:112]، وقال تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22].
وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك.
والإحسان للعمل معناه: متابعة السنة فيه ومجانبة البدعة، وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثورا ووبالا على صاحبه.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى الخلق من الآدميين والبهائم، بإغاثة الملهوف وإطعام الجائع والتصدق على المحتاج وإعانة العاجز، والتيسير على المعسر والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [النساء:36]، فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى هذه الأصناف بإيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم، وقال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات:15-19]. فبين الله سبحانه سبب حصولهم على هذه الكرامة العظيمة وأن ذلك بما أسلفوه من الإحسان في الدنيا من صلاة الليل والاستغفار بالأسحار والتصدق على المحتاجين، وقال تعالى: إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين [المرسلات:41-44].
والآيات في ذلك كثيرة تبين ما للإحسان من عاقبة حميدة، وثواب عظيم.
ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى البهائم، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال: (( دنا رجل إلى بئر فنزل فشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث فرحمه فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة ))، رواه ابن حبان في صحيحه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء النبي فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك أجر؟ فقال رسول الله : ((إن في كل ذات كبد أجرا))، رواه أحمد ورواته ثقاة مشهورون.(/1)
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه الحر، فوجد بئرا فنزل فيه فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له ))، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: ((في كل كبد رطبة أجر ))، رواه مالك، والبخاري، ومسلم.
ففي هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البهائم بما يُبْقي عليها حياتها، ويدفع عنها الضرر، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، مأكولة أو غير مأكولة، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن رسول الله قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحد أحدكم شفرته ولْيُرح ذبيحته ))، فيه فضيلة الإحسان إلى البهائم المأكولة في حال ذبحها، وهذا شيء يغفل عنه بعض الناس، فيسيؤن إلى البهائم في كيفية ذبحها.
والإحسان قد أمر الله به في مواضع من كتابه، منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، فهو في كل شيء بحسبه.
فالإحسان في معاملة الخالق بفعل الواجبات وترك المحرمات واجب، وفي فعل المستحبات وترك المكروهات متسحب، والإحسان في معاملة الخلق، منه ما هو واجب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بالبر والصلة، ومنه ما هو مستحب كصدقة التطوع، وإعانة المحتاج، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها، من غير زيادة في التعذيب، وهكذا مطلوب من المسلم أن يكون محسنا في كل شيء مما يأتي وما يذر، محسن في عمله، محسن في تعامله مع الله ومع خلقه، ومحسن في نيته وقصده، قال الله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [التوبة:91]، فهؤلاء الذين لا يستطيعون القتال لعجزهم الجسمي والمالي مع سلامة نياتهم وحسن مقاصدهم، قد عذرهم الله لأنهم محسنون في نياتهم، لم يتركوا الجهاد لعدم رغبتهم فيه، وإنما تركوه لعجزهم عنه، ولو تمكنوا منه لفعلوه، فهم يشاركون المجاهدين في الأجر لنياتهم الصالحة وحسن قصدهم، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، وأصله في الصحيحين أن رسول الله قال: ((لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم )).
وكما يكون الإحسان في الأعمال والنيات يكون في الأقوال أيضا، قال تعالى: وقولوا للناس حسنا [البقرة:83]، أي: قولوا لهم قولا حسنا، بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودة، ويرغب في الخير، ويؤلف القلوب.
وهذا يشمل الصدق في الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد جاء في الحديث: (( والكلمة الطيبة صدقة ))، فاتقوا الله – عباد الله – وكونوا من أهل الإحسان لتنالوا من الله الأجر والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين [العنبكوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، على فضله وإحسانه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن وجوه الإحسان كثيرة، ينبغي للمسلم أن يسهم فيما يستطيع منها، ولا سيما منْ منّ الله عليهم بوفرة المال، فإن المجالات الخيرية أمامهم واسعة، من بناء المساجد، وتوفير المياه للشرب، وطباعة الكتب الدينية، وتوزيع المصاحف، ومساعدة مشاريع تعليم القرآن الكريم، ومساعدة المراكز الإسلامية في الخارج، وإعانة المجاهدين في سبيل الله، ومواساة المنكوبين والمشردين من المسلمين والمصابين بالمجاعة.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (( سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ))، رواه البزار، وأبو نعيم في الحلية. ومعنى كرى نهرا: أي حفره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أتى النبي رجل فقال: ما عملٌ إن عملت به دخلت الجنة؟ قال: ((أنت ببلد يجلب به الماء؟ ))، قال: نعم، قال: ((فاشتر سقاء جديدا، ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنك لن تخرقها حتى تبلغ بها الجنة )) رواه الطبراني في الكبير.(/2)
وفي (الصحيحين) عن أنس عن النبي قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة ))، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما شرق منه له صدقة، وما أكل السبع مه فهو له صدقة، ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة ))، وفي رواية له أيضا: ((فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ))، وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما، إذا نوى واحتسب الأجر عند الله سبحانه، ولكن المؤسف أن كثيرا من الأثرياء يحبسون أموالهم عن الإسهام في الخير، ويحرمون أنفسهم من الثواب، وهم قادرون على ذلك، فكانوا ممن جمع فأوعى، فيا حسرة من كان جمّاعا للمال منّاعا للخير لا يقدم لنفسه ما يجده عند الله خيرا وأعظم أجرا، يتعب في جمع المال وحفظه ويتركه لغيره ولا يقدم منه لنفسه.
فاتقوا الله – عباد الله – وقدموا لأنفسكم: واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...(/3)
في الدعوة .. من قبل من
الكاتب : علي الكثيري
التاريخ : 1/9/1426
ينظر بعض الدعاة إلى الله تعالى إلى أن الدعوة إلى الله يجب أن تقدم في كل المجامع والميادين – فقط هكذا – دون تفكير في ترتيب للأولويات ، أو بحث عن الثغرات التي يمكن للدعوة أن تنفذ من خلالها ، وهذا الأمر على أنه يدل على صدق في حماسة قائليه إلى أنه لا يخلو من الخطأ الذي يؤثر على الدعوة إلى الله تعالى ، فيسير بها سيراً بطيئاً لا يتواكب من توسع المجتمعات ، وتعدد مجالاتها .
فالذي يسير بالدعوة إلى الله تعالى بدون تخطيط وتحديد للأهداف وترتيب للأولويات ، هو أشبه ما يكون بمن يراوح في مكانه ، فلا هو الذي أنجز أمراً محسوساً ، ولا بالدعوة التي توسعت ، وهو أشبه بمن يقول في أمر الدعوة إلى الله تعالى : قل كلمتك وامش .
وفي هذا العرض سأذكر جانباً من ترتيب الأولويات في الدعوة ، ألا وهو اختيار المدعو ، فمن الذي يتم اختياره أولاً ، ومن الذي يؤخر اختياره ، مع العلم بأن هذا الترتيب يمكن استخدامه في حال أن الدعوة إلى الله تعالى تسير في خط تأسيسي ، وأن الظروف التي تمر بها مستقرة ، أما في حالات الضغط على الدعوة ، أو في حالات الفرص والحاجة إلى اغتنامها ، فإن هذا ما يقدره الداعية إلى الله تعالى بنفسه ويشاور من يثق من إخوانه ، وليس الترتيب هنا معنا أن نتمسك بالأفضل ونلغي من حساباتنا المفضول ، فهذا خطأ في الدعوة إلى الله تعالى :
1. الصغير والكبير :
إن المنطق في مجال التربية هو أن الصغير أكثر إقبالاً وقابلية للتعلم والتربية من الكبير الذي شب عن الطوق وأصبحت له مسؤولياته وارتباطاته ، وذلك أن الصغير ألين في التعامل معه حيث أنه لم يصلب عوده على فكر أو سلوك معين ، ولذا فإن الداعية إلى الله تعالى لا يبذل معه كثيراً من الجهد ، فهو أرض خصبة تقبل كل ما يلقى فيها ، فإن سبق الداعية إلى هذه الأرض أنبت فيها فإذن الله تعالى نباتاً حسناً . وبتأمل بسيط في السيرة النبوية وسير الأنبياء والدعاة ، دائماً ما يجد أن أوائل الدعوة إلى الله تعالى إنما تسير على أيدي الصغار قبل الكبار ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان من أوائل من آمن به الكثير من الصبية صغار السن رضي الله عنهم ، وموسى عليه السلام آمن معه الذرية وهم الصغار ، قال الله تعالى فيه : ( فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم ) يونس:83 .
2. القريب والبعيد :
كيف ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يضع كل اهتمامه الدعوي فيمن هم بعيدون عنه ويترك أهله وإخوته وأقرباءه دون دعوة ، إنه هذا الأمر خاطئ ، وقد كان أول ما نزل من تكليف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن الدعوة إلى الله هو قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ، فهم الأولى في الدعوة والتوجيه ، وتكوين البيت المسلم قبل تكوين المجتمع المسلم ، لما في ذلك إعذار أمام الله في دعوة ونصح أهله ، ثم أنه لا يجعل لأحد على الداعية مأخذاً في فساد من حوله ، وهو يدعو الناس ويوجههم إلى الله .
3. المعروف وغير المعروف :
وكثيراً ما يُغفل عن هذا الأمر ، فنجد أن الاهتمام بالتعرف على شخص ما ، التقى به الداعية في مكان ما ، على شخص آخر يعرفه الداعية ويعرف طباعه وسلوكه ، ويلتقي به باستمرار ، ولكن دون تفكير في دعوته ، ومن هذه الأمثلة نرى زملاء العمل ، وكذلك زملاء الدراسة ، وأيضاً جيران الحي ، والمصلون في مسجد الحي ، وغيرهم كثير من الأمثلة ، ولكن الغريب أن الداعية لا يخوض معهم ممارسته الدعوية بالرغم من أن هؤلاء قد قطع معهم – بطبيعة التقائه المستمر به – شوطاً كبيراً من التعرف وإزالة الحواجز ، وهو ما يحتاجه باستمرار مع أي شخص يفكر الداعية أن يوجه إليه دعوته .
4. المنتمي وغير المنتمي :
في مجتمعاتنا الآن تكثر الاتجاهات والأفكار والمذاهب والتحزبات ، بخيرها وشرها ، وكذلك يكثر المنتمون إليها ، وأيضاً يكثر من لا ينتمون إلى شيء منها ، والأولى بالداعية إلى الله أن يوجه تركيزه لمن هم في غير دائرة الانتماء ، لأن هذا الشخص لا يحتاج إلى جهد كبير في الدعوته وتوجيهه وتصحيح مساره ، أما المنتمي فإن الاحتياج يتضاعف بقدر ما يكون عمقه وتعمقه في انتمائه .
وأخيراً .. أؤكد بأن هذه المفاضلات ليس من الصواب التمسك بالأفضل فيها على حساب المفضول دائماً ، ففي كل خير ومن كل للدعوة نفع إن شاء الله تعالى ، وإنما الداعية يحتاج إلى هذه المفاضلات حين يكون في طور تأسيسي يحتاج إلى التوسع ، وهذا التوسع غالباً ما يحتاج إلى سرعة في العمل والإنجاز ، وإنما هذه السرعة تتحقق بسلامتها حين تتبع الأولويات ..
والله ولي التوفيق(/1)
في الزكاة وفوائدها
ورسالة في زكاة الفطر
لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة ، وقد دل على وجوبها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين ، فمن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، ومن بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المستحقين لعقوبة الله تعالى قال الله تعالى : ) ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير { [ آل عمران : 180 ]0
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يُطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول أنا مالُك أنا كنزك "0 الشجاع : ذكر الحيات، والأقرع : الذي تمعط فروة رأسه لكثرة سُمه 0 وقال تعالى :
) والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون { [ التوبة : 34، 35] 0
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أٌعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار " 0
وللزكاة فوائد دينية وخلقية واجتماعية كثيرة ، نذكر منها ما يأتي :
فمن فوائدها الدينية :
1- أنها قيام بركن من أركان الإسلام الذي عليه مدار سعادة العبد في دنياه وأٌخراه 0
2- أنها تُقرب العبد إلى ربه وتزيد في إيمانه ، شأنها في ذلك شأن جميع الطاعات 0
3- ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم ، قال الله تعالى : ) يمحق الله الربا ويربي الصدقات { [ سورة البقرة : 276 ] وقال تعالى : ) وما ءاتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما ءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون { [ الروم :39 ] 0 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بعدل تمرة - أي ما يعادل تمرة - من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يأخذها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " رواه البخاري ومسلم 0
4- أن الله يمحو بها الخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " 0
والمراد بالصدقة هنا : الزكاة وصدقة التطوع جميعاً 0
ومن فوائدها الخلقية :
1- أنها تلحق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء 0
2- أن الزكاة تستوجب اتصاف المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين ، والراحمون يرحمهم الله
3- أنه من المشاهد أن بذل النفس المالي والبدني للمسلمين يشرح الصدر ويبسط النفس ويوجب أن يكون الإنسان محبوباً بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه 0
4- إن في الزكاة تطهيراً لأخلاق باذلها من البخل والشح كما قال تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها { [ التوبة : 103 ] 0
ومن فوائدها الاجتماعية :
1- أن فيها دفعاً لحاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد 0
2- أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم ، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهادُ في سبيل الله كما سنذكره إن شاء الله تعالى 0
3- أن فيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين ، فإن الفقراء إذا رأوا تمتع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها ، لا بقليل ولا بكثير ، فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً ، ولم يدفعوا لهم حاجة ، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام 0
4- أن فيها تنمية للأموال وتكثيراً لبركتها ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نقصت صدقة من مال " 0 أي : إن نقصت الصدقة المال عدديا فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله 0
5- أن له فيها توسعة وبسطاً للأموال فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثير من الناس ، بخلاف إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها 0
فهذه الفوائد كلها في الزكاة تدل على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع 0 وسبحان الله العليم الحكيم 0(/1)
والزكاة تجب في أموال مخصوصة منها : الذهب والفضة بشرط بلوغ النصاب ، وهو في الذهب أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع الجنيه ، وفي الفضة ستة وخمسون ريالاً سعودياً من الفضة أو ما يعادلها من الأوراق النقدية ، والواجب فيها ربع العشر ، ولا فرق بين أن يكون الذهب والفضة نقوداً أم تبراً أم حلياً ، وعلى هذا فتجب الزكاة في حلي المرأة من الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً ، ولو كانت تلبسه او تعيره ، لعموم الأدلة الموجبة لزكاة الذهب والفضة بدون تفصيل ، ولأنه وردت أحاديث خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحلي وإن كان يلبس ، مثل ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال : " أتعطين زكاة هذا ؟ " قالت : لا 0 قال : " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار ؟ " فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله " 0 قال في بلوغ المرام : رواه الثلاثة وإسناده قوي ولأنه أحوط وما كان أحوط فهو أولى 0
ومن الأموال التي تجب فيها الزكاة : عروض التجارة ، وهي كل ما أٌعد للتجارة من عقارات وسيارات ومواشي وأقمشة وغيرها من أصناف المال ، والواجب فيها ربع العشر ، فيقومها على رأس الحول بما تساوي ويخرج ربع عشره ، سواء كان أقل مما اشتراها به أم أكثر أم مساوياً 0 فأما ما أعده لحاجته أو تأجيره من العقارات والسيارات والمعدات ونحوها فلا زكاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " - أهل الزكاة هم الجهات التي تصرف إليها الزكاة ، وقد تولى الله تعالى بيانها بنفسه فقال تعالى : ) إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم { [ التوبة : 60 ] 0
فهؤلاء ثمانية أصناف :
الأول : الفقراء وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئا قليلاً دون النصف ، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة فهو فقير فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة 0
الثاني : المساكين وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنة كاملة فيكمل لهم نفقة السنة 00 وإذا كان الرجل ليس عنده نقود ولكن عنده مورد آخر من حرفة أو راتب أو استغلال يقوم بكفايته فإنه لا يعطى من الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " 0
الثالث : العاملون عليها وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها ، وتصريفها إلى مستحقيها ، وحفظها ، ونحو ذلك من الولاية عليها ، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء 0
الرابع : المؤلفة قلوبهم وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة ، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم ، فيكونوا دعاة للإسلام وقدوة صالحة ، وإن كان الإنسان ضعيف الإسلام ولكنه ليس من الرؤساء المطاعين بل هو من عامة الناس ، فهل يعطى من الزكاة ليقوى إيمانه ؟
يرى بعض العلماء أنه يُعطى لأن مصلحة الدين أعظم من مصلحة البدن ، وها هو إذا كان فقيراً يعطى لغذاء بدنه ، فغذاء قلبه بالإيمان أشد وأعظم نفعاً ، ويرى بعض العلماء أنه لا يعطى لأن المصلحة من قوة إيمانه مصلحة فردية خاصة به0
الخامس : الرقاب ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه ، ومعاونة المكاتبين وفك الأسرى من المسلمين 0
السادس : الغارمون وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم ، فهؤلاء يعطون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أم كثيرة 000 وإن كانوا أغنياء من جهة القوت ، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت عائلته ، إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه ، فإنه يُعطى من الزكاة ما يوفي به دينه ، ولا يجوز أن يسقط الدين عن مدينه الفقير وينويه من الزكاة 0
واختلف العلماء فيما إذا كان المدين والداً أو ولداً ، فهل يعطى من الزكاة لوفاء دينه؟ والصحيح الجواز 0
ويجوز لصاحب الزكاة أن يذهب إلى صاحب الحق ويعطيه حقه وإن لم يعلم المدين بذلك ، إذا كان صاحب الزكاة يعرف أن المدين لا يستطيع الوفاء 0
السابع : في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله فيعطى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم ، ويشترى من الزكاة آلات للجهاد في سبيل الله 0
ومن سبيل الله : العلمٌ الشرعي ، فيعطى طالب العلم الشرعي ما يتمكن به من طلب العلم من الكتب وغيرها ، إلا أن يكون له مال يمكنه من تحصيل ذلك به 0
الثامن : ابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطى من الزكاة ما يوصله لبلده0
فهؤلاء هم أهل الزكاة الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه ، وأخبر بأن ذلك فريضة منه صادرة عن علم وحكمة والله عليم حكيم 0
ولا يجوز صرفها في غيرها كبناء المساجد وإصلاح الطرق ، لأن الله ذكر مستحقيها على سبيل الحصر ، والحصر يفيد نفي الحكم عن غير المحصور فيه 0(/2)
وإذا تأملنا هذه الجهات عرفنا أن منهم من يحتاج إلى الزكاة بنفسه ومنهم من يحتاج المسلمون إليه ، وبهذا نعرف مدى الحكمة في إيجاب الزكاة ، وأن الحكمة منه بناء مجتمع صالح متكامل متكافئ بقدر الإمكان ، وأن الإسلام لم يهمل الأموال ولا المصالح التي يمكن أن تبنى على المال ، ولم يترك للنفوس الجشعة الشحيحة الحرية في شُحها وهواها ، بل هو أعظم موجه للخير ومصلح للأمم 0
والحمد لله رب العالمين 0
في زكاة الفطر
زكاة الفطر فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفطر من رمضان 0 قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر من رمضان على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين " 0 (متفق عليه)
وهي صاع من طعام مما يقتاته الآدميون ، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : " كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام ، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر " رواه البخاري 0 فلا تجزئ الدراهم والفرش واللباس وأقوات البهائم والأمتعة وغيرها ، لأن ذلك خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (أي مردود عليه)"0
ومقدار الصاع كيلوان وأربعون غراماً من البر الجيد ، هذا هو مقدار الصاع النبوي الذي قدر به النبي صلى الله عليه وسلم الفطر 0
ويجب إخراج الفطرة قبل صلاة العيد والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة ، وتجزئ قبله بيوم أو بيومين فقط ، ولا تجزئ بعد صلاة العيد لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : " فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبوله ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود وابن ماجه 0 ولكن لو لم يعلم بالعيد إلا بعد الصلاة أو كان وقت إخراجها في بر أو بلد ليس فيه مستحق - أجزأ إخراجها بعد الصلاة عند تمكنه من إخراجها0
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه 0 ...(/3)
في اللباس فيما يحل منه ما يحرم
115
اللباس والزينة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- اللباس نوعان لباس ظاهر ولباس باطن 2- التقوى هي لباس المؤمن باطناً 3- الأصل في اللباس الحل 4- المحرّم من اللباس للرجال والنساء 5- أدلة التحريم 6- المسنون من اللباس 7- الإسبال 8- الصور على الملابس 9- لبس الذهب
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أولاكم من النعم، ودفع عنكم من النقم، فكم رزقكم من الطيبات، وعافاكم من المصائب والبليات، ومن ذلك ما أنزل لكم ربكم من أنواع اللباس؛ لكي تستتروا به وتتجملوا به بين الناس، كما قال سبحانه مذكراً لكم لعلكم تشكرون: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون [سورة الأعراف:26].
فقد امتن سبحانه على عباده بأن أوجد لهم لباساً يسترون به عوراتهم، ويجملون به ظاهرهم لباساً أحسن منه وهو لباس التقوى، الذي يجمل ظاهرهم وباطنهم في الدنيا والأخرى، ولباس التقوى هو الإيمان، الذي يجعل المرء يتقي ربه فيلازم طاعته، ويبتعد عن معصيته، ويستعين بنعمه على تحقيق مرضاته، ويحذر أن تكون ذريعة إلى تعدي حدوده، وانتهاك حرماته، وتقوى الله سبب لسعة الرزق، ويسر الأمر، وتكفير السيئة، وعظم الأجر: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراًً [سورة الطلاق:2-3]. وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظِم له أجراًً [سورة الطلاق:4-5]. فاتقوا الله في جميع أموركم، واعملوا له شكرا، واتقوه في ملابسكم، لا تكسبوا بها وزرا.
أيها المسلمون: إن هذا اللباس بجميع أصنافه وأشكاله من الزينة التي أخرجها الله وأباحها لعباده، ولقد أنكر سبحانه على من حرم شيئا منها دون برهان، أو تجاوز منها ما جاء به الشرع في شأنها من بيان، كما قال سبحانه في ذكره المصون: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون [سورة الأعراف:32].
فأضاف سبحانه الزينة إليه امتناناً علينا بنعمته، وتنبيهاً لنا أن نتقيد فيها بأحكام شريعته، فلا نتحكم فيها بتحليل أو تحريم، أو نستعملها فيما يخالف الشرع الحكيم: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [سورة البقرة:229].
أيها المسلمون: إن الأصل في اللباس الإباحة؛ فإنه داخل في عموم قوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض [سورة البقرة:29]. فكله حل لنا إلا ما قام الدليل من الشرع على تحريمه، ولهذا كان المحرم من اللباس قليلا بالنسبة للحلال، عطاء من ذي الفضل والجلال، وعطاؤه سبحانه أوسع من منعه، وهو تعالى لا يمنع عباده من شيء إلا لحكمة بالغة، ومصلحة جامعة، فإنه ذو الرحمة الواسعة، وهناك ضوابط توضح المحرم من اللباس، ينبغي أن يعلمها جميع الناس، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم أمره حتى يزول الإلتباس.
أحدها: ما فيه تشبه بالكفار، كالزي الخاص بهم، أو ما فيه لهم إشارة أو شعار، فإن تحريم التشبه بالكفار في اللباس من الأصول المهمة، التي توافرت بشأنها الأدلة، واشتهر عند سائر الأمة، فكل لباس يختص بالكفار لا يلبسه غيرهم، فلا يجوز للمسلم رجلا كان أو امرأة لبسه، سواء كان لباساً شاملاً للجسم كله أو لعضو منه، لقوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). فإن التشبه بهم يقتضي شعور المتشبه بأنهم أعلى منه، فيعجب بصنعيهم ويفتن بمشاكلتهم، حتى يجره ذلك إلى اتباعهم في العقائد والأعمال والعوائد والأحوال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر التشبه بهم.(/1)
الثاني: ما يظهر العورة لضيقه أو شفافيته أو قصره؛ فإن الله سبحانه امتن علينا باللباس الذي من فوائده ستر العورة وأخذ الزينة، إذ يقول: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم أي ليستر عوراتكم: وريشاً [سورة الأعراف:26]. أي زينة. فإذا كان اللباس لا يستر العورة فإنه لا يتحقق به التمتع بالمنة ولا التجمل بالزينة، فيجب على الرجال والنساء كل بحسبه ستر عوراتهم، والستر لا يقصد به تغطية البشرة فقط، بل يتعداه إلى تغطية الأعضاء المحكوم شرعاً بأنها عورة لا بد من سترها عن أنظار الناس، سواء منها ما يختص بالصلاة بحيث يكون اللباس واسعاً – نسبياً – سميكاً سابغاً، فلا ينحسر عن العورة، ولا يصفها لضيقه أو صفاقته أو شفافيته، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [سورة الأعراف:31]. فالزينة هي اللباس، والمراد بالمسجد الصلاة، فأمر سبحانه العباد أن يلبسوا أحسن ثيابهم وأجملها في الصلاة؛ للوقوف بين يديه، ومناجاته والتذلل له. والتجمل في اللباس مطلوب من المسلم بما أباح الله له من غير إسراف ولا تبذير ولا تكبر ولا مخيلة.
الثالث: التشبه من الرجال بالنساء أو العكس؛ فكل لباس يختص بأحد الجنسين سوءاً كان شاملاً لجميع الجسم كالقميص ونحوه، أو مختصاً بعضوا منه كالسراويل وغطاء الرأس، أو الأطراف كالحذاء والجوارب، في لونه أو هيئته؛ فإنه لا يجوز للجنس الآخر لبسه؛ لما ورد من النصوص الصحيحة الصريحة في وعيد المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله الرجل يلبس لبس المراة، والمراة تلبس لبس الرجل)). فما جرى العرف- الذي لا يخالف الشرع -عليه بأنه من لباس النساء في نوعه أو لونه أو هيئة تفصيله وخياطته، فلا يجوز للرجال لبسه، وهكذا ما تعورف عليه بأنه من لباس الرجال الخاص بهم فلا يجوز للنساء لبسه، ولو على سبيل الهزل أو التمثيل في المناسبات؛ حتى لا يتعرض المسلم للعن، وهو الطرد والابعاد عن رحمة الله، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (لقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض).
فمن راعى الضوابط السابقة، فكان لباسه شرعياً لا مخالفة فيه بوجه من الوجوه، فلا حرج عليه أن يختار ثوبه ونحوه مما يحلو له رجلاً كان أو امرأة بشرط تجنب الشهرة، وليس ثم مانع أن يكون من الأمة من هم أكثر ورعاً يتحرون الأفضل والأكثر ستراً؛ فإن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعملها كثير من الناس، من وقع فيه وقع في الحرام على الدوام.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستعينوا بنعم الله على طاعته، ولا تجعلوها سلماً لمعصيته في ارتكاب مخالفته؛ بل اشكروا نعمه، واحذروا نقمته، واخلصوا عبادته، وأقيموا فرائضه، واحفظوا حدوده: واتقوا يوماً ترجون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [سورة البقرة:281].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [سورة الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
لم ترد.(/2)
في تحريم الضرر والضرار
90
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
1- تخريج حديث " لا ضرر ولا ضرار " 2- أنواع المُضارّة بالناس 3- صور للإضرار بالزوجة والأقارب والجيران وعموم المسلمين 4- الإضرار بالنفس
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وكونوا عباد الله إخوانا كما سماكم الله، يحب أحدكم لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، يبذل خيره لأخيه ويكف عنه شره ولا يؤذيه، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله قال: ((لا ضرر ولا ضرار))، حديث حسن روي مسندا ومرسلا، وله طرق يقوي بعضها بعضا، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وهو يدل على تحريم الضرر والضرار، ضد النفع، وقد دل الحديث على تحريم إيصال الضرر إلى الناس بغير حق في أبدانهم وأعراضهم وأولادهم وأموالهم، وفي الحديث الآخر: ((من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه )).
والمضارة بالناس على نوعين:
النوع الأول: أن يضارهم في غير مصلحة تعود عليه في نفسه. وهذا لا شك في تحريمه وقبحه وقد ورد في القرآن الكريم النهي عن المضارة في مواضع: منها المضارة في الوصية، قال تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [سورة النساء:12].
وفي الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: ((إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فيدخل النار )) ثم تلا: تلك حدود الله إلى قوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين [سورة النساء:13-14]. وخرجه الترمذي وغيره بمعناه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا هذه الآية.
وذلك لأن الله توعده أن يدخله النار خالدا فيها، وذلك لا يكون إلا على كبيرة.
والإضرار في الوصية على نوعين:
النوع الأول: أن يوصي لبعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له فيتضرر بقية الورثة، ولهذا قال النبي : ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)).
النوع الثاني: أن يوصي بزيادة على الثلث لغير وارث، فينقص حقوق الورثة، والنبي إنما رخص بالوصية بالثلث فأقل، فقال: ((الثلث، والثلث كثير)).
ومن المضارة المنهي عنها في القرآن: المضارة في العشرة الزوجية، كالمضارة بمراجعة الزوجة المطلقة إذا طلقها ثم راجعها من غير أن يكون له رغبة فيها، وإنما قصده حبسها حتى تصبح لا هي ذات زوج ولا مطلقة.
وفي الجاهلية كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت نهاية العدة راجعها إضرارا لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، قال تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا ًلتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه [سورة البقرة:231].
وقال تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً [سورة البقرة: 228].
فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة بالزوجة فإنه آثم بذلك.
ومن أنواع المضارة في العشرة الزوجية المضارة بالإيلاء بأن يحلف على ترك وطء زوجته، وقد أمر الله أن يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن رجع في أثنائها وكفر عن يمينه ووطئ زوجته كان ذلك توبته، وإن استمر على يمينه ولم يطأ زوجته حتى مضت أربعة الأشهر ألزمه الحاكم إما بالرجوع إلى وطء زوجته والتكفير عن يمينه، وإما بالطلاق، وذلك لإزالة الضرر عن الزوجة، قال تعالى: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [سورة البقرة: 226-227].
ومن المضارة في العشرة الزوجية أن يطيل الزوج السفر من غير عذر، وتطلب امرأته قدومه فيأبى، وحكمه أن يمهل ستة أشهر، فإن أبى القدوم بعد مضيها فإن الحاكم يفرق بينه وبين زوجته إذا طلبت ذلك دفعا للضرر عنها.
ومن أنواع المضارة الممنوعة في القرآن المضارة في تربية الأولاد كالمضارة في الرضاع.
قال تعالى: والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده [سورة البقرة: 233].
فإضرار الوالدة بولدها أن يُنزع ولدها منها من أجل الإضرار بها، وإضرار المولود له (وهو الأب) بولده أن تأبى أمه أن ترضعه، ليتكلف الأبطلب المراضع والمربيات له من غيرها.
ومن أنواع الضرر المنهي عنه في القرآن: المضارة في المعاملات، كمضارة الكُتّاب والشهود الذين يكتبون الوثائق ويثبتون الحقوق بكتاباتهم وشهاداتهم، وقد نهى الله عن المضار بهم والمضارة منهم بأصحاب الحقوق، قال تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد [سورة البقرة:282].
فالإضرار بالكاتب والشاهد أن يدعيا للكتابة والشهادة في وقت أو حالة تضرهما، ومضارة الكاتب والشاهد لأصحاب الحقوق أن يكتب الكاتب غير ما يُملي عليه، ويشهد الشاهد بخلاف ما رأى أو سمع، أو يكتم الشهادة بالكلية عند الحاجة إليها.(/1)
ومن المضارة في المعاملات المضارة بالمدين المعسر الذي أمر الله بإنظاره إلى ميسرة أو إعفائه من الدين، قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [سورة البقرة:280]. فلا تجوز مطالبته ولا حبسه ما دام معسرا. كما لا يجوز أن يضار المدين الواجد بالدائن فيما طلبه من قضاء حقه.
ومن المضارة المنهي عنها في المعاملات بيع المضطر، وذلك بأن يضطر الفقير إلى شراء سلعة، فلا يجد من يبيع عليه إلا بغبن فاحش، أو يضطر إلى بيع سلعة فلا يجد من يشتريها منه إلا برخص كثير. وقد روى أبو داود بسنده عن النبي أنه أخبر الناس، فقال: ((إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك )). قال تعالى: لا تنسوا الفضل بينكم [سورة البقرة:237].
ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله عن بيع المضطر.
وفي رواية: قال رسول الله : ((إن كان عندك خير تعود به على أخيك،وإلا فلا تزيدنه هلاكا إلى هلاكه )).
وقد سئل أحمد عن بيع المضطر ما معناه؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين.
عباد الله: إنه لا مانع من البيع المؤجل بثمن أكثر من الثمن الحاضر للمحتاج وغير المحتاج، ولكن لا ينبغي أن يكون الزيادة كثيرة مجحفة، لا سيما إذا كان المشتري مضطرا إلى الشراء، فلا ينبغي أن تستغل ضرورته، ويحمل الزيادات الباهظة، لأن هذا إضرار يتنافى مع الرحمة والفضل بين المسلمين.
ومن أنواع الضرر الممنوع في الإسلام الضرر في مجال العبادات، قال تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فهيا أبداً [سورة التوبة:107-108].
فاعتبر الضرر الحاصل في اتخاذ هذا المسجد في مطلع المقاصد السيئة، ومنع رسوله من الصلاة فيه وأمر بهدمه.
النوع الثاني: أن يضار الناس بما فيه له منفعة خاصة مثل أن يتصرف في ملكه بما يترتب عليه الإضرار بجيرانه، مثل أن يغرس في ملكه شجرا تتمدد أغصانه وفروعه على أملاك جيرانه، أو يحفر بئرا تجذب الماء عنهم، أو ينشيء مصنعا في ملكه يتضرر منه جيرانه بالدخان أو الغبار أو الأصوات أو الروائح، أو يفتح في جداره نوافذ تطل على جيرانه أو يعلي البناء عليهم فيمنع عنهم الهواء، والشمس إلى غير ذلك فإن هذا الضرر ممنوع تجب عليه إزالته.
وكذلك من أعظم المضار بالجيران أن يؤجر بيته لأناس لا يصلون ولا يخافون الله، فإن هؤلاء يضرون المسلمين ويضايقونهم وقد يؤثرون على أولادهم ومن خالطهم، فاتقوا الله يا من تؤجرون الكفرة والفساق وتسكنونهم بجوار المسلمين، فإن الأجرة التي تحصل منهم لكم حرام والمسلمون يدعون عليكم فتلحقكم الآثام، وكذلكم يحرم تأجير الدكاكين والمحلات لبيع المواد المحرمة كتسجيلات الأغاني وأشرطة الفيديو أو جعلها محلات للتصوير أو بيع التبغ ويجب على الحاكم إزالة الضرر إذا اشتكى منه الجيران وامتنع من إزالته.
ومتى الإضرار الممنوع في حق الجار: منعه من الانتفاع بملك جاره على وجه لا يضر به، كأن يحتاج إلى وضع خشبة على جدار جاره، والجدار يتحمل فإنه يجب على صاحب الجدار أن يمكنه من ذلك، لما في (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره ))، وقضى عمر ابن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه لما احتاج إلى ذلك، وقال: لتمرن بك لو على بطنك.
ومن الإضرار الممنوع أن يمنع الناس من الانتفاع بالمباحثات المشتركة، كالمنع من فضول المياه الجارية في الأنهار والأودية والمجتمعة في الخوابي وغيرها، أو يمنعوا من الرعي في الفلوات، أو الاحتشاش أو الاحتطاب من الأراضي الموات، أو الانتفاع بالمعادن المباحة كمعان الملح وغيره، في (الصحيحين) عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ))، وفي (سنن أبي داود): أن رجلا قال للنبي : يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: ((الماء))، قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال (( الملح ))، قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: (( أن تفعل الخير خير لك ))، وقال : ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ)).
ومن الإضرار الممنوع: مضارة الناس في طرقاتهم بوضع الأذى فيها، أو وضع ما يمنع المرور أو يسبب الحوادث، أو مخالفة أنظمة السير بما يعرض الناس للخطر، كل هذا ضرر محرم.
فاتقوا الله عباد الله، وعليكم ببذل النفع لإخوانكم وجيرانكم ومنع الضرر والضرار: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [سورة المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية(/2)
الحمد لله رب العالمين الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه بالدين والهدى وكلمة التقوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا في الآخرة والأولى.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه كما يحرم على المسلم أن يضر بالناس يحرم عليه أن يضر نفسه، كأن يعرضها للخطر من غير مصلحة راجحة، قال تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [سورة البقرة:195].
وقد توعد الله من قتل نفسه بأشد الوعيد، قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً [سورة النساء: 29-30].
وكذلك من تسبب في قتل نفسه أو إمراض جسمه أو الإخلال بعقله بتناول المسكرات والمخدرات وشرب الدخان والقات، فإنه متوعد بأشد الوعيد ومعرض لأشنع العقوبات في الدنيا والآخرة.
ومن الإضرار بالنفس: التشديد عليها وتعريضها للمشقة في أمور العبادات، وقد شرع الله لعباده شريعة سمحة لا حرج فيها، فقال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [سورة البقرة:185]. وقال: وما جعل عليكم في الدين من حرج [سورة الحج:78].
شرع لأصحاب الأعذار من المرضى والمسافرين والخائفين أحكاما تخصهم في الصلاة والصيام وتتناسب مع أحوالهم، وشرع لعباده الاقتصاد في العبادة مع المداومة عليها، فخير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل.
ونهى عن الغلو والتشدد، قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [سورة المائدة:77]. وقال النبي : ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
والغلو: هو الزيادة عن الحد المشروع، ولما بلغ النبي أن ثلاثة من أصحابه أراد أحدهم أن يصوم فلا يفطر، وأراد الآخر أن يقوم الليل فلا يرقد وأراد الثالث أن لا يتزوج النساء، قال : (( أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
فعليكم عباد الله باتباع الكتاب والسنة في عباداتكم، فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها...(/3)
في ذكرى الإسراء والمعراج
(فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)
بهذه الكلمات المباركات افتتح القاضي محي الدين بن الزكي أول خطبة بعد تحرير المسجد الأقصى (مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم). ثم أورد تحميدات القرآن الكريم كلها، ثم قال:
" الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج المشركين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله. الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمانع، والظاهر على خليقته فلا يُنازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع.
أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من ظهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى.
وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .
ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس الذي من شأنه ... (فذكر فضائله ومآثره):
وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تنعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثم عاد إليه، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم .
ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين".
وبعد ،،،
إن في تاريخ القدس سجل شريف ناصع، فقد افتتحه معنويا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بحادثة الإسراء والمعراج. ثم افتتحه ماديا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم حرره من الصليبيين الناصر صلاح الدين الأيوبي.
فمن يحوز شرف الانضمام إلى هذه القائمة الشريفة ؟
حتما لن يحوز هذا الشرف:
حاكم يطلب الرضا والمودة من أمريكا.
أو حاكم يسارع لكسب مودة الحكومة الصهيونية.
أو حاكم مستبد ظالم لا يحكم بالعدل.
أو حاكم يفضل حكم الجاهلية (القوانين الوضعية) على حكم رب العالمين.
أو حاكم لا يتوافق مع طموحات شعبه ورعيته.
لن يحوز هذا الشرف إلا حاكم يحكم بكتاب الله تعالى، يخاف الله ويرجو الدار الآخرة، يقود الأمة نحو عزتها ورفعتها مسترشدا بالكتاب والسنة، حاكم يقرب بطانة الخير إليه، ويبعد بطانة الشر عنه، حاكم لا يخاف في الله لومة لائم.
واعلموا أن هذا الحاكم ليس من نسج الخيال، فكما تكونوا يولّ عليكم، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
توصيات :
الإلحاح في الدعاء ليهيأ الله لهذه الأمة قائدا ربانيا يقودها بكتاب الله وينقاد إليه، يجعل الله تحرير المسجد الأقصى على يديه، ويجعلنا من جنده الراشدين.(/1)
في صحبة الهدهد
عادل باناعمة
الحمد لله والصلاة على رسوله
وبعد ،،،
قال تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
هذه الآيات تحكي لنا قصة هدهد سليمان عليه السلام ، وتروي لنا العجيب من خبره مع هذا النبي العظيم .
وابتداء لا بد أن ندرك أن هذا الهدهد السليماني لم يكن هدهدا من عامة الهداهد وإنما هو هدهد معين خاص ، وقد دل على ذلك أن الله قال : { مالي لا أرى الهدهد } (( ولم يقل : مالي لا أرى هدهدا من عرض الهداهد ، فلم يوقع قوله على الهداهد جملة ، ولا على واحد منها غير مقصود إليه ،ولم يذهب إلى الجنس عامة ، ولكنه قال : { الهدهد } فأدخل في الاسم الألف واللام ، فجعله معرفة فدل بذلك القصد على أنه ذلك الهدهد بعينه ، وكذلك غراب نوح ، وحمار عزير ، وذئب أهبان بن أوس ، فقد كان لله فيه وفيها تدبير ، وليجعل ذلك آية لأنبيائه ، وبرهانا لرسله ))(/1)
والهدهد في العادة (( نوع من الطير ... في رائحته نتن ، وفوق رسه قزعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، ويرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن فيه ماء ، وقال الجاحظ : زعموا أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين )) ، وقد ذكروا في سبب نتن رائحته أن ذلك عائد إلى أنه يبني بيته من الزِّبل ، أو إلى تلك الجيفة المنتنة في رأسه ، إذ تزعم العرب أن أم الهدهد لما ماتت جعل قبرها على رأسه ، فجعل الله له تلك القنزعة على رأسه ثوابا له على ماكان من بره لأمه ! وقيل : بل هو منتن من نفسه من غير عرضٍ عرَضَ له ، شأنه في ذلك شأن التيوس والحيات وغيرها .
والعرب يضربون المثل بقوة إبصار الهدهد فيقولون : أبصر من هدهد ، كما يقولون : أبصر من غراب وأبصر من عقاب وأبصر من فرس .
بعد هذه المعلومات الخاطفة عن جنس الهدهد بشكل عام نرجع إلى هدهدنا السليماني في هذه القصة الفريدة العجيبة ، وسنقف وقفات في مدرسة هذا الهدهد ، وفي قصته مع سليمان في الجملة ، وسنفاجأ حقيقة بمدى ما كان لهذا الهدهد من إيمان وذكاء وأدب .
الوقفة الأولى / الهدهد الإيجابي
لقد شاهد الهدهد إبان طيرانه قوما يعبدون الشمس ، شاهد هذا المنكر العظيم ، فماذا فعل ياترى ؟ إنه لم يقف موقفا سلبيا ، وإنما ذهب وتحرك وتقصى ، وألقى بالنبأ إلى سليمان عليه السلام ، باذلا بذلك كل وسعه في تغيير المنكر ، وضاربا بذلك أروع المثل في الإيجابية العملية .
لقد فعل الهدهد ذلك كله دون تكليف مسبق ، أو تنفيذ لأمر صادر ، وجلب للقيادة المؤمنة خبرا أدى إلى دخول أمة كاملة في الإسلام .
إن هذا لا يعني التسيب والتصرف الفردي ، ولكنه يدل على الإيجابية الهادفة بضوابطها ، دون الخروج على أهداف المجموع .
إن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي مانفتقده اليوم في كثير من شباب الصحوة اليوم ، فهم ـ إلا من رحم الله ـ لا يكادون يبادرون إلى عمل ، أو يسارعون إلى بذل ، ولا يتحرك أحدهم إلا حين يكلف بعينه وشخصه ، ومع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ ، ويبطئ في الأداء !
وماهكذا كان السلف ، بل كانوا إيجابيين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، وإنك لتنظر إلى جيل الصحابة فترى لكل صحابي سمة معينة وإبداعا متميزا ، فمنهم من أشار واقترح ، ومنهم من أوضح وشرح ، ومنهم من أضاف واستدرك ... وحسبنا خبر ذلك الصحابي في معركة القادسية حين رأى خيل المسلمين تنفر من فيلة الفرس فصنع فيلا من طين ، وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل ، فحمل على الفيل المقدم حتى دحره .
إن لهذه الإيجابية ثمرات عديدة رائعة منها :
1ـ نمو الحضارة الإنسانية : فمعظم الاختراعات والابتكارات كانت فردية ، وبدأت بإيجابية عملية من عالم أو صانع .
2ـ الإعذار إلى الله : وقد امتدح الله قوما واصلوا الوعظ والإرشاد لقوم غلف القلوب لا لشيء إلا للإعذار إلى الله { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } .
3ـ احترام النفس والثقة بها : فالإيجابي رجل يحترم نفسه ويعرف قدرها في غير غرور ولاكبر ، وانظر إلى ذلك الذي قال له رجل : إريدك في حويجة فقال له : ابحث لها عن رجيل !
إن التواضع الكاذب المصطنع ليس إلا فرارا من البذل ، ونكوصا عن العطاء ، والمؤمن الحق باذل إيجابي لا يعوقه معرفته بعيبه عن البذل والعطاء .
ومن أراد أن يزيد إيجابيته فعليه بتقوية الإيمان ، وتجنب الهوى ، وحفظ الهمة ، وتحصيل العلم ، والإبداع في التخصص .
الوقفة الثانية / الهدهد ومهارات الخطاب
لقد كان في خطاب الهدهد لسليمان العديد من المهارات والإبداعات التي يحسن بالشاب المسلم أن يتعلمها وهو يخاطب الآخرين .
1ـ فنلحظ أولا إيجازه للخطاب مع سليمان ، فقد جمع في أسطر معدودة قصته الطويلة مع هذه الملكة التي تعبد وقومها الشمس .
إن الهدهد يدرك أنه يخاطب ملكا ، والملوك أوقاتهم مليئة بالمشاغل وليس لديهم وقت لسماع التفاصيل والجزئيات ، ومن هنا ركز الهدهد على أصول المسائل فأوجز وأبلغ .
وعلى الشاب المسلم أن يدرك هذا ، فإذا تخاطب مع مسؤول كبير ، أو شيخ فاضل ، أو عالم جليل ، أو أخ نبيل ، إذا تخاطب مع أحد هؤلاء المليئة أوقاتهم بالعمل فعليه ألا يكون ثرثارا مهذارا ، يجعل من الحبة قبة ، ويحيل السؤال الصغير إلى قصة طويلة عريضة ، إن في هذا من إهدار وقت الفضلاء ما لا يطاق ولا يحتمل ، وإنك حين تفعل هذا أيها الأخ فستكون ثقيلا بغيضا ، لأن المقابل يشعر أنك تضيع وقته .
إذا أيها الأخ راع ظرف المخاطب ومنزلته ومكانته .
2ـ استفتح الهدهد خطابه لسليمان بشيء عجيب ، إذ قال له : { أحطت بما لم تحط به } !(/2)
إن الهدهد (( يعرف حزم الملك وشدته ، ولذلك بدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته ، وتضمن إصغاء الملك له ... وأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له : { أحطت بما لم تحط به } ؟!)) [في ظلال القرآن 5/2638]
وهكذا عليك أيها الأخ أن تكون في خطابك ذكيا ، وأن تفلح في جذب استماع المخاطب ، حتى تتمكن من إيصال رسالتك .
ولئن كان الهدهد بهذا الأسلوب يحاول أن ينجو من عقوبة ، فإنا نستخدمه ونطوره لنشر الخير والدعوة ، ذلك أن الكثيرين من العصاة حولنا لا يأنسون بكلامنا ، وينفرون من هذه المواعظ المعتادة التي تلقى ، وبمجرد أن تبدأهم بالحديث بها أو عنها فإنهم يعرضون ، ولذلك فأنت بحاجة إلى مدخل ذكي تشد به أسماعهم وتأسر ألبابهم حتى تتسلل كلمات الحق إلى قلوبهم .
أذكر أن أحد الخيرين رأى نفرا من الشباب الضائعين في مطعم ، فجاءهم وقال : هنيئا لكم أيها الشباب ! إن هذه الأرض تشهد لكم عند الله ! قالوا : كيف ؟ قال : ألستم تصلون ؟ قالوا : بلى ، قال : فالأرض تشهد لكل من صلى عليها ! لقد كان هذا مدخلا ذكيا جذب به أسماعهم وأزال الحواجز بينه وبينهم .
3ـ حين أخبر الهدهد سليمان عليه السلام بخبر بلقس وقومها وكفرهم بالله ، لم يقل لسليمان : اذهب فأمرهم بالتوحيد والسجود لله ، وإنما قال : { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء ... } ، فالهدهد هنا ألمح بالحل ، ولم يأمر به ، اقترح ولم يفرض ، عرض ولم يصرح بالتكليف .
وبمثل هذا الأسلوب يمكن أن نكسب الناس .
إن طبيعة النفس الإنسانية أنها تنفر من الأوامر الصارمة المتعددة الجازمة ، ولذلك كان لزاما علينا ونحن نوجه الناس ونعظهم أن نجتنب صيغة الأمر المباشر ، ونحاول اللجوء لأسلوب العرض والاقتراح ... وكم بين أن تقول لشخص : ياهذا قم الليل ألا تعلم فضل قيامه ؟ إلى متى النوم والغفلة .. وبين أن تقول له : يا أخي ، لقد وفق الله المصطفين من عباده فصفوا أقدامهم بالأسحار مصلين ، فأصبحوا ووجوهم مشرقة منيرة ، ياليتنا نكون منهم .
فكن يا أخي قليل الأوامر ، ولاسيما إذا لم تكن مسؤولا .
4ـ حين أخبر الهدهد انبغاء السجود لله قال : { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } ، فاختار وصف الله بالعظمة تذكيرا لسليمان بأن هناك من هو أعظم منه ، محاولا بهذا أن يخفف من غضب سليمان عليه السلام عليه .
5ـ قال ابن القيم في قوله تعالى : { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } : (( والنبأ هو الخبر الذي له شأن ، والنفوس متطلعة إلى معرفته ، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ ، استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر ، وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ومعرفته ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج ، ثم الكشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التوكيد ,,,)) [شفاء العليل 71 نقلا عن الإيجابية في حياة الداعية 24]
الوقفة الثالثة / الهدهد وإنكار المنكر
وهذا شيء بين ، فقد ساءه ما رأى من عبادة بلقيس وقومها للشمس ، فتمعر وجهه لذلك وحمي أنفه ، ومازال بهم وبسليمان حتى دخلوا جميعا في الإسلام وزال هذا المنكر .
فهل نجد في واقعنا صدى لهذه الخصلة ؟
إن إنكار المنكر ـ وللأسف ـ صار لا يشكل جزءا من همنا ولا من تربيتنا مع أننا جميعا نحفظ حديث السفينة وندرك خطر المنكرات حين تنتشر .
وحسبنا زاجرا ذلك الأثر الذي جاء فيه أن الله أمر جبريل أن يهلك أهل قرية لفسقهم ، فقال : يارب إن فيهم عبدك فلانا ما عصاك قط ! قال : فبه فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه من أجلي !
الوقفة الرابعة / الهدهد الدقيق
أنظر إلى قول الهدهد : { أحطت بما لم تحط به } ، قال الشوكاني : (( والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته )) ويقول الطاهر بن عاشور : (( والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط ، وهي هنا مستعارة لاستعياب العلم بالمعلومات ))
فالهدهد لم يقنع بأخذ طرف من الأخبار ، وإنما مازال ببلقيس وقومها حتى ( أحاط ) بأخبارهم ، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى .
والواجب علينا دائما ألا نبادر إلى الحكم على الشيء حتى نحيط به ، ونلم بجوانبه .
إن من مشاكل شباب الصحوة اليوم ضيق الأفق وقصر النظر ، والنظر إلى القضية أو المشكلة من زاوية واحدة دون إحاطة كإحاطة الهدهد مما يوقع في المشاكل ويؤدي إلى التعصب للرأي ’
وأبرز آفات هذا الضيق في الأفق معاداة المخالف في الفروع ، ذلك أن هذا المعادي لم يحط بالمسألة من سائر جهاتها فيعرف أنها قابلة للأخذ والرد وإنما نظر من زاوية واحدة ظنها الصواب المحض ، وصدق فيه قول من قال : يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيحسب أن عنده العلم كله !!(/3)
ومن آفاته الخطيرة شيوع ظاهرة التأثيم والتفسيق والتبديع ، إذ المقترف لهذه الأمور لم يحط بما أخذه على خصمه ، ولم يعرف جلية الأمر ، ولا نظر الدوافع والأسباب ، ولا جمع كلام المتهم كله ليوازن بعضه ببعض ... وإنما هو في الغالب أخذ ذروا فحكم ، أو نظر إل جزء فجزم .
فما أحوجنا إذا إلى هذا السلوك الهدهدي ... الإحاطة أولا ثم الحكم والتصرف .
الوقفة الخامسة / الهدهد وسلطان العلم
قال ابن القيم : (( إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا ، أو يذبحه إنما نجا منه بالعلم ، وأقدم عليه في خطابه له بقوله : { أحطت بما لم تحط به } خبرا ، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم ، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم )) .
وهكذا ارتفع الهدهد بالعلم ، والعلم دائما يرفع صاحبه ، { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، ولهذا قال الربيع : والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له ! وقال وهب بن منبه : يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيئا ن والعز وإن كان مهينا ، والقرب وإن كان قصيا ، والغنى وإن كان فقيرا ، والمهابة وإن كان وضيعا ... ))
وعن الفضيل قال : عالم عامل بعلمه يدعى كبيرا في ملكوت السموات )) !
ولعل مما يشهد لنا في هذا المقام خبر عرش بلقيس ، فقد أخبر الله أن عفريتا من الجن ( والعفريت هو الشديد الذي لا يصاب ولا ينال ) وعد سليمان أن يأتيه بالعرش قبل أن يقوم من مقامه ، وكان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس . بينما وعده الذي عنده علم من الكتاب أن يأتيه به قبل أن يرتد إليه طرفه !! قال الطاهر : (( وهذه المناظرة بين العفريت من الجن ولاذي عن\ه علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة ))
فليس المقياس إذا قوة ولا نسب ولا مال ... وإنما هو علم يقود للتقوى .
وإذا كان الأمر على هذا النحو فأين نحن من العلم ؟
ما حصيلتنا منه ؟ ما مدى حرصنا عليه ؟ إلى أي حد نهتم به ؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب .
الوقفة السادسة / الهدهد واحترام القيادة
قال النسفي رحمه الله حول قوله تعالى : { فمكث غير بعيد } : (( ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ))
إذا ... فقد كان الهدهد يهاب سليمان ويحترمه ويقدره ، ومع أنه كان في مهمة دعوية عظيمة الشأن إلا أنه مع ذلك حاول إنجازها بأسرع وقت لأنه تذكر أنه خرج في الأصل بغير استئذان !
ويتجلى هذا الاحترام والتقدير أيضا في عرض الهدهد القضية لسليمان دون أن يدلي فيها برأي آمر ، وإنما عرض ولمح كما سبق بيانه .
الوقفة السابعة / سليمان عليه السلام وعوامل النجاح القيادي
لقد كان سليمان عليه السلام نبيا مسددا ، وملكا ملهما موفقا ، والناظر في تصرفاته في قصته مع الهدهد يلمح كثيرا من عناصر التفوق القيادي ، والتي منها :
1ـ تفقد الأتباع : فمع أن سليمان قد حشر له جنود الإنس والجن والطير ، حتى ذكر بعض أهل التفسير أن معسكره كان مئة فرسخ في مئة ! مع هذا كله لم يفته غياب هذا الهدهد ، وتنبه له ... ولم يكن هذا التنبه عارضا ، وإنما بعد تفقد وسؤال مما يدل علىأنه كان يحرص علىرعيته ويسأل عنهم ، قال الطاهر : (( صيغة التفعُّل [ يعني في تفقَّد ] تدل على التكلف والتكلف الطلب )) ، فهو كان ـ عليه السلام ـ يتكلف البحث والسؤال .
ولا يمكن أن يكون القائد ناجحا إلا بمثل هذا التفقد ، وانظر مثلا إلى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثابت بن قيس بن شماس وكيف أنه افتقده بعد نزول سورة الحجرات فسأله عنه حتى عرف نبأه ثم بشره بالجنة ، وكثيرا ما تجد في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه افتقد فلانا ، أو سأل عن فلان .
و لا يمكن وصف الأثر الذي يحصل في قلب الفرد حين يعلم أو يشعر أن أميره افتقده وسأل عنه حتى وإن كان في السؤال شدة ومعاتبة ، على حد قول الشاعر :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أن خطرت ببالكِ
ومشكلة قادتنا اليوم أنهم ـ في أحيان كثيرة ـ لا يدرون شيئا عمن تحتهم ، ولا يكاد الواحد منا يهتم بأفراد رهطه أو عشيرته أو حلقته في التحفيظ مثلا ، وبالتالي يفقد كثيرا من رصيد المحبة في قلوب أتباعه ، وبعد هذا عليه ألا يلوم إلا نفسه إذا لم يجد استجابة وطاعة .
2ـ الحزم والصرامة : ولابد منهما للقائد ، وانظر كيف أن سليمان عليه السلام لما تبين له غياب الهدهد دون إذن ، ولما شاع خبر غيابه أمام الجميع ، قال : { لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه } ، وقد اختلف المفسرون في شأن العذاب الشديد ، وملخص أقوالهم أنه إما بنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو بالتفريق بينه وبين إلفه ، أو بإلزامه خدمة أقرانه ، أو بالحبس مع أضداده
لقد هدد سليمان الهدهد بهذه العقوبات ( استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداما له لئلا يلقن بالفساد غيره )(/4)
ولا ريب أن الحزم والصرامة في مواجهة الخطأ كفيلة بوأده في مهده ، أما حين يخطئ الإنسان ويشيع خطؤه في الناس ثم يتراخى القائد في الأخذ على يده فإن العاقبة حينئذ تكون سيئة ، إذ يتجرأ غيره على الخطأ ، وتنكسر حيئذ هيبة القيادة .
وينبغي علينا ألا نأخذ هذا الكلام بحرفيته في تعاملاتنا فنحن إخوة قبل أن نكون رؤساء ومرؤسين ، وليس بالضرورة أن أعاقب أخي المخالف بنتف ريشه أو ذبحه ! وإنما قد تكفي أخي الحر كلمة عتاب ، أو نظرة لوم .
المهم أن القائد هو الذي يقدر العقوبة التي يستحقها المخالف ، والمهم أن يظل العمل بمبدأ الثواب والعقاب .
ولعل من المفيد هنا أن نذكر مسألة حول تعذيب الحيوان ...
قال الطاهر : (( وأما عقوبة الحيوان فتكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله ، قال القرافي في تنقيح الفصول : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهر المؤذي هل يجوز ؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل .اهـ. قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله ... )) . وقد حل لسليمان عليه السلام تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع ، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة .
3ـ التثبت والتبين
ونرى ذلك واضحا في قوله بعد سماعه خبر الهدهد : { قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } .
كما تجلى ذلك في استثنائه عند التهديد بالعقوبة حيث قال : { أو ليأتيني بسلطان مبين }
إن العجلة في الحكم وتصديق كل ما يقال والجزم بالنتائج دون سماع الرأي الآخر إن هذه كله من تصرف الغوغاء ، ولا يمكن لقائد أن ينجح مالم يتخذ من التأني والتروي والتبين والتثبت شعارا .
4ـ معرفة مواطن الضعف عند الخصم
فحين هدد سليمان عليه السلام بلقيس لم يهددها بالموت ولا بالهلاك ، بل هددهابالذلة (( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )) ، ذلك أنه شعر من قولها فيما حكاه الله عنها : (( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة )) شعر من ذلك أن أخوف ما تخاف منه أن تصير ذليلة بعد العز ، فمن ثمّ خوفها بما تخاف منه ، واستغل نقطة ضعفها كما يقول المعاصرون .
الوقفة الثامنة / متابعة صدى المواقف والأقوال
إن الكثيرين من الدعاة وناشري الخير يلقون الكلمات الطيبة ، ويقفون المواقف المؤثرة ، ثم ينصرفون !
إنهم يعملون بطريقة : قل كلمتك وامش .
ومثل هذه الطريقة لا تبني رجالا بحال ، وإنما هي تؤثر تأثيرا وقتيا لا يلبث أن يزول ويمحي بمرور الأيام .
وانظر إلى هذا الدرس السليماني : { اذهب بكتابي هذه فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } ... تأمل قوله : { فانظر ماذا يرجعون } ! نعم ليست القضية أن يلقي الكتاب ويوصل الرسالة فقط ... وإنما هناك متابعة لردة الفعل ، هل استجابوا ؟ هل لانوا ؟ هل عاندوا ؟ وبناء على ردة الفعل يكون التصرف ، وبهذا يكتمل الأمر ، ويوصل إلى التصرف السليم .
إن كثيرا من المحاولات التربوية تفشل لأن المربي يهتم بإلقاء كل ما لديه من معلومات وفوائد واحدة تلو الأخرى دون أن يتمهل لينظر أثر ما قال في تلميذه ، وهل وصلت الرسالة أم لا ؟ وهل تشرب المعنى المراد أم زل عن قلبه كما يزل الماء عن الصفاة ؟ لابد من هذا وإلا فعلى العملية التربوية العفاء .
وحين لا يلتفت المربي إلى هذا يفاجأ بمواقف مؤلمة من هذا التلميذ ، وذلك عندما تبدر منه تصرفات وأخلاقيات كان يظن أنه قد تجاوزها بمراحل .
الوقفة التاسعة / لا تغتر بما عندك
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري [ رقم 74 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال موسى : لا ، فأوحى الله إلى موسى : بلى ، عبدنا خضر . فسأل موسى السبل إليه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه . وكان يتبع أثر الحوت في البحر . فقال لموسى فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانية إلا الشيطان أ أذكره . قال : ذلك ماكنا نبغي .فارتدا على آثارهما قصصا ، فوجدا خضِرا ، فكان من شأنهما الذي قصه الله في كتابه )) ... قال ابن حجر : (( وفي الحديث ... ولزوم التواضع في كل حال ، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه ، وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع ))(/5)
فعلى الإنسان ألا يحتقر غيره ، فرب صغير حاز مالم يحزه الكبير ، وهذا الهدهد وهو طير صغير أحاط بما لم يحط به سليمان وهو نبي ملك ! وقد (( ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام ... ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ))
وهكذا ينبغي أن تدرك أنه قد يكون عند من هو أصغر منك سنا ، وأقل ذكرا ماليس عندك ، وعليه فاحرص على الاستفادة من الجميع ، والقط المعلومة والفائدة من حيث خرجت ، وعلى المسلم (( ألا يتكبر أن يسمع غيره ، فلاد يدري الكلمة التي ينتفع منها ، وما من خطيب ولا واعظ إلا وتستفيد منه فكرة أو خبرا أو تذكيرا بعلم قديم قد نسي ، أو ربطا بحادثة واقعية ، أو على الأقل لا يخلو الواعظ من عرض جديد لمعلومة معروفة ، أو نبرة تبلغ إلى أعماق القلب ... ))
وفي المقابل على الفرد أن يدرك أنه قد يكون عنده ما ليس عند أساتذه ، وربما خطر بباله ما لم يخطر ببالهم ، أو أحسن ما لم يحسنوه ، فعليه حينئذ أن يبادر بالعمل فيما يحسن ، مع إخلاص نية وقصد ، ومع حفظ لحقوق السابقين من الأساتذة والمربين وعدم التطاول عليهم .
صيد الفوائد(/6)
في ظل سباق الهيمنة الهدفية بوصلة التقدم وطريق النجاح
عندما تخرج الحياة من إطار هدفها فإنّ كل شيء فيها سيرتطم بجدار الفشل أو يدور في حلقة الفوضى، ذلك لان الله ـ تعالىـ قد رسم لها سنناً رشيدة تسير على ضوئها ومن دون هذه السنن تكون الحياة ضارة، بل وتصبح حينئذ وبالاً على الاحياء فيها من عامة الناس.
والذين يعيشون مثل هذه الحياة هم الخاسرون الحقيقيون الذين خسروا حياتهم الدنيا وما أعطاهم ووهبهم الله فيها من نعم بعد ان قدموا اليها حفاة عراة لا يملكون شيئاً.
ومن أجل ان نتجاوز هذه الفوضى لابدّ لنا من ان نتعرف على الهدف الذي جئنا من أجله، ومن أجله أيضاً نسير وإليه نعود.
والسؤال عن ماهية الهدف والسعي لمعرفة كنهه ليس سؤالاً عابراً بل هو سؤال عظيم بحجم عظمة الانسان وكثرة مشاكله، ولذلك كان لزاماً علينا أن نتأمل هذا السؤال ونتدبر فيه، ونطرحه على أنفسنا في كل آن، ومتى ما عرفنا حكمة الحياة وهدفها فانّ كل شيء سيكتسب آنئذ معنى واضحاً وسمة مميزة، فحالة الحيرة والضياع التي يعيشها الانسان في هذا العالم تشبه حيرة الرجل البسيط الساذج حينما نضع بين يديه جهاز الكومبيوتر فيقلبه بين كفيه دون أن يفقه شيئاً عنه لانه لا يعرف الهدف المتوخّى من صنع هذا الجهاز.
فالانسان الذي يتعلم العلم للعلم، والأدب للأدب، والفن للفن، وكلّ شيء لذاته دون تعيين هدف عال يسمو اليه، هذا الانسان سوف لا يضل ويتيه في طريق الحياة فحسب وإنما سيضل الاخرين معه، فينطبق عليه حينئذ الحديث القدسي: (أولئك قطاع طريق عبادي اليّ)، فهو يضل الآخرين ويقطع الطريق عليهم لانّه لا يعرف هدفه وبذلك لن يستطيع أن يهب الهدف للآخرين لإنتفائه عنده، كما تقول الحكمة المعروفة: (فاقد الشيء لا يعطيه)، فكل علم أو عمل مجرد من الهدف إنما يهدي الى العواقب الوخيمة.
وقد ورد في أيات من سورة هود من الآية 112 وحتى 120 تحديد من قبل الله تعالى للهدف من خلق الانسان وأيضا ملامح الرسالة والرساليين عبر ما يذكره ـ تعالى ـ من قصص تاريخية مقتطفة من حياة الانبياء - عليهم السلام- إعتباراً من آدم - عليه السلام- وحتى نبيّنا الاكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ وما عانوه من محن وكوارث وعقبات في طريق الدعوة الى الله وصبرهم وتجلدهم ازاء ذلك كلّه.
فهو ـ سبحانه وتعالى ـ يحدد هدف الانسان الرسالي عندما يأمر نبيّه صلى الله عليه وآله وصحبه وبالإستقامة باعتبارها أسمى وأعلى هدف في الحياة الدنيا: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)، فعلى الرسول صلى الله عليه وآله أن يستقيم وكذلك من تاب معه، واتبع منهجه، وسلك خطه.
والله ـ عز وجل ـ يحدد في هذه السورة الخطى التي يجب على الرسالي أن يخطوها، خطى تلك الصفوة المؤمنة التي تستحق أن تقود الحياة، وينبغي لها أن تكون صابرة متجلّدة صامدة أمام الصعاب كي تكون بمنزلة انبياء بني إسرائيل.
وعلماء الاسلام وطلبة العلوم الدينية السائرون على خط الرسول- صلى الله عليه وآله- هم الذين يجب ان يشكلوا هذه الفئة المؤمنة الصابرة وأن يستقيموا كما استقام الرسول ومن كان معه من الصحابة في صدر الاسلام، وان لم يفعلوا فما هم بالسائرين على خط النبيّ صلى الله عليه وآله.
إن الله ـ تعالى ـ يحدد في تلك الآيات مسؤولية هؤلاء الرساليين الصابرين مرة آخرى داخل إطار وظيفة الاصلاح، والنهي عن الفساد. فالله ـ عزّ وجل ـ يؤكد على ضرورة حمل الرساليين لهذه الرسالة لانها الوسيلة الوحيدة للنجاة والظفر في الدنيا والآخرة.
فقال تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض إلا قليلا ممّن أنجينا منهم…).
هؤلاء الرساليون قليلون ولكنهم رغم ذلك يقومون بعمل عظيم وهو أيقاف زحف البشرية نحو النهاية المدمرة، فالعالم اليوم يسير بخطوات واسعة وحثيثة نحو الهاوية من خلال الحروب المستعرة فيه وما دام العالم يعيش هذه الحالة الخطيرة والاوضاع المتردية يتحتم على العلماء أن يتحدوها ويغيروها، فهم خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وآله - ولابدّ لهم من أن يصلحوا العالم حيث تنبع من هذا الاصلاح مسؤوليتهم ووظيفتهم وبذلك تثبت إستقامتهم.
ثم يقول ـ تعالى ـ: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). ففي هذه الآية إشارة الى ان الاختلاف الموجود بين الامم هو أحد أسباب الحرب والدمار في العالم ولا ينجو من هذا الدمار الاّ من إستحق رحمة الله:(ولا يزالون مختلفين * الاّ من رحم ربّك).
وهؤلاء الذين يستحقون الرحمة هم المؤمنون المصلحون الذي انضووا تحت لواء (اولو بقيّة ينهون عن الفساد في الارض)، فكانوا ممّن أنجاهم الله، وكانوا من المخلصين.(/1)
ثم يستأنف ـ تعالى ـ قائلا: (وكلا نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين). فالقرآن وقصصه ذكرى وموعظة، كما ان الله ـ تعالى ـ يشير الى منهجية العلم، فاذا كان العلم وسيلة من أجل تحقيق هدف إنقاذ الناس وإصلاحهم فإنّ منهجيّته تختلف تبعاً لهدفه.
فلو أردنا مثلا أن نصلح شعباً من الشعوب فعلينا أولا أن ننهج طريق تعلم لغته: (وما أرسلنا من رسول الاّ بلسان قومه)، وهذا المنهج لا يقتصر على تعلم لغتهم بل يشمل أيضاً التعرف على نفسياتهم وطباعهم وعاداتهم وما نرد به ضلالاتهم وزيف معتقداتهم، فهؤلاء بحاجة الى من يتوجه اليهم ليبلغهم الاسلام الصحيح قبل أن يسعى اليهم الآخرون ليحرفوا أفكارهم عن الطريق الصائب القويم.
ولقد ابتدع الاستكبار العالمي مذهباً جديداً اسماه (الاسلام العيسوي) ورفد لنشر هذا المشروع الف مليون دولار، بالاضافة الى تأسيس معاهد ومدارس لتخريج المبلغين الذين يدعون الى هذا الاسلام الجديد، وقد جرب الاستعمار جيمع أنواع المذاهب وصدّرها الى المسلمين فوجد لها نجاحاً في بعض الاوساط وكان الاسلام العيسوي هو آخر ما صدّره الغرب الينا من مذاهب ومعتقدات مزيفة.
والتصدي لهذه الضلالات الاستعمارية هو وظيفة العلماء الأولى، فاذا ظهرت البدع في الأمّة فعليهم ان يفندوها في أسرع وقت ممكن.
وعلى هذا ينبغي ان يكون للعلم هدف، اما إذا إنسلخ العلم عن هدفه فانه سيضيع في متاهات الحياة ليضيع الناس معه، وهدف العلم هو إصلاح العالم فعلى العالم أن يتعلم الدين والحياة بعمق ذلك لان السياسة (التي هي جزء من امور الحياة) ليست جزءاً منفصلا عن الدين، وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والعلوم الحديثة الاخرى، وهذه العلوم بدورها ليست بمعزل عن وظائفنا بل هي جزء منها لاننا نريد ان نصلح عالما يتحدث بلغة هذه العلوم، ولان ضلالات كثيرة قد أفتعلت في هذه العلوم علينا أن نفندها بنور الاسلام والقرآن.
فالمطلوب من الانسان المؤمن أن يقرأ القرآن، ويتدبر في آياته دوماً ثم ينتقل بعد ذلك الى العلوم الحديثة، فقراءة القرآن ضرورة لانه مصباح هدى وبصيرة للمؤمن الرسالي الواعي، ودراسة العلوم ضرورة ايضاً لانها تمثل لسان الناس وطبيعتهم، وهي بالاضافة الى ذلك معلومات ومعارف عن هذا العصر تضاف الى معلوماتنا، وبذلك يصبح العلم هدفاً يتمثل في ردّ ضلالات الاستعمار.
كما ينبغي ان تعم الهدفية كلّ المعارف كالفن وغيره، ولكننا وللأسف الشديد نرى هناك طلاقاً قد حصل بين الأدباء والشعراء وبين مآسي الأمةّ ومحنها وهذا هو ما يريده الاستعمار.
وهكذا نرى ان عملية تلقي العلوم والآداب باتت ضرورة من ضرورات العصر، فعبر الادب- مثلاً- نستطيع تعلم فن كتابة القصة ومن خلال هذا الاخير يمكننا الدعوة الى الخط الذي التزمناه في الحياة، وعبره يصبح بمقدورنا نشر فكر الرسالة والتحدث عن آفاقه وأبعاده.
فالتعلم واجب ملقى على عاتقنا، وهو حجة الله البالغة علينا يوم القيامة حيث يقول- تعالى- للانسان: هلاّ عملت؟ فيقول الانسان: لم أكن لأعلم، فيأتيه الخطاب الالهي: وهلاّ تعلمت؟
فالعلوم بصورة عامة والآداب بصورة خاصة هي موهبة تحتاج الى تنمية، وهي قوة كامنة تحتاج الىمن يفجرها، فعلى كل من يشعر بقوة كامنة في داخله ان يبادر الى تحويلها الى فعل وحركة وانتاج، وعندما نحوّل هذه القوة الى طاقة متفجرة علينا ان نضع اهدافنا نصب أعيننا، فالهدف هو الاصلاح، وان نكون ممّن تشملهم الآية:
(فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الارض).
فالنهي عن الفساد، والاصلاح هما الهدف الذي ينبغي ان نحدّد مسيرتنا وفقه، ونكيّف برامجنا معه، وحينئذ نرجو ان نكون ممّن انجاهم الله، واصطفاهم من سائر خلقه مع من اصطفى من المحسنين المصلحين.(/2)
في فضل الاستغفار
85
الدعاء والذكر
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
1- الأنبياء يستغفرون الله 2- فوائد الاستغفار 3- أوقات يُندب فيها الاستغفار 4- معنى الاستغفار 5- صيغ الاستغفار
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله قد أمرنا بالتوبة إليه، والاستغفار من ذنوبنا، في آيات كثيرة من كتابه الكريم، وسمى ووصف نفسه بالغفار وغافر الذنب وذي المغفرة، وأثنى على المستغفرين ووعدهم بجزيل الثواب، وكل ذلك يدلنا على أهمية الاستغفار، وفضيلته، وحاجتنا إليه. وقد قص الله علينا عن أنبيائه أنهم يستغفرون ربهم، ويتوبون إليه، فذكر عن الأبوين عليهما السلام أنهما قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف:23]، وذكر لنا عن نوح - عليه السلام – أنه قال: وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين [هود:47]، وقال أيضا: رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات [نوح:28]، وذكر عن موسى – عليه السلام – أنه قال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [القصص:16]، وذكر عن نبيه داود – عليه السلام – أنه قال: فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب [ص:24]، وذكر عن نبيه سليمان – عليه السلام – أنه قال: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ، وأمر خاتم رسله نبينا محمداً بقوله: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، وأمرنا بالاستغفار فقال: فاستقيموا إليه واستغفروه [فصلت:6]، وفي الحديث القدسي يقول سبحانه: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)).
عباد الله: وللاستغفار فوائد عظيمة، منها: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، كما في الحديث: ((فاستغفروني أغفر لكم ))، وكما قال تعالى: ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً [النساء:110]. وفي الحديث: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)).
ومن فوائد الاستغفار: أنه يدفع العقوبة ويدفع العذاب قال الله تعالى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لتفريج الهموم، وجلب الأرزاق والخروج من المضائق ففي سنن أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب )).
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لنزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين ونبات الأشجار وتوفر المياه، قال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً [نوح:10-12]، وقال عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم [هود:52].
عباد الله: والاستغفار مشروع في كل وقت، وهناك أوقات وأحوال مخصوصة يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، فيستحب الاستغفار بعد الفراغ من أداء العبادات؛ ليكون كفارة لما يقع فيها من خلل أو تقصير، كما شرع بعد الفراغ من الصلوات الخمس، فقد كان النبي إذا سلم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثا؛ لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو.
كما شرع الاستغفار في ختام صلاة الليل، قال تعالى عن المتقين: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17-18]. وقال تعالى: والمستغفرين بالأسحار .
وشرع الاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والفراغ من الوقوف بها قال تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة:199].
وشرع الاستغفار في ختم المجالس حيث أمر النبي عندما يقوم الإنسان من المجلس أن يقول: (( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ))، فإن كان مجلس خير كان كالطابع عليه، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
وشرع الاستغفار في ختام العمر، وفي حالة الكبر، فقد قال الله تعالى لنبيه عند اقتراب أجله: بسم الله الرحمن الرحيم: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً [سورة النصر]. فقد جعل الله فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، علامة على قرب نهاية أجل النبي ، وأمره عند ذلك بالاستغفار، فينبغي لكم أيها المسلمون ملازمة الاستغفار في كل وقت، والإكثار منه في هذه الأوقات والأحوال المذكورة، لتحوزوا هذه الفضائل، وتنالوا هذه الخيرات، فقد كان نبينا يكثر من الاستغفار.(/1)
فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إننا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك التواب الرحيم ))، وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن النبي أنه قال: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)).
عباد الله: والاستغفار معناه طلب المغفرة من الله بمحو الذنوب، وستر العيوب، ولا بد أن يصحبه إقلاع عن الذنوب والمعاصي. وأما الذي يقول: أستغفر الله بلسانه، وهو مقيم على المعاصي بأفعاله فهو كذاب لا ينفعه الاستغفار. قال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين، وقال آخر: استغفارنا ذنب يحتاج إلى استغفار ! يعني: أن من استغفر ولم يترك المعصية، فاستغفاره ذنب يحتاج إلى استغفار. فلننظر في حقيقة استغفارنا، لئلا نكون من الكذابين الذين يستغفرون بألسنتهم، وهم مقيمون على معاصيهم.
عباد الله: هناك ألفاظ للاستغفار وردت عن النبي ينبغي للمسلم أن يقولها، منها: قوله : (( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ))، وقوله: (( أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ))، وقال : (( سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة. ومن قالها من الليل وهو موقن به فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة )) رواه البخاري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، إلى قوله: ونعم أجر العاملين [آل عمران:133-136].(/2)
في مقدمات النصر القادم
عبد الرحمن عبدالعزيز السديس
مكة المكرمة
30/7/1421
جامع الفرقان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ذلة المسلمين اليوم وفقدتهم إرادة التغيير. 2- انتصار إخواننا العزل في أفغانستان. 3- هزيمة عام 67 لا تعني أن يستمر الإحباط إلى مالا نهاية. 4- تغير الظروف والمؤشرات بعد تلك الحرب. 5- إسرائيل هزمت التيارات الوطنية والقومية ولم تواجه بعد الراية الإسلامية. 6- الأمل في نصر الله كبير ، والقنوط منه حرام.
الخطبة الأولى
عباد الله: تنوعت أقاويل الحكماء وأهل الغيرة والدين في سبب ما وصلت إليه الأمة المسلمة من وهن وضعف واستخزاء لأعدائها, وما وصل إليه أعداؤها الأذلاء من اليهود من غرور وكبرياء ووقاحة أفصح عنها مجموعة منهم حين رفعوا لافتات كتب عليها (الإسلام = التطرف) كما نشرته جريدة الحياة اليوم.
ونشرت عن نتنياهو: أن روسيا وإسرائيل تقفان في خندق واحد ضد عدو مشترك, فما سبب هذا الوهن والمذلة التي منيت بها أمة المليار مسلم وأمة أكبر احتياطي للنفط في العالم, وأمة الأراضي الخصبة, وأمة المواد الخام في كل شئون الحياة, وقبل ذلك كله وأهمّ منه كله أمة القرآن, أصدق حديث, وأصدق قيل, وأحسن حديث, وأحسن قصص, وأحسن تفسير, وأمة خير نبي ((أنا سيد ولد آدم)), أوتي القرآن ومثله معه ((ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه)) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى, أمة هي خير أمة أخرجت للناس, لقد ذهل كثيرون من هذا الوهن الذي منيت به أمة الإسلام, وكشفت عنه الأحداث الأخيرة في فلسطين وتداعياتها.
وتساءل كثيرون: هل أزمتنا أزمة إرادة؟ لأن المعطيات كلها متوافرة ولا ينقص إلا الإرادة, والله يقول: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة, وليس في الأفق أي بارقة أمل تدل على الإعداد, بل ولا على مقدماته, فدلّ ذلك على عدم الإرادة أصلاً! إذ لو وجدت الإرادة لتبعها الإعداد ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ثم فقدان الإرادة وضعفها هل هو في القادة فقط والشعوب منه بريئة؟ أم هو شامل حتى للشعوب؟ بدليل أن كثيرًا من الشعوب لم تحدث نفسها بالغزو أصلاً, بل يوجد من أفراد المسلمين كثيرٌ لم يخطر بباله أن يغزو يومًا من الأيام, بل ربما هيأ نفسه للفرار من أقطارها, فهم كما قص الله عن المنافقين: ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبسوا بها إلا يسيرًا.
إن الأفغان حين اجتاحهم السوفيات لم يكن بأيديهم سوى العصي وبنادق الصيد القديمة, وكان عدوهم يملك أقوى ترسانة نووية في زمانه, فلما ملكوا الإرادة والتصميم والثقة المطلقة بنصر الله ووعده, قاوموا الغاشم وأخذوا منه سلاحه وقاتلوه به حتى قويت شوكتهم ونصرهم الله على عدوهم, ولا يليق بمشغب أن يقول ساندتهم أمريكا, ولولا ذاك لما انتصروا؛ لأننا نقول: إنهم بدأوا المقاومة ولم يحسبوا حساب مساندة أمريكا لهم, ثم من يقول إنك لو قاومت لن تجد دعمًا من دول أخرى ولو بحرّ مالك, كيف وأمة الإسلام تستطيع الاستغناء بالله وحده بما معها من عدد وعُدَد, ثم لم يلبث هذا الدب الغاشم أن دحره الله وشتت شمله وفرق جمعه, وكسر شوكته, وقل مثل ذلك في البوسنة والشيشان في حربهم الأولى كيف دحر الله أعداءهم من الصرب والروس وخرجوا منهزمين.
لو وجدت الإرادة لفتحت الحدود المحيطة بإسرائيل للمجاهدين ضدها, لو وجدت الإرادة لقوطعت كل الأمور التي تكون سببًا لقوة إسرائيل مباشرة أو بواسطة, لو وجدت الإرادة لما سجن دعاة الإسلام وعلماؤه في سجون فلسطين على يد بني جلدتهم بضغوط من اليهود من أهل السلام.
إنه ليس هناك أي دليل على إرادة صادقة عند أمة الإسلام لمواجهة عدوها, فما هذا الوهن والإحباط, ألم يسمعوا قوله سبحانه: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقوله: قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون أغرهم هزائم منوا بها فيما سبق فقاسوا حالهم اليوم على حالهم أمس, إنه قياس مع الفارق.(/1)
إن الحروب السابقة جرت حين كانت التيارات الأرضية من بعثية وناصرية وقومية وشيوعية وغيرها هي التي توجه الشعوب, فصرفتها عن طبيعة المعركة إلى رايات جاهلية, أما اليوم فإن الأمر قد اختلف؛ حيث غربة الإسلام بدت تتقشع شيئًا فشيئًا بفضل الله أولاً ثم بفضل جهود العلماء المخلصين العاملين الربانيين في هذه البلاد وغيرها من بلاد الله, وإذا أردت أن ترى مصداق ذلك فانظر كم من الناس كان يعرف ابن عثيمين حفظه الله عام 93هـ, وهو زمن حرب رمضان, كم كان يعرفه في هذه البلاد؟ إنه لم يكن يعرف خارج بلدته, واليوم يصدر الناس عن فتواه في مشارق الأرض ومغاربها, وانظر كم دفعة تخرجت من الجامعة الإسلامية منذ تلك الحرب إلى اليوم؟ إنها ثلاثون دفعة وكل دفعة فيها ما لا يقل عن مائة طالب توزعوا في أقطار الأرض شرقها وغربها, وقد تحملوا من العلم النافع والعمل الصالح والسمت الحسن من العلماء الربانيين من أمثال الشيخ بن باز رحمه الله وغيره كثير رحم الله أمواتهم وختم لأحيائهم بخير, وكثير منهم عين داعية إلى الله على منهج السلف في بقاع شتى من الأرض, ومن كان له بصر بمثل هذه الأمور عرف الأثر العظيم الذي تركوه في مناطقهم, فكيف بخريجي الجامعات الإسلامية الأخرى, ومن طلب العلم في الحلقات وغيرها, كدار الحديث وجامعة الإمام ومعاهدها الإسلامية, لاشك أن لجهود العلماء الربانيين المخلصين في هذه البلاد وغيرها أثرًا تغيير المعادلة ومعطيات القضية ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا فمهل الكافرين أملهم رويدًا.
ولاشك أن لهم أثرًا عظيمًا في كشف الغربة الثانية التي ألمت بالإسلام وتجلية كثيرٍ من حقائق الدين والذب عنه, ودحض الشبهات المثارة حوله.
ثم أمر آخر كان له أثر في الفارق الكبير بين هذا الوقت وأوقات الهزائم السابقة, ذلكم هو ثورة الإعلام والاتصالات التي حدثت في العالم كله, فجعلته كالقرية الصغيرة, يلقى الخطاب في أقصى العالم فيسمع في نفس اللحظة في أقصاه من الجهة الأخرى, واعتبروا ذلك بحادثة الغلام القتيل الذي ارتج العالم لمصرعه وبكى عليه أقوام وتباكى آخرون, وما شهر بجريمة اليهود في قتله إلا الإعلام.
إن الهزائم السابقة كان الخونة فيها يملكون أن يمنعوا عن شعوبهم ما يريدون منعه من المعلومات والأخبار, أما اليوم فإن الشعوب تبصر ما لا يحب الظالمون أن تراه شعوبهم, وتسمع ما لا يشتهي الظالمون, وتقرأ وتطلع على ما لا يرغبون, فما يكتمه هذا يفضحه ذاك, وهكذا دواليك, أفلا تمثل هذه الثورة الإعلامية في عصر الاتصال والفضائيات عنصرًا يستحق أن يشكل فارقًا يمنع القياس على ما مضى.
لقد جرب الناس الرايات كلها في حروبهم إلا الراية الإسلامية, والله يقول: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ويقول: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ويقول: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ويقول: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
لو أصلحت الأمة ما بينها وبين ربها لجاءها النصر, أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير أي والله إنه ليعفو عن كثير, ولولا ذاك لأخذنا أخذ عزيز مقتدر, فلنتب إلى الله ولنحسن العمل, فقد كان أصحابه إذا تأخر النصر تفقدوا أنفسهم فظفروا بعز الدارين, ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقون لا يعلمون نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
الخطبة الثانية
عباد الله: إن رصيد الأمة واحد, رصيد الإعراض عن شرعه والمعاصي التي تقارفها يكون ضررًا عليها وسببًا لعقوبتها, والغُنْمُ بالغُرْم, فرصيد التضحيات أيضًا واحد, فكل ما يعانيه الصادقون الربانيون من حمله الإسلام من أذى وتطريد وقتل وتشريد هو أيضًا رصيد يصب في صالح الأمة كلها بإذن الله فتستحق به إذا صبرت نصر الله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا.(/2)
لكن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالصبر واليقين وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ولا تكون للظالمين أبدًا وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين, لا تكون لمن وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون, ولا لمن يسارعون فيهم ـ أي في اليهود ـ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ((إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرًا)) وقد قال : ((لن يغلب عسر يسرين)).
إن إسرائيل تقرع الآن طبول الحرب عبر تصريحات قادتها, وقد جرت عادتها أن إذا أرادت حربًا تغير بها خارطة المنطقة وتحتل بها مواقع جديدة أن تفتعل حدثًا كزيارة شارون مثلاً لتتذرع به لتنفيذ مخططاتها التوسعية, ونجحت في كل حروبها وأطماعها الماضية فهل تنجح الآن؟ وهل تخطئ حساباتها الآن أم تصيب, أملنا في الله كبير وهو القائل: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون, والقائل: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.(/3)
في واجبنا نحو فلسطين
عبد الرحمن عبدالعزيز السديس
...
مكة المكرمة
23/7/1421
جامع الفرقان
ملخص الخطبة
1- نقض العهود لاتفاقيات السلام ولهاثنا خلف هذه الاتفاقات الهزيلة. 2- وقوف الساسة في بلاد والمسلمين ضد خيار الجهاد والحرب لطرد المغتصب وتثبيطهم وصفهم من ذلك. 3- ضرورة الوقوف في وجه الغرب واليهود سياسيا واقتصادياً. 4- ضرب المسلمين بأموال المسلمين المكدسة في الغرب. 5- المقاطعة للسلع الأمريكية.
الخطبة الأولى
عباد الله: ماذا يجب علي أن أصنع؟ وكيف أتصرف حيال ما يجري للمسلمين في كلِّ مكان وخصوصًا في أولى القبلتين ومسرى رسول الله؟ سؤال يطرحه كل مسلم لازال الإيمان في قلبه ـ لاسيما بعد أن أصبح القادة يتفاضحون عبر قنوات الإثارة والتهييج, فقرأ الناس وعرفوا واطلعوا على ما يجري وراء الكواليس وداخل الأروقة, وعرفوا السر في كونهم منذ أكثر من خمسين عامًا يسمعون جعجعةً ولا يرون طحينًا.
وبسطت لهم الأمور التي توهموها معقدة, وطرحت تساؤلات والناس يسمعون, ليس أفراد الشعوب الذين كثيرًا ما قيل لهم أنتم لا تفقهون في السياسة, ولكن من دهاقنة السياسة وثعالبها, ممن رغبوا في ركوب موجة الهياج الشعبي الإسلامي لانتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك, من أقوام ما عهدناهم أهل غيرة ولا حماس لقضايا الإسلام, بل عهدنا منهم تبديلاً لأحكام الشرع عبر كتب ذات ألوان يضاهئون بها القرآن, ومن غيرهم من ساسة, الله أعلم بنواياهم.
لكنهم طرحوا تساؤلات كررها من روائهم بسطاء الناس وأقلهم فهمًا في السياسة, إننا نطالب بالجهاد ضد إسرائيل وبيننا وبينه مراحل هي بوُسْعِنا لم نعملها بعدُ, مع كونها عظيمة النكاية في إسرائيل ومن يدعمها, لماذا لا يلغى مشروع السلام مع إسرائيل فنبذ إليهم على سواء, والله سبحانه يقول: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء أي فانبذ إليهم عهدهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد على حد سواء, إننا الآن ليس فقط نخاف من إسرائيل الخيانة, بل قد لمسناها لقد انتهكوا ونقضوا العهود ولم يوفوا بالاتفاقيات بدليل أن كل طموح المعتدلين من الساسة هو الرجوع إلى اتفاقيات أوسلو, والسؤال الملح من كل مسلم لماذا هذا الحرص على الرجوع للاتفاقيات مع ثبوت نقضهم لكل ميثاق, ومع استعداد أمة الإسلام من شرقها إلى غربها للجهاد ضد إسرائيل, لماذا يتعامل قادة الدول العربية والإسلامية مع شعوبهم كما فعلت المرأة التي حبست هرة لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض, فلا هم يسلحون الشعوب, ولا يسمحون لهم بالجهاد بل يبقون متمسكين باتفاقيات قد نقضها اليهود من كل وجه.
لقد توعد الله المثبطين عن الجهاد بما قد علمتم من قوله: قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرًا وقوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتّلوا تقتيلاً, وقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعلمون بصيرًا ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن مُتم أو قتلتم لإلى الله تحشرون.
إذا كانت هذه القوارع في المثبطين عن الجهاد والمعوقين له, فكيف بالمانعين, القاعدين بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجًا, والله يريدها دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا حيث أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا ويقول: ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا واذكروا إذا كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
ولكننا يا عباد الله مع علمنا بعظم الجرم الذي يرتكبه من يعوِّق ويثبط عن الجهاد في سبيل الله فضلاً عمن يقف مانعًا منه صادًا عنه متوعدًا من قام به بل حارسًا لأعداء الله اليهود حاميًا لهم ثغرة بلاده أن يأتيهم منها المجاهدون مع علمنا بعظم جرم هؤلاء إلا أننا وشعوب الأمة المسلمة كلها تطالب ساستها بما هو دون ذلك بمراحل, وهو يسير على من يسره الله عليه وعسير كل العسر على من ربط مصيره بمصيرهم وجعل زمامه في أيديهم, وتولاهم من دون المؤمنين.(/1)
إن من المطالب التي صرح بها بعض الساسة المزايدين عبر قنوات الإثارة والتهييج أن تقاطع إسرائيل وتلغي جميع الاتفاقيات معها؛ لأنها نقضتها, وأن تقفل سفاراتها في الدول التي بها سفارات, وأن تقاطع معها أمريكا السند الوحيد والأكبر لها والتي ذللت لها أموال العالم الإسلامي وثرواته, ماذا يحصل لو قيل لأمريكا إنك داعمة لإسرائيل العدو الظالم الغاشم وعليه فلا علاقة بيننا, فلا قواعد عسكرية ولا تمثيل عسكري, ولا دبلوماسي, ولا تبادل تجاري ولا غير ذلك إنها ستعتبره الموت, مع أنه في العرف الدولي لا يمكن أن يتهم من فعل هذا بأنه أعلن الجهاد ولا أقام حروبًا دينية مخالفًا بذلك مواثيق الأمم المتحدة التي وقع عليها وهي تمنع قيام حروب على أسس دينية وبمعنى أصرح تمنع الجهاد في سبيل الله.
إن أمة الإسلام تملك من الثروات الزراعية والبترولية وخصب الأراضي والمواشي بل والمفكرين والمخترعين وأصحاب المواهب والابتكارات, ما هو كفيل باستقلالها بنفسها واستغنائها عن الأمريكان ومن نحا نحوهم وسار في فلكهم.
إنهم عبّاد المادة, إن أمة الإسلام لو تكاتفت وتناصرت واستغنت ببعضها عنهم لكانت أكبر قوة على وجه الأرض بلا مبالغة, إن كثيرًا من خبراء تلك الدول التي تسمى بالمتقدمة من أصول إسلامية, ولو حصل التمايز والانحياز فلاشك أنهم أو جلّهم سيقدمون خبراتهم في جميع مجالات التقنية لأمتهم, لا لعدوها.
وإن مما يجب على الأمة المسلمة ضرب اقتصاد عدوها بسحب أرصدتها منه, وهي الأرصدة التي أهينت الأمة المسلمة بسببها, فكم تدخل عدونا وفرض سياسته الماكرة على دول مسلمة فقيرة بفعل الضغط المالي الذي يمارسه عليها عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي يهيمن عليه الأمريكان ومن سار في فلكهم, ويدعم أكثره ـ بكل أسف ـ من أموال الدول الإسلامية الغنية, فأموال المسلمين تعطى لعدوهم ليسيطر ويتدخل في سياسات دول مسلمة أخرى, ويفرض عليهم ما يريد, وقديمًا قيل: كاد الفقر أن يكون كفرًا, فمتى يكون صندوق النقد الإسلامي أو الدولي بأيدي المسلمين ولن يجد منهم حتى أعداؤهم إلا الرحمة لفقيرهم ومساعدة كسيرهم, وتاريخنا خير شاهد على حسن تعاملنا, عسى أن يكون قريبًا, نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم. والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
عباد الله: لقائل أن يقول: كل ما سبق مما يقوم به القادة فما دورنا نحن؟ إن ما يجب علينا نوجزه في أمور:
أولها: من كان منا من ذوي الرأي والمشورة فواجب عليه أن يبلغ للمسئولين ما ينفعهم في دينهم وآخرتهم ويكون ناصحًا لهم بما فيه خير أمتهم.
ثانيًا: الدعاء وقد صح عنه : ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم, بدعائهم)) ((الدعاء سلاح المؤمن)) أمن يجيب المضطر إذا دعاه والآيات والأحاديث في فضله وأهميته كثيرة فندعو لإخواننا المسلمين, وندعو على عدونا, وندعو لدين الله بالتمكين.
ثالثًا: المال, فندعم إخواننا وندعم القضية بالمال, والحروب تأتي على الأخضر واليابس وتستهلك أموالاً طائلة, ونقاطع البنوك التي تصب في نهاية المطاف لصالح اليهود من البنوك الأوربية والأمريكية وغيرها من بنوك الربا.
رابعًا: دراسة تاريخ القدس والمعرفة التفصيلية بالقضية, وربطها بجذورها الإسلامية وعدم جعلها قضية خاصة بالفلسطينيين وحدهم, ولا بالغرب وحدهم بل هي قضية المسلمين جميعًا كما سبق بيانه في خطبة سابقة.
خامسًا: دراسة أسباب البلاء ومعرفة مكمن الخطر ونقاط الضعف فينا ومن أين أُتينا, فتشخيص الداء أعظم معين على صرف الدواء, والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
سادسًا: تجديد الولاء والبراء في نفوس المسلمين وصرف الولاء في المسلمين والبراء من الكافرين واستبانة سبيل المجرمين وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين.
سابعًا: مقاطعة البضائع والسلع الواردة من تلك البلاد الداعمة لإسرائيل والمطاعم ونحوها, وقد نادى بذلك المحامون في مصر, وهو مما تستطيع فعله الشعوب المسلمة, ماذا يضيرك أيها المسلم لو قاطعت كل هذه المطاعم الأمريكية ودعوت إلى ذلك أهلك وأقاربك, إنك تؤجر على ذلك لو فعلته تدينًا وإمعانًا في البراء منهم.
ثامنًا: تحديث النفس بالغزو ((من لم يغزو أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) ((إن بالمدينة لأقوامًا ما سرتم مسيرًا أو قاطعتم واديًا إلا شاركوكم في الأجر, حبسهم العذر)).
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية(/2)
فيما يجب أن يكون عليه بيت المسلم
92
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
1- نعمة السكن والإقامة 2- صفات البيوت المؤمن سكنها 3- البيوت التي تهجرها الملائكة 4- الاستئذان في دخول البيوت
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمركم بتقواه، واشكروا نعمه عليكم. فما بكم من نعمة فمن الله.
عباد الله: إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، ويجب علينا أن نقابل هذه النعم بالشكر، ونستعين بها على البر والتقوى لتستقر وتبقى وتزيد، قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
ومن أعظم نعم الله على بني آدم أن جعل لهم بيوتا ثابتة لإقامتهم في المدن وبيوتا متنقلة لأسفارهم في البراري، يسكنون فيها ويستريحون، ويستدفئون بها من البرد ويستظلون بها من الحر، ويستترون فيها عن الأنظار، ويحرزون فيها أموالهم ويتحصنون بها من عدوهم. وغير ذلك من المصالح.
قال الله تعالى – ممتنًا على عباد ه بهذه البيوت الثابتة والمنتقلة -: والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الانعام بيوتاً تستخفّونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم [النحل:80]، فذكر أولاً بيوت المدن لأنها الأصل. وهي للإقامة الطويلة. وجعلها سكنا: بمعنى أن الإنسان يستريح فيها من التعب والحركة وينعزل فيها عما يقلقه فيحصل على الهدوء والراحة، ثم ذكر تعالى بيوت الرحلة والنقلة فقال: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، يعني: وجعل لكم بيوتا خفيفة من الخيام. والبيوت المصنوعة من جلود الأنعام تستعملونها في حالة الإقامة المؤقتة في السفر.
فنعمة السكن في البيوت من أعظم النعم، وتأملوا من لا يجد سكنا يؤويه ماذا تكون حاله، وأنتم تسكنون في هذه البيوت الحديثة المزودة بكل وسائل الراحة من الانارة والتكييف الصيفي والشتوي والمياه المتدفقة العذبة الحارة والباردة، كل ذلك من نعم الله في المساكن وذلك مما يستوجب الشكر والثناء على الله بما هو اهله، لأن ذلك من منِّه و فضله.
عباد الله: إن بيت المسلم يجب أن يكون متميزا عن غيره من البيوت بفعل ما شرعه الله للمسلمين في بيوتهم من ذكر الله والاكثار من صلوات النوافل فيها، وقراءة القرآن وخلوها من وسائل الفساد.
عن أبي موسى – - قال: قال رسول الله – -: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مَثَل الحي والميت )).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – - قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا )). أي: صلوا فيها من النوافل ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة.
وعن أبي هريرة – - قال: ان رسول الله - - قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر ان الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة )) وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )). روى هذه الأحاديث مسلم في صحيحه، وهذه الأحاديث، وما جاء بمعناها تدل على مشروعية إحياء بيوت المسلمين وتنويرها بذكر الله من التهليل والتسبيح والتكبير وغير ذلكم من أنواع الذكر، وإحيائها، بالإكثار من صلاة النافلة فيها،لأن صلاة النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المسجد، وفيها النهي عن جعل البيوت مثل القبور مهجورة من صلاة النافلة فيها.
وفي الأحاديث الترغيب بقراءة القران في البيوت، ولاسيما سورة البقرة وإن قراءتها في البيت تطرد الشيطان، وإذا توفرت هذه الأمور في البيوت: ذكر الله فيها. صلوات النوافل، وقراءة القران أصبحت مدرسة للخير يتربى فيها من يسكنها من الأولاد والنساء على الطاعة والفضيلة. وتدخلها الملائكة وتبتعد عنها الشياطين، وإذا خلت البيوت من هذه الطاعات صارت قبور موحشة وأطلالا خَرِبة، سكنها موتى القلوب وإن كانوا إحياء الأجسام، يخالطهم الشيطان وتبتعد عنهم ملائكة الرحمن، فما ظنك بمن يتربى في هذه البيوت كيف تكون حاله وقد تخرج من هذه البيوت الخأوية الخالية من ذكر الله والتي هي مقابر لموتى القلوب. إن هذه البيوت ستؤثر تأثيرا سيئا على من تربى فيها وسكنها، فكيف إذا انضاف إلى خلوّها من وسائل الخير شغلها بوسائل الشر، وأسباب المعاصي بحيث يتوفر في تلك البيوت الفيديو بأفلامه الخليعة، التي تدعو إلى الفحشاء والمنكر، بما تعرضه من صور الفساد والدعارة أمام الأولاد والنساء.
وتتوفر في تلك البيوت أشرطة الأغاني الماجنة، التي تغري بالعشق والغرام، والطرب والإجرام، في تلك البيوت من يترك الصلاة ويتهأون بالجمع والجماعات. وقد همَّ النبي – - بإحراق مثل هذه البيوت بالنار على من فيها ممن يتخلفون عن صلاة الجماعة، فكيف بمن يتركون الصلاة نهائيا.(/1)
إن مثل هذه البيوت، وهي اليوم كثيرة، تكون أوكارا للشر، وجراثيم مرضية تفتك في جسم الأمة الإسلامية، يجب علاجها أو استئصالها حتى لا تؤثر على من حولها، كما همّ النبي – - بتحريق امثالها ولم يمنعه ذلك الا ما فيها من المعذورين ومن لا تجب عليهم صلاة الجماعة من النساء والذرية. قد يكون بعض هؤلاء له منصب كبير في المجتمع، بأن يكون من كبار الموظفين أو كبار الأثرياء. فيأتيه الشيطان فيقول له: أنت أكبر من أن تخرج إلى المسجد وتصلي مع الناس، لأن هذا يقلل من شأنك ويُضعف هيبتك، فيترك الصلاة في المسجد ترفعا وكبرا. وقد يكون بعضهم مشغولا بماله، وقد ورد في الحديث ان مثل هؤلاء يحشرون يوم القيامة مع نظرائهم من المتكبرين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي – - أنه ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وابي بن خلف)) رواه الامام احمد في مسنده وابو حاتم وابن حبان في صحيحه. قال الإمام ابن القيم – رحمه الله: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة.
وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما ان يشغله ماله أو ملكه أو رئاسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة ووزارة فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع ابي بن خلف.
عباد الله، إن هؤلاء الذين جعلوا بيوتهم بهذه الصفة القبيحة، خالية من ذكر الله مشغولة بآلات اللهو ومواطن للكسالى والعصاة، والمتخلفين عن الصلاة، إن هؤلاء حقيقون بالعقوبة؛ بأن تنهدم عليهم تلك البيوت أو تحترق أو يشردوا منها على يد عدوهم فيبقوا بلا مأوى كما شرد خلق كثير من مساكنهم اليوم وأُبعدوا عن ديارهم، لأنهم لم يشكروا نعمة الله عليهم بهذه المساكن، وبارزوه فيها بالمعاصي، والمعاصي تدع العامر خرابا، وتحول النعمة عذابا.
عباد الله: ومما يجب أن يصان عنه البيت المسلم الصور والكلاب، لما روى ابو طلحة – ان رسول الله – قال: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل )) وعن ابي هريرة – - قال رسول الله : ((أتاني جبريل عليه السلام،فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرَام فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر فيقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن،ومر بالكلب فليخرج ))، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه، وفي هذين الحديثين دليل على تحريم تعليق الصور على جدران الغرف والمجالس والمكاتب والاحتفاظ بها للذكريات ونحوها، وفيها دليل على عقوبة من فعل ذلك بحرمانه من دخول ملائكة الرحمن في بيته، وحينئذ يخسر خسرانا مبينا.
وقد ابْتُلِيَ بعض الناس اليوم بهاتين الظاهرتين السيئتين. فترى بعضهم يضع الصور في براويز ويعلقها على الجدران في الغرف والمكاتب. والبعض الآخر يحتفظ بالصور في صناديق خاصة من أجل الذكريات للأولاد والأصدقاء، والبعض الآخر ينصب تماثيل كبيرة أو صغيرة للآدميين أو الحيوانات للطيور ويجعلها على طاولات المجالس ونحوها للتجميل، وكل هذا من مظاهر الوثنية وفعل الجاهلية، لأن نصب الصور وتعليقها من وسائل الشرك كما حصل لقوم نوح وقوم إبراهيم من الشرك بسبب الصور والتماثيل. ولأن في تلك الصور مضاهاة لخلق الله –عز وجل- وذلك من أعظم الكبائر، ومن الناس من ابتلوا بتقليد الكفار واقتنوا الكلاب في بيوتهم وتباهوا بتربيتها وصحبتها لهم في بيوتهم وسياراتهم، وقد قال رسول الله – -: ((من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من اجره كل يوم قيراطان ))، رواه مالك والبخاري ومسلم. والاحاديث في هذه كثيرة ومشهورة.
واقتناء الكلاب في البيوت واصطحابها خارج البيوت لغير الحاجة المرخص فيها شرعا (وهي حراسة الماشة والزرع واتخاذها للصيد )، واتخاذها لغير ذلك فيه محاذير:
أولا: أنه يمنع دخول ملائكة الرحمة في البيت: وأي مسلم يستغني عن ملائكة الرحمة؟!
ثانيا: ينقص من أجره كل يوم قيراطان، وهذا نقص عظيم ومستمر، والمسلم لا يفرط في اجره. والقيراط كما جاء تفسيره في بعض الاحاديث بأنه مثل الجبل العظيم.
ثالثا: في ذلك تشبه بالكفار الذين يربون الكلاب، والتشبه بهم حرام. قال النبي – -: ((من تشبه بقوم فهو منهم )).
رابعا: ما يحصل بها من الأضرار كأذية الجيران والمارة بهذه الكلاب وأصواتها. ولما فيها من النجاسة والأضرار الصحية في لعابها وملامستها.(/2)
فاتقوا الله – عباد الله – واعتنوا ببيوتكم وبمن فيها حتى تصير بيوتا إسلامية نظيفة حية بذكر الله وعبادته، وأبعدوا عنها كل ما يتنافى مع آداب الإسلام ويجر إلى الآثام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم . . .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، لا نحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واعلموا أن الله مع المتقين .
عباد الله: يجب أن يكون البيت المسلم مستورا مصونا على الأنظار المسمومة، يأمن من بداخله من الإطلاع على عوراتهم وأسرارهم لا يدخله غير اصحابه، الا باستئذان وإذن، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم [النور:27-28].
قال ابن كثير – رحمه الله – حتى تستأنسوا أي: تستاذنوا قبل الدخول، وتسلموا على أهلها أي: تسلموا بعد الدخول، وقال: ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، وفي الصحيحين عن رسول الله – - أنه قال: ((لو أن امرءًا إطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح)).
وعن عقبة بن عامر – - ان رسول الله – - قال: ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمُو؟قال: الحموُ الموت))، رواه البخاري ومسلم – والحمُ: قريب الزوج – أي: ان الخوف منه اكثر؛ لأنه يتساهل في دخوله اكثر من غيره، فدل هذا الحديث على تعظيم حرمات بيوت المسلمين ومحارمهم وخطر دخول الرجال الأجانب على النساء ولو كانوا من أقارب الزوج، وقد تساهل في هذا الأمر الخطير كثير من الناس اليوم، فبعض النساء لا تحتجب من أقارب زوجها، كأخيه وعمه. وبعض الناس جلبوا إلى بيوتهم الرجال الاجانب وخلطوهم مع نسائهم في بيوتهم باسم طباخين أو سائقين أو خادمين،. وبعض الناس جلبوا النساء الأجنبيات وجعلوهن في بيوتهم يدخلون عليهن ويخالطونهن وربما يخلون بهم كأنهن من محارمهم. وهذا ارتكاب لما نهى عنه الاسلام، ومدْعاة إلى الوقوع في الفحش والإجرام. وجلب النساء والرجال الأجانب إلى البيوت دليل على عدم الغيرة وقلة الحياء وعدم المبالاة، لأن المؤمن الغيور لا يرضى بدخول الاجانب في بيته. واختلاطهم بمحارمه، والمؤمن الغيور لا يرضى لزوجته أو بنته أن تركب وحدها مع سائق غير محْرم لها، والمؤمن الغيور لا يرضى بوجود امرأة أجنبية في بيته يدخل عليها كما يدخل على محارمه، وتمشي أمامه وتسكن معه ويخلوا بها كما يخلوا بزوجته.
فاتقوا الله – عباد الله – واحذروا شرور هذه الفتن. ولا تحملنكم المدنية الزائفة والتقليد الاعمى على هذه المغامرة الخطيرة، فتخربوا بيوتكم بأيدكم وأيد أعدائكم وأنتم لا تشعرون.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله …(/3)
قالت نملة
الكاتب : علي مهدي
التاريخ : 1/9/1426
( حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [18] ) النمل ..
النملة .. مخلوقة صغيرة الحجم .. كبيرة الإنجاز .. تتشابه مع الإنسان في كثير من جوانب حياته، فهي تبني المدن .. وتشق الطرقات .. وتحفر الأنفاق .. وتجمع الطعام وتحفظه .. وتجتمع على إمرة .. وتتوزع الأدوار .. فمنها جيوش الحرب .. ومنها خادمات الملكة .. ومنها العاملات والمربيات ، وأخرى تزرع الحقول .. وثانية وتحصد الحبوب .. وثالثة ترعى مواشي النمل من الديدان التي يستخلص منها مادة حلوة تسمى علمياً [الندوة العسلية] .
وللنملة في القرآن الكريم ذكر ، ولتميّزها إشارة ، فلقد ذكرت في القرآن الكريم بدور لا يعرف إلا عن بني البشر ، ولا يسمع إلاّ منهم ، ولا يلقى إلاّ عليهم ، في هذه الأرض ، وفي هذا سر أراه ، وظل استظل به سأذكره بمشيئة الله ..
لقد قامت هذه النملة بدور مشابه لدور النبي في أمته .. والداعية في مجتمعه .. والأب في أسرته .. دور يحمل معنى الشفقة والرحمة ، ويحمل معنى الوفاء والمحبة ، ويحمل معنى الحرص على تماسك الجماعة .. إنه دور ( النصح ) .. نعم النصح والتوجيه ، فلم تكن هذه النملة سلبية في أي دور من أدوار حياتها .. فهي وإن كانت جادة في عملها .. دؤوب في اجتهادها .. قليلة الكلام .. كثيرة الفعال .. إلاّ أنها لم تأل جهداً في أن تنصح لصويحباتها النمل .. وتنبههم إلى خطر داهم قد يصيبهم بسوء ..
إن هذه النملة لم تكن نملة من صفوف الكسالى .. كلا .. فليس لدى النمل مكان لهذا الصنف .. ولم تكن من السلبيين .. الذين يقولون ولا يفعلون .. ويقترحون ما لا ينفذون .. لا .. ليست منهم ..
بل وأكثر من هذا .. فإن هذه النملة لم تجعل لنفسها حجة في انشغالها بأعمالها المستمرة صباحاً ومساءً ، وتوجد لنفسها عذراً عن هذا الدور .. ولم تر بأن المرء عليه بخاصة نفسه فليهلك من يهلك ، ولينج من ينجو .. وهي كذلك لم تقل بأن هذا العمل ليس من صميم مهامها ، وإنما هي عاملة حقلها ، وللحروب رجالها .. وللوعظ رجاله .. وللنصح رجاله .. لا ..
لقد أظهرت هذه النملة أنه مهما كانت الانشغالات، ومهما كانت الالتزامات، ومهما كانت الأعمال، ومهما .. ومهما .. ومهما .. كانت الحجج والأعذار ... إلاّ أنه لا يعفى أحد من أداء رسالة النصح وإبلاغ الناس وتوجيههم وإنقاذهم من أي خطر يحدق بهم سواءً كان في الدنيا أو في الآخرة .. وهذا هو السر الذي رأيته في هذه القصة ..
وأختم بمقولة رائعة لابن قيم الجوزية رحمه الله حين قال في إشارته لهذه الآية المصدرة للمقال، يقول : [ فتكلمت _ أي النملة _ بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة : النداء، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والنص، والتحذير، والتخصيص، والتفهيم، والتعميم، والإعذار، فاشتملت نصيحتها على هذه الأنواع العشرة، ولذلك أعجبَ سليمانَ قولُها، وتبسم ضاحكاً منه ] .(/1)
قانون الأحوال الشخصية
من مظاهر الهجمة الشرسة التي يشنها أعداؤنا على ديننا وقيمنا في موضوع المرأة المسلمة ، محاولة تغييرقانون الأحوال الشخصية الذي يستمد أغلب مواده من التشريع الإسلامي الحنيف والذي يضمن للمرأة حقوقها، ويحفظ لها كرامتها مما لاتجده في أيِّ تشريع بديل من صنع البشر .
الخطبة :
أما بعد فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى ومراقبته في السر والعلن وتتبع آثار نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم والتأسي به قولا وفعلا وعملا وحالا لأن في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم نور الدنيا والآخرة وخير الدنيا والآخرة والنجاة في الدنيا والآخرة وتحقق التقوى بأعلى مستوياتها لأن نبينا صلى الله عليه وسلم آتاه الله عز وجل نعمة بيان القرآن بقوله وفعله وتصرفاته صلوات الله وسلامه عليه
{يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )
وبعد أيها الأخوة فإننا ما نزال في الحديث عن الدفاع عن المرأة المسلمة والبيت المسلم ذلك أن هذه الأسرة التي يعتز بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها تتعرض اليوم كما تعلمون جميعا إلى هجمة شرسة من أعداء الإسلام بكل ألوانهم وسائر أصنافهم وليست هذه الهجمة كما تعلمون وكما ترون وتسمعون في كل صباح ومساء ليست هذه الهجمة على الأسرة وحدها إنما الهجمة على الإسلام والمسلمين في كل ميدان من ميادينهم وفي كل ساحة من الساحات وفي كل ما يمكن أن يُتصور أن يُشن علينا في حرب فإنهم لا يألون في ذلك جهدا
ولقد تكثفت هذه الحملة في الآونة الأخيرة على كل الميادين والمستويات فكما أن أعداءنا استطاعوا أن يجندوا لأنفسهم جنودا داخل البلاد وخارج البلاد استطاعوا أن يجندوا من أبناء المسلمين ومن أسر المسلمين ومن مَن يحملون كلمة الإسلام وأسماء الإسلام استطاعوا أن يجندوا من هؤلاء مَن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أداة طيعة بيد أعدائنا وأعداء الإسلام والمسلمين فهم يشنون الدعايات المغرضة في الصباح والمساء وعلى الفضائيات وفي كل وسائل الإعلام ضد هذا البلد وضد دين هذا البلد وأخلاق هذا البلد وكما أنهم جندوا لأنفسهم جنودا خارج الحدود فكذلك كانت لهم أظافر يخمشون بها هذا البلد من الداخل سواء فيما يستوردونه ويصرحون به من أنواع النظم السياسية التي يريدون أن يفرضوها فرضا ويستوردونها من الغرب استيرادا وهي غريبة عن قيم البلد وعن تراث البلد وعن ثقافته وتاريخه
تارة بالعولمة وتارة بالديمقراطية وتارة بالحرية وغير ذلك من هذه الشعارات التي رأينا بأم أعيننا آثارها حينما صُدرت إلى العراق وإلى أفغانستان كيف أنه لم يكن من ورائها إلا الدمار والخراب وابتزاز الثروات وقتل النساء والأطفال وكذلك هم اليوم يُصدرون لبلدنا هذا كله وهؤلاء الذين يحملون هذه الشعارات للتأثير على سياسة البلد والضغط على أمن البلد هم بالذات هم الذين يحملون هذه الحملة الشعواء الشنعاء على نظام الأسرة في بلدنا هذا وذلك في كل بلاد العالم الإسلامي فلو تتبعت الأخبار وتفحصت الأنباء الآتية من دول العالم الإسلامي لوجدت هذه الحركات المريبة في كل بلد من بلاد العالم الإسلامي حول الأسرة ونظام الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية وما يتعلق بالمرأة وما يسمونه بتحرير المرأة وهو تدمير المرأة على الحقيقة تجد الصورة واحدة لا تختلف أبدا ولهم في ذلك عملاء من أبناء المسلمين يروجون لهذه الدعايات السياسية المغرضة لتغيير وضع البلد ولإدخال الفوضى ولزعزعة الأمن فيه وكذلك لتغيير نظام الأمة في أسرها وفي نسائها وفي فتياتها فإذا وجدت هذه الفوضى التي يصرحون بها كثيرا الفوضى الخلاقة كما يقولون إذا وجدت هذه الفوضى فقد أتيحت لأصابعهم المخربة أن تعيث في الأرض فسادا والعياذ بالله تعالى .
أيها الأخوة كنت منذ عدد من الخطب بدأت بالحديث عن الطلاق وأن نظام الطلاق في الإسلام نظام محكم نظام متماسك يضمن للأسرة أن تعيش في هناء و سعادة حتى إذا وصلت الأمور في بعض الأسر إلى مضائق حرجة و خلافات حادة فإن الإسلام عالجها خير معالجة و حينما يجد الإسلام أن لا مناص من الفرقة بين الزوجين وأن بقاء رباط الزوجية يضر أكثر مما ينفع فإنه حينئذ يأذن بالطلاق على طرائق و مراتب ذكرتها في الخطب الماضية جميعاً تدل على حكمة الإسلام وعظمة الإسلام وأنه لا نظير له في الأكوان كلها فيما سبق و فيما يلحق لأنه دين الله سبحانه و تعالى
(( ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير ))(/1)
وأنا اليوم أتابع الحديث عن الطلاق و سوف آتي أيها الأخوة اليوم ببعض مسائل من أبواب الطلاق في قانوننا قانون الأحول الشخصية التي يسعى أعداؤنا كافة بواسطة أصابعهم الموجودة في البلد من أبناء المسلمين أن يغيروا هذا القانون وأن يتلاعبوا بنصوصه و أن يجهضوا أفضل ما فيه من ما وضعه واضعوا هذا القانون و مما استمدوه من شريعة الإسلام و من ثوابت هذا الدين و من كتاب الله سبحانه و تعالى و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ,
لن آتي اليوم على كل هذه الفتن التي تحاول أن تحرق قانون الأحوال الشخصية إنما سأتعرض لبعض المسائل في الطلاق بالذات ولا أتعرض لغيرها لأنها ستأتي في ما يلي في ما بعد إن شاء الله تعالى , أيها الأخوة قانون الأحوال الشخصية على ما فيه من جموح إلى بعض الأقوال الضعيفة في المذاهب فإنه خير بألف مرة من أي قانون للأسر في الدنيا كلها و كما يقول بعض كبار المختصين في القوانين المتمكنين فيها من الأفاضل من أبناء بلدنا هذا يقول : والله لا يوجد قانون للأحوال الشخصية في العالم كله أفضل من قانون الأحوال الشخصية في سورية , و هذا فضل من الله تبارك و تعالى على هذه الأمة و أسأل الله أن يثبت علينا هذه القوانين المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه و أن يكرمنا بأن تتغير قوانيننا و قوانين المسلمين جميعاً إلى ما يوافق كتاب الله تعالى و كلام رسوله صلى الله عليه و سلم .
أيها الأخوة هنالك مسائل في الطلاق تلاك بالألسن ويتجنى على قانون الأحوال الشخصية فيها وقانون الأحوال الشخصية كما ذكرت على ما فيه هو خير القوانين على الإطلاق وبلمحة موجزة سريعة أود أن ألفت النظر إلى أن قانون الأحوال الشخصية الموضوع حالياً و المعمول به في بلادنا مصادره
أولاً من قانون حقوق العائلة و قانون حقوق العائلة هو قانون تعديلي أدخل على نظام الأسرة في الدولة العثمانية , وخلال الدولة العثمانية كان يُحكم بمذهب أبي حنيفة النعمان رضي الله تبارك وتعالى عنه و أرضاه في كل نواحي الحياة و كذلك في قانون الأسرة ونظام الأسرة وفي سنة 1336 هجرية يعني
منذ حوالي تسعين سنة عدلت الدولة العثمانية هذا القانون بقانون جديد سمي بقانون حقوق العائلة ,
وهو قانون جيد أدخل فيه من المذاهب الأخرى غير المذهب الحنفي من الشافعية و المالكية و الحنابلة إلى قانون الدولة العثمانية فعدل تعديلاً لا بأس به إن شاء الله
فلما وضع قانوننا هنا القانون السوري في سنة 1953 كانت مصادره أولاًُ قانون حقوق العائلة و أضيف إليه أيضاً شيء من القانون المصري المأخوذ من الكتاب والسنة ومن مذاهب العلماء المعتمدين رضي الله عنهم مع بعض تعديل أدخل فيه وكذلك من مصادر قانوننا السوري أقوال أخرى ليست موجودة في قانون حقوق العائلة أخذت أيضاً من المذاهب الإسلامية المعروفة.
وهنالك كتاب اسمه (القوانين الشرعية في قانون الأحوال الشخصية) لقدري باشا أيضاً كان من مراجع هذا القانون و مشروع لقانون الأحوال الشخصية كتبه الشيخ علي الطنطاوي عليه رحمة الله و رضوانه
هذه هي مصادر قانون الأحوال الشخصية السوري المعمول به في بلدنا الآن و هو مع تعديلاته التي أدخلت عليه في سنة 1975 كلها مأخوذة من شريعة الإسلام و الحمد لله , والحملة اليوم قائمة بوتيرة عالية جداً و بعداوة مريرة و بحقد بالغ على الإسلام وعلى أحكام الإسلام لتغيير قانون الأحوال الشخصية و أنا متعرض إلى بعض المسائل التي أشير فيها إلى نظرة القانون لقضايا الأسرة و للمواضيع الحرجة التي يضطر فيها القانون أحياناً إلى الأخذ ببعض الأقوال الضعيفة تيسيراً على الأسرة و توسعة لحياتها و جنوحاً إلى انصاف المرأة و أن لا يقع عليها شيء من الظلم أبداً ,
على سبيل المثال أن الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة أو في مجلس واحد هذا يقع برأي أكثر العلماء و جمهورهم يقع بثلاث طلقات فمن فعل ذلك و تفوه بهذه الكلمة و قال ثلاثاً فقد وقعت عليه ثلاث طلقات دفعة واحدة لأن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه جاءه سائل فقال يا أمير المؤمنين قد طلقت زوجتي مئة مرة فقال : وقعت ثلاث و الباقي رد من الله عليك .
أيها الأخوة قانون الأحوال الشخصية لم ينظر إلى ما ذهب إليه جمهور العلماء إنما أخذ بقول في مذهب الإمام أحمد بن حنبل بأن الطلاق بالثلاث بلفظ واحد يقع طلاقاً واحداً و ذلك لفسح المجال أمام رب الأسرة إذا أصابه الغضب فأقسم هذا اليمين و حلف بالطلاق ثلاثاً و لفسح المجال أمام هذه الأسرة أن لا تتفكك عراها و لا تنفصم حقيقتها و لا يهدد كيانها رضي قانون الأحوال الشخصية بأن تقع هذه الطلقات الثلاث طلقة واحدة(/2)
أيها الأخوة هذه مسائل أطرحها الآن على المنبر وليس محلها المنبر ولكن لشراسة الهجمة على قانون الأحوال الشخصية سوف أضطر إلى ذكر بعض المسائل العلمية الفقهية القانونية ولكن أجنح إلى تبسيطها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً حتى تكون الأمة على بينة من أمرها وحتى تعلم الأمة أن هذا القانون الذي ندافع عنه هو بحق خير قانون في الدنيا والحمد لله وأن زعزعة هذا القانون قانون الأحوال الشخصية زعزعته هو زعزعة لأمن البلد وزعزعة لتاريخ البلد ولثقافة البلد ودين البلد وإذا كان لا بد من التعديل في بعض البنود فمن الذي يعدل ومن الذي يتعرض إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية ؟ كما نرى اليوم الفنانون والفنانات والأفلام والمسلسلات والراقصون والراقصات هم الذين يقترحون تعديل قانون الأحوال الشخصية ويطعنون بهذه المادة وتلك المادة إنما الذي ينبغي أن يتعرض لتعديل قانون كهذا القانون يتحكم بمصير الأسرة بل يتحكم بمصير الأمة كلها ينبغي أن يكون من أهل الاختصاص وما سمعت منذ أن قامت هذه الهجمة ومنذ أن أثيرت هذه الزوبعة في وسائل الإعلام ما سمعت أبداً اسم رجل متخصص من رجال القانون الكبار الذين يعتمد عليهم والذين مرت على رؤوسهم التجارب الكثيرة والأحداث الهائلة في قضية الأسرة ما سمعت أن واحدا منهم يطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية إنما كل ما أسمعه اليوم ويسمعه الجميع في وسائل الإعلام من مهاجمة قانون الأحوال الشخصية انظروا أسماء لم يُعرف لها تاريخ في هذا البلد ولم يُعرف لها بذل لهذا البلد ولم يُعرف لها تمكن في هذا الاختصاص ولا معرفة بالفقه ولا بالقانون ولا تخصص في باب من هذه الأبواب نرى أن المتعرضين لها هم الممثلون والفنانون في أفلامهم ومسلسلاتهم يطعنون الطعون الشديدة ويشككون الأمة بقانون الأحوال الشخصية الذي هو من دين البلد ومن ثقافة البلد وتاريخه
فلذلك أنا مضطر أن أبين بعض هذه المسائل وإن كان محلها حلقات العلم ولكن ينبغي أن تكون الأمة على بينة من حقائق هذا القانون أو بعض مسائل هذا القانون حتى تعلم أنه لا استقرار للبلدإلا باستقرار الأسرة وإلا إذا حافظنا على هذا القانون وأصررنا على أنه لا يعدل هذا القانون إلا أهله المتخصصون به وليس كل غاد ورائح وليس كل من أراد أن يرفع صوته مدفوعاً من الشرق أو من الغرب ينبغي أن يسمع له وأن يلتفت إليه
مسألة أخرى أيها الأخوة قضية الطلاق المعلق والمقصود بالطلاق المعلق أن رجلاً يحلف بالطلاق ولكن على أمر ما يعني في ساعة غضب يقول لزوجته إن زارت بيت أهلها فهي طالق أو ما يشبه هذا من كل طلاق يعلقه على أمر آخر لا علاقة له بالطلاق فهذا يسمى الطلاق المعلق وهذا الطلاق أيها الأخوة يقع طلاقاً كما حلف في المذاهب المعتمدة عند جمهور العلماء فإذا حلف أحد مثل هذا اليمين ودخلت زوجته دار أهلها فقد طلقت في فتوى أكثر المذاهب , ومع ذلك فإن قانوننا تيسيراً على الأسرة وحفاظاً عليها وخوفاً عليها من أن تتفكك و تتمزق أخذ بقول في مذهب الإمام أحمد بن حنبل أن الطلاق المعلق إذا لم يكن صاحبه يقصد الطلاق ـ إذا قصد الطلاق فعلاً فإنها تطلق كبقية المذاهب ـ ولكن إذا لم يقصد الطلاق لم يخطر في باله الطلاق إنما أراد أن يهدد وأن يحمل زوجته على طاعته حملاً فحلف هذا الطلاق ولم يقصد به إلا التهديد بذلك فإن هذا الطلاق لا يقع وإنما إذا دخلت دار أهلها فإنه يُكفِّر عن يمينه هذا ككفارة اليمين ليس إلا كأنه حلف يميناً وحلف فيها فيدفع كفارة يمينه إلى الفقراء والمساكين وترجع زوجته ولا حرج عليهم في ذلك أبداً . أخذ القانون بهذا القول الميسر غاية التيسير وترك المعتمد من أقوال جمهور العلماء حفاظاً على الأسرة وحرصاً عليها
كذلك من المسائل التي أحب أن أشير إليها في نظام الأحوال الشخصية قانون الأحوال الشخصية في بلدنا هذا , الرجل حينما يغيب عن زوجته غياباً طويلاً بحيث يُسجن فلا يُعرف شأنه في السجن أو يُسجن على رأي بعض المذاهب أكثر من ثلاث سنوات أو حينما يغيب و يسافر وينقطع خبره فلا يُعرف عنه شيء أبداً فإنه في هذه الحالة ترفع المرأة أمرها إلى القاضي ولا يجوز لها أن تلجأ إلى الطلاق لأنه لا طلاق إلا بيد الزوج لا طريقة للتخلص من عرى الزوجية ومتانتها إلا عن طريق الزوج فإذا رجع الزوج إن شاء أبقاها وإن شاء طلق أما ما لم يرجع أو ما لم يثبت موته فإنها باقية على عصمته
أيها الأخوة الشافعية والحنفية يرون أن القاضي لا يحكم بالتفريق بينهما حتى يموت آخر واحد من أقرانه ونظرائه يعني لو كان شاباً عمره عشرون سنة فإنه ينتظر حتى يموت آخر أقرانه يعني بعد أربعين سنة أو ثلاثين أو خمسين سنة حتى يموت آخر أقرانه ورفقائه حينئذ يحكم القاضي بطلاقها فإذا شاءت بعد ذلك وبعد انقضاء العدة أن تتزوج فلتتزوج(/3)
ترك قانون الأحوال الشخصية هذا القول جانباً وأخذ برأي المالكية والحنابلة بأن الرجل إذا سجن أكثر من ثلاث سنين أو غاب وانقطع خبره فإن المرأة ترفع إلى القاضي أمرها بعد سنة من غياب زوجها إذا مر سنة على غياب زوجها فإنها ترفع أمرها إلى القاضي والقاضي له الحق شرعاً أن يُفرق بينهما وتأخذ سبيلها فتنقضي عدتها و تتزوج برجل آخر وهكذا كما قلت أخذ قانون الأحوال الشخصية في هذه المسألة بأيسر الأقوال ولم يأخذ بأصعبها
كذلك أيها الأخوة من الأمور التي أخذ بها قانون الأحوال الشخصية تيسيراً على المرأة وتيسيراً على الزوجة حينما تشعر المرأة بشيء من الغبن أن يكون الطلاق بيد الرجل وأن لا يكون بيد المرأة وأن المرأة لا علاقة لها بالطلاق إلا كما ذكرت سابقاً كنت ذكرت لكم الأحوال التي تستطيع المرأة أن تتخلص بها من بيت الزوجية إذا كانت مظلومة مقهورة ولم تستطع أن ترفع عنها هذا الظلم إلا بالتفريق فإنها تستطيع ذلك على ما ذكرته في ما مضى على المخالعة والتفريق وغير ذلك هنا أيضاً مما ينبغي أن يذكر أن قانون الأحوال الشخصية نظر في هذه المسألة
الفقهاء يقولون إن الطلاق بيد الرجل أكثر الفقهاء يقولون الطلاق بيد الرجل لا بيد سواه ولكن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول تستطيع المرأة منذ عقد زواجها أن تشترط أن تكون العصمة بيدها فتطلق نفسها متى شاءت أن تطلق المرأة نفسها متى شاءت وفي هذا طبعاً وضع هذا الأمر بيد المرأة طلاقة للمرأة صارت مثل الرجل في أحقية الإمساك ببيت الزوجية ونقض عراها وكذلك في مذهب الإمام أحمد بن حنبل يجوز للمرأة أن تُدخل شروطاً كثيرة في باب الطلاق حين عقد الزواج ومنها هذا الشرط تستطيع أن تدخل هذا الشرط فتطلق نفسها متى شاءت
أخذ القانون بهذا وترك قول بقية الفقهاء بأن الطلاق بيد الرجل ولا يمكن أن يعطى للمرأة .
أيضاً من المسائل التي أحب أن أقف عندها في باب الطلاق مسألة النفقة إذا قصر الرجل في النفقة . النفقة كما مر معنا سابقاً أمر لا بد منه وهو واجب على عنق الرجل وفي ذمته وينبغي أن يقوم به ولا يقصر فيه وكنت ذكرت أن هذه النفقة تحدد حسب حال الرجل لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله
هنا أيضاً خلاف في المذاهب ، الحنفية يقولون إن الرجل إذا قصر في النفقة ولم يؤد واجبه فيها فلا يفرق بين الزوجين وإذا رفعت المرأة أمرها إلى القاضي فإنه لا يمكن أن يصل إلى التفريق بينهما بحال ذلك أن منعه للنفقة إذا كان معسراً فقيراً فإنه ليس بظالم فكيف يفرق الحاكم بينه وبين زوجته وهو ليس بظالم ولكنه معسر لا يجد ما ينفق والله عزوجل قال { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه(يعني من ضُيق عليه رزقه) فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً} فإذا كان معسراً فلا يفرق القاضي بينهما وإذا كان موسراً غنياً فلا يفرق القاضي بينهما لم لأن القاضي يجبره على النفقة إجباراً وإذا لم يدفع هذه النفقة فإن القاضي يستطيع أن يضع يده على ماله ويبيع هذا المال رغماً عن صاحبه شاء أم أبى وينفق على هذه الزوجة .
فالباب مغلق عند السادة الحنفية فلا تفريق إذا قصر الزوج في النفقة معسراً كان أم موسراً
ويقول الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنهم إن المرأة إذا ظلمها زوجها بمنع النفقة معسراً أم موسراً فقد لا تصبر على قلة النفقة ومن ذا الذي يستطيع أن يجبرها على الجوع والعطش فإن لها أن ترفع أمرها إلى القاضي وتطلب أن يفرق بينها وبين زوجها ثم إن القاضي إذا وجده معسراً أمر بالتفريق ففرق بينهما وإذا وجده موسراً أجبره على النفقة وقانون الأحوال الشخصية أخذ بهذا الرأي الأخير بعد أن كان العمل سابقاً برأي مذهب أبي حنيفة أنه لا تفريق بقلة النفقة وتبقى صابرة عليه مهما كلف الأمر أخذ قانون الأحوال الشخصية بالمذهب الأيسر وهو مذهب جمهور العلماء أن القاضي يفرق بينهما إذا أعسر الرجل فلم يستطع النفقة أو أيسر ولم ينفق ولم يستطع القاضي أن يجبره على النفقة .(/4)
وهنالك مسائل أخرى سآتي عليها إن شاء الله في الخطبة القادمة إن شاء لله تعالى ولكن أود أن أقول أيها الأخوة إن قانون الأحوال الشخصية قانون ينبغي للأمة أن تتشبث به غاية التشبث وأن تتمسك به كما تتمسك بكل نص من نصوص دينها وشريعتها فإن الأمة التي تفرط بنص واحد من نصوص شريعتها قد فرطت بكيانها وفرطت بوجودها لأن دين الله عزوجل هو زمام لهذه الأمة يمسكها من كل جانب و يصوب لها الطريق ويصحح لها المسار فإذا تنازلت ادنى تنازل عن نص من نصوصها وقانون الأحوال الشخصية من نصوص الشريعة فقد فرطت الأمة بحقيقة وجودها ووضعت يدها ووضعت نفسها ووضعت كيانها في مهب الرياح وخاصة في هذه الرياح العاتية التي تهب على الأمة من كل جانب وإذا حصل تفكير بالتغيير ووُجدت ضرورة فالذين يغيرون هم أهل الاختصاص أصحاب العلم وأصحاب الغيرة على الأمة وأصحاب الغيرة على دين الله عزوجل هؤلاء الذين ينبغي أن يمدوا يدهم بالتغيير والتبديل إذا وجدوا إلى ذلك ضرورة .
أسأل الله عزوجل أن يثبت على هذه الأمة دينها وعقيدتها وشريعتها وسائر أمورها التي تصل بها إلى رضوان الله تعالى
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أستغفر الله .(/5)
قراءة في التاريخ الإسلامي
" محمد محمود عبد الخالق "
يحتاج المسلمون كثيرا في حياتهم إلى أن يقرأوا التاريخ قراءة واعية؛ فقراءة التاريخ من أهم عوامل تكوين الشخصية ومن أهم عوامل شعور الأمة بذاتها والمسلم يستطيع من خلال قراءته للتاريخ وخاصة التاريخ الإسلامي أن يستخرج الدروس المفيدة التي قد تساعده على فهم واقعه واستشراف مستقبله فيستطيع أن يخرج بنتائج وتوقعات قد تكون قريبة من الصواب. ومن الوقائع التي نستطيع أن نأخذ منها العبرة على سبيل المثال لا الحصر: " واقعة غزوة بني قينقاع " فهؤلاء القوم وغيرهم من اليهود في المدينة عقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة سلمية، وحرص صلى الله عليه وسلم كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وبالفعل لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها، ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين إلى جانب إعلانهم السافر عن الحرب بصورة غير مباشرة، " فلقد روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال: ( يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً )، قالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله، أخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } آل عمران 12- 13،1 وبعد ذلك أتوا بفعل يدل على حقارتهم وسوء نيتهم فلقد روى ابن هشام عن ابن عون: أن امرأة من العرب قدمت بجَلَب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها – وهي غافلة – فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله – وكان يهودياَ- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع }.ا.ه
فتلك الحادثة وغيرها مما يشابهها على مدار تاريخ اليهود تدل وبصراحة على رغبة هؤلاء الكفرة في إظهار العورات وانتشار الرذائل وخاصة بين المسلمين، ولعل هذا واضح بصورة جلية في عصرنا الحاضر فما من مكان تخرج منه نداءات وصيحات الفجر والفسق إلا وتجد وراء ذلك اليهود وأتباعهم سواء من حيث التمويل أو الفكرة أو حتى التنفيذ سواء المباشر أو غير المباشر فهم يريدون أن تغرق شعوب العالم كلها بصفة عامة والشعوب الإسلامية بصفة خاصة في بحار الرذيلة ومستنقع الشهوات، ولا غرو في ذلك فالكيان الصهيوني يعد من أكثر دول العالم إباحية، ولذلك فإنه يريد أن يصدر تلك الإباحية إلى شتى بقاع الأرض وخاصة بلاد المسلمين. ولعل السر في رغبة هؤلاء اليهود وغيرهم من النصارى في نشر الفاحشة بين المسلمين هو علمهم بأنهم لن يستطيعوا أن يسيطروا على بلاد المسلمين أو يتحكموا في مقدراتها ويتدخلوا في شئونها دون أن يشغلوا شعوب تلك البلاد في الأمور التافهة وجعلهم بلا غاية عن طريق إغراقهم في الشهوات وإتاحتها لهم وجعلها غايتهم ومحل تفكيرهم، فهم يريدون لهذه الشعوب أن تستسلم وتعلن هزيمتها وانصياعها عن طريق إبعادها عن إسلامها وفقدها لهويتها، وساعد هؤلاء على تحقيق ذلك مجموعة من الخونة والأذناب في بلاد المسلمين الذين تبنوا تلك الدعوات وجعلوها غايتهم ومحل اهتمامهم ولعل ما يدل على ذلك تلك الأقوال التي صرحوا بها وأعلنوها والتي تدل على خبثهم ومدى عدواتهم للإسلام مهما كانوا يدعون أنهم مسلمين، وقد قال أحدهم " لن تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن " وقال آخر " ليس هناك طريق لهدم الإسلام أقصر مسافة من خروج المرأة سافرة متبرجة "، ويقوا أحد شعرائهم _ وهو محمد صادق الزهاوي _ يخاطب المسلمة العراقية فيقول:
مزقي يا ابنة العراق الحجابا وأسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقيه وأحرقيه بلا ريث فقد كان حارسا كذابا(/1)
وبعضهم كان يقول " كأس وغانية تفعلان بأمة محمد مالا يفعله ألف مدفع "، وفي الدلالة على النوايا الخبيثة لدى أعداء الإسلام من وراء هذه الدعوة يقول محمد طلعت حرب باشا في كتاب له بعنوان " المرأة والحجاب ":- "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوروبا بالعالم الإسلامي ". ومما يؤسف ويحزن أن هؤلاء اليهود والنصارى وأذنابهم في بلاد المسلمين استطاعوا أن ينجحوا في الكثير من مخططاتهم وأهدافهم فمن ينظر إلى أحوال المسلمين اليوم يلاحظ ذلك ويعاينه وإذا كان البعض سيقول أن هناك صحوة إسلامية فإني أقول له نعم هي موجودة ولكن ببطء شديد فغالبية المسلمين غثاء كغثاء السيل لا فائدة منه فمنهم من تغير فكره وأصبح متعلقا بالغرب - وهم كثرة وليسوا قلة – وأصبحوا يتمنون أن يحدث في بلادهم ما يحدث في بلاد الغرب سواء أعلنوا عن ذلك صراحة أو كانت أفعالهم تدل على ذلك، ومنهم من أصبح يكره سماع الدين ولا يعرف عن دينه شيء، ومنهم من أصبح يشمئز عندما يقبل على عمل ما وتقول له أن الدين يقول في ذلك كذا وكذا، ومنهم من أصبح الغناء ومتابعة المسلسلات والأفلام وأخبار الممثلين والممثلات جل همه ومحل اهتمامه، ومنهم من أصبح متابعة المباريات أهم عنده من الصلاة، ومنهم ومنهم... أمور تحزن وتبكي فبينما يخطط لنا أعداؤنا من الغرب واليهود وغيرهم ويريدون أبادتنا ما استطاعوا لذلك من سبيل بل إنهم والله يريدون تنصيرنا أو تهويدنا، وعلى الرغم من عقيدتهم الباطلة إلا إنهم يدعون لها ويبذلون لها الأموال والجهد وينشغلون بذلك أيما انشغال ولعل تلك الإحصائية التي طالما قرأتها أشعر بخيبة أمل على أحوال المسلمين وما وصلوا إليها ولا أعرف هل توافقوني الرأي في ذلك أم لا: - ذكرت مجلة البيان في عدد شهر جماد الأول 1421هـ .. نقلا عن المجلة الدولية للبحوث والآثار الأمريكية.. فكان مما ذكرت. ( أنه قد بلغ عدد المنظمات التنصيرية عام 1990م، 21.000 إحدى وعشرين ألف منظمة.. وفي عام 1996م، ارتفع عددها إلى 45000 خمس وأربعين منظمة عاملة بالتنصير... أما عدد المنصرين داخل بلادهم فقد بلغ 000، 923، 3 ثلاثة ملاين وتسعمائة وعشرين ألف منصرا عام 1990م، وقد ارتفع عام 1996م، إلى 4.635.500 أربعة ملايين وستمائة ألف وخمسة آلاف منصر .. أما المنصرين خارج بلادهم فقد بلغ عدد عام 1990م، 250.285 أكثر من مائتين وخمسة وثمانين ألف منصر.. أما عام 1996م، فقد ارتفع العدد إلى 398000 ثلاث مائة وثمانية وتسعين ألف منصر أما المجلات فقد بلغت عام 90م، 23.800 مجلة دورية تنصيرية..وارتفع العدد إلى 30100 ثلاثين ألف مجلة دورية.. أما المحطات فقد بلغت عام 90م 2160 ألفين ومائة وستين محطة للإذاعة والتلفزيون أما عام 96م فقد ارتفع العدد إلى 3200 ثلاثة آلاف ومأتي محطة.. وأخيرا فقد رصد لخدمة التنصير 193 بليون دولار التبرع للكنيسة و 206 مليون جهاز كمبيوتر تعمل في خدمة التنصير.. فإذا كان ذلك منذ هذه السنوات فما بالنا اليوم وقد اشتدت المعركة وأصبح الكل يريد أن ينهش من جسد الأمة المستسلمة التي نرى أفرادها واقفون يتفرجون عليها ولا أعرف ماذا ينتظرون. وأخيرا فإن الأمة الإسلامية تحتاج ليس فقط إلى العمل بالإسلام ولكن في البداية تحتاج إلى فهم الإسلام وحقيقته فهما سليما يحافظ لنا على عقيدتنا وهويتنا بصورة تدحر أعداءنا وتصد عنا مكائدهم، فلنعد يا أخوة إلى الله لعله سبحانه وتعالى أن يزيح عنا ذلك الكرب والهم إنه على ذلك قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المصادر والمراجع:
1. الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباركفوري.
2. صفحات من حياة الصحابيات للدكتور محمد طلعت عفيفي.
________________________________________
1 - الحديث ضعفه الألباني رحمه في ضعيف أبي داود.(/2)
قصة أخرى مفتراة على نبي الله يوسف عليه السلام
إعداد/ علي حشيش
الحلقة السادسة والستون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت وانتشرت في معظم التفاسير المشهورة وتناقلها القصاص والوعاظ، وهي طعن في عصمة نبي اللَّه يوسف عليه السلام.
وهذه القصة تضاف إلى سلسلة القصص الواهية المفتراة على الأنبياء، والتي سبق تقديم البحوث العلمية الحديثية حولها، ومنها:
أولا: متن القصة
«قصة ابتغاء يوسف عليه السلام الفَرَجَ من عند غير اللَّه» عدد شوال 1424هـ رقم (39) رُوي عن السدي في قوله تعالى: ولقد همت به وهم بها قال: قالت له: يا يوسف، ما أحسن شعرك، قال: هو أول ما ينتثر من جسدي.
قالت: يا يوسف، ما أحسن وجهك. قال: هو للتراب يأكله. فلم تزل حتى أطمعته، فهمت به وهمَّ بها، فدخلا البيت، وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت.
قد عض على أصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها؛ فإن مَثَلَك ما لم تواقعها مثل الطير الذي في جَوِّ السماء لا يطاق.
ومَثَلك إذا واقعتها مثل الطير الذي في جو السماء إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ومَثَلك إذا واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
فربط يوسف سراويله وذهب ليخرج يشتد، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته، حتى أخرجته منه وسقط وطرحه يوسف واشتد نحو الباب. اهـ.
قلت: ولقد وضع الوضَّاعون قصة أخرى باطلة ترتبط بهذه القصة وتجعل نبي اللَّه يوسف عليه السلام يقر على نفسه بالسوء المذكور في القصة.
فقد رُوي عن ابن عباس قال: «لما جمع الملك النسوة فسألهن: هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن: حاشا لله ما علمنا عليه من سوء، قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق الآية.
قال يوسف: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال: فقال له جبريل: ولا يوم هممت بما هممت ؟ فقال: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
ثانيًا: التخريج:
القصة أخرجها ابن جرير في «تفسيره» (7/200، 201) الخبر (19023) عن السدي، والقصة الأخرى أخرجها أيضًا ابن جرير في «تفسيره» (7/260) الخبر (19435) عن ابن عباس.
وأورد القصة الثعلبي في «قصص الأنبياء» (ص131). واشتهرت القصة في كتب التفسير، حتى قال القرطبي في «تفسيره» (ص3488): وقيل: إن همّ يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو النصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم، قال ابن عباس: حلَّ الهميان وجلس منها مجلس الخاتن واستلقت على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ولما قال: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف ؟ فقال عند ذلك: وما أبرئ نفسي اهـ.
ثالثًا: التحقيق:
القصة واهية ومنكرة ولا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هي من الأخبار المقطوعة والموقوفة المنكرة، وهي من الأخبار التي أوردها ابن جرير رحمه اللَّه، وقد أسندها، ومن أسند فقد أحال، وبهذه الإحالة يتحتم التحقيق لمن أراد أن يتكلم عن نبي اللَّه يوسف عليه السلام.
ومن التخريج تبين:
أ- أن جميع طرق القصة لم يوجد بها «الخبر الصحيح المسند». والمسند: هو ما اتصل مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال البيقوني:
والمُسْنَدُ المُتصلُ الإسنادِ مِنْ
راويه حتى المصطفى ولم يَبِنْ
ب- والأخبار والموقوفة الموقوفة جاءت بها القصة واهية منكرة ومضطربة. وإلى القارئ الكريم تحقيقها:
1- قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد قال: حدثنا أسباط، عن السدي. فذكر القصة.
والسدي: هو إسماعيل بن عبد الرحمن.
قال الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (2/190/456): إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي أبو محمد القرشي الكوفي الأعور، سكن الكوفة، وكان يقعد في سُدَّة باب الجامع بالكوفة، فسمي السُّدي، وهو السدي الكبير، روى عنه أسباط بن نصر الهمداني. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (1/72): «إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة السدي، من الرابعة». اهـ.
قلت: وهي طبقة تلي الطبقة الوسطى من التابعين، جُلُّ روايتهم عن كبار التابعين. كذا قال الحافظ في المقدمة. وبهذا يتبين أن الخبر الذي جاءت به القصة عن السدي مقطوع وليس بمرفوع. قال البيقوني:
وما أضيف للنبي المرفوع
وما لتابع هو المقطوع
قلت: ومع أن الخبر لا أصل له مرفوعًا، فلم يصح أيضًا مقطوعًا بل هو خبر تالف، فقد أخرج الإمام العقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/87/101) عن المعتمر بن سليمان قال: إن بالكوفة كذَّابَيْن: الكلبي والسدي.
وأخرج عن عبد اللَّه بن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت الشعبي، وقيل له: إسماعيل السدي قد أُعْطي حظًا من علم القرآن، فقال: إن إسماعيل قد أعطي حظًا من الجهل بالقرآن. اهـ.(/1)
وأخرج عن يحيى بن معين ذكر إبراهيم بن المهاجر والسدي، فقال: كانا ضعيفين مهينين.
ثم قال العقيلي: حدثنا داود، قال: حدثنا أحمد بن محمد، قال: قلت لأبي عبد اللَّه: السدي كيف هو ؟ قال: أخبرك أن حديثه لمقارب وإنه لحسن الحديث؛ إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به أسباط عنه فجعل يستعظمه، قلت: ذاك إنما يرجع إلى قول السدي، فقال: من أين وقد جعل له أسانيد ما أدري ما ذاك. اهـ.
قلت: وأقر هذا الإمام الذهبي في «الميزان» (1/236/905)، ثم نقل عن الجوزجاني أنه قال: حدثت عن معتمر، عن ليث قال: «كان بالكوفة كذابان، فمات أحدهما: السدي والكلبي».
ونقل عن الفلاس، عن ابن مهدي أنه ضعيف.
ثم قال الذهبي: وهو السدي الكبير، فأما السدي الصغير فهو محمد بن مَرْوان، يروي عن الأعمش، واهٍ بمرة. اهـ.
ونقل الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (2/192) هذه الأقوال وأقرها، ونقل عن السعدي قال: السدي كذاب شتام.
ونقل الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (1/273) هذه الأقوال في السدي وأقرها.
وعلة أخرى:
أسباط بن نصر أبو يوسف الهمداني.
قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/332): أسباط بن نصر أبو يوسف الهمداني روى عن سماك والسدي. حدثني أبي قال: سمعت أبا نُعيم يُضَعِّفُ أسباط بن نصر وقال: أحاديثه عامية سقط مقلوبة الأسانيد.
ثم قال: أخبرنا حرب بن إسماعيل فيما كتب، إلى أن قال: قلت لأحمد: أسباط بن نصر الكوفي الذي يروي عن السدي كيف حديثه؟ قال: ما أدري - وكأنه ضعفه. اهـ.
وأورده الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (1/185)، ونقل عن الساجي قوله في «الضعفاء»: روى أحاديث لا يتابع عليها عن سماك بن حرب. وعن ابن معين قال: ليس بشيء.
ثم بيَّن الحافظ أن لأسباط حديثًا في الاستسقا، ثم قال: وهو حديث منكر أوضحته في التعليق. اهـ.
قلت: وبهذا يتبين أن القصة واهية.
2- أما القصة الأخرى الباطلة التي ترتبط بهذه القصة تمام الارتباط كما بينا آنفًا وتجعل نبي اللَّه يوسف عليه السلام يقر على نفسه بالسوء فهذا هو سندها:
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال فذكر القصة. وإلى القارئ الكريم تحقيق هذا السند:
نقل الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (4/204)، عن يعقوب بن شيبة، قال: قلت لابن المديني: رواية سماك عن عكرمة ؟ فقال: مضطربة.
وقال زكرياء بن عدي، عن ابن المبارك: سماك ضعيف في الحديث. قال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة يخطئ كثيرًا قد تغير قبل موته.
قلت: وهذه المسألة من دقيق فقه الأسانيد.
فرواية سماك بن حرب الذهلي، عن عكرمة أبي عبد اللَّه - مولى ابن عباس، عن ابن عباس، في الكتب الستة، عددها (29) حديثًا، كما هو مبين في «تحفة الأشراف» (5/136- 143) من (ح6103) حتى (ح6131)، لا يوجد منها حديث واحد في البخاري أو مسلم، وحتى لا يقول قائل: الحديث على شرط الشيخين أو أحدهما، قال محدث وادي النيل في «الباعث الحثيث» (ص21): قال الحافظ ابن حجر: ووراء ذلك كله: أن يروى إسناد ملفق من رجالهما، كسماك عن عكرمة، عن ابن عباس، فسماك على شرط مسلم، وعكرمة انفرد به البخاري، والحق أن هذا ليس على شرط واحد منهما. اهـ.
قلت: وهذا الإسناد الملفق لا يصح الخبر به والقصة واهية.
طريق آخر للقصة عن عكرمة:
قال ابن جرير في «تفسيره» (7/263) (ح19450): حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: قوله تعالى: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، قال المَلَكُ، وطعن في جنبه: يا يوسف، ولا حين هممت ؟ قال: فقال: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
قلت: وهذا خبر مقطوع لا يصح، منكر؛ علته تدليس ابن جريج.
وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، أورده ابن حجر في «طبقات المدلسين» الطبقة الثالثة رقم (17)، وقال: وصفه النسائي وغيره بالتدليس، قال الدارقطني: شر التدليس تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. اهـ.
قلت: وابن جريج لم يصرح بالسماع عن عكرمة، وعنعن، فلا يقبل حديثه وتصبح القصة بهذا التدليس القبيح واهية.
طريق آخر يدل على اضطراب الخبر:
ففي الطريقين السابقين جعلوا القائل ليوسف: «ولا يوم هممت» جبريل.
وهذا الطريق يجعل القائل ليوسف عليه السلام امرأة العزيز، فأقر يوسف.
قال ابن جرير في «تفسيره» (7/263) (ح19451):
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: في قوله تعالى: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، قال: قاله يوسف حين جيء به ليعلم العزيز أنه لم يخنه بالغيب في أهله وأن اللَّه لا يهدي كيد الخائنين، فقالت امرأة العزيز: يا يوسف، ولا يوم حللت سراويلك ؟ فقال يوسف: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
قلت: وهذا سند تالف من طريق أسباط عن السدي وقد فصلناه آنفًا، وهو خبر مقطوع والقصة واهية منكرة.
طريق آخر يدل - أيضًا - على اضطراب الخبر:(/2)
وهذا الطريق يجعل قائل ذلك يوسف لنفسه من غير تذكير مذكِّر، ولكن تذكر ما كان سلف منه في ذلك.
قال ابن جرير في «تفسيره» (7/263) (ح19451):
حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين هو قول يوسف لمليكه حين أراه اللَّه عذره، فذكر أنه هم بها وهمت به، فقال يوسف: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
التحقيق لهذا الطريق:
أولاً: محمد بن سعد: هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة أبو جعفر العوفي من بني عوف بن سعد - فخذ - من بني عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن قاسط بن وهنب بن أقصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. قاله الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/322).
قلت: ذكرت اسمه ونسبه حتى أستطيع أن أقف على اسم أبيه وجده وجد أبيه.
1- محمد بن سعد قال الخطيب فيه: كان لينًا في الحديث.
2- أبوه: سعد بن محمد بن الحسن العوفي أورده الحافظ في «اللسان» (3/24) ترجمة رقم (3650) وقال: روى عن أبيه وعمه الحسين بن الحسن، وروى عنه ابنه محمد وغيره، قال أحمد فيه: جهمي، قال: ولم يكن هذا أيضًا ممن يستاهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك. حكاه الخطيب. اهـ.
3- عم أبيه: هو الحسين بن الحسن بن عطية أبو عبد اللَّه العوفي، أورده ابن حبان في «المجروحين» (1/246) وقال: منكر الحديث، يروي عن الأعمش وغيره أشياء لا يتابع عليها كأنه كان يقلبها، وربما رفع المراسيل وأسند الموقوفات، ولا يجوز الاحتجاج به.
4- جد أبيه: الحسن بن عطية أورده الذهبي في «الميزان» (1/503) تراجم (1889) وقال فيه: «الحسن بن عطية العوفي، عن أبيه، وعنه ابناه حسين ومحمد، قال البخاري: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: ضعيف». اهـ.
5- جد جده: عطية بن سعد بن جنادة العوفي، أورده ابن حبان في «المجروحين» (2/176) وقال: يروي عن أبي سعيد الخدري، فلما مات أبو سعيد جعل يجالس الكلبي ويحضر قصصه، فإذا قال الكلبي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكذا، فيحفظه وكنَّاه أبا سعيد ويروي عنه فإذا قيل له: من حدثك بهذا ؟ فيقول: حدثني أبو سعيد؛ فيتوهمون أنه أبو سعيد الخدري، وإنما أراد به الكلبي، فلا يحل الاحتجاج به ولا كتابة حديثه؛ إلا على جهة التعجب. اهـ.
قلت: فهذا الطريق مسلسل بالعوفيين وهم ضعفاء كما بينا، وهو إسناد ساقط لا يساوي عند أهل الحديث شيئًا، وهذه السلسلة - سلسلة العوفيين - فهي سلسلة العجب، وبهذا تصبح القصة بهذا الطريق واهية وتصبح جميع طرق القصة لا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والطرق موقوفة أو مقطوعة سلاسلها: إما سلسلة مضطربة، أو سلسلة عجب، أو سلسلة لا يخلو رواتها من كذابين أو متروكين أو مدلسين، فهي طرق تزيد القصة وهنًا على وهن.
رابعًا: قرائن تدل على أن القصة واهية:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (15/148- 150): يوسف عليه الصلاة والسلام لم يذكر اللَّه تعالى عنه في القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب منه، أو يستغفر منه أصلاً، وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة، ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع منه بعض مقدماتها، مثل ما يذكرون أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الخاتن ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب، وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم، كما قالوا في سليمان ما قالوا، وفي داود ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه، والقرآن قد أخبر عن يوسف من الاستعصام والتقوى والصبر في هذه القضية ما لم يذكر عن أحد نظيره، فلو كان يوسف عليه السلام قد أذنب لكان إما مصرًا وإما تائبًا، والإصرار ممتنع، فتعين أن يكون تائبًا، والله لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفارًا كما ذكر عن غيره من الأنبياء، فدل ذلك على أن ما فعله يوسف كان من الحسنات المبرورة والمساعي المشكورة، كما أخبر اللَّه عنه بقوله تعالى: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وإذا كان الأمر في يوسف كذلك: كان ما ذكر من قوله: إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إنما يناسب حال امرأة العزيز، لا يناسب حال يوسف، فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فرية على الكتاب والرسول، وفيه تحريف للكلم عن مواضعه، وفيه الاغتياب لنبي كريم، وقول الباطل فيه بلا دليل، ونسبته إلى ما نزهه اللَّه منه، وغير مستبعد أن يكون أصل هذا من اليهود أهل البهت الذين كانوا يرمون موسى بما برأه اللَّه منه، فكيف بغيره من الأنبياء ؟ وقد تلقى نقلهم من أحسن به الظن وجعل تفسير القرآن تابعًا لهذا الاعتقاد. اهـ.(/3)
2- قال الإمام ابن القيم في «تفسيره» (ص316): قول اللَّه تعالى ذكره: وما أبرئ نفسي [يوسف: 53]، فإن قيل: فكيف قال وقت ظهور براءته: وما أبرئ نفسي؟
قيل: هذا قد قاله جماعة من المفسرين، وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم، وقالوا: إن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف عليه السلام.
والله من وراء القصد.(/4)
قصة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان
إعداد/ علي حشيش
الحلقة السبعون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الوعاظ والقصاص ووجدت في كتب المغازي والسير بغير تحقيق، فاغتر بها من لا دراية له بعلم الحديث فراح يفتري على أم المؤمنين أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وإلى القارئ الكريم تخريج هذه القصة الواهية وتحقيقها.
أولاً: متن القصة
رُوِي عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يُقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية، أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه ؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر.
ثانيًا: التخريج
الخبر الذي جاءت به هذه القصة الواهية أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/79) قال: «أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن عبد اللَّه عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب... القصة».
وأخرجه ابن عساكر في التاريخ (79/150) قال: أخبرنا أبو عمر الخزاز، أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا أبو علي الفقيه، حدثنا محمد بن سعد، أخبرنا محمد بن عمر به.
وأورده الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (7/653) نقلاً عن ابن سعد بنفس السند.
وأورده الحافظ الذهبي في «السير» (2/222- 223) بصيغة التضعيف التي تدل على عدم صحة القصة.
ثالثًا: التحقيق
القصة واهية، حيث إن ما أخرجه ابن سعد به سقط في الإسناد وطعن في الراوي وبيان ذلك:
محمد بن عمر: أورده الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (17/97/6090) وقال: «محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي أبو عبد اللَّه المدني روى عنه كاتبه محمد بن سعد.. وآخرون».
1- قال البخاري في «الضعفاء الصغير» ترجمة (334): «محمد بن عمر الواقدي متروك الحديث».
2- قال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» (ت531): «محمد بن عمر الواقدي، متروك الحديث».
قلت: وهذا المصطلح عند الإمام النسائي له معناه، يتبين ذلك من قول ابن حجر في «شرح النخبة» (ص73): «مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه». اهـ.
3- أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/20/92) وقال:
أ- «سألت أبي عن محمد بن عمر الواقدي المدني فقال: متروك».
ب- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال لي الشافعي: كتب الواقدي كذب.
جـ- حدثنا أحمد بن سلمة النيسابوري حدثنا إسحاق بن منصور قال: قال أحمد بن حنبل: كان الواقدي يقلب الأحاديث، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر ونحو هذا.
قال إسحاق بن راهويه كما وصف وأشد لأنه عندي ممن يضع الحديث.
د- أخبرنا أبو بكر بن خيثمة فيما كتب إليّ قال: سمعت يحيى بن معين يقول: «لا يكتب حديث الواقدي، ليس بشيء». اهـ.
4- قال ابن عدي في «الكامل» (6/241، 98/1719): «هذه الأحاديث التي أمليتها للواقدي والتي لم أذكرها كلها غير محفوظة، ومن يروى عنه الواقدي من الثقات فتلك الأحاديث غير محفوظة عنهم إلا من رواية الواقدي والبلاغ عنه، ومتون أخبار الواقدي غير محفوظة وهو بيّن الضعف». اهـ.
5- وأورده ابن حبان في «المجروحين» (2/290) وقال: «محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي المدني؛ كان ممن يحفظ أيام الناس وسيرهم وكان يروي عن الثقات المقلوبات وعن الأثبات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك؛ كان أحمد بن حنبل يكذبه.
ثم أخرج عن علي بن المديني أنه قال: «الواقدي يضع الحديث».
قلت: والواقدي يروي هذا الخبر عن ابن أخي الزهري، وابن أخي الزهري يروي هذا الخبر عن عمه.
وابن أخي الزهري أورده الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (16/460/5964) وقال: محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري، أبو عبد اللَّه المدني ابن أخي الزهري روى عن عمه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وآخرين وروى عنه محمد بن عمر الواقدي، وآخرون ثم ذكر أن الواقدي يأتي عنه بمناكير عن الزهري وغيره.
قلت: مما أوردناه آنفًا يتبين من التحقيق الطعن في الراوي وهو الواقدي الكذاب والذي يضع الأحاديث.
الأمر الثاني: وهو السقط في الإسناد.
حيث إن السقط حدث في آخر السند من بعد التابعي وهو الزهري، حيث أورده الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/207) وقال: «محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري من رؤوس الطبقة الرابعة».
قلت: والطبقة الرابعة هي الطبقة التي تلي الطبقة الوسطى من التابعين وهذه الطبقة جُلُّ روايتهم عن كبار التابعين كذا في مقدمة «التقريب» (1/5) فكيف يخبر الزهري عن هذه القصة ؟(/1)
ولذلك هذا الخبر الواهي الذي جاءت به القصة يكون أيضًا مرسلاً لأن «المرسل»: هو ما سقط من آخره مَنْ بعد التابعي. كذا في «شرح النخبة» (ص41).
إذن فالخبر مع شدة ضعفه من مرسل الزهري.
وحكم مرسل الزهري عند علماء الفن نقله السيوطي في «التدريب» (1/205) قال: «روى البيهقي عن يحيى بن سعيد قال: مرسل الزهري شر من مرسل غيره لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستحب أن يسميه». اهـ.
وبهذا يتبين أن القصة واهية من سقط في الإسناد وطعن في الراوي.
رابعًا: طريق آخر
وقد يقول قائل: إن هناك طريقًا آخر للقصة، فإلى القارئ الكريم تخريج هذا الطريق وتحقيقه:
القصة من هذا الطريق أخرجها الطبري في «التاريخ» (2/183)، والبيهقي في «الدلائل» (5/8)، وأورده ابن كثير في «البداية والنهاية» (4/500)، كلهم عن ابن إسحاق قال: ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخل على ابنته: أم حبيبة... القصة.
خامسًا: التحقيق
القصة من هذا الطريق واهية حيث إن سندها مظلم أسقط ابن إسحاق رجاله وقد أورده الحافظ ابن حجر في «طبقات المدلسين» في الطبقة الرابعة رقم (91) وقال: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بالتدليس ابن حبان». اهـ.
ولذلك أسقط ابن إسحاق الرواة وبالتالي لم يتبين أنه حدث أم عنعن فاختفى التدليس تحت الإرسال، يتبين هذا الإرسال من معرفة طبقة ابن إسحاق حيث قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2/144): «محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق رمي بالتشيع والقدر من صغار الخامسة». اهـ.
قلت: والخامسة هي الطبقة الصغرى من التابعين الذين رأوا الواحد والاثنين ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كذا في مقدمة «التقريب» (1/5).
قلت: وبهذا يتبين أن ابن إسحاق من صغار الطبقة الصغرى من التابعين وعليه فمرسله من أضعف المراسيل وأن هذا الطريق يزيدها وهنًا على وهن.
سادسًا: قرائن تدل على عدم صحة القصة
1- إن أبا سفيان ما قدم المدينة إلا ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد في هدنة الحديبية وقام فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال اللَّه تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [لقمان: 15].
فهل من المعروف أن تمنع أم حبيبة أباها من الجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطوي الفراش وتنهر أباها وتقول لأبيها هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك ؟!
2- وفعل أم حبيبة (وهو طيها الفراش)، وقولها (أنت امرؤ نجس مشرك) يوهم من لا يعرف أن القصة واهية بأن النجاسة في المشرك نجاسة البدن، والصواب أن نجاسة المشركين معنوية.
قصة صحيحة تبين نكارة القصة:
أخرج البخاري في «صحيحه» (ح2620، 3183، 5978، 5979)، ومسلم في «صحيحه» (1003) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت عَليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: وهي راغبة أفأصل أمي ؟ قال: «نعم صلى أمك».
قلت: وهذا اللفظ للبخاري (ح2620) باب الهدنة للمشركين.
وبوَّب الإمام البخاري بابًا في كتاب «الأدب» سمَّاه باب «صلة الوالد المشرك» (ح5978).
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (5/277): قوله: «في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» في رواية حاتم: «في عهد قريش إذا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وأراد بذلك ما بين الحديبية والفتح. اهـ.
قلت: قول الحافظ: «في رواية حاتم» هو حاتم بن إسماعيل وهو الذي روى عنه شيخ البخاري قتيبة بن سعيد (ح3183).
مما سبق يتبين
1- أن قصة أم حبيبة وسب أبيها أبي سفيان قصة واهية منكرة.
2- وأن قصة أسماء بنت أبي بكر وصلتها لأمها المشركة اتباعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الصحة.
3- ومما يدل على نكارة متن قصة أم حبيبة أن مقدمات القصتين واحدة فلابد وأن تكون النتيجة واحدة في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه القصة الواهية المنكرة تجعل بيت النبي صلى الله عليه وسلم مخالفًا لهديه.
4- وبهذا يتبين للقارئ الكريم الأثر السيئ للقصص الواهية ومخالفتها للقرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة.
5- ومن الآثار السيئة لهذه القصة الواهية نسف الاستفادة دعويًا وتربويًا من القصة الصحيحة والتي فيها:
أ- جواز صلة القريب المشرك. كذا قال النووي في «شرح مسلم».
ب- وفيها موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة.
جـ- وفيها السفر في زيارة القريب.
د- وفيها تحري أسماء في أمر دينها وكيف لا وهي بنت الصديق وزوج الزبير رضي الله عنه.
هذا ما وفقني اللَّه إليه وهو وحده من وراء القصد.(/2)
قصة الصراع بين الإنسان والشيطان
بدأ هذا الصراع في الجنة حين رفض الشيطان أن يمتثل لأمر الله بالسجود لآدم، فطرده الله ولعنه، فأقسم بين يدي الله أن يضله وذريته ما قدر لى ذلك {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص:82].
ثم كانت الجولة الأولى في إضلال الأبوين، فنجح الشيطان في إغوائهما وإخراجهما من الجنة، {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [الأعراف:24].
ونزل آدم إلى الأرض ليواجه وذريته كيد الشيطان ودأبه على إضلال بني آدم، وقد تسلح الشيطان بأسلحته المختلفة، ومنها:
1- قدرته على التزيين والإغواء {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} [الحجر:39]. {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم} [النحل:63].
2- الكذب والمخادعة {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف:20-21]. {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} [النساء:120]. {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} [البقرة:268].
3- أن هذا العدو يرانا ولا نراه {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء الذين لا يؤمنون} [الأعراف:27]. وهو يجري منا مجرى الدم قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)) [البخاري ح2038، مسلم ح2175].
4- قدرته على الاطلاع على شيء من الغيب فيوحي به إلى أوليائه، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)) [البخاري ح3210، مسلم ح 2228]
ورغم هذا كله {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} [النساء:76]. وذلك عندما يلتجأ المسلم إلى ربه ويعتصم بإيمانه.
غاية الشيطان وأهدافه
وغاية الشيطان النهائية التي يريدها لكل بني البشر هي أن يصيروا إلى النار كما قال تعالى: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:6]. {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} [النساء:60].
فإن لم يصل الشيطان إلى غايته ولم يقدر على إكفار الناس فإنه لا ييأس بل يرضى ببعض أبواب الغواية والتقصير.
فعن سبرة بن أبي فاكه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة)) [النسائي ح2124، أحمد ح15528].
ويتساءل المرء عن نسبة نجاح الشيطان في أهدافه وضلاله، وتأتي الإجابة لتصيب المرء بالذعر، إذ نسبة الناجين لا تتعدى الواحد من الألف، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)) [البخاري ح3348].
صور من كيد الشيطان للإنسان
وتبدأ معركة الشيطان مع ابن آدم من حين ولادته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه)) ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} [مسلم ح2366، البخاري ح4548]
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان)) [مسلم 2367]. وقد شرع لنا نبينا من الذكر ما نقي به أولادنا من الشيطان وذلك قبل وجودهم، فعن ابن عباس يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره)) [البخاري ح7391، مسلم ح1434].
وخلال حياة الإنسان تستمر صور الكيد الشيطاني لهذا الإنسان في كثير من أحواله،فعن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)) [مسلم ح2033].
1- الصلاة:(/1)
عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) [البخاري ح751].
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا اذكر كذا -لما لم يكن يذكر - حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى)) [البخاري ح608، مسلم ح389].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) [الترمذي ح397].
عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)) [النسائي ح815، أبو داود ح667].
عن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني)) [مسلم ح2203، أحمد ح17440].
عن عبد الله بن عمر أنه رأى رجلا يحرك الحصى بيده وهو في الصلاة فلما انصرف قال له عبد الله: (لا تحرك الحصى وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قال: وكيف كان يصنع؟ قال فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام في القبلة ورمى ببصره إليها أو نحوها ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع) [النسائي ح1160].
2- ومن تخذيل الشيطان وتثبيطه ما يصيب الإنسان من كسل وتثاقل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان)) [البخاري ح3289].
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان)) [البخاري ح6223].
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، وإذا قال: آه آه ،فإن الشيطان يضحك من جوفه، وإن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا قال الرجل: آه آه إذا تثاءب، فإن الشيطان يضحك في جوفه)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.[الترمذي ح2746].
3- النوم ، ينام الإنسان فلا يسلم من تسلط الشيطان، فيتسلط عليه قبل النوم وأثناءه
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير ومن يعمل بهما قليل يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا ويحمده عشرا ويكبره عشرا قال فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده قال: فتلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمس مائة في الميزان، وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة فتلك مائة باللسان وألف في الميزان.
فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مائة سيئة؟ قالوا: فكيف لا يحصيها؟ قال يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته فيقول: اذكر كذا اذكر كذا حتى ينفتل، فلعله لا يفعل ، ويأتيه وهو في مضجعه فلا يزال ينومه حتى ينام)) [الترمذي 3410].
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما كان من النبوة فإنه لا يكذب)).
قال محمد (ابن سيرين): وأنا أقول هذه: قال وكان يقال الرؤيا ثلاث حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل. قال: وكان يكره الغل في النوم (المنام) وكان يعجبهم القيد ويقال: القيد (أي رؤيته في المنام) ثبات في الدين. [البخاري ح7017، مسلم ح2263].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) [البخاري ح1142، مسلم ح776].
عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليبصق عن يساره وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره)) [البخاري ح7005، مسلم ح2261].(/2)
عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرابي جاءه فقال إني حلمت أن رأسي قطع فأنا أتبعه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام)) [مسلم ح2268].
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا استيقظ- أراه أحدكم - من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه)) [البخاري ح3295، مسلم ح238]
ومما يفوت المسلم بسبب عقد الشيطان قيام الليل، فعن عبد الله رضي الله عنه قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال: ((بال الشيطان في أذنه)) [البخاري ح1144، مسلم ح774].
4- ومن الأحوال التي يكيد فيها الشيطان: الطعام والشراب:
عن جابر بن عبد الله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)) [مسلم ح2018].
عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة)).
5- ويصحب الشيطان بني آدم إلى أسواقهم:
عن سلمان قال: (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته) [مسلم ح2451].
عن قيس بن أبي غرزة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمى السماسرة فقال: ((يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة)) [الترمذي 1208، النسائي ح3797].
6- ويستمر الكيد الشيطاني للإنسان حتى اللحظات الأخيرة من حياتنا:
ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما يعيذنا منه فعن أبي اليسر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا)) [النسائي ح5531، أبو داود 1552].
عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اختر منهن أربعا)) فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فقال: (إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك أن لا تمكث إلا قليلا وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال) [أحمد ح4617].
المنجيات من كيد الشيطان
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يصرف عنا كيد الشيطان وشره، ومن ذلك:
1- الإخلاص: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر:39-40]. فأخبر الشيطان بنجاة المخلصين منه.
2- حسن العبودية لله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [البينة:5].
3- الاستعاذة بالله والاحتماء واللوذ بجنابه: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [الأعراف:200]. وقد شرعت الاستعاذة منه في مواطن،وإن كانت مشروعة في كل وقت، من هذه المواطن:
أ) عند الفزع فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع: ((كلمات أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)) وكان عبد الله بن عمر يعلمهن من عقل من بنيه ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه. [الترمذي ح3528، أبو داود ح3893].
ب) الخروج من البيت فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي)) [أبو داود ح5095، الترمذي ح3426].
ج) عند دخول المسجد فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال أقط؟ قلت: نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) [أبو داود ح461].
د) عند قراءة القرآن {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98].
و) عند دخول الخلاء فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) [البخاري ح142، مسلم ح375].(/3)
ز) عند الغضب فعن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد)) فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوذ بالله من الشيطان)) فقال وهل بي جنون. [البخاري ح3282].
ح) عند سماع نهيق الحمار فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً)) [البخاري ح3303، مسلم ح2729].
ط) في الصلاة فعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال عمرو لا أدري أي صلاة هي فقال: ((الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً والحمد لله كثيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً – ثلاثاً - أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه. قال: نفثه الشعر، ونفخه: الكبر وهمزه: الموتة)) [الترمذي ح242، أبو داود ح775].
4- قراءة القرآن فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .[الترمذي ح 2877، مسلم ح780].
عن ابن مسعود قال: (من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتان بعد آية الكرسي وثلاثا من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق) [الدارمي ح3383]
5- ذكر الله عز وجل فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) [البخاري ح3293، مسلم ح2691].
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا)) [البخاري ح3280، مسلم ح2010].
6– الوضوء فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) [البخاري ح1142،مسلم ح776].
7- لزوم الجماعة فعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء أين مسكنك قلت في قرية دوين حمص فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية)) قال السائب يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة. [النسائي ح847، أبو داود ح547].
عن معاذ بن جبل أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد)) [أحمد ح21524].
قال أبو ثعلبة الخشني قال كان الناس إذا نزلوا منزلا قال عمرو: كان الناس إذا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)) فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم. [أبو داود ح2628، أحمد ح17282].
عن ابن عمر قال خطبنا عمر بالجابية فقال: (يا أيها الناس . . . عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) [الترمذي ح2165، أحمد115].
أدوات الشيطان في إضلال بني آدم
للشيطان رسل وأدوات يعينونه على ابن آدم منها:
1- الغضب: عن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد)) فقالوا له إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوذ بالله من الشيطان)) فقال وهل بي جنون. [البخاري ح3282].
عن عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) [أبو داود ح1784، أحمد ح17524].(/4)
والغضب وسيلة للتحريش بين الناس والتفريق بينهم وهو غاية للشيطان قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:90-91]. {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً} [الإسراء:53]. ومن نزغه ما صنع بإخوة يوسف {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف:100].
عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش )) [مسلم ح2812].
ومن ذلك أيضاً التحريش بين الزوجين وإفساد قلبيهما، فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت)) قال الأعمش أراه قال: فيلتزمه. [مسلم ح2813].
2- فتنة النساء: عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب. [الترمذي ح1172]. قال أبو الطيب في قوله: ((استشرفها)) أي زينها في نظر الرجال. [تحفة الأحوذي 4/283].
عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه)) [مسلم 1403]. قال النووي: "قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء" [شرح صحيح مسلم 9/188].
خطب عمر الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: ((أحسنوا إلى أصحابي . . . .ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان)) [الترمذي ح2165، أحمد ح178].
قال سعيد بن المسيب: ما آيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء.
3- الغناء: قال تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورَجلك} [الإسراء:64]. قال مجاهد هو الغناء والمزامير. [تلبيس إبليس ص232].
عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: ((دعهما. . .)) [البخاري ح950]. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الغناء بمزمار الشيطان ولكنه أذن فيه لأن ذلك اليوم يوم عيد.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الجرس مزامير الشيطان)) [مسلم ح2114].
4- العجلة وما تؤدي إليه من أخطاء ومعاصي: وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأناة من الله والعجلة من الشيطان)) [الترمذي ح2012].
5- النسيان: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله} [المجادلة:19]. {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام:68]. {فأنساه الشيطان ذكر ربه} [يوسف:42].
6- الوسوسة وإلقاء الشبهات على القلب: عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال: ((الله أكبر الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)) قال ابن قدامة رد أمره مكان رد كيده. [أبو داود ح5112].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)) [البخاري ح3276، مسلم ح134] .
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ثم قرأ: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} الآية. [الترمذي 2988]. قال أبو الطيب: لمة الشيطان الوسوسة.. ما يقع في القلب بواسطة الشيطان. [تحفة الأحوذي 8/265].
{قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس} [الناس:1-4].
7- التدرج في الإغواء واتباع طريقة الخطوات {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور:21].(/5)
ومن ذلك تدرجه في إضلال قوم نوح فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد أما ود كانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع كانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبإ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت) [البخاري ح 4920].
ومن ذلك استدراجه لعابد من بني إسرائيل حتى أوقعه في الزنا ثم الكفر ثم تخلى عنه، والقصة رواها الحاكم وعامة المفسرين في تفسير قوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} [ الحشر:16].
وهذا الاستدراج حذر النبي من أمته فعن مطرف قال: قال أبي انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال: ((السيد الله تبارك وتعالى قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)) [أبو داود 4806، أحمد 13117].
كتبه
د. منقذ بن محمود السقار
mongiz@maktoob.com(/6)
قصة اللجوء إلي الغار عند الشدائد
إعداد : علي حشيش
الحلقة الرابعة والخمسون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة لكيلا تكون هذه القصة سببًا في شد الرحال إلى الغار وهذه القصة تضاف إلى سلسلة القصص الواهية حول الهجرة والغار والتي سبق تقديم البحوث العلمية الحديثية حولها:
1- قصة "ثعبان الغار" عدد جمادى الأولى 1421ه رقم (1).
2- قصة "عنكبوت الغار والحمامتين" عدد المحرم 1422ه رقم (6).
3- قصة "غناء بنات النجار" عدد المحرم 1423ه رقم (18).
4- قصة "لطم أبي جهل لأسماء بنت أبي بكر في الهجرة" عدد المحرم 1424ه رقم (30).
5- قصة أبي طالب في الهجرة ووصيته للنبي صلى الله عليه وسلم عدد المحرم 1425ه رقم (42).
وإلى القارئ الكريم هذه القصة الواهية قصة "اللجوء إلى الغار عند الشدائد".
أولاً: المتن
القصة تحكي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لابنه: "يا بني إن حدث في الناس حدث، فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية".
وهذه القصة يذكرها القصاص والوعاظ بإسهاب وهي تدور حول هذا المتن.
ثانيًا: التخريج
الخبر الذي جاءت به هذه القصة أخرجه البزار (ح1178) كذا في "كشف الأستار" (2-49)، وابن عدي في "الكامل" (6-338) (196-1817) من طريق: خلف بن تميم، عن موسى بن مطير، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بكر الصديق به.
ثالثًا: التحقيق
هذا الخبر الذي جاءت به هذه القصة باطل والقصة واهية.
1- فالخبر غريب حيث قال البزار: "لا نعلم رواه إلا خلف".
2- علة هذا الخبر موسى بن مطير.
أ- أخرج العقيلي في "الضعفاء الكبير" (4-163-1734) عن يحيى بن معين قال: "موسى بن مطير كذاب".
ب- أورده النسائي في "الضعفاء والمتروكين" برقم (555) وقال: "موسى بن مطير: منكر الحديث".
ح- أورده الدارقطني في "الضعفاء والمتروكين" برقم (513) وقال: "موسى بن مطير، كوفي عن أبيه... ومطير أبوه لا يعرف إلا به".
قلت: وقد يتوهم من لا دراية له بعلم الجرح والتعديل أن الدارقطني سكت عنه ولا يدرى أنه بمجرد ذكر اسم موسى بن مطير في كتاب "الضعفاء والمتروكين" للدارقطني يجعل موسى بن مطير من المتروكين، حيث قال البرقاني: طالت محاورتي مع ابن حمكان للدارقطني عفا الله عني وعنهما في المتروكين من أصحاب الحديث فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات. كذا في مقدمة الضعفاء والمتروكين للدارقطني.
د- أورده الإمام ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" (8-162-717) وقال: "موسى بن مطير روى عن أبيه عن أبي هريرة روى عنه خلف بن تميم، سألت أبي عن موسى بن مطير فقال: متروك الحديث ذاهب الحديث".
ه- وأورده ابن حبان في "المجروحين" (2-242) وقال: "موسى بن مطير كان صاحب عجائب ومناكير لا يشك المستمع لها أنها موضوعة إذْ كان هذا الشأن صناعته".
قلت: لذلك أورد هذه القصة الإمام الذهبي في "الميزان" (4-223-8928) وجعلها من مناكير موسى بن مطير.
ووافقه الحافظ ابن حجر في "اللسان" (6-154) (1903-8688). ونقل عن أحمد أن الناس تركوا حديثه.
ونقل عن أبي نعيم: أن موسى بن مطير روى عن أبيه عن أبي هريرة أحاديث منكرة.
علة أخرى
3- وعلة أخرى: مطير بن أبي خالد.
أورده الإمام ابن أبي حاتم في كتابه: "الجرح والتعديل" (8-394-1805) وقال: "مطير بن أبي خالد روى عن أبي هريرة، وروى عنه ابنه موسى بن مطير، سألت أبي عنه فقال: متروك الحديث".
وأقره الذهبي في "الميزان" (4-129-8597).
وبهذا التحقيق تكون القصة باطلة واهية لما بها من كذابين ومتروكين، فموسى بن مطير كذاب وأبوه متروك.
رابعًا: الأثر السيئ للقصص الواهية على العقيدة
فاللجوء إلى الغار عند الشدائد وأن الأرزاق تأتي لمن لجأ إليه غدوة وعشيًا لم يفعله أحدٌ من الصحابة ولا التابعين، ومثل هذه القصص الواهية لها أثرها السيئ في شدِّ الرحال إلى هذه الأماكن والتعلق بها، ولقد حذَّر السلف الصالح من هذا، فقد أخرج الإمام أحمد في "المسند" (7-6) (ح23901) قال: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن عبد الملك، عن عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنه قال: لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاءٍ من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور صليت فيه، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، والحديث أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح.
خامسًا: اللجوء إلى الدعاء عند الكرب(/1)
فقد أخرج البخاري (ح6346) في كتاب الدعوات باب "الدعاء عند الكرب"، ومسلم (ح2730) كتاب الذكر والدعاء- "باب استحباب الدعاء" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض ورب العرش الكريم".
سادسًا: اليقين والتوكل عند الشدائد
فقد أخرج البخاري (ح4563) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حَسْبُنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
سابعًا: الأرزاق لا تأتي غدوة وعشية
باللجوء إلى الغار
الأرزاق تأتي بالأخذ بالأسباب، لأن محو الأسباب نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، لأن الشرع أمر بالأخذ بالأسباب في قوله تعالى: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور {الملك: 15}.
وفي أثناء الأخذ بالأسباب نتذكر أن خالق هذه الأسباب هو الله كما في قوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض {الأعراف: 96}.
وهذا ما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (8-169).
حيث قال: "ومما ينبغي أن يعلم: ما قاله طائفة من العلماء. قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع".
وقد أخرج الترمذي في "السنن" (ح2344) في كتاب الزهد، باب التوكل على الله، وابن ماجه (ح4164) في كتاب الزهد باب التوكل واليقين، وابن حبان (ح548- موارد )، والحاكم (4-318)، وأحمد في "المسند" (1-52) من حديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا". وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
وفي الحديث: التوكل على الله حق توكله، ومن حقوق التوكل الأخذ بالأسباب، ومن حق التوكل عدم الالتفات إلى الأسباب؛ لأن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا؛ لأنه ليس مستقلا ولا بد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله فإن لم يسخره مُسَبِّب الأسباب لم يسخر.
فليحذر القارئ الكريم من القصص الواهية التي تهدم التوحيد حتى قال قائلهم: "عند الشدائد عليك باللجوء إلى مقابر الصالحين فهناك تتنزل الرحمات والبركات"، واتخذوا من القصص الواهية ما بنوا عليه باطلهم: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها {محمد: 24}، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون {النمل: 62}.
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.(/2)
قصة بكاء النبي صلى الله عليه وسلم من مشاهد تعذيب النساء ليلة الإسراء والمعراج
إعداد/ علي حشيش
الحلقة الثانية والسبعون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية
الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة
الوعاظ والقصاص خاصة عند ذكر حدث الإسراء والمعراج، ومما زاد في انتشارها طبعها
وتوزيعها على الناس.
وإلى القارئ الكريم تحقيق هذه القصة الواهية:
رُوِيَ عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا
وفاطمة رضي اللَّه عنها، فوجدناه يبكي بكاءً شديدًا، فقلت له: فداك أبي وأمي يا
رسول اللَّه، ما الذي أباك ؟ قال: «يا علي، ليلة أسري بي إلى السماء رأيت نساءً
من أمتي يعذبن بأنواع العذاب، فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن، ورأيت امرأة معلقة
بشعرها يغلي دماغها، ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها، ورأيت
امرأة قد شدت رجلاها إلى ثدييها ويداها إلى ناصيتها، ورأيت امرأة معلقة بثديها،
ورأيت امرأة رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار عليها ألف ألف لون من العذاب،
ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل من فِيها وتخرج من دبرها والملائكة
يضربون رأسها بمقامع من نار».
فقامت فاطمة رضي اللَّه عنها وقالت: حبيبي وقرة
عيني ما كان أعمال هؤلاء حتى وضع عليهن العذاب ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «يا
بنية، أما المعلقة بشعرها (يغلي دماغها) فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال،
وأما التي معلقة بلسانها (والحميم يصب في حلقها) فإنها كانت تؤذي زوجها، وأما
المعلقة بثدييها فإنها كانت تفسد فراش زوجها، وأما التي تشد رجلاها إلى ثدييها
ويداها إلى ناصيتها وقد سلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت لا تنظف بدنها من
الجنابة والحيض وتستهزئ بالصلاة، وأما التي رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار
(وعليها ألف ألف لون من العذاب) فإنها كانت نمامة كذابة، وأما التي على صورة
الكلب والنار تدخل من فِيها وتخرج من دبرها فإنها كانت منانة حسادة، ويا بنية
الويل لامرأة تعصي زوجها».
أولا: التخريج والتحقيق
هذه القصة لا أصل لها،
أوردها الذهبي في «الكبائر» (ص193) في «نشوز المرأة على زوجها».
وهي قصة موضوعة
كما نبه على ذلك الإمام ابن القيم في «المنار المنيف» في التنبيه رقم
(12).
ثانيًا: شاهد واهٍ جدًا للقصة
هناك شاهد لتعليق النساء بدثيهن مع مشاهد
أخرى في قصة المعراج رُوِيَ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال له أصحابه: يا رسول اللَّه، أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها ؟ قال: دخلت
أنا وجبريل عليه السلام بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين ثم أتيت بالمعراج.
قال: فصعدت أنا وجبريل فإذا أنا بملك يقال له: إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا
وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك، قال: وقال اللَّه عز
وجل: وما يعلم جنود ربك إلا هو[المدثر: 31].
فاستفتح
جبريل باب السماء، قيل: من هذا ؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل:
وقد بُعِثَ إليه ؟ قال: نعم، فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه اللَّه على صورته
تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين،
ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين،
ثم مضت هنيّة فإذا أنا بأخونةٍ يعني الخوان المائدة التي يؤكل عليها لحم
مُشرَّح ليس يقريها أحد وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح ونت، عندها
أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل، من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال
ويأتون الحرام، قال: ثم مضت هنية فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض
أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، قال: فتجئ
السابلة فتطؤهم، قال: فسمعتهم يضجون إلى اللَّه سبحانه.
قلت: يا جبريل، مَن
هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس، قال: ثم مضت هنية، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر
الإبل، قال: فتفتح على أفواههم ويلقون ذلك الحجر؛ ثم يخرج من أسافلهم، فسمعتهم
يضجون إلى اللَّه عز وجل، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك
يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، قال:
ثم مضت هنية فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن فسمعتهن يصحن إلى اللَّه عز وجل، قلت:
يا جبريل، مَن هؤلاء النساء؟ قال: هؤلاء الزناة من أمتك، قال: ثم مضيت هنية
فإذا أنا بأقوام تقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون فيقال له: كل كما كنت تأكل من
لحم أخيك. قلت: يا جبريل مَن هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون».
اهـ.
ثالثًا: التحقيق
هذه القصة أخرجها البيهقي في «الدلائل» (2/390) قال:
أنبأنا أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد(/1)
بن يعقوب قال: حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب، قال: أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء
قال: أنبأنا أبو محمد بن أسد الحماني عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه، فذكر حديث قصة شاهد
المعراج.
وأخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (8/13) (ح22023) قال: حدثنا محمد
بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر، عن أبي هارون العبدي عن أبي
سعيد الخدري به.
وقال ابن جرير: حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق
قال: حدثنا معمر قال: أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري به.
وهذه
القصة واهية والحديث الذي جاءت به موضوع وعلته: أبو هارون العبدي وهو عُمارة بن
جُوين.
أورده الإمام الذهبي في «الميزان» (3/173) (ح6018) وقال:
1- كذبه حماد
بن زيد.
2- وقال شعبة: لأَنْ أُقَدَّم فَتُضْرب عنقي أحب إلي من أن أحدث عن أبي
هارون.
3- وقال أحمد: ليس بشيء.
قلت: وقال الإمام النسائي في «الضعفاء
والمتروكين» ترجمة (476): «عُمارة بن جوين أبو هارون العبدي، متروك الحديث،
بصري».
قلت: وهذا المصطلح عند الإمام النسائي له معناه الذي بينه الحافظ ابن
حجر في «شرح النخبة» (ص69) حيث قال: «مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى
يجتمع الجميع على تركه». اهـ.
قال الإمام ابن حبان في «المجروحين» (2/177):
«عمارة بن جوين أبو هارون العبدي كان رافضيًا، يروي عن أبي سعيد ما ليس من
حديثه لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب». اهـ.
وقال الذهبي: قال
السُّليماني: سمعت أبا بكر بن حامد يقول: سمعت صالح بن محمد أبا علي وسئل عن
أبي هارون العبدي، فقال: أكذب من فرعون». اهـ.
بهذا التحقيق يتبين أن هذه القصة
واهية، وقصة المشاهد باطلة.
رابعًا: شاهد آخر واهٍ جدًا للقصة
رُوِي عن راشد بن
سعيد المقرائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت برجال
تقرض جلودهم بمقاريض من نار، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل ؟ قال: الذين يتزينون
للزينة».
قال: ثم مررت بجب منتن الريح، فسمعت فيه أصواتًا شديدة، فقلت: من
هؤلاء يا جبريل ؟ قال: نساء كن يتزين للزينة، ويفعلن ما لا يحل لهن.
ثم مررت
على نساء ورجال معلقين بثديهن فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل ؟ فقال: هؤلاء اللمازون
والهمازون وذلك قوله عز وجل: ويل لكل همزة لمزة <<.
خامسا:
التخريج
أخرج هذه القصة البيهقي في «شعب الإيمان» (5/309) (ح6750) قال: أخبرنا
أبو عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب
حدثنا أبو عتبة حدثنا بقية حدثنا سعيد بن سنان عن سعد بن خالد عن عمه راشد بن
سعد المقرائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر قصة المعراج
والمشاهد.
سادسا : التحقيق
قصة هذه المشاهد في حديث راشد بن سعد المقرائي
الحمصي قصة واهية، وعلتها سعيد بن سنان أبو مهدي الحمصي.
1- قال الإمام النسائي
في «الضعفاء والمتروكين» ترجمة (268): «سعيد بن سنان أبو المهدي الحمصي، متروك
الحديث». اهـ.
2- وقال الإمام البخاري في كتابه «الضعفاء الصغير» ترجمة (135):
«سعيد بن سنان أبو مهدي الكندي الحنفي الحمصي: منكر الحديث». اهـ.
قلت: وهذا
المصطلح عند الإمام البخاري له معناه حيث قال السيوطي في «تدريب الراوي»
(1/349): «البخاري يطلق فيه نظر وسكتوا عنه فيمن تركوا حديثه، ويطلق منكر
الحديث على من لا تحل الرواية عنه». اهـ.
3- وأورده الإمام الذهبي في «الميزان»
(2/143/3208) وقال: ضعفه أحمد، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال
الجوزجاني: أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة». اهـ.
قلت: بهذا يتبين أن قصة المشاهد
التي جاءت من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ومن حديث
راشد بن سعد المقرائي التابعي قصة واهية لما فيها من كذابين
ومتروكين.
سابعا:
1- هناك قصة المعراج الصحيحة كما في حديث مالك بن صعصعة رضي
الله عنه وهو حديث متفق عليه؛ أخرجه الإمام البخاري في كتاب بدء الخلق (59)
باب (6) ذكر الملائكة، والإمام مسلم في كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.
2- وكذلك حديث أبي ذر
وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلاة في
الإسراء، وأخرجه مسلم أيضا في كتاب الإيمان.
3- وكذلك حديث ابن عباس رضي
الله عنهما المتفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب إذا قال
أحدكم آمين والملائكة في السماء، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان.
4- وكذلك حديث
أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب
قول الله تعالى: وهل أتاك حديث موسى <<، وأخرجه مسلم أيضا في كتاب
الإيمان.
5- إلى غيرها مما انفرد به البخاري وانفرد به مسلم وصح عند
غيرهما.
هذا ما وفقني الله إليه، وهو وحده من وراء
القصد.(/2)
قصة تحكيم إبليس في دار الندوة
إعداد/ علي حشيش
الحلقة السادسة والستون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت وانتشرت في كتب السيرة وعلى ألسنة القصاص والوعاظ في الهجرة.
وإلى القارئ الكريم هذه القصة الواهية قصة «تحكيم إبليس في دار الندوة».
أولاً: متن القصة
رُوِيَ عن ابن عباس قال: «لما عرفت قريش أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارًا أصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها فيتشاورون فيها ما يصنعون من أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين خافوه، فلما اجتمعوا لذلك، في ذلك اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، اعترض لهم إبليس في هيئة رجل شيخ جليل عليه بت- يعني كساء غليظ من صوف أو وبر- فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجدٍ، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة: من بني عبد شمس: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل، ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة، ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام، ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن كان معهم، وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيًا، قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرًا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
1 ـ فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره فتشاوروا عليه.
ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا.
2 ـ قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لئن فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه أمرًا غير هذا.
قال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابًا فتى جلدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا عليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه- يعني الدية، وهي المال الذي يُعطى لولي القتيل- فعقلناه لهم.
3 ـ قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي، لا أرى غيره.
فتفرق القوم على هذا وهم مجمعون له». اهـ.
قلت: يتبين من متن القصة أن إبليس تولى التحكيم في دار الندوة، ولم ينازعه أحد من أشراف قريش، وقد كانوا من كل قبائلها، وكان في هيئة رجل شيخ جليل من أهل نجد عليه كساء غليظ من الصوف.
ثانيًا: التخريج
الحديث الذي جاءت به هذه القصة أخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» (ص63- 64)، والطبري في «تفسيره» (6/251، 252 ح: 15979)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/466- 468)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (5/1686) (ح1994)، وابن سعد في «الطبقات» (1/109).
ثالثًا: التحقيق
القصة واهية، وأسانيدها لا تصح، تزداد بها وهنًا على وهن.
1 ـ قال ابن سعد في «الطبقات»: أخبرنا محمد بن عمر.
أ- قال: حدثني معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة.
ب- قال: وحدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين بن أبي غطفان عن ابن عباس.
جـ- قال: وحدثني قدامة ابن موسى عن عائشة بنت قدامة.
د- قال: وحدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي.
هـ- قال: وحدثني معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جُعْشم عن سراقة بن جعشم.(/1)
قلت: بهذا يتبين أن ابن سعد أخرج القصة في طبقاته عن: عائشة، وابن عباس وعائشة بنت قدامة، وعلي، وسراقه بن جعشم، ولكن من رواية محمد بن عمر وهو الواقدي.
قال الإمام ابن حبان في «المجروحين» (2/290): محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي المدني، كان ممن يحفظ أيام الناس وسيرهم، وكان يروي عن الثقات المقلوبات وعن الأثبات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك، كان أحمد بن حنبل يكذبه.
ثم قال: سمعت محمد بن المنذر، سمعت عباس بن محمد: سمعت يحيى بن معين يقول: الواقدي ليس بشيء.
ثم قال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن: سمعت أبا غالب بن بنت معاوية بن عمرو: سمعت علي بن المديني يقول: الواقدي يضع الحديث. اهـ.
قلت: وأورده الإمام البخاري في «الضعفاء الصغير» ترجمة (334) وقال: «محمد بن عمر الواقدي متروك الحديث». اهـ.
وأورده الإمام النسائي في «الضعفاء والمتروكين» ترجمة (531) وقال: «محمد بن عمر الواقدي، متروك الحديث».
قلت: وهذا المصطلح عند النسائي له معناه حيث قال الحافظ ابن حجر في «شرح النخبة» باب (68) مراتب الجرح: «كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه».
2 ـ قال أبو نعيم في «دلائل النبوة»: حدثنا حبيب بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن يحيى المروزي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عمن لا يتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد أبي الحجاج عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وحدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال: حدثنا الفضل بن غانم، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر المكي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال: وحدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قلت: بهذا يتبين أن أبا نعيم أخرج القصة في «دلائل النبوة» من ثلاثة طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الطريق الأول فيه علتان:
الأولى: تدليس محمد بن إسحاق.
فقد أورده الحافظ ابن حجر في «طبقات المدلسين» في الطبقة الرابعة رقم (9) وقال: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم، وصفه بالتدليس ابن حبان». اهـ.
قلت: حكم رواية أصحاب هذه الطبقة: قال الحافظ ابن حجر في مقدمة كتاب «طبقات المدلسين»: «الرابعة: من اتفق على أنه لا يُحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل».
قلت: وابن إسحاق في هذا الطريق عنعن ولم يصرح بالسماع.
الثانية: جهالة شيخ ابن إسحاق
يتبين ذلك من السند: «عن محمد بن إسحاق عن من لا يتهم من أصحابنا»، وهذا النوع من أنواع المجهول يسمى «المبهم» وهو من لم يصرح باسمه «ومبهم ما فيه راوٍ لم يُسم»، ومن أبهم اسمه، جهلت عينه وجهلت عدالته من باب أولى، فلا تقبل روايته.
وكما بينا آنفًا من أقوال أئمة الجرح والتعديل: أن ابن إسحاق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم.
قلت: ولذلك نقل الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (9/36) عن يعقوب بن شيبة قال: سمعت ابن نمير يقول: «إنما أُتِيَ- يعني ابن إسحاق- من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة». اهـ.
قلت: وهذه القصة منها حيث حَدَّثَ فيها عن مجهولين فهي باطلة كما بينا آنفًا.
الطريق الثاني: وفيه علتان أيضًا:
العلة الأولى: سلمة بن الفضل:
أ- قال الإمام البخاري في كتاب «الضعفاء الصغير» رقم (149): «سلمة بن الفضل بن الأبرش سمع ابن إسحاق، عنده مناكير وفيه نظر». اهـ.
قلت: وهذا المصطلح عند البخاري له معناه، يظهر هذا من قول السيوطي في «تدريب الراوي» (1/349): «البخاري يطلق: فيه نظر، وسكتوا عنه فيمن تركوا حديثه، ويطلق منكر الحديث على من لا تحل الرواية عنه».
قلت: وبهذا يتبين أن سلمة بن الفضل متروك الحديث فلا يصلح حديثه للاحتجاج ولا المتابعات ولا الشواهد.
ب- قال الإمام النسائي في «الضعفاء والمتروكين» رقم (241): «سلمة بن الفضل بن الأبرش: أبو عبد الله ضعيف، يروي عن ابن إسحاق المغازي».
جـ- أورده الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (4/135) وقال: «سلمة بن الفضل بن الأبرش الأنصاري مولاهم أبو عبد الله الأزرق، قال البخاري: عنده مناكير وهَّنه علي بن المديني قال علي: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديثه، قال البرذعي عن أبي زرعة: كان أهل الري لا يرغبون فيه لمعان فيه من سوء رأيه وظلم فيه، وأما إبراهيم بن موسى فسمعته غير مرة وأشار أبو زرعة إلى لسانه يريد الكذب». اهـ.
قلت: ولذلك أشار الحافظ ابن حجر إلى سوء حفظه في «التقريب» (1/318): فقال: «كثير الخطأ». اهـ.
قلت: لذلك قال الحافظ العراقي في «فتح المغيث» (ص7): «من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك وإن كان عدلاً».(/2)
فانظر إلى الترابط الشديد بين قول الإمام البخاري: «فيه نظر» ومعناه وبين قول الحافظ العراقي وتلميذه ابن حجر.
العلة الثانية: الفضل بن غانم: أورده الإمام الذهبي في «الميزان» (3/357) وقال: «الفضل بن غانم الخزاعي قال يحيى: ليس بشيء، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال الخطيب: ضعيف».
قلت: ومصطلح «ليس بشيء» يقوله يحيى بن معين في الكذابين والمتروكين، كذلك في أهل الغفلة والاضطراب الذين يُرد حديثهم، وفي المبتدعة والمقلين. كذا في «التهذيب» (1/509).
الطريق الثالث: وفيه أيضًا علتان:
العلة الأولى: الكلبي: أورده الإمام الذهبي في «الميزان» ترجمة (7574) وقال: «محمد بن السائب الكلبي، أبو النضر الكوفي المفسر النَّسَّابَة الأخباري، قال ابن معين: «الكلبي ليس بثقة»، وقال الجوزجاني وغيره: كذاب. وقال الدارقطني وجماعة: متروك».
قال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» ترجمة (514): «أبو النضر الكلبي: متروك الحديث». وقال البخاري في «الضعفاء الصغير» ترجمة (322): «أبو النضر الكلبي تركه يحيى بن سعيد».
العلة الثانية: أبو صالح.
قال الإمام ابن حبان في «المجروحين» (2/255): «محمد بن السائب الكلبي يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس ولا سمع منه شيئًا، ولا سمع الكلبي من أبي صالح، لا يحل ذكره في الكتب فكيف الاحتجاج به؟». اهـ.
قلت: بهذا يتبين أن الطرق الثلاثة التي أخرجها أبو نعيم تزيد القصة وهنًا على وهن لما فيها من كذابين ومتروكين ومجهولين ومدلسين.
3 ـ ابن جرير الطبري في «التاريخ» (1/566) أخرج القصة من ثلاثة طرق:
الأول: نفس طريق سلمة بن الفضل بن الأبرش الذي أخرجه أبو نعيم وبينا أنه طريق تالف.
والثاني: من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
قلت: ولقد بينا آنفًا أن هذا الطريق أوهى من سابقه.
والثالث: من طريق سلمة عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس.
قلت: وهذا الطريق تالف فيه سلمة بن الفضل وهو متروك كما بينا آنفًا، والحكم بن عتيبة مدلس كما في «التقريب» (1/192) وقد عنعن.
4 ـ وأخرج القصة ابن جريج الطبري في «التفسير» (6/251- 252 ح15979) من طريقين:
الأول: هو نفس الطريق الأول الذي أخرجه أبو نعيم والذي بينا ضعفه آنفًا.
الثاني: من طريق الكلبي عن باذام مولى أم هانئ عن ابن عباس.
قلت: وباذام مولى أم هانئ هو أبو صالح كما في «التقريب» (1/93).
وهذا هو الطريق الثالث الذي أخرجه أبو نعيم وهو طريق تالف كما بينا آنفًا.
ملحوظة: وقع تصحيف في السند في تفسير ابن جرير حيث جاء اسم أبي صالح (زاذان مولى أم هانئ)، ويجب أن يصحح إلى (باذام مولى أم هانئ) كما في «التقريب» (1/93) وقال الحافظ ابن حجر: «ضعيف مدلس»، وقد عنعن فيزداد الطريق ضعفًا على ضعفه.
5 ـ وأخرج القصة ابن أبي حاتم في «التفسير» (5/1686) (ح1994) من نفس الطريق الواهي الذي أخرجه أبو نعيم من طريق ابن إسحاق من حديث مجاهد عن ابن عباس ويظهر فيه التدليس والاضطراب.
6 ـ وأخرجه البيهقي في «الدلائل» عن محمد بن إسحاق من نفس الطرق التي بينا ضعفها من مدلسين ومجهولين وكذابين ومتروكين.
بدائل صحيحة:
ولقد بين الإمام البخاري الصحيح في هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذكر قصة الهجرة في أكثر من أربعين سطرًا في الحديث رقم (3905) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي الحديث رقم (3906) من حديث سراقة بن جعشم.
وبوَّب الإمام البخاري بابًا بعنوان «هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة الباب رقم (45) من كتاب «مناقب الأنصار»، وفي هذه القصص الصحيحة الغنى عن هذه القصص الواهية.
هذا ما وفقني الله إليه، وهو وحده من وراء القصد.(/3)
قصة خاتم سليمان عليه السلام
إعداد/ علي حشيش
الحلقة السابعة والستون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه
القصة التي اشتهرت وانتشرت في معظم التفاسير المشهورة وتناقلها القصاص والوعاظ،
وهي من الإسرائيليات الموضوعة التي تطعن في الأنبياء، أمّا ما تطرق من
الإسرائيليات إلى التفسير والحديث، فقد وقف علماء المسلمين ومحدثوهم أمام هذا
الخطر موقف حزم وعزم وتصدوا لهذه المفتريات، فبينوا زيفها وبطلانها، وإلى
القارئ الكريم بيان قصة «خاتم سليمان عليه السلام».
أولاً: المتن: يُرْوَى عن
ابن عباس قال: «كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال
لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه، قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل
الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا. قال: وكان سليمان بن
داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه،
فلما أراد اللَّه أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه،
فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت
له الشياطين والجن والإنس، قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت كذبت،
لست بسليمان، قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت
في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها
فقرأها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال: فبرئ
الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل جل ثناؤه:
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان يعني الذي
كتب الشياطين من السحر والكفر: وما كفر سليمان ولكن
الشياطين كفروا [البقرة: 102]». اهـ.
قلت: ولقد وضع الوضاعون قصة
أخرى باطلة ترتبط بهذه القصة تبين ما كتبته الشياطين.
فقد رُوِي عن شهر بن حوشب
قال: «لما سُلِب سليمان ملكه، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت:
«من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل
كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا». فكتبته وجعلت عنوانه: «هذا ما كتب
آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم». ثم دفنته تحت كرسيه
فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبًا فقال: يا أيها الناس، إنَّ سليمان لم يكن
نبيًا، وإنما كان ساحرًا فالتمسوا سحره في متاعه وبيته، ثم دلَّهم على المكان
الذي دفن فيه، فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرًا، هذا سحره، بهذا تعبَّدنا،
وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا، فلما بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ،
جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط
الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرًا يركب الريح، فأنزل
اللَّه تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك
سليمان وما كفر سليمان [البقرة: 102]». اهـ.
ثانيًا: «التخريج»
القصة أخرجها ابن جرير في «تفسيره» (1/657) الخبر (1663) عن ابن
عباس، والقصة الأخرى المرتبطة أخرجها أيضًا ابن جرير في «تفسيره» (1/659) الخبر
(1669) عن شهر بن حوشب وأورد القصة الثعلبي في «قصص الأنبياء» (ص354) وفيها
بيان لأحد نساء سليمان وهي الجرادة بنت الملك صيدون، تلك القصة التي وضعها
الوضاعون وجعلوا هذه المرأة سببًا في سلب ملك داود، حيث قال الثعلبي: روى محمد
بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان أخبر أن في جزيرة من جزائر البحر رجلاً يقال
له: صيدون ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان اللَّه
قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، فخرج إلى تلك
المدينة فحملته الريح على ظهرها حتى نزل عليها بجنوده من الجن والإنس فقتل
ملكها وسبى ما فيها، فأصاب فيما أصاب بنتًا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير
مثلها حسنًا وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها للإسلام فأسلمت على يديه في الظاهر
خيفة منه وقلة ثقة، فأحبها حبًا شديدًا لم يحبه أحدًا من نسائه وكانت منزلتها
عنده منزلة عظيمة، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق
ذلك على سليمان فقال لها: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا
يرقأ، فقالت: إني أذكر أبي وأذكر ملكه وسلطانه وما كان فيه يحزنني ذلك، فقال
لها سليمان: قد أبدلك اللَّه ملكًا هو أعظم من سلطانه، قالت: إن ذلك حق ولكني
إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين يصورون لي صورته في
داري التي أنا فيها أراه بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني ويسليني عن بعض ما
أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين أن يمثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا
تنكر منه شيئًا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه، فعمدت(/1)
إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم
أنها كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو، إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن له
معها كما كانت تصنع معه في ملكه».
ثالثًا: التحقيق:
أ- القصة واهية ومنكرة ولا
أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هي من الأخبار المقطوعة والموقوفة المنكرة، وهي من
الأخبار التي أوردها ابن جرير رحمه اللَّه، وقد أسندها، ومن التخريج يتبين أن
جميع طرق القصة لم يوجد بها «الخبر الصحيح المسند».
ب- والأخبار المقطوعة
والموقوفة التي جاءت بها القصة واهية منكرة، وإلى القارئ الكريم تحقيقها:
1- قال ابن جرير: حدثني أبو السائب السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:
«كان الذي أصاب سليمان بن داود
في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة...» القصة.
قلت: وهذا الخبر لم يصرح
فيه الأعمش بالسماع ولكنه عنعن: يعني (قال: عن المنهال).
قال ابن المديني:
الأعمش كان كثير الوهم في أحاديث هؤلاء الضعفاء.
قال الجوزجاني: قال وهب بن
زَمْعة المروزي: سمعت ابن المبارك يقول: إنما أفسد حديث أهل الكوفة أبو إسحاق،
والأعمش.
قال الذهبي: «من صغار التابعين؛ ما نقموا عليه إلا التدليس».
قال علي
بن سعيد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: منصور أثبت أهل الكوفة، ففي حديث الأعمش
اضطراب شديد.
قال جرير بن عبد الحميد: سمعت مغيرة يقول: أهلك أهل الكوفة أبو
إسحاق وأعيشكم هذا.
قلت: وهو مردود خاصة بتدليس الأعمش عن المنهال بن عمرو
الكوفي، وتفرده عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا مما أنكره الذهبي
في «الميزان» (4/192، 8806).
2- تخريج الإمام النسائي للقصة: ولقد أخرج هذه
القصة الإمام النسائي في «السنن الكبرى» (6/287، 288)، (ح10993) قال: أخبرنا
محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال، عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال: فذكر القصة في تسعة وعشرين سطرًا.
قلت: تبين أن الإمام النسائي
أخرج القصة بنفس السند الذي جاءت به القصة عند ابن جرير والقصة موقوفة وبها
التدليس إلا أنه بمقارنة المتن عند ابن جرير بالمتن عند النسائي وجد أن ابن
جرير اختصر المتن اختصارًا شديدًا أدى إلى السقط الكثير خاصة فيما يبين نكارة
المتن مثل:
أ- في رواية القصة عند ابن جرير:
ب- في رواية القصة عند النسائي:
«جاءها سليمان قال: هاتي خاتمي، قالت: اخرُج، لست بسليمان، قال سليمان: إن ذاك
من أمر اللَّه، إنه بلاء ابتلي به، فخرج فجعل إذا قال: أنا سليمان رجموه حتى
يدموا عقبه، فخرج يحمل على شاطئ البحر، ومكث هذا الشيطان فيهم مقيمًا ينكح
نساءه ويقضي بينهم، فلما أراد اللَّه عز وجل أن يرد على سليمان ملكه انطلقت
الشياطين وكتبوا كتبًا فيها سحر وفيها كفر فدفنوها تحت كرسي سليمان».
جـ- قلت: انظر إلى السقط في رواية ابن جرير بين جملة: «إنه بلاء ابتلي به» وجملة:
«فانطلقت الشياطين» تجد العجب.
1- الشيطان تمثل بنبي اللَّه سليمان وأخذ خاتمه
من امرأته ودانت له الشياطين والإنس والجن.
2- سليمان النبي إذا قال لهم أنا
سليمان كذبوه ورجموه حتى يدموا عقبه.
3- الشيطان يحكم، وسليمان النبي على شاطئ
البحر يحمل الأسماك بالأجر.
4- الشيطان تمثل بسليمان حتى وصل به الأمر إلى أنه
أصبح مقيمًا في ملك سليمان يحكم بين الناس وينكح نساء سليمان.
5- وإن تعجب فعجب
كيف يكون هذا مصير نبي ابن نبي؟ والأعجب كيف يذكر في كتب التفاسير والسنن ؟!
3- قصة ما كتبته الشياطين: أما القصة الأخرى الباطلة التي ترتبط بهذه القصة تمام
الارتباط كما بيَّنا آنفًا فهي أوهى من السابقة، حيث قال ابن جرير:
حدثنا
القاسم، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب قال:
«لما سلب سليمان ملكه، كانت الشياطين تكتب السحر». القصة.
أ- متن هذه القصة
مقطوع وليس بمرفوع حيث قال الحافظ في «التقريب» (1/355): «شَهْر بن حوشب
الأشعري الشامي من الثالثة».
قلت: والثالثة هي الطبقة الوسطى من التابعين كما
هو مبين في مقدمة التقريب.
«وما أضيف للنبي المرفوع
وما لتابع هو المقطوع»
فما نقل في هذه القصة ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ب- شهر بن حوشب: أورده الإمام الذهبي في
«الميزان» (2/283/3756)، وحتى لا يقول قائل: إنه من رجال مسلم، فقد بيَّن
الذهبي أنه لم يرو له مسلم احتجاجًا، ولكن روى له مقرونًا ونقل عن ابن عون قال:
إن شهرًا تركوه.
قال ابن عدي في «الكامل» (4/36) (18/898): «عامة ما يرويه شهر
وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث وهو ممن
لا يحتج بحديثه ولا يتدين به». اهـ.
قال ابن حبان في «المجروحين» (1/357): «شهر
بن حوشب: كان ممن يروي عن الثقات المعضلات وعن الأثبات المقلوبات».
جـ- وعلة أخرى أبو بكر: وهو أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، أورده الحافظ ابن حجر(/2)
في «التهذيب» (12/31)، ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: أبو بكر بن عبد
الله بن محمد بن أبي سبرة: «ليس بشيء كان يضع الحديث ويكذب».
قال ابن حبان في
«المجروحين» (3/147): «أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة «كان ممن يروي
الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه ولا الاحتجاج به بحال كان أحمد بن
حنبل يكذبه».
قال ابن عدي في «الكامل» (7/295) (12/200): «ولأبي بكر بن أبي
سبرة غير ما ذكرت من الحديث وعامة ما يرويه غير محفوظ وهو في جملة من يضع
الحديث». اهـ. فالقصة واهية بالمتروكين والكذابين.
4- قصة عبادة التماثيل في
دار سليمان النبي: وهذه هي القصة الثالثة الأخرى الباطلة مرتبطة بالقصتين
السابقتين تمام الارتباط، كما بينا آنفًا، وهي أوهى من السابقتين حيث قال
الثعلبي: «روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان...» القصة.
قلت: سند هذه
القصة مظلم باطل بالتدليس والجهالة.
أ- تدليس محمد بن إسحاق:
فقد أورده الحافظ
ابن حجر في «طبقات المدلسين» في الطبقة الرابعة رقم (91) وقال: محمد بن إسحاق
بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن
شر منهم وصفه بالتدليس ابن حبان. اهـ.
قلت: حكم رواية أصحاب هذه الطبقة:
قال
ابن حجر في مقدمة «كتاب المدلسين»: الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من
حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل».
اهـ.
قلت: وابن إسحاق عنعن ولم يصرح بالسماع.
ب- جهالة ابن إسحاق يتبين ذلك من
السند: «روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان...» وهذا النوع من أنواع
المجهول يسمى «المبهم» ومن أبهم اسمه جهلت عينه وجهلت عدالته، فمن باب أولى لا
تقبل روايته وفوق التدليس والجهالة فالخبر مقطوع.
رابعًا: قرائن تدل على أن هذه
القصة من الإسرائيليات: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه في «مجموع
الفتاوى» (15/148- 150): «وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مستند لهم
فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب، وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم،
كما قالوا في سليمان ما قالوا، وفي داود ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد
نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على
خلافه».
قلت: بالبحث عن هذه المرأة التي تسمى الجرادة بنت الملك صيدون والتي
تروي هذه القصة الواهية أن سليمان أحبها حبًا شديدًا لم يحبه أحدًا من نسائه
حتى اتبع هواه في الحكم لقومها الصيدونيين والصيدونيات، وأمالت قلب سليمان
وعبدت التماثيل في بيته، وجدت أن هذا موجود عند أهل الكتاب في الكتاب الذي
يسمونه بـ «الكتاب المقدس» سفر «الملوك الأول» الإصحاح الحاديث عشر من (1- 11)
(ص554) جاء فيه: (1) وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون:
موآبيات، وعمونيات وأدوميّات، وصيدونيَّات وحثيات (2) من الأمم الذين قال عنهم
الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم، وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يُميلُون قلوبكم
وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة (3) وكانت له سَبْعُ مائة من النساء
السيدات، وثلاث مائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه (4) وكان في زمان شيخوخة
سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه
كقلب داود أبيه (5) فذهب سليمان وراء عشتوث إلاهة الصديونيين وملكوم رجس
العمونيين (6) وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه
(7) حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم،
ولمولك رجس بني عمُّون (8) وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن
ويذبحن لآلهتهن (9) فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل
الذي تراءى له مرتين (10) وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى. فلم يحفظ
ما أوصى به الرب (11) فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك ولم يحفظ عهدي
وفرائضي التي أوصيتك بها فإني أمزق المملكة عنك تمزيقًا وأعطيها لعبدك». اهـ
(11/إصحاح 11/ ملوك 1).
قلت: انظر إلى الكتاب الذي يسمونه «الكتاب المقدس» كيف
جعل نبي اللَّه سليمان عليه السلام رجلاً شهوانيًا أحب النساء حتى أملن قلبه
حتى أشرك بالله في شيخوخته؟
هذا هو كتابهم المقدس كتاب سب الأنبياء، وكما
بيَّنا آنفًا في سب نبي اللَّه داود وابنه نبي اللَّه سليمان عليهما السلام،
ولمَّا لم يستطيعوا أن يَسبوا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابهم المقدس ذهبوا إلى صحف
الزنادقة والملاحدة ليسبوا خاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فاليهود وغيرهم ممن ينتمون
إلى ما يسمى بالكتاب المقدس وراء سب الأنبياء وسب مسك ختامهم محمد صلى الله عليه وسلم .
خامسًا: تكريم القرآن لنبي اللَّه سليمان عليه السلام:
1- سليمان عليه السلام نبي رسول
وليس بساحر ولا مشرك، قال تعالى: إنا أوحينا إليك كما(/3)
أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى
وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا
(163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم
نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [النساء: 163،
164].
2- سليمان عليه السلام قلبه في أعلى أعمال القلوب وهو «الإحسان»، قال
تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا
هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود
وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي
المحسنين [الأنعام: 84].
3- وصف نبي اللَّه سليمان عليه السلام بالفهم
والحكم والعلم قال تعالى: ففهمناها سليمان وكلا آتينا
حكما وعلما [الأنبياء: 79].
4- اتصف نبي اللَّه سليمان عليه السلام
بأنه رجَّاع إلى اللَّه في جميع أحواله بالتأله والإنابة والمحبة والذكر
والدعاء والتضرع والاجتهاد في مرضاة اللَّه وتقديمها على كل شيء، قال تعالى:
ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب [ص:
30].
قلت: هذا هو القرآن وتكريم نبي اللَّه سليمان عليه السلام، أما هذه القصص
التي أوردناها فقد أوردها ابن كثير في «تفسيره» للآية (102 البقرة)، (30: ص)،
وقال: «وأرى هذه كلها من الإسرائيليات».
وقال: «الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس
رضي اللَّه عنه - إن صح عنه - من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون بنبوة
سليمان عليه السلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه». اهـ.
وقال: «وحاصلها راجع في
تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى
الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة
من غير بسط، ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراد اللَّه
تعالى، والله أعلم».
وأختم بدعاء نبي اللَّه سليمان عليه السلام في قول اللَّه
تعالى: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي
وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني
برحمتك في عبادك الصالحين [النمل:91]. هذا ما وفقني اللَّه
إليه وهو وحده من وراء القصد.(/4)
قصة خلق النخلة ونسبها لآدم عليه السلام
إعداد/ علي حشيش
الحلقة الحادية والسبعون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة والتي حاول أحد الدعاة أن يجعل من هذه القصة بين النخلة وبين آدم نسبًا، وهذه القصة بنيت عليها الندوة التي عقدت في أحد المساجد المشهورة ونشرتها جريدة المساء في عددها (14080) في الصفحة السادسة، وإلى القارئ الكريم نص ما نشر عن القصة:
«كشفت ندوة دينية عن أسرار جديدة في عالم النخل، تبين أن النخلة خلقها اللَّه عز وجل من بقية طينة آدم عليه السلام، وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكرموا عماتكم النخل، وإنما سماها عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم». ثم أوضح الداعية أن النخلة هي «الإنسان» لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام أو أنها تشبه الإنسان من حيث استقامة قدها، وطولها، وامتياز ذكرها عن أنثاها، واختصاصها باللقاح وكذلك لو قطع رأسها لهلكت، ولطلعها رائحة الحيوان المنوي، ولها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها، والجمار الذي على رأسها لو أصابه آفة هلكت النخل مثل مخ الإنسان تمامًا، ولو قطع منها غصن لا يرجع بدله كعضو الإنسان تمامًا...». اهـ.
قلت: ولقد استمرت الجريدة في نقل كلام الشيخ في الندوة الدينية والتي اعتبرته كشفًا علميًا من أسرار جديدة في عالم النخل بناءً على قصة نسب النخلة لآدم عليه السلام.
وإلى القارئ الكريم تخريج وتحقيق قصة خلق النخلة ونسبها لآدم عليه السلام:
أولاً: القصة
من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
1- رُوي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خُلقت من فضلة طينة أبيكم آدم، وليس من الشجر شجرة تلقح غيرها، وليس من الشجر شجرة أكرم على اللَّه من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران، فأطعموا نساءكم الوُلَّد الرُّطب، فإن لم يكن الرطب فالتمر».
2- التخريج:
أخرج حديث قصة خلق النخلة أبو يعلى في «مسنده» (1/353) (ح455)، والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (4/256- ت1853)، وابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» (6/431)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/184)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/123) كلهم من طريق مسرور بن سعيد التميمي عن الأوزاعي، عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب مرفوعًا.
3- التحقيق:
أ- هذا الطريق الذي جاءت به قصة خلق النخلة طريق غريب حيث قال أبو نعيم في «الحلية» (6/23): «غريب من حديث الأوزاعي عن عروة تفرد به مسرور بن سعيد».
ب- وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (4/256/1853): «مسرور بن سعيد عن الأوزاعي، حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به».
جـ- قال ابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» (6/431): «مسرور بن سعيد التميمي منكر الحديث». اهـ.
ثم أخرج حديث القصة ثم قال معقبًا: «وهذا حديث عن الأوزاعي منكر، وعروة بن رويم عن علي ليس بالمتصل ومسرور بن سعيد غير معروف لم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث». اهـ.
قلت: هكذا بين الإمام الحافظ أبو أحمد عبد اللَّه بن عدي علل الحديث من النكارة والانقطاع والجهالة والتي بها تصبح قصة خلق النخلة ونسبها واهية.
د- قال الإمام الحافظ ابن حبان في كتابه «المجروحين» (3/44): «مسرور بن سعيد التميمي: يروي عن الأوزاعي المناكير التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها». اهـ.
هـ- قال الإمام ابن الجوزي في «الموضوعات» (1/184): «هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحديث على تفرد به مسرور، قال ابن عدي غير معروف وهو منكر الحديث»، ثم نقل قول ابن حبان وأقره.
وإلى القارئ الكريم الطريق الثاني للقصة:
ثانيًا: قصة خلق النخلة من حديث ابن عمر:
1- رُوِيَ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحسنوا إلى عمتكم النخلة فإن اللَّه خلق آدم ففضل من طينته فخلق منها النخلة».
2- التخريج:
قال ابن عدي في «الكامل» (2/156) (23/348): حدثنا جعفر بن أحمد بن علي بن بيان، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (1/184) من طريق ابن عدي.
3- التحقيق:
علة حديث ابن عمر في خلق النخلة جعفر بن أحمد بن علي بن بيان بن زيد بن سيابة قال الإمام ابن عدي في «الكامل» (2/156): «حدثنا جعفر بن أحمد أبو الفضل الغافقي مصري يعرف بابن أبي العلاء عن أبي صالح كاتب الليث وغيره بأحاديث موضوعة، وكنا نتهمه بوضعها بل نتيقن في ذلك». اهـ.
قلت: ثم أخرج له حديثين أحدهما حديث قصة خلق النخلة ونسبها.
ثم قال: «هذان الحديثان بإسناديهما موضوعان ولا شك أن جعفرًا وضعهما». اهـ.
ثم ختم ترجمته بقوله: «وعامة أحاديثه موضوعة وكان قليل الحياء في دعاويه على قوم لعله لم يلحقهم ووضع مثل هذه الأحاديث». اهـ.(/1)
وأقر هذا الحافظ ابن حجر في «اللسان» (2/137) (96/1963)، ونقل عن أبي سعيد النقاش أن جعفرًا هذا: «حدث بموضوعات».
وقال الدارقطني: «جعفر لا يساوي شيئًا». اهـ.
وبهذا التحقيق لقصة خلق النخلة من حديث ابن عمر تبين أن الحديث موضوع وهو الكذب المختلق المصنوع المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
فهذا الطريق لا يصلح للمتابعات ولا الشواهد، بل يزيد القصة وهنًا على وهن كما هو مقرر عند أهل الفن.
وإلى القارئ الكريم الطريق الثالث للقصة:
ثالثًا: قصة خلق النخلة من حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» كما في «اللآلئ» (1/156) من حديث أبي سعيد الخدري قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مِمَّ خلقت النخلة ؟ قال: «خلقت النخلة والرمان والعنب من فضل طينة آدم عليه السلام». ولم يذكر السيوطي سنده.
فقال المعلمي اليماني في تحقيقه لكتاب «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (ص490): «لم يسق في «اللآلئ» سنده ولن يكون إلا ساقطًا».
قلت: «وما قاله المعلمي اليماني هو الحق، حيث أكده الشيخ الألباني في «الضعيفة» (1/282) (ح262) فساق سنده عن ابن عساكر في «تاريخه» (2/309/2) عن الحاكم بن عبد اللَّه الكلبي أبي سالم من أهل قزوين، عن يحيى بن سعيد البحراني من أهل غطيف، عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مم خلقت النخلة ؟ فذكره، ثم قال: وهذا إسناد ضعيف جدًا وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين وهو متروك ومنهم من كذبه كما في «التقريب». اهـ.
أ- قلت: وفي «الميزان» (3/173/6018) عمارة بن جوين كذبه حماد بن زيد وقال شعبة: «لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبّ إليّ من أن أحدث عن أبي هارون».
ب- وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب مفتر.
جـ- قال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» (ت/476): «عمارة بن جوين أبو هارون العبدي متروك الحديث بصري».
قلت: وهذا المصطلح عند النسائي له مدلوله حيث قال الحافظ في «شرح النخبة» (ص69): «ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه».
د- قال ابن حبان في «المجروحين» (2/177): «عمارة بن جوين أبو هارون العبدي كان رافضيًا يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب».
قلت: وحاولت أن أذكر طرق الحديث مبينًا درجة ضعفها حتى لا يُقال: إن الحديث الضعيف إذا جاء من عدة طرق قوى بعضها بعضًا، ولا يدرى أن هذا ليس على إطلاقه كما هو مبين من قول الحافظ ابن كثير في «اختصار علوم الحديث» (ص16).
قال الشيخ أبو عمرو: «لا يلزم من دور الحديث من طرق متعددة أن يكون حسنًا لأن الضعيف يتفاوت فمنه ما لا يزول بالمتابعات يعني لا يؤثر كونه تابعًا أو متبوعًا كرواية الكذابين والمتروكين».
قلت: وهذه القاعدة الحديثية تنطبق على حديث قصة خلق النخلة ونسبها لآدم فطرقها كما بينا آنفًا لا تخلو من وضاع أو متروك أو كذاب.
وكم لهذه الأحاديث الموضوعة والقصص الواهية من الأثر السيئ حتى اعتبرتها الصحف أنها كشف جديد في عالم النخل لثقتهم بالشيخ ومكانته الإدارية، حيث أخذ الشيخ يربط بين النخلة والإنسان من النواحي الخلقية والشكلية.
ومثل هذه الأحاديث المكذوبة والتي بها قصص الخلق ولا يعرف الكثير درجتها ويروجونها في الندوات وتنشرها الصحف تفتح بابًا للطعن في الإسلام، حيث أثبتت البحوث العلمية الحديثة بحقائق علمية ترى رأي العين أن الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
فكل خلية تحت المجاهر المكبرة تشهد بأن لكل مخلوق خلقه من كرومسومات (الأمشاج) وعليها جينات، ولا يشاركها فيها كائن آخر، فلكل كائن جيناته التي أعطاها الله سبحانه: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [طه: 50]، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [يس: 36]، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات: 49].
فعلوم الكشف عن سنن اللَّه الكونية تشهد بحقائقها العلمية لهذه الآيات القرآنية ولا يمكن لحقيقة علمية من سنن اللَّه الكونية في آياته في الآفاق أن تصطدم بآية قرآنية لقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت: 53].
فالخلق خلقه والأمر أمره، قال تعالى: ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54].
منشأ التعارض وأثره السيئ
ينشأ المتعارض من أمرين:
الأول: ينشأ التعارض من أن يعتقد الإنسان أن الأمر حقيقة دينية، وهو ليس بحقيقة دينية فيصطدم مع الحقائق العلمية الكونية من سنن اللَّه الكونية والتي يراها الإنسان في الآفاق شاهدة الشمس في ضحاها كالاعتقاد بأن النخلة عمة الإنسان لأنها خلقت عن بقية طينة آدم وأثبتنا آنفًا أنها قصة مكذوبة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(/2)
فتصطدم مع الحقيقة العلمية في سنن اللَّه الكونية في خلقه والتي أعطى اللَّه فيها خلايا النخل خلقها، وأعطى سبحانه خلايا الإنسان خلقها من كرومسومات (الأمشاج) وما عليها من جينات، كما هو مقرر عند علماء الخلية وما بها من آيات تشهد بتوحيد الربوبية ولازمها توحيد الألوهية.
الثاني: ينشأ التعارض من أن يعتقد الإنسان أن الأمر حقيقة علمية فيجزم بنسبة غير واقعة كتعلق دارون بالمظاهر الخارجية للقرد وربط بين هذه المظاهر وبنى بهواه نظريته الخاطئة في التطور لأن اللَّه لم يشأ يومها أن توجد المجاهر وعلم الخلية التي يرى آيات اللَّه في خلايا الكائنات فبنى نظريته على جهل فعارض خلق اللَّه لآدم عليه السلام في الآيات القرآنية.
الأثر السيئ:
اعتقد الشيخ محمد عبده عفا اللَّه عنا وعنه في العلاقة والتطورية بين القرد والإنسان وتوهم أن نظرية دروان في التطور حقيقة علمية فقال: «إن قصة آدم في القرآن تمثيل».
ولقد وقف شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود رحمه اللَّه في قاعة الإمام محمد عبده في المحاضرة التي ألقاها في 27 مارس 1962 وحضرها عمداء الكليات بمصر وغيرها وعميد كلية الزيتونة وكان مما قاله في هذه المحاضرة: «إننا جميعًا نُجلُّ الشيخ محمد عبده ونحترمه وندين له بكثير من تخليص الدين من الخرافات والأساطير ولكن حين نقرأ له تفسير قصة آدم فنجده يقول: بأنها تمثيل. نتساءل: لماذا اتجه الشيخ محمد عبده هذا الاتجاه ؟ لماذا اتجه في قصة آدم إلى أنها تمثيل ؟ حينما نتساءل حقيقة عن السر العميق - في الشعور أو اللاشعور- نجد أن الشيخ محمد عبده رأى أن فكرة التطور منتشرة في جميع أوربا، بل والعالم وهي - فيما يرى - تتعارض مع التعاليم التي تنبئ أن آدم هو أول البشر، وهو الذي خلقه اللَّه وسواه وخاطب الملائكة في شأنه وأمرهم أن يسجدوا له رأى الشيخ محمد عبده أن كل ذلك لا يتلاءم كثيرًا مع فكرة التطور المزعومة فماذا صنع ؟
فقرر بأنها قصة، وأنها تمثيل... وأصبحت فكرة التطور مسيطرة على الكثيرين فانقادوا لها وأدخلوها في المحيط الديني، فأفسدوا كثيرًا من القضايا.
ونعود فنترحم على الشيخ محمد عبده، وإذا كنا ننتقده ونحن نحاضر في قاعته فذلك أننا نعلم أنه رحمه اللَّه كان من سعة الصدر ومن سعة الأفق بحيث لا يضيق بنقد، ونعتقد أنه لا يضيق بنقدنا ولا يقلل هذا من شأنه. اهـ.
قلت: قوله: «وأصبحت فكرة التطور مسيطرة على الكثيرين فانقادوا لها وأدخلوها في المحيط الديني، فأفسدوا كثيرًا من القضايا».
قلت: نعم تحت ما يسمى بتطوير الخطاب الديني وتطوير الأذان فمن لها اليوم في قاعة الإمام، ليسمع الآذان، والله المستعان.
هذا ما وفقني اللَّه إليه وهو وحده من وراء القصد.(/3)
قصة درع علي بن أبي طالب مع الذمي
إعداد/ علي حشيش
غلاف مجلة التوحيد
غلاف مجلة التوحيد
الحلقة الخامسة والستون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص.
أولا: متن القصة
رُوِي عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه، قال: وجد علي بن أبي طالب درعًا له عند يهودي التقطها فعرفها، فقال: درعي سقطت عن جمل لي أورق، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحًا، فلما رأى عليّا قد أقبل تحرف عن موضعه وجلس عليَّ فيه ثم قال عليُّ: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تساووهم في المجلس وألجئوهم إلى أضيق الطرق، فإن سبوكم فاضربوهم؛ وإن ضربوكم فاقتلوهم»، ثم قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي سقطت عن جمل أورق، والتقطها هذا اليهودي.
فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟
قال: درعي وفي يدي.
فقال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين أنها لدرعك، ولكن لابد من شاهدين.
فدعى قنبرا مولاه، والحسن بن علي وشهدا إنها لدرعه.
فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها.
فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»؟.
قال شريح: اللهم نعم.
قال علي: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ والله لأوجهنك إلى «بانقيا» تقضي بين أهلها أربعين يومًا، ثم قال لليهودي خذ درعك. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين، فقضى عليه ورضي، صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك، التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فوهبها له علي، وأجازه بتسعمائة، وقتل معه يوم صِفِّين.
ثانيًا: التخريج
هذه القصة أخرجها أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني في «الحلية» (4/931-041) قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، ح. وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عون السيرافي المقري، قالا: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا حكيم بن خذام أبو سمير حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال: فذكر القصة.
وأخرجها أيضا الإمام ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/883) ح(0641) قال: حدثت عن الحسن بن محمد بن حمويه الصفار، قال أخبرني أحمد بن علي بن فنجويه الأصبهاني، قال حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحافظ قال أخبرنا علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي قال حدثنا أبو الأشعث يعني: أحمد بن المقدام، قال حدثنا أبو سمير حكيم بن خِذام به.
ثالثا: التحقيق
هذه القصة واهية وسندها ضعيف جدا وغريب
1 ـ قال الحافظ أبو نعيم بعد أن روى هذه القصة في «الحلية» (4/041): «غريب من حديث الأعمش عن إبراهيم تفرد به حكيم».
قلت: وحكيم بن خِذام أبو سمير البصري هو علة هذه القصة.
2 ـ قال الإمام البخاري في «التاريخ الكبير» (2/1/81) ترجمه (47): «حكيم بن خذام أبو سمير: منكر الحديث» أهـ.
قلت: وهذا المصطلح عند الإمام البخاري له معناه حيث قال الحافظ السيوطي في «التدريب» (1/943):
«البخاري يطلق: فيه نظر، وسكتوا عنه فيمن تركوا حديثه، ويطلق: (منكر الحديث): على من لا تحل الرواية عنه» اهـ.
3 ـ قال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» ترجمة (821): «حكيم بن خذام، ضعيف».
4 ـ قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/1/202) ترجمة (288): «حكيم بن خذام أبو سمير سمعت أبي يقول: «هو متروك الحديث».
5 ـ قال ابن عدي في «الكامل» (2/022) (53/404): «حدثنا الجنيدي، حدثنا البخاري قال: حكيم بن خذام أبو سمير البصري منكر الحديث».
6 ـ قال الإمام ابن حبان في «المجروحين» (1/742): «حكيم بن خذام من أهل البصرة كنيته أبو سُمَيْر: يروي عن عبد الملك بن عمير والأعمش... في أحاديثه مناكير كثيرة».
7 ـ قلت: لذلك أورد الإمام الذهبي هذه القصة في «الميزان» (1/585) ترجمة (8122) وجعلها من مناكير حكيم بن خذام.
8 ـ وأورد هذه القصة الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (2/714) (557/6192) ووافق الإمام الذهبي على جعل هذه القصة من مناكير حكيم بن خذام وهو منكر الحديث ثم نقل عن الساجي أنه قال: «حكيم بن خِذَام: يحدث بأحاديث بواطيل».
«تصحيف»
ملاحظة هامة: وقع تصحيف في «لسان الميزان» طبعة دار الفكر الطبعة الأولى (8041هـ ـ 8891م) وقالوا عنها: إنها طبعة جديدة منقحة ومقارنة» كما هو مبين في صدر الصفحة الأولى من كل جزء من أجزاء اللسان والتصحيف في «لسان الميزان» (2/714) (557/6192) (حكيم بن حزام) هذا هو الإسم الموجود في اللسان فقد صحف (خِذام) بالخاء والذال إلى (حزام) بالحاء والزاي وهذا عند أهل الفن عظيم فسبحان ربي لا يضل ربي ولا ينسى [طه:25].(/1)
9 ـ قال الإمام ابن الجوزي بعد أن روى هذه القصة في «العلل المتناهية في الأحاديث الواهية» (2/883) ح(0641): «هذا حديث لا يصح تفرد به أبو سمير قال البخاري وابن عدي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث» اهـ.
رابعا: طرق أخرى للقصة
وحتى لا يقال أن هناك طرقا أخرى للقصة فهذان طريقان أوردهما الإمام البيهقي في «السنن» (01/631) قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد، حدثنا أحمد بن علي الخزاز ثنا أسيد بن زيد الجمال، حدثنا عمرو بن شمر.
(ح أخبرنا) أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكى، أنبأنا أبو محمد بن الخرساني/ حدثنا محمد بن عبيد بن أبي هارون، حدثنا إبراهيم بن حبيب، حدثنا عمرو بن شمر.
عن جابر، عن الشعبي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا، فعرف علي رضي الله عنه الدرع فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين وكان قاضي المسلمين شريح... ثم ذكر القصة بطولها مع النصراني.
خامسا: التحقيق
مما سبق يتبين أن الطريقين اللذين أخرجهما الإمام البيهقي يلتقيان عند عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي. حيث روى عن عمر وبن شمر: (أسيد بن زيد الجمال وإبراهيم بن حبيب) والقصة من هذين الطريقين واهية وفيهما علتان:
الأولى: عمرو بن شَمِر الجُعْفِي.
أورده الإمام الذهبي في «الميزان» (3/862/4836) وقال:
1 ـ «عمرو بن شمر الجعفي الكوفي الشيعي أبو عبد الله عن جابر الجعفي... روى عباس عن يحيى: ليس بشيء.
2 ـ وقال الجوزجاني: زائغ كذاب.
3 ـ وقال ابن حبان: رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات.
4 ـ وقال البخاري: منكر الحديث.
5 ـ وقال النسائي والدارقطني وغيرهما متروك.
العلة الأخرى: جابر بن يزيد الجعفي:
1 ـ قال الإمام ابن حبان في «المجروحين» (1/802).
جابر بن يزيد الجعفي من أهل الكوفة كنيته أبو زيد، وقد قيل: أبو محمد يروي عن الشعبي... كان سبئيًّا من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول، إن عليًا يرجع إلى الدنيا.
2 ـ قال الإمام النسائي في «المتروكين» ترجمة (89):
«جابر بن يزيد الجعفي: متروك».
قلت: وهذا المصطلح له معناه عند الإمام النسائي رحمه الله، قال الحافظ ابن حجر في «شرح النخبة» في بيان مراتب الجرح:
«ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه». اهـ.
قلت: بهذا يتبين أن طرق القصة بين كذابين ومتروكين.
وهذه الطرق لا تزيد القصة إلا وهنًا على وهن، حيث قال الإمام ابن كثير في «اختصار علوم الحديث» ص(61):
«قال الشيخ أبو عمرو: لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن يكون حسنًا لأن الضعف متفاوت فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعًا أو متبوعًا كرواية الكذابين والمتروكين...» اهـ.
سادسا: الحافظ ابن حجر وتضعيف طرق القصة
أورد الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (4/391) ح(5012) طرق القصة وبين ضعفها حيث قال:
«حديث علي: أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي، فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجالس، أبو أحمد والحاكم في الكني في ترجمة أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال: عرف علي درعًا له مع يهودي، فقال: يا يهودي، درعي سقطت مني، فذكره مطولاً، وقال: «منكر»، وأورده ابن الجوزي في «العلل» من هذا الوجه وقال: «لا يصح؛ تفرد به أبو سمير».
ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي قال: خرج عليٌّ إلي السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعًا فعرف عليُّ الدرع، فذكر بغير سياقه وفي رواية له: لولا أن خصمي نصراني، لجثيت بين يديك، وفيه عمرو بن شمر عن جابر الجعفي وهما ضعيفان.
وقال ابن الصلاح في الكلام على أحاديث الوسيط: «لم أجد له إسنادا يثبت». اهـ.
سابعًا: التناقض
لقد بيَّنا من طرق هذه القصة الواهية أن أسانيدها تدور على الكذابين والمتروكين والمتن متناقض في تحديد ديانة الذمي بين نصراني ويهودي والقصة لا تثبت وعدالة الإسلام معلومة من غير هذه القصة الواهية.
ثامنًا: بدائل صحيحة
هناك العديد من الأحاديث والقصص الصحيحة التي يستشهد بها على عدل الإسلام وعدم تفريقه بين الغني والفقير، والشريف والضعيف وعلى سبيل المثال: «قصة المرأة المخزومية» التي أخرجها الإمامان البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فاختطب ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أنَّ فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها».
والله من وراء القصد.(/2)
قصة سؤال موسى عليه السلام ربه شيئاً يذكره به
الشيخ / علي حشيش
الحلقة الرابعة والستون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقُصَّاص.
أولاً: متن القصة:
رُوِي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب علمني شيئًا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقول هذا. قال تعالى: قل لا إله إلا الله، قال موسى: لا إله إلا أنت إنما أريد شيئًا تخصني به، قال تعالى: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله".
ثانيًا: التخريج:
هذه القصة أخرجها الإمام النسائي في "السنن الكبرى" (6-209) (ح10670)، وأبو يعلى في "المسند" (2-528) ح(1393)، وابن حبان ح(2324- موارد)، والحاكم في "المستدرك" (1-528)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص164)، والطبراني في الدعاء ح(148)، وأبو نعيم في "الحلية" (8-327) كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به مرفوعًا.
ثالثًا: التحقيق:
هذه القصة واهية وسندها غريب من حديث دراج عن أبي الهيثم.
أ- فقد أوردها الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (3-180) وقال:
1- دراج بن سمعان يقال اسمه عبد الرحمن، ودراج لقب، أبو السمح القرشي السهمي مولاهم المصري القاصُّّ.
2- قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: "حديثه منكر".
3- وقال فضلك الرازي: "ليس بثقة ولا كرامة".
4 وقال الدارقطني: "ضعيف". وقال في موضع آخر: "متروك".
5- وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال في موضع آخر: "منكر الحديث".
ب- وأوردها الإمام ابن عدي في "الكامل" (3-112) (25-647) وقال:
1- سمعت ابن حماد يقول: دراج أبو السمح منكر الحديث. قاله أحمد بن شعيب النسائي.
2- حدثنا ابن أبي عصمة، قال: حدثنا أحمد بن أبي يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف".
3- ثم ساق له ابن عدي أحاديث وقال: "عامة هذه الأحاديث مما لا يتابع دراج عليه".
قلت: وأحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد غير مستقيمة. قاله الآجري عن أبي داود. كذا في "التهذيب" (3-181)، وهذه القصة منها، ولقد بيّن الإمام الذهبي في "الميزان" (2-24-2667) أنه كان قصاصًا، قال ابن يونس: كان يقص بمصر، مات سنة ست وعشرين ومائة، ثم أقرّ الإمام الذهبي أقوال الأئمة التي أوردناها آنفًا في دراج بأنه "منكر الحديث" خاصة في روايته عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، وبين أن لابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج نسخة عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعًا ثم أورد أحاديث منكرة منها. وبهذا السند جاءت القصة فهي واهية منكرة.
ج- ولقد أورد هذه القصة الشيخ الألباني رحمه الله في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1-460) (ح923) وبين علتها وضعفها.
رابعًا: دلائل نكارة المتن:
لقد بينا من التحقيق أن الحديث الذي جاءت به القصة منكر ودلائل النكارة ظاهرة على المتن.
1- من قوله: "عامرهن غيري" حيث أثبت حلول الله في السماء وهذا لا يقوله أحد من أهل السنة أن الله من عمار السماء ولا يتوهم الحلول من قوله تعالى: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض {الملك: 16}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (3-52): "وكذلك قوله تعالى: أأمنتم من في السماء .
من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات فهو جاهل ضال بالاتفاق.
ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله: إنه (في السماء) أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء.
وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك: كان المراد أنه عليها، كما قال: ولأصلبنكم في جذوع النخل ، وكما قال: فسيروا في الأرض وكما قال: فسيحوا في الأرض . أه.
قلت: وهذا البيان نقله الدكتور محمد خليل هراس في "شرح العقيدة الواسطية" طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص(64، 83) حيث قال: "ولا يجوز أن يفهم من قوله في السماء أن السماء ظرف حاوٍ له سبحانه بل إن أريد بالسماء هذه المعروفة (ففي) بمعنى (على) كما في قوله تعالى: ولأصلبنكم في جذوع النخل {طه: 71}، وإن أريد بها جهة العلو (ففي) على حقيقتها فإنه سبحانه في أعلى العلو".
2- ومن دلائل نكارة رواية دراج عن أبي الهيثم، مراجعة موسى ربه مرتين، وردُّه الذكر بكلمة التوحيد مرتين، بدعوى أنه يريد شيئًا يخصه به غير كلمة التوحيد، وكأن موسى عليه السلام لا يعرف مقدار فضل هذه الكلمة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها أفضل جميع شعب الإيمان كما في صحيح مسلم (ح58) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".(/1)
وكذا البخاري واللفظ لمسلم كما هو مبين، وحمى الله موسى عليه السلام من هذه القصص المنكرة، فالمرسلون جميعًا أعلم الناس بفضل لا إله إلا الله، قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون {الأنبياء: 25}.
بل موسى عليه السلام في بدء الوحي قال له رب العزة: وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري {طه: 13، 14}.
وبدء الوحي بهذا في غاية التناسب لأن موسى عليه السلام ذاهب إلى فرعون الذي قال عنه رب العزة: وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري {القصص: 38}.
فمن كان هذا شأنه فهو عالم بفضلها ومعناها، وعامل بمقتضاها.
خامسًا: بدائل صحيحة
هناك العديد من الأحاديث والقصص الصحيحة التي تبين فضل لا إله إلا الله بعيدة عن هذه المنكرات مؤدية هذا المعنى في غاية الوضوح، وهو أنَّ اسم الله لا يثقل معه شيء، فعلى سبيل المثال لا الحصر حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي في "السنن" (ح2639)، وابن ماجه في "السنن" ح(4300)، والحاكم في "المستدرك" (1-6، 529)، وأحمد في "المسند" (2-213) من طريق الليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء".
سادسًا: تحقيق وفوائد
قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم.
قلت: ووافقه الذهبي في "التلخيص"، ونقله الألباني في "الصحيحة" (1-213) (ح135)، وأقره حيث قال: "وهو كما قالا".
ثم قال: "وفي الحديث دليل على أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان، وأن الأعمال وإن كانت أعراضًا فإنها توزن، والله على كل شيء قدير، وذلك من عقائد أهل السنة والجماعة والأحاديث في ذلك متضافرة وإن لم تكن متواترة". اه.
قلت: نعم هي متواترة، ولقد أثبت هذا التواتر الإمام الكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" (ح296) قال: "أحاديث الصراط والميزان وإنطاق الجوارح وتطاير الصحف وأهوال الموقف وأحوال الجنة والنار".
نقل البرزلي عن "شرح الإرشاد" أنها متواترة، ونقله عنه أبو علي بن رحال في شرحه لمختصر خليل، وفي الشهاب على الشفا في الكلام على حديث الشفاعة الكبرى، ما نصه:
"وفي هذا ونحوه مما بلغ حد التواتر المعنوي رَدٌ على المنكرين من أهل الكلام".
قلت: لذا قال ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" ص(419): "فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، وما خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع، لخفاء الحكمة عليه ويقدح في النصوص بقوله: "لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنًا".
فاللهم اجعلنا ممن قلت فيهم: فأما من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية {الواقعة: 6، 7}.
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.(/2)
قصة موسى عليه السلام
عبد العظيم بدوي الخلفي
ملخص المادة العلمية
1- فضل صيام يوم عاشوراء وسبب صيامه. 2- قصة موسى عليه السلام مع فرعون ذكرت في القرآن كثيراً لما فيها من العبر وسرد هذه القصة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رسول الله قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم: ما هذا الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال : فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه)).
إن نصر الله لأوليائه في كل زمان ومكان انتصار للحق، وإذلال للباطل، ونعمة على المؤمنين إلى يوم الدين، يقرون بنصر الله وينعمون به بالا.
وفي شهر الله المحرم، وفي اليوم العاشر منه على التحديد نصر الله موسى والمسلمين معه وأغرق فرعون وملأه، كما صرح بذلك الحديث، وإنجاء الله موسى والمسلمين، وإغراقه فرعون والكافرين نعمة توجب الشكر على المؤمنين، ولذا قال النبي لليهود: ((نحن أحق بموسى منكم، فصام يوم عاشوراء وأمر بصيامه))، وقال: ((إني أحسب على الله أن يكفر السنة التي قلبه)).
وفي قصة موسى وفرعون دروس وعبر كثيرة جدا، ولهذا ذكرت في القرآن أكثر من غيرها، وكان النبي إذا أوذي قال: ((يرحم الله وموسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) من أجل ذلك رأينا بمناسبة هذه الأيام أن نذكر بما كان من موسى وفرعون في مثل هذا اليوم.
فنقول وبالله التوفيق:
دخل يعقوب عليه السلام – وهو المسمى بإسرائيل – مصر مع بنيه بطلب من ولده يوسف عليه السلام حين ولي وزارة مصر، وكانوا أفرادا معدودين، فآواهم يوسف عليه السلام وقال لهم: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين [يوسف:99].
ولمكانة يوسف عند الملك أكرم الملك أبويه وإخوانه وأهله، وأحسن مثواهم ومكّن له في الأرض، حتى ولاهم مناصب عالية فيها.
ومضت السنون، وكثر بنو إسرائيل في مصر وزاد عددهم، وبدأ الفراعنة يحسدونهم على ما وصلوا إليه في البلاد من مناصب مع غربتهم، وبدؤوا يقلقون بسبب وجود بني إسرائيل في مصر، فأخذوا يعزلونهم عن المناصب والولايات.
وحدث أن رأى فرعون رؤى، فسرت له بأن هلاكه وذهاب ملكه سيكون على يد غلام يولد من بني إسرائيل، فاستشاط غضبا، وأصدر أوامره بذبح كل مولود ذكر من بني إسرائيل، وأخذ يستخدم كبار رجالهم ونسائهم في الأعمال الشاقة وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين [القصص:4].
ولكن الله تعالى يريد غير ما يريد فرعون، ويقدّر غير ما يقدر الطاغية، والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم فينسون إرادة الله تعالى وتقديره، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون. والله يعلن إرادته، ويكشف عن تقديره، ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [القصص:5-6].
ويولد موسى عليه السلام في هذه الظروف، والخطر محدّق به، والموت يتلفت عليه، وتحتار أمه، وترجف خشية أن تتناول عنقه السكين، ويوحي إليها ربها: أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له [طه:39].
وهذا منتهى التحدي.
لقد أعلنت الطوارئ، وصدرت الأوامر بذبح المواليد المساكين، تخوّفا من واحد سيكون هلاك فرعون على يده، وإذا بالقدرة الإلهية تحمل هذا الغلام نفسه إلى فرعون، مجردا من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد، وكأنها تقول له: يا فرعون! لا تتعب نفسك في البحث عن هذا الغلام الذي سيكون ذهاب ملكك على يده، فها هو بين يديك، فإن كان لك كيد أو تدبير فاصنع ما تريد.
وإذا بفرعون نفسه يبحث لموسى عن المراضع، ويأتيه بهن واحدة بعد الأخرى حتى آل إلى أمه كي تقرعينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [القصص:13].
ويربى موسى في قصر فرعون تحت رعايته وإشرافه، وفرعون يوفر له كل احتياجاته ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين [القصص:8].
وتنتهي مدة الرضاع وفترة الصبي، ويبلغ موسى أشده، ويستوي عوده، ويكتمل نضجه العضوي والعقلي، فيؤتيه الله حكما وعلما، وبينما موسى يتجول في المدينة في وقت الظهيرة حين تغفوا العيون فوجد فيه رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه [القصص:15].
فأجمعوا أمرهم ليقتلنه، فنصحه ناصح بالخروج من البلاد فخرج منها خائفا يترقب [القصص:21].(/1)
حتى دخل مدين ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونه امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل [القصص:23-28].
وقضى موسى أبر الأجلين وأوفاهما، ثم استأذن صهره في الرجوع إلى مصر! مصر التي قتل فيها رجلا بالأمس! مصر التي خرج منها خائفا يترقب! ترى هل نسى ما كان منه؟ هل نسى أن لهم عنده ثأرا؟ إنها إرادة الله! إنه القدر الذي ذكّر به الله موسى حين قال له: فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى [طه:40].
وفي الطريق اشتد البرد، وفقد النار، وضل الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى [طه:10].
فأتى موسى هذه النار فإذا هي نور عظيم، وعندها خير كثير: فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه:11-14].
وبهذا نبئ موسى، وأرسل حين قال له ربه: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24].
وموسى يعرف من هو فرعون فسأل الله العون: قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي [طه:25-30].
فقال الله له: اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكرى اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [طه:42-44].
فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
وإذا كان موسى هو النبي المعصوم المؤيد بقوى السماء مأمورا بالقول اللين، فما بال غير المعصومين وغير المؤيدين يغلظون القول، ويقسون على المدعووين، أهم خير أم موسى؟ وهل من يدعونهم شر من فرعون؟
فرفقا بالناس معشر الدعاة! فـ ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه))، و((من يحرم الرفق فقد حرم الخير كله)).
أما قرأتم وسمعتم قول الله تعالى لنبينا محمد : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159].
يا معشر الدعاة! إن الكلمة الطيبة تكثر أتباعكم، وإن الكلمة النابية تفّرقهم من حولكم، فكم من عدو لدود صار صديقا حميما بكلمة طيبة؟! وكم من صديق حميم صار عدوا لدودا بكلمة نابية؟! فلينوا أقوالكم، واخفضوا لأتباعكم أجنحتكم، ويسروا ولا تعسروا، ولا تنفروا.
ويأخذ موسى أخاه هارون ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأ موسى الكلام فيقول لفرعون: إنا رسول رب العالمين [الشعراء:16].
هكذا من أول لحظة، ليشعر فرعون أنه ليس ربا ولا إلها، وأنه مربوب لرب العالمين الذي يجب أن يتخذه إلها يعبده.
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: إنا رسول رب العالمين ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم: أن أرسل معنا بني إسرائيل [الشعراء:17].
فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيبا في قصره منذ أن التقطوا تابوته، وأنه هرب بعد قتله للقبطي. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين، ومن ثم بدأ فرعون متهكما مستهزئا مستعجبا: ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [الشعراء:18-19].
فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا؟ بأن تأتي اليوم لتخالف ديننا ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! ولقد قتلت نفسا بالأمس وأنت من الكافرين برب العالمين الذي تقول به اليوم؟! فما الذي حدث؟! ويرد موسى في ثبات وثقة وطلاقة لسان: قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [الشعراء:20-22].
وعندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه، ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم.
قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب أبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشيء مبين [الشعراء:23-30].(/2)
فسقط في يده، ورأى أنه لابد أن يستمع لبرهانه، فطلب منه أن يأتي بالدليل: قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [الشعراء:30-33].
وأحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها، فأسرع يقاومها ويدفعها وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق الملأ من حوله، ويهيج مخاوفهم من موسى وقوله، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة: قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون [الشعراء:34-35].
فأشاروا عليه أن يأخذ من موسى موعدا يجتمع فيه السحرة من كل مكان، ويقابلون سحر موسى بسحرهم، فمن غلب اتبعوه، والأمر مفصول فيه أن السحرة هم الغالبون، فخيب الله سعيهم، وأبطل كيدهم، وجعل نبيه موسى هو الأعلى: فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [الشعراء:46-48].
فجن جنون فرعون وأخذ يهدد ويتوعد، ولكن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب لم يعبأ بأية تهديد، ولذا قال المؤمنون كلمتهم بكل جرأة وثبات: قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون [الشعراء:50].
لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لا ضير في التصليب والتعذيب، لا ضير في الموت والاستشهاد، لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، وليكن في هذه الأرض ما يكون، فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين.
وهنا تدخل الملأ أهل الأهواء والمصالح والمطامع، تدخلوا ليهيجوا فرعون على موسى ومن معه، ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم، فطمأنهم فرعون بأنه سيحكم القبضة، ويعيد العمل بقانون الطوارئ، فيقتل الذكران ويستحي النساء.
وأخذ موسى يعظ قومه وينصحهم بالصبر حتى يأتي أمر الله، فـ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [الأعراف:129].
ومضى فرعون وملؤه في جبروتهم، ومضى موسى وقومه يتحملون العذاب ويرجعون فرج الله، وعندئذ تدخلت القدرة الإلهية فأخذت آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون، ثم جاءت الإنذارات تترا فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [الأعراف:133].
ثم أعلنوها صريحة: وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [الأعراف:132].
وأدرك موسى أن لا فائدة ترجى من القوم، وأنهم مصرون على الكفر والفساد في الأرض فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون [الدخان:22].
فأوحى الله إليه أن فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون [الدخان:23].
فإذا عبرت أنت ومن معك فاترك البحر رهوا أي ساكنا كما هو إغراء لفرعون بالعبور، فإنهم قوم مغرقون.
وفي الليلة الموعودة خرج موسى ببني إسرائيل، وعلم فرعون بخروجهم فجمع الجموع وخرج في طلبهم فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فكان كل فرق كالطود العظيم [الشعراء:60-63].
أي كالجبل العظيم، وصار البحر إثني عشر طريقا لكل سبط طريق، وأمر الله الريح فنشفت أرضه، وهذا هو قوله تعالى: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا [طه:77].
وتخرّق الماء بين الطريق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم غيرهم فيطمئنوا عليهم.
وجاوز بنوا إسرائيل، فلما خرج آخرهم كان فرعون قد انتهى إلى شاطئ البحر، فوقف مترددا أيعبر خلفهم؟ أم يرجع وقد كُفيهم؟ فجاء جبريل عليه السلام على فرس فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل فاقتحم فرعون وراءه، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحدا إلا أقحمه، حتى إذا أدركوا في البحر جميعا جاءهم الموج من كل مكان وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى: لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين [يونس:90-92].
فقيل له: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون [يونس:92].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حل البحر فأدسّه في فيّ فرعون، مخافة أن تدركه الرحمة)).
وهكذا أنجى الله موسى والمسلمين، وأغرق فرعون والكافرين: وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف:137].
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [الشعراء:67-68].
والله متم نوره ولو كره الكافرون [الصف:8].
فهنيئا للصابرين: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين [البقرة:250].(/3)
( قصة هرقل والإسلام )
عناصر الموضوع
1. قصة هرقل مع أبي سفيان
2. هرقل يرسل رسولاً إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم
3. رواية أخرى عند البيهقي في دعوة هرقل للإسلام
4. شرح رواية البخاري في دعوة هرقل للإسلام وفوائد من ذلك
5. الأسئلة
قصة هرقل والإسلام:
في هذا الدرس شرح لحديث ورد في البخاري، جاء فيه بيان لكيفية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هرقل للإسلام، وصلت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فبحث عن رجلٍ من قريش، فوجد أبا سفيان ثم طلبه وسأله عدة أسئلة استنتج من خلالها حقيقة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم. كما تحدث الشيخ عن الروايات الأخرى للحديث وبعض الفوائد التي يستفيدها المرء من هذا الحديث.
قصة هرقل مع أبي سفيان:
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى أن بلغنا هذه العشر الأواخر من شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته فيها. ونتحدث -يا أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن قصة عظيمة من القصص التي حدثت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام. وهذه القصة هي قصة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام لهرقل ودعوته إلى الإسلام.
هرقل يسأل وأبو سفيان يجيب:
روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن عباس : (أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش؛ وكانوا تِجَاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش ...) هرقل جاءته رسالة النبي عليه الصلاة والسلام فأراد أناساً من قوم النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليسأل عن حاله، فعُثِر على أبي سفيان وكان مشركاً مع بعضٍ من كفار قريش؛ وقد كانوا تُجَّاراً بالشام، فأُتِي بهم إلى هرقل . قال: (... فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابَه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه ...) سأسأل صاحبكم الذي يجلس أمامكم وهو أبو سفيان عن صاحبكم، الذي هو النبي عليه الصلاة والسلام، فإن كَذَب في الإجابة فبيِّنوا لي أنه قد كَذَب. (يقول أبو سفيان : فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا عليَّ كذباً لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قط قبلَه؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدِر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعلٌ فيها -نحن الآن في مرحلة صلح الحديبية في هدنة معه لا ندري ماذا يفعل فيها؟- قال أبو سفيان : ولم تُمْكِني كلمةٌ أُدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة) أي: ما استطعت أن أدخل دسيسة في الجواب إلا في هذا الموضع. (قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال -يعني: تناوب في الانتصار، مرة لنا ومرة له- ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف والصلة).
هرقل يبين حقيقة نبوة المصطفى من إجابات أبي سفيان:(/1)
(فقال للترجمان - هرقل يقول للترجمان الذي يترجم من لغة إلى أخرى-: قل له - لأبي سفيان -: سألتك عن نسبه؟ فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ -يعني: من قبل- فذكرتَ أن لا، فقلت: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلتُ رجلٌ يتأسى بقول قيل قبله) أي: مقلد، لكن ما أحد قال هذا الكلام قبله. (وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجلٌ يطلب ملك أبيه) سبب هذه الدعوة أنه يطالب بملك أبيه، لكن ليس من آبائه من ملك. (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله) يعني: هرقل متأكد من أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق. (وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هرقل يعرف أن أتباع الرسل هم الضعفاء. (وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم -يعني: يبدأ غريباً ثم ينتشر-. وسألتك: أيرتد أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدِر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدِر. وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيَمْلِك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخْلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه).
نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل:(/2)
دعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: دعوة الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين -وهم الفلاحون الذين كانوا من رعايا هرقل - و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] . قال أبو سفيان : فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب -أي: الأصوات المختلطة المرتفعة- وارتفعت الأصوات، وأُخْرِجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة -لقد عَظُم أمر محمد صلى الله عليه وسلم- إنه يخافه ملك بني الأصفر - أبو سفيان يقول: هرقل ؛ هذا ملك الروم يخاف محمداً! صلى الله عليه وسلم (فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام). (وكان ابن الناظور أو ابن الناطور صاحب إيلياء و هرقل سُقُفَّاً على نصارى الشام) ابن الناطور و هرقل كانا من علماء النصارى بالدين، وكانا زميلين في الدين النصراني. (وكان ابن الناطور -صاحب إيلياء و هرقل- سُقُفَّاً على نصارى الشام يحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته -يعني: الرجال الكبار عنده-: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور : وكان هرقل حزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟) أي: لما سألوه: ما بالك مهموماً؟ قال: رأيت ملك الختان قد ظهر، انظروا من يختتن في العالم في الناس؟! من يختتن؟! (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمك شأنهم، واكتب إلى المدن في ملكك فيقتلوا مَن فيها مِن اليهود. فبينما هم على أمرهم أُتِي هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ -الرسول هذا الذي جاء برسالة من محمد صلى الله عليه وسلم انظروا هل هو مختتن أم لا؟- فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن. وسأله عن العرب. فقال: هم يختتنون. فقال هرقل : هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية ، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرِم حمصاً حتى أتاه كتاب من صاحبه -الذي في رومية- يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص -بناء كالقصر أمر بأن يُدخلوا إليه- ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع - هرقل اطَّلع على كل الكبراء الذين أدخلوا- فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصةَ حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت -اضطربوا وتدافعوا إلى الأبواب- فلما رأى هرقل نفرتهم وأَيِس من الإيمان قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل ). هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه ، وكذلك رواها مسلم رحمه الله، والحديث عند الترمذي وأبي داود و أحمد في سياقات مختلفة.
هرقل يرسل رسولاً إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم:(/3)
وهناك رواية ساقها الإمام أحمد رحمه الله فيها مزيد من التوضيح لبعض الظروف التي حصلت في الخطاب النبوي إلى هرقل ، يقول فيه سعيد بن أبي راشد مولى لآل معاوية : ( قدمت إلى الشام فقيل لي: في هذه الكنيسة رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدخلنا الكنيسة فإذا أنا بشيخ كبير، فقلت له: أنت رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قلت: حدثني عن ذلك، قال: إنه لما غزا تبوك كتب إلى قيصر كتاباً وبعث به مع رجل يقال له: دحية بن خليفة الكلبي ، فلما قرأ كتابه -لما قرأ هرقل كتاب النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته- وضعه معه على سريره، وبعث إلى بطارقته ) إلى رجال الكنيسة، ومفردها: بطريق ( ورءوس أصحابه ) عظماء القوم، قادة الجيوش، الأمراء، وقادة الألوية ( فقال: إن هذا الرجل قد بعث إليكم رسولاً، وكتب إليكم كتاباً يخيركم إحدى ثلاث: - إما أن تتبعوه على دينه. - أو تقروا له بخَراجٍ يجري له عليكم ويقركم على هيئتكم في بلادكم. - أو أن تلقوا إليه بالحرب. قال: فنخروا نخرةً ) النخير: هو صوت الأنف، والمراد الغضب والفوران المعبر عن النفور ( فنخروا نخرةً حتى خرج بعضهم من برانسهم ) والبرنس: هو الثوب الذي يلتصق به غطاء الرأس، مثل: لباس المغاربة اليوم ( حتى خرج بعضهم من برانسهم، وقالوا: لا نتبعه على دينه ونَدَع ديننا ودين آبائنا، ولا نقر له بخراج يجري له علينا، ولكن نُلقي إليه الحرب. فقال: قد كان ذاك، ولكني كرهتُ أن أفتات دونكم بأمرٍ. قال عباد : فقلت لابن خثيم : أو ليس كان قارب وهمَّ بالإسلام فيما بَلَغَنا ) يعني: هرقل، ما كاد يسلم؟ ( قال: بلى. لولا أنه رأى منهم، فقال: أُبغوني رجلاً من العرب أكتب معه إليه جواب كتابه ) أي: التمسوا لي رسولاً أكتب معه جواب كتابه. ( قال: فأتيت وأنا شاب فانطُلق بي إليه فكتب جوابه وقال لي: مهما نسيت من شيء فاحفظ عني ثلاث خلال ) يقول هرقل لرسوله: إذا ذهبت إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- أعطه كتابي ورسالتي، وإذا نسيتَ فلا تنسَ هذه الأشياء: ( انظر إذا هو قرأ كتابي هل يذكر الليل والنهار؟ وهل يذكر كتابه إليَّ؟ وانظر! هل ترى في ظهره عَلَماً؟ ).
رسول هرقل يقابل رسول الله:(/4)
( قال - رسول هرقل -: فأقبلت حتى أتيته وهو بتبوك في حلقة من أصحابه محتبين فسألت فأُخبرت به، فدفعت إليه الكتاب -رسالة هرقل- فدعا معاوية -وكان من كتاب الوحي، ممن يعرفون القراءة، وقد أسلم رضي الله عنه- فقرأ عليه الكتاب، فلما أتى على قوله: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ ) هرقل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء الليل فأين النهار؟ ) يعني: هذا رد على الشبهة، يقول: إذا جاء الليل فأين النهار؟ أين يذهب النهار؟ ( قال: فقال: إني قد كتبت إلى النجاشي فخرَّقه فخرَّقه الله مخرّق المُلك. قال عبَّاد: فقلت لابن خثيم: أليس قد أسلم النجاشي ونعاه رسول الله عليه الصلاة والسلام بالمدينة إلى أصحابه فصلى عليه؟ قال: بلى. ذاك فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، قد ذكره ابن خثيم جميعاً ونسيتهما ... ) يعني: أن كلمة النجاشي لقب ملك الحبشة ، كل مَن ملَك الحبشة يقال له: نجاشي، كل مَن ملَك الروم يقال له قيصر، كل مَن ملَك الفرس يقال له: كسرى، كل مَن ملَك اليمن يقال له: تُبَّع، كل مَن ملَك مصر يقال له: فرعون، كل مَن ملَك الإسكندرية يقال له: المقوقس، كل مَن ملَك الترك يقال له: خاقان، فكلمة ملك بالحبشية: نجاشي، بالمصرية: فرعون، بالإسكندرانية: مقوقس، بالتركية: خاقان، بالفارسية: كسرى، بالرومية: قيصر، لكن القياصرة لهم أسماء مختلفة، الفراعنة لهم أسماء مختلفة، والنجاشي هكذا أيضاً. فيقول له: النجاشي الذي أرسلت إليه الرسالة غير النجاشي الذي أسلم، ملكٌ آخر من ملوك الحبشة ، هذا المقصود. قيصر ملك الروم الذي أرسلت إليه الرسالة ما اسمه؟ اسمه هرقل ، وهو الذي نحن بصدده. كسرى أنوشروان ، له اسم، كسرى هذا لقب، معناه: مَلِك، مَلِك الفرس. (... وكتبتُ إلى كسرى كتاباً فمزَّقه فمزق الله ملكه -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- وكتبتُ إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خيرٌ ...) يقول: الحبشة لن تقوم لهم قائمة، ولن يوجد فيهم مُلكٌ قائم، وسيمزقهم الله لأنهم مزقوا الرسالة، ويقول: دولة فارس لن تقوم فيها مملكة لفارس ولن يحكموها ولن يدوم لهم الحكم، والله سيمزق ملك فارس كما أنهم مزقوا الرسالة، لكن يقول: هرقل ما مزق الرسالة، فسيبقى في الروم قوة. والناظر في الواقع يرى هذا جيداً، بعد كسرى تمزقت مملكة فارس، ما عاد هناك مِن مَلِك، كلها ثورات وحروب. وكذلك الحبشة لم يعد لها شأن، وصاروا أناساً متخلفين. والروم؟ اليوم أوروبا ما زال لهم قوة إلى الآن، والحروب الصليبية لا زالت موجودة إلى الآن. قال: (... وكتبت إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خيرٌ، ثم قال لي: مَن أين أنت؟ قلت: من تنوخ -رسول هرقل تنوخي- قال: يا أخا تنوخ! هل لك في الإسلام؟ قلت: لا. إني أقبلتُ من قِبَل قوم وأنا فيهم على ديني ولست مستبدِلاً بدينهم حتى أرجع إليهم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبسم، فلما قضيت حاجتي قمتُ، فلما وليت دعاني، فقال: يا أخا تنوخ! هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به -صاحبك أمرك بثلاثة أشياء، وأنت وجدت اثنتين، والثالثة ما أخذت خَبَرها، ما هي الثالثة؟ علامة الظهر- قال: هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به، قال: وكنت قد نسيتُها فاستدرت من وراء الحلقة، ويلقى بردة كانت على ظهره -أو يلقيها عن ظهره- فرأيت غضروف كتفه مثل المحجم الضخم) المحجم: المشرط الذي يشق به موضع الحجامة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين كتفه مجموعة عظام مثل هيئة بيضة الحمامة، خاتم النبوة، مستدير، بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، كان جميلاً موقعه، جميلاً شكله، وليس بعاهة ولا تشويه. هذه الرواية التي رواها الإمام أحمد في سندها رجل مقبول، فذكر نحو حديث عبَّاد بن عبَّاد ؛ وحديث عبَّاد أتم وأحسن، وزاد فقال: (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم وتلا هذه الآية: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))[القصص:56] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك رسول قوم، وإن لك حقاً -يعني: لا بد أن نكرمك ونضيفك-ولكن جئتنا ونحن مُرْمِلون -يعني: نفذ زادنا في تبوك - فقال عثمان بن عفان : أنا أكسوه حلة صَفُورية -ثوب من قطعتين- وقال رجل من الأنصار: عليَّ ضيافته، يعني: أنا أتكفل بضيافة هذا الرسول) . وقد أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه وعزاه إلى الإمام أحمد ، ثم قال: هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به، تفرد به الإمام أحمد رحمه الله. وأورده الهيثمي وقال: رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك. وهناك قصة أخرى تبين أشياء أخرى من التفاصيل رواها الحاكم في المستدرك ، وذكرها ابن كثير رحمه(/5)
الله في تفسيره تحت قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ... [الأعراف:157] الآية.
رواية أخرى عند البيهقي في دعوة هرقل للإسلام:
يقول: عن هشام بن العاص الأموي قال: [ بُعِثْتُ أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطه -يعني: غوطة دمشق- فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني ... ] والغساسنة عرب، لكن ولاؤهم للروم، وكان الروم قد وضعوا الغساسنة على حدود الجزيرة بينهم وبين العرب، حتى لا يدخل العرب بغاراتهم في بلاد الروم، والغساسنة يكفُون الروم العرب على الحدود، والروم لا يطمعون في أرضهم؛ لأنها صحراء قاحلة.
هشام بن العاص يطلب مقابلة هرقل:
يقول: [ قدمنا الغوطة -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير اللهو، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولاً وإنما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لن نكلم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك. قال: فأذن لنا -من هو الذي أذن؟ جبلة بن الأيهم ملك غسان- فقال: تكلموا. فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود؛ فقال له هشام : وما هذه التي عليك؟ قال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام . قلنا: ومجلسك هذا -والله- لنأخذنه منك ولنأخذن مُلك الملِك الأعظم -يقول هذا المسلم للغساني : سنأخذ مُلكك وملك الملك الأعظم الذي هو قيصر، إن شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سواداً. فقال: قوموا، وبعث معنا رسولاً إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريباً من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال. قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك، فأمرهم أن ندخل على رواحلنا فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة اللهو، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح. قال: فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراش اللهو وعنده بطارقة من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليهم ثياب من الحمرة. فدنونا منه فضحك، فقال: ما عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم -لماذا لم تسلموا عليَّ؟- وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام. فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيَّا بها لا يحل لنا أن نحييك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك. قال: فكيف تحيون مَلِكَكم؟ قلنا: بها. قال: كيف يرد عليكم؟ قلنا: بها -يعني: وعليكم السلام-. قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها. قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، أكُلَّما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم، وأني قد خرجت من نصف ملكي. قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حِيَل الناس. ثم سألَنَا عما أراد، فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه. فقال: قوموا، فأمر لنا بمنزل حسن، ونُزُل كثير فأقمنا ثلاثاً ].
هرقل يري هشام بن العاص وصاحبه صور الأنبياء:(/6)
قال هشام بن العاص: [ فأرسل إلينا هرقل ليلاً فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الرضعة العظيمة مذهَّبَة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتاً فاستخرج حريرة سوداء فنشرناها، فإذا فيها صورة حمراء، وفيها رجلٌ ضخم العينين، عظيم الإليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله. فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعراً -أي: الروم رسموا الأنبياء بناءً على معلومات عندهم-. ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القَطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن الهيئة. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح عليه السلام. ثم فتح باباً آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إبراهيم عليه السلام. ثم فتح باباً آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسمة- فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم. هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وبَكيْنا، قال: والله أعلم أنه قام قائماً ثم جلس، وقال: والله إنه لهو. قلنا: نعم. إنه لهو كأنك تنظر إليه. فأمسك ساعةً ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجَّلته لكم؛ لأنظر ما عندكم -الصورة هذه كانت في آخر شيء، يعني: هو آخر نبي-. ثم فتح باباً واستخرج صوراً، وأخبرهم عنها. ثم قال -في نهاية القصة-: أما والله إن نفسي طابت للخروج من مُلكي، وأني كنت عبداً لأشركم حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسَرَّحنا. فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فحدَّثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين، لو أراد الله به خيراً لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم -يعني: النصارى- واليهود يجيدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم ]. الحديث أخرجه البيهقي عن الحاكم رحمه الله في كتاب: دلائل النبوة . وقال ابن كثير : إسناده لا بأس به. على أية حال: على فرض صحة هذه القصة فإنها تبيِّن لنا أيضاً شيئاً آخر، لكن الرواية الأساسية هي رواية الإمام البخاري رحمه الله التي تبين أن هرقل فعلاً قارب أن يُسلم، بل هو أوشك على الإسلام، بل هو دعا قومه إلى الإسلام، لكن لما رآهم نفروا وخشي أن يزول ملكه تراجع، وقال بدهائه للروم: كنت أختبر ثباتكم على دينكم.
شرح رواية البخاري في دعوة هرقل للإسلام وفوائد من ذلك:(/7)
رواية البخاري رحمه الله هي عن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية لما أتى به هرقل ملك الروم في الركب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها وكانوا تُجَّاراً، والقصة حصلت في مدة صلح الحديبية وكانت في سنة (6) للهجرة، ومدة الصلح عشر سنين؛ لكن قريشاً نقضوا العهد، فالنبي عليه الصلاة والسلام غزاهم سنة (8) للهجرة، يعني بعد الصلح بسنتين، وفَتَحَ مكة ، وهذا بعد أن غدروا. فلما وصلت رسالة النبي عليه الصلاة والسلام لهرقل ، طلب بعضَ قريش ليسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدهم رسولُه ببعض الشام في غزة . يقول أبو سفيان : كنا قوماً تُجَّاراً وكانت الحرب قد حصبتنا -هذا يدل على أن الحرب أثرت على قريش اقتصادياً- فلما كانت الهدنة - يعني: صلح الحديبية - خرجت تاجراً إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما عَلِمْتُ بمكة امرأة ولا رجلاً إلا وقد حملني بضاعة، فقال هرقل لصاحب شرطته: قَلِّبِ الشام ظهراً لبطنٍ حتى تأتيني برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه، يقول أبو سفيان : فوالله إني لفي أصحابي بغزة إذ هجم علينا فساقنا جميعاً. و إيلياء هي: بيت المقدس ، وقيل: معناها: بيت الله، وإيلياء : هي التي سار إليها هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، وقد كان مكان ملك هرقل في حمص ، فسار من حمص إلى إيلياء -إلى بيت المقدس- مشياً شكراً لله تعالى، وكان سبب ذلك القصة التي جاءت من طرق متعاضدة كما قال ابن حجر رحمه الله وملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيراً من بلاده، وكان النصر في البداية للفرس على الروم، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطَّلع أميرُه على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فكان سبب عودة الكفة في الرجحان للروم انشقاقٌ حصل في الفرس. فلما حصل ذلك مشى هرقل إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى على ذلك. المهم: أُدخل سفيان ومن معه على هرقل ، قال: (فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج، وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان، ودعا بالترجمان. فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي -خرج بأرض العرب- يزعم أنه نبي؟ يقول أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً ...) فأبو سفيان يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ؛ و عبد مناف هو الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لأبي سفيان ، فيجتمعان في عبد مناف .
الإسلام دين عالمي:
منها: دعوة كل العالم إلى الإسلام وأن الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بالعرب :- الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بالجزيرة ، فالإسلام للعالمَين، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من الجزيرة أرسل الرسائل خارج الجزيرة ، وبدأت أولى خطوات الجهاد للروم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، والتحضير لغزو الممالك الأخرى خارج الجزيرة بدأ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجيش أسامة بن زيد كان مجهزاً لهذا الغرض. المهم: أن الإسلام دعوة لكل العالم وليس مختصاً بفئة دون أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل رسائل دعوة للروم وللفرس ولغيرهم.
ذكاء هرقل في معرفة صدق أبي سفيان:
فائدة ثانية: مِن فِعْل هرقل لما جاء بأبي سفيان ومعه أقاربه وضعهم وراءه، قال: (إن كذب فكذِّبوه) : إن ما أخبر الصدق قولوا بالحقيقة، ولا شك أن القريب أحرى بالاطلاع على الأمور الظاهرة والباطنة من غيره، ثم إنه لا يقدح في نسب قريبه. لماذا جعلهم وراءه؟ لماذا جعل قوم أبي سفيان وراء أبي سفيان، وليس أمامه؟ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، يعني: يكذبوه دون أن ينظروا في وجهه، يقول أبو سفيان : (فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا -ينقلوا- عليَّ الكذب لكذبت عليه) وهذا دليل على أن الكذب في الجاهلية كان عيباً كبيراً، وربما كان أبو سفيان يضمن أنهم لو كانوا وراءه لن يكذبوه؛ لأنهم مشتركون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما الذي منع أبا سفيان من الكذب؟ حتى لا يُنقَل عن سيد قريش إذا رجعوا أنه كَذَب؛ وهذا عيب كبير. قال أبو سفيان : (فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف) يعني: هرقل ، والأقلف: غير المختون. سأله عن النسب؛ وهذا يدل على أن هرقل يعلم بأن الأنبياء تُبعث في أنساب قومها، حتى لا يطعن أحد في نسب النبي، فيكون معروفاً لدى كل القوم نسب القبيلة التي يُبعث فيهم.
المؤمن لا يرتد عن دينه سخطاً عليه:(/8)
وكذلك في الحديث: أن الإنسان إذا آمن لا يرتد عن دينه ساخطاً على الدين وإنما يرتد لأسباب أخرى، وهذا في الإسلام، أما في غير الإسلام فإنه يرتد عن الدين سخطاً على الدين، يعني: ربما الواحد يكون الشخص نصرانياً، فيخرج من النصرانية ساخطاً عليها، وآخر يهوديٌ يخرج من اليهودية ساخطاً على اليهودية ؛ لأن ما فيها باطل؛ لكن لا يوجد شخص مسلم يدخل الإسلام ويعرفه ويفقهه تماماً، ثم يخرج من الإسلام؛ لأن هناك أخطاء في الإسلام، أو هناك نقاط ضعف في الإسلام، لا يمكن؛ لكن ربما يخرج من الإسلام لأمور دنيوية، ولذلك قال هرقل : هل هناك أحد من المسلمين ارتد عن دينه سخطةً لدينه؟ -يعني: ساخطاً على دينه- لا يوجد، لذلك قال أبو سفيان : لا. ففي الإسلام قد يرتد الشخص إما لأنه حديث عهد بالإسلام ولم يفقه الإسلام؛ وإما لأنه لا يريد دفع الزكاة، وإما لأنه أُغْرِي بمال، فعبيد الله بن جحش الذي ارتد في الحبشة ، وكان من مهاجري الحبشة وارتد في الحبشة، إنما ارتد لحظ في نفسه، وليس لأجل ضعف في الدين الإسلامي، وهذه نقطة مهمة، وهي أنه لا يوجد أحدٌ يدخل في الدين -والحمد لله- ويفقهه جيداً فيتركه ساخطاً عليه، وهذا ربما يقع في أديان أخرى، أما في الإسلام فإنه لا يقع، لكن ربما يعني لهوىً؛ كمال، أو أغروه بمنصب مثلاً؛ فهذا يُمْكِن.
تعامل هرقل مع الدسيسة في كلام أبي سفيان:
كذلك نقطة مهمة: هرقل عندما قال أبو سفيان : لكن نحن الآن في مدة لا ندري ماذا يصنع فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأدخل هذه الدسيسة يقول أبو سفيان : (فوالله ما التفت إليها مني) : هرقل عاقل وذكي، أخذ إجابات أبي سفيان بالنص، والدسيسة التي أدخلها أبو سفيان في الكلام قال: لكن الآن نحن في هدنة لا ندري ماذا يصنع فيها، هذه الدسيسة الوحيدة التي استطاع أن يُدخلها، ومع ذلك هرقل ما التفت إليها.
الغنى والجهل سببان في الصد عن سبيل الله:
كذلك في هذا الحديث: أن أتباع الرسل أكثر ما يكونون من الفقراء، لماذا؟ لأن العظماء والأغنياء يصرفهم غناهم وعظمتهم عن الحق؛ لأن الإسلام سيزيل شيئاً من مزاياهم، أو من ميزاتهم، فالآن هرقل لو دخل في الدين سيصبح مسلماً عادياً، يعني: مُلْكُه سيزول، وسيتنازل عن ملكه. أبو جهل مثلاً: إذا أسلم فإنه سيقلِّد النبي عليه الصلاة والسلام زمام الأمور. ما الذي منع عبد الله بن أبي من الإسلام، وصار منافقاً؟ كانوا يريدون أن يتوجوه ملكاً على المدينة ، فلما جاء الإسلام شرق به وغص، ما هضم القضية، لماذا؟ لأن المنصب الذي كان سيعيَّن فيه حُرِم منه بسبب دخول الدين الجديد إلى المدينة . إذاً: من أسباب صد كثير من العظماء والأغنياء عن الدين والحق الغنى والجهل، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني: المال والجاه يفسدان دين الإنسان أكثر من إفساد الذئب الجائع للغنم؛ وهذه مسألة مهمة.
الإيمان إذا وقر في القلب فإن صاحبه لا يرتد:
كذلك في هذا الحديث: أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإن صاحبه لا ينحرف: ولذلك كثير من المنتكسين ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبَهم، أو أنها لم تلازمهم هذه البشاشة وتبقى معهم، ولذلك انتكس.
الخوف على النفس يمنع من اتباع الحق:
كذلك في هذا الحديث: أن الخوف على النفس قد يمنع الشخص من اتباع الحق :- هرقل يقول: (والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته) ولو أن هرقل تفطن إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم) لكان ما أصابه شيء؛ لكن مع ذكائه ما تفطن لقوله عليه الصلاة والسلام: (أسلم تسلم) مع أنه قال: (لو أني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم لغسلتُ عن قدميه -يعني: مبالغة في العبودية والخدمة له- وقال: لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبِّل رأسه وأغسل قدميه) وكان وقعُ الرسالة على هرقل كبيراً يقول: (ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقاً من كرب الصحيفة) أي: عندما قُرِئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يقوي أن هرقل آثَرَ مُلكه على الإيمان واستمر على الضلال: أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة (8) هـ بعد هذه القصة بأقل من سنتين، فإن المسلمين نزلوا في معان ؛ معان : معروفة في أرض الشام ، ونزل هرقل في مائة ألف من المشركين وحدثت غزوة مؤتة .
الاختصار في الدعوة إلى الله:(/9)
وكذلك فإن في هذا الحديث: أن الإنسان عليه أن يختصر في الدعوة بأسلوب حسن واضح: فإن الرسالة كانت مختصرَة غاية الاختصار: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل . أدعوك بدعاية الإسلام) يعني: دعوة الإسلام وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. (أسلم تسلم) وهذا في غاية البلاغة. (يؤتك الله أجرك مرتين) : لماذا؟ لأنك تكون آمنت بالنبي الأول، وآمنت بالنبي المبعوث، وكذلك يكون لك الأجر مرتين؛ لأن بإسلامك يمكن أن يسلم أعدادٌ من قومك فتنال مثل أجرهم أيضاً.
فائدة فيمن تجري عليه أحكام أهل الكتاب:
وأخذ العلماء من الحديث: أن كل من دخل في دين النصرانية يُجْرَى عليه أحكام أهل الكتاب ولو كان أصلاً ليس من بني إسرائيل: يعني: البوذي الهندوسي إذا تنصَّر هل نأكل ذبيحته؟ نعم. إذا دخل في الدين، يُجرى عليه حكم أهل الكتاب. وقال بعض العلماء: الكتابي هو من كان أبواه كتابيين، فهذا الذي تؤكل ذبيحته. فأهل الكتاب لهم أحكام خاصة مع كفرهم تمييزاً لهم عن بقية المشركين ممن لا أساس لدينهم أصلاً. وكذلك فإن في قوله: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) وهم الزُّرَّاع والفلاحون الذين كانوا في مملكته، وفيه أن الأصاغر والضعفاء أتباع الأكابر والأقوياء: ويقول لهرقل : إذا أصدرت على الكفر فإن كل هؤلاء الضعفاء المقلدين لك في مملكتك من الزُّرَّاع والفلاحين إثمهم عليك، تكسب مثل إثمهم، قال: ( فإن عليك إثم الأريسيين ) . ففيها: أن من كان سبباً في إضلال غيره فإنه يتحمل مثل إثمه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13] . وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25] . إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166] . بعض العلماء قالوا: إن في هذا الحديث دليل على جواز قراءة الجنب للآية والآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى الكفار: فإذا لم يقصد الجنب التلاوة جاز؛ كأن يقول الجنب مثلاً: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وقصد الدعاء فلا حرج، فالجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن عند جمهور العلماء؛ إلا إذا قاله ليس على سبيل التلاوة وإنما على سبيل الدعاء أو الذكر، كأن قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] لو ركب دابةً، أو دعا بدعاء هو جزء من آية أو آية.
حصول التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة:(/10)
كذلك في هذا الحديث: أن التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم حصل بعدة أشياء :- حتى من جهة الجن، وحتى من جهة الكهان، وحتى من جهة المنجمين. يعني: الآن الكهانة والتنجيم ليس فيها علم المستقبل، ولا علاقة للنجوم بالأحداث الأرضية. ما معنى قول هرقل لما نظر في النجم قال: (هذا ملك هذه الأمة)، أو: (هذا مَلِك الختان) مَلِكُ الختان، أهل الختان، هذا ملكهم؟ أراد البخاري رحمه الله أن يبين أن الإشارات للنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق؛ من الكاهن والمنجم، الإنسي والجني، تعاضدت كلها، مع أن علم النجوم والاستدلال بالنجوم على الأحداث الأرضية باطل، والكهنة لا يعلمون الغيب؛ لكن اجتمعت كل الأدلة في وقت المبعث على هذا، يعني: عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام بالطرق الصحيحة وبالطرق الباطلة، عرفوا أنه سيخرج، وإلا هرقل كان حزَّاءً ينظر في النجوم ويتكهن، والكهان يستندون إلى إلقاء الشياطين، يعني: ما يلقيه الشيطان في نفس هذا الكاهن، وبعضهم يسترقون الخبر من السماء ويأتونه بالخبر، فطرق الحق وطرق الباطل كلها اجتمعت على خروج وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم. كان قوم هرقل يظنون أن الختان في اليهود فقط، ولذلك قالوا لهرقل : لا تقلق، إذا كنت تخشى من المختونين، المختونون هم اليهود، اكتب إلى كل المدن التي فيها يهود في مملكتك يذبحونهم وتنتهي القضية، لا يُهِمَّنَّك شأنهم، ما كانوا يعرفون أن الختان في المسلمين، ما كانت وصلت الأخبار، ثم وصلت الأخبار بعد ذلك وعُرف عن طريق هذا الرسول الذي جاءهم بالرسالة أن المسلمين يختتنون. ثم إن ضغاطر -وهو من عظماء الروم- لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أظهر إسلامه وألقى ثيابه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه، ولذلك هرقل خاف أن يلقى نفس المصير، فلم يسلم ثم ركب رأسه بعد ذلك وحارب المسلمين في موقعة مؤتة ، فحصل أن بعض عظماء الروم قد أسلموا فعلاً، ولأن قيصر قرأ الكتاب وطواه ثم رفعه، فستكون لدولته بقية، وأما كسرى فلأنه مزق الخطاب، النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يُمَزَّق ملكه، فلن تكون لهم بقية. قال السهيلي : أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة ، ثم كان عند سِبْطِه، قال: فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد - أحد قواد المسلمين- اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبره، وسأله أن يمكنه من تقبيله فامتنع -امتنع النصراني أن يترك المسلم يقبل الكتاب- فيقال: إن الرسالة -رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - بقيت عندهم.
بيان حقيقة قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
والقصة تبين حلقة من حلقات الدعوة التي كانت موجودة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه نفذ قول الله تعالى وأمره بالدعوة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] . وفيها فوائد كثيرة، ذكر بعضها الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح . فنكتفي بهذا القدر. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المنقادين إلى الحق الحريصين على اتباعه. والله أعلم.
الأسئلة:
حكم كشف الطبيبة على رحم الصائمة:
السؤال: هل الكشف على الرحم يضر بالصيام؟ الجواب: لا. كشف الطبيبة لا يضر بالصيام.
حكم خلع الجلباب عند النساء:
السؤال: ما حكم خلع المرأة للجلباب عند النساء؟ الجواب: إذا كانت تأمن من نظر الرجال فلا بأس، وإذا كانت لا تأمن فلا يجوز، وفي خلعه وعيدٌ شديد يُحمَل على مَن خَلَعَتْه وهي لا تأمن من نظر الرجال.
حكم ترك المكان الذي وقعت فيه المعصية:
السؤال: هذا يتحدث عن معصية ابتلي بها ولا يستطيع أن ينساها، وترك مكانه من بلده إلى هذا البلد هرباً منها. الجواب: هذا جزء من التوبة، جزءٌ من التوبة تركُ البلد إلى بلدٍ آخر؛ لأن الرجل الذي قتل مائة نفس، ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم. فالخروج من البلد الذي حصلت فيه المعصية أو المعاصي، أو فيه من يزين المعصية أو يعين عليها فإن هذا من تمام التوبة. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/11)
قصة وقوع شهوة النساء الأجنبيات في قلب النبي صلى الله عليه وسلم
إعداد/ علي حشيش
الحلقة التاسعة والستون
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت وانتشرت في كتب السنة المشهورة، ونقلها بعض الكتَّاب في الصحف وعلى سبيل المثال لا الحصر نشرت جريدة «صوت الأمة» في عددها (159) هذه القصة الواهية تحت عنوان «الحياة العاطفية للرسول» بخط عريض ثم بخط أقل «الرسول لم يستح من الحديث عن النساء والعشق والجنس»، هذه القصة التي اتخذها زنادقة الشرق والغرب وسيلة لإفكهم ليقولوا: «إن محمدًا كان شهوانيًا»، وإنهم لكاذبون، وإلى القارئ الكريم تخريج هذه القصة الواهية وتحقيقها لنبين جهل الجاهلين، بخاتم النبيين، وندحض حجج الملحدين.
أولاً: متن القصة:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في أصحابه، فدخل ثم خرج، وقد اغتسل فقلنا: يا رسول اللَّه، قد كان شيء ؟
قال: أجل، مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال».
ثانيًا: التخريج:
الحديث الذي جاءت به هذه القصة الواهية: أخرجه أحمد في «المسند» (18057/231/4) قال:
«حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية يعني ابن صالح، عن أزهر بن سعيد الحرازي قال: سمعت أبا كبشة الأنماري قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسًا في أصحابه... القصة، واللفظ له، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير قال: حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد اللَّه بن صالح حدثني معاوية بن صالح به».
وأخرجه الطبراني أيضًا في «المعجم الأوسط» (3275/158/4) قال: «حدثنا بكر به...».
ثالثًا: التحقيق
أ- هذه القصة التي أخرجها أحمد والطبراني من حديث أبي كبشة الأنماري، قصة غريبة، حيث تبين غرابتها من قول الإمام الطبراني في «الأوسط» (159/4): «لا يروى هذا الحديث عن أبي كبشة إلا بهذا الإسناد، تفرد به
معاوية بن صالح».
ب- هذا حتى لا يقول قائل بأن هذه القصة لها طرق أخرى عن أبي كبشة أو لها طرق أخرى عن أزهر بن سعيد الحرازي.
جـ- وهذه من أهم فوائد المعجم
الأوسط للطبراني؛ فيأتي في هذا الكتاب عن كل شيخ بما له من غرائب ولا بد لطالب هذا العلم أن يعلم هذا جيدًا، فالكتاب في الحقيقة كتاب غرائب ظهر فيه سعة رواية الطبراني وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وتمييز الطرق التي اشترك فيها عدد من الرواة عن هذا الراوي، عن الطرق التي انفرد بها بعض الرواة عن بعض، وهذا الأمر
لا ينقاد إلا لإمام جهبذ من جهابذة هذا الفن الدقيق الواسع، وقد تعب كثيرًا في إخراج هذا الكتاب على هذه الطريقة لذلك كان يقول رحمه الله: «هذا الكتاب روحي».
د- وعلة هذا الحديث الذي جاءت في متنه هذه القصة «أزهر بن سعيد الحرازي الحمصي:
إ- أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1173/312/2) وقال: «أزهر بن سعيد الحمصي روى عن: أبي أمامة وأبي كبشة الأنماري وغضيف بن الحارث، روى
عنه: معاوية بن صالح سمعت أبي يقول ذلك، قلت: لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وفرّق بينه وبين أزهر بن عبد الله جميع الحرازي حيث ترجم له برقم (1174) فهو مجهول.
2- وأورده الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (303/506/1) وقال: روى عنه:
عمر بن جُعْشم القرشي، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ومعاوية بن صالح الحضرمي.
قلت: ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً فهو مجهول.
3- نوع المجهول: «مجهول الحال»، وهو من روى عنه اثنان فأكثر لكن لم يوثَّق.
4- حكم روايته: الردُّ (على الصحيح الذي قاله الجمهور) كذا في «شرح النخبة» (ص/136) فالقصة: واهية مردودة عند الجمهور من أهل هذا الفن لجهالة أزهر والذي قال عنه ابن سعد: «كان قليل الحديث» كذا في
«تهذيب الكمال»، و«تهذيب التهذيب» (178/1).
5- قال الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (191/10):«كان معاوية بن صالح يغرب بحديث أهل الشام جدًا».
قلت: وأزهر بن سعيد الحرازي الذي روى عنه معاوية هذه القصة: حمصي شامي فهي من غرائب معاوية بن
صالح.
6- وبهذا ينطبق هذا القول على حديث القصة تمام الانطباق في قول الإمام الطبراني الذي خرجناه آنفًا:«لا يروى هذا الحديث عن أبي كبشة إلا بهذا الإسناد تفرد به معاوية بن صالح».
7- لذلك قال الذهبي في «الميزان» (8621/135/4) كان يحيى القطان يتعنت ولا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، ولينه ابن معين. وقال يحيى بن معين: «كان ابن مهدي إذا حدث بحديث معاوية بن صالح زجره يحيى بن سعيد».
8- قال الذهبي: «لم يخرج له البخاري... وترى الحاكم يروى في مستدركه
أحاديثه - يعني أحاديث معاوية بن صالح - ويقول: هذا على شرط البخاري فَيهم في
ذلك ويكرره». اهـ.
9- قلت: بل هذا الطريق الغريب الذي هو من غرائب معاوية بن صالح الذي يغرب بحديث أهل الشام جدًا وقد أغرب بحديث أزهر بن سعيد الحمصي الشامي المجهول في هذه القصة فلم يخرج له مسلم أيضًا حديثًا من هذا الطريق(/1)
الغريب المجهول.
10- وبهذا يتبين أن القصة واهية منكرة غريبة.
رابعًا: قرائن تدل على أن هذه القصة منكرة:
1- في رواية الطبراني في «الكبير»: «بينما رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس مرت به امرأة فقام إلى أهله فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطر».
قلت: وإن تعجب فعجب أن هذه القصة الواهية المنكرة تجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترك أصحابه جالسين
لأن امرأة مرت به فوقعت شهوة النساء في قلبه صلى الله عليه وسلم فقام ليأتي بعض أزواجه فأصابها،
كل هذا والصحابة رضي اللَّه عنهم جالسون ثم يغتسل ويخرج عليهم يقطر ونتساءل هل الصحابة أملك لأنفسهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وللإجابة عن هذا التساؤل والذي به تظهر نكارة هذه القصة فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي اللَّه عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه».واللفظ لمسلم في كتاب
«الصيام» (ح66) قال الإمام النووي في «شرح مسلم» لهذا الحديث: قال العلماء:
«معنى كلام عائشة رضي اللَّه عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه، ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة أو هيجان نفس ونحو ذلك، وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقتكم الإنكفاف عنها». اهـ.قلت: وبذلك فسره الترمذي في «السنن» (ح729) قال:
«ومعنى (لإربه) لنفسه». وفي موطأ مالك (ح650) تقول عائشة: «وأيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لذا قال الحافظ الزين العراقي: وهو أولى الأقوال بالصواب؛ لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث». اهـ.
2- هل الصحابة أغض لأبصارهم من النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتأثروا بمرور المرأة ويتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تقع في قلبه شهوة النساء ويترك أصحابه ويفعل ما يفعل وهو الذي أنزل اللَّه تعالى عليه:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [النور: 30].
وتظهر نكارة هذه القصة في أن اللَّه سبحانه أعطى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أطهر بصر
في العالمين، زكَّاه بقوله: ما زاغ البصر وما طغى [النجم: 17].
3- أم كيف تقع شهوة النساء في صدر النبي صلى الله عليه وسلم بمرور امرأة أجنبية وقد زكى اللَّه
تعالى صدره فقال: ألم نشرح لك صدرك [الشرح: 1].
4- هذا الفعل لا يفعله إنسان عادي في مجلسه فكيف بسيد ولد آدم يوم القيامة، وقد أخرج البخاري
ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في
خدرها». وبهذا يتبين من السنة الصحيحة المطهرة أن هذه القصة واهية منكرة.
5- وتظهر نكارة هذه القصة من أن النبي صلى الله عليه وسلم من أخشاهم لله وأتقاهم له فقد أخرج
البخاري من حديث أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: «... إني لأخشاكم لله وأتقاكم
له...». فليحذر القارئ الكريم من مثل هذه القصص الواهية التي يتخذها زنادقة
الشرق والغرب للطعن في خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ويلبسون على من لا دراية له بهذا
العلم أن هذه القصص موجودة في كتب السنة.
خامسًا: قصة أخرى واهية:
1- هذه قصة أخرى واهية منكرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأعجبته فلم يملك نفسه فأتى زوجته
سودة وعندها نساء، فلم يملك النبي صلى الله عليه وسلم نفسه حتى تخرج الصحابيات وأخذ سودة من
بينهن وأختلى بها حتى قضى حاجته.
2- القصة أخرجها الدارمي في «السنن» (196/2)
(ح2215) قال: «أخبرنا قبيصة، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن
حلاَّم عن عبد اللَّه بن مسعود قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته فأتى سودة
وهي تصنع طيبًا، وعندها نساء فأخليته فقضى حاجته...».
التحقيق: الحديث الذي جاءت به هذه القصة «ليس صحيحًا» والقصة منكرة، وعلتها عبد اللَّه بن حلاّم.
ولقد أورد هذه القصة الحافظ الذهبي في «الميزان» (4280/412/2) وجعلها من مناكير عبد اللَّه بن حلاَّم حيث قال: «عبد اللَّه بن حلاَّم عن ابن مسعود مرفوعًا: إني رأيت امرأة فأعجبتني...» الحديث رواه أبو إسحاق عنه وبعضهم وقفه لا يكاد يعرف». اهـ.
قلت: فهو مجهول العين فحديثه مردود ولا يصلح للمتابعات
والشواهد، وهكذا تأتي هذه القصص الغريبة المنكرة، فنكشف بفضل اللَّه وحده عوارها ونبين بطلانها.
هذا ما وفقني اللَّه إليه، وهو وحده من وراء القصد.(/2)
قصص الإسلام في أفريقيا
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
قصص عن الإسلام في أفريقيا نستشعر بها عظمة نعمة الله - عز وجل - علينا ويتضح من خلالها مدى تفريطنا وتقصيرنا في القيامِ بواجبنا تجاه دينيا .
هذه القارة السوداء - كما تسمى - رصَدَت المسيحية النصرانية لها الآلاف من الملاين لتنصيرها ، وجعلت لذلك إمكانيات هائلة ضخمة ، يكفي أن نّعلم أن الإنجيل مترجم إلى ستمائة لغة ولهجة من لغات دارجة لا يعرفها إلا أصحابها من أهل القبائل والقرى البعيدة النائية ، وقد رأيت بعيني نسخاً من هذا الإنجيل مطبوعةً بالحروف اللاتينية عن اللغات واللهجات المحلية .
وإذا أضفنا إلى ذلك الجهود الإعلامية الضخمة في عموم التنصيري لوجدنا إن هناك أكثر من أربعة آلاف وستمائة قناة تلفزيونية وإذاعية ، خاصة بنشر المسيحية والتنصير ، وإذا أضفنا إلى ذلك فانا واجدونا آلافاً من الدعاة الذين يشرّقون ويغرّبون ، وتكاثفت وتعاظمت جهودهم في هذه القارة الإفريقية السوداء .
وإذا مضينا سنرى مصداق قول الله جل وعلا : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وسنرى تصديق قوله جل وعلا : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبن لهم أنه الحق } .. سنرى نور الإسلام يبدد الظلمات مع تقصير المسلمين وتفريطهم ، ومع ندرت وقلة دعاتهم ، ومع تبدد وضعف جهودهم .
ولعلي هنا أشرع في ذكر بعض قصصاً عرفتها أو لامستها من خلال زيارات ميدانية:
جوزيف نصرانيٌ مسيحيٌ نشأ في ظلال الكنيسة ، التي تعطي للناس طعاماً لبطون جائعة فارغة ، وتقدّم لهم كساءً لأجسادٍ ناحلة عارية وتعطيهم دواءً لأجسادً سقيمة بالية وتقدم لهم خدمات تجعلهم لا يملكون إلا إن تخفق قلوبهم بالشكر الحمد لمن يُقدّم لهم ذلك ، ثم بالموافقة والمتابعة له ، وقد تقدّم هذا الرجل في النصرانية ، وبلغ شأناً عظيماً حتى بعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية ؛ ليحصل على الدرجة الماجستير في علوم اللاهوت والكنيسة ، وفي أثناء دراسته تلك ، وبحكم التخصص كان يمر على موضوعات فيها مقارنة بين الأديان ، ويقرأ من الكتب مالا يجد فيه سطراً أو كلمة تذكر الإسلام بخيرٍ مطلقاً .
وغريزة البحثِ ومعرفة بعض أسباب التناقض في تلك الديانات المحرفة قادته إلى أن يبحث أكثر عن الإسلام بنفسه بتوفيق من الله جل وعلا لم يكن من تقدم له بدعوة ولا من أهداه كتاباً ولا من ناظره في مسألة ، وإذا بنور الحق يبدد ظلمات الظلم ، وإذا به يدخل الإسلام ويعلن إسلامه ويشهره لتُسلب منه سيارته ، ويقطع راتبهُ ، وتلغى امتيازاته ، ويصبح اليوم لا يملك مالاً يدرّس به أبناءه ، وله اثنين منهم في بيته لا يخرجون للدراسة والتعلم ..
أي شي صنع هذا الرجل رغم كل هذه الظروف ؟ قد نذر نفسه أن يدعوا في داخل الصفوف المسيحية الكنسية من أبناء جلدته وبلدته ، وإذا به يدخل في الإسلام المدير العام للمناهج في الكنيسة المسؤول الأول عن التعليم المنهجي للكنائس المختلفة .. يدخل في الإسلام بدعوة قسيس سابقٍ حائزٍ على درجات علمية عالية في تخصصات اللاهوت الكنسي ويمضي وراء ذلك ، وإذا به يكتسب من هؤلاء واحداً إثر واحد وهو - كما قلت - إلى يوم الناس هذا لا يملك ما يدرس به أبناءه بعد إن كانت عنده من الإمتيازات الحضوة ما عنده احسب أنني في غنى عن التعليق ، وسأزيدكم من ذلك الكثير والكثير .
وهذا جون مري بوبو أيضا قسيس نصرانيٌ أفريقياٌ وصل إلى مرتبة رئيس الأساقفة في بلد إفريقي ، ومرة أخرى يقول من خلال المقارنة وبعض الأبحاث العلمية ورؤيته للمظاهر فحسب التي يؤديها المسلمون في صلاتهم وبعض عبادتهم ومناسبتهم ، قال : " وجدت أن عقلي يدعوني ، وقلبي يوافقني ، ونفسي تطاوعني أن هذا الإسلام هو الحق " ، فأسلم وأشهر إسلامه ، ومنذ إسلامه إلى يوم الناس هذا أسلم على يديه نحو خمسة آلاف إنسان من أولئك الذين اجتالتهم عن الحنيفية السمحة وأصل الفطرة تلك الجهود التنصرية التبشيرية العظيمة .
ما الذي جرى له بعد إن كان رئيساً للأساقفة ؟ حِيكت حوله المؤامرات من قِبَل الكنيسة المتنفذة ، في أثناء سفره خارج بلاده حُرِقَ منزله ، وقتل ومات في هذا الحريق توأمان من أبناءه ، ثم بعد فترة أعُيد إحراق منزلهُ وتعرض للقتل ثلاث مرات ، وهو ويقول في آخر هذه المعاناة : " أنا اشعر براحه وإطمئنان لأنني استشعر الآن أن الله معي " .
ألا يدلنا ذلك على الحقيقة العظيمة في قوة هذا الدين وإنه الحق والفطرة العقل والرشد الهداية إلا يكشف لنا ذلك كم من أمثال هؤلاء من لم تتيسر له الأسباب وقصرت جهود المسلمين وعجزت عن أن تقول لهم كلمات ، أو أن تقدم لهم صفحات ، أو أن تسمعهم بعض الآيات ليكون هذا القدر اليسير كافياً في بيان الحق لهم ، وإنارة الطريق أمامهم .(/1)
ونزيد مرة أخرى من بلدٍ أفريقيٍ ثالث ، يقول هذا الرجل : خدمت المسيحية بكل ما أستطيع ، وتدرجّت في السلم الكنسي حتى وصلت إلى المراتب العليا في الكنيسة ،كنت محباً للقراءة الإطلاع لا يقع في يدي كتاب متعلقٌ بالإنجيل إلا قرأته ، ثم قرأتُ في كتابٍ إنجيلي متناول للإسلام ومتسائل ، وجدت فيه هذا الإسلام دين سماوي أم لا أنهم يشككون في أن الإسلام دين من عند الله أو لا فينكرون كتابه وينكرون رسوله وينكرون وحيه قال فقادني ذلك إلى البحث وبدأت انقد هل الإسلام دين سماوي أولا حتى أسلمت وكتبت دراستي عن إسلامي وأسبابها وكشفت التناقضات التي وقفت عليها من خلال البحث العلمي في التوراة والإنجيل ، وفيما يدور في تلك الكنائس ، وأخرجت دراستي هذه ونشرتها وبيّنتُ حقيقة المعلومات الخاطئة المحرفة في الكتب الإنجيلية عن الإسلام ، حينئذٍ وقعت له ما وقعت من الأمور ، لكنه وقد دعا إلى الإسلام أدخل في دين الله الحق نحو من مائتين نفس .
وهكذا سنجد العجائب ونرى الآثار ولو مضينا لوجدنا أكثر من هذا ، لكننا نقول : إذا كان الحق بذاته يقنع ، وإذا كان النور بطبعه يضئ فما بالنا لا نقدّم الحق ولا نأخذ النور لنوصله إلى الناس ؟!
خذوا هذه القصة العجيبة وقد رأيت أصحابها الذين لا نسوها وعايشوها .. مدرسة إسلامية أقامها بعض الغيورين من الدعاة في بعض المناطق التي بيوتها من الطين ، وأهلها في غاية الفقر ، ولهم أصول مسلمة ، لكنهم مضيعون لإسلامهم .. هذه المدرسة تضم مائتين وخمسين طفلاً في المرحلة الابتدائية ، عندما بدأت المدرسة كانوا يسألون الطلاب في أول الدوام في الساعة الثامنة : هل صليتم الفجر ؟ فلم يكن أحدٌ منهم يعرف الفجر ، ولا يعرف أن أسرته تصلّي ، فكانوا يعلمونهم الوضوء ويصلون بهم جماعة في هذا الوقت المتأخر كل يوم ، فكانت المدرسة برنامجها يبدأ كل يوم صباحاً بالوضوء وأداء صلاة الفجر لغرض التعليم والتنبيه ، وبعد ذلك وبأيام وأسابيع يسألون : من أدى الفجر ؟ فإذا بخمسة أو عشرة قد بدأوا يصلّون ويعرفون من التعليم .. ليست هذه هي القصة ، بجوار هذه المدرسة يسكن رجل رأى هذه المدرسة بعد فترة من الزمن وهو مجاور لها يراقبها ذهب بابنه وقال : أريد أن يكون ابني طالباً في مدرستكم – لماذا ؟ - قال : لأني رأيتكم تحرصون على نظافتهم وعلى الناحية الصحية ، وتقومون بأمور رياضية تليق وتصح أبدان الأطفال ، ثم رأيت انتظام المدرسة وجوّها التربوي العام ، وهو لا يعرف شي عن هذا ، فعندما أردوا تسجيل ابنه وسألوا عن اسمه وجدوا أنه قسيس نصراني ومسيحي نصراني ، وعندما قالوا له : إنها مدرسة إسلامية ، قال : أريد ابني أن يتعلم فيها ؛ لأني أرى فيها من الخير ومن النظام الانتظام ما أشعر أن فيه الخير ، وسجّل ابنه وهو مسيحي نصراني في مدرسة إسلامية ؛ لأن المسيحية والنصرانية لا تعني لهم شيئاً في حقيقة الأمر ، ولا تعني اعتقاداً راسخا ويقيناً جازماً ، وإنما هي بعض الضلال ، وبعض الأعمال التي أساسها الخدمات والإعانات ونحو ذلك .
هذه مسائل كثيرة وقصص مؤثرة معبرة ، لكنني أنتقل بكم إلى جانب آخر ، لعله يصيبنا بالحزن والأسى ، ولكنه يواجهنا بالحقيقة المُرّة .. أقوامٌ ربما في كثير من الأحوال أصولهم إسلامية ، وهم في هذه البلاد ناطقون بالعربية يفعلون أموراً أعلم أن بعضهم لا يصدقها ، لكنها حقيقة واقعة في بعض تلك المناطق النائية والقرى البعيدة ، أقام أحدهم حفلاً ومأدبة بقدر جهودهم وطاقاتهم وأحوالهم ، فلما سأل هؤلاء الدعاة عن المناسبة ؟ قيل : هذا يوم سابع لمولود - فهي بما نفهم نحن كأنما هي وليمة العقيقة - وعندما سألوا وجدوا أن هذه الفتاه أم هذا الوليد لازوج لها ، وهذا معروف عند أبيها وعند بعض قبيلتها ولا يجدون في ذلك غضاضة ولا إثماً ولا حرجاً ولا شيئاً يعتبرونه عيباً مع أقل تقدير ، ثم بعد السؤال وجدوا أن هذا المولود هو الخامس من هذه المرأة ، ويعملون له الوليمة في اليوم السابع على سننٍ من آثار قديمة من العقيقة ولا يرون في ذلك شيئاً .
ولقيتُ رجلاً مرّت به حادثة مشابهة ، وكان موجوداً ودعي إلى وليمة فلم يجب ، ثم لقي والد الفتاة في اليوم التالي فسأله عن الوليمة فأجابه وعن الحقيقة فأقر بها قال له إلا تعرف إن هذا يعد زنا قال بلا قال فكيف تصنع هذا قال كلنا كذا لك ولا أحد منا يعيب ذلك ونحن سائرون على ذلك .
بل وهذه قصة رأيت من شهدها سمعة منه مباشرة أحدهم في مقر مدينة وأهله في مدينة أخرى يكتسب رزقه وعيشة ، وله أكثر من عامين لم يرجع إلى بلده إلى أهله ، وإذا به جاء يوزّع في يوم بعض الحلوى في العمل وعندما سألوه عن السبب أو المناسبة ؟ قال رزقت بمولود وهو غائب عامين عن أهله ويعرف إن هذا المولود ليس منه ويفرح به ويوزع ويعلن وهو في عاصمة إسلامية في بلاد عربية إفريقية إن هذه الأحوال تقودنا إلى أن نفكر هل نحن غير مغنين بذلك هل لا تلحقنا المسؤلية عن هذه الأحوال(/2)
وعن بلد مثل جنوب السودان فيها نحو خمسة وستين في المائة من الوثنين الذين لا يعرفون ديناً سماوي وبعضهم يعبد الشمس وبعضهم يعبد القمر .
يقول رجل من أوغندا أسلم يحكي قصته يقول : " إننا في أوغندا في مناطقنا وثنيون لا دين لنا ، هناك من يعبد الشمس وهناك من يعبد القمر ولقد كنت فكر في أن هذه الأمور غير صحيحة أعتقد أن هناك إله اكبر من الشمس والقمر " ثم ذهب وزار عاصمة لبلد إسلامي عربي ، وسأل عن الإسلام وأسلم وهو يقول بكلمات جميلة مشرقة : كأنني ولدت من جديد ، رأيت النور لأول مرة في حياتي ، كنت أعيش في ظلم وضلال وكفر ، وأصبحت أعيش في نور وهداية وطمأنينة وسلام بعد أن نطق بالشهادتين شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله ، كم من مثل هذا لم يتسنه له ذلك مازال يعيش الصفة التي وصف بها حياته في ظلم وكفر وجهل وبعد عن الدين والحق ..
ألسنا مسئولون عن تبليغ دين الله ؟ دعوني أقول لكم شيئاً ربما نعظم به المسولية تجاه أنفسنا ؛ لأنني أعلم أن كثيرين سيقولون : وماذا عسى أن نفعل ونحن لسنا علماء أو لسنا دعاة ؟! فأقول ألا تعرف شهادة إن لا اله ألا الله وأن محمد رسول الله إلا تعرف أن تتكلم عن الإسلام الذي تمارسه إلا تعرف قرأت الفاتحة وغيرها ذلك لا يعفيك من هذا الباب ..
وأذكر هنا بعضاً من الأرقام ؛ حتى نقارن ونرى حتى بمكاننا فعل شي كفالة داعية مسلم يذهب إلى بعض تلك المناطق ، وقطعاً - بعون الله وتوفيقه - يكون له من الأثر في إسلام الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور مالا يمكن تصوّره في كثير من الأحوال ، كم يحتاج هذا الداعية في البلاد النائية الظروف الصعبة ؟ ( 750 ) ريالاً في الشهر تسيّر مدرسة كالذي ذكرت لكم خبرها ، بما فيها من إطعام الطلاب ؛ لأنهم لا يجدون الطعام ولا يملكون مالاً لتوفير الأوراق والأقلام والدفاتر والمراسيم ونحو ذلك .. العام الكامل لمأتيين وخمسين طالباً ثلاثة وعشرون ألفاً ، أليس هذا المبلغ يدفع اليوم في هذه الأيام مثله وضعفه في ليلة واحدة في عرس من الأعراس ، ويهدر من المال ويتلف من الطعام ما قد يكون به هداية أقوام وفئام من الناس ، وتعليم أجيال من هؤلاء الأطفال المحرمون من هداية الإسلام ونور القرآن .. دخل المسيحيون إلى هذه الفئات أخذوا أبنائهم علموهم وهم جهّال جعلوهم يدرسون إلى المراحل الثانوية ، بل والجامعية ، بل والعالية في البلاد بل وخارجها .
وكفالة تعليم طالب في المرحلة الثانوية لعام كامل ( 850 ) ريالاً ، أظنكم تعرفون أن أي مدرسة ابتدائية في أدنى مستوى في بلادنا خاصة لا يستطيع الطالب أن يدرس فيها ألا بألفين أو ثلاثة على أقل تقدير ، وهذه رسوم مع الإعاشة والكفالة الشاملة ، والطالب الجامعي كفالته ( 2250 ) ريالاً .
لا نقول هذا لنذكر الأرقام ، ولكن لندرك أن مثل هذا المال نحن قادرون من جيوبنا أو من حولنا أن نقدم شي منه ، ويكون له من الأثر العظيم ما لعله على أقل تقدير يخفف عنا المسؤلية والأمانة التي هي منوطة بأعناقنا وواقعة على كواهلنا .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن من تقوى الله أن نسعى ونبذل في الدعوة إلى الله ، وأن نشارك ونسهم ولو بألسنتنا بأقوالنا وأموالنا وجهودنا .. ولو بأوقاتنا وأفكارنا ؛ فإن الله - عز وجل - سائلنا عن ذلك ، وإن نعم الله التي يجب علينا شكرها عظيمة .. نحن مَنَّ الله علينا بأيمان وإسلام وعلم ومعرفة ، ومساجد كثيرة يذكر فيها اسم الله ، وأحوال مادية أقل ما يقال فيها أن فيها الكفاف ، وفوق ذلك بين أيدينا من الوسائل والكتب والأشرطة والإذاعات ما نستطيع أن نستفيد بها وننتفع منها كثيراً ، ثم نحن لا نفكر - مجرد تفكير - في دورنا في خدمة ديننا ، وفي واجبنا في شكر نعم الله - سبحانه وتعالى - علينا !
ليست هذه القصص والأنوار التي تشرق في القلوب في أفريقيا بل في أعماق أوروبا المتحضرة وفي أعماق أمريكا وغيرها ، وهي شهادات ناطقة حية على قوة هذا الدين ، وعلى صلاحية فطريته وقوة حجته ، وعلى انطباعه وانطباقه على ظروف الحياة المختلفة ، والمستجدة فلئن كان البعض يقول : إن الأفارقة في أحوال تعليمة ومادية ومعيشية يمكن أن تكون هذه الأسباب جاذبة لهه من الإسلام فما نقول في الأوربيون والأمريكيون ؟ عندهم تعليم كامل ، وعندهم مادة كثيرة ، وعندهم رزق ورغد عيش وافر ، فما بالهم أيضا يدخلون إلى الإسلام .(/3)
قصة واحدة أذكرها من فلندا رأيت صاحبها ولقيته وتحدث إليه .. شاب دون العشرين ، مسلم اسمه ميكائيل ، ومقبل على الخير ، وحضر معنا دورة علمية فيها محاضرات إسلامية ويترجم له ، وسألته عن قصة إسلامه فأخبرني أنها قصة امتدت سبع سنوات .. كان له زميل في المدرسة صومالي مهاجر إلى تلك البلاد - انظروا كيف يسوق الله الخير وكيف تجري به أقداره - قال وكان زميلي في فصل المدرسة بحكم أنه جديد ضعيف في الدراسة يحتاج إلى مساعدة فكنت معه على مدى سبع سنوات أساعده في الرياضيات والفيزياء الكيمياء واللغة وغير ذلك ، وتوطدت بيننا أواصر الصلة والصداقة والصحبة ، وكانت نقاشات تدور بيننا عن الدين وعن الإسلام ، وإذا به يذكر أنه يصلي ويتوضأ ويتطهر ويتناقش في ذلك ، وزرت بعد ذلك قرأت في ترجمات معاني القرآن حتى أسلمت على مدى سبع سنوات .
شاب في عمر العشرين والشباب هناك غارقون حتى أذنهم في الشهوات والملذات ، فسألته عن ذلك ، قلت له : كيف كان تأثير تحول الإسلام في حياتك ؟ وربما كانت لك حياة سابقة فيها وفيها ، فعجبت عندما قال : إنني كنت في كل السنوات كلها وبحكم أن له أسرة فيها شي من المحافظة الأخلاقية قال كنت لا أشرب الخمر ولا أحضر الحفلات المختلطة مطلقاً - بقيت له بفضل الله عز وجل فطرة سوية – وهكذا ستجد في كل مكان ما يدل على عظمة هذا الدين ..
ولكنه كذلك من جهة أخرى يكشف عن تفريط تقصير المسلمين ، وأنهم يستطيعون لو فعلوا وخدموا دينهم أن يفعلوا الكثير ، بدلاً من أن يتراشقوا بتهم ويختصموا فيما بينهم أو يبددوا أموالهم في الترف السفهي فيما ليس ورائه طائل ، بل فيما فيه مغبة ومذمة .
وهنا اذكر آخر معلومة مهمة إحصائية من الأمم المتحدة قبل نحو أربعة أو خمس سنوات أو ست سنوات على وجهه التحديد ، تقول فيها : " إن أعلى الديانات التي تكتسب أشخاص جدد هي ديانة الإسلام " ، وليس هذا في كل عام تقريباً لكن تلك الإحصائية تقول : إن الدين الذي يليه هو المسيحية والفارق بينهما ستة أضعاف " أي انه إذا دخل في المسيحية ألف فإن الداخلون في الإسلام ستة آلاف ، مع تقصير وتفريط ومع ما هناك من جهد وبذل كبير من قِبَل المسيحيين ذكره بعض من أسلم ممن بلغ مراتب عالية في الكنيسة - وأختم به مقالنا - يقول هذا الأسقف - الذي كان أسقف جوهان سبيت في جنوب أفريقيا وأسلم - يقول : " من المؤسف حقاً أن الجهود التنصرية لا تشكوا أي نقص تنظيمي أو حركي أو مالي أو معنوي ، وهذا ما نفتقده عند دعاة الإسلام فضلاً عن المشاكل الاجتماعية والسياسة والاقتصادية " .
لذا لابد أن نتحمل مسؤوليتنا وأن نخدم ديننا وأن نبذل لدعوتنا ، نسال الله - عز وجل - أن يوفقنا لذلك .
هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc
عنوان المقال
http://islameiat.com/doc/article.php?sid=419(/4)
قصص الإسلام في إفريقيا
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
قصص عن الإسلام في أفريقيا نستشعر بها عظمة نعمة الله - عز وجل - علينا ويتضح من خلالها مدى تفريطنا وتقصيرنا في القيامِ بواجبنا تجاه دينيا .
هذه القارة السوداء - كما تسمى - رصَدَت المسيحية النصرانية لها الآلاف من الملاين لتنصيرها ، وجعلت لذلك إمكانيات هائلة ضخمة ، يكفي أن نّعلم أن الإنجيل مترجم إلى ستمائة لغة ولهجة من لغات دارجة لا يعرفها إلا أصحابها من أهل القبائل والقرى البعيدة النائية ، وقد رأيت بعيني نسخاً من هذا الإنجيل مطبوعةً بالحروف اللاتينية عن اللغات واللهجات المحلية .
وإذا أضفنا إلى ذلك الجهود الإعلامية الضخمة في عموم التنصيري لوجدنا إن هناك أكثر من أربعة آلاف وستمائة قناة تلفزيونية وإذاعية ، خاصة بنشر المسيحية والتنصير ، وإذا أضفنا إلى ذلك فانا واجدونا آلافاً من الدعاة الذين يشرّقون ويغرّبون ، وتكاثفت وتعاظمت جهودهم في هذه القارة الإفريقية السوداء .
وإذا مضينا سنرى مصداق قول الله جل وعلا : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وسنرى تصديق قوله جل وعلا : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبن لهم أنه الحق } .. سنرى نور الإسلام يبدد الظلمات مع تقصير المسلمين وتفريطهم ، ومع ندرت وقلة دعاتهم ، ومع تبدد وضعف جهودهم .
ولعلي هنا أشرع في ذكر بعض قصصاً عرفتها أو لامستها من خلال زيارات ميدانية:
جوزيف نصرانيٌ مسيحيٌ نشأ في ظلال الكنيسة ، التي تعطي للناس طعاماً لبطون جائعة فارغة ، وتقدّم لهم كساءً لأجسادٍ ناحلة عارية وتعطيهم دواءً لأجسادً سقيمة بالية وتقدم لهم خدمات تجعلهم لا يملكون إلا إن تخفق قلوبهم بالشكر الحمد لمن يُقدّم لهم ذلك ، ثم بالموافقة والمتابعة له ، وقد تقدّم هذا الرجل في النصرانية ، وبلغ شأناً عظيماً حتى بعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية ؛ ليحصل على الدرجة الماجستير في علوم اللاهوت والكنيسة ، وفي أثناء دراسته تلك ، وبحكم التخصص كان يمر على موضوعات فيها مقارنة بين الأديان ، ويقرأ من الكتب مالا يجد فيه سطراً أو كلمة تذكر الإسلام بخيرٍ مطلقاً .
وغريزة البحثِ ومعرفة بعض أسباب التناقض في تلك الديانات المحرفة قادته إلى أن يبحث أكثر عن الإسلام بنفسه بتوفيق من الله جل وعلا لم يكن من تقدم له بدعوة ولا من أهداه كتاباً ولا من ناظره في مسألة ، وإذا بنور الحق يبدد ظلمات الظلم ، وإذا به يدخل الإسلام ويعلن إسلامه ويشهره لتُسلب منه سيارته ، ويقطع راتبهُ ، وتلغى امتيازاته ، ويصبح اليوم لا يملك مالاً يدرّس به أبناءه ، وله اثنين منهم في بيته لا يخرجون للدراسة والتعلم ..
أي شي صنع هذا الرجل رغم كل هذه الظروف ؟ قد نذر نفسه أن يدعوا في داخل الصفوف المسيحية الكنسية من أبناء جلدته وبلدته ، وإذا به يدخل في الإسلام المدير العام للمناهج في الكنيسة المسؤول الأول عن التعليم المنهجي للكنائس المختلفة .. يدخل في الإسلام بدعوة قسيس سابقٍ حائزٍ على درجات علمية عالية في تخصصات اللاهوت الكنسي ويمضي وراء ذلك ، وإذا به يكتسب من هؤلاء واحداً إثر واحد وهو - كما قلت - إلى يوم الناس هذا لا يملك ما يدرس به أبناءه بعد إن كانت عنده من الإمتيازات الحضوة ما عنده احسب أنني في غنى عن التعليق ، وسأزيدكم من ذلك الكثير والكثير .
وهذا جون مري بوبو أيضا قسيس نصرانيٌ أفريقياٌ وصل إلى مرتبة رئيس الأساقفة في بلد إفريقي ، ومرة أخرى يقول من خلال المقارنة وبعض الأبحاث العلمية ورؤيته للمظاهر فحسب التي يؤديها المسلمون في صلاتهم وبعض عبادتهم ومناسبتهم ، قال : " وجدت أن عقلي يدعوني ، وقلبي يوافقني ، ونفسي تطاوعني أن هذا الإسلام هو الحق " ، فأسلم وأشهر إسلامه ، ومنذ إسلامه إلى يوم الناس هذا أسلم على يديه نحو خمسة آلاف إنسان من أولئك الذين اجتالتهم عن الحنيفية السمحة وأصل الفطرة تلك الجهود التنصرية التبشيرية العظيمة .
ما الذي جرى له بعد إن كان رئيساً للأساقفة ؟ حِيكت حوله المؤامرات من قِبَل الكنيسة المتنفذة ، في أثناء سفره خارج بلاده حُرِقَ منزله ، وقتل ومات في هذا الحريق توأمان من أبناءه ، ثم بعد فترة أعُيد إحراق منزلهُ وتعرض للقتل ثلاث مرات ، وهو ويقول في آخر هذه المعاناة : " أنا اشعر براحه وإطمئنان لأنني استشعر الآن أن الله معي " .
ألا يدلنا ذلك على الحقيقة العظيمة في قوة هذا الدين وإنه الحق والفطرة العقل والرشد الهداية إلا يكشف لنا ذلك كم من أمثال هؤلاء من لم تتيسر له الأسباب وقصرت جهود المسلمين وعجزت عن أن تقول لهم كلمات ، أو أن تقدم لهم صفحات ، أو أن تسمعهم بعض الآيات ليكون هذا القدر اليسير كافياً في بيان الحق لهم ، وإنارة الطريق أمامهم .(/1)
ونزيد مرة أخرى من بلدٍ أفريقيٍ ثالث ، يقول هذا الرجل : خدمت المسيحية بكل ما أستطيع ، وتدرجّت في السلم الكنسي حتى وصلت إلى المراتب العليا في الكنيسة ،كنت محباً للقراءة الإطلاع لا يقع في يدي كتاب متعلقٌ بالإنجيل إلا قرأته ، ثم قرأتُ في كتابٍ إنجيلي متناول للإسلام ومتسائل ، وجدت فيه هذا الإسلام دين سماوي أم لا أنهم يشككون في أن الإسلام دين من عند الله أو لا فينكرون كتابه وينكرون رسوله وينكرون وحيه قال فقادني ذلك إلى البحث وبدأت انقد هل الإسلام دين سماوي أولا حتى أسلمت وكتبت دراستي عن إسلامي وأسبابها وكشفت التناقضات التي وقفت عليها من خلال البحث العلمي في التوراة والإنجيل ، وفيما يدور في تلك الكنائس ، وأخرجت دراستي هذه ونشرتها وبيّنتُ حقيقة المعلومات الخاطئة المحرفة في الكتب الإنجيلية عن الإسلام ، حينئذٍ وقعت له ما وقعت من الأمور ، لكنه وقد دعا إلى الإسلام أدخل في دين الله الحق نحو من مائتين نفس .
وهكذا سنجد العجائب ونرى الآثار ولو مضينا لوجدنا أكثر من هذا ، لكننا نقول : إذا كان الحق بذاته يقنع ، وإذا كان النور بطبعه يضئ فما بالنا لا نقدّم الحق ولا نأخذ النور لنوصله إلى الناس ؟!
خذوا هذه القصة العجيبة وقد رأيت أصحابها الذين لا نسوها وعايشوها .. مدرسة إسلامية أقامها بعض الغيورين من الدعاة في بعض المناطق التي بيوتها من الطين ، وأهلها في غاية الفقر ، ولهم أصول مسلمة ، لكنهم مضيعون لإسلامهم .. هذه المدرسة تضم مائتين وخمسين طفلاً في المرحلة الابتدائية ، عندما بدأت المدرسة كانوا يسألون الطلاب في أول الدوام في الساعة الثامنة : هل صليتم الفجر ؟ فلم يكن أحدٌ منهم يعرف الفجر ، ولا يعرف أن أسرته تصلّي ، فكانوا يعلمونهم الوضوء ويصلون بهم جماعة في هذا الوقت المتأخر كل يوم ، فكانت المدرسة برنامجها يبدأ كل يوم صباحاً بالوضوء وأداء صلاة الفجر لغرض التعليم والتنبيه ، وبعد ذلك وبأيام وأسابيع يسألون : من أدى الفجر ؟ فإذا بخمسة أو عشرة قد بدأوا يصلّون ويعرفون من التعليم .. ليست هذه هي القصة ، بجوار هذه المدرسة يسكن رجل رأى هذه المدرسة بعد فترة من الزمن وهو مجاور لها يراقبها ذهب بابنه وقال : أريد أن يكون ابني طالباً في مدرستكم – لماذا ؟ - قال : لأني رأيتكم تحرصون على نظافتهم وعلى الناحية الصحية ، وتقومون بأمور رياضية تليق وتصح أبدان الأطفال ، ثم رأيت انتظام المدرسة وجوّها التربوي العام ، وهو لا يعرف شي عن هذا ، فعندما أردوا تسجيل ابنه وسألوا عن اسمه وجدوا أنه قسيس نصراني ومسيحي نصراني ، وعندما قالوا له : إنها مدرسة إسلامية ، قال : أريد ابني أن يتعلم فيها ؛ لأني أرى فيها من الخير ومن النظام الانتظام ما أشعر أن فيه الخير ، وسجّل ابنه وهو مسيحي نصراني في مدرسة إسلامية ؛ لأن المسيحية والنصرانية لا تعني لهم شيئاً في حقيقة الأمر ، ولا تعني اعتقاداً راسخا ويقيناً جازماً ، وإنما هي بعض الضلال ، وبعض الأعمال التي أساسها الخدمات والإعانات ونحو ذلك .
هذه مسائل كثيرة وقصص مؤثرة معبرة ، لكنني أنتقل بكم إلى جانب آخر ، لعله يصيبنا بالحزن والأسى ، ولكنه يواجهنا بالحقيقة المُرّة .. أقوامٌ ربما في كثير من الأحوال أصولهم إسلامية ، وهم في هذه البلاد ناطقون بالعربية يفعلون أموراً أعلم أن بعضهم لا يصدقها ، لكنها حقيقة واقعة في بعض تلك المناطق النائية والقرى البعيدة ، أقام أحدهم حفلاً ومأدبة بقدر جهودهم وطاقاتهم وأحوالهم ، فلما سأل هؤلاء الدعاة عن المناسبة ؟ قيل : هذا يوم سابع لمولود - فهي بما نفهم نحن كأنما هي وليمة العقيقة - وعندما سألوا وجدوا أن هذه الفتاه أم هذا الوليد لازوج لها ، وهذا معروف عند أبيها وعند بعض قبيلتها ولا يجدون في ذلك غضاضة ولا إثماً ولا حرجاً ولا شيئاً يعتبرونه عيباً مع أقل تقدير ، ثم بعد السؤال وجدوا أن هذا المولود هو الخامس من هذه المرأة ، ويعملون له الوليمة في اليوم السابع على سننٍ من آثار قديمة من العقيقة ولا يرون في ذلك شيئاً .
ولقيتُ رجلاً مرّت به حادثة مشابهة ، وكان موجوداً ودعي إلى وليمة فلم يجب ، ثم لقي والد الفتاة في اليوم التالي فسأله عن الوليمة فأجابه وعن الحقيقة فأقر بها قال له إلا تعرف إن هذا يعد زنا قال بلا قال فكيف تصنع هذا قال كلنا كذا لك ولا أحد منا يعيب ذلك ونحن سائرون على ذلك .
بل وهذه قصة رأيت من شهدها سمعة منه مباشرة أحدهم في مقر مدينة وأهله في مدينة أخرى يكتسب رزقه وعيشة ، وله أكثر من عامين لم يرجع إلى بلده إلى أهله ، وإذا به جاء يوزّع في يوم بعض الحلوى في العمل وعندما سألوه عن السبب أو المناسبة ؟ قال رزقت بمولود وهو غائب عامين عن أهله ويعرف إن هذا المولود ليس منه ويفرح به ويوزع ويعلن وهو في عاصمة إسلامية في بلاد عربية إفريقية إن هذه الأحوال تقودنا إلى أن نفكر هل نحن غير مغنين بذلك هل لا تلحقنا المسؤلية عن هذه الأحوال(/2)
وعن بلد مثل جنوب السودان فيها نحو خمسة وستين في المائة من الوثنين الذين لا يعرفون ديناً سماوي وبعضهم يعبد الشمس وبعضهم يعبد القمر .
يقول رجل من أوغندا أسلم يحكي قصته يقول : " إننا في أوغندا في مناطقنا وثنيون لا دين لنا ، هناك من يعبد الشمس وهناك من يعبد القمر ولقد كنت فكر في أن هذه الأمور غير صحيحة أعتقد أن هناك إله اكبر من الشمس والقمر " ثم ذهب وزار عاصمة لبلد إسلامي عربي ، وسأل عن الإسلام وأسلم وهو يقول بكلمات جميلة مشرقة : كأنني ولدت من جديد ، رأيت النور لأول مرة في حياتي ، كنت أعيش في ظلم وضلال وكفر ، وأصبحت أعيش في نور وهداية وطمأنينة وسلام بعد أن نطق بالشهادتين شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله ، كم من مثل هذا لم يتسنه له ذلك مازال يعيش الصفة التي وصف بها حياته في ظلم وكفر وجهل وبعد عن الدين والحق ..
ألسنا مسئولون عن تبليغ دين الله ؟ دعوني أقول لكم شيئاً ربما نعظم به المسولية تجاه أنفسنا ؛ لأنني أعلم أن كثيرين سيقولون : وماذا عسى أن نفعل ونحن لسنا علماء أو لسنا دعاة ؟! فأقول ألا تعرف شهادة إن لا اله ألا الله وأن محمد رسول الله إلا تعرف أن تتكلم عن الإسلام الذي تمارسه إلا تعرف قرأت الفاتحة وغيرها ذلك لا يعفيك من هذا الباب ..
وأذكر هنا بعضاً من الأرقام ؛ حتى نقارن ونرى حتى بمكاننا فعل شي كفالة داعية مسلم يذهب إلى بعض تلك المناطق ، وقطعاً - بعون الله وتوفيقه - يكون له من الأثر في إسلام الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور مالا يمكن تصوّره في كثير من الأحوال ، كم يحتاج هذا الداعية في البلاد النائية الظروف الصعبة ؟ ( 750 ) ريالاً في الشهر تسيّر مدرسة كالذي ذكرت لكم خبرها ، بما فيها من إطعام الطلاب ؛ لأنهم لا يجدون الطعام ولا يملكون مالاً لتوفير الأوراق والأقلام والدفاتر والمراسيم ونحو ذلك .. العام الكامل لمأتيين وخمسين طالباً ثلاثة وعشرون ألفاً ، أليس هذا المبلغ يدفع اليوم في هذه الأيام مثله وضعفه في ليلة واحدة في عرس من الأعراس ، ويهدر من المال ويتلف من الطعام ما قد يكون به هداية أقوام وفئام من الناس ، وتعليم أجيال من هؤلاء الأطفال المحرمون من هداية الإسلام ونور القرآن .. دخل المسيحيون إلى هذه الفئات أخذوا أبنائهم علموهم وهم جهّال جعلوهم يدرسون إلى المراحل الثانوية ، بل والجامعية ، بل والعالية في البلاد بل وخارجها .
وكفالة تعليم طالب في المرحلة الثانوية لعام كامل ( 850 ) ريالاً ، أظنكم تعرفون أن أي مدرسة ابتدائية في أدنى مستوى في بلادنا خاصة لا يستطيع الطالب أن يدرس فيها ألا بألفين أو ثلاثة على أقل تقدير ، وهذه رسوم مع الإعاشة والكفالة الشاملة ، والطالب الجامعي كفالته ( 2250 ) ريالاً .
لا نقول هذا لنذكر الأرقام ، ولكن لندرك أن مثل هذا المال نحن قادرون من جيوبنا أو من حولنا أن نقدم شي منه ، ويكون له من الأثر العظيم ما لعله على أقل تقدير يخفف عنا المسؤلية والأمانة التي هي منوطة بأعناقنا وواقعة على كواهلنا .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن من تقوى الله أن نسعى ونبذل في الدعوة إلى الله ، وأن نشارك ونسهم ولو بألسنتنا بأقوالنا وأموالنا وجهودنا .. ولو بأوقاتنا وأفكارنا ؛ فإن الله - عز وجل - سائلنا عن ذلك ، وإن نعم الله التي يجب علينا شكرها عظيمة .. نحن مَنَّ الله علينا بأيمان وإسلام وعلم ومعرفة ، ومساجد كثيرة يذكر فيها اسم الله ، وأحوال مادية أقل ما يقال فيها أن فيها الكفاف ، وفوق ذلك بين أيدينا من الوسائل والكتب والأشرطة والإذاعات ما نستطيع أن نستفيد بها وننتفع منها كثيراً ، ثم نحن لا نفكر - مجرد تفكير - في دورنا في خدمة ديننا ، وفي واجبنا في شكر نعم الله - سبحانه وتعالى - علينا !
ليست هذه القصص والأنوار التي تشرق في القلوب في أفريقيا بل في أعماق أوروبا المتحضرة وفي أعماق أمريكا وغيرها ، وهي شهادات ناطقة حية على قوة هذا الدين ، وعلى صلاحية فطريته وقوة حجته ، وعلى انطباعه وانطباقه على ظروف الحياة المختلفة ، والمستجدة فلئن كان البعض يقول : إن الأفارقة في أحوال تعليمة ومادية ومعيشية يمكن أن تكون هذه الأسباب جاذبة لهه من الإسلام فما نقول في الأوربيون والأمريكيون ؟ عندهم تعليم كامل ، وعندهم مادة كثيرة ، وعندهم رزق ورغد عيش وافر ، فما بالهم أيضا يدخلون إلى الإسلام .(/3)
قصة واحدة أذكرها من فلندا رأيت صاحبها ولقيته وتحدث إليه .. شاب دون العشرين ، مسلم اسمه ميكائيل ، ومقبل على الخير ، وحضر معنا دورة علمية فيها محاضرات إسلامية ويترجم له ، وسألته عن قصة إسلامه فأخبرني أنها قصة امتدت سبع سنوات .. كان له زميل في المدرسة صومالي مهاجر إلى تلك البلاد - انظروا كيف يسوق الله الخير وكيف تجري به أقداره - قال وكان زميلي في فصل المدرسة بحكم أنه جديد ضعيف في الدراسة يحتاج إلى مساعدة فكنت معه على مدى سبع سنوات أساعده في الرياضيات والفيزياء الكيمياء واللغة وغير ذلك ، وتوطدت بيننا أواصر الصلة والصداقة والصحبة ، وكانت نقاشات تدور بيننا عن الدين وعن الإسلام ، وإذا به يذكر أنه يصلي ويتوضأ ويتطهر ويتناقش في ذلك ، وزرت بعد ذلك قرأت في ترجمات معاني القرآن حتى أسلمت على مدى سبع سنوات .
شاب في عمر العشرين والشباب هناك غارقون حتى أذنهم في الشهوات والملذات ، فسألته عن ذلك ، قلت له : كيف كان تأثير تحول الإسلام في حياتك ؟ وربما كانت لك حياة سابقة فيها وفيها ، فعجبت عندما قال : إنني كنت في كل السنوات كلها وبحكم أن له أسرة فيها شي من المحافظة الأخلاقية قال كنت لا أشرب الخمر ولا أحضر الحفلات المختلطة مطلقاً - بقيت له بفضل الله عز وجل فطرة سوية – وهكذا ستجد في كل مكان ما يدل على عظمة هذا الدين ..
ولكنه كذلك من جهة أخرى يكشف عن تفريط تقصير المسلمين ، وأنهم يستطيعون لو فعلوا وخدموا دينهم أن يفعلوا الكثير ، بدلاً من أن يتراشقوا بتهم ويختصموا فيما بينهم أو يبددوا أموالهم في الترف السفهي فيما ليس ورائه طائل ، بل فيما فيه مغبة ومذمة .
وهنا اذكر آخر معلومة مهمة إحصائية من الأمم المتحدة قبل نحو أربعة أو خمس سنوات أو ست سنوات على وجهه التحديد ، تقول فيها : " إن أعلى الديانات التي تكتسب أشخاص جدد هي ديانة الإسلام " ، وليس هذا في كل عام تقريباً لكن تلك الإحصائية تقول : إن الدين الذي يليه هو المسيحية والفارق بينهما ستة أضعاف " أي انه إذا دخل في المسيحية ألف فإن الداخلون في الإسلام ستة آلاف ، مع تقصير وتفريط ومع ما هناك من جهد وبذل كبير من قِبَل المسيحيين ذكره بعض من أسلم ممن بلغ مراتب عالية في الكنيسة - وأختم به مقالنا - يقول هذا الأسقف - الذي كان أسقف جوهان سبيت في جنوب أفريقيا وأسلم - يقول : " من المؤسف حقاً أن الجهود التنصرية لا تشكوا أي نقص تنظيمي أو حركي أو مالي أو معنوي ، وهذا ما نفتقده عند دعاة الإسلام فضلاً عن المشاكل الاجتماعية والسياسة والاقتصادية " .
لذا لابد أن نتحمل مسؤوليتنا وأن نخدم ديننا وأن نبذل لدعوتنا ، نسال الله - عز وجل - أن يوفقنا لذلك .(/4)
قصص جميلة عن تأثير هذا الدين ...
الشيخ محمد صالح المنجد ...
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله .(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون ) ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا و نساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ( يا أيها الذين آمنوا واتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) . أما بعد، فان اصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . عباد الله إن الله – سبحانه وتعالى – قد انزل هذا الدين مهيمنا على سائر الأديان .وشرع هذه الشريعة لتكون الناسخة لجميع الشرائع وجعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ـ الدائمة القرآن الكريم ،جعلها سبحانه وتعالى ـ باقيه على مر الدهر ، بخلاف معجزات الأنبياء السابقين ،فإن عصر موسى قد ذهبت، وناقة صالح لا توجد ، وغيرهم من الأنبياء لم يبقى إلا معجزة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقيت معجزته بعد وفاته، لتمتد هذه السنوات الطويلة جدا ، دليلا على بقاء هذا الدين ، فإن الله قد أنزله ليبقى. وبرغم ما تعرض له المسلمون من الفتن الكثيرة، وأنواع العذاب التي صبت عليهم صبا ، وبرغم ما تعرض له هذا الدين من حملات التشويه والتحريف ، وقصد الإساءة وتشويه سمعته وسمعة حملته ، إلا أن الله ـ تعالى ـ أبقاه ، لو تعرض دين آخر لمثل ما تعرض له ديننا لفنى وزال منذ زمن بعيد . لقد بقي هذا الدين سواء بقي حيا في نفوس أتباعه رغم الاضطهاد ، بقي هذا الدين وبقيت آثاره في صمود معلم من معالم الإسلام ، أو ظهور عزة لأحد علماء الإسلام ، أو انجذاب كافر لهذا الدين لشرع أو شعيرة من شعائر الإسلام ، أو تأثر غير مسلمٍ بكتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ، أو عودة فاسق من الفسقة بعد أن طالت غربته عن هذا الدين إلى هذا الدين مرة أخرى . إن هذه الشواهد وغيرها لتدل دلالة واضحة على أن الله قد أنزله ليبقى ،وأنه لا أمل للكفار مهما حاولوا إطفاء نوره، أو العبث لكي يصدوا الناس عن سبيله ، مهما خططوا وقدروا فقتلوا كيف قدروا فإن الله مبقٍ دينه ومعلن كلمته ولو كره الكافرون . وفي هذه الخطبة أيها الأخوة نتناول بعض الشواهد من هذا العصر لبقاء الدين وعزة أهله. مشاهد تدلك على أنه دين الله حقا وعلى أنه الباقي إلي قرب قيام الساعة صدقا. مشاهد سندور فيها بين أعجمي وعربي، ندور فيها بين عالم وجاهل بعيد عن الدين، بين إنسان قد أطلع عليه وآخر من العوام ليس في قلبه إلا العاطفة ، لنرى يا أخوتي ما نريد به إيماننا من أثر هذا الدين في النفوس . والمشهد الأول مع رجل من الأعاجم من بلاد الإمام البخاري رحمه الله تعالى ـ جاء إلى مكة بعد عشرات السنين من الستار الحديدي الذي أقامته الشيوعية، حائلا بين أهل تلك الديار والاحتكاك ببقية المسلمين. يقول أحد المسلمين الذين يعرفون شيئا من لسان أولئك القوم وهو في مكة، يقول : وأنا أسير في ساحة الحرم متجه إلى الكعبة سمعت صوتا ينادي يا حاج يا حاج ، فالتفت فإذا بحاج قد بدت في وجهه آثار الجهد والإرهاق ، كانت هيئته وملامح وجهه تدل على أنه من بلاد ما وراء النهر قال لي بالأوزبكية مع حركات يديه الكثيرة محاولا إفهامي كم علي أن أطوف بالبيت فأجبته بالاوزبكيه وهي كل ما تبقى لنا من ذكريات بلادنا المنسية : عليك أن تطوف بالبيت سبعة أشواط ، فرأيت السرور داخله بمعرفتي لغته ، ثم ما لبث أن قال باستعجاب سبعة أشواط ، وهل تستطيعون ذلك؟ لقد بلغ الجهد مني مبلغه مني من أول شوط حول البيت وأشار إلى مبنى الحرم الخارجي، ففهمت سبب التعجب ومدى ما أصابه من الإرهاق لقد ظن هذا المسكين أن هذا المبنى كله الحرم هو الكعبة فشرع في الطواف حول الحرم دون تردد من الخارج لأنه لم ير البيت العتيق من قبل، فهو منذ أن جاء إلى جدار الحرم الخارجي شرع في الطواف فقطع تفكيري صوته، قائلا : أستعين بالله وأكمل الطواف ، ثم أخذ بالانصراف فوجدتها فرصه سانحة للتعرف على ما يدور داخل بلاد المسلمين ، فاستوقفته معرضا عليه المساعدة فرحب مسرورا ، ذهبنا سويا إلى داخل الحرم وأشرت إلى الكعبة المشرفة ، وقلت له : هذا بيت الله لا الذي طفت حوله من قبل ، فما هي إلا لحظات حتى رأيت الدموع تنهمر من عينيه ، وقال : يالله هذا هو بيت الله سمعت به كثيرا ولم أره إلا الآن ، فأسرع الخطى نحو البيت وأسرعت معه قائلا : هذا من فضل الله عليك أن يسر لك القدوم إلى بيته وقد حرم منه الكثير، فقال بصوت منتحب : كم سمعت أبي ـ يرحمه الله ـ وهو(/1)
يدعو ويتمنى رؤية بيت الله ولكن الشيوعيين لم يمكنوه من ذلك فمات وفي قلبه حسرة وألم، لقد ذقنا الكثير مما لا أظن أن أحدا قد ذاقه ،دعنا نطوف بالبيت أولا ثم افصل لك شيئا مما نلناه . وبعد طواف رق له قلبي وذرفت عيناي مما شاهدت من عجيب انكساره بين يدي الله ، وبعد تعارف جرى بيننا قال لي : لم يترك لنا الروس شيئا يمت إلى الإسلام صله إلا وحاولوا إبادته ، حتى أسماءنا لم يتركوها لنا ، والدي أسماني عبد الحكيم ولكنني لا أعرف بهذا الاسم إلا في البيت ، أما رسميا فأسمي حكيموف إن الروس قد فعلوا هذا بالأسماء ، وهي أسماء لا تضرهم ولا تقاومهم فماذا تظن انهم فعلوا في علماءنا ومشايخنا الذين يعلموننا القرآن والسنة . دعني أقص عليك طريقة بعض علماءنا يتبعونهم في تعليم الصبية كتاب الله ، ويراقبونهم في كل شيء ومنعوا من كل وسيلة من وسائل التعليم حتى كان الشيخ يصعد فوق سقف المنزل من الداخل بسلم ويصعد الطلاب خلفه ثم يرفع السلم إليه ويخبؤه ويلقي الدرس بصوت خافت ،لكي لا يعلم أحد بهم، وقل مثل ذلك في مخازن تحت المنزل. كان الشباب في المصانع إذا أرادوا مذاكرة ومراجعة شيء من العلم اجتمع كل أربعة أو خمسة في وقت تناول الطعام ويتحدث كل واحد بما عنده دون أن يلتفت إليه الباقون لكي لا يعلم بأمرهم حتى الصلاة التي هي عماد الدين كان الواحد منا يذهب ويختبئ بعيدا ويصليها سريعة ويعود لكي يذهب الأخر لم نكن نعرف صلاة الجماعة وما عرفناها منذ زمن بعيد . كم أشعر بالآسى على مشايخنا وعلماءنا الذين كان لهم الفضل بعد الله في بقاء دينه في بلادنا . لم نستطع أن نقدم لهم أبسط حقوق المسلم لم نستطع أن نغسلهم ونكفنهم وأن نشيع جنازتهم فماتوا ودفنوا حسب مراسم الدفن الشيوعية . والشاهد أيها الأخوة أن دين الله بقي في تلك البلاد بمثل هذه الوسائل التي عاشت تحت الضغط والقهر والإكراه والحصار لكن بقي دين الله . لو أن دينا آخر في بلاد الشيوعيين حصل له ما حصل لهذا الدين لكان فنى منذ زمن بعيد. أليس في هذا الدين دليلا على عظمة هذا الدين ؟ أليس في هذا دليلا على أن الله اختاره ليبقى ؟ ومع موقف أخر لأثر من آثار هذا الدين في نفس أحد العلماء في هذا العصر، الذي يتبين لك به يا أيها المسلم عزة العالم وتعففه وجرأة وعدم رضوخه لا للترهيب ولا استجابته للترغيب .كان الشيخ سعيد الحلبي من كبار الأساتذة في القرن الماضي ، وكان يلقي مرة درسا في جامع من جوامع دمشق فجاء إبراهيم باشا الحاكم في وقته ، وهو من القسوة والعنف بمكان والجبروت والاعتداء والقتل والبطش، دخل المسجد مع بعض شرطته وعساكره ووقف أمام الباب ،وكان الشيخ يشكو ألما في رجله وكان مادا رجله إلى الأمام ، لأنه كان مستندا إلى جدار المحراب ، ويلقي الدرس ورجله ممدودة للعلة إلى باب المسجد، فدخل هذا الوالي المعروف بظلمه ومعه العسكريون و الشرطة ، ووقف بالباب ينظر إلى الشيخ ، وانتظر أن يقبض الشيخ رجله احتراما له ، لكن الشيخ لم يفعل فخاف التلاميذ على شيخهم من السيف ،وقبضوا ثيابهم لئلا تصاب بدمه، ولكن الوالي وقف برهة ثم انصرف ورجع، وبعد ذلك استدعى أحد من خدمه وأعطاه صرة من الدنانير الذهبية ،وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ وقل له هذه هديه من إبراهيم باشا ، فلما جاء بها الخادم إليه قال الشيخ كلمته المشهورة التي تُغني عن ألف كتاب قال له : قل لسيدك إن الذي يمد رجله لا يمد يده . وهذا مثال من أمثلة علماء الحق وعلماء الشريعة الذين زخرت بهم هذه الأمة وهو شاهد أخر من الشواهد على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يُقيض لهذا الدين من يقوم به وأن الله ـ سبحانه ـ يخلق رجالا يصطنعهم من مواقف تسري بسيرهم الركبان . إنه دليل على أن هذا الدين باق وأن الله سيبعث له من يجدده في كل رأس مائه سنه، فاستبشروا برحمة ربكم يا أيها المسلمون . ثم ننتقل إلى مشهد ثالث من رجل عامي من عوام المسلمين ليس بفقيه بل ليس بسوي الخلقة إنه أعمى لم يبصر، ولم يكلم ذلك الرجل ،لكنه كان سببا في هدايته فوجه السؤال التالي إلى رجل ألماني قد اعتنق الإسلام ، وهو يحمل شهادات عليا في أحد المجالات ،فقال: إن أول معرفتي بالإسلام تعود إلى أيام الشباب عندما كان في رحلة إلى ألبانيا ،أثناء عطلة دراسية ،وبينما هو يسير في أحد الشوارع الضيقة اصطدم بأحد الرجال، ولما تبينه واعتذر له عرف انه أعمى لا يبصر ولم يفقه الأعمى شيئا من اعتذار الرجل لأنه لا يفقه لغته ،ومع ذلك فإن هذا الكفيف يمسك بيد الرجل الذي اصطدم به بإصرار و يسير به حتى المنزل منزله هو ويقدم له الضيافة وما تيسر من الطعام ،يقول هذا الرجل الألماني : لقد جلست ف يبيت الألباني المسلم معجبا به كيف أضافني وهو لا يعرفني وأكرمني لمجرد أني اصطدمت به في الطريق ،لكن أمرا قد انطبع في حسي إنها تلك الحركات التي كان الرجل يأتي بها في زاوية من منزله بعد أن أضافني لقد علمت فيما بعد أنها صلاة المسلمين ومنذ أن(/2)
رأيت ذلك الرجل الذي أكرمني واحترمته سألت عن هذا الذي يفعله فعلمت أنها الصلاة و أنها من دين الإسلام فكان ذلك سببا في إسلامي . يبقى هذا الدين في نفوس العامة وبعض الخيرين يبقى محركا له ،تبقى الأخلاق الإسلامية في نفوس بعض الطيبين ولو كانوا من العامة دليلا على بقاء هذا الدين في الواقع ، وأن الله قد اصطفاه ليبقى . وننتقل الآن إلى شعيرة من الشعائر الإسلامية التي فرط فيها كثير من المسلمات والتي اعرض عن التنبيه عليها كثير من أولياء الأمور و الآباء و الإخوان أإلا وهي الحجاب ، لنعرف أيها الاخوة كيف يكون الحجاب وهو أمر من الشريعة سببا في إدخال امرأة كافرة في دين الله ، هي فتاة أمريكية يميزها حجابها الشرعي الذي ترتديه وحرصها على حضور الحلقات التي يتم عقدها في مسجد المدينة الأمريكية التي تقطنها وتستعير كتبا باستمرار من مكتبة المسجد فهي حريصة على ذلك ، كيف أسلمت ؟ لقد أسلمت تلك الفتاة ،وكانت تعمل على صندوق قبض الثمن في إحدى المحلات ، وتقول : في بلدتنا يوجد جامعة وفيها بعض الطلاب المسلمين المتزوجين الذين جاءوا بزوجاتهم معهم اعفافا لأنفسهم ، وفي فصل الصيف كنت في زاوية المحاسبة في المحل، حيث الكل هنا يرتدي الملابس القصيرة والعارية والخفيفة جدا ، إن الذي أدهشني و أصابني بالذهول أنني رأيت بعض المتسوقات يرتدين حجابا كاملا يغطي جميع الجسد بما فيه الوجه ولم تكن تبدو سوى أعينهن أحيانا ، فاستغربت هذا المنظر فاستوقفت إحداهن حينما كانت تحاسب لدي على أغراضها ، وسألتها عن السر الكامن في هذا اللباس، فأخبرتني أن دينها الإسلامي يفرض عليها ذلك صيانة لها وحفاظا عليها، واسترسلت بالشرح عن منافع الحجاب وأهميته وفائدته للمرأة، حتى اشتد شوقي وانبعثت من فطرتي تلك الحاجة التي تتكلم عنها هذه المرأة، بالرغم من صعوبة وعدم تخيلي للباسه في مجتمعنا ، فرجعت إلى البيت وأخذت قطعة قماش ووضعتها على رأسي ، ولبست ملابس ذات أكمام طويلة، فأعجبني شكلها وخرجت بها في اليوم التالي، إلى مركز إسلامي قريب ابحث عن هذا الدين ، ابحث عن كتب تتكلم عنه ،وعن أناس يشرحونه لي ،وتقول فتاة فعمل لي بعض المسلمات مناسبة دعونني فيها إلى الإسلام، فأسلمت فأهدتني إحداهن هدية، كانت الهدية حجاب ،وكنت استصعبت لبسه في المكان الذي أنا فيه، ولكنني حاولت لبسه ،كنت خائفة جدا من الحجاب شأني في ذلك شان كثير من الأمريكيات اللاتي ينظرن إلى الحجاب على انه سجن للحرية ،ولكن بعد أن اعتدت عليه زال كل شيء، وكان الامتحان في اليوم الأول الذي ذهبت فيه لمقابلة المجتمع باللباس الجديد، أما أبى فانه لم يبالي لأنه شعر أن الأمر ليس بيده، و أما أمي فهي إنسانة اعتادت على احترام آراء الآخرين وتقبلها لهذا لم تعر أمر إسلامي شيئا، لكنها كانت خائفة علي من الحجاب، وحينما رأت إصراري راعت شعوري ،بل إنها أصبحت تشتري لي الحجاب وتهديني إياه واذكر أن ابن خالي جاء لزيارتنا ذات يوم فأمرته والدتي أن ينتظر حينما تعطيني خبر قدومه حتى أضع الحجاب ، وذات مرة زارنا عمي فأسرعت لتناولني الحجاب حتى أضعه قبل أن يدخل ،فضحكت وشرحت لها الأمر . الشاهد أيها الاخوة إن هذه الشعيرة من شعائر الإسلام وهي الحجاب كانت سببا في إسلام تلك المرأة وغيرها من النساء، على أي شيء يدل هذا ؟ وما هو المغزى ؟ هل رأيتم شيئا في النصرانية المحرفة يدعو شخصا للدخول فيها ؟ هل رأيتم شيئا في اليهودية المحرفة يدعو شخصا للدخول فيها ؟ هل رأيتم شيئا في البوذية أو الهندوسية يدعو شخصا للدخول فيها ؟ إلا الإسلام فإن شعائر الإسلام تدعو الناس للدخول فيه ولو كانت الدعوة صامته ،ولو كان حجابا يرتدي بين الكفار ، ولذلك ننعي على أولئك المسلمين الذين يذهبون إلى الخارج ثم يطالبون زوجاتهم بكشف الوجه وغيره والشعر من اجل أن لا ينظر إليهم نظرة السخرية والاستهزاء ، ما عندهم الشجاعة الكافية أن يظهروا بمظاهر دينهم، وأولئك الكفرة قد يعجبون به بل قد يدخلون في الدين بناء عليه . وهذه قصة تدلك كيف أن هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله وهو القرآن الكريم كيف انه له تأثير عجيب حتى على الكفار ، اثر القران في النفوس غريب وفعله في القلوب عجيب والأعجب والأغرب وان كان لا عجب ولا غرابة فالقرآن كلام الله أن يثير القرآن مشاعر امرأة أعجمية ويجعل عينيها تفيضان بالدمع وهي لا تعرف من العربية شيئا .يحكي الأستاذ سيد قطب – رحمه الله تعالى – تلك الحكاية التي عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا يقول – رحمه الله - : كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تنخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم ، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجماعة في المحيط على ظهر السفينة وقد سمح وواقف قائد السفينة الكافر على إقامة الصلاة وسمح بحارة السفينة وطهاتها وخدمها وكلهم مسلمون أن يصلوا معنا من لا(/3)
يكون منهم في وقت العمل ، وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا لأنها كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر هذه السفينة ، قمت يقول – رحمه الله – بخطبة الجمعة و إقامة الصلاة والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح القداس فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا، قُداس !! فشرحنا لهم الحال وانه لا يسمى قداسا و إنما هي صلاة الجمعة . ولكن امرأة من بين ذلك الحشد عرفنا فيما بعد أنها أوروبية، كانت شديدة التأثر والانفعال تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها جاءت لتسألنا عن شيء معين وهي تبدي إعجابها بما فعلنا من نظام وخشوع وليس هذا موضع الشاهد جاءت لتسأل عن شيء معين وهي تقول أية لغة هذه التي كانت يتحدث بها قسيسكم ؟ وهي لا تتصور أن يقيم مثل هذا إلا قسيس فصححنا لها هذا الفهم و أجبناها ، قالت إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع عجيب وان كنت لم افهم منها شيئا ثم كانت المفاجئة الحقيقة وهي تقول ولكن ليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه إن الموضوع الذي لفت انتباهي اكثر في حسي وانطبع في قلبي هو أن الإمام ،بعد أن تصححت الكلمة وصححت، هو أن الإمام كانت ترد في أثناء كلامه فقرات من نوع آخر يختلف عن بقية كلامه ،نوعٌ اكثر عمقا واشد إيقاعا في النفس إن هذه الفقرات التي كان يقرأها أثناء الخطبة أحدثت في نفسي قشعريرة ورعشة إنها شيء آخر . وتفكرنا قليلا ثم أدركنا ماذا تعني إنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء الخطبة في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة ، وكانت مع ذلك مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من امرأة أعجمية لا تفهم شيئا من اللسان العربي، (انه لقول فصل وما هو بالهزل ) ( انه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) . هذا القرآن سبب عظيم جدا لإدخال كثير من الكفرة إلى الإسلام ،وحتى الآن يقدم لهم القرآن المترجم فيكون سببا في دخولهم في الدين،أليس هذا دليلا أيها الاخوة على أن هذا الدين باق وعلى انه يملك في طياته مقومات بقائه وجذب الناس إليه؟ اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين واجعلنا من الدعاة إلى سبيلك القويم . أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم . الحمد لله الذي لا اله إلا هو لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ، خلق فسوى وقدر فهدى ، هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، واشهد أن محمدا رسول الله حقا والمبلغ عن الله صدقا ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى اله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين . عباد الله أن يَخرج الناس متأثرون من خطبة، أن تكون الهداية منبعها من المسجد ،شيء متصور ،وان يخرج شخص متأثرا من مدرسة من موعظة أستاذ ،شيء قريب إلى الذهن ، أن يكون الإنسان في محاضرة أو درس فيتأثر، شيء مقبول في الأذهان، لكن أن يخرج أناس يهديهم الله ،من أحط أوساط الرذيلة والفساد، فهذا هو الشيء المدهش ، أن تكون الهداية في وسط أناس قد مرغوا في أوحال الرذيلة والفواحش والشهوات والمجون دهرا طويلا، ثم يتجهون بعد ذلك إلى هذا الدين، هذا أمر محير فعلا لمن لا يعرف السر في هذا الدين . إنني أشير بهذه الكلمات إلى تلك الطائفة من الفنانات المعتزلات، اللاتي قد اشتغلن ردحا من الزمن بعرض أجسادهن ومفاتنهن ،في الأفلام والصور والرقصات والأغاني . أن توجد الهداية في الوسط الفني العفن ، هذا أمر فعلا عجيب .أن توبة الفنانات التي نسمع عنها في هذه الأيام وفي كل فترة تنضم إلى تلك القافلة الكريمة من التائبات ،امرأة أخرى من النساء اللاتي كن قد عملن في تلك الرذائل دهرا من حياتهن، أن توبة هؤلاء الفنانات فعلا أمر مدهش ومحير ،لان هؤلاء خرجن من مستنقع الرذيلة ،فان المعروف أن أحط وسط من أوساط المجتمع ،هو الوسط الفني بما يمخر به من عباد الرذيلة وألوان الفساد و أمواجه . إن هذه الظاهرة التي اضطر العلمانيون والكتاب الفسقة والمجلات المنحرفة للكتابة عنها، وظهرت في بعض أغلفة المجلات المنحرفة بدلا من صورة فتاة الغلاف الماجنة صورة فنانة متحجبة، لقد اضطروا إلى الاعتراف بالقضية ،لان المسألة لا يمكن تغطيتها ،فان هؤلاء المهتديات مشهورات ،وليست القضية واحدة أو اثنتين فان المسألة عدد، حتى أُحرج المخرجون واضطروا إلى الاستعانة بالممثلات من الدرجة الثانية أو ممثلات الكومبارس لإخراج وجوه جديدة تملا الفراغات التي خلفها توبة أولئك الفنانات . وشنت الحرب بطبيعة الحال وهذا متوقع لأنه مكتوب لأنه منزل في القران ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا ) ،هذا هو الموقف قيل : انه دفعت لهن الأموال وكتب في أحد(/4)
المجلات عبارة: من الذي دفع لفاتن حمامه سبعة ملايين جنيه حتى تتحجب لكنها رفضت !! كذب وافتراء ولذلك قالت بعضهن : انه يدفع لنا الآن المبالغ الطائلة لنعود لا لكي تتحجب الواحدة . أشاعوا الإشاعات وقالوا أن فلانة أصيبت بالمرض وهذه فقدت الجمال ، لكن مردود عليهم بهذا التوالي والتتابع لبعضهن وهن في قمة الشهرة والجمال وفي سن الشباب ، انه دليل فعلا الهداية الموجودة في الوسط الفني العفن إنها دليل على عظمة هذا الدين . إن هذه القافلة من الأسماء المشهورة شمس البارودي وشادية وهالة فؤاد وكميله العربي وهناء ثروت وشهيرة وفريدة سيف النصر ونسرين وسوسن بدر وسهير البابلي وغيرهن من المعروفات جيدا لكثير من العوائل الإسلامية مع الأسف من الناس الذين يأتون إلى صلاة الجمعة وهم يشهدون تلك المسلسلات الهابطة ، التي صار من الحرب على هؤلاء الفنانات إعادة عرضها ، وتكثيف عرضها في صالات العرض محاولة من الضغط والحرب . هذه الأسماء وغيرها من ثبت منهن على الهداية إنها صفعة قوية موجهه لتجار الغرائز وانه إعلان فعلا أن هذا الدين باق وان الله يهدي من يشاء ولو كان الناس يستعبدون هدايته ، انه فعلا سر عجيب في هذا الدين أن يهتدي إليه من شاء من عباد الله، يهدي الله به من شاء بهذا القرآن ،بهذا التوحيد ،بهذا النور من شاء من عباده. انه فعلا انه عجب انه عجب أيها الاخوة و الآن هل لنا في عودة صادقة إلى هذا الدين هل لنا أن نتمثل هذه المواقف أو هذه المبادئ الموجودة في هذا الدين ؟ هل لنا أن نكون دعاة إليه (فان يهدي الله به رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما عليها )؟ هل لنا على الأقل أن ندعو بالثبات لؤلئك الذين اهتدوا أن يزيدهم الله هدى وثبات وان نستحي من الله أن ننظر إلى تلك الأفلام قد تاب من يمثل فيها . اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت ،اللهم اشف مريضنا وارحم ميتنا واهلك عدونا وانصر ديننا واجمع كلمتنا ورد غائبنا واهدى ضالنا إلى الحق يا رب العالمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ...
الصوتيات والمرئيات الإسلامية(/5)
قصص طبية للدكتور عبدالله العثمان سؤال لو سمحت :
هل فكرت يوماً في دخول المستشفى طواعية وتأملت في غرف المرضى وحال أهلها ؟!
هل دخلت يوماً إلى غرفة العمليات استغرقت لحظتها الرهيبة ؟!
هل عشت ساعات عصيبة في غرفة الإنعاش مع رجل يقارع الموت ؟!
هل جربت المكوث يوماً في قسم الطوارئ والإسعافات لترى عجائب مقادير الله في خلقه ؟!
إذاً
ضع يدك في يدنا لندخل هذا العالم الغريب ! ..
( ولنبلونكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )
حكم المنيّة في البريّة جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
اقضوا مآربكم سراعاً إنما *** أعماركم سفر من الأسفارِ
وتراكضوا خيل السباق وبادروا *** أن تُسترد فإنهن عوار
ودعوا الإقامة تحت ظل زائلٍ *** أنتم على سفر بهذي الدارِ
في غرفة الطوارئ
مريض أصيب في حادث سيارة .. الحادث كان شنيع جداً أدى إلى إغماء شديدة وتوقف القلب والرئتين .. فبدؤوا الأطباء بإنعاش هذا الولد الشاب بكل ما يستطيعون من جهد إنعاش القلب والرئتين ، الصعق الكهربائي ، إعطائه الأدوية يريدون قلبه يتحرك ولو نبضة واحدة ولكن لا يوجد شيئا سبحان الله العظيم .. قدر الله سبحانه وتعالى له الوفاة .. فبعد ثلاثين دقيقة وكان لدي معرفة الأطباء يستمرون فترة معينة حتى يشير إليهم المسؤول عن الإنعاش بالتوقف حتى ما يؤذون الميت وإن كانت فيه حياة تكون واضحة ببعض العلامات .. توفي هذا الشاب بذلك الحادث الفظيع فبدؤوا البحث عن هوية ذلك الشاب حتى يعرفون من هو ؟! وكيف يتصلون على أهله ؟! يخبرون ما حوله حتى يأخذوا ذلك الشاب بعد أن توفاه الله سبحانه وتعالى .. فوجدوا اسمه وبطاقة عنده " بطاقة الأحوال " وعرفوا عن طريق البدالة رقم والده ..
الطبيب المصري المعالج حقيقة كان متحرك في الاتصال بوالديه لإخبارهم لما حصل لابنهم فأعطى زميلنا التلفون وقال له : لو سمحت اتصل فيهم وأنت سعودي وتستطيع التفاهم مع أبناء جلدتك وقل لهم ما حصل ..
يقول زميلنا : فاتصلت بوالده .. رد والده أنت فلان قال نعم . قلت ولدك فلان ابن فلان قال نعم . قال حصل له حادث سيارة بسيط وهو الآن منوّم في المستشفى وفي العناية المركزة فهو يريدك تأتي حتى تنظر إليه .. ففجع الوالد: هاه ماذا حصل ؟! عساه بخير وو ؟! قلت له ما صار له شيئا لكن أنت تعال للمستشفى وان شاء الله تعرف مقدار الحادث وغيره وان شاء الله إن الأمر كله خير بس أنت تعال .. و حقيقة هذه طريقة مناسبة حتى ما يُفجع الوالد أو الأهل بما يحصل لهم من حوادث أو من مصائب ..
أتى الأب على عجل يا إخوة وفي عينه دموع لا تنقطع .. فقد رأينا سابقا حوادث كثرة لسيارات ورأينا والدين أم وأب يحضرون إلى الطوارئ وحتى بعد علمهم بوقع المصيبة والوفاة يبكون لكن ليست بهذه الكمية من الدموع والبكاء وأيضا إلى الآن بعد ما يعرف هل هو مات أو لا ! دموع وبكاء ونحيب أين ولدي ؟ أين العناية المركزة ؟ أين الدكتور فلان الذي أخبرنا عن ولدي ؟ .. فجاء الدكتور حاول يطمئنه يذكره بالله قبل أن يذهب به إلى ابنه.. ولكن أبداً هو في بكاء شديد جداً ونحيب فأسمع منه كلمات وتمتمات : ولدي الوحيد على 7 بنات ولدي الوحيد الذي كنت أتمناه على 7 بنات اللهم لك الحمد يا رب اللهم لك يا رب ولدي الوحيد على 7 بنات ويرددها.. فيقول الدكتور فسيحان الله العظيم اختار الله ولده على 7 بنات وجئت فجلسته على الكرسي في الطوارئ وجلست أذكره بالله أقرأ عليه بعض الأحاديث والآيات وهذا واجب كل طبيب مسلم في هذه المواقف أن يكون معد نفسه لأمثال هذه المواقف لأنه لا بد في يوم من الأيام تدريب أو أيام حياته الطبية سوف يواجه بمثل هذه المصائب فلابد أن يدرب نفسه على تطمين الأهل تذكيرهم بالله سبحانه وتعالى عند وقوع المصائب و يفضل حقيقة حفظ آيات وأحاديث تذكر بعظم من يصبر ويحتسب عند وقوع المصيبة عند الوهلة الأولى ..(/1)
يقول الطبيب : وفي هذه الأثناء وبعد مرور نصف ساعة والأب لا يستطيع الحراك ما يستطيع أن يقف لأنه علم من كثرة كلام الطبيب أن الابن قد توفى أقول له اذكر الله يا ابن الناس فيقول الحمد لله على كل حال لله ما أعطى ولله ما أخذ فهو يبكي بكاء وكلماته بسيطة جداً : اللهم لك الحمد والشكر يا رب اللهم لك الحمد والشكر ولد على 7 بنات يقول هذه الكلمات التي كنت أسمعها منه : كنت أتمنى أن ربي يضع فيك الصلاح ويضع فيك خلفة لي وأن تكون لي عضدي وأن وأن .. ولكن لك الحمد يا رب لك الحمد يا رب ويرجع يشكر الله سبحانه وتعالى ويحمده على ما أصابه .. يقول الطبيب حتى أنا رقيت مع صوته أنا أبكي معه ومتعاطف معه وفجأة انفتح باب الطوارئ ودخل شاب يافع طويل ينظر لذلك الرجل الكبير في السن في الطوارئ ويبكي والأب رفع نظره ونظر هذا الشاب وقام يبكي وما استطاع أن يقف على رجليه ، والابن يقرب منه والأب يبكي والابن يبكي يقول منظر عجيب جداً الجميع يبكون والأب ما يستطيع يقف رجوله ما قدرت تحمله ! إلى أن جاءه ولده وانكبّ عليه وجعلوا يبكون مع بعض .. قلت ما هي السالفة ؟! من هذا ؟! .. والأب يقول : ابن على 7 بنات الوحيد على 7 بنات ويبكون وينظرون إلي ..
يقول : وبعد أن هدأت العاصفة وهدأ البكاء والنحيب وذلك الأب والابن : الحمد لله اللهم لك الحمد يا رب .. نطق الابن وقال : هذا يا والدي صاحب الخيام مستأجرين الخيام منه فقال أعطنا ضمان أنك بتجيب الخيام فأخذ مني بطاقة الأحوال فحطها في جيبه وخرج فيها وصار له الحادث ولما فتشوا وجدوا بطاقة أحوال هذا فرفعوها فظنوا أنه هو المعني بالوفاة أو بالحادث .. فاتصلوا وأخبروا الأب وهذا ما حصل ..
فسبحان الله العظيم يعني ما كانت غلطة أحد ولا شي لكن هذا الذي حصل لكن كانت فيها عبرة كبيرة جداً للجميع للأب صبره ودعاءه وحمداً لله سبحانه وتعالى ، كان فيه عبرة للابن أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بحياة جديدة كما يقولون لعله وعسى بعدما علم ما حصل لصاحبه أو لصاحب الخيام أنه يتوب ويعود إلى الله سبحانه وتعالى ويذكره سبحانه وتعالى في كل صغيرة وفي كل كبيرة لعله إن كان على معصية أن يتركها وإن كان على طاعة فليزداد من هذه الطاعات لأن العمر قصير وما تدري كيف تأتيه المنية قد تأتي بين لحظات بسيطة جداً يعني أقرب للإنسان من شراك نعله .. يقول العبرة لي أنا كطبيب يعني أني ما أتعجل وحتى أتحرّى وفي نفس الوقت دموع الوالدين أثرت فيني كثير جداً حتى أني بدأت أنا أبكي وبدأت أتذكر أبنائي وأهلي وما أنعم الله سبحانه وتعالى بي من نعمة الأولاد والأبناء الذي عندي يقول وسبحان الله العظيم أمور وخواطر كثيرة جداً كانت تجول في خاطري من تلك الحادثة والله أعلم ..
على أعتاب البرزخ(/2)
رجل كبير في السن أُحضر إلى مستشفى الطوارئ المركزي وهو يعاني من سكرات الموت .. بدأ النبض يقل عنده تدريجياً حتى وصل إلى الإغماء ثم بدأ يتوقف عنده التنفس .. فبدأ الأطباء في الطوارئ بإنعاش القلب والرئتين بالطريقة المعهودة ، عملوا مساج للقلب وتنفيس للرئتين ثم أعطوه الأدوية المناسبة لإنعاش القلب تدريجياً شعورا كأنه فيه حركة في عضلات القلب من خلال الجهاز الذي يوضع على صدر المريض ويراقب فيه دقات القلب .. بدأت النبضات تعود إليه من جديد فرحوا الأطباء كلهم الحاضرين لإنعاش هذا الرجل الشيخ الكبير في السن ومعروف لدى أصحاب المستشفى عُرف عنه بالخير والصلاح والتقى ومسجده كان يرتاد إليه الكثير من الناس حيث هو أصلاً إمام مسجد كانت تغسل فيه الموتى في مسجده فبدأ الناس أو الأطباء يستبشرون خير بأن قلبه بدأ ينبض من جديد وبدأت ترتفع النبضات : عشرين ثلاثين أربعين ستين بدأ يتنفس بدأ يأخذ نفس لوحده .. رفعوا عنه الكمامة لما شعروا أنه بدأ يفيق وبدأ ينظر للناس يسار يمين خلف كأنه يستغرب لماذا هم مجتمعين حوله بهذه الطريقة ! .. لما أفاق إفاقة جيدة ، رُفعت الكمامة عن فمه " كمامة الهواء والأكسجين " أول شي نطق فيه : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم سبحان الله العظيم ما لبث مليّاً إلا وبدأت النبضات تتناقص تدريجياً : سبعين ستين خمسين أربعين والأطباء حوله يحاولون يعطونه الأدوية يحاولون يعطونه منشطات القلب يحاولون بكل الطرق ، ينعشون قلبه من جديد ما فيه استجابة ! .. بدأ النفس عنده يضيق ويقل .. توقفت الرئتين من التنفس وبدأ قلبه صفر كما وضح من خلال جهاز السيطرة أو الذي يراقب دقات القلب .. عادوا من جديد بنفس الطريقة إنعاش القلب والرئتين ، تنفيس للرئتين ، وصلة الكمامة ،إعطاؤه الأدوية ، مساج القلب ، بنفس الطريقة خمس ضربات مساج القلب وتنفيسه واحدة للرئة : واحد اثنين ثلاثة أربع خمس أعطونا نفخة هواء وهكذا مرات عديدة وأعطوه كل الأدوية المنشطة لعضلات القلب بشكل متكرر ما استجاب ! أعطوه حتى وصلوا إلى الصعق الكهربائي حتى انتعش قلبه من جديد وعادت دقات قلبه إلى وضعها الطبيعي سبعين إلى ثمانين في هذا الوضع ، وعادت رئتيه إلى العمل من جديد يتنفس تنفس طبيعي وأفاق من جديد ونظر لمن حوله صار ينظر إليهم كلهم يلتفت ذات اليمين وذات الشمال وكأنه يشير برفع الكمامة عن فمه فرُفعت الكمامة ونظر ثم رفع سبابته وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتوقف القلب مرة ثانية سبحان الله العظيم .. أعادوا الكرة للمرة الثالثة ولكن هذه المرة لم يكن هناك فائدة من مساج القلب أو إنعاش الرئتين لكن أعطى للجميع من حضر تلك الحادثة عبرة وعظة بكت منها العيون أن الله سبحانه وتعالى يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت ، ثبت ذلك الرجل أمام الجميع بشهادة الجميع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. نسأله سبحانه وتعالى لنا وله جنة الخلد أجمعين ..
شجاعة لا نظير لها
طفل عمره ( 6 ) سنوات أحضره والده في الطوارئ يشتكي من شكوى غريبة : ( تجمع لصديد تحت الظفر ) وفي العادة هذا التجمع الصديدي يكون مؤلم الآلام شديدة لدى الصغير والكبير .
وفي الغالب يأتي المريض وهو يشتكي من ألم شديد جداً ولا يرضى حتى أن أحداً يفحصه من شدة الألم لو تلمسه يبتعد من شدة الألم .. ووالد الطفل هذا كان دائماً التشجيع له في كل حركة دائماًَ يذكره : أنت رجال ، لا تفشلنا أمام الدكاترة ، خلك رجال .. الخ دائماً هذه كلماته تشجيعية بشكل عجيب جداً وكأن هذا ليس بطفل كأنه رجلا وكان الطفل ما يبكي فجئنا ففحصناه لمسنا ظفره نعرف إن فيه صديد فبياض الصديد واضح تحت الظفر وبسببه ارتفع الظفر ، يعني لو كان موجود عند أي واحد فينا بكاء قد يصل إلى آخر الدار ! لكن هذا ما كان يبكي ! فقلنا لا يكون هذا الطفل مريض بأمراض أخرى ! ما لاحظنا أنه يحس ويشعر بالألم لما تلمسه في مناطق أخرى ويتفاعل مع الألم لكن الظاهر أنه كنموذج صخراً بسبب تشجيع هذا الأب .. فقلنا للأب : خيراً إن شاء الله إن ولدك لديه صديد تحت الظفر يحتاج إلى عملية لإخراج هذا الصديد من تحت الظفر . قال : توكلوا على الله اعملوها . قلنا إن شاء الله ..
فوقّع الوالد على العملية وما يتعلق بها قال الوالد : ما هي هذه ؟! قلت هذه لا بد من تخدير عام ونأخذه إلى غرفة العمليات وننظف ..... الخ
قال لالالا ما يحتاج . قلنا ما هو الذي ما يحتاج ؟!! قال ما يحتاج لا تخدير عام ولا تدخلونه للمستشفى اعملوها الآن في الطوارئ واتركوني آخذ ولدي وأمشي.. جئنا ننصحه ونذكره لا بد أن يتخدر لأن هذا الولد ما يتحمل فتحة المشرط في جلده وبمنطقة حساسة وفيها صديد وغيره . قال لالالا ما تعرفون ولدي هذا ، هذا ولدي رجال تربيتي وأنا أعرفه وعلى خبر منه صح ولاّ لا يا ولد ؟ الولد يهز رأسه وكلمات تنبئ على أنه رجل ليس بولد .(/3)
قلنا خير إن شاء الله إذا أنت رفضت التخدير العام طيب لعلنا نعطيه إبرتين في طرف الإصبع يسمى " التخدير الموضعي " .
قال ولا هذه يحتاج .. فأخذنا ننصحه ولكن قال أبداً ما يحتاج أنتم تعملون له العملية أوأنا أخذه وأعملها له في البيت نذهب نحمّي تلك السكين ونطلعها من تحت ظفره ! .. فكرنا لو تركناه هو وأبوه ممكن يؤذي الطفل ولو أجريناه في المستشفى تحت التعقيم والتنظيف والأمور هذه كلها لعلنا نصل وإياه إلى حل جيد ، لو حتى بدأ يبكي الطفل يعني أبوه يتحمل معه آثار البكاء فقلنا طيب ادخلوا معنا إلى غرفة العمليات الصغرى
فدخلوا قلنا أنت امسك يد ولدك . قال ما يحتاج .. قلنا تمسكها غصب عليك امسك يده حتى لا يحركها وأيضا يمكن المشرط يجرح أماكن لا نريدها تنجرح .. وافق على أنه يمسك ولده ، مسك اليد عقمنا نظفنا بالمواد المطهرة وجاءت لحظة المشرط رَفعتُ المشرط أنظر إلى الولد أريده يخاف أريده يتحرك أريده يسحب يده يقول آه يقول انتبهوا لا تجرحوني كما كثير من الناس لما نجي نشيل الغرزة : انتهبوا لا تجرحوني وما شابه ذلك من الكلمات .. هذا الولد الشجاع الذي لم أرى في حياتي شجاعة بمثل شجاعته لم يتحرك ! .. أخذنا المشرط فتحنا المنطقة رفعنا الظفر بواسطة الملقط فتحنا فيه كل مكان الصديد ، عصّرنا الظفر وأنا ما أطالع إلى وجهه لأني نريد نخلص العملية بسرعة وأتركه يأخذه والده . ودخلنا فتيلة صغيرة جداً جداً يعني أقل من ثلاث أرباع ملم حتى تبقي الجرح مفتوح حتى باقي الصديد يخرج في المستقبل حتى ما يتجمع من جديد في هذا المكان ولم يتحرك ذلك الطفل لكن لما التفتُّ عليه وجدت عيونه تدمع لأن الألم لا بد له من ذلك ، عيونه تدمع وهو ساكت ما يتحرك ..
وحتى الدمع أبوه ما يريده يدمع فالتفت عليه أبوه وقال له : أفا على الرجال ما ظننتك كذا جبان أو لست برجال ...الخ ! فجف الدمع حتى الدمع جف من عينه .. لفينا له إصبعه أخرجناه وقلنا لأبوه مبروك عليك هذا الفارس الهُمام الذي نسأله سبحانه وتعالى أن يخدم الإسلام والمسلمين ..
بكَّاء في الإنعاش
قصة ذلك الشاب يدرس في جامعة البترول والمعادن كان في السنة الثالثة في بدراسته الجامعية .. شاب نشط الكل ينظر إليه والديه وأهله على أنه سوف يتخرج بإذن الله عن قريب وسوف يكون عون لوالديه في مشاغل الدنيا كلها ..
كان على درجة من الصلاح ما عرف عنه إلا كل خير قراءته للقرآن الكريم ، تعبداً لله سبحانه وتعالى ، صلاة ، زكاة ، صيام ، قيام ليل ،
كان معروفاً عنه بالصلاح كان كل أصحابه يذكرون عنه أنه كثير الابتسامة وكثير العبادة وكان يحب سماع القرآن الكريم ..
ذلك الشاب خرج في طريق عادي بسرعة معقولة لكن قدر الله سبحانه وتعالى له حادث في الطريق انكسر فيه فخذه فقط
انتقل إلى أحد المستشفيات الخاصة وبعد عدة أيام من السجال والذهاب والإياب والتردد في إجراء التدخل الجراحي نُقل إلى المستشفى عندنا
فأخبرناه أنه لا بد لك من العملية وأن العملية هذه ضرورية وتثبيت كسر الفخذ وذلك بواسطة سيخ داخلي يوضع داخل الفخذ ويثبت بشيء من فوق ومن أسفل الفخذ .. وافق ووافق أهله على العملية .. أجريت له العملية بالطريقة المعتادة وهذه العملية شائعة يعني كل أسبوع تُجرى في المنطقة الشرقية 10 حالات بمثل هذه وفي المملكة قد يكون 40 أو 50 حالة فالعملية شائعة وما تحصل منها أي مشاكل إلا في النادر القليل في أقل من 1 في الألف أن تحصل له هذه المشكلة كما التي حصلت لهذا الشاب .. لماذا هذا الشاب ؟ علمه عند ربي سبحانه وتعالى يختار من يشاء ..
فهذا الشاب في اليوم الأول بعد العملية وقد زاره أصحابه وبدؤوا يتكلمون معه وكان نشطا ويتكلم معهم ويذكرهم بالله أكثر من أنهم هم يذكروه !
وهو يثبتهم وهم أصلا حاضرين حتى يثبتونه ويقولون له أنت ما فيك إلا الخير وان شاء الله معافى وسوف ترجع . قال الحمد الله على قضاء الله وقدره وأنا بحمد الله طيب ومعافى والحمد الله أجريت لي العملية ، ودائماً بين كلمة وأخرى يذكر الله سبحانه وتعالى وكان دائماً سؤاله : كيف أصلي وكيف أتوضأ وكيف القبلة ... الخ ؟!(/4)
وسبحان الله العظيم ومع مرور الصباح وجدنا الرجل يتغير بدأ عليه بعض التعرق وبدأ يكون شاحب الوجه وبدأ يتكلم بكلام مفهوم ولكنه بطيء فكأننا شعرنا أنه يأخذ النفس بسرعة فقسنا له سرعة التنفس وجدناها أنها سريعة جداً نبضات القلب سريعة خشينا أن الأمر فيه سوء بدأنا بإجراء الفحوصات الطبية المعهودة من أخذ كمية الأكسجين في الدم عن طريق شريانه الذي في اليد وجدنا نسبة الأكسجين في الدم قليلة جداً حدود 60 % والمفروض أنها تكون تقريبا 95 – 97 % فتأكدنا أن هذا الرجل الأكسجين يدخل إلى الرئتين لكنه ما يصل إلى الدم فإذاً فيه مشكلة في الرئتين ! .. أجرينا له فوراً أشعة على الصدر فوجدنا المشكلة ! جلطة أثرت على الرئتين في الجهتين وكمية كبيرة جداً منتشرة في كل أطراف الرئتين ، رئتيه بدل أن تكون سود من كثرة الهواء ظهرت بيضاء وهذا البياض معناه أنه فيه انسداد في الحويصلات الهوائية بسبب هذه الجلطة .. الجلطة مصدرها عرف أنه من منطقة الكسر لأنها جلطة دهنية انتقلت من منطقة الكسر هذا الأمر معروف طبياً لكنه نادر الحدوث عند الشباب لكن سبحان الله العظيم قدر الله وما شاء فعل أن يكون ذلك الشاب واحد من هؤلاء المصابين ومعروف كذلك عندنا طبياً أن 50 % منهم ما يستطيعون ينظفون هذه الجلطة من الرئتين وتكون نهايتهم نهاية المطاف الوفاة ونسأل الله سبحانه وتعالى السلامة ..
أخبرنا ذلك الشاب أنه لا بد من إجراء تنفس صناعي أو تنفس عن طريق الأنبوبة ولا بد أن يُخدّر حتى ما ينازع أنبوبة التنفيس ثم يوضع له الأنبوب داخل الحلق مما يوصل الهواء بكميات جيدة إلى الرئتين تحت ضغط معين حتى لعل وعسى تنفتح الحويصلات الهوائية ويقل أثر الجلطة
وهذه الطريقة المعتادة ويُعطى مواد طبية أخرى تقلل من أثر الجلطة وكل هذا معروف ومعمول به بالطرق المتبعة العلمية
قال فإذاً سوف أغيب عن الوعي ؟!! .. قلنا نعم لا بد أن تغيب عن الوعي نأخذك الآن للعناية المركزة فطبعا هو صاحي الآن ويسمع كل هذا الكلام فذكر الله سبحانه وتعالى ذكراً كثيراً قبل أن يغيب عن الوعي وخاصة أنه حس داخل نفسه أنه قد لا يفيق !
وطبعا صعبة أنك تقول له أنك لا تفيق حتى لا تأثر على نفسته ولكن يمكن نقول له : أذكر الله ، أكثر من ذكره سبحانه وتعالى ، خلّك قريب من الله سبحانه وتعالى عاد الأمور فيها خطورة فيها كذا لعله يفهم منها المغزى ! .. لكن أهله ووالديه توضح لهم كل ما يحصل ..
وافق وكان ما عنده خيار مسكين فوضعت له الأنبوبة وبدأ في تخديره تدريجياً وشل حركة العضلات لئلا ينازع أنبوب التنفيس لأنه مؤذي أنبوب التنفس هذا وأخذناه للعناية المركزة .. أعطيناه الأكسجين بكميات كبيرة .. أعطيناه الأكسجين مضغوط ولكن ليس بقوة حتى لا يفجر مناطق معينة في الرئتين .. ضغط 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 6 وبعد ذلك والأكسجين تعطيه 50 ، 60 ، 70 إلى 100 % ومع ذلك رئتيه ما تريد أن تستجيب أول يوم ، ثاني يوم ، ثالث يوم ، جلس عشرة أيام في العناية المركزة .. وهذه القضايا يعني بالنسبة لنا كأطباء نرى أن مثل هؤلاء شيء قريب منها في العناية المركزة بشكل معروف وملحوظ عندنا ما كانت حقيقة تؤثر علينا فينا هذه الحالات ما نقول لتبلد الحس لكن بكثرة ما نرى من هذه الحوادث لكن ذلك الشاب حقيقة كان منظره عجيب ..
يحضر والده دائماً للعناية المركزة للاطمئنان على حالته ويسأل الصغير والكبير وما قصر والده ، ما ترك أحد إلا ليسأله عنه : شوفوا له أي حل أي طريقة أذهب به إلى أي مكان لو أخسر دمي لو أخسر لو أخسر كل ما أملك لكن تنقذون لي ولدي ! ، طبعا ليس في يد الأطباء ولا في يد أي أحد ما يستطيع أحد يقدم له أكثر مما قدم . حاول الوالد أذهب به : إلى المستشفى العسكري في المستشفى الفلاني قلنا يا والد كل هذا الأمر أعطيناه ما عندنا وما استطعنا فعله لكن ما عندك إلا الدعاء له .. فبدأ يستسلم للأمر الواقع وبدأ يدعو له هو ووالدته وجميع أهله .. العجيب كان والده يحضر المسجل ويضع له شريط قرآن ويُخيّل لي وأظن والعلم عند الله سبحانه وتعالى أن هذا الشريط بالذات كان يحب سماعه دائماً ذلك الشاب الصالح بصوت هذا المقرئ فكان إذا سمع القرآن تدمع عينيه وهو تحت التخدير ! تخرج الدموع من عينيه ! وكأنه يحس بقراءة القرآن تتلى عليه ! فكنا نعجب من حاله ! كان لا يسمعنا ولا يجاوب معنا ولا مع والديه لكن إذا سمع القرآن تدمع عينيه .. قد يكون أن كمية الدواء المخدر تقل منها في لحظات معينة فيبدأ في الإحساس ولذلك تدمع عينيه لكن الشاهد كنت أرى بعض التعابير على وجهه عند قراءة القرآن أو عند تلاوته يُقرأ عند رأسه .. في اليوم العاشر توفاه الله سبحانه وتعالى بعدما نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً مات على ذكر الله قبل أن يوضع في أنبوب التنفس والله أعلم ..
كيف أذكر الله ..
شاب كان يحب رعي الإبل فاشترى بعض منها وتركها في البر وبدأ كل فترة وأخرى يذهب إلى منطقة البرية يتفقد إبله(/5)
وكان رغم ما هو مولع بالإبل إلا كان كثير ذكر الله سبحانه وتعالى دائماً يسبّح ويحمد الله تعالى ويقرأ القرآن لسانه رطبا بذكر الله نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا .. كان الرجل تعرفت عليه في الحرم وحكى لي قصته العجيبة هذه فيقول :
خرجت ذات يوم أتفقد الإبل في طريق المطار الجديد كان الطريق لم ينتهي بعد فهو في فترة الإنشاء .. ذهبت عند وقت العصر تفقدت الإبل وشربت من حليبها ثم أردت الرجوع قبيل المغرب وأنا في طريق العودة نظرت أمامي دون سابق إنذار كومة مركبّة وسط الشارع من الاسفلت طبعا لونه أسود والطريق أسود والوقت عند المغرب ولا انتبت لهذه الكمية من الاسفلت الموضوعة حاولت أن أهدئ السرعة ولكني ما استطعت فاضطررت أن أضرب فيها فاصطدمت بهذه الكمية من الاسفلت ..
الحادث بحد ذاته بالنسبة له بسيط لكن وجد نفسه ينزف دما ! .. يتفقد مصدر الدم ظن من جبته أو من مناطق جسمه ولكن وجد الدم بكمية كثيرة نظر إلى جزء من لسانه مقطوع شعر أن لسانه ثقيل ما يستطيع يتكلم فخاف أنه لو سقط ليبلع الدم وليس يستطيع يضمّد لسانه لا يستطيع أحد يُخرج لسانه ويمسكه أو يضمده عن النزف يقول : خرجت وأنا مذهول ما أدري ماذا أفعل ؟! ما أدري أين أذهب ! السيارة الآن ما تتحرك وأنا في طريق بري ولوحدي فخرجت من السيارة وقد تكسرت الزجاج الأمامية وأنا في مصيبة ولكن ذلك اللسان الذي جلس ينزف دما بكمية كثيرة جداً أيقنت أني هالك لا محالة إلا أن ينجيني الله سبحانه وتعالى ..
خرجت بدأت أسير قليلا قليلا وأنا مثقل بالألم من قطع اللسان والنزيف وبدأ يكون علي الإعياء والتعب وبدأت أشعر بالدوخة .. فجأة نظرت إلى كأنه ظل أحدا من بعيد كأنهم جماعة يسيرون كأنهم عمال هنود يسيرون في الطريق يكملون طريقهم وبيني وبين عن الطرق العام مسافة يمكن تتجاوز 4 كم حاولت أن أؤشر لهم ولما نظروا إلي ونحن عند المغرب وواحد يخرج الدم من فمه وبكميات كثيرة خافوا ظنوا أني جني فهربوا كل واحد سلك جهة بمفرده قلت إنا لله وإنا إليه راجعون وأنا ما كنت أتوقع أن أصل إلى الشارع العام .. كملت طريقي شعرت بخطاي بدأت تكون ثقيلة مرة أسحب رجل ومرة أنزل رجل شعرت أن قواي بدأت تخور وبدأت أذكر الله سبحانه وتعالى وأكثر من ذكره سبحانه وتعالى وبدأت أتذكر الأيام الخوالي ! وماذا فعلت فيها ؟ وماذا قدمت من حياتي ؟ وكيف أقدم على الله وبأي شيء ؟ ما هي الذنوب التي عملتها طيلة هذه السنوات ؟! ... الخ بدأت أستعيد شريط حياتي من طفولتي إلى هذه اللحظة التي أنا فيها تذكرت بناتي .. " وهو سبحان الله العظيم جميع الذي لديه بنات وليس أولاد " .. فيقول : بدأت أتذكر من الذي يرعاهم من بعدي وكذلك زوجتي وحتى الإبل حنّيت عليه سوف أترك الإبل لمن ؟! وغيرها .. وأنا أسير وأسير وأتوقع أني أسقط بأي لحظة من كثرة التعب و سبحان الله العظيم في هذه الأثناء حضرت سيارة نجدة سائرة فقط في الطريق العام وأرادت أن تدخل في الشارع الفرعي شارع المطار الجديد تتفقد أو تنظر ما هو الموجود ، من أرسلها !! الله سبحانه وتعالى أعلم ! ...(/6)
أشّرت لها وأنا ملقى على الأرض والحمد الله لحقوا علي وأنا ممدد على الأرض .. أخذوني أحاول أن أتكلم أول مرة أكتشف الآن أن لساني ما قدر ينطق بالكلمات لأني حاولت أن أتكلم ما استطعت أن أقولهم شيئا فأخرجت بطاقة في جيبي تبيّن أني عسكري وأني أريد المستشفى العكسري حتى أتعالج فيه ففهموا قصدي أخذوني بسرعة وحتى هم ما عرفوا ماذا سيفعلون بي لا أحد يعرف يضمد اللسان ولا أحد يوقف نزيف من اللسان وليس هو جرح خارجي تربط الإصبع أو الرجل ولكنه لسانا .. وصلت إلى المستشفى العسكري فوصلت إلى الطوارئ كتبت لهم بعض الكلمات حتى يتصلوا بأصحابي وأهلي .. جاء إلي الطبيب الذي سوف يخيط لساني وجلس يرسم لي رسم يشرح لي لكن ما قدرت أفهم طبعا أعطوني سوائل وبدأت أرجع قليلا إلى الوعي وأنتبه وأعرف الذين حولي أحاول أن أؤشر لهم ورسم لي لساني متعلق على جزء بسيط جداً وينقطع بالكامل و لما رسم لي انفجعت شعرت بحجم المشكلة في لساني ! وقال لي سوف أدخل للعملية الآن وربما تطول وما ندري هل تنجح أو لا وترجع تتكلم أو لا ... الخ ... فبدأت أشعر الآن بنعمة اللسان هل من المعقول ما أتكلم وأنا كنت أتكلم في كل مكان وفي كل مجلس وأتكلم يسار ويمين وعلى فلان وعلان والآن ما أستطيع أتكلم ! فبعد ذلك تذكرت ولا أستطيع أذكر الله سبحانه وتعالى أنا كثير الذكر بالله .. الخ كل هذه الأمور المشاعر بدأت تدور في بالي وهو يشرح لي الدكتور وبدأت ما أفكر في كلام الدكتور بقدر أني أفكر في حالي ! كيف سوف أتصل في عيالي ؟! كيف أبنصحهم ؟! كيف أبشرح لهم وأكلم زوجتي وكيف أبطلب رغباتي الشخصية وكيف عملي أين أذهب ؟! .. الخ وأنا من غير لسان و سبحان الله فقط نعمة واحدة " نعمة اللسان " كل هذه الهواجس مرت على رأسي والدكتور يقول ترى أبخيّط لسانك وما ندري هل تنجح العملية وتقدر تتكلم أو خلاص هذه آخر مرة يكون لك فيها لسان ! ..
يقول اضطررت أن أوافق على العملية ليس لدي خيارات ووقعت لهم على الأوراق ووافقت .. أخذوني إلى غرفة العمليات .. بعد ذلك يقولوا الأطباء لي أنه طالت العملية وهم يخيطون لي هذا اللسان فجلسوا يخيطون بدقة وكذا حتى يحاولون أنه يرجع إلى طبيعته الأولى .. خرجت من العملية .. أفقت من البنج وبدأت أعرف الذين حولي .. أشعر لأول مرة أن لساني مثل الطابوق أو العلبة، داخل حلقي قد تورّم لا أعرف أبلع حتى ريقي أشعر بالألم عند بلع الريق ولا أقدر أخرج لساني من الورم فشعرت أنه إحساس ليس بالحقيقة ولكن هذا ما أشعر به لساني قد تورّم ولا أعرف أتكلم .. فحاولت أتكلم من الحلق أو من آخر اللسان لكن ما استطاع أن يخرج مني شيئا أنا لله وإنا إليه راجعون .. بعد كل هذه الأزمة النفسية وكل ما مرت علي إلا أن أرجع إلى ذكر الله سبحانه وتعالى وألجأ إليه وأسأله العون وتخفيف مصابي وأدعو الله سبحانه وتعالى بصالح أعمالي .. وما هي والحمد لله إلا أسابيع مرت علي في هذه المعاناة في المستشفى ومع الأهل والناس كلهم يحضرون يطمئنوني إلا الحمد الله بدأت أنطق بعض الكلمات وسبحان الله كأني طفل يتعلّم ويحضرون لي كلمات من طرف اللسان ومن الحلق يحاولون بي أن أنطق وأنا أنظر إليهم وأضحك كأني طفل في بداية تعلم النطق لكن سبحان الله العظيم وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى مرت علي 6 أشهر تقريبا بدأت أُخرِج كل الكلمات بشكلها الصحيح وشكلها السليم وحمدت الله سبحانه وتعالى حمداً كثيراً على أن أعاد لي لساني وهو جزء بسيط من ما أنعمه الله سبحانه وتعالى على خلقه وفي خلقه شؤون .. فألزمت نفسي بأن أعود إلى أكثر بما كنت عليه من كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى والثناء عليه ..
قال الشيخ : والحمد الله وكما عرفت عنه أن لسانه لا يزال رطبا من ذكر الله سبحانه وتعالى ..
داعية في المستشفى
قصة مازن .. مازن عجيب جداً شاب أردني تخرج من ثانويات المملكة وخرج بعدها إلى الأردن .. تخرج بعد ذلك طبيب بيطري وعاد إلى السعودية للعمل .. رجل متزن ، قارئ لكتاب الله ، مصلي ، محافظ على صلاته ، يؤدي عمله بكل نشاط وبكل أمانة .. قدر الله سبحانه وتعالى له حادث سيارة فظيع أدى إلى بعض الكسور وكدمات وضربات عند مفصل الوركين وغيبوبة .. الغيبوبة لمّا تكون مع بعض الكسور تكوّن كلس أكثر بكثير من الكلس العادي حتى أنه يكاد يؤذي المريض أكثر مما يفيده لمنطقة الكسور منطقة الوركين وهذا ما حصل لمازن .. تجمّع هذا الكلس بكميات كبيرة جداً لكنه كان بعد أن أفاق من الوعي كان يستطيع المشي بصعوبة جداً وكان وعيه ليس بالكامل يعني يعرف من حوله ، يتكلم ، كلماته جمل مقطعة وليست جمل كاملة مفيدة ، وهذا شي يحصل مع ضربات الدماغ لكن مع الوقت يتحسن شيئا شيئا ..(/7)
شيء وحيد سبحان الله العظيم عند مازن كان جيد ولم يفقد مسكه للقلم كان يمسك القلم ويستطيع الكتابة وكنت ما ترى عليه إلا ذكر الله سبحانه وتعالى لسانه رطبا بذكر الله دائماً يحمد الله ويشكره ، دائماً يسبح ويستغفر، يهلل ويكبّر ، دائماً آية الكرسي على لسانه وفواتح وخواتيم سورة البقرة ، دائماً قارئ للفاتحة ، دائماً قارئ للمعوذات ، سبحان الله العظيم تعجب عندما تأتيه كطبيب تزور هذا المريض فيذكرك وجهه بالله وجهه نورا دائما يذكر الله سبحانه وتعالى .. تحضر إليه وتتكلم معه في أمور أخرى تجده يقطع في الجمل لا يستطيع أن يصف الكلمات حتى يخرج كلمات مفيدة لكن آية الكرسي يعطيك إياها كاملة ! الفاتحة والمعوذات يقرأها بالكامل فكنت أستغرب منه ! .. ومع مرور الأيام وبقاءه في المستشفى وطال بقاءه معنا في المستشفى وتعلمه للكتابة من جديد بدأ يكتب في ورق خارجي بعض الآيات والأحاديث التي تفيد المسلم في حياته مثل أذكار الصباح والمساء ، بعض الأدعية صار يكتبها في ورق يتذكّر هذه الأمور ذاكرته جيدة في هذه الأمور سبحان الله العظيم
ولما بدأ في الكتابة صار يكتبها كل يوم كلها آيات وأحاديث ما كان هذا فقط همّه ؟!
كنت أستغرب ما هي هذه الورقات التي يكتبها ! ما هوهم هذا الرجل كيف يعمل ؟ .. فكان يدعو بمن حوله .. يزحف على كرسيه المتحرك يخرج إلى جاره فيعطيه هذه الورقات " اقرأ اقرأ ما فيه تلفزيون اقرأ هذه أفضل من مازن إلى أخيه إذا قرأت يكون حالك أفضل .... " كلمات بهذه الطريقة .. سبحانه الله العظيم همته عالية رغم الإعاقة إذاّ الإعاقة ليست الجسمية التي نراها هي الإعاقة التي كانت تحصل في قلوبنا التي تحصل في جوارحنا وتعاطفنا مع أحوال المجتمع هنا الإعاقة الحقيقية .. حقيقة كنت أراه وأنظر أنا المعوّق وليس هو ! ..
بدأ يخرج في خارج غرفته صار يعطي جيرانه في الغرف الورقات .. يجلس ليلتان أو ثلاثة أو أربعة حتى يكتب ورقة صغيرة وأنت تستطيع
كتابتها في ساعة وهو همه أن ينهي تلك الورقة كي يعطيها لشخص جديد .. ثم بدأ يكتب في كرتونة كبيرة الآيات والأحاديث .. خرج بكرسيه المتحرك بمساعدة أهله ومن حوله قال سوف أذهب للمصلى فيعرف أن في المستشفى مصلى ، ذهب إلى المصلى وصلى هو وإيانا إحدى الصلوات وكانت الظهر وعلّق الكرتونة في المصلى يريد أن كل من يأتي للمصلى يقرأ الآيات الأحاديث التي فيها أذكار الصباح والمساء والتي تذكر بالله سبحانه وتعالى والتي تحث على الصبر عند المصائب كل كتاباته بهذه الطريقة .. الشاهد أنه خرج وكنت معجب فيه إعجاباً عجيب جداً بهذا الولد الشاب كنت أريد أن أساعده بكل طريقة أستطيع بها .. قبل أن يخرج أهدى لي بعض الورقات لي ولزوجتي قال هذه لك ولأم أنس ! حتى يريد ما ينصحني أنا فقط يصلحني ويصلح بيتي لعلها تصبر على الطبيب وعلى ما يعانيه الطبيب وغيره وكلمات جميلة جداً وإن كانت في بعض منها الغير التناسق .. ومرت الأيام سيحان الله العظيم وأنا ما زلت أتذكر ذلك الشاب .. وفي يوم من الأيام أتاني أخي قال لي أنا موقف السيارة عند الإشارة وحضر لي واحدا وكأنه أعرجا وطرق علي نافذة السيارة ففتحت له : نعم ! قال لو سمحت خذ هذه الورقات . وإذا بها نفس ورقات المستشفى !.. بدأ يكتب هذه الورقات في البيت ويخرج إلى الشارع يوزعها للناس الذين عند الإشارات .. هل نظرتوا إلى هم مثل هذا ؟! هل نظرتوا إلى إنسان يحمل هم الدعوة مثل هذا الشخص ؟! همه سبحان الله العظيم عجيب جداً ما يريد أن يحده حدود في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى . تضعه في المستشفى يدعو وتضعه في البيت يدعو وتضعه في كل مكان يدعو إلى الله سبحانه وتعالى وهكذا يجب أن يكون الداعية ! يقول ابن تيمية ( أنا جنتي في صدري أينما ذهبت فهي معي أنا سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة )
والله سبحانه وتعالى يقول : " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين "
هكذا يجب أن يكون المسلم دائماً وأبداً يدعو إلى الله سبحانه وتعالى في كل مكان وفي أي زمان وعلى أي حال ما تحده حدود ولا ضروف ولا مرض ولا أي شيئا فهو داعية في سمته في التزامه في كلماته في أخلاقه في أفعاله هكذا يجب أن يكون الداعية والله أعلم .......
الصوت الإسلامى ...(/8)
قصص من الواقع في حياة الصالحين
قصة القارب العجيب
تحدى أحد الملحدين- الذين لا يؤمنون بالله- علماء المسلمين في أحد البلاد، فاختاروا أذكاهم ليرد عليه، وحددوا لذلك موعدا.
وفي الموعد المحدد ترقب الجميع وصول العالم، لكنه تأخر. فقال الملحد للحاضرين: لقد هرب عالمكم وخاف، لأنه علم أني سأنتصر عليه، وأثبت لكم أن الكون ليس له إله !
وأثناء كلامه حضر العالم المسلم واعتذر عن تأخره، تم قال: وأنا في الطريق إلى هنا، لم أجد قاربا أعبر به النهر، وانتظرت على الشاطئ، وفجأة ظهرت في النهر ألواح من الخشب، وتجمعت مع بعضها بسرعة ونظام حتى أصبحت قاربا، ثم اقترب القارب مني، فركبته وجئت إليكم. فقال الملحد: إن هذا الرجل مجنون، فكيف يتجمع الخشب ويصبح قاربا دون أن يصنعه أحد، وكيف يتحرك بدون وجود من يحركه؟!
فتبسم العالم، وقال: فماذا تقول عن نفسك وأنت تقول: إن هذا الكون العظيم الكبير بلا إله؟!
قصة الدرهم الواحد
يحكى أن امرأة جاءت إلى أحد الفقهاء، فقالت له: لقد مات أخي، وترك ستمائة درهم، ولما قسموا المال لم يعطوني إلا درهما واحدا!
فكر الفقيه لحظات، ثم قال لها: ربما كان لأخيك زوجة وأم وابنتان واثنا عشر أخا. فتعجبت المرأة، وقالت: نعم، هو كذلك.
فقال: إن هذا الدرهم حقك، وهم لم يظلموك: فلزوجته ثمن ما ترك، وهو يساوي (75 درهما)، ولابنتيه الثلثين، وهو يساوى (400 درهم)، ولأمه سدس المبلغ، وهو يساوي (100 درهم)، ويتبقى (25 درهما) توزع على إخوته الاثنى عشر وعلى أخته، ويأخذ الرجل ضعف ما تأخذه المرأة، فلكل أخ درهمان، ويتبقى للأخت- التي هي أنت- درهم واحد.
قصة المال الضائع
يروى أن رجلاً جاء إلى الإمام أبى حنيفة ذات ليلة، وقال له: يا إمام! منذ مدة طويلة دفنت مالاً في مكان ما، ولكني نسيت هذا المكان، فهل تساعدني في حل هذه المشكلة؟
فقال له الإمام: ليس هذا من عمل الفقيه؛ حتى أجد لك حلاً. ثم فكرلحظة وقال له: اذهب، فصل حتى يطلع الصبح، فإنك ستذكر مكان المال إن شاء الله تعالى.
فذهب الرجل، وأخذ يصلي. وفجأة، وبعد وقت قصير، وأثناء الصلاة، تذكر المكان الذي دفن المال فيه، فأسرع وذهب إليه وأحضره.
وفي الصباح جاء الرجل إلى الإمام أبى حنيفة ، وأخبره أنه عثر على المال، وشكره ، ثم سأله: كيف عرفت أني سأتذكر مكان المال ؟! فقال الإمام: لأني علمت أن الشيطان لن يتركك تصلي ، وسيشغلك بتذكر المال عن صلاتك.
قصة المرأة الحكيمة
صعد عمر- رضي الله عنه- يوما المنبر، وخطب في الناس، فطلب منهم ألا يغالوا في مهور النساء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يزيدوا في مهور النساء عن أربعمائة درهم؟ لذلك أمرهم ألا يزيدوا في صداق المرأة على أربعمائة درهم.
فلما نزل أمير المؤمنين من على المنبر، قالت له امرأة من قريش: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم؟ قال: نعم.
فقالت: أما سمعت قول الله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا} ( القنطار: المال الكثير).
فقال: اللهم غفرانك، كل الناس أفقه من عمر.
ثم رجع فصعد المنبر، وقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في مهور النساء، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل.
قصة الخليفة الحكيم
كان عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- معروفا بالحكمة والرفق، وفي يوم من الأيام، دخل عليه أحد أبنائه، وقال له:
يا أبت! لماذا تتساهل في بعض الأمور؟! فوالله لو أني مكانك ما خشيت في الحق أحدا.
فقال الخليفة لابنه: لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في المرة الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه (أي أخاف أن أجبرهم عليه مرة واحدة فيرفضوه) فتكون فتنة.
فانصرف الابن راضيا بعد أن اطمأن لحسن سياسة أبيه، وعلم أن وفق أبيه ليس عن ضعف، ولكنه نتيجة حسن فهمه لدينه.
اخوكم في الله
طارق بن محمد القطان(/1)
قضاء الوتر
"أبو عبد الرحمن العربى زغلول"
عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره ) وبلفظ ( من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر أو إذا استيقظ ) عن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من نام عن وتره ، فليصل إذا أصبح )
عن محمد بن المنتشر ( كان فى مسجد عمرو بن شرحبيل فأقيمت الصلاة فجعلوا ينتظرونه فجاء فقال : إنى كنت أوتر ، وقال : سئل عبد الله : هل بعد الأذان وتر قال : نعم وبعد الإقامة وحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس ثم صلى. وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر )، وعن أبى الدرداء ( ربما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر وقد قام الناس لصلاة الصبح ) وعن عائشة ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح فيوتر )
قال ابن حجر في الفتح (2/557) : ( اختلف السلف في مشروعية قضائه فنفاه الأكثر ، وفى مسلم وغيره عن عائشة ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة ) وقال محمد بن نصر : لم نجد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر ولا أمر بقضائه ، ومن زعم أنه صلى الله عليه وآله وسلم فى ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر فلم يصب 0 وعن عطاء والأوزاعي يقضى ولو طلعت الشمس وهو وجه عند الشافعية حكاه النووي في شرح مسلم ، وعن سعيد بن جبير يقضى من القابلة ، وعن الشافعي : يقضى مطلقاً، ويستدل لهم بحديث أبى سعيد المتقدم والله أعلم.
قال المباركفورى فى التحفة (2/568-570): ( قوله ( من نام عن وتره فليصل إذا أصبح ) قال ابن الملك: أي: فليقض الوتر بعد الصبح متى اتفق ، وإليه ذهب الشافعي في أظهر قوليه . وقال مالك واحمد لا يقضى الوتر بعد الصبح انتهى.
قلت : مذهب الشافعي موافق لهذا الحديث وهو حجة على مالك وأحمد فإن قلت : هذا الحديث مرسل والمرسل من أقسام الضعيف، قلت : قال ميرك نقلا عن التصحيح : وله شاهد من حديث أغر المدني عند الطبراني بإسناد جيد انتهى.
ويؤيده حديث أبى سعيد المذكور في الباب وإسناده عند أبى داود صحيح كما ستعرف ) وقد قال الترمذي . ( وقد ذهب بعض أهل الكوفة إلى هذا الحديث وقالوا : يوتر الرجل إذا ذكر وإن كان بعد ما طلعت الشمس وبه يقول سفيان, قال الشوكاني فى نيل الأوطار (3/318-319) في شرح حديث عائشة المتقدم : ( الحديث يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات، وقد ذهب على ذلك من الصحابة على بن أبى طالب وسعد بن أبى وقاص ، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وعامر بن ربيعة وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وفضالة بن عبد وعبد الله بن عباس كذا قال العراقي قال : ومن التابعين عمرو بن شرحبيل وعبيدة السلماني وإبراهيم النخعي ومحمد بن المنتشر وأبو العالية وحماد بن سليمان.
ومن الأئمة سفيان الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو أيوب وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة، ثم اختلف هؤلاء إلى متى يقضى على ثمانية أقوال :
أحدهما: ما لم يصبح الصبح ، وهو قول ابن عباس وعطاء بن أبى رباح ومسروق والحسن البصرى وإبراهيم النخعي ومكحول وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبى أيوب خيثمة حكاه محمد بن نصر عنهم.
ثانيها: أنه يقضى الوتر ما لم تطلع الشمس ولو بعد صلاة الصبح وبه قال النخعى.
ثالثها: أنه يقضى بعد الصبح وبعد طلوع الشمس إلى الزوال روى ذلك عن الشعبي وعطاء والحسن وطاووس ومجاهد وحماد بن أبى سليمان وروى أيضا عن ابن عمر.
رابعها: أنه لا يقضيه بعد الصبح حتى تطلع الشمس فيقضيه نهارا حتى يصلى العصر فلا يقضيه بعده ، ويقضيه بعد المغرب على العشاء ، ولا يقضيه بعد العشاء لئلا يجمع بين وترين فى ليلة ، وحكى ذلك عن الأوزاعى.
خامسها: أنه إذا صلى الصبح لا يقضيه نهارا لأنه من صلاة الليل ويقضيه ليلا قبل وتر الليلة المستقبلة ثم يوتر للمستقبلة وروى ذلك عن سعيد بن جبير.
سادسها: أنه إذا صلى الغداة أوتر حيث ذكره نهارا فإذا جاءت الليلة الأخرى ولم يكن أوتر لم يوتر لنه إن أوتر في ليلة مرتين صار وتره شفعا حكى ذلك عن الأوزاعى أيضا.
سابعها: أنه يقضيه أبدا ليلا ونهارا وهو الذي عليه فتوى الشافعي.(/1)
ثامنها: التفرقة بين يتركه لنوم أو نسيان وبين أن يتركه عمداً ، فإن تركه لنوم أو نسيان قضاه إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلاً أو نهاراً وهو ظاهر الحديث وأختاره ابن حزم واستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) قال: "وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة وهو في الفرض وفى النفل أمر ندب، قال: ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبداً، فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبداً متى ذكره ولو بعد أعوام.
وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه ، وحمله الجمهور على الندب وقد تقدم الكلام فى ذلك ) أ . هـ
قال المباركفوري صاحب التحفة في التحفة (2/573): ( مذهب أبى حنيفة أنه يجب قضاء الوتر حتى لو كان المصلى صاحب ترتيب وصلى الصبح قبل الوتر ذاكرا لم يصح ).
وفى ( مسائل أحمد لأبنه عبد الله ) ( 93،95) ( سألت أبى عمن نسى الوتر أصبح ، يجب عليه القضاء ؟ قال : إن قضى لم يضره، قال ابن عمر : ما كنت صانعاً بالوتر وقال أبى : ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى شيئاً من التطوع إلا ركعتين قبل الفجر فإنه نام عن الصلاة أمر بلالاً فأذن وصلى ركعتين ، ثم أقام وصلى الفجر ويقال : أنه شغل عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر سمعت أبى يقول فيمن أصبح ولم يوتر: إن أوتر فحسن، وإن لم يوتر فأرجو أن لا يكون عليه شيء. قلت لأبي : فإن ذكر من الغد ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس ) أ .هـ
وفى ( مسائل أحمد ) لأبى داود (71) : ( سمعت أحمد سئل عن رجل عليه صلوات فوائت ؟ قال: إن فعل لم يضره ). قال محمد بن نصر : ( والذي أقول به أنه يصلى الوتر ما لم يصل الغداة فإذا صلى الغداة فليس عليه أن يقضيه بعد ذلك ، وإن قضاه على ما يقضى التطوع فحسن ، قد يصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركعتين قبل الفجر بعد طلوع الشمس في الليلة التي نام فيها عن صلاة الغداة حتى طلعت الشمس، وقضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر في اليوم الذي شغل فيه عنهما، وقد كانوا يقضون صلاة الليل إذا فاتتهم بالليل نهاراً فذلك حسن وليس بواجب ) أ. هـ.
هل يقضى الوتر ؟ قال ابن القيم رحمه الله ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع قيام الليل حضراً ولا سفراً وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى لفوات محله فهو كتحية المسجد وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وتراً كما أن المغرب آخر صلاة النهار فإذا انقضى الليل وصليت الصبح لم يقع الوتر موقعه. وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر )
ولكن لهذا الحديث عدة علل:
أحدها: أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف
الثاني: أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : هذا أصح يعني المرسل
الثالث: أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبي سعيد : الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أوتروا قبل أن تصبحوا ) قال: فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واه.(/2)
قضاء الحوائج فضائل وفوائد وآداب منسية ...
بسم الله الرحمن الرحيم ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين .
إن للأخوة أبواباً جليلة وواجبات كثيرة وحقوقاً عظيمة وهذا يدل على عظم منزلة الأخوة والألفة والمحبة التي تكفل الله بحفظها { لو أنفقت ما في الأرض ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } .
هناك باب من أبواب الأخوة عظيم النفع جليل القدر كثير الأجر ، به تحفظ الأخوة ، به تدوم الألفة ، به تصدق المحبة ، و به يختبر الصديق ويمتحن في صدق محبتهِ .
فهل سمعت بقضاء الحوائج واصطناع المعروف ؟
هل سمعت بفضائلٍ في هذا الباب ؟.
هل سمعت بفوائده في الدنيا وثمراته في الآخرة ؟
هل سمعت إلى شيء من آدابه ؟..وهل سمعت أحوال السلف في ذلك ؟
إن قضاء الحوائج واصطناع المعروف باب واسع يشمل كل الأمور المعنوية والحسية التي ندب الإسلام عليها وحثَّ المؤمنين على البذل والتضحية فيها لما فيه من تقويةٍ لروابط الأخوة وتنمية للعلاقات البشرية ، قال الله سبحانه وتعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }قال العلامة السعدي رحمه الله : أي ليعن بعضكم بعضاً على البر وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة من حقوق الله وحقوق الآدميين .
التقوى هنا : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة والباطنة ، وكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين بكل قول يبعث عليها وينشط لها وبكل فعل كذلك .
أيها الأخ الحبيب استمع إلى شيء أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تدل ترابط المؤمنين وتعاونهم والشعور بالألفة المتبادلة بينهم قال( ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) وقوله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )وقوله صلى الله عليه وسلم ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) فهذه من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على أخيه .
وقوله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) فنصرته ظالماً بردعه عن الظلم وذلك نصرة على نفسه الأمارة بالسوء ، ونصرته مظلوماً برفع الظلم عنه ، ويدل ذلك على عظم مكانة الأخوة في كلا الحالين .
أخي الحبيب اسمع معي إلى نزر يسير يشير إلى فضل قضاء حوائج الإخوان واصطناع المعروف فمن ذلك :-
قال صلى الله عليه وسلم ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم ، أو يكشف عنه كربه أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ، ولأن أمشي مع أخ في حاجه أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد – مسجد المدينة - شهراً ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كتم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ..) صححه الألباني الأحاديث الصحيحة رقم (906)
قال أبو العتاهية :
اقض الحوائج ما استطعـ = ـت وكن لهمِ أخيك فارج
فلخير أيام الفتى = يوم قضى فيه الحوائج
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أحيه ..) .
ومن فضائل قضاء الحاجات { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } قال صلى الله عليه وسلم: ( اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب ) ، قال ابن عباس : إن لله عباداً يستريح الناس إليهم في قضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم أولئك هم الآمنون من عذاب يوم القيامة .
قال الضحاك في قوله تعالى{ إنا نراك من المحسنين } - في قصة يوسف عليه السلام – كان إحسانه إذا مرض رجل ي السجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه المكان وسع له إذا احتاج جمع سأل له .
وقيل لابن المنكدر أي الأعمال أفضل ؟ قال : إدخال السرور على المؤمن . قيل أي الدنيا أحب إليك ؟ قال الإفضال على الإخوان . أي التفضل عليهم والقيام بخدمتهم .
وقال وهب بن منبه : إن أحسن الناس عيشاً من حسن عيش الناس في عيشه وإن من ألذ اللذة الإفضال على الإخوان.
فوائد قضاء الحوائج
أخي الحبيب لقضاء الحوائج فوائد فهاك بعضاً منها :(/1)
- فمن فوائده عظم الأجر المترتب عليه كما سمعت فيما سبق و لذلك يقول ابن عباس : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصنعه إليه ، أيضاً استمع إلى ما يقابل ذلك كان يقال : لا يزهدنك في المعروف من يسديه إليك ، ولا ينبو ببصرك عنه ، فإن حاجَتَك في شكره ووفائه لا منظره ، وإن لم يكن أهله فكن أهله .
قال عمرو بن العاص : في كل شيء سَرَفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع المعروف ، أو إظهار مروءة .
ولم أر كالمعروف أما مذاقه = فحلوُ وأما وجهه فجميل
- ومن فوائد قضاء الحوائج : حفظ الله لعبده في الدنيا كما في الحديث القدسي ( يابن آدم أنفق ينفق عليك ) وقد قيل ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ) .
قال ابن عباس : صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئاً .
كان خال القسري يقول : على المنبر أيها الناس عليكم بالمعروف فإن فاعل المعروف لا يعدم جوازيه وما ضعف عن أدائه الناس قوي الله على جوازيه .
قال الحطيئه :
من يفعل الخير لا يعدم جوازه = لا يذهب العرف بين الله والناس
آداب قضاء الحوائج
اعلم أن لقضاء الحوائج واصطناع المعروف آداب كثير منها :--
- الإخلاص في الأعمال وعدم المن بها قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- : لا يتم العمل إلا بثلاث تعجيله وتصغيره وستره فإنه إذا عجله هنَّأه وإذا صغَّره عظمه وإذا ستره تممه .
جوداً مشيت به الضراء تواضعاً = وعظمت من ذكراه وهو عظيم
أخفيته فخفيته وطويتَه = فنشرتُه والشخص منك عميم
وكان يقال : ستر رجل ما أََولى ، ونشر رجل ما أُولي . وقالوا المنة تهدم الصنيعة .
أفسدت بالمنِّ ما أسديت من عمل = ليس الكريم إذا أسدى بمنان
قال رجل لأبن شببرمه : فعلت بفلان كذا وكذا ، وفعلت به كذا فقال : لا خير في المعروف إذا أحصي .
وأعلم أن من علامات الإخلاص : استواء المدح والذم من العامة ، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال ، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة .
- ومن الآداب إتمام العمل : فهل تعلم أن بعض الناس يبدأ في عمل ما ويصطنع المعروف وقد يجتهد فيه لكنه لا يتمه وأحياناً قد يقارب الإنتهاء ثم يتركه وقد قال أحد السلف : رٌب المعروف أشد من ابتدائه . والمقصود به رُب العمل : تنميته تعهده . ويقال :الابتداء بالمعرف نافلة ربه فريضة . أي إتمامه . وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) ومن إتقان العمل إتمامه .
- ومن الأدب طلب الحاجة من الكريم دون اللئيم : فعندما يطلب منك أي عمل فأعلم أن الحاجة لا تطلب إلا من كريم وقد أحسن الظن بك من طلب أداء العمل واستمع إلى قول ابن عباس : ثلاثة لا أكافئهم : رجل بدأني بالسلام ، ورجل وسع لي في المجلس ، ورجل اغبرت قدماه في المشي إرادة التسليم علي ، فإما الرابع : فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل ، قيل فمن هو ؟ قال : رجل بات ليلته يفكر بمن ينزله ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي . أراد بذلك من طلب المعونة
منه .
كان يقال : لا تصرف حوائجك إلى من معيشته في رؤوس المكاييل والموازين
وروي عن أبي الأسود الدؤلي :
وإذا طلبت إلى كريمٍ حاجةً = فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً = فألح في رفقٍ وأنت مديم
وقال آخر
لا تطلن إلى لئيم حاجة = واقعد فإنك قائم كالقاعد
يا خادع البخلاء عن أموالهم = هيهات تضرب في حديد بارد
- ومن الآداب الشكر والثناء : وهذا أدب لصاحب الحاجة يفتقر إليه بعض الناس وكان من الواجب على صاحب الحاجة أن يبالغ في الشكر والثناء لمن قضى له حاجته ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله ، قال صلى الله عليه وسلم ( من صُنِعَ إليه معروف ، فقال لفاعله : جزاك الله خيراً فقد أبلغ في
الثناء ) . قال بعض الحكماء : إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر . وقال آخر : حق النعمة أن تحسن لباسها وتنسبها إلى تذكر ما تنسى عندك منها ، وما أجمل قول القائل :
سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت بي = فقصرت مغلوباً وإني لشاكر
ولكن هل سمعت قول القائل :
وزهدني في كل خير صنعتُه = إلى الناس ما ألقاه من قلة الشكر
- وهذه مجموعة آداب يرويها خالد بن صفوان : لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ، ولا تطلبوها لغير أهل ، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء .
نماذج وآثار لسلف هذه الأمة
- أخيراً أخي الحبيب أقف معك على نماذج رائعة لسلف هذه الأمة الذين عندما علموا عظم الأجر المترتب على اصطناع المعروف وقضاء الحوائج وما فيه من النفع المتعدي سارعوا إليه وضربوا لنا أروع الأمثلة فمن ذلك :
- ما خرجه الإمام أحمد من حديث ابنة لخباب بن الأرت قالت : خرج خباب في سريه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا حتى يحلب عنزة لنا في جفنة لنا فتمتلئ حتى تفيض .(/2)
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم فلما استخلف قالت جارية منهم : الآن لا يحلبها . فقال أبو بكر وإني لأرجو ألا يغرني ما دخلت فيه – يعني الخلافة – عن شيء كنت افعله أو كما قال .
- وكان عمر يتعاهد الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة ، فدخل إليها فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها ما يصنع هذا الرجل عندكِ . قالت : هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدنا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى ، فقال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة عثرات عمر تتبع .
- كان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهم كل يوم ، فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن .
- وقال مجاهد : صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني.
- وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم.
- وكان رجل من الصالحين يقول اللهم بلغني عثرات الكرام، حتى يقيمها.
- في الصحيحين عن أنس قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا في يوم حارٍّ أكثرنا ظلاً صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام وقام المفطرون، وضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ذهب المفطرون بالأجر )) .
- قال عبد الله بن عثمان – شيخ البخاري - : ما سألني أحدٌ حاجة إلا قمت له بنفسي فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان . ...
صيد الفوائد(/3)
قضية فلسطين
موسوعة البحوث المنبرية ... ...
فلسطين: عناصر البحث الصفحة التالية
أولا: تسمية بيت المقدس بالأقصى وتاريخه.
ثانيا: المؤامرة على الأقصى وخطة بناء الهيكل ومكانه:
1- منظمات إرهابية تهدف إلى هدم الأقصى وبناء الهيكل.
2- الاعتداءات اليهودية على المسجد الأقصى.
3- كيف سيهدم اليهود الأقصى؟
ثالثا: منزلة فلسطين والقدس والأقصى عند المسلمين.
رابعا: بنو إسرائيل والأرض المقدسة.
1- تاريخ الوجود اليهودي في فلسطين، وشرعية وجودهم زمن الأنبياء وإقامة الدين.
2- انتقال أحقية الأرض المقدسة إلى أمة الإسلام ونشأة الصراع على فلسطين بين أهل الحق وأهل التحريف والتبديل.
3- مستقبل الصراع مع اليهود.
خامسا: إسرائيل والغرب في معركة فلسطين:
1- فلسطين أرض الميعاد اليهودي كما يؤمن النصارى واليهود.
2- النصوص التوراتية التي يؤمن بها النصارى واليهود ويعملون سويا في تحقيقها.
3- اليهود والنصارى ينتظرون قدوم مسيحهم الظافر في فلسطين.
4- القول الحق في الوعد المزعوم لليهود.
أولا: سبب تسمية مسجد بيت المقدس بالأقصى
الأقصى : لغة من القصو وهو البعد ، والأقصى: الأبعد .
واختلف في سبب تسميته قال أبو حيان: "سمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة عن الكعبة " وقال ابن عطية: "إن المراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصود إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة. (البحر المحيط 6/7).
تاريخ المسجد الأقصى:
والمسجد الأقصى هو ثاني المساجد التي وضعت على الأرض لعبادة الله عز وجل, وقد كان المسجد الحرام أول هذه المساجد : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين} [آل عمران:96]. وقد كان بناؤه على يد إبراهيم وإسماعيل عليها السلام {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } [البقرة:127].
وقد كان المسجد الأقصى ثاني المساجد، وبني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما ورد في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام ، قلت: ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة)).
ولذا يذهب بعض المحققين أن الذي بناه أيضاً هو إبراهيم عليه السلام, قال شيخ الإسلام: "فالمسجد الأقصى كان في عهد إبراهيم عليه السلام, لكن سليمان عليه السلام بناه بناءً عظيمًا, فكل من المساجد الثلاث بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس" [الفتاوى 27/ 351].
ويذكر المؤرخون في روايات لا يمكن توثيقها أن يعقوب عليه السلام أقام مسجدًا عند الصخرة.
ـ وفي عهد سليمان عليه السلام تم بناء هيكل لليهود لعبادة الله عز وجل, وسرعان ما أصبح المعبد بعد وفاته هيكلاً لعبادة الأصنام كما تذكر ذلك التوراة المحرفة, وهو صحيح.
ـ وفي عام (587 ق.م) غزا بختنصر ملك بابل بيت المقدس, ونهب أورشليم ودمر الهيكل وسبى من لم يقتله إلى بابل وكان ذلك عقوبة على ما صنعوه من إفساد وتحريف لدين الله {لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرًا } [الإسراء: 4].
ولما عاد اليهود إلى فلسطين عام (538 ق. م) أعادوا بناء الهيكل فيما سمي بالهيكل الثاني.
ـ وفي عام (20 ق.م) أعاد الحاكم الروماني هيرودس تجديد البناء, وقد كان المسجد قائمًا زمن المسيح عليه السلام، وقد جاء في الحديث أن الله أمر يحيى بخمس كلمات يبلغها بني إسرائيل قال صلى الله عليه وسلم: ((فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُرف)) [رواه الترمذي ح 3023].
ـ وفي عام (70 م) أقدم الأمبرطور طيطس على إحراق المدينة المقدسة وتدمير المعبد, ولكن طيطس حين دمر المدينة والهيكل ترك الحطام محله، وهذا آخر عهد بني إسرائيل بالهيكل.
ـ وفي عام (135م) أزال الأمبراطور أدريانوس كل معالم الهيكل وحطامه وحجارته،كما طمس معالم المدينة, وأقام محل الهيكل معبدًا وثنيًا سماه (جوبيتار), وهو اسم لرب الآلهة عند الرومان.
وعندما انتشرت النصرانية في فلسطين وفي أوائل القرن الرابع الميلادي, وفي عهد مؤسس المسيحية الجديد الإمبراطور قسطنطين تم تحطيم المعبد الوثني, وقد بني محله بناء، وهو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش عندما سألته عن علامة صدقه في قيامه برحلة الإسراء.
وإليه كان المسلمون يصلون بعد أن فرضت عليهم الصلاة إلى أن نزل قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام }.(البقرة 144)
وعندما قدم المسلمون أرض فلسطين فاتحين كان الروم قد جعلوا المكان موضعًا لرمي القذر, وذلك نكاية ببني إسرائيل.
وحين قدم عمر بن الخطاب بيت المقدس فاتحًا سأل عمر كعب الأحبار ـ وكان من جنود الفتح ـ عن مكان الصخرة, وكان الزبل والقذر قد علاها فأشار إلى مكانها, فجعل عمر والمسلمون يزيلون بأيديهم ما عليها.(/1)
وقرر عمر رضي الله عنه إعادة بناء المسجد فاستشار كعب الأحبار في محل بنائه فأشار أن يبنيه خلف الصخرة لتجتمع قبلتا موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فيه, لكن عمر أبى ذلك وقال: "ضاهيت اليهودية يا كعب" وأقام المسجد أمام الصخرة وجعلها في مؤخرته.
وقد تم تجديد بناء المدينة في عهد عبد الملك بن مروان, ومما تم تجديده يوم ذاك المسجد الأقصى ومسجد الصخرة, وتولي الإشراف على مهمة البناء العلامة رجاء بن حيوة, وقد أوقف عبد الملك خراج مصر سبع سنين لإتمام هذا البناء, وقد تم عام (73 هـ) .
ـ وفي عهد أبي جعفر المنصور وقع زلزال في بيت المقدس وتهدمت بسببه أجزاء من المسجد, فأمر بإعادة البناء على أحسن حال وذلك عام (154 هـ).
ـ وفي عام (158 هـ) قام المهدي بإصلاحات في المسجد وزاد في طوله.
ـ وفي عهد المأمون (198 هـ) جرت بعض الإصلاحات والترميمات في المسجد.
ـ وما زال المسجد الأقصى أرضًا إسلامية يتعاهدها المسلمون بالحماية والاهتمام.
ـ وفي عام (1967م) احتلت دولة العدو الإسرائيلي القدس الشرقية التي يقع فيها المسجد الأقصى, وأبقت ـ حرصًا على عدم استفزاز مشاعر المسلمين في العالم وفلسطين ـ أبقت منطقة المسجد الأقصى في نفوذ مؤسسات الأوقاف الإسلامية.
ثم ما لبثت تحاول السيطرة على هذه المنطقة محاولة إعادة بناء ما تسميه الهيكل الثالث.
ثانيا: المؤامرة على المسجد الأقصى وخطة بناء الهيكل مكانه: 1- منظمات إرهابية تهدف إلى هدم الأقصى وبناء الهيكل:
منذ أمد بعيد يخطط اليهود ويتداعون لإقامة ما يسمونه الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، وهذا الأمر يمتد إلى ماقبل سيطرتهم على أرض فلسطين المباركة، ولعل أبرز ما يبين ذلك تأسيس الحركة الماسونية العالمية.
تأسست الحركة الماسونية ولا يعرف على التحديد وقت تأسيسها ، وهي كما عرفها المستشرق الهولندي دوزي جمهور كبير من مذاهب مختلفة يعملون لغاية واحدة هي إعادة الهيكل الذي هو رمز دولة إسرائيل.
وكلمة ماسونية مأخوذة من الكلمة الإنجليزية freemason ومعناها: البناؤون الأحرار .
تقول دائرة المعارف الماسونية الصادرة في فيلادلفيا (1906م): "يجب أن يكون كل محفل رمزاً لهيكل اليهود ، وهو بالفعل كذلك".
ولما أقام اليهود دولتهم على أرض فلسطين عملوا على تنفيذ تلك المخططات، فقد أنشأ اليهود في فلسطين عدداً من المنظمات المعنية ببناء الهيكل على أنقاض الأقصى منها.
1- حركة الاستيلاء على الأقصى، وتأسست عام 1968م على يد موشي ليفنجر.
2- منظمة يشيفات أتريت كوهانين (ومعناه : التاج الكهنوتي) ولديها مخططات هندسية كاملة لما تسميه الهيكل الثالث.
3- جماعة جوش ايموفيم (ومعناها كتلة الإيمان) وأسسها موشي ليفنجر أيضاً عام (1973م).
4- جماعة أمناء الهيكل، وتقوم بأداء الصلوات بجوار المسجد الأقصى بانتظار أن تصلي في الهيكل بعد حين.
5- مؤسسة الهيكل المقدس، وأسسها ستانلي جولدفوت.
6- جمعية صندوق جبل الهيكل، وأسست عام(1983م) وأسسها الثري المسيحي تيري اونهوفر.
(سوى ذلك من المنظمات اليهودية والمسيحية البروتستانتية).
كما أنشأت الحكومة الإسرائيلية خمس مدارس دينية تعلم الطلاب عن الهيكل وطقوسه وتاريخه.
ـ وانعقد في القدس المؤتمر السنوي السابع لرابطة (إعادة بناء الهيكل) بمباركة ومشاركة حكومية، والرابطة تضم عشر منظمات كبرى اشتركت في تنظيم المؤتمر الذي عقد في(17/9/1998م) وضم آلافاً من اليهود المتدينين من منظمات أخرى يجمعهم قاطبة أنهم أعضاء في منظمات يهودية سرية وعلنية تدعو جهاراً إلى التعجيل بهدم الأقصى وبناء الهيكل.
وتقدر الأوساط الإسرائيلية عدد من حضروا المؤتمر بسبعة آلاف يهودي.
وكان الهدف من المؤتمر ـ الذي شاركت فيه شخصيات حكومية ـ تقسيم المهام من أجل الهدف الذي جعلوه عنواناً للرابطة وهو: (إعادة بناء الهيكل)، وقد ألقى نائب وزير المعارف (الإسرائيلي) (موشي بيلد) كلمة أشاد فيها بالحضور، وخاطب المؤتمرين قائلاً: (أدعوكم إلى مواصلة نشر قيم الهيكل وقيم التراث والثقافة اليهودية بين شباب (إسرائيل) في كافة مراحل التعليم). وأردف قائلاً: (إن الهيكل هو قلب الشعب اليهودي وروحه).
ثم قام زعيم منظمة (قائم وحي) ليتحدث عن المشاركين فقال: (إننا نرى دعماً رسمياً، ونأمل بأن يسهم في إعطاء انطلاقة جديدة لقضية إعادة المعبد اليهودي في القدس) (جريدة الحياة 17/9/1998م).
2- الاعتداءات اليهودية على المسجد الأقصى:(/2)
وقد تعرض المسجد الأقصى لاعتداءات آثمة متكررة، وقد قامت الجماعات اليهودية والجيش الإسرائيلي منذ عام 1967م ـ الذي احتل اليهود فيه القدس ـ وحتى العام 1990م بأكثر من أربعين عملاً عدائياً ضد المسجد الأقصى، وقد يُظن أن ما يسمى بـ (عمليات السلام) بعد هذا التاريخ قد خففت من حدة المشاعر اليهودية العدائية تجاه جيرانهم العرب (المسالمين)، ولكن الحقيقة أن هذا الوهم تكذبه الوقائع؛ فمنذ أن أُبرمت اتفاقيات مدريد وأوسلو، وأعمال الاعتداء تزداد وتيرتها؛ حتى بلغت قريباً من مئة محاولة، منها 72 محاولة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى منتصف عام 1998م.
ومن هذه الاعتداءات نذكر:
· الاستيلاء عليه وتدنيس حرمته عام 1967م وقد قال دايان وزير الدفاع حينذاك: اليوم فتحت الطريق إلى بابل ويثرب .
وقال وزير الأديان يوم ذاك الدكتور زيرخ فارهافتك : ((أنا لا أناقش أحداً في أن الهدف النهائي لنا هو إقامة الهيكل ، ولكن الأوان لم يحن بعد، وعندما يحين الموعد لابد من حدوث زلزال يهدم الأقصى ونبني الهيكل على أنقاضه)). وما الحفريات التي تجري في أساسات المسجد الأقصى وتحته إلا توطئة للزلزال الذي يحلم به اليهود.
· وفي (30/1/1967م) أقرت إحدى المحاكم الإسرائيلي بحق اليهود في الصلاة بساحات الأقصى في أي وقت يشاءون من النهار.
· وفي (31/اغسطس/ 1967م) استولى الجيش الإسرائيلي على مفتاح باب المغاربة لتيسير الدخول إلى حائط المبكى.
· وفي (15/ اغسطس/ 1967م) دخل الحاخام الأكبر شلومو غودين بالزي العسكري ساحة المسجد الأقصى برفقة عشرين من ضباط الجيش الإسرائيلي وأخذ المقاسات لساحة المسجد، وأعلن تحديد مكان الهيكل، وأنشأ ما سمى بـ((حركة إسرائيل الكبرى)).
· تم حرق المسجد الأقصى في (21/أغسطس/1969م) على يد الأسترالي دينيس مايكل ، وقد أفرج عنه فيما بعد بحجة أنه مجنون!!
· بدأ شق الأنفاق تحت المسجد الأقصى من جهته الجنوبية والغربية وذلك عام (1970م).
· وصلت الأنفاق إلى ما تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى عام (1977م).
· تم البدء في بناء معبد يهودي مصغر تحت المسجد الأقصى في عام (1979م) ، وقد افتتحه رئيس وزراء إسرائيل عام(1986م)، كما تم عام (1979م) إنشاء نفق واسع طويل يمر تحت المسجد من شرقه إلى غربه.
· وفي (2/3/1982م) قام 15 متعصباً من جماعة أمناء جبل الهيكل باقتحام أحد الأبواب الخارجية للمسجد الأقصى (باب السلسلة)، واعتدوا على الحراس واشتبكوا معهم.
· وفي (11/أبريل/1982م) اقتحم الجندي الإسرائيلي الآن جودمان المسجد الأقصى وأطلق النار على أحد حراس المسجد الأقصى بمساعدة جنود إسرائيليين تمركزوا خارج المسجد ، وقد أصيب في هذا الحادث ما يقرب من مائة مسلم.
· وفي (27/أبريل/1982م) قام الحاخام كاهانا ومعه مائة متطرف يهودي بمحاولة لاقتحام المسجد الأقصى، وحملوا صورة ضخمة تجعل الهيكل مكان الأقصى.
· وفي (1/أغسطس/1984م) اكتشف حراس الأقصى عدداً من الإرهابيين اليهود يعدون لعملية نسف المسجد الأقصى. يقول الشيخ العلمي مفتي القدس "لولا عناية الله لما بقي حجر على حجر من المبنى الشريف".
· وقد سمحت الحكومة الإسرائيلية خلال عامي 1995، 1996م لمؤسستين إسرائيليتين وهما: (شركة الآثار الإسرائيلية) و (شركة تطوير القدس) بإجراء المزيد من الحفريات.وتكمن خطورة هذه الحفريات في أنها تهدد أساسات المسجد الأقصى في المرحلة الحالية، وتسهل أو تكمل مشروع بناء الهيكل في المراحل التالية. وكانت قصة الافتتاح الرسمي لنفق (الحشمو نائيم) في )سبتمبر عام 1996م(، بمثابة لفت نظر لتبني الدولة اليهودية لمثل هذه المشروعات.
3- كيف سيهدم اليهود الأقصى:
نشرت جريدة (معاريف) في )أغسطس 98م( مقالاً بعنوان: (ثلاثة احتمالات للتهديدات) ذكرت فيه أن القيام بعمل ضد الأماكن الإسلامية قد يأخذ أحد الأشكال الثلاثة الآتية:
1- انتفاضة شعبية عارمة من مئات ألوف المتطرفين؛ حيث يقومون بسلسلة عمليات شغب عنيفة، لإشاعة جو من الفوضى يتم خلاله تنفيذ ما يريدون.
2- قد يقوم متطرف يهودي واحد دون شركاء، وبدون مساندة أو إعداد سابق بهذا العمل، مثل ما قام به (عامير) في قتل رابين، أو ) باروخ جولد شتاين( في مذبحة المسجد الإبراهيمي.
3- قد تقوم مجموعة من الأشخاص في خلية سرية بتوجيه ضربتها مستخدمة القنابل أو الصواريخ.
وهناك طريق رابع يضيفه بعض المتابعين للموضوع، وهو إمعان اليهود في المزيد من إضعاف أساسات المسجد وتفريغ الأرض من تحته عبر الأنفاق المختلفة، ثم الادعاء عند أي هزة أرضية طبيعية أو صناعية، أن المسجد هُدم قضاءً وقدراً!!-أي بغير فاعل- وهنا تعفى الحكومة الإسرائيلية من ويلات هذا الأمر.(/3)
· في هذا الصدد نشرت جريدة (يديعوت أحرونوت) في عددها الصادر في (1/9/98م( خبراً بعنوان: (يهودي مجنون قد ينسف الأقصى أو قبة الصخرة)، وجاء في الخبر: (يخشى قادة (الشاباك) (جهاز الأمن) أن يقوم متطرف من (اليمين الإسرائيلي) بالاعتداء على المسجد الأقصى أو قبة الصخرة بهدف الإجهاز على العملية السلمية نهائياً. وتذكر الصحيفة أن (سيناريو) الاعتداء عُرض على رئيس الوزراء (نتنياهو) في اجتماع حضره وزير العدل والأمن الداخلي والمالية، إضافة إلى رئيس بلدية القدس، ورئيس جهاز (الشاباك) والمفتش العام للشرطة، وأعربت الصحيفة عن تخوفها من أن يؤدي الاعتداء على المسجد الأقصى أو قبة الصخرة إلى إحراق المنطقة كلها.
ثالثا: منزلة فلسطين والقدس والأقصى عند المسلمين:
سمى الله أرض فلسطين بالأرض المباركة والأرض المقدسة في مواضع عدة في كتابه الكريم.
لما خرج نبي الله إبراهيم عليه السلام من أرض العراق قصد أرض الشام المباركة فكانت مهاجره، ثم كان موته عليه الصلاة والسلام في مدينة الخليل {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء:71].
ولما أراد موسى عليه السلام من اليهود دخول فلسطين قال لهم: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم}.
ثم دخلها بنو إسرائيل على يد نبي الله يوشع بن نون، فتحقق موعود الله لهم حين جاهدوا لإقامة دينه {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف:137].
ثم أكد القرآن بركة أرض فلسطين حين قال: {ولسليمان الريح عاصفة تجري إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء:81].
واكتملت البركة حين أسري بخاتم الأنبياء إلى بيت المقدس فصلى إماماً بالأنبياء هناك، يقول تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا * الذي باركنا حوله}.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن رحلة الإسراء والمعراج: ((أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم عرج بي إلى السماء)) [رواه مسلم ح162].
المسجد الأقصى أحد المساجد التي تشد لها الرحال قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) [البخاري ح1189، ومسلم 1397].
وفي حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد، لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)) [رواه ابن ماجه ح1408 وصححه الألباني].
وفلسطين قطعة من أرض الشام التي جاءت الأحاديث تشهد بمزيتها عن سائر بلاد المسلمين ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للشام، طوبى للشام قلت (أي زيد بن ثابت راوي الحديث): ما بال الشام قال: الملائكة باسطو أجنحتها على الشام)) [رواه الترمذي ح 3954، وأحمد 20621، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه].
وفي حديث ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال: ((أرض المحشر والمنشر)) [رواه أحمد في المسند ح26343 وفي إسناده ضعف].
ومما جاء في فضائل الشام وأهلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)) [رواه الترمذي ح 2192، وابن ماجه ح6 وصححه الألباني].
رابعاً: بنو إسرائيل والأرض المقدسة:
1- تاريخ الوجود اليهودي في فلسطين، وشرعية وجودهم زمن الأنبياء وإقامة الدين:
قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء:105].
بنو إسرائيل هم نسل نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
تبدأ قصة بني إسرائيل مع الأرض المقدسة حين هاجر نبي الله إبراهيم عليه السلام من أرض العراق إلى الشام، وولد له فيها إسحاق ثم ابنه يعقوب.
وفي أرض الشام أنجب يعقوب أبناءه الاثني عشر، وقد رحل بهم وبذرياتهم إلى أرض مصر بعد أن أصابتهم سنين جدباء، وكان ذهابهم إليها تلبية لنداء ابنه يوسف عليه السلام {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}
وبقي بنو إسرائيل في مصر ماقارب المائتي سنة، عانوا فيها الكثير من الاضطهاد على يد الفراعنة، وفي هذه الأثناء بعث موسى عليه السلام، ودعا فرعون وملأه إلى عبادة الله فاستكبر وأبى.(/4)
وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر قاصداً الأرض المقدسة وذلك حوالي سنة (1350ق.م)، وقد أمرهم موسى عليه السلام بدخولها فجبنوا عن مقاتلة سكانها الوثنيين {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين * يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين } [المائدة:20-26].
وهكذا تاه بنو إسرائيل في سيناء أربعين سنة، ومات موسى عليه السلام ولما يدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة ((فسأل الله تعالى أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر)) [البخاري 1339 ، ومسلم 2372].
وبعد مضي سنين التيه قام يوشع بن نون وصي موسى وخليفته في بني إسرائيل وأمر بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، فقاتلوا سكانها الوثنيين ((غزا نبي من الأنبياء.. فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه..)) [البخاري 3124].
وأمر الله بني إسرائيل حين دخولهم المدينة المقدسة أن يدخلوها سجداً مستغفرين شاكرين الله قال صلى الله عليه وسلم: ((قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا: حبة في شعرة)) [البخاري:3403].
{فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة:59].
وعاش بنو إسرائيل في الأرض المقدسة قرابة أربعمائة سنة ثم تغلب عليهم الفلسطينيون الوثنيون فطلبوا من أحد أنبيائهم أن يختار لهم ملكاً يقاتلون معه عدوهم {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلى قليلاً منهم والله عليم بالظالمين} [البقرة:246].
وقد تولى المملكة بعد طالوت داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام ثم انقسمت المملكة بعد سليمان إلى مملكتين شمالية وهي مملكة إسرائيل وعاصمتها نابلس، ومملكة يهوذا الجنوبية وعاصمتها أورشليم (القدس).
- وفي عام (721ق.م) سلط الله على بني إسرائيل سرجون الآشروي فدمر مملكة إسرائيل، وتحققت عقوبة الله في إفساد بني إسرائيل.
- وفي عام (587ق.م) زحف ملك بابل بختنصر إلى فلسطين وسيطر على أرضها ودمر أورشليم وأحدث فيها القتل والدمار، وساق من بقي من أهلها إلى بابل فيما عرف بالسبي البابلي {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً} [الإسراء:62].
- وفي عام (538ق.م) سمح الملك الفارسي قورش لبني إسرائيل بالعودة إلى فلسطين، وقد وقعوا بعد ذلك في حكم اليونان (320ق.م) واستمر حكمهم حتى احتل الرومان فلسطين سنة (63ق.م).
وفي السنين الميلادية الأولى بعث عيسى عليه السلام في بني إسرائيل مصدقاً لرسالات بني إسرائيل السابقة ومبشراً بالرسالة الخاتمة {وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6].
وقد جهد عيسى في دعوة قومه حتى كادوا له وأرادوا قتله، فنجاه الله من بني إسرائيل وقد كادوا أن يقتلوه كما قتلوا إخوانه من الأنبياء، وقد استحقوا بذلك عقوبة الله التي أوعدهم على لسان أنبيائه، {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } [آل عمران:112].
{وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }.
{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } [الأعراف:167].
2- انتقال أحقية الأرض المقدسة إلى أمة الإسلام ونشأة الصراع على فلسطين بين أهل الحق وأهل التحريف والتبديل:(/5)
- وفي شهر رجب 16هـ كانت القدس على موعد مع انتقال الأرض المقدسة إلى عهدة المسلمين، وقد تسلم عمر مفاتيح بيت المقدس بعد أن أعطى أهلها الأمان، وكان من شروط العهدة العمرية واشترطه نصارى بيت المقدس حينذاك على المسلمين أن لا يسمحوا لأحد من اليهود أن يدخل بيت المقدس" ولا يسكن بإيليا منهم أحد".
- وفي شعبان (492هـ) اقتحم الصليبيون المسجد الأقصى وقتلوا نحواً من سبعين ألفاً من المسلمين كما خربوا المسجد الأقصى.
- وقد استرده المسلمين في رجب (583هـ) استمرت فلسطين مقاطعة إسلامية حتى سقوطها في يد الإنجليز عام (1923م) في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
- بيد أنه في عام (1600م) بدأ النصارى البروتستانت بكتابة معاهدات تعلن أن على جميع اليهود العودة لفلسطين تحقيقاً للوعد التوراتي واعتبره أوليفر كرومويل راعي الكومنولث البريطاني في مقدمة لعودة المسيح إلى الأرض، وأكده بعد ذلك الألماني البروتستانتي بول فلجن هوفر عام (1655م).
- وفي عام (1799م) حاول نابليون احتلال فلسطين وقال في خطاب له مخاطباً لليهود "إن فرنسا تقدم لكم في هذا الوقت إرث إسرائيل. . فهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم بين شعوب العالم. ." واستمرت الدعوة إلى ذلك مرة بعد مرة.
- في عام (1897م) قرر مؤتمر الجمعيات الصهيونية في مدينة بال السويسرية بزعامة هرتزل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
- وفي عام (1901م) قابل هرتزل مندوب الجمعيات الصهيونية السلطان عبد الحميد وعرض عليه مساعدتهم للدولة العثمانية على أن يمكنهم من أرض فلسطين،وتكرر العرض الصهيوني في عام (1902م) فكان جواب السلطان عبد الحميد لإحدى هذه المحاولات: "انصحوا الدكتور هرتزل بأن لا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع ، إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض ، فهي ليست ملك يميني ، بل ملك شعبي ، لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. . . فليحتفظ اليهود بملايينهم ، إذا مزقت إمبراطوريتي فعلّهم يستطيعون آن ذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق أولاً في جثثنا ، وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
- وفي عام (1917م) أصدر وزير خاريجية بريطانيا بلفور وعده لليهود بالسماح لهم بإقامة وطن لهم في فلسطين وقال بلفور "إن التضحية بنحو 700ألف فلسطين لا يوازي مهابة الوعود التوارتية".
- في عام (1923م) وقعت فلسطين في قبضة الانتداب البريطاني في أعقاب هزيمة جيوش الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الثانية.
- وقد كان عدد اليهود قبل الانتداب في فلسطين لا يتجاوز 75 ألف يهودي، لكنهم بلغوا في نهاية الانتداب نتيجة للهجرات إلى فلسطين 750 ألف يهودي.
- في عام 1947م أعلن اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، وقد اعترفت بهم عدد من الدول، وتكلل هذا الجهد اليهودي بهزيمة العصابات الإسرائيلية للجيوش العربية السبعة، وإبرام اتفاقية رودس (1949م) ووقوف الجيوش العربية عند حدود التقسيم، ثم وقعت على اتفاقيتي الهدنة الأولى والثانية.
- في (23 يناير 1950م)، أعلنت دولة اليهود القدس الغربية عاصمة لها.
- وقد قامت ثورات عدة في ضد المعتدين أبرزها ثورة البراق عام (1929م) كما أحبطت بريطانيا واليهود ثورة بقيادة المجاهد عز الدين القسام وإخوانه عام (1935م)، وفي عام (1936-1939م) قامت الثورة الفلسطينية الكبرى.
- وفي عام (1967م) احتلت القوات الإسرائيلية سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع عزة، وكان مما احتلته القدس الشرقية التي يقع فيها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة.
- وفي (1979م)، أعلن مناحم بيجن رئيس الوزراء اليهودي أن القدس الموحدة (شرقية وغربية) هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ووصل عدد اليهود في القدس الشرقية إلى 19 ألف يهودي.
- وفي 8/12/1987م تفجرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في وجه العدوان والطغيان الإسرائيلي، وبلغ عدد الشهداء فيها ألفي شهيد فيما بلغ عدد الجرحى ثلاثة عشرألفاً.
3- مستقبل الصراع مع اليهود:
ولا ريب أن الصراع مع اليهود لم يبلغ نهايته وإن بلغ بداية النهاية له، فقد اجتمع اليهود من جديد في أرض فلسطين ليتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) [مسلم 2922، ونحوه في البخاري 2926].
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)) [مسند أبي يعلى، قال الهيثمي بمجمع الزوائد: رجاله ثقات (10/63)].(/6)
وفي حديث أبي أمامة ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: أين هم يا رسول الله ؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) [أحمد في المسند، ورواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات (7/291)].
كما جاءت النصوص القرآنية َتعِد المؤمنين بنصر الله إن هم نصروه وتخلوا عن ولاءات الجاهلية وأفعالها، ومنها {إنهم لهم المنصورون % وإن جندنا لهم الغالبون % فتول عنهم حتى حين % وأبصرهم فسوف يبصرون } [الصافات:172-175].
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز % الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج:40-41].
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر:51].
{إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} [آل عمران:160].
{ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم % سيهديهم ويصلح بالهم % ويدخلهم الجنة عرفها لهم % يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد:4-8].
خامساً: إسرائيل والغرب في معركة فلسطين:
1- فلسطين أرض الميعاد اليهودي كما يؤمن النصارى واليهود:
لقد يتساءل المرء عن سر العلاقة الوطيدة بين الغرب وإسرائيل والتي يبرز بعضاً من صورها قول إسرائيل شاحاك "دافع الضرائب الأمريكي أرسل إلى إسرائيل خمسة مليارات دولار في عام 85.. فإن أمريكا تقدم لنا أكثر من 14 مليون دولار يومياً على مدار السنة من دون قيد أو شرط"، ومن صورها ما نراه من دفع أمريكا عن إسرائيل في المجامع الدولية حتى الإدانة والتنديد.
ولا ريب أن للأمر علاقة وطيدة بسياسة الغرب وأمريكا في المنطقة العربية، ولكن ذلك لن ينسينا الدافع الديني لهذا الموقف.
فالنصارى على اختلاف مللهم يؤمنون بنصوص التوراة المحرفة التي يتداولها اليهود – أسفار العهد القديم -.
ويؤمنون أيضاً بأحقية ما جاء فيها من وعود لشعب إسرائيل، وإيمانهم بها لا يختلف كثيراً عن إيمان اليهود بها.
يقول المبشر جيرير فولويل رئيس منظمة الأغلبية الأخلاقية، وهي منظمة مسيحية: إن الوقوف ضد إسرائيل هو وقوف ضد الله".
ويقول دوغلاس كريكر "إن الأصوليين الإنجليزيين مثل اليهود والأرثوذكس مغرمون بالأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته".
تقول مؤلفة كتاب عن حيا وزير خارجية بريطانيا بلفور، صاحب الوعد المشهور "إنه كان يؤمن إيماناً عميقاً بالتوراة، ويقرؤها ويصدق بها حرفياً، وإنه نتيجة لإيمانه بالتوراة أصدر هذا الوعد".
ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر "لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة مزيدة، إنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون، ونحن نتقاسم تراث التوراة".
2- النصوص التوراتية التي يؤمن بها النصارى واليهود ويعملون سويا في تحقيقها:
وأما النصوص التي اتفق النصارى واليهود على تحقيقها فهي نصوص التوراة المحرفة (أسفار العهد القديم) التي تعطي اليهود حقاً في ما بين الفرات والنيل كما تجعل من شعب فلسطين عبيداً لأمة بني إسرائيل.
وقد تكررت هذه النصوص من مواطن شتى في التوراة المحرفة منها:
أن نوحاً قال لسام (يعتبره اليهود أباهم): "ملعون كنعان (جد قبائل فلسطين الكنعانية) عبد العبيد يكون لأخويه، فقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم" (سفر التكوين/الإصحاح 9).
ويرى اليهود والنصارى أحقية بني إسرائيل المطلقة بأرض كنعان لأن الله قال لإبراهيم " أقيم عهدي بيني وبينك وبين نفسك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً" (سفر التكوين/الإصحاح 12).
ويرون أن هذا الوعد خاص بأبناء إسحاق دون أبناء إسماعيل.
فقد جاء في التوراة قولها: "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية" (سفر التكوين/الإصحاح17).
وفي نص آخر تقول التوراة: "يدعو اسمه إسحاق وأقيم معه عهداً وأبدياً لنسله من بعده" (سفر التكوين/الإصحاح17).
وتوضح التوراة حدود الأرض التي منحت لنبي إسرائيل "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (سفر التكوين/الإصحاح 15).
ولا يستطيع مؤمن بالتوراة – سواء كان يهودياً أو نصرانياً – إلا أن يعمل لتحقيق هذا الأمر المزعوم، وإلا فلسوف يكون ملعوناً من الله كما زعمت التوراة "كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومبارِكوك مباركين" (سفر التكوين/الإصحاح 27).(/7)
يقول القسس جيمي سويجارت: "إن الرب يقول: إنني أبارك من يبارك إسرائيل، وألعن من يلعنها، وبفضل الرب ما زالت الولايات المتحدة متفوقة، وأعتقد أنها لم تبلغ ما بلغت إلا بمساندتها لإسرائيل، وأدعوا الله أن يدوم دعمنا لإسرائيل".
ولذلك يؤيد النصارى استيطان اليهود في فلسطين، ويرون ذلك حقاً دينياً كيف لا والتوراة تقول عن أرض فلسطين "الشعب الساكن فيها مغفور الإثم" (سفر إشعيا/الإصحاح 33) لذا تقول جولد مائير رئيسة وزراء إسرائيل : "من يعيش داخل أرض إسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، وأما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له".
3- اليهود والنصارى ينتظرون قدوم مسيحهم الظافر في فلسطين:
وكما يؤمن النصارى بحق اليهود في فلسطين فإنهم يؤمنون بظهور المسيح ثانية في فلسطين ليقودهم إلى النصر المبين، ويرون أن قيام دولة إسرائيل شرط في رجوع المسيح الذي سيحكم أرض إسرائيل في رجوعه الثاني، فيما يعتبر اليهود أن القادم ليس هو مسيح النصارى بل آخر يأتي لأول مرة.
وفي التبشير بهذا القادم تقول التوراة "يُولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود (عرش فلسطين) وعلى مملكته ليثبتها ولا يعضدها، بالحق والبر، من الآن إلى الأبد، وغيرة رب الجنود تصنع هذا" (سفر إشعيا/الإصحاح التاسع).
يقول لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا النصراني عن نفسه: إنه صهيوني وإنه يؤمن بما جاء في التوراة في ضرورة عودة اليهود، وأن عودة اليهود مقدمة لعود المسيح".
ويقول حاخام إسرائيلي موجهاً خطابه للنصارى: "إنكم تنتظرون مجيء المسيح للمرة الثانية، ونحن ننتظر مجيئه للمرة الأولى (لأنهم لا يؤمنون بالمسيح عليه السلام)، فلنبدأ أولاً ببناء الهيكل، وبعد مجيء المسيح ورؤيته نسعى لحل القضايا المتبقية سوياً".
وفي المجمع العالمي الثاني للكنائس المسيحية في أفانستون عام 1954م قدم للمجمع تقرير جاء فيه " إن الرجاء المسيحي بالمجيء الثاني للمسيح لا يمكن بحثه عبر فصله عن رجاء شعب إسرائيل الذي لا نراه بوضوح فقط في كتب العهد القديم (التوراة) بل فيما نراه من عون إلهي دائم لهذا الشعب.. إننا نؤمن أن الله اختار شعب إسرائيل لكي يتابع خلاصه للبشرية..
ولذلك فإن شعب العهد الجديد (الإنجيل) لا يمكن أن ينفصل عن شعب العهد القديم (التوراة).
إن انتظارنا لمجيء المسيح الثاني يعني أملنا القريب في اعتناق الشعب اليهودي للمسيحية، وفي محبتنا الكاملة لهذا الشعب المختار".
ويقول المبشر المسيحي أوين "إن إرهابيين يهوداً سينسفون المكان الإسلامي المقدس وسيستفزون العالم الإسلامي للدخول في حرب مقدسة مدمرة مع إسرائيل، ترغم المسيح المنتظر على التدخل".
ويقول رونالد ريجان رئيس أمريكا الأسبق "أجد في التوراة أن الله سيلمُّ شمل بني إسرائيل في أرض الميعاد، وقد حدث هذا بعد قرابة ألفي سنة، ولأول مرة فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدد والمجيء الثاني للمسيح".
ومعركة مجدو هي (المعركة النهائية الفاصلة التي يتوقع النصارى أن ينتصروا فيها واليهود على عدوهم).
4- القول الحق في الوعد المزعوم لليهود:
يؤمن المسلمون بأن الله وعد إبراهيم عليه السلام ببركة واستخلاف في ذريته حين طلب ذلك من الله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } [البقرة:124].
وهكذا كان الوعد الإلهي لإبراهيم في ذريته مشروطاً بالصلاح، وقد تكرر ذلك الشرط عندما طلب من الله أن يرزق أهل بلده الحرام من كل الثمرات {إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} [البقرة:126].
وأكدت الآيات تميز أبناء إبراهيم باعتبار الصلاح والفساد، فتقول عن إسماعيل {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } [الصافات:113].
وعليه نقول : إن الصالحين من ذرية إبراهيم عليه السلام هم الذين يستحقون البركة والاستخلاف، خلافاً لما زعمه اليهود حين زعموا أن لهم امتيازاً على العالمين استحقوه من جهة نسبهم الشريف، وهذه الخصوصية – كما يرون – تجعل من الأرض المقدسة حقاً مشروعاً لهم إلى قيام الساعة، فهم أبناء الله وأحباؤه – زعموا -.
والله تعالى أكذبهم حين قال: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء:105].
فقد كان استخلاف بني إسرائيل في الأرض المقدسة مشروطاً بإقامة منهج الله {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} [الجاثية:17].(/8)
ثم تمضي الآيات لتقرر عصيان اليهود وعدم استحقاقهم لاختيار الله واصطفائه، وتقرر انتقال ذلك إلى أمة الإسلام {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون % ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية:18-19].
وانتقلت خيرية الله المخولة بالخلافة عنه في أرضه إلى الأمة التي تعبد الله وتقيم دينه وشرائعه {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران:110].
وتمضي الآيات توضح حال بني إسرائيل، والسبب الذي نزع لأجله الاصطفاء منهم فتقول: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران:112].
وإنا لنعجب لليهود والنصارى وهم يستدلون بنصوص التوراة المحرفة عن الوعد الإلهي لليهود في أرض فلسطين كيف يتغافلون عن نصوص أخرى جاء فيها ما يشير إلى أن الله سيذلهم وسينتقم منهم جزاء انتهاكهم حرمات الله، ولسوف يستبدلهم بأمة أخرى جاهلة فقالت التوراة عن بني إسرائيل "هم أغاروني بغير إله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب، وبشعب جاهل أغضبهم" (سفر التثنية/الإصحاح 32). فأغضبهم الله بأمة العرب وبأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصفهم الله فقال: { ليغيظ بهم الكفار } [الفتح:29].(/9)
قطز قاهر التتار
في معركة عين جالوت
بقلم اللواء الركن: محمود شيت خطاب
السلطان
الملك المظفر قطز قاهر التتار هو السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي، تسلطن بعد أن خلع الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك في يوم السبت 17من ذي القعدة سنة 657 هـ- 1959م، بعد أن تفاقم خطر التتار، وأصبحت مصر مهددة بغزوهم الوشيك.
وكانت مصر على إثر وفاة ملكها الصالح، ومقتل ولده الملك المعظم قد رفعت على عرشها امرأة هي: شجرة الدر -أرملة الملك الصالح-، فكانت أول ملكة، كما كانت آخر ملكة اعتلت عرش مصر الإسلامية. وأقيم للسلطنة نائب قوي، هو الأمير عز الدين أيبك -كبير المماليك البحرية-، ليعاون شجرة الدر في تدبير الأمور، وبالرغم مما أبدته شجرة الدر من حزم وبراعة في تسيير أمور الدولة، وتصفية الموقف مع الصليبيين وإجلائهم عن مصر فقد كان جلوس امرأة على عرش مصر نذيرًا بوقوع الفتن والاضطرابات، حيث أبى معظم الأمراء أن يحلفوا يمين الطاعة للملكة الجديدة، لذلك رأت شجرة الدر أن تتزوج من الأمير عز الدين أيبك، فلما لم تفلح هذه الخطوة في تهدئة الأمور رأت أن تتنازل عن العرش لزوجها، فتولى الأمير عز الدين أيبك عرش مصر باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الثاني سنة 648 هـ 1250م، وحكم مصر زهاء سبع سنين.
وكانت شجرة الدر وراء زوجها تعينه في تصريف الأمور، حتى دب الخلاف بين الزوجين، لاعتزام المعز الزواج ثانية، فدبرت شجرة الدر مؤامرة لاغتياله، ونفذتها في بيتها يوم الثلاثاء 23 من ربيع الأول من سنة 655 هـ - 1257م.
وتولى الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، المُلْكَ يوم الخميس 25 من ربيع الأول من سنة 655 هـ 1257م، وكان عمره 15 سنة، فلم يكن قادرًا على تحمل أعباء الملك في ظروف حرجة للغاية؛ إذ كانت البلاد مهددة بالغزو التتري، لذلك خلعه قطز، وتولى الملك مكانه سنة 657 هـ - 1259م، وكان هدفه: حرب التتار، وإنقاذ مصر خاصة والبلاد العربية عامة من خطر غزوهم الكاسح.
الموقف العام
ولعل في عرض الموقف العام العصيب التي كانت مصر والبلاد العربية تجتازه من جراء الغزو التتري الجارف ما يبرز مبلغ التضحية التي بذلها قطز في قبوله تحمل المسؤولية حينذاك، في بلد مهدد بغزو خارجي ماحق، وارتباك داخلي فظيع، وقد كان بإمكانه أن يستمتع بالسلطة الفعلية بالرغم من بقاء الملك المنصور في الحكم دون أن يكون المسؤول الأول في مثل تلك الظروف الحرجة، ولكنه آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، فقضى أولاً على الارتباك الداخلي، ووضع الأمور في نصابها، ثم وجه همه إلى العدو الخارجي، فاستطاع بأعجوبة خارقة حقًا إحراز النصر وإنقاذ مصر والبلاد العربية من التتار وقواتهم الضاربة.
ففي سنة أربع وخمسين وستمائة هجرية 1256م، مَلَكَ التتار سائر بلاد الروم بالسيف، فلما فرغوا من ذلك، نزل هولاكو بن طولوي بن جنكيز خان كالإعصار على بغداد في صفر من سنة ست وخمسين وستمائة هجرية 1285م، ودخلوها دخول الضواري المفترسة، وقتلوا مئات الآلاف من أهلها، ونهبوا خزائنها وذخائرها، وقضوا على الخلافة العباسية، وعلى معالم الحضارة الإسلامية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته وأكابر دولته..
وتقدم التتار إلى بلاد الجزيرة، واستولوا على "حران" و"الرُّها" و"ديار بكر" في سنة سبع وخمسين وستمائة هجرية 1259م، ثم جاوزا الفرات، ونزلوا على "حلب" في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية 1260م، واستولوا عليها وجرت الدماء في الأزقة أنهارًا.
ووصل التتار إلى "دمشق"، وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب، فخرج هاربًا ومعه أهل اليسار، ودخل التتار دمشق، وتسلموها بالأمان، ثم غدروا بأهلها وفتكوا بهم، ونهبوا وسلبوا ودمروا.
وتعدوا دمشق، فوصلوا إلى "نابلس"، ثم إلى "الكرك" وبيت المقدس، وتقدموا إلى "غزة" دون أن يلقوا مقاومة تذكر، واضطر هولاكو فجأة إلى مغادرة سورية، بعد أن جاءته الأخبار بوفاة أخيه الأكبر "منكوقاآن" في الصين، وبتنازع أخويه الآخرين "قوبيلاي" و"أريق بوكا" ولاية العرش.
وقد استثمر التتار حرب الصاعقة، التي تعتمد على سرعة الحركة، كما استثمروا حرب الأعصاب إلى أقصى مدى، فنشروا الذعر والخوف في كل مكان، وحيثما اتجهت قواتهم كانت تسبقهم الأقاصيص عن طغيانهم وقسوتهم ومذابحهم.
موقف أوروبا
فرحت أوروبا النصرانية بانتصار التتار على المسلمين، فقد كانوا من أصدقاء النصارى وفيهم بعض النصارى، ولهولاكو نفسه زوجة نصرانية، فضلاً عن أن القائد الذي ولي أمر سورية عندما غادرها هولاكو كان نصرانيًا، كل هذا جعل البابوات وحكام غرب أوروبا ينظرون إلى التتار وكأنهم حلفاؤهم في قتال المسلمين.(/1)
والواقع أن فكرة تكوين حلف من الأوروبيين والتتار لتدمير البلاد الإسلامية، كانت موضع تفكير البابوات في عصور متتالية، وكانت سياسية هؤلاء تهدف إلى نشر الدين النصراني بين التتار، وقد تبادل التتار وحكام أوروبا البعوث، وعلى سبيل المثال: فقد دعا لويس التاسع قسمًا من رجال أمير التتار إلى فرنسا، حيث فاوضهم على عقد اتفاقية عسكرية، تنص على أن يقوم طرفاها بعمليات حربية على المسلمين، يكون فيها دور التتار غزو العراق وتدمير بغداد والقضاء على الخلافة الإسلامية، ويكون دور الصليبيين حماية هذا الغزو التتري من الجيوش المصرية, وتجريد جيوشهم لمنع نجدة القوات المصرية للمسلمين في آسيا، وبالأحرى تقوم بعزل مصر عزلاً تامًا عن سائر البلاد العربية.
ولم يكفّ لويس التاسع عن العمل لاستمالة التتار، وتسخير قوتهم المدمرة لضرب الإسلام، ففي السابع عشر من يناير سنة 1249م سنة 646هـ أرسل إلى أمير التتار هدايا ثمينة حملها إلى الأمير وفد على رأسه الراهب الدومنيكي "أندريه دي لونجيمو"، ومما يذكر أنه كان من بين هذه الهدايا قطعة من الصليب المقدس وصورة للسيدة العذراء، ومختلف النماذج الصغيرة لعديد من الكنائس.
ويقول الأسقف "دي مسنيل Du Masnil" -نائب مدير البعثات التبشيرية في روما- في كتابه عن الكنيسة والحملات الصليبة: "اشتهر هولاكو بميله إلى النصارى النسطوريين، وكانت حاشيته تضم عددًا كبيرًا منهم، من بينهم قائدهم الأكبر "كتبغا" وهو تركي الجنس نصراني نسطوري، كما كانت الأميرة "دوكس خاتون" زوجة هولاكو نصرانية أيضًا.
ولقد لعب نفوذ هذه الأميرة على زوجها دورًا خطيرًا، تفخر به الكنيسة في تجنيب أوربا النصرانية أهوال الغزو التتري، وتوجيه غزوهم إلى العرب المسلمين في الشرق العربي، حيث ذبحت قوات التتار العرب المسلمين في مذابح بغداد، في الوقت الذي أبقت فيه على النصارى في تلك المدينة، فلم تمسهم في أرواحهم أو أموالهم بأذى، كما لعبت الأميرة دورًا في إغراء زوجها باحتلال سورية الإسلامية.
ويصف الأسقف حملة التتار فيقول: "لقد كانت الحملة التترية على الإسلام والعرب حملة صليبية بالمعنى الكامل لها، حملة نصرانية نسطورية، وقد هلل لها الغرب وارتقب الخلاص على يد "هولاكو" وقائده النصراني "كتبغا" الذي تعلق أمل الغرب في جيشهما، ليحقق له القضاء على المسلمين، وهو الهدف الذي أخفقت في تحقيقه الجيوش الصليبية، ولم يعد للغرب أمل في بلوغه إلا على أيدي التتار خصوم العرب والمسلمين.
وقد بادر "هاتون الأول" -ملك إرمينية - و"بوهومونت السادس" - أمير طرابلس -، وأمراء الإفرنج "صور" و"عكا" و"قبرص" بادر هؤلاء جميعًا إلى عقد حلف مع التتار، يقوم على أساس القضاء على المسلمين كافة في آسيا، وتسليم هؤلاء الأمراء بيت المقدس.
ويقول "دي مسنيل" في كتابه عن تاريخ التبشير: "إن النصارى هم الذين حرضوا "هولاكو" على الرحيل عن سورية إلى بلاده، ومحاربة أخيه هناك، بسبب موالاته للإسلام".
وأخيرًا انتهى أمل الصليبيين بدخول التتار في الإسلام، وفي ذلك يقول الأسقف "دي مسنيل" واصفًا هذه الخاتمة: "وهكذا نرى الإسلام الذي كان قد أشرفت قوته على الزوال، يسترد مكانته، ويستعيد قوته، ويصبح أشد خطرًا من ذي قبل".
لقد كانت مهمة قطز صعبة جداً، لأنه كان عليه أن يواجه الخطر الداخلي المتمثل بالارتباك والفوضى في نظام الحكم والصراع على السلطة، وفي الوقت نفسه كان عليه أن يواجه الخطر الخارجي المتمثل بالغزو التتري الداهم المتحالف مع الصليبيين في الغرب والشرق معًا.
زحف التتار
قبل مغادرة "هولاكو" سورية أرسل رسولاً من رجاله وبرفقته أربعون رجلاً من الأتباع إلى قطز يحملون إليه رسالة منه جاء فيها:(/2)
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى".
وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا، وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًا-أي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين -، كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب "زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعة عنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتار على سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحد العلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والقاضي بدر الدين السنجاري -قاضي الديار المصرية-، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص-أي:حزام الرجل وحزام الدابة- المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولم يتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذا الأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواته العسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراء مغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماء من أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد، وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالة هولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه من الجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.(/3)
وهذا موقف لقطز في مثل تلك الظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوس المترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطز قولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكر الصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاط وسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحث الأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته، فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقال لهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهم وحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطز قادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار في البلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصير مروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألا يدخروا وسعًا في سبيل مقاتلة التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهم إلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ - 1219م يلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقون الأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حماية مصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأن التتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارج حكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة، فلا عجب أن يبذل قطز كل جهده لرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرين على حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهاد بأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت على صوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدم قطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاء التتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتى يجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريين ثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا، ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذي يؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاع خامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافل الشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ- 1260م وغادر معسكر الصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتار بقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل "البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانك وانتظر". ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
وكان "كتبغا" مقدم التتار على جيش "هولاكو" لما بلغه خروج قطز، وكان في سهل البقاع قد عقد مجلسًا استشاريًا، واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم من أشار بعدم لقاء جيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مدد من "هولاكو" ليقوى على مصاولة جيش المسلمين، ومعنى هذا مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسرة لديه ريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر، ومنهم من أشار بغير ذلك -قبل المعركة- اعتمادًا على قوات التتار التي لا تقهر، وهكذا تفرقت الآراء، وكان رأي "كتبغا نوين" قبول المعركة ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فوره جنوبًا باتجاه القوات المصرية.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.(/4)
وبعث قطز طلائع قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم، واستحصال المعلومات المفصلة عن تنظيمهم وتسليحهم وقيادتهم، فالتقى بيبرس بطلائع التتار في مكان يقع بين "بيسان" و"نابلس" يدعي: "عين جالوت" في "الغور" غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصلية من جيشه، وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ- 6 سبتمبر1260م نشبت بين الجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات "عين جالوت"، فانقضوا على جيش قطز تطبيقًا لحرب الصاعقة التي دأب التتار على ممارستها في حروبهم، تلك الحرب التي تعتمد سرعة الحركة بالفرسان، وكان القتال شديدًا لم يُر مثله، حتى قتل من الجانبين جماعة كثيرة.
وتغلغل التتار عميقًا، واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكن قطز حمل بنفسه في طائفة من جنده، وأسرع لنجدة الميسرة، حتى استعادت مواقعها.
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات "القلب" التي كانت بقيادته المباشرة، وكان يتقدم جنوده وهو يصيح: "واإسلاماه.. واإسلاماه.." واقتحم قطز القتال، وباشر بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات "القلب" مؤلفة من المتطوعين المجاهدين من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عن الإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه، ويحسّن لهم الموت، ويضرب لهم المثل بما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال.
وكان قطز قد أخفى معظم قواته النظامية المؤلفة من المماليك في شعب التلال، لتكون كمائن، وبعد أن كر بالمجاهدين كرة بعد كرة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهم وأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف.
وكان قطز أمام جيشه يصرخ: "واإسلاماه.. واإسلاماه.. يا الله انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشه يتبعه مقتديًا بإقدامه وبسالته، فقتل فرس قطز من تحته، وكاد يعرض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه.
وسارع قطز إلى قيادة رجاله متغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم "كتبغا نوين" قد قُتل، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء.
وكان "كتبغا نوين" يضرب يمينًا وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكر على المسلمين، فرغَّبه جماعة من أتباعه في الهرب، ولكنه لم يستمع إليهم وقال: "لا مفر من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خير من الهرب مع الذل والهوان".
ورغم أن جنوده تركوه وهربوا فقد ظل يقاتل حتى قُتل، وفي رواية أخرى أن جواده كبا به، فأسره المسلمون، والرواية الأولى أصح.
وكانت هناك مزرعة للقصب بالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها فوج من التتار، فأمر قطز جنوده أن يضرموا النار في تلك المزرعة، وأحرقوا فوج التتار جميعًا.
وبدأ المسلمون فورًا بمطاردة التتار، كما طاردهم المسلمون الذين لم يكونوا من جيش قطز، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلها بالابتهاج.
وامتدت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة حلب، فلما شعر التتار باقتراب المسلمين منهم تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم، فتخطفهم الناس، وقاسوا من البلاء ما يستحقونه.
أسباب النصر
يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار.
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكن الواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثل تجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غير المجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلى نصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنوده منهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر في معنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصر على الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيش التتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرة إلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيش التتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلاله أرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.(/5)
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا، مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سمات حرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلى بهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلك المواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحت سيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستند على قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها، بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها في إعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانت القضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديان والقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة، وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعة واحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروم والفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهم الدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص، وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًا طاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكان مصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختياره الهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادة وجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون في الحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه من المجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحراز النصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطز إلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًا على نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطز أمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر، إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيه قواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهة الصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يوم السبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ- أكتوبر- 1260م، ولم يمض يومان على قتله حتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.
وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابه بالجنة ورضي عنه.
لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخ في أنصع صفحاته - رضي الله عنه وأرضاه-، وجعله قدوة صالحة لقادة العرب والمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيين القدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثله قائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولا يكتفي بالكلام، ويقاتل العدو الصهيوني في الأرض المحتلة، ولا ينتظر أن يقاتله في أرضه، ويطلب الموت لتوهب له الحياة
المصدر: http://www.islam-online.net ...(/6)
قوة الصلة بالله
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن الله - جل وعلا - أكرمنا بالإيمان ، وأعزنا بالإسلام ، فإذا عظُم الخطب ، واشتد الكرب فلا نجاة إلا من الله - سبحانه وتعالى - :{ ولقد نادنا نوح فلنعم المجيبون } ، {ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم }.
وإذا تضاعف الضر ، وزاد السوء ، فلا كاشف له إلا الله ، { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكرون } { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } .. إذا توالى الهم ، وتتابع الغم ، فلا فارج له إلا الله .. { وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له وكشفنا ما به من غم وكذلك نُنجي المؤمنين } .
وإذا جاءت النقمة ، أو حلت الفتنة فلا صارف لها إلا الله .. { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم } كلما عظمت الخطوب ، أو تزايدت الكروب ، فلا ملجأ إلا الله .. { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } الصلة بالله - سبحانه وتعالى - تعلقاً به ، ويقيناً بموعوده ، وأملاً في نصره ، ورضاءً بقضائه ، ومحبة في ثوابه ، وخوفاً من عقابه ، وتوكلاً على قوته .. ذلك هو المعوّل عليه في كل خطب ، وهو الموثوق به بإذن الله - عز وجل - في كل كرب .. تضرع إلى الله ، واستمساك بمنهج الله ، وطلب ومناجاة ودعاء لله .. { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } .
وينادينا الحق - سبحانه وتعالى - { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } .
ويخبرنا جل وعلا بتحقق المراد ، إذا تم اللجوء إليه والتضرع والتذلل بين يديه :
{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم ... } .
يأتي المدد من الله ، ويتنزل النصر من الله ، ويكون الثبات سكينة من الله في النفوس ، ويكون اليقين صارف للخوف والجزع .. اليقين بالله - سبحانه وتعالى - وليس شيء غير ذلك ، لا التجاء إلى أسباب الكثرة العددية ، ولا إلى وفرة القوة المادية ، ولا إلى ما يزعم من الاستعدادات العسكرية ، إنما اللجوء إلى رب البرية - سبحانه وتعالى - . كل شيء يستند فيه إلى غير الله ؛ فإنه إلى ضياع وخراب ، وكل اعتماد وتوكل على غير الله ؛ فإنه إلى هزيمة وضياع ، وإن المرء المؤمن لَيرى ويقرأ ويوقن ويعتقد ، وهو يتلو آيات القرآن ، أن ذلك حق لا مرية فيه ، ولكن أحوال الدنيا المضطربة ، وأحوال القلوب الخائفة الجزعة ، و ضلال العقول الخربة ، ربما ينال من ذاك كله ، والله - جل وعلا - قد بيّن لنا وفصّل أن كل التجاء إلى غيره ، واعتماد على سواه لا تكون نتيجته طيبة ، ولا تحمد عقباه ، فقال – سبحانه وتعالى - : { أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه } .
مهما اجتمعوا ، ومهما كثروا ، ومهما عظموا ، ومهما انتفخوا .. كلهم من دون الله في صيغة موجزة ، تدل على الاحتقار لهم ، وبيان ضعفهم ، وزرع اليقين بذهاب قوتهم ، وضعف ريحهم ، وانفلال شوكتهم ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قدّم بذلك بقوله : { أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه } .. { ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد ي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} ، { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمته هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون * قل يا قومي اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم } .
هل بعد هذا الوضوح في الآيات من وضوح في التفريق بين من يلجئوا إلى من دون الله أو يعتمدوا عليه ، أو يظن أنه به قادر على مراده ، وتحقيق ما يصبو إليه ، وبين من يلجأ إلى الله - عز وجل - ، وهو كافٍ عباده ، وهو حسبهم – سبحانه - ، وهو وكيلهم - جل وعلا - .(/1)
وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مررنا بسيرته ، رأينا صدق اعتماده وتوكله على الله ، وعظيم تضرعه والتجائه إلى مولاه . أرأيته وهو قافل من الطائف بعد أن لقي ما لقي من الأذى ما الذي صنعه ؟ ما الذي أراد به تفريج همه ؟ ما الذي سعى إليه لينفس من كربه ؟ من الذي توجه إليه ليذهب حزنه ؟ أليس قد لجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله - عز وجل - وهو يناديه في تضرع خاشع : ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلا من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ... ) فينزاح الهم والكرب ، ويزول الحزن ، ويقوى اليقين ، ويعظم الإيمان ، وتنقشع الغمة ، وتعلو العزيمة ، ويكون المرء مع كل ضعفه المادي ، أعظم قوة من كل قوى الأرض بإذن الله - عز وجل - ، ويوم واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أضعاف من معه من المؤمنين في جيش قريش ،في يوم بدر توجه - عليه الصلاة والسلام - إلى الله - جل وعلا - : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض.. ) فما زال يهتف بربه ماداً يديه ، مستقبلاً القبلة حتى سقط رداءه من منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، فقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك .
أليس هذا التجاء في أعظم وقت ، وفي أحرج موقف ، وعند التقاء الصفوف ، وعند مواجهة الخطوب ، وعند كثرة الأعداء ، وفي مواجهة قوى الأرض .. يستعين النبي - صلى الله عليه وسلم - برب الأرض والسماء ، أما رأيناه في الأحزاب يوم تجمع الأعداء من كل حدب وصوب .. اختلفت نواياهم ، وتنوعت مقاصدهم ، لكنهم أحاطوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأهل الإسلام ، في مدينة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - . وذكر أهل السير أن عدتهم كانت عشرة آلاف رجل ، وذكر بعضهم أن هذا العدد كان بعدد أهل المدينة كلها رجالاً ونساء وأطفالاً ، فأي شيء كان ؟ وأي خطب نال من يقين القلوب ، أو نال من ثبات الأقدام ، أو نال من همة وعزيمة أهل الإيمان ؟ كلا ! لقد كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم – وبشّر ، في شدة المحنة وفي عزّ تلك المصيبة.
وماذا كانت النتيجة ؟ { فرد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خير وكفى الله المؤمنون القتال }.
ويوم توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر لقتال فلول اليهود المتجمعة فيها ، إنما سار باسم الله ، وإنما استعان بقوة الله ، وإنما صاح وهو مقدم عليهم ، ومقبل على ديارهم ..( الله أكبر .. الله أكبر ، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) .
هكذا يستصحب المؤمن قوة الله ، هكذا يكون معه دائماً صدق الالتجاء إلى الله ، هكذا يواجه كل خطب ، ينتصر بإذن الله - سبحانه وتعالى - .
في كل مواجهة الصبر زاد المؤمنين ، والنصر عقبى الصابرين ، والقادر الجبار نعم العون إن عز المعين ، كم عبرة في الأولين وعبرة في الآخرين لقيت عناد معاندين ، وغفلة من غافلين ؛ فإذا علا صوت النذير فساء صباح المنذرين .
فالتجئوا إلى الله - سبحانه وتعالى - .. علقوا به القلوب .. أخلصوا له التوجه والقصد .. فرغوا قلوبكم ونفوسكم من كل اعتماد أو توكل على غيره .. { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } .
لابد من أوبة صادقة ، وإنابة مخلصة ، والتجاء حقيقي حار مخلص لله - سبحانه وتعالى - ، ولنهتف ولنردد من أعماق قلوبنا : { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } ولنكن حقيقة على مقتضى الإيمان في الارتباط بالله ، والتخلي عن كل ما سواه { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد } .
إنما البشرى لمن يكون راجعٌ إلى ربه ومولاه ، واثقٌ بنصره وتفريجه لهمه وكربه - بإذن الله - ، وهكذا كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم – يعلمنا .. هكذا كان ينبهنا ، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ) .
وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود بسند حسن ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطبها فقال : ألا أعلمكِ كلمات تقوليهن عند الكرب ! قالت : بلى يا رسول الله ، فقال لها : قولي الله ربي ولا أشرك به شيئا .(/2)
ومعنى هذه النصوص العظيمة ، والأقوال والأدعية المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر بيّن ؛ لأن الالتجاء إنما يكون للملتجئ الحقيقي النافع ، وهو الله - سبحانه وتعالى - ، فهو - جل وعلا - العظيم الحليم ، وهو رب العرش العظيم ، وهو رب السماوات والأرض ، هو الذي بيده كل شيء ، وهو التي تنفذ مشيئته في كل شيء ، وهو الذي تنتصر قدرته على كل شيء - سبحانه وتعالى - ، ولذلك ينبغي لنا أن نحرر هذا الأمر في واقع حياتنا ، وهو صدق التجائنا إلى ربنا ، ولا يكون ذلك كاملاً ، ولا يكون عظيماً ، ولا يكون دائماً ، إلا بصدق اليقين بالله - سبحانه وتعالى - ، والإيمان به - جل وعلا - ، والإيمان بقضائه وقدره ، ثم الرضا والتسليم لما يجري به قضاءه وقدره - جل وعلا - .
ينبغي أن نكون على يقين أن الأمر كله بيد الله ، وينبغي أن نكون على يقين أن النصر من عند الله ، وينبغي أن نعظم يقيننا بأن القوة كلها لله ، وأن العزة كلها لله .. ينبغي ألا يخالط نفوسنا شيء من ريب أو شك ، أو ضعف أو خذلان ، أو ذل لغير الله - سبحانه وتعالى - ، ولقد كان ابن عباس رديف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور العظيم ، حينما بيّن له كيف ينبغي أن تكون حياته في ظلال الإيمان ؟ وكيف ينبغي أن يواجه الخطوب مستنداً إلى اليقين بالله سبحانه وتعالى : ( يا بني إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ... تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) .
وكما بيّن - عليه الصلاة والسلام - في هذه الوصية العظيمة : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ) .
وكما بيّن - عليه الصلاة والسلام - في رواية أخرى لهذا الحديث : ( وأعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) .
من كان هذا يقينه ، فأي شيء يرهبه ؟ ومن كان هذا إيمانه ، فأي شيء يخيفه ؟ من كان هذا هو معتقده ، فأي قوة تقف في وجهه ؟ إنها قضايا أكرمنا الله - عز وجل – بها ، وآتانا إياها ، ولكننا نغفل عنها ، ولا نرجع إليها ، ولا نستوثق منها ، ولا نعيدها عظيمة كاملة كما ينبغي أن تكون في النفوس والقلوب ، ومن ثم تضطرب أحوالنا ، وتتعارض آرائنا ، وتضعف وتجبن نفوسنا ، وتتراجع وتتقهقر صفوفنا ، وقد نعطي الدنية في ديننا ، وقد يكون لنا من أحوالنا ومواقفنا ما لا يتطابق مع إيماننا ومعتقدنا ، وذلك كله من أسباب الضعف والذل والهوان
عندما لا يكون يقيننا بالله عظيماً ، ولا يكون التجاؤنا إليه صادقاً ، ومن أدرك ذلك أدرك أن من ملئ قلبه بالإيمان واليقين ، وصار دائم الالتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى - لم يكن عنده من حاله ما يسؤه أو يضره ، أو يضعفه ، ويكون به الخذلان .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ الله صدره غِنىً وأمناً وقناعة ، وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك ، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه " .
ولذلك قال بعض الصالحين كلاماً نفيساً نحن في أمسّ الحاجة إليه: " ارض عن الله في جميع ما يفعله بك ؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك ، ولا ابتلاك إلا ليعافيك ، ولا أمرضك إلا ليشفيك ، ولا أماتك إلا ليحييك ، فإياك أن تفارق الرضا عنه فتسقط من عينه " .
إذا اشتدت البلوى تخفف بالرضا **** عن الله قد فاز الرضي المراقب
فكم من نعمة مقرونة ببلية **** على الناس تخفى والبلايا مواهب .
وكما قال القائل :
يدري القضاء وفيه الخير **** نافلة لمؤمن واثق بالله لا لاهِ
إن جاءه فرح أو نابه ترح **** في الحالتين يقول الحمد للهِ .
ولا يكون نوع من الثبات ، ولا ظهور للشجاعة ، ولا بروز للحمية ، إلا إذا ملأ الإيمان القلب وانسكب اليقين في النفس وكان الرضا بقضاء الله وقدره والإيمان به عظيماً فإن ذلك هو أعظم قوة لا يكون معها خوف ولا يخالطها جبن بحال من الأحوال ، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في بيان ذلك : " الذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله ، فمن سلّم لله واستسلم له ، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له ، لم يبقى لخوف المخلوقين في قلبه موضع ؛ فإن نفسه التي يخاف عليها سلّمها إلى وليّها ومولاها ، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها ، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها ، فلا معنى للخوف من غير الله بوجه " .
وفي التسليم أيضاً لطيفة أخرى ، وهي أنه إذا سلّم لله فقد أودع نفسه عنده وأحرزها في حرزه ، وجعلها تحت كنفه لا تنالها يد عدو عاد ، ولا بغي باغٍ عاتٍ ، وكما قال الشجاع علي رضي الله عنه :
أي يومي من الموت أفر **** يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه **** ومن المقدور لا يندي الحذر .(/3)
وكما كان شيخ الإسلام ابن تيميه يقول في مواجهة ما أحاط به من الخطوب وفي موقفه إزاء ما حل به من الكروب : " ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أينما رحلت فهي معي .. أنا حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وخروجي من بلدي سياحة " .
من ملك هذا اليقين واجه الدنيا كلها غير عابئ بها بإذن الله لا يكون عنده خوف إلا من الله .
كأن الجبان يرى بأنه **** سيقتل قبل انقضاء الأجل
وقد تورد الحادثات الجبان **** ويسلم منها الشجاع البطل .
ولذلك ينبغي لنا أن ننتبه إلى هذين الأمرين ، ونحرص عل هذين المعنيّين : قوة يقين بالله ورضاءً بقضائه وقدره ، وصدق التجاء إليه وتضرعٌ إليه ، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يفرج الكروب ، وأن ينفس الهموم وأن يزيح الغمة وأن يرفع الفتنة وأن يجعل لأهل الإيمان والإسلام مخرجاً ونصرا وأن يجعل لهم بذلك عزاً وفخراً .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن ما ذكرته من صدق اليقين وإخلاص الالتجاء لله - سبحانه وتعالى - هو الذي يعين ويثبت ويقوي المؤمنين على مواجهة أعدائهم ، أمثلته ليست مقتصرة على سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا هي محصورة على الأمثلة الظاهرة المعروفة .
في مواطن نصر المؤمنين ، في حطين أو في غير حطين بل هو إلى يوم الناس هذا ، تتجدد معالمه ، وتتأكد مناهجه ، واليوم ونحن - كما يقولون - نستذكر عام الانتفاضة في أرض فلسطين المسلمة في أرض الإسراء المقدسة في ظلال المسجد الأقصى ، ألسنا نرى أن إخواننا عندما فقدوا قوة الناس وإعانة الخلق ، لم يلتجئوا إلا إلى الله - سبحانه وتعالى - ، ولم يصدقوا إلا مع خالقهم ومولاهم - جل وعلا - ، فاستطاعوا أن يثبتوا على مدى تلك الأعوام المتعاقبة ، وعلى مدى ذلك العام الذي انصرم كاملاً بكل البغي العظيم ، والظلم الفادح والإجرام الذي ليس له حد ، ولا منتهى ، أليس قد قصفت وهدمت بيوتهم ؟ أليست قد أزهقت أرواحهم وسالت دمائهم ؟ أليس قد رُوّع أمنهم وسُلب عيشهم وحرموا من كل ما ينبغي أن يكون من حقوق الإنسان التي يدعيها الناس ؟ أليس كل ذلك قد حصل لهم واستخدمت كل أنواع الأسلحة المعروفة من الدبابات والطائرات والمدافع والصواريخ ؟ أليس هذا يمكن أن نطلق عليه إرهاب ؟ أم أن هناك تعريفات أخرى ، ومصطلحات مغايرة أليس اليهود - عليهم لعائن الله - الذين كانوا يبطشون ويتجبرون ويبغون ويظلمون - ، أليسوا هم الذين داسوا القوانين الدولية والقرارات الأممية ؟ أليسوا هم الذين ناصرتهم القوى العظمى ظاهراً وباطناً في المواقف السياسية ، وبالدعم المادي ، وبالعون العسكري ؟ أليسوا هم الذين غضّ العالم عنهم طرفه ، فلا يكاد يرى ، وأصمّ أذنه فلا يكاد يسمع ، وشلّ يده فلا يكاد يستطيع أن يفعل شيئاً ، وجعل نفسه في موقف المتفرج على هذه الجرائم ، وفي كل مرة يصاب أحدٌ من اليهود ، ومن غيرهم من الكفار تقوم الدنيا - كما يقال - ولا تقعد ،
ويكثر الصخب ولكننا - بحمد الله - عز وجل - رغم كل هذا البغي والظلم والعدوان ، وتغيير الموازيين ، وانتكاس العدالة ، وجور المحاكمة ، ورغم كل تلك القوة الباطشة ، والمؤازرة الظالمة ، نرى ثباتاً عظيماً ونرى في صفوف الأعداء من اليهود هلعاً ظاهراً ، وجبناً بيّناً ، وخوفاً مريعاً ، ونرى تفككاً في الصفوف ، ونرى اختلالاً ، ونرى كيف قد غُزوا في عقر دارهم ، وكيف قد أصيبوا في مؤسساتهم العسكرية ، من أي شيء وقع ذلك ؟ وممن حلّ بهم ذلك ؟ إنه ليس من جيوش دول مجاورة ! ولا دول عظيمة ! إنه ليس من قنابل ولا من دبابات ! إنه من الشباب والأطفال والصغار الذين لا يملكون سلاحاً سوى الأحجار ، والذين لا يملكون دعماً سوى الأصفار ، والذين لا يجدون شيئاً يواجهون به أعدائهم إلا قوة الواحد القهار - سبحانه وتعالى - ، إن الذي ينظر إلى ذلك يعلم حقيقة الأوضاع الراهنة ، وحقيقة الأحداث الجارية ، وحقيقة الموازين الجارية ، وحقيقة القضية الفاجرة والكذبة التي يكذب بها على الناس في كل آن ليُرى حينئذٍ أن الأمر - كما بينته آيات القرآن - وكما ذُكر في كل ما نعرف من أحداث سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وتاريخ أهل الإيمان أنه صراع الحق والباطل صراع الإسلام وأعدائه وخصومه ، ولذلك من استمسك بإسلامه ويقينه ؛ فإنه قوي وإن لم يكن لديه سلاح - كما ترجم - ذلك إخواننا وأبنائنا وأطفالنا الذين ربما كانت مواقفهم كأنما تعرينا من كل فضيلة ، وكأنما تمسخنا في أعماق نفوسنا من كل رجولة ، لأن كثير من أبناء الأمة بشرقها وغربها ، أمة المليار أو أمة الألف مليون أو أمة العرب بمائتيها أو ثلاثمائة مليون ، كلهم لم يستطيعوا أن يصنعوا ، ولا أن يبرزوا ، ولا أن يظهروا ، ولا أن يقفوا ، ولا أن يواجهوا ، ولا أن يدحروا ، ولا أن ينتصروا كما انتصر أولئك العُزّل .
شاهد من شواهد صدق ما أخبرت به من صدق اليقين بالله - عز وجل - ، وصدق الالتجاء إلى الله .(/4)
من قال أني أعزل وبكفه حجر **** فليست إلى البطولة ينتمي
من قاوم الأسد الغضاب مسلحاً **** بيقينه وبحقه لم يهزمِ
ما الضعف إلا ما توهمه الفتى **** ضعفاً وبئس ضعف المتوهم
لا ينعم المحتل بين ظهوركم **** بالاً وكيف يقيم إن لم ينعم
دست له الأشواك إذ يمشي وإن **** يشرب فشوبوا ماؤه بالعلقم
ودعوه إن ييقظ يعش فزعاً وإن **** يرقد بكتائب الغارات يحلم
حتى يظن النار حشو رغيفه **** فإذا تناوله تفجر بالفم
وليس هذا الإرهاب في شيء ، إنما هو الإرهاب الذي يقوم به الأعداء محتلي الأرض ، ومغتصبي الديار ، ومنتهكي الأعراض ، وسالبي الأموال ، أولئك هم الإرهابيون هم ومن يكون معهم ولذلك ينبغي أن نؤكد لأنفسنا من واقعنا المعاصر فضلاً عن تاريخنا الماضي ، فضلاً عن ما بين أيدينا من آيات القرآن والسنة أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع اليقين ، وأن القوة مع الإيمان وأن العزة مع الإسلام(/5)
قيام الليل وعدة البلاء ...
اسم الخطيب ... هيثم جواد الحداد ...
ملخص الخطبة
1- ذلة المسلمين وهوانهم وتكالب الأمم عليهم. 2- رسول الله يستعين على أعباء الدعة بقيام الليل. 3- فضل قيام الليل. 4- حرص السلف على قيام الليل أيام الغزو والجهاد. 5- دعوة لاستغلال العشر الأخير من رمضان بالطاعة. 6- صورة من هدي رسول الله في القيام.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصلاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ [الحج:39-41].
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
عباد الله، أترون عاقلاً رشيداً يستمتع بهذه الحياة في هذه الأوقات، بالله عليكم أيطيب للإنسان مأكل وهو يرى هذه الدولة الطاغية تعيث في الأرض فساداً، تسحق الضعفاء، وتقتل النساء، وتتبختر على العزل، وتتلذذ بسفك دماء المسلمين، وتمارس شتى أنواع القهر والتنكيل لكل من يخالفها.
أيمكن لنا أن نسعد بنومة هانئة بعد أن رأينا المذبحة الرهيبة المصطنعة في قلعة جانجي حيث يجمع الأخيار الأطهار، ويحصرون في ذلك المكان، لتأتي طائرات الغدر والحقد والتجبر فترميهم بحممها، وتمطرهم بقنابل لو سقطت واحدة منها على رجل لقتلته فكيف لو انفجرت، فإذا بأشلائهم متطايرة، لحوم متناثرة، وجماجم مبعثرة، عينان جاحظتان، ويدان مقطعتان، وأمعاء وأجزاء من قلوب وأكبد محترقة، لو كانت لبهائم لرحمناها فكيف بها وهي لبشر، وأي بشر؟.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
ألا يتقطع قلب الإنسان غيظا وهو يرى هذا المجرم وزير الدفاع الأمريكي يحث جنوده على القتل والتنكيل والإبادة الجماعية، سواء في أفغانستان، أو في فلسطين.
عباد الله، في زمن الشدائد والمحن، ووقت القلة والضيق، وإعواز المعين والرفيق، نحن بحاجة إلى ما يمسح هذه الأحزان، فنرقب تأييد رب رحيم رحمن، نسأله أن يكون راض غير غضبان.
عاش نبينا وأصحابه الغربة في نشأة الدعوة وبدايتها، جيوش الكفر تحيط به، وجحافل الباطل تترقب به، وإذا بهذا القرآن يسوق له طريق النصر، ويوضح له معالم الطريق، ليبدأ منه، وينتهي إليه، ويستنير به.
ياأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:1-6].
يقول سيد قطب رحمه الله: ياأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ .. إنها دعوة السماء، وأمر الكبير المتعال قم .. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً. أما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله حقيقة الأمر وقدره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: مضى عهد النوم يا خديجة! أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!
يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا.
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل.. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه، وأقله ثلث الليل...(/1)
عباد الله، ركعات السحر تسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية، قد لايجدها العبد في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذ القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه، وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيئاً، وأي الأسباب أكثر تعلقاً، وأشد تأثيراً فيه.
ما حجتنا يا عباد الله في هذه الأيام بعد هذه التوجيهات الإلهية الرحيمة الرفيقة، التي تملأ القلب طمأنينة، بعد أن ملئ خوفاً ورعباً.
يا رجال الليل جِدوا رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد
ما أحوج الإنسان لخلوة بربه، ومولاه يناجيه، ويدعوه، ويتلذذ بالتعبد بين يديه، والتقرب إلى أكنافه، والانطراح إلى جنابه، يستمد منه العون، يستلهم منه التوفيق، ويسترشد به ملامح الطريق.
إنه قيام الليل يا عباد الله، فعَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ))[1].
ها هو نبي الله صلوات ربي عليه يقول: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)) رواه الحاكم عن سهل بن سعد[2].
أمة القرآن، أبواب الجهاد يطرقها عباد الليل، والشجاعة تسقى بدموع الليل، وماعرف الإسلام رجاله إلا كذلك.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجرى بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17].
ولهذا فإن مجاهدي الأمة ورجالاتها الأفذاذ من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا لم يتركوا قيام الليل حتى في حال الغزو، هذا عباد بن بشر الصحابي الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة انتدبه الرسول صلى الله عليه وسلم مع رجل من المهاجرين لحراستهم في ليل إحدى الغزوات، فاضطجع المهاجري وقام هو يصلي، فأتى رجل من المشركين، فلما رآه قائماً يصلي عرف أنه حارس القوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه، فنزعه عباد، فرماه المشرك بسهم ثان، فنزعه، وهكذا حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه، فلما عرف المشرك أنهم قد انتبهوا له، هرب، فلما رأى المهاجري ما بعباد من الجراحة قال: سبحان الله، ألا نبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في قراءة سورة الكهف فلم أحب أن أقطعها.
هذه هي الأمة التي ينصرها الله وهذه هي الأمة التي تدين لها الأمم.
هل من صلاح الدين يعيد السيف في يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا
قال أهل السير: كان أصحاب رسول الله لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء، فقال هرقل عظيم الروم وهو في أنطاكية لما قدمت جيوشه تجر أذيال الهزيمة: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزنى ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عما يرضى الله ونفسد في الأرض[3].(/2)
وقال الواصف في وصفهم: (وهل كان أصحاب رسول الله إلا شباباً، شباب مكتهلون في شبابهم، ثقال عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر إليهم في جوف الليل، منثنيةً أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة، بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كلالهم بكلالهم، كلال ليلهم بكلال نهارهم، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام، مستقلين لذلك في جنب الله، وهم موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، إذا رأوا سهام العدو فوقت ورماحه قد أشرعت، وسيوفه قد انتضيت، وأبرقت الكتيبة وأرعدت بصواعق الموت، استهانوا بوعيد الكتيبة، لوعيد الله، مضى الشاب منهم قدماً حتى تختلف رجلاه عن عنق فرسه، قد اختضبت محاسن وجهه بالدماء، وعفر جبينه في الثرى، وأسرعت إليه سباع الارض، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف قد بانت بمعصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده في جوف الليل لله، وكم من خد رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد، رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان[4].
قال ابن كثير في ترجمة السلطان الزاهد المجاهد، نور الدين زنكي: "إن جماعة من العباد ممن يعتمد على قولهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعوهم يقولون أن القسيم ابن القسيم يعنون نور الدين له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعوه، فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا، قال: فهذا كلام الكفار في حقه"[5].
جمع الشجاعة والخشوع لربه يا حبذا المحراب في المحراب
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب...
[1] رواه الترمذي وغيره، وهو في صحيح الجامع.
[2] (حسن) انظر حديث رقم (73) في صحيح الجامع.
[3] البداية والنهاية (7/15).
[4] تاريخ خليفة بن خياط (1/386).
[5] البداية والنهاية (7/15).
الخطبة الثانية
الحمد لله على آلائه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيماً لشانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، أيها المؤمنون هذه هي الفرصة قد أتتكم، فإن فرطتم فيها فقد أضعتم خيري الدنيا والآخرة، ها هي معسكرات التدريب قد فتحت أبوابها لكم يا من تريدون الجهاد، هذه أيام العشر لم يبق منها سوى ليال، من كان صادقاً في حبه للجهاد والشهادة فليري الله من نفسه خيراً، وليصقل النفس، ويربطها بالسماء ويخلصها من أغلال الأرض، فإن قاوم حنين الفراش، وسلطان النوم، فهو قادر بإذن الله على مقاومة حنين الدنيا، وسلطان ملذاتها، وهو قادر على بذل النفس رخيصة في سبيل الله.
أما من ضعف عن ساعات يقفها بين يدي الله في ظل بارد، وماء وارف، فهل بالله يقدر على وقوف ساعات في ساح الوغى، تحت قصف الطائرات، وزمجرة المدرعات، متقلب بين لهيب الشمس، وحرارة القيظ.
والليل يعرفهم عُباد هجعته والحرب تعرفهم في الروع فرسانا
هذا هو رسول الله قائد المجاهدين، وسيد العباد، وإمام الغر المحجلين، يعلمنا قيمة هذه الليالي، تحدث عائشة رضي الله عنها عنه قائلة: (كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) رواه البخاري.
وفي صحيح مسلم أنه كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، أتدري يا عبد الله كيف كان يجتهد في غيرها، اسمع إلى حذيفة بن اليمان يقوم ليلة مع رسول الله : (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ) رواه مسلم.(/3)
وها هو يقوم الليل حتى تتشقق قدماه وتتفطر، فترحم عائشة هذا الجهد منه، وتقول له: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)) وَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ.
وهل يقرأ القرآن هذا كما نقرأه نحن، أو ينتظر الفراغ من القراءة حتى يجلس، لا، اسمع إلى عبدالله بن الشخير يقول رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ : ((يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ)).
عباد الله، الحديث عن قيام الليل طويل، لا تجمعه كلمات في خطبة، ولا مقالات في كتاب، ولو جمعته، فإنه أفعال وأحوال، وليس مجرد عبارات وأقوال.
أيها الإخوة، نحن نعلم أنه أمر جليل، وحمل ثقيل لا يقدر عليه إلا منْ منَّ عليه الرب الرحيم، ولكن يا أيها الأخ، أريد أن أيسر عليك المطلب، وأذلل لك المركب، بخطوات تساق على عجل، وما لايدرك كله، لا يترك جُله.
تذكر يا رعاك الله، نزول الرب جل وعلا في جوف الليل الآخر كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ حيث يقول: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))، وتذكر أن ربك في علاه، تنزل لك، فهل تعرض عنه، وقد أتاك.
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ [الزمر:9].
ثم اعلم يا أخي أنك ستعرف زمان نصر هذه الأمة، إذا رأيت أبنائها ركعاً سجداً في محاريب الليل.
وبعد ذلك ليكن بدؤك في رحلة قيام الليل هينا، فعليك يا أخي أن تعالج نفسك بالاستيقاظ في جوف الليل لدقائق معدودة تذكر الله، وتستغفره، وتطلب منه دعوات معدودة، حتى إذا أحسست بالأنس بهذه الدقائق انتقل إلى مرحلة أخرى.
إذا وجدت في نفسك نشاطاً، فتوضأ وضوءاً خفيفاً، وصل وتراً، واحدة أو ثلاث، حتى إذا أصبح ذلك الأمر سجية لك، وأضحى فؤادك يتضجر لفقده، وتنتظر حلاوته، فاعلم أن الله وضعك على عتبات الطريق، فعندئذ اعمد إلى ورد من القرآن تقرؤه ولو في المصحف، في سكنات الليل، ونسمات السحر، ثم ناج ربك ومولاك بدعوات، وابتهالات، وانظر بعد كيف سيكون قلبك.
عباد الله، إن الأمة تعيش مخاضاً، والأرض تمور بأهلها، ونحن مقدمون على ملاحم لا يعلم نتائجها إلا رب الأرض والسماء، وإن لم نكن بقدرها، فسنغضب الرب، ونستحق لعنة الخلق، وسيطوينا التاريخ، فما أحوجنا لقيام الليل في هذه المحن.
إنه حق على كل مسلم في هذه الأيام الحرجة، أن يجعل له ورداً يومياً من الدعاء، يستنصر به رب الأرض والسماء على الصليبيين واليهود والمنافقين ومن والاهم، وأن يسأل الله النصر لإخوانه، في جوف الليل، لعل الله عز وجل يعذره بهذا الفعل القليل، ولعل الله أن يستجيب لهذه الآهات الصادقة، والحسرات المتألمة.(/4)
... ...
قيمة الزمن ... ... ... ...
أحمد فريد ... ... ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- إقسام الله بالزمان لشرفه. 2- الزمن فرصة للتزود بعمل الآخرة. 3- الأعمار مسؤول عنها يوم القيامة. 4- ندم المفرطين يوم القيامة وتمنيهم العود للدنيا. 5- الوقت نعمة شكرها طاعة الله وكفرانها معصية الله. 6- صور من حرص السلف على أوقاتهم. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
عباد الله:
الوقت والعمر والأيام والليل والنهار والدقائق واللحظات رأس مال العبد، وهو نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على العباد.
تمنن الله عز وجل على العباد بنعمه فقال عز وجل: الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم:32-34].
وأقسم الله عز وجل بالزمان فقد أقسم بالعصر، وبالليل والنهار، وبالفجر وبالضحى لبيان أهمية الزمان فقال عز وجل: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر].
وقال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [الليل:1-2].
وقال تعالى: والضحى والليل إذا سجى [الضحى:1-2].
وقال تعالى: والفجر وليال عشر [الفجر:1-2].
وقيمة الزمن تكمن في أن الله عز وجل جعله فرصة للإيمان، والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [الفرقان:62].
قال بعض السلف: من فاته طاعة الله بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاته طاعة الله بالنهار كان له من أول الليل مستعتب.
ودلت السنة كذلك على أهمية الزمن وخطره قال النبي : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه))([1]).
فيسأل العبد يوم القيامة سؤالين عن الزمن، عن عمره فيما أفناه عامة، وعن شبابه فيما أبلاه خاصة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ))([2]).
والمغبون هو الذي باع شيئا بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه، فالصحة والوقت نعمتان عظيمتان، أكثر الناس لا يستفيد منهما ويضيعهما ثم يندم عليهما في وقت لا ينفع فيه الندم، والموفق إلى بذلهما في طاعة الله عز وجل قليل، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، تستطيع أن تشتري بها كنزا لا يفنى أبد الآباد، فتضييعه وخسارته، أو اشتراء صاحب به يجلب هلاكه لا يسمح به إلا أقل الناس عقلا، وأكثرهم حمقا.
قال النبي : ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة ))([3]).
قال بعض السلف: بلغنا أن نخل الجنة ساقها من ذهب، وسعفها من حلل، وثمارها أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل والشهد.
وقال : ((اقرأوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ))([4]).
وقال : ((من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى له قصر في الجنة))([5]).
فخطر الأوقات والأنفاس أن العبد إذا تاجر فيها مع الله عز وجل ربح على الله عز وجل أعظم الأرباح.
قال الحسن البصري: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلا وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق، وذلك لأنه أضاع فيها لياليه، وأخذ منها زاده إلى النار.
وخطر الأوقات والأنفاس كذلك مع كونها رأس مال العبد وفرصة الأعمال الصالحة، أن عدد الأنفاس التي قدرها الله عز وجل لنا غيب فلا يدري متى تذهب أنفاسه حياته.
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
قال الحسن: المبادرة المبادرة إنما هي الأنفاس، لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، لو حبست انقطعت عنكم ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ: إنما نعدّ لهم عدا آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.
فالله عز وجل قدر لنا عددا محددا من الأنفاس فكلما تنفس العبد نفسا سجل عليه، حتى يصل العبد إلى آخر العدد المقدر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلى دار الحساب ولا عمل، فمن كان يمشي على ظاهر الأرض بالطاعة والمعصية، يصير محبوسا في باطنها مرتهنا بعمله.
وإنما يدرك العبد خطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة فعند ذلك يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، وتتجدد له هذه الأمنية وهذا الطلب كلما عاين أمرا من أمور الآخرة.(/1)
قال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99].
وقال تعالى: وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [المنافقون:10-11].
وقال تعالى: ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [السجدة:12].
وقال تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [الأنعام:27].
وقال تعالى: وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [فاطر:37].
وقال تعالى: قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [غافر:11].
فالعمر والوقت نعمة من الله عز وجل، فمن شكرها بطاعة الله عز وجل وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل:32]، وتقول له في الجنة: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24].
ومن كفر هذه النعمة وبذلها في معصية الله عز وجل تقول له الزبانية: ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين [غافر:75-76].
فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات فأهل الجنة لا يتحسرون على شيء، إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله عز وجل فيها.
وقال بعضهم ك هب أن المسيء قد عُفِي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين كم من المسلمين عباد الله من يضيع الساعات في غير الطاعات، بل في معصية رب الأرض والسماوات، كم من أناس يضيعون أعمارهم في الجلوس على المقاهي ومجالس اللغو واللهو يفرحون برؤية الذاهبات والغاديات، كم من أناس يضيعون أوقاتهم أمام لوحة النرد أو الشطرنج وإن سألتهم قالوا : نقتل الوقت، نقول لهم : أنتم تقتلون أنفسكم أو تنتحرون انتحارا بطيئا، لأن الوقت هو عمر الإنسان، ولأنه من أعظم نعم الله عز وجل على العباد، هل الوقت عدوا أو نقمة يتخلصون منه بقتله، إنهم يضيعون فرصة عمرهم، وفرصة العمل بطاعة ربهم، وكل يوم يمضي من أعمارهم لا يعود إليهم أبدا، وإنما يمضي بما فيه من خير أو شر.
كان السلف رضي الله عنهم أحرص الناس على أوقاتهم.
قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك فقال : أوقف الشمس.
وكان بعضهم إذا جلس الناس عنده فأطالوا الجلوس يقول: أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر.
كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصكم على دنانيركم ودراهمكم.
مات ابن لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة فوكل أحد جيرانه في غسله ودفنه لئلا يفوته درس من دروس شيخه أبي حنيفة.
كان ثابت البناني يستوحش لفقد التعبد بعد موته فيقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلى في قبره فأذن لي.
وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد من يبكي بعدك لك، من يترضى ربك عنك.
ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي.
وقيل لأبي بكر النهشلي وهو في الموت: إشرب قليلا من الماء قال: حتى تغرب الشمس.
أين وصفك من هذه الأوصاف، أين شجرة الزيتون من شجر الصفصاف.
لقد قام القوم وقعدت، وجدوا في الجدّ وهزلت، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد
يا ديار الأحباب أين السكان، يا منازل العارفين أين القطان، يا أطلال الوجد أين البنيان، أماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر، وإنما ينطبق علينا عباد الله قول القائل:
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، إلى متى تدفع التقوى عن قلبك وهل ينفع الطرق في حديد بارد.
([1])رواه الترمذي (9/253) عارضة ) صفة القيامة وقال : حسن صحيح ، وحسنه الألباني بشواهده في الصحيحة .
([2])رواه البخاري (11/233)الرقاق : باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة والترمذي ، (2304 شاكر) الزهد : باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس .
([3])رواه ابن حبان (2335موارد) ، والترمذي (3531شاكر) الدعوات والحاكم (1/501، 502) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني .
([4])رواه الخطيب في التاريخ (1/285) ، والديلمي (1/1/13) وقال الألباني : وهذا إسناد جيد رجاله رجال الصحيح غير ابن الجنيد ترجمه الخطيب وقال : وهو شيخ صدوق ، ووثقه غيره وروى الترمذي نحوه – الصحيحة 660.(/2)
([5])رواه أحمد (5/437) ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (589) . ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
قيمة كل إنسان ما يحسنه
محمد البشير الإبراهيمي
الجزائر
1/1/1348
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قيمة الرجال تُقدّر بالعمال 2- الأعمال الجليلة نوعان 3- نصيحة عامة 4- فضل الجمعة
الخطبة الأولى
أيها الناس: إن يومكم هذا من الأيام المشهودة، وسمه دينكم بسمة هي الغرة اللائحة في جبين الأيام، وهي هذه الشعيرة التي تقيمون أركانها، وتجتمعون لأجلها.
فاحمدوا الله تعالى على الهداية، واسألوه أن تكون كل ساعة تأتي بعد ساعتكم هذه خيراً مما قبلها، وأن يكون اجتماعكم هذا فاتحة اجتماعات في الخير تنقضي مع العمر، تتآمرون فيها بالمعروف وتتناهون عن المنكر، وتتواصون بالحق وتتواصون بالصبر.
عباد الله: لو كانت كلمة الحكمة توازن بالذهب، أو تقدّر بالمال والنسب، لكانت كلمة علي بن أبي طالب هي تلك الكلمة، وفوقها قدراً وقيمة تلك الحكمة التي ثقفتها الفكرة العالية، ومحضتها الخبرة الراقية، وهي قوله – -: ((قيمة كل إنسان ما يحسنه)) بيّن لنا – رضي الله عنه – وهو مصدر البيان، وينبوع التبيان، أن الأعمار هي الأعمال؛ وبالإحسان فيها تتفاوت قيمة الرجال، وأن ذلك لا يرجع إلى وزن بميزان، ولا كيل بقفزان، وإنما هو عقل مفكّر، ولسان متذكّر، ومن لا عمل له، فلا عمر له، ومن لا أثر له في الدين يمتثل به أمر ربه، ولا أثر له في الدنيا تزدان به صحيفة كسبه، فوجوده عدم، وعُقباه ندم وحياته مسلوبة الاعتبار، وإن شارك الأحياء في الصفة والمميزات.
فاحرصوا، رحمكم الله، على أن تكون لحياتكم قيمة، واربأوا عن أن تكون في كفة النحس والهضيمة، واسعوا في الوصول بها إلى القيم الغالية، والحصول منها على الحصص العالية.
وأن الأعمال التي تجمل الحياة وتُغليها، وتقف بها في مستوى الإجلال وتحييها لا تعدو نوعين: وظائف العبادات التي هي سور الوحدانية، والعنوان الصادق على الإخلاص في العبودية، وهي أخف النوعين محملاً وأقربهما تحصيلاً وعملا، لأن الله لم يكلفكم من عبادته إلا باليسير، وشغل بها القليل من أوقاتكم وترك لكم الكثير.
والنوع الثاني السعي فيما تقوم به هذه الحياة الدنيا من الأعمال وتتوقف عليه عمارتها، وهذا يرجع إلى الدين بإخلاص النية، وتمحيض القصد للجري على حكمة الله وتأييد سنته الكونية.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكشف عن قلوبنا - لإدراك الحقائق – حجاب الغفلة والسنة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من آمن به وأخلص توحيده، واعتمد عليه في كل أموره، فرجا وعده وخاف وعيده، ورفع أكف الابتهال والضراعة طالباً لطفه وتسديده، وفضله وتأييده، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله إتماما لنصاب العقيدة. وتنويهاً بمزاياه الحميدة، كما نصر الحق وأكثر عديده، وخذل الباطل وأبلى جديده، وتمّم مكارم الأخلاق بصفاته المجيدة وأقواله السديدة، وبعث آخر الأنبياء فكان لبنة التمام ورويّ القصيدة .
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وحافظوا على حدوده في السر والنجوى، وامتثلوا أمر ربكم الذي أكسبكم به فخراً وتعظيماً، وهو قوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، واعلموا أن يومكم هذا خصّص للاجتماع والعبادة والحسنى والزيادة، فأقيموا القصد في التقرّب من بعضكم ودعوا الأحقاد والتباغض، وأسبلوا على ما فرط من بعضكم للبعض أذيال الستر والعفو، والزموا خلق الرضا والصفح، فكونوا عباد الله رحماء بينكم، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل ووقاني وإياكم شر مزالق الزلل.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .(/1)
محمد الشيباني
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين... تلك سنة الله التي لا تتبدل وناموس الكون الذي لا يتغير " من جاهد في سبيل الخير وجد في طريق الصلاح هدي إلى طرق تحصيله" وقيام الليل كغيره من سبل الهدى له أسباب ذاتية -باعثة- وأسباب مادية -معينة- من جاهد في طريق تحصيلها هدي من ذلك إلى طريق مستقيم وقام ليله بتوفيق الله ومقتضى وعده.
وتنقسم أساليب المجاهدة هذه إلى قسمين ":معنوي ومادي" وسنبدأ في هذه الكلمة بالسبب المعنوي لأنه هو الأصل الذي يبني عليه والشرط الذي لابد منه فهي بواعث ذاتية تحفز المسلم حين يستشعرها على قيام الليل وبذل الجهد في سبيل ذلك ونذكر من هذه الأسباب:
1-الإخلاص: فبحسب إخلاص المرء لله عز وجل ينشط للعبادة ويخف صعب الطاعة عليه .. ثم إن كل عمل لا إخلاص فيه هباء قال الله تعالى( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)
2-استشعار الإجابة: نعم إنه جبار السماوات ينادي هذا المخلوق الضعيف يناديك أنت من فراشك الوثير وبين أهلك وأحبائك فهو " ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" (رواه البخاري(1145) ولمسلم حتى ينفجر الفجر وفي الموطأ "من يسألني من يستغفرني .
3- القرب من الله: وروي الترمذي(وحسنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون من من يذكر الله في تلك الساعة فافعل ( الحاكم ج1ص453 وقال صحيح على شرط مسلم )
4 - استجابة الدعاء: فقد قال صلي الله عليه وسلم من تعار من الليل فقال أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير،الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته "بخاري(1154)
5- منهاة عن الإثم : وقد قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) وفي حديث حسن رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة للإثم) الترمذي /باب الدعوات وقال الحاكم على شرط مسلم .
6-اجتناب المعاصي: فالمعصية تُقعد عن الطاعة، و أكثر السلف القول بأنَّ المعاصي تحرم العبد من القيام وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى، وأحبّ قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: "ذنوبك قيدتك".
7-معرفة فضل قيام الليل ومنه:
أ ) شعار الصالحين : فقد قال الله عنهم ( إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون ) وفي الأثر عليكم بقيام الليل فإنه شعار الصالحين قبلكم..
ب )براءة من النفاق: و أخرج أبوا داوود وصححه الألباني:" من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" ابن خزيمة (1145).
ت ) طرد لخبث النفس والكسل: وأخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي استيقظ فذكر الله وتوضأ وصلى : انه انحلت عقده وأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان (البخاري\برقم 1142)
ث )عصمة من الفتن : واسيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو يقول سبحان الله ماذا انزل من الفتنة ماذا انزل من الخزائن من يوقظ صواحب الحجرات يارب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة "(باب5 |التهجد\ البخاري) فاعتبر أن قيام نسائه الليل عصمة من الفتن التي أنزلت تلك الليلة.
ج ) هي أحب الصلاة بعد الفريضة إلى الله عز وجل كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (مسلم (الصيام 202) وأنها أسمع الدعاء وذكر عنده رجل نام حتى أصبح فقال ذاك رجل بال الشيطان في أذنه( البخاري :1144) وقال نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل فكان لا ينام إلا قليلا(البخاري\ التهجد\الباب2... وقال في الذي رآه في المنام يثلغ رأسه أنه " يعمد إلى القرءان فيرفضه وينام عن المكتوبة"(بخاري برقم1143) وأمر به أهله حتى لقد طرق على صهره وابنته ليأمرهم بقيام الليل(البخاري\ 1142) ونهى عن الإقتداء بمن يتركه فقال لبعض أصحابه "لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل (بخاري التهجد باب 19) ونفر من عدم قيامه تنفيرا فقال "إن الله يبغض كل جعظري جواظ جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جهل بالآخرة"( البيهقي في السنن) .
تلك هي المعرفة الباعثة على قيام الليل وسنشرع في ذكر نبذة من الأسباب المادية المعينة على هذه العبادة العظيمة:(/1)
1)التبكير بالنوم : وهي حكمة نبوية وعون كبير على قيام الليل وقد صح عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها( البخاري) ولقد صدق البعض حين سمى السهر مؤامرة على صلاة الصبح .. أحرى قيام الليل
2) القيلولة: وسواء أكانت نوما بعد الظهر أو قبله فنعم العون هي على قيام الليل وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " قيلوا فإن الشياطين لا تقيل " أخرجه الطبراني وصححه الألباني 2847 وقال الحسن بن عبد الله : القائلة من عمل أهل الخير مجمة للفؤاد معينة على قيام الليل وقال الحسن في رجل رآه لا يقيل أري ليلك ليل سوء .
3) برمجة الوقت فبها يضبط المرء وقت عمله وراحته وحتى لا تتكاثر الشواغل عليه فيتعب في النهار جدا فلا يستطيع قيام الليل.
4) تجهيز الآلة: ويكون ذلك بوضع وضوء وميضأة إلى جانب السرير الذي ينام فيه وعلى مسافة يأمن معها من أن يهريقه أو يكون في طريقه أو طريق غيره. وقالت عائشة : كنا نعد لرسول الله طهوره وسواكه ( مسلم ج6ص37) .
5) القيام دفعة: فرب مستيقظ ينهض ليقوم فيسوف فيغلبه النعاس ويزداد وسنا ولذلك ينبغي أن ينهض المرء من فراشه دفعة ولا يسوف.
6) استعمال المنبه : فلقد انتشر الهاتف الجوال ورخصت ساعات التنبيه وتيسر ضبطها على أية ساعة من ليل أو نهار بل وعلى أية ثانية ودقيقة وهذه وسيلة أنعم الله بها علينا فمن شكرها صرفها في هذه الطاعة ولا ينبغي أن يستعين بها أهل الفساد في فسادهم ولا يستعين بها أهل الصلاح في صلاحهم.
7) الإنارة : فالضوء طارد للنوم فينبغي المبادرة إلى إنارته لكن إذا كان المصباح غير كهربائي فلا يستخدم إلا باحتياط وحذر تام.
8) تجنب الفراش الوثير : فهو مدعاة للاستغراق في النوم للينه ونعومته في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ثني فراشه ليلة فسأل عن ذلك فقالوا هو فراشك ثنيناه أربع ثنيات قلنا هو أوطأ لك قال ردوه لحالته الأولى فقد منعتني وطاءته صلاتي الليلة.( الترمذي –الشمائل ص270)
9) الوصية: وهي تجسيد للتعاون على البر والتقوى وخروج من دائرة الخسران التي حددتها سورة العصر لأنها من جملة "التواصي بالحق والصبر"
10) نضح الماء : وهو من الأسباب المشروعة وقد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :" رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء ... رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء) أبوا داوود وصحح النووي والحاكم إسناده .
11) الإقلال من الطعام: فإنَّ كثرة الطعام مجلبة للنوم، ولا يخفُّ قيام الليل إلا على من قلَّ طعامه،و بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (رواه أحمد والترمذي، وهو في صحيح الجامع برقم: |555|
12) التدرج : ونعني به أمران أولهما التدرج في المقروء فيبدأ بربع حزب أو نصفه و لا يزيد عليه إلا بعد فترة من المواظبة ثم يبدأ يزيد رويدا رويدا والثاني التدرج في عدد الركعات فيبدأ بأربع حتى يتدرب عليها ثم يبدأ يزيد إلى ماكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر أو إحدى عشر فذلك هو السنة (البخاري/ التهجد باب 16)
13) التدبر: فالترتيل والتدبر ينقل المرء من تحمل عبئ القراءة إلى العيش داخلها فتخف عليه وتسهل ويفهم هذا من قوله تعالى " وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ".
14)قضاء التهجد : ولذلك هدفان أولا أن تفطم النفس وتيأس من تركه فإن هو فات في الليل علمت أنه يقضى في النهار بالليل والثاني أن يكتب له أجر التهجد فمن نام عن حزبه وقضاه ما بين طلوع الفجر وصلاة الظهر كتب كأنما صلاه من الليل.كما في (مسلم ج6ص 26)
15) مراجعة المقروء نهارا: فمراجعة ما يريد المرء أن يقوم به في النهار لها أثر كبير في خفة لسانه به وهو أبعد عن التتعتع والارتباك وله طريقتان إحداهما مراجعة الجزء كاملا والثانية مراجعة "أثمانه" و"أرباعه" وكان بن عمر يفعل ذلك .
جمل وآداب:
هذه جمل دلت عليها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحكم بها هديه، تنير لمن أراد أن يأخذ حظا من من شعار الصالحين وصفة المحسنين الطريق
- كان إذا قام من الليل مسح النوم عن وجهه وقرأ العشر الخواتيم من آل عمران ( البخاري 992 )
- كان يقوم إذا سمع الصارخ ) صياح الديكة""(البخاري برقم 1132)
- كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك ( البخاري /التهجد باب 9) ويتوضأ مسبغا (مسلم ج6ص46)
- كان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين " وهي نشاط واستعداد با أمر بذلك كما في مسلم ج6ص54 .
- كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا (البخاري 1147) كما صح عنه وقال صلاه الليل مثنى مثنى. ( متفق عليه)(/2)
-كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق الجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حقا اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت و إليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت "(البخاري 1120) ولابن خزيمة بعد تكبيرة الإحرام.
-كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ( كما في مسلم 733) و كان يقرأ كل ليلة بسورة الملك و الإسراء و السجدة"( الألباني في الصفة)
-من كل الليل أوتر صلى الله عليه وسلم أوله ووسطه وانتهى وتره إلى السحر ( البخاري 996 ومسلم).
-نهى أبا هريرة أن ينام قبل أن يوتر ( مسلم721) وفي الحديث:" ما أصبح رجل على غير وتر إلا أصبح على رأسه جرير قدر سبعين ذراعا(بن حجر في الفتح إسناده جيد).
-نهي عن الوتر بثلاث فقال (لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب) كما صحح الحاكم (1138) وكان وتره بسبع وتسع وإحدى عشر كما في البخاري(1139).
- لم يستكمل قيام ليلة وقال لابن عمر إنك إن فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك (البخاري\11539).
- قام حتى تفطرت قدماه فقيل له فقال أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا ( البخاري /رقم 1130)
- أمر بحل حبل مدته أم المؤمنين زينب بنت جحش تسند إليه وقال:ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد(البخاري/1150)
- كان إذا مر بآية عذاب استعاذ وإذا مر بآية رحمة سأل.
- مر بعمر يرفع صوته في التهجد وبأبي بكر يخافت به فأمر عمر أن يخفض وأبا بكر أن يرفع كما في باب رفع الصوت من أبي داوود وكان يجهر ويسر أحيانا.النسائي (ج3ص 224)
- نهي أن يقرأ القرءان في أقل من ثلاث ليال ولم يرخص في أقل من ذلك.
- قال لأسيد بن حضير حين رأى أمثال القناديل المعلقة في السماء :" اقرأ يا ابن حضير تلك السكينة تنزلت لقراءة القرءان ولو قرأت لأصبحت يتراءاها الناس والقصة في مسلم(ج6ص 83) .
- كان الصحابة يكرهون قطع سورة افتتحوها .. وصبر أحدهم لرشق السهام كراهية أن يقطع سورة شرع في قراءتها.
- كان يسجد في تهجده بقدر قراءة خمسين آية (بخاري\ تهجد\باب 3)
- كان يقول في سجود صلاة الليل:" سبحانك لا إله إلا أنت (أحمد| ووثق رجاله بن حجر في الفتح .
- كان أول ما تكلم به حين دخل المدينة:" أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " الحاكم والترمذي ( رياض الصالحين 1166).
تلك قبسات من هدي خير المرسلين وقيامه بكتاب رب العالمين، ونعم الهادي هي لمن أراد أن يلتحق بركب القانتين الذي يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.
وبقي أن شير هنا إلى أن التدبر هو أصل قيام الليل ومغزاه ليعقل المسلم عن الله مراده ولهذا التدبر أسباب معينة منها تعلم لغة العرب وتفيسير الراسخين وملاحظات الصادقين وننوه هنا بكتابي التصوير الفني في القرءان لسيد قطب وكتاب دراسات قرءانية لمحمد قطب وشريط الإعجاز اللفظي في القرءان " محمد سالم بن عدود.
فإذا قام المرء الليل وسهل عليه بعد صعب، فليستشعر هذه النعمة الكبرى فكم من من حرم حتى صلاة الجماعة أحرى نعمة قيام الليل وفضيلة المناجاة فليدع غيره عبر كل الوسائل من مخاطبة عادية ورسائل جوال "وإن عشر أواق" أقامت ليل مسلم لأواق مباركة فليتخير من جوامع الدعاء ثم ليجعل من دعائه لرفعة الإسلام في نفوس أهله أولا ثم في كل أقطار الأرض ثم لا ينس القلة المجاهدة والأسري والمشردين أن يرحمهم ربهم ويثبت أقدامهم فهذا الدعاء مشاركة عملية في الجهاد والغزو..
ولتهنأك إن فعلت ذلك شهادة الله عز وجل لك بالإحسان في قوله :( إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون".(/3)
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد.
أيها المسلمون:
إن من حكمة الله العلي الكبير وجود الخير والشر، والكفر والإسلام، والطاعات والمعاصي، ووجود هذه الأمور أمر لا محيد عنه، ولا يمكن أن تخلو الحياة منه، فهو سنة ماضية للصراع بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح. ولما هدى المؤمنين إلى الحق وفعل الخير أمرهم أن يأمروا الضالين والمنحرفين بأمور الخير وينهوهم عن الشر، ولا يكتفي المسلم بخاصة نفسه، ويترك أهل المنكرات في غيهم يترددون، وفي سكرتهم يعمهون، بل يجب عليه الأخذ على أيديهم، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فإنه لا تكاد المجتمعات تخلو من بعض المنكرات، ولكنها قد تقل في مجتمع، وتكثر في آخر،كمنكرات الطرقات وممرات ومنتديات الناس العامة، وأسواقهم وبيوتهم، وغيرها، والتي يجب على كل متى رآها أن ينهى عنها، ومن هذه المنكرات:
خروج النساء المتبرجات الكاسيات العاريات المائلات المميلات اللاتي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- أنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
وما أكثرهن اليوم يزاحمن الرجال في الحافلات والممرات والطرقات، والمنتديات والتجمعات العامة، قد لبسن أحسن الثياب، وتعطرن بأفخر العطور ، وتجملن بأنواع المساحيق الخضابات – وإنا لله وإنا إليه راجعون- . يستعرضن بكل زينتهن أمام الشباب العزب، وكأنهن يشرن إليهم بأن هلموا، فقتلن الحياء في نفوسهم ونفوسهن.
ومن المنكرات التي تحدث: الأغاني الماجنة والخليعة ، التي تسخط رب الأرض والسماء، إنها لهو الحديث، وقرآن الشيطان والتي قال عنها سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} 1.
فأقسم الصحابي الجليل ابن مسعود بأن لهو الحديث هو الغناء.
وقال -تعالى- عن الشيطان: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا 2}. وقوله: وصوتك، أي الغناء ومزامير الشيطان.
ومن هذه المنكرات أيضاً أن يظل الباعة وأهل المحلات التجارية في أماكنهم لا يؤدون الصلاة التي افترضها الله عليهم.. وهذه ظاهرة منتشرة في بعض البلدان الإسلامية فإذا ما مر الإنسان بسوق يريد الذهاب إلى المسجد لقصد أداء الصلاة؛ وجد الكثير الغالب من أصحاب الدكاكين والمحلات التجارية مفتحة أبوابهم، غير عابئين بالصلاة، وما يسمعونه من التكبيرات المدوية عبر مكبرات الصوت، مع أن المسجد قد لا يبعد عنهم سوى عدة أمتار.
وتجد البعض الآخر يسرحون ويمرحون، ويبيعون ويشترون، وكأن الصلاة شيء لا يعنيهم، أوكأنهم لا يعلمون أن بين الشرك والإسلام ترك الصلاة؛ وكأنهم لم يقرءوا ولم يسمعوا قوله –تعالى- عن المجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين ( ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} إلى آخر الآيات3 . وقوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 4.
وكأنهم لم يعلموا أن من قطع الصلاة فقد قطع الصلة بينه وبين ربه، وكأنهم لم يعلموا أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وأن تركها والتهاون فيها موجب للويل والثبور؛ كما قال -تعالى-: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ( ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا 5} وقال –تعالى-: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ( ) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُون} 6.
وإن الإنسان ليعجب وتصيبه الدهشة والحيرة، وهو يرى مسلماً يدعي الإسلام ولا يصلي! ومسلماً يدعي الإسلام وقد ترك أعظم وأهم أسسه ودعائمه، وآخر يقول لا إله إلا الله، وقد ترك مقتضياتها والعمل بها.
أيها المسلمون: ومن المنكرات الألفاظ القبيحة كالسب والشتم واللعن الذي يحصل بين المتخاصمين.(/1)
ومن أكبر المنكرات تعطيل الشريعة الإسلامية عن العمل بها في العالم الإسلامي، والتي أمر الله بالعمل بها وتحكيمها في شؤون كافة، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (سورة النساء:65، فتجد من اتخذ القوانين الأجنبية والإفرنجية بديلة عن شريعة الله، وأصبح التحاكم إلى القوانين الوضعية أمراً مألوفاً غير مستنكر! فيجب على المسلمين أن يتقوا ربهم ويجتنبوا أسباب عقابه وغضبه وسخطه، وأن يسعوا إلى تطبيق الشريعة, والعمل بها في كافة الشؤون، وإلا فإن الذل والصغار والعذاب سيحل بهم أينما كانوا..
وكل هذه المنكرات القبيحة وغيرها كثير، ولا نسمع ولا نرى من ينكرها إلا علماء الإسلام وطلبة العلم على المنابر، أما كثير من المسلمين فلا يبالون بهذا الأمر ولا يلتفتون إلى إنكارها، وكأن واجب التغيير والدعوة إلى الله ينصبُّ على الدعاة والعلماء فقط! .
هذا خطأ كبير، بل كل من رأى منكراً فإنه يجب عليه تغييره بأي وسيلة شرعية استطاعها.. فو الله - يا إخوتاه - ما انتشرت المنكرات في المجتمع إلا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك أقول أيها الأحبة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وظائف أمة الإسلام، وبقيامها به استحقت وصف الخيرية؛ كما قال الله –تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 7.
قال مجاهد- رحمه الله-: كنتم خير أمة أخرجت للناس على الشرائط المذكورة؛ وعلى هذا يكون المعنى؛ كنتم خير أمة إذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وآمنتم بالله، وقد قدم الله ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قبل ذكر الإيمان تأكيداً للمؤمنين أنه لا يتم إيمانهم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يسعهم التخلف عنه إلا لعذر.
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب البعد عن اللعن والطرد من رحمة الله؛ كما قال -تعالى- عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( ) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } 8.
وإن الإنسان ليخاف أن تصيبه اللعنة جزاء رؤيته وسماعه المنكر ثم لا ينهى عنه، وهذا والله خطر كبير، وشر مستطير، فالله -سبحانه- قد أخبر عن ثلاث طوائف من الناس أحداها: سمعت ورأت المنكر ولم تعمل به، ولكنها سكتت عنه، والثانية نهت عن ذلك. والثالثة فعلت المنكر، فأخبر الله أنه أنجى التي أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، وأهلك التي عملت المنكر، وسكت عن الثالثة ولذلك اختلف العلماء فيها هل هلكت مع من هلك، أم نجت مع من نجا؟ والصحيح أنها ناجية من العذاب مع كونها آثمة بتركها النهي عن المنكر، قال الله -تعالى-: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } 9.
والعجب كل العجب أننا نجد البعض يدعو إلى فعل المنكر وترك المعروف، جهاراً نهاراً، ومحاربة لله ورسوله، فيأمر بسماع الأغاني، والاختلاط بين الرجال والنساء، وتحرير المرأة من الحياء!!! ومحاربة سنة المصطفى وغير ذلك، مما تولى كبره هذه الأيام كثير من المنافقين، لا كثرهم الله؛ قال -تعالى-: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 10 }.(/2)
هذه صفتهم، وأما صفة المؤمنين فإنها الأمر بالمعروف والفرح به، والنهي عن المنكر والحزن والاكتئاب لرؤيته؛ كما في قوله -تعالى-: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } 11.
قال الغزالي: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل عمله؛ لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكلفاً بعملها، أو متقلداً لتنفيذها، مجدداً لهذه السنة الداثرة، ناهضاً بأعبائها، ومتشمراً في إحيائها؛ كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها 12.
نسأل الله أن يهدينا إلى كل خير وأن يجنبنا سبل الضلالة والغواية، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله ومن والاه وتولاه إلى يوم الدين.
أما بعد.
لقد أوجب الله –عز وجل- على من ولاهم ولاية كبرت أو صغرت، أن يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } 13.
وأما بعض من ولاهم الله الولايات في زمننا هذا فإنهم على العكس من ذلك، فهم يأمرون بالمنكر ويشجعونه ويدعمونه، وينهون عن المعروف ويحاربونه، ويحاربون من قام به، إلا من رحم الله.
وقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول : " من رأى منكم منكراً (في بيته، أو في طريقه، أو في سوقه، أو في عمله، أو في مكتبه، أو في أي مكان) فليغيره بيده (وهذا واجب الولاة ومن كان له سلطة كالآباء والأمهات) فإن لم يستطع فبلسانه (وهذا واجب العلماء وطلبة العلم والوعاظ والدعاة وغيرهم) فإن لم يستطع فبقلبه (وهذا واجب كل مسلم أمام كل منكر لا يقدر على تغييره) وذلك أضعف الإيمان " 14.
وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 15.
أيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: اعلموا " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يكون عليماً بما يأمر به، عليماً بما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه، فالعلم قبل الأمر والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر فإن لم يكن عالماً لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم وإن كان عالماً ولم يكن رفيقاً كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد وقد قال تعالى لموسى وهارون: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } سورة طه 44 . ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم كما قال تعالى:{ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } سورة لقمان 1716"
أيها المسلون: واعلموا علم اليقين أنما أصابنا من الذل والهوان، والخزي والعار والانحطاط، إنما هو بسبب بعدنا عن كتاب ربنا وسنة نبينا، وتخلينا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال –تعالى-: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}17.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، ونعوذ به من الخذلان والغواية. اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تسخطه وتأباه. اللهم وفقنا للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا سميع الدعاء. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/3)
________________________________________
1 - سورة لقمان(6).
2 - سورة الإسراء (64).
3 - سورة المدثر(42- 44).
4 - سورة التوبة(5).
5 - سورة مريم (59- 60).
6 - سورة الماعون(4-5).
7 - سورة آل عمران(110).
8 - سورة المائدة(79- 78).
9 - سورة الأعراف(164- 165).
10 - سورة التوبة(67).
11 - سورة التوبة(71).
12 - إحياء علوم الدين (2/333) ط: دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
13 - سورة الحج (41).
14 - روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده .
15 - رواه مسلم.
16 - مجموع الفتاوى 5/253-254.
17 - سورة الشورى(30).(/4)
كتب مفيدة عن المساجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أكرم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد كانت المساجد على مر العصور منارة العلم ومثابة العلماء؛ في ساحاتها انعقدت حلقات الدروس وأقيمت المناظرات، وتشققت المذاهب والآراء، فكان لذلك أثره البعيد في تقدم العلوم والآداب والفنون، وعلى منابرها وقف الخلفاء واللُّسن المصاقع من الخطباء، وأثر عنهم القول البليغ والنصح الرشيد، ما تناقلته الرواة، وأودع بطون الكتب والأسفار. وكانت المساجد أيضاً لما ألحق بها من مدارس ومعاهد، وما أنشئ فيها من السبل وخزائن الكتب، ثم هي قبل ذلك أشرف البقاع عند المسلمين وأقربها إلى نفوسهم وأروحها على قلوبهم؛ يسرعون إليها خمس مرات في اليوم يؤدون الشعائر، والخصائص الجليلة؛ استحقت من العلماء والباحثين أن يولوها النصيب الأوفى من الدراسة والبحث، وأن يخصوها بالتأليف والتصنيف. ومن هؤلاء: العالم محمد بن بهادر المعروف ببدر الدين الزركشي، ألف كتاباً نفسياً أسماه (إعلام الساجد بأحكام المساجد) أودعه خلاصة الأحكام المتعلقة بالمساجد والصلاة فيها، والمعارف المتصلة بها، وما يلزم لها من صيانة ونظافة وتنسيق، وما تستوجبه من آداب ورعاية وتكريم.
ومن العلماء أيضاً محمد جمال القاسمي، فقد ألف كتاباً نفسياً أسماه (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) ذكر فيه كثيراً من البدع المرتكبة في المساجد وحذر منها، وبين بعدها منهج الكتاب والسنة وهو من أفضل ما كتب في الباب.
وكذلك كتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) للإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وقد ذكر في بداية كتابه أن موضوع رسالته ينحصر في أمرين هامين جداً: الأول: حكم بناء المساجد على القبور.
الثاني: حكم الصلاة في هذه المساجد. وقد بحث في كتابه هذه المسألة وبين خطورة اتخاذ القبور مساجد. ومن الكتب أيضاً كتاب: (تحذير الراكع والساجد من بدعة زخرفة المساجد) لأبي أنس السيد عبد المقصود عبد الرحيم، وهو في هذا الكتاب يحذر من بدعة الزخرفة التي دخلت إلى بيوت الله، وقد أحدثها كثير من الناس بدعوى الاهتمام بالمساجد وجدرانه.
ومن الكتب النافعة في هذا الباب كتاب: (تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد) لتقي الدين أبي بكر بن يزيد الجراعي الحنبلي ذكر فيه فضل المساجد وبناءها، وفضل ملازمة المساجد وأحكاماً أخرى. ومن الكتب أيضاً كتاب: (المسجد في الإسلام أحكامه وآدابه وبدعه) لخير الدين وانلي، ذكر فيه نظام بناء المسجد وبعض آداب المسجد. ثم ذكر بعض البدع الموجودة في المساجد.
ومن الكتب أيضاً كتاب: (من أجل مسجد فاعل) لعبد الرحمن بن عبد الله اللعبون، وهو من أفضل الكتب المعاصرة التي اهتمت بالمسجد ورسالته.
ومن الكتب كذلك كتاب: (المسجد ونشاطه الاجتماعي) لعبد الله بن قاسم الوشلي. ذكر فيه صلة المسجد بالمجتمع وتأثيره فيه، وذكر فيه المؤسسات الاجتماعية المسجدية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد الخلفاء الراشدين، ثم ختمه بباب ذكر فيه تأهيل المسجد المعاصر؛ ليقوم برسالته الشاملة كما قام بها المسجد القديم.
وهناك كتب كثيرة ألفت في هذا الباب أسردها سرداً للاختصار.
1. (تحفة الراكع والساجد في جواز الاعتكاف في فناء المساجد) للشيخ/ عبد الغني النابلسي.
2. (نزهة الواحد في الصلاة على الجنازة في المساجد) للنابلسي.
3. (القلائد في فضل المساجد) للشيخ أبي الفتح محمد بن صالح المقدسي.
4. (تحريك الفتى الواجد لبناء الجوامع والمساجد) للشيخ محمد بن عبدالرحمن السخاوي.
5. (القول النافع في بيان المساجد والجوامع) للسخاوي – أيضاً-.
6. (حرمة المساجد) لأبي نعيم الأصبهاني.
7. (المسجد وتعليم الكبار ) المركز الدولي للتعليم الوظيفي للكبار. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وغيرها من الكتب والمؤلفات.
والحمد لله رب العالمين،،(/1)
كسب القلوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.. أما بعد:
فقد جاء الإسلام بكسب القلوب ومودتها والحرص على صفائها, والبعد عن تنافرها وتباعدها وتحاسدها، وما الأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان إلا من أجل تآلف القلوب وتناصرها، والبعد بها عن تنافرها وتباعدها.
وما أحوجنا في هذا الزمان الذي اشتدت فيه عداوة القلوب, وكثر فيه الشر، وضعفت المودة بين القلوب والتآلف بينها، وقَلَّ المعينون عليه، ما أحوجنا أن نحيى هذه الفضيلة العظيمة، وندعو إليها ونحث عليها، لما فيها من الخير العظيم والنفع العميم، من إقامة أمر الدين، وتقوية الصالحين، وكسر الشر، ومحاصرة المفسدين.
أسباب كسب القلوب:
1- سلامة العقيدة: لأن العقيدة هي الإيمان، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، ولا توجد أخوة شرعية بدون إيمان. قال -تعالى-: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات:10).
قال عبد الرحمن بن السعدي -رحمه الله-: (هذا عقد عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم)1. وقال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} آل عمران: 103.
قال ابن السعدي- رحمه الله-: (حث الله عباده المؤمنين أن يقوموا بشكر نعمه العظيمة، وأن يقوموا بطاعته وترك معصيته، مخلصين له بذلك، وأن يقيموا دينهم ويستمسكوا بحبله الذي أوصله إليهم، وجعله السبب بينهم وبينه، وهو دينه وكتابه والاجتماع على ذلك وعدم التفرق، وأن يستديموا ذلك إلى الممات وذكرهم ما هم عليه قبل هذه النعمة، وهو أنهم كانوا أعداء متفرقين فجمعهم بهذا الدين، وألف بين قلوبهم، وجعله إخواناً، وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم من الشقاء، ونهج بهم طريق السعادة) 2.
2- دعاء الله -تعالى- دعاء حثيثاً لكسب القلوب وتأليفها: قال -تعالى-: {(وألف بين قلوبهم) (الأنفال: 63).
قال ابن سعدي -رحمه الله- في الآية السابقة: (وألف بين قلوبهم) فاجتمعوا وائتلفوا، وازدادت قوتهم، بسبب اجتماعهم. ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا بقوة، غير قوة الله.
وإنك (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً) من ذهب، وفضة وغيرهما، لتأليفهم بعد تلك النفرة، والفرقة الشديدة (ما ألفت بين قلوبهم) لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلى الله -تعالى- (ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)3.
3- حسن الخلق:
عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشاً ولا متفحّشاً، وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)4.
وعن عبدالله بن المبارك -رحمه الله- في تفسير حسن الخلق قال: (هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)5.
4- خدمة الناس:
السعي لخدمة الآخرين يؤدي دوراً عظيماً في عملية الدعوة، لأنك بهذا تستأثر بقلوبهم، وتحظى بمودتهم، فالذي يقدم خدمات للناس ينال محبتهم وينال ثقتهم، ولذلك عندما يطلب منهم شيئاً فليس من المعقول أن يردوا له طلباً يستطيعونه بعد أن حاز ثقتهم واحترامهم.
5- القدوة الحسنة:
ومن أعظم ما يكون التأثير في الآخرين وكسب قلوبهم بالقدوة الحسنة، فليس بالكلمات والمواعظ وحدها يتأثر الناس، فماذا تفعل الكلمات والمواعظ إذا لم يجد الناس الداعية مثالاً يحتذى في تطبيق المواعظ على نفسه أولاً، ولم يكن هو نفسه قدوة حسنة للآخرين في جميع تصرفاته وأفعاله، فيراه الناس بذلك ويتأثرون به.6
الدعاة وكسب القلوب إلى الإسلام:
إن الداعية الحق هو من يسعى سعياً حثيثاً نحو استمالة قلوب الناس وكسبها إلى الإسلام ورد الشارد منها إلى ربقته. غير أن المحزن جداً ما نراه من النفرة الكبيرة بين أهل الإسلام عامة، وبين أهل الدعوة خاصة إلا -من رحم ربك- فانتشر كثير من الخلاف المذموم، وبدت العداوة والبغضاء، والنفرة والتفرق والتنازع وغير ذلك من المظاهر غير الإسلامية في واقع الناس. وابتعد كثير من الناس عن حقيقة الدعوة والالتزام بمقتضاها بحجج واهية منها: كثر الخلاف والمنازعات بين أهل الدعوة أنفسهم. ومنها: الإشاعات الباطلة التي يطلقها أعداء الإسلام من الداخل والخارج، فتُشكّك طوائف من المسلمين عن الدعوة وعن الإسلام.
وللإسهام في معالجة هذا الأمر الخطير ننصح بالآتي:
1- التفقه في الدين:
عن معاوية -رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)7.
2- البعد عن كل الأقوال والأعمال التي تؤدي إلى كسر القلوب وغلظتها:
عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)8.(/1)
وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا يدخل الجنة نمّام)9.
والنمام: هو الذي ينقل الكلام بين الناس من أجل الإفساد بينهم.
3- الالتفاف حول القدوات من الناس:
تلك العناصر الطيبة التي من صفاتها ما أخبرنا -عليه الصلاة والسلام-: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر)10.
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، الزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية11.
ثالثاً: وسائل مهمة لكسب القلوب:
1- مخاطبة الناس على قدر عقولهم:
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: حدثوا الناس بما تعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)12.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)13.
2- لا بد من تشجيع السلوك الطيب:
فهذا أمر له تأثير كبير في النفس، وتحفيز للإنسان كي يستزيد من الأعمال الصالحة والسلوك المرغوب فيه.
وكمثال على التشجيع قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: في تشجيع ابن عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)14.
3- الإحسان وإلى الضعفاء خاصة:
عن مصعب بن سعد -رضي الله عنه- قال: رأى سعد -رضي الله عنه-: أن له فضلاً على من دونه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم)15.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... ** ... فطالما استعبد الإنسان، إحسان
وكن على الدهر معواناً لذي أمل ... ** ... يرجو نداك فإن الحر معوان
من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... ** ... إليه والمال للإنسان فتان
من كان للخير مناعاً فليس له ... ** ... عند الحقيقة إخوان وأخدان
إذن فمن رغب في نصر الله- تعالى- إياه, وفي استمالة القلوب وكسبها إلى الله فليكرم الضعفاء وليحسن إليهم.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - تيسير الكريم الرحمن تفسير كلام المنان (5 / 71).
2 - نفس المرجع (1 / 260).
3 - نفس المرجع (2 / 214).
4 - متفق عليه.
5 - رواه الترمذي.
6- الطب النفسي. د. عبدالله الخاطر (ص 30 – 32) بتصرف.
7- متفق عليه.
8- متفق عليه.
9- متفق عليه.
10 - حديث حسن. رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعاً (237) ، انظر السلسلة الصحيحة للألباني (1332).
11 - وسائل الثبات / الشيخ محمد صالح المنجد (ص 24 – 25) بتصرف.
12 - رواه البخاري.
13 - رواه مسلم.
14 - رواه مسلم.
15 - صحيح البخاري – الجهاد – 108 رقم (14 / 179).(/2)
كسوف الشمس بين علماء الشريعة وعلماء الفلك
إعداد/ زكريا حسيني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: انْكَسَفَتِ الشمسُ يومَ ماتَ إبراهيمُ فقال الناس: انْكَسَفَتْ لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَر آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَنْكَسِفَان لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحياتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ».
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، لا َينْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا، وتَصَدَّقُوا» ثم قال: «يَا أُمَّةَ محمدٍ، واللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحمدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثىرًا».
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خَسَفَتِ الشمسُ فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال: «هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ لا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُم شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ».
الحديث الأول؛ حديث المغيرة أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحِه أولها في كتاب الكسوف باب الصلاة في كسوف الشمس رقم (3401) والثاني في باب الدعاء في الخسوف من نفس الكتاب برقم (0601)، وثالثها في كتاب الأدب باب من سَمَّى بأسماء الأنبياء برقم (9916)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الكسوف باب النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة برقم (519)، وعزاهُ في تحفة الأشراف للنسائي في الكبرى (الصلاة 608/3).
والحديث الثاني حديث عائشة أخرجه البخاري أيضا في صحيحه في كتاب الكسوف بأرقام: (4401 ـ 6401 ـ 7401 ـ 0501 ـ 6501 ـ 8501 ـ 4601 ـ 5601 ـ 6601) كما أخرجه في مواضع متعددة منها: (2121 ـ 3023 ـ 4264 ـ 1225 ـ 1366) وأخرجه مسلم برقم (109) في كتاب الكسوف باب صلاة الكسوف، وأخرجه النسائي في كتاب الكسوف برقم (5741).
وأما حديث أبي موسى، وهو الحديث الثالث، فأخرجه البخاري في كتاب الكسوف باب الذكر في الكسوف برقم (9501)، وأخرجه مسلم في كتاب الكسوف أيضا باب النداء بصلاة الكسوف برقم (219)، كما أخرجه النسائي في كتاب الكسوف باب الأمر بالاستغفار في الكسوف برقم (4051).
هذا وقد ورد الكسوف في الصحيحين وفي غيرهما من كتب السنن والمسانيد والمستدركات ودواوين الإسلام عن عدد من الصحابة غير هؤلاء الثلاثة، منهم: أبو بكرة، وأبو مسعود الأنصاري، وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عباس، وأسماء بنت أبي بكر، وجابر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن سمرة والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب، وابن مسعود، وقبيصة الهلالي، وأبي بن كعب وعلي. هذا العدد من الصحابة وردت عنهم صلاة الكسوف، وكيف صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا قال في خطبة الكسوف وكيف علم الناس توحيد الله عز وجل وردهم إلى الله في جميع أمورهم، وكيف يفزعون إلى الصلاة والذكر والتسبيح والتكبير والتهليل، كما وردت أحاديث أخرى في الشمس وأين تذهب في غروبها.
شرح بعض الألفاظ في الأحاديث الثلاثة(/1)
قوله: «انكسفت الشمس» وفي بعض الروايات «كسفت» وفي بعضها الآخر «خسفت»: أما كسفت فمعناه: ذهب ضوؤها واحتجبت، قال في المعجم الوسيط: «احتجاب نور الشمس أو نقصانه بوقوع القمر بينها وبين الأرض. وأما خسفت فمعناه: ذهب نورها أو نقص. قال الحافظ في الفتح: والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب (من أئمة اللغة)، وذكر الجوهري أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه، وغَلَّطَهُ لثبوته بالخاء في القمر في القرآن، وقيل: يقال بهما في كل منهما. أي بالكسوف والخسوف للشمس وكذلك للقمر، قال: وبه جاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف غير مدلول الخسوف من حيث اللغة؛ لأن الكسوف هو التغير إلى سواد، والخسوف هو النقصان أو الذل، فإن قيل في الشمس كسفت أو خسفت لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل في التفريق بين الكسوف والخسوف أن يكون بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء، وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء (أي ما يسمي بالكلي)، وبالخاء لبعضه، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره. اهـ من فتح الباري بتصرف (جـ2/ ح7401).
قوله: «يوم مات إبراهيم» أي تصادف ذلك في اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: وقد ذكر جمهور أهل السِّيَر أنه مات السنة العاشرة من الهجرة، وقيل: مات سنة تسع.
قوله صلى الله عليه وسلم: «آيتان من آيات الله» أي علامتان من الدلائل على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته، أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قول الله تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [الإسراء: 95] وكذا قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى: «يخوف الله بها عباده».
قوله: «لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته»: كان أهل الجاهلية إذا كسفت الشمس أو خسف القمر قالوا: إنما حدث ذلك بسبب موت عظيم من عظماء أهل الأرض، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من آيات الله تعالى ولا تعلق للشمس ولا للقمر بالتأثير في الأرض ولا في أهل الأرض، وإذا كانت الشمس من أكبر الكواكب وهي لا تملك نفعًا ولا ضرًا فما دونها أولى بذلك كما كان أهل الجاهلية يعتقدون نزول المطر بتأثير الكواكب والأنواء. كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بالله كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب». وهنا ينفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث الكسوف أو الخسوف لموت أحد ولو كان ابنه صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ في الفتح: قوله (ولا لحياته): استُشْكِلت هذه الزيادة، لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم، ولم يذكروا الحياة، والجواب: أن ذكر الحياة مع الموت نفي أن يكون كل منهما سببًا في الكسوف، حتى لا يُتوهم أن نفي كونه سببًا للموت لا ينفي كونه سببا للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم.
قوله: «فإذا رأيتموهما» أي إذا رأيتم كسوف كل منهما، ولا يفهم من ذلك وقوع كسوفهما معا في وقت واحد فإن ذلك مُحَالٌ إلا أن يشاء الله. وفيه دليل على مشروعية الصلاة في خسوف القمر.
قوله في الحديث الثاني: «والله ما من أحد أغير من الله»: فيه القسم لتأكيد الخبر وإن كان السامع غير شاكٍ، وقوله: «ما من أحد أغير» «ما» حجازية و«مِنْ» زائدة وأحد اسم «ما» و«أغير» منصوب خبرها، ويجوز في «أغير» الرفع على أن «ما» تميمية فلا تعمل.
وأما غيرة الله تعالى وبلوغها الذروة فذلك ثابت في غير ما حديث، من ذلك حديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفِح عنه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجَبُون من غيرة سعدٍ، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المِدْحَةُ من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة».
[البخاري 6486، 6147 ـ مسلم 9941]
وقوله: «يا أمة محمد»: فيه معنى الإشفاق أولا، ثم فيه مبالغة في التواضع عند الوعظ ليكون أقرب إلى انتفاع من يسمعه.
وقوله: «أن يزني عبده أو تَزني أمته»: قال الحافظ في الفتح: لعل تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزهه سبحانه عن الزوجة والأهل ممن تتعلق بهم الغيرة غالبًا.
وقوله: «لو تعلمون ما أعلم»: أي من عظيم قدرة الله تعالى وانتقامه من أهل الكفر والمعاصي، وقيل معناه: لو دام علمكم كما دام علمي، لأن علمه متواصل بخلاف غيره، وقيل معناه: لو علمتم من سعة رحمة الله تعالى وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك.(/2)
وقوله في الحديث الثالث: «يخوف الله بها عباده» قال الحافظ في الفتح: فيه رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر، وقد رَدَّ عليهم ذلك ابن العربي وغير واحد من أهل العلم بما في حديث أبي موسى حيث قال: «فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة» قالوا (أي العلماء): فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى، فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف. وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف، وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله، وأن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له» وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة وقال: إنها لم تثبت فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. قال ابن بزيزة: هذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة؟ مع أنها مبنية على أن العالم كُرِيُّ الشكل وظاهر الشرع يعطي خلاف ذلك، والثابت من قواعد الشريعة أن الكسوف أثر لإرادة الله الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتراب، قال الله تعالى: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون [القصص: 17027].
ولقد شهد العالم كله الكسوف الكلي الذي حدث في مصر في منطقة السلوم شمالي البلاد، جاء الباحثون والراصدون من كثير من أنحاء العالم، ورأوا تحول النور إلى ظلمة في لحظات، فهل اعتبر أهل العلم وهل ادكر أهل الحسابات الفلكية؟ هل تفكر أحد في قدرة الله تعالى؟ هل ازداد المؤمنون إيمانًا؟ والله عز وجل ذكر علم النبات بعد إنزال المطر من السماء، وعلم الجبال، واختلاف ألوان الناس والدواب والأنعام، ثم عقَّب على ذلك بأن العلماء وحدهم هم الذين يخشون الله تعالى حق الخشية فقال تعالى في سورة فاطر: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور [فاطر: 72-82].
فالأصل أن العلم؛ أي علم من العلوم يؤدي إلى خشية الله تعالى ورد الأمر إليه وحده.
والحديث الذي رده الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا؛ لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا [الأعراف: 341] اهـ. كلام ابن بزيزة.
ثم قال ابن حجر: ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاووس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد يموت وقال: هي أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العبد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: «يخوف الله بها عباده» وليس بشيء؛ لأن لله أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب فله أن يقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرة الله تعالى على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع أمر غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى. اهـ
بين علم الشريعة وعلم الفلك(/3)
ولقد نقلنا ما قاله علماء المسلمين قديما حول هذه القضية، فابن حجر من علماء القرن الثامن وأوائل التاسع الهجري، وقد نقل عن ابن العربي المالكي وهو من علماء القرن السادس الهجري وشيخه الغزالي وهو من علماء القرن الخامس الهجري، والكلام عن كروية الأرض وعن أن قرص القمر يحجب قرص الشمس عند الكسوف، وأن الأرض تحجب قرص الشمس عن القمر فيحدث خسوف القمر، إلى غير ذلك مما يُدعى أنه من العلم الحديث بينما الكلام فيه قديم، كما رأيت أيها الأخ المسلم، لكن كثيرا من المسلمين لمَّا قل علمهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم بهرتهم الدراسات الحديثة حول ظاهرة الكسوف والخسوف، والأمر كما ترى ليس بجديد، ولكن الجديد تأثر أبناء المسلمين بما يقال حول هذه الظواهر حتى رأينا من يصرح بأن هذه الظواهر لم تكن معلومة عند السابقين، فلذلك اتخذوا لها صلاة، فلقد سأل بعض المذيعين بعض الباحثين بعد تفسير ظاهرة الكسوف ـ علميا كما يزعمون ـ سأل قائلا: إذن لماذا عملوا للكسوف صلاة؟ هكذا يفكر أبناء المسلمين في هذا العصر، وهكذا يتساءلون!! ويأتي الجواب على هذا التساؤل بأسوأ مما ورد في السؤال، وهو قول الباحثة: لأنهم كانوا لا يعرفون تفسير هذه الظواهر علميا.
ونحن بدورنا نتساءل: من الذي عمل للكسوف صلاة؟ هل اخترعها قدامى الفقهاء من المسلمين؟ أو أنها جاءت بفكر من بعض المفكرين؟!!
إن الذي سن لنا صلاة الكسوف والخسوف هو الذي سن لنا صلاة الاستسقاء وهو الذي سن لها صلاة العيدين، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه وأخشاهم له وأتقاهم على الإطلاق، فلقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له وأخشاكم له».
والله تبارك وتعالى قال في كتابه: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:82].
ولقد مضى في حديث عائشة الذي معنا كيف صلى بالناس صلاة الكسوف، وكيف خطب، وماذا قال في خطبته، والأحاديث في ذلك كثيرة كما أشرنا تبين كيفية صلاة الكسوف، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الفزع إلى ذكر الله والتسبيح والتهليل والتكبير، والاستغفار، والتصدق، وما بينه بعد ذلك من غيرة الله تعالى أن تنتهك محارمه، وذلك كله بعد ما بين صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر من دلائل قدرة الله وتوحيده وعظمته.
ولكننا رأينا الآن من يصرح في الصحف: أن المصائب التي تصيب المسلمين، والبلايا التي تحل بهم لا علاقة لها بالمعاصي والذنوب، بل من أبناء المسلمين من يصرح بأن الظواهر الطبيعية من كسوف وخسوف وزلازل وأعاصير لا دخل لله فيها، تعالى الله عما يقول الجاهلون والظالمون علوًا كبيرًا.
صلاة الكسوف
يسن للمسلمين صلاة الكسوف ركعتين، وهي مشروعة حضرًا وسفرًا للرجال والنساء والصبيان كالجمعة والعيدين، وإنما لم تجب لحديث الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عليَّ غيرها؟» أي الصلوات الخمس، قال: «لا: إلا أن تطوع».
وقيل في حكمة مشروعيتها: إن الشمس من أكبر نعم الله تعالى على خلقه، وعليها تتوقف حياة الكائنات، وكسوفها يشعر بأنها قابلة للزوال، بل فيه إعلام بأن العالم كله علويه وسفليه في قبضة إله قدير، قادر على إذهابه في لحظة، والصلاة في هذه الحالة إظهار للتذلل والخضوع لله القوي القاهر، وذلك من محاسن دين الإسلام الذي جاء بالتوحيد الخالص ونبذ عبادة الأوثان، ومنها الشمس والقمر وغيرهما من العوالم.
وتُصَلى صلاة الكسوف جماعة أو فرادى، سرّا أو جهرًا، بخطبة أو بلا خطبة، وفعلها في مسجد الجمعة والجماعة أفضل، ولا يشترط لها إذن الإمام، وتشرع بلا أذان ولا إقامة، ويندب أن ينادى لها «الصلاة جامعة» كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وكيفيتها المختارة الراجحة هي الواردة في حديث عائشة: ركعتان، في كل ركعة ركوعان وسجودان، وقبل كل من الركوعين قراءة، ويسن فيها تطويل القراءة والركوع والسجود.
نسأل الله تعالى أن يلهم المسلمين رشدهم وأن يفقههم في دينهم، وأن يعلي شأنهم، وأن يعز الإسلام وأهله، ويرد ضال المسلمين إلى الصراط المستقيم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(/4)
كشف الكربة عند فقد الأحبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر , الواحد الأحد ذي العزة والستر , لا ندّ له فيبارى , ولا شريك له فيدارى , كتب الفناء على أهل هذه الدار , وجعل الجنة عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار , قدر مقادير الخلائق وأقسامها , وبعث أمراضها وأسقامها , وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً , جعل للمحسنين الدرجات , وللمسيئين الدركات.
فحمداً لك اللهم مفرج الهموم ومنفس الكروب ومبدد الأشجان والأحزان والغموم , جعل بعد الشدة فرجاً وبعد الضر والضيق سعة ومخرجاً لم يُخلِ محنة من منحة ولا نقمة من نعمة ولا نكبة ورزية من هبة وعطية , نحمده على حلو القضاء ومرّه , ونعوذ به من سطواته ومكره , ونشكره على ما أنفذ من أمره , وعلى كل حال نحمده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة الصابرين وسلوان المصابين , الكريم الشكور , الرحيم الغفور , المنزه عن أن يظلم أو يجور , الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور , ثم الذين كفروا بربهم يعدلون , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير , يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه أعرف الخلق به , وأقومهم بخشيته , وأنصحهم لأمته وأصبرهم لحكمه وأشكرهم على نعمه , أعلاهم عند الله منزلة وأعظمهم عند الله جاهاً , بعثه للإيمان منادياً , وفي مرضاته ساعياً , وبالمعروف آمراً وعن المنكر ناهياً , بلغ رسالة ربه وصدع بأمره , وتحمل ما لك يتحمله بشر سواه , وقام لله بالصبر حتى بلّغه رضاه , دعانا إلى الجنة وأرشدنا إلى إتباع السنة , وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا صبراً , من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً , وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً أثراً.
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأزواجه وذرياته الأخيار وسلم تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً ما تعاقب الليل والنهار.
{ يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا اتّقوا الله حقَّ تُقاتِهِ ولا تموتُنّ إلا وأَنتُم مسْلِمُونَ }
أما بعد : فإن الله جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان فلا مفر لأحد ولا أمان , كل من عليها فان , ساوى فيه بين الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى والغني والفقير وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و الحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت , والمسلم من استسلم للقضاء والقدر , والمؤمن من تيقن بصبره الثواب على المصيبة والضرر.
أيها الأحبة ، كرب الزمان وفقد الأحبة خطب مؤلم , وحدث موجع , وأمر مهول مزعج , بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان نار تستعر , وحرقة تضطرم تحترق به الكبد ويُفت به العضد إذ هو الريحانة للفؤاد والزينة بين العباد , لكن مع هذا نقول:
فلرب أمر محزن لك في عواقبه الرضا ***** ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
كم مغبوط بنعمة هي داؤه , ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه , كم من خير منشور وشر مستور , ورب محبوب في مكروه , ومكروه في محبوب:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
لا تكره المكروه عند حلوله ****** إن العواقب لم تزل متباينة
كم نعمة لا يستهان بشكرها ***** لله في طي المكاره كامنة
لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور , ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكدر , فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب , وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب , والعجب كل العجب في من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع ؟!
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع ..
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها ........ صفواً من الأقذار والأكدارِ
إنها على ذا وضعت , لا تخلو من بلية , ولا تصفو من محنة ورزية , لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم , والكبير إلا الهرم , والموجود إلا العدم ..
وعلى ذا مضى الناس , اجتماع وفرقة ....... وميت ومولود , وبشر وأحزان
والمرء رهن مصائب ما تنقضي ........ حتى يُوسّد جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في غيره .......... ومعجّل يلقى الردى في نفسه
هل رأيتم .. بل هل سمعتم بإنسانٍ على وجه هذه الأرض لم يصب بمصيبة دقت أو جلت ؟
الجواب معلوم : لا وألف لا , ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس.
كما قال أحد السلف ..
ثمانية لا بد منها على الفتى ........ ولا بد أن تجري عليه الثمانية
سرور وهم , واجتماع وفرقة ......... وعسر ويسر , ثم سقم وعافية(/1)
لهذا كله أحببت أن أجمع هذه الكلماتٍ لطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة , عنونتها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو "كشف الكربة عند فقد الأحبة".
راجياً من الملك الديان أن ينفعني بها وسائر الأخوان , ويجعلها تذكرة لأولي الألباب , وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب , تشرح صدره وتجلب صبره , وتهون خطبه وتخفف أمره ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره , والله تعالى هو المسؤول أن يجعل لي ولها القبول لا رب غيره ولا إله سواه هو المأمول , وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي , وأن لا يحرمني ثواب هذه الكلمات , فالمصاب حقاً من حرم الثواب , نفع الله بها وأثاب , إنه الكريم الوهاب , اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً , وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً .
أولاً : مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
التأمل والتملّي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , ففيهما ما تقر به الأعين , وتسكن به القلوب وتطمئن له تبعاً لذلك الجوارح مما منحه الله , ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل , فلو قارن المكروب ما أخذ منه بما أعطى لا شك سيجد ما أعطي من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجل .. وكل ذلك عنده بحكمة وكل شيء عنده بمقدار
فلنقف أيها الأحبة مع آية في كتاب الله جل وعلا وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا وكفى بها واعظاً وكفى بها مسليةًً وكفى بها كاشفةًً للكروب..
قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
"إنا لله وإنا إليه راجعون" علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة , بل إنه أبلغ علاج وأنفعه للعبد في آجله وعاجله فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل قد جعلها عنده عارية فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير فهل في ذلك ضير؟؟
لا .. والذي رفع السماء بلا عمد , ثم إن ما يؤخذ منك أيها العبد المصاب المبتلى محفوف بعدمين , عدم قبله فلم يكن شيئاً في يوم من الأيام , وعدم بعده فكان ثم لم يكن , فملكك له متعة مستودعة في زمن يسير ثم تعود إلى موجدها ومعيرها الحقيقي سبحانه وبحمده:
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).
فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق , لا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره يوماً ما , ويأتي ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال .. ولكن بالحسنات والسيئات نسأله حسن المآل .. هل علمت هذا أخي المصاب المكروب ؟
إن علمت حقاً فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أياً كان ؟ ثم كيف الأسى على أي مفقود أياً كان ؟
يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍ وغمٍ وكرب ومعها "إنا لله وإنا إليه راجعون" فهي الصلاة والرحمة والهدى ونعم العدلان ونعمت العلاوة , فهِم ذلك السلف حق الفهم رضي الله عنهم فاسمع ..
عبدالله بن مطرف لما مات ولده قال :
"والله لو أن الدنيا وما فيها لي فأخذها الله عز وجل مني ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً , فكيف بالصلاة والرحمة والهدى ؟
إذا مالقيت الله عني راضياً ........ فإن شفاء النفس فيما هنالك
ثم اسمع معي لبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان إن وعيتها كشِف الكرب وكأنه ما كان ... روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها , إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها " قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم عزم الله علي فقلتها .. فما الخلف؟ .. قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله)
صلى الله عليه الله جل جلاله ....... ما لاح نور في البروق اللمّعِ
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همٍ ولا حزن ولا أذىً ولا غم , حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه ).
وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاءً؟ قال:(/2)
( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل , يبتلى الناس على قدر دينهم , فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه , ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه , وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة )
وفي سنن الترمذي :
(ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله , حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة )
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ) يشير إلى قوله تعالى:
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
( أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبيٍ لها فقالت : يا رسول الله ادعُ الله له فلقد دفنت ثلاثةً قبله , فقال صلى الله عليه وسلم : " دفنت ثلاثة ؟ " مستعظماً أمرها ... قالت : نعم .. قال : " لقد احتضرتِ بحضارٍ شديدٍ من النار).
أي لقد احتميتِ بحمىً عظيمٍ من النار فما أعظم الأجر وما أكمل الثواب وما أجدر أن يُستعذب العذاب في طلب هذا الثواب.
وجاء في الحديث الصحيح كما في السلسلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته : "أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم .. فيقول وهو أعلم : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم .. فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع،فيقول الله جل وعلا : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد).
يالها من بشارة بالموت على الإيمان لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد من عبيده لابد لذلك العبد من سكنى هذا البيت في يومٍ من الأيام ... وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه:
( أنه كان رجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتحبه ؟ " فقال : يا رسول الله , أحبك الله كما أحبه .. فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما فعل ابن فلان؟ فقالوا : يا رسول الله مات , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه : " أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك ؟ " فقال رجل : يا رسول الله , أله خاصة أم لكلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " بل لكلكم ).
أيها الأحبة فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم ذلك فهماً عميقاً فتمنوا أن يقدموا أولادهم وأحبتهم ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.
هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول : لأن يولد لي مولود يحسن الله نباته , حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه الله تعالى مني .. أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
وكان للمحدث إبراهيم الحربيّ عليه رحمة الله ابن له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن ولقّنه من الفقه جانباً كبيراً , ثم مات الولد , قال محمد بن خلف : جئت أعزيه فقال :
الحمد لله والله لقد كنت على حبي له أشتهي موته .. قلت له : يا أبا إسحاق , أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبيٍ قد حفظ القرآن ولقنته الحديث والفقه ؟ قال : نعم , أو يخفى عليك أجر تقديمه ؟
ثم قال : وفوق ذلك , فلقد رأيت في منامي وكأن القيامة قامت وكأن صبياناً في أيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم وكان اليوم حاراً شديد حرّه.
قال فقلت لأحدهم : أسقني من هذا الماء .. قال : فنظر إلي وقال : لست أبي .. قال قلت : من أنتم ؟ قال : نحن الصبية الذين متنا واحتسبنا آباؤنا .. ننتظرهم لنستقبلهم فنسقيهم الماء , قال : فلذلك اشتهيت موته والحمد لله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( يقول الله عز وجل : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
ياله من جزاءٍ فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا وأنت حسبنا ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أخي المصاب , أخي المكروب .. هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدمت بين يديك فلعل فيها لك سلوى , ولعلها كشف لكربتك , ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك فاحمد الله وأحسن نيتك واحتسب مصيبتك وارضَ بما قسمه الله لك فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعملٍ .. فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما يبتليك حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت من الله , فاحمد الله , فحمداً لله حمداً , وشكراً لله شكراً ورضاً بقضائه رضاً , ولهجاً بإنا لله وإنا إليه راجعون .. فهي الصلاة والرحمة والهدى ..
يا صاحب الكرب إن الكرب منفرج ...أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً ... بصاحبه.........لا تيأسن فإن الكافي الله
الله يحدث بعد الكرب ميسرة..........لا تجزعن فإن الكاشف الله(/3)
إذا بليت فثق بالله وارضَ به ..........إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله مالك غير الله من أحدٍ........... فحسبك الله , في كلٍ لك الله
ثانياً : ومن وسائل كشف الكربة :-
تذكر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكل مصيبةٍ دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون , فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى القيامة وبموته انقطعت النبوات وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين فهو أول انقطاع عرى الدين أو نقصانه.
وفيه غاية التسلية عن كل مصيبةٍ تصيب العبد أو تحل بأمة الإسلام جمعاء ... وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب , فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسة :
(إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب).
إي والله ! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم , فهل شعرنا بهذا ونحن نستشعر موت النبي صلى الله عليه وسلم ؟
ما ذا لو فقد الرجل أسرته كلها وقد احترق فؤاده وأدمي قلبه وأنبتت دموعه الأسى ثم تزوج بعد فترة ثم رزق بأبناء وعقب سنة مات أحد أبنائه , فكيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول ؟
أليس الخطب أهون ؟ أليست المصيبة أقل ؟ بلى ! فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها يخاطبنا فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجه :
(يا أيها الناس , أيما أحد من الناس –أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزى بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري , فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي).
ولو تأملنا كلمة "فليتعزى" لوجدنا فيها العلاج والدواء إنها حروف يستطب بها الفؤاد وتربّ بها الأكباد , ماذا لو فقد إنسان أبويه في حادث سيارة ؟ أفلا يظل أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر ؟ إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري ومسلم:
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون : لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين .. فأين هذا الإحساس وأين بربكم هذا الشعور ؟
إن فقد النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين وإن أي إنسانٍ فقدته ليهون أمام فقد النبي صلى الله عليه وسلم .. يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد ؟ كلا ما إليه من سبيلُ.
هل فقدت أمك يوماً ما ؟ وهل تذكرت عند موتها وأنت تتألم لموتها أنها بإذن الله أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا ورعتك وربتك.
فهل تنسى في خضم ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الظلالة إلى نور الهدى والتوحيد؟ وهذا بإذن الله إنقاذ لك من الخلود في النار , فهل بحنان أمك وعطفها ورعايتها تنقذ من الخلود في النار ؟ لا والله .. فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمه وعطفها ومتن في يوم واحد ما ينبغي أن يحزن عليهن أكثر من حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقدت ابنك , فإذا فقدت حبيبك , فإذا فقدت صديقك فتألمت وبكيت ثم زاد ألمك وزاد بكاؤك وزادت لوعتك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبره وصلته , فاعلم والذي لا إله إلا هو أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدى ونور تدخلك بعون الله جنات عرضها السموات والأرض لتخلد فيها وتنعم.
نعم , نمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر.
أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه ؟ ونتعزى به عن فراق من سواه ونذكره فنتمسك بسنته , ونمضي على شرعته , لننعم بعدها بصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. ولعل من فقدته في ركبهم وعندها يجمع الله الشتيتين.
أيها المصاب تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم فتهون مصيبتك.
ثم تساءل : ماذا لولا ما حباك الله به من هديه وسنته ؟ ماذا لو دخلت النار أجارك الله ؟ ماذا لو حرمت الجنة أعاذك الله ؟ ماذا لو عُذّبت في القبر حماك الله؟ من الذي ينفعك ؟ ومن الذي ينقذك ؟ الأحباب ؟ الأصحاب ؟ الأبناء ؟ الأحفاد ؟ لا والله .. إلا الإخلاص في إتباع هديه صلى الله عليه وسلم ..
فاصبر لكل مصيبةٍ وتجلّد......... واعلم بأن المرء غير مخلّدِ
واصبر كما صبر الكرام فإنها...... نوبٌ تنوب اليوم , تُكشف في غدِ
أو ما ترى أن المصائب جمة ؟..... وترى المنية للعباد بمرصدِ
من لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ ؟ ... هذا سبيلٌ لست عنه بأوحدِ
فإذا ذكرت مصيبةً ومصابها ....... فاذكر مصابك بالنبي محمدِ(/4)
ثالثاً : من وسائل كشف الكربة :-
أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاءً وتبديداً لجميع الكرب والأدواء:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). كم من عليلٍ قد تخطاه الردى ....... فنجا ومات طبيبه والعوّدُ
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله .. ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المصاب.. هذه إحدى المكروبات المصابات تقول عند مصيبتها بأحد أبنائها :
(الحمد لله على السراء والضراء والعافية والبلاء والله ما أحب تأخير ما عجّل الله , ولا تعجيل ما أخّر الله , وكل ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير).
فما أبرم الله لم ينتقض ...... وما نقض الله لم يبرمِ
ومات ابنٌ لأنس رضي الله عنه فقال أنس عند قبره :
(الحمد لله .. اللهم عبدك وابن عبدك وقد ردّ إليك , فارأف به وارحمه وجافِِ الأرض عن بدنه , وافتح أبواب السماء لروحه , وتقبله بقبول حسن " ثم انصرف , فأكل وشرب وادّهن وأصاب من أهله) و لسان حاله : ( إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وكان أبو ذر رضي الله عنه لا يعيش له ولد , فقيل له:
( إنك امرؤٌ لا يبقى لك ولد .. فقال : الحمد لله كل ذلك في كتاب الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ويدّخرهم في دار البقاء) .. أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه ..
وتموت ابنة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكان راكباً في طريقه لمكة ويأتيه الخبر فنزل عن دابته وصلى ركعتين , ثم رفع رأسه للسماء وقال:
(الحمد لله وإنا لله , عورة سترها الله , ومؤونة كفاها الله , وأجر ساقه الله) ... ثم ركب ومضى في رعاية الله .. والله يفعل ما يشاء , فكِلِ الأمور إلى القضاء ..
ومات لعبدالله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد والأمر كما تعلمون مهول ومزعج وفظيع , فكيف استقبله هذا الرجل ؟ قال: الحمد لله , إني مسلم مُسلّم ...
يمضي الصغير إذا انقضت أيامه ........ إثر الكبير , ويولد المولود
والناس في قسم المنية بينهم .............كالزرع منه قائمٌ وحصيدٌ
وفي سلوة الحزين يُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت:
(يا أبتي , إن في الله عوضاً عن فقدك , وفي رسوله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة .. ثم قالت : ربي لك الحمد , اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد , مخشوشن المهاد , غنياً عما في أيدي العباد , فقيراً إلى ما في يدك يا جواد , وأنت يا ربي خير من نزل بك المرملون , واستغنى بفضلك المقلون , وولج في سعة رحمتك المذنبون , اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك , ومهاده جنتك)
ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة ..
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها ....... صبر الكريم فإن ذلك أسلمُ
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها ...... ثوب السكوت فإن ذلك أسلمُ
لا تشكون إلى العباد فإنما ......... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعدما دفنه فيقول:
(كل ذلك في كتاب , الحمد لله وإنا لله وإنا إليه راجعون , اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه , اللهم فحقق رجائي فيه , وآمن خوفي عليه) ... وحاله :
أبكيه ثم أقول معتذراً له ......... وفِّقت حين تركت ألأم دارِ
جاورت أعدائي وجاور ربه ...... شتان بين جواره وجواري
يا كوكباً ما كان أقصر عمره ....... وكذاك عمر كواكب الأسحار
درّت عليك من الغمام مراضع ....... وتكنفتك من النجوم جواري
فيا أيها المصاب , يا أيها المكروب , المصيبة واقعة فوطّن نفسك على أن كل مصيبة تأتي فهي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره , فسلم الأمر لله , فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ أو يضروك بشيء , لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتِب لك أو عليك .. ولو كان لرجل مثل أحُدٍ ذهباً ينفقه في سبيل الله , لم يقبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره , ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه .. وإن مات على غير هذا أدخل النار والعياذ بالله.
ما قد قُضِي يا نفس فاصطبري له ..... ولكِ الأمان من الذي لم يُقدرِ
ثم اعلمي أن المقدّر كائن ............ حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري
رابعاً : ومما يكشف الكربة :-
الاستعانة بالله والاتكال عليه والرضا بقضائه والتسليم لقدره , روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(/5)
(ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري ؟ قالوا : بلى .. قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فضحك ثم قال : " أتدرون ممّ ضحكت ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم .. قال صلى الله عليه وسلم : " عجبت للمؤمن , إن الله عز وجل لا يقضي قضاء إلا كان خيراً له).
فليعلم المكروب أن حظه من المصيبة ما يحدث له , فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط , من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر , ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله , فقضاء الله نافذ كالسيف وأمره واقع لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه , ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه وسخطه , جعلنا الله من الراضين بقضائه وقدره.
ولنعش أيها الأحبة مع الراضين دقائق غالية قليلة، لنتخذهم أسوة وقدوة ومثلاً من باب:
سيروا كما ساروا لتجنوا ما جنوا ....... وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
قال أبو الحسن المدائني عليه رحمة الله:
دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك في مرضه رحمهم الله جميعاً فقال : يا بني كيف تجدك ؟
قال : تجدني أبتاه في الموت.
قال : يا بني , لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك.
فقال الابن : يا أبتي , والله لأن يكون ما تحبه أحب إلي من أن يكون ما أحبه.
ثم مات عليه رحمة الله.
ويروي الإمام أحمد في الزهد عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر رحمه الله حين دفن عبد الملك ابنه , قد استوى قائماً عند القبر وأحاط به الناس فقال:
والله يا بني , لقد كنت باراً بأبيك , والله ما زلت مسروراً بك مذ وهبك الله لي إلى أن استودعك الله في المنزل الذي صيّرك الله إليه , فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك بأحسن عملك , ورحم كل شافعٍ يشفع لك بخير شاهد أو غائبٍ , رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمر الله والحمد لله رب العالمين , وإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انصرف ورجع إلى مجلسه.
وكان قبل وفاة عبد الملك قد هلك أخوه سهل وهو من أحب أخوته , وهلك مولاه مزاحم وهو عزيز عليه , كل ذلك في أوقات متتابعة , فلما استوى في مجلسه جاء الربيع بن ثبرة عليه رحمة الله فقال:
عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين , ما رأيت أحداً أصيب بأعظم من مصيبتك , ما رأيت مثل ابنك ابناً , ولا مثل أخيك أخاً , ولا مثل مولاك مولىً قط.
فطأطأ رأسه عمر رحمه الله، فقال أحد الحاضرين : لقد هيّجت عليه.
فقال : كيف قلت يا ربيع ؟ أعد.
قال : فأعدت عليه , فقال : لا والذي قضى عليهم الموت , ما أحب أن شيئاً كان من ذلك لم يكن.
فيا أيها الكون منه استمع ........ ويا أذن الدهر عنه افهمي
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له يحيى، فلما نزل بقبره قال له رجل:
والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه.
فقال والده : وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟.
فلله ما أحسن فهمهم , ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم .. وثقتهم بما أعطى الله عز وجل من ثواب للصابرين ... ولا ينُسى إن نُسِي أمر يوم وقع الطاعون بأرض الشام كما في السير للذهبي فخطب الناس عمرو رضي الله عنه فقال:
إن هذا الطاعون رجز ففروا منه بالأودية والشعاب.
فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه فغضب وجاء يجر ثوبه ونعلاه في يده قائلاً : لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمعوا , الطاعون رحمة ربكم ودعوة نبيكم , يستشهد الله به أنفسكم ويزكي أعمالكم.
فبلغ ذلك معاذاً رضي الله عنه وهو يتوق للشهادة فقال :
اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه.
لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد, فتصاب ابنتاه الاثنتان وتموتان فدفنهما بقبرٍ واحد وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن وهو من أعز أبنائه.
فقال معاذا لابنه: كيف تجدك؟
قال : أبتاه , الحق من ربك فلا تكن من الممترين.
فقال معاذ رضي الله عنه : ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ثم توفي رحمه الله ,ثم أصاب الطاعون كف معاذ رضي الله عنه وأرضاه , فجعل يقبلها ويقول:
لهيَ أحب إليّ من حمر النعم , ثم يغشى عليه , فإذا أسري عنه قال:
يارب غم غمك واخنق خنقك فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك.
ثم لقي الله عز وجل بعد أن احتسب أهل بيته جميعاً فماكان إلا الرضا والتسليم بقضائه وقدره.
وقبل ذلك لمعاذ يروى عن المعافى بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن بن غن قال:
دخلنا على معاذ رضي الله عنه وهو قاعد عند رأس ابنه وهو يجود بنفسه فما ملكنا أنفسنا إلا أن ذرفت أعيننا وانتحب بعضنا فزجره معاذ وقال:
صَه, فو الله لأن يعلم الله برضاي بهذا أحب إلي من كل غزاةٍ غزوتها, من كان عليه عزيزاً وبه ضنيناً فصبر على مصيبته واحتسبه أبدل الله الميت داراً خيراً من داره وقراراً خيراً من قراره , وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان.(/6)
قال : فما برحنا حتى قضى الغلام فقام وغسله وحنّطه و كفنه وصلينا عليه ثم نزل في قبره ووضعه وسوّى عليه التراب ثم رجع إلى مجلسه فدعى بدهن فادّهن وبكحل فاكتحل وببردة جميلة فلبسها , وأكثر من التبسم ينوي ما ينوي, ثم قال:
إنا لله وإنا إليه راجعون , في الله خلف من كل هالك , وعزاءٌ من كل مصيبة , ولله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولسان حاله :
كل ما كان من قضاء فيحلو ....... بفؤادي نزوله ويطيبُ
أيها الأحبة , لا زلنا في رياض الراضين بالقضاء , نعيش لنعتبر ونتعظ ونسلو ونرضى.
يقول أبو علي رحمه الله :
صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً إلا يوم مات ولده علي رحمه الله , فقلت : ما هذا ؟ قال : إن الله سبحانه أحب أمراً فأحببت أن أحب ما أحب الله , وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وضحك أحد السلف يوم مات ابنه فقيل:
أتضحك في مثل هذا الحال ؟ قال : نعم , أردت أن أرغم الشيطان , وقضى الله القضاء فأحب أن أرضى بقضائه فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ويشتكي ابن لعبد الله بن عمر رضي الله عنهم فيشتد وجده عليه , حتى قال بعض القوم:
لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث , وشاء الله فمات هذا الغلام فخرج عمر في جنازته , وما أبدى رجل سروراً إلا ابن عمر , فقيل:
ما هذا ؟ قد خشينا عليك يابن عمر, قال: إنما تلك كانت رحمة به , فلما وقع أمر الله رضينا به.
لا تعجبوا ولا تدهشوا , إنه ابن عمر بن الخطاب والفرع للأصل ينسب رضي الله عن الجميع الذي قال يوماً ما : ما من أهلٍ ولا مالٍ ولا ولدٍ إلا وأنا أحب أن أقول عليه إنا لله وإنا إليه راجعون إلا عبدالله بن عمر فإني أرجو أن يطول في عمره.
وذلك لعلمه بمنفعته للناس والأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى.
ويروى أن شريحاً القاضي مات له صبي فجهزه وغسله ودفنه بالليل ولم يشعر به أحد ولما جلس للقضاء من غدٍ جاء الناس على حسب العادة يعودونه ويسألونه عنه فقال:
الحمد لله , الآن فقد الأنين والوجع، ففرح الناس وظنوا أنه قد عوفي من مرضه.
فقال وهو يضحك: احتسبناه في جنب الله , وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ويذكر ابن الجزي عليه رحمة الله في عيون الحكايات قال الأصمعي:
خرجت أنا وصديقٍ لي إلى البادية فظللنا الطريق فإذا نحن بخيمةٍ عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا فإذا عجوز ترد السلام ثم قالت : من أنتم ؟
قلنا : قوم ضللنا الطريق وأنسنا بكم وقوم جياع.
فقالت : ولوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل.
ففعلنا وجلسنا على فراشٍ ألقته لنا وإذا ببعير مقبل عليه راكب وإذا بها تقول:
أسأل الله بركة المقبل , أما البعير فبعير ولدي وأما راكبه فليس بولدي.
وجاء الراكب فقال : السلام عليك يا أم عقيل , أعظم الله أجرك في عقيل.
فقالت : ويحك , أو قد مات عقيل ؟
قال : نعم .. قالت : ما سبب موته ؟ قال : ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر.
فقالت له : انزل .. ودفعت له كبشاً ونحن مندهشون، فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام فجعلنا نتعجب من صبرها فلما فرغنا قالت:
هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً؟
قلنا : نعم .. قالت : فاقرؤوا علي آياتٍ أتعزى بها عن ابني.
فقلت : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * )أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). قالت : ءآلله إنها لفي كتاب الله ؟ قلت : والله إنها لفي كتاب الله.
قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون , صبراً جميلاً وعند الله أحتسب عقيلاً اللهم إني فعلت ما أمرتن بي به فأنجز لي ما وعدتني , ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
قال : فخرجنا ونحن نقول : ما أكمل منها ولا أجزل لما علمت أن الموت لا دافع له و لا محيص عنه , وإن الجزع لا يجدي نفعاً وأن البكاء لا يرد هالكاً , رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم و احتسبت ابنها عند الله عز وجل ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة.
فما أجمل الرضى بقضاء الله في كشف محن المصاب وكرباته , هذه سجايا السلف صبر واحتساب وتجلد وتحمل ورضى واسترجاع وبعد عن التسخط والجزع والتذمر عند المصاب ..
لهم قدرهم باعتبار الرجال ........ وسمعتهم في ذرى الأنجم ِ
أنتم كهم ومن يشابه أباه فما ظلم .
ولنعلم أن البكاء الذي لا صوت معه ولا تسخط لا يعارض الرضا , فأشد الناس حرصاً على رضا مولاهم هم الأنبياء , وأرضى الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه إبراهيم رأفة ورحمة منه للولد ورقة عليه وقلبه ممتلئ بالرضا ولسانه مشتغل بحمد الله وذكره وهذا أكمل هديٍ وأتمه , فإنه صلى الله عليه وسلم حملته الرحمة بالطفل على البكاء , ومحبة الله على الرضا وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم.(/7)
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان، قال عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله ؟
قال عليه الصلاة والسلام: يابن عوف , إنها رحمة , إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم).
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت نفسه تقعقع , ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سعد:ما هذا يا رسول الله؟
قال:هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده , وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
أيها الأحبة , الله يقضي , فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط , فمن استعان بالله وشكره في السراء والضراء ورضي بقدر الله انكشف كربه ورضيت نفسه فهو بحياة طيبة على كل حال , إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له , وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له:
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
خامساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها , فالجازع يزيد مصيبته ويشمت أعداءه ويسوء أصدقاءه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه , أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه , هذا هو الثبات في الأمر نسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات.
يقول بعض الحكماء العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام , ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوّ البهائم، و إنما الصبر عند الصدمة الأولى..:
إذا أنت لم تسلُ اصطباراً و حسبة ....... سلوت على الأيام مثل البهائم
وكل أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره , فإما باختيار وإما باضطرار , فالكريم المؤمن يصبر مختاراً لعلمه بعاقبة الصبر وإنه يحمد عليه ويذم في المقابل على الجزع ويعلم أنه إذا لم يصبر لم يُعد عليه الجزع فائتاً ولم ينتزع منه مكروهاً والمقدور لا حيلة في دفعه وما لم يكتب لا حيلة في تحصيله.
فالجزع ضره أقرب من نفعه فما دام أن آخر الأمر الصبر والعبد معه غير محمود , فما أحسن أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.
إن علم المصاب بما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه كاشف لكربه لو تأمل ذلك.
روي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة والصيام والزكاة والحج فيوفون أجورهم بالموازين , فيؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب الأجر عليه صباً بغير حساب فقرأ قوله تعالى :
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وفي الترمذي مرفوعاً: ( يود أناس لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء).
فسبحان من يرحم ببلائه :
قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظمت .... ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ
هاهي امرأة من السلف قد مات ابنها فجاؤوا يعزونها ويقولون:
يا أمة الله , اتقي الله واصبري.
فقالت : الحمد لله و إنا لله، مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع.
والجزع وإن بلغ غايته فآخر أمر الجازع إلى الصبر اضطراراً وهو غير محمود ولا مثاب , فإنه استسلم للقدر رغم أنفه وهذا ليس من الصبر.
يذكر أن أعرابياً مات له ولد فبكى عليه بكاءً عظيماً وجزع عليه جزعاً شديداً فلما همّ أن يسلو عن هذا مات له ابن آخر فقال :
إن أفق من حزنٍ هاج حزن ......... ففؤادي ما له اليوم سكن
فكما تبلى وجوه في الثرى ...........فكذا يبلى عليهن الحزن
فطوبى للصابرين ثم طوبى ثم طوبى.
سادساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت , وإنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً , فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً , ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره , ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسُن عزاؤه عند نزول البلاء: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
سابعاً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بتفاوت المصائب , فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين فهي هينة سهلة يسيرة , لأن المصيبة في الدين هي أعظم مصيبة , ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت , فإذا حصّلت الأدنى من المصائب فتسلّ بذلك عما هو أعلى وأعظم واحمد الله على ذلك.(/8)
قال السفاريني عليه رحمة الله : المصائب تتفاوت , فأعظمها مصيبة الدين، نعوذ بالله من ذلك فإنها أعظم مصيبة, والمسلوب من سُلِب دينه.
وكل كسرٍ لعل الله جابره ......... وما لكسر قناة الدين جبرانُ
فإذا رأيت إنساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من ارتكاب الذنوب و الخطايا ومن فوات الجمعة والجماعة وأوقات الطاعة وولوغٍ في المحرمات ومن انتهاكٍ للحرمات , وانتهاك لحدود الله وتجاوز لها فاعلم أنه المصاب حقاً , ثم اعلم أخرى أنه ميت لا يحس بألم المصيبة ولا يشعر:
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ). وبعد مصيبة الدين المصيبة في النفس ثم في الأهل ثم في المال , وكلها تتفاوت وتتدرج إلى أن تكون المصيبة في الشوكة وفي قطع شسع النعل، وهذا في غاية الخسة كما تعلمون.
ولذا يقول شريح عليه رحمة الله: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات , أحمده إذ لم يجعلها أعظم مما هي عليه وأحمده إذ رزقني الصبر عليها والاحتساب , وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب , وأحمده أن لم يجعلها في ديني فإن من كل شيءٍ عوضاً إلا الدين).
من كل شيءٍ إذا ضيّعته عوض ......... وما من الدين إن ضيعت من عوضِ
ثامناً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بأن الدنيا فانية زائلة , وكل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول , لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق , إنها ألم يخفيه أمل , وأمل يحققه بإذن الله عمل , وعمل يقطعه الأجل , وعندها يجزى كل امرئٍ بما فعل , إنها الدنيا إن حلت أوحَلت , وكست أوكست , ودنت أودنت , وكم من ملكٍ رفعت له علامات , فلما علا مات.
هي الأيام لا يبقى عزيز ......... وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليك نجم ...... وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً , وإن سرّت يوماً أحزنت شهوراً , وإن متعت كثيراً منعت طويلاً , لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور .
اليوم عندك دلّها وحديثها ....... وغداً لغيرك كفها والمعصمُ
قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). ما أدق التعبير القرآني ! عندما يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم توزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً , لكنها حين تقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل لعبة أطفال.
ثم تأتي الصورة القرآنية لتصور الدنيا كزرع أعجب الزارع نباته ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل ثم يهيج فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد , فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً ويبلغ أجله قريباً ثم يكون حطاماً وينتهي شريط الحياة بمشهد الحطام ويا لها من نهاية.
وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن ؟ يستحق شأنها أن يحسب حسابه وينظر إليه ويستعد له , وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا وهي لا تنتهي إلى حطامٍ كالنبات البالغ أجله , بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) فإنما يستمد قوامه من الغرور الخادع يلهي وينسي وينتهي بأهله إلى غرور خادع , فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على الغرور الخادع ليحقق عقيدته ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها , فما هي إلا حطام أو كظل وسراب.
روى الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن قال : قال صلى الله عليه وسلم:
(مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).
أحلام نوم , أو كظلٍ زائلِ ....... إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ
يقول بعض أهل العلم: (لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه فيما بسط لنا منها , ذلك لم يرضَ الله لنبيه بالدنيا , فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبه له أحب إلي من أكون كما كره له وسخط).
وأجمل بقول ابن القيم من قول يوم قال يشبه الدنيا يقول: (أشبه الأشياء بالدنيا الظل , تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلصٍ وانقباض , تتبعه لتدركه فلا تلحقه , وأشبه الأشياء بالدنيا السراب): (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره , فإذا استيقظ علم ذلك أن لا حقيقة له.
ترجو البقاء بدارٍ لا ثبات لها ......... فهل سمعت بظلٍ غير منتقل ؟(/9)
حياتها رصد وشربها كدر ............ وعيشها نكدٌ وملكها دولُ
من ذا الذي قد نال راحة فكره ؟ ..... في عسره من عمره أو يسره ؟
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى ........ أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قلّه ............. ويظل هذا ناصباً في كثره
سُن البلا ولكل شملٍ فرقة ............ يُرمى بها في يومه أو شهره
والجن مثل الإنس يجري فيهمُ ........ حكم القضاء بحلوّه وبمرّه
أوَ ما ترى الرجل العزيز بجنده ....... رهن الهموم على جلالة قدره ؟
فيسرّه خيرٌ وفي أعقابه............... همٌ تضيق به جوانب صدره
وأخو التجارة لاهث متفكّر .......... مما يلاقي في خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الر .... جل الوحيد كمينة في صدره
ولرب طالب راحة في نومه ......... جاءته أحلام فهامَ بأمره
والطفل من بطن أمه يخرج إلى ....... غصص الفطام تروعه في صغره
ولقد خبرت الطير في أوكارها ....... فوجدت منها ما يُصاد بوكره
والوحش يأتيه الردى في برّه ......... والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميت ............. فاستخرجته من قرارة قبره
تالله لو عاش الفتى في دهره ........... ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معهم بكل لذيذة ............. متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله .......... كلا ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله في أن يفي ......... بمبيتِ أول ليلة في قبره
كيف الفعال أيا أخي في ما ترى ؟ .... صبراً على حلو القضاء ومرّه
صبراً ! فغمسة في الجنة تنسي كل شقاء وهم وبلاء , وغمسة في النار والعياذ بالله تنسي كل لذة ونعيم.
لكل شيء إذا ما تم نقصان ....... فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ..... من سرّه زمن ساءته أزمان
كم من مؤمل أدركه الموت قبل تحقيق أمله , وكم من زرع عاش , ومات زارعه.
لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي رحمه الله وضع رأسه في حجر أخيه ثم أغمي عليه فقطرت دمعة من دموع أخيه على خده فأفاق من غشيته متمثلاً بقول الشاعر:
يؤمل دنيا لتبقى له ............ فمات المؤمل قبل الأمل
وبات يروّي أصول النخيل ..... فعاش النخيل ومات الرجل
ثم قال لأخيه :
أخيّين كنا فرق الله بيننا ...... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهر ؟
ثم لقي الله عز وجل.
هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.
إنما الدنيا هبات ...... وعوارٍ مستردّة
شدة بعد رخاءٍ ........ورخاءٌ بعد شدة
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
تذكر ما في البلاء من لطائف وفوائد , منها على سبيل المثال:
أولاً: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب إلى الله عز وجل , فالتوبة لله تعالى أعظم عزاء له من كل شيء.
يقول بعض السلف : إن العبد ليصاب بالمصيبة فيذكر ذنوبه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب دمعاً من خشية الله فيغفر الله عز وجل له.
ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل وذلك ملاحظ في المصائب , وذلك والله خير من كثيرٍ من طاعات الطائعين فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.
ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة له والدعاء وهذا من أعظم فوائد البلاء، فببعض الأثر : إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه ودعاءه.
رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين ,ويوجب له الإقبال على الخالق الذي لا شريك له، فالمشركون وهم مشركون حكى الله عنهم إخلاص الدعاء عند الشدائد: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فكيف بالمؤمنين ؟
خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رق قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم .
وأخيرا: معرفة قيمة وقدر العافية , فإن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدها , فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها , وبضدها تتميز الأشياء , فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به وانشرح صدره وانفرج همه بإذن ربه.
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :
لطيف التعزية عند فقد الأعزة , فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبت بها بإذن الله , ويغدو صبره عليها سهلاً يسيراً فإن المؤمن كما تعلمون قليل بنفسه كثير بإخوانه ضعيف بنفسه قوي بإخوانه شديد بأعوانه فإذا وجد هذا يعزيه وهذا يسليه سهلت عليه الأمور العظام وكشف ما به بإذن الله رب السماء والأرض.
ولذا فإن الشارع بحكمته البالغة شرع التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف وللميت بالرحمة والمغفرة.(/10)
فعزاء الله الذي نتعزى به دائماً : إنا لله وإنا إليه راجعون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة عزى أصحابه عند نزول المصائب وواساهم , كما في السنة الصحيحة , والسلف الصالح اقتدوا به في ذلك , فلعلنا أن نقف على بعض ما في السنة الصحيحة و أقوال السلف في لطيف التعزية والدعاء بما هو خير، فخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم:
وكل خيرٍ باتباع من سلف ....... وكل شرٍ في ابتداع من خلف
في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
دخل رسول الله صلى الله على أبي سلمة وقد شهق بصره فأغمضه ثم قال:
إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله فقال:
لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير, فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال - واسمعوا إلى العزاء -:
اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين و اغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونوّر له فيه.
فدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم عزاء ومواساة .
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:
(أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام تدعوه وتخبره أن لها صبياً في الموت , فقال: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى , فلتصبر ولتحتسب).
وفي الحديث الحسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة).
وروي عن علي رضي الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب:
(إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور , وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور).
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً فبعث إليه الشافعي يقول له:
(يا أخي عزّ نفسك بما تعزي به غيرك , واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك , واعلم أن أعظم المصائب فقد سرور وحرمان أجر , فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ؟ ألهمك الله عند المصائب صبراً , وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً , ثم أنشد قائلاً:
إني معزيك لا إني على ثقةٍ ........من الحياة ولكن سنة الدينِ
فلا المعزَّى بباقٍ بعد ميته ......... ولا المعزِّي ولو عاشا إلى حينِ
ويشاء الله عز وجل فيموت بعدها ابن للشافعي رحمه الله تعالى , الذي كان يعزِّي أصبح يعزَّى , جاءوا يعزونه فأنشد قائلاً :
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ......... رزية مالٍ أو فراق حبيب
ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يسمع بمثله , فجلس وجاء الناس يعزونه فأمر ألا يحجب منه أحد , فأكثر الناس في التعازي واجتهدوا في البلاغة والفصاحة لكونه الخليفة ثم أجمعوا بعد ذلك أنهم لم يروا تعزية أبلغ ولا أوجز من تعزية ابن شبة رحمه الله يوم قال:
أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً وأعقبك خيراً و لا أجهد بلاءك بنقمة ولا نزع منك نعمة , ثواب الله خير لك منها , ورحمة الله خير لها منك , أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية .
ويقول أحد المعزين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ توفيت أمه , قال له:
إن كانت وفاته عظة لك فأعظم الله أجرك على موتها , وإن لم تكن لك عظة , فأعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال : أيها القاضي , أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة ولم يرد عليك أحد حكماً, فكيف بحكم واحد عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به ؟، فسري عنه وكشف ما به وقال : تعزيت تعزيت.
وعزى موسى بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابن له مات فقال:
أيسرك وهو بلية وفتنة ؟ ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى ؟
يشير إلى قول الله عز وجل: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
ويشير بالثانية إلى قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
فلله ما أعطى ولله ما حوى .......... وليس لأيام الرزية كالصبرِ
فحسبك منهم موحشاً فقد برهم .... وحسبك منهم مسلياً طلب الأجرِ
وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لعمر بن عبد العزيز ورجاء:
إني لأجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة.
فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر فهو أقرب وسيلة إلى الله , وليس الجزع بمحيٍ من مات وبالله العصمة فلا تحبطن أجرك، قال فنظر إلى رجاء.
فقال رجاء: اقضها يا أمير المؤمنين فما بذاك من بأس فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ولم يقل ما يسخط ربه , فأرسل سليمان عينيه بالبكاء حتى ظنوا أن نياط قلبه ستتقطع.
فقال عمر لرجاء معاتباً: هذا ما فعلت بأمير المؤمنين.
فقال: دعه يا عمر يقضي من بكائه وطراً , فلو لم يخرج من صدره ما ترى لخفت عليه.(/11)
ثم دعا بماء وغسل وجهه ثم قال لهما: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي، ثم انتهى إلى مجلسه فدخل عليه رجل فعزاه فقال: عليكم نزل الكتاب وأنتم أعرف به منا , وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا, ولسنا نعلمك شيئاً لا تعلمه ولا نذكرك شيئاً قد تنساه لكن نعزيك ونواسيك ثم أنشد:
وهون ما ألقى من الوجد أنني ...... أجاوره في قبره اليوم أو غداً
قال: أعد فأعاد فقال: يا غلام هات الغداء، فأكل وشرب وحمد الله وسري عنه.
ومن لطيف التعزية ما قيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس وقد توفي له ولد اسمه العباس فعزاه ثم قال:
اصبر نكن بك صابرين فإنما ........ صبر الرعية عند صبر الرأسِ
خير من العباس أجرك بعده ........ والله خير منك للعباسِ
ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة فجزع فجاء أخ له فقال : عظم الله أجرك وأحسن الله عزاءك، ثم أنشد:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى ........ كأنك لا تظن الموت حقاً ؟
ألا يابن الذين مضوا وبادوا .......... أما والله ما ذهبوا لتبقى
فكشف ما به.
ومات لرجل من السلف ولد فعزاه سفيان بن عيينة رحمه الله وهو في كرب شديد وعزاه آخرون فلم يكشف ما به, حتى جاء الفضيل فقال:
يا هذا , أرأيت لو كنت وابنك في سجن فأفرج عن ابنك قبلك أو ما كنت تفرح؟ قال: بلى.
قال : فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك.
قال : فسري عن الرجل وانكشف همه وقال : تعزيت.
وأخيراً فإن من ألطف وقوي ما سمعت من تعزية غير كلام رسول البرية صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة رضوان الله عليهم ما قاله ابن سناء الملك وقد مات لأحد أقاربه ميت فجزع عليه جزعاً شديداً فكان مما قاله ابن سناء: إنا لله, إلى متى هذا الجزع الصبياني و الهلع النسواني؟
إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك بل يميت دينك ويسلب هدوءك ويشمت فيك عدوك , أما على هذا مضى الزمان ؟ وعلى هذا درج الثقلان وللخراب بني العمران وللانتقال سكن السكان وللموت ولد
المولود وللعدم خلق الوجود أتحب أن تبقى ويبقى من تحب ؟ فذا خلود.
إنا لله وإنا إليه راجعون أفضل قول الصابر وفي سبيل الله وإلى رحمة الله من حسب في أهل المقابر , أجزل الله أجرك وأحيا على دفينك صبرك , ووسع لهذه النازلة صدرك , وأنزل على قلبك السكينة ربك , وخفف عن قلبك وطيئة كربك , لا جمع الله عليك فراق الأحباب وفراق الثواب , وجمع الله عليك النعمتين , نعمة الجلد ونعمة الاحتساب.
إني والله لشريكك في المصاب ونصيبي منه لأكثر ودمع عيني لأغزر ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته , ولكنني في ساحة الصبر أجمل.
أخي المصاب , لعل في ما سمعته عزاء لك , فلست أول ولا آخر مصاب , جعل الله التعزية لك لا عنك , والخلف عليك لا منك , في الله عزاء من كل هالك , وخلف من كل فائت , وعوض من كل مصيبة , وشر من المصيبة حرمان الأجر فيها:
لا بد من فقدٍ ومن فاقدِ ........ هيهات ما في الناس من خالدِ
ولا يفوت هنا أن أنبه في هذا لما يلي :
أولاً:- ينبغي تجنب الجلوس عند أهل الميت للتعزية ؛ لأن في ذلك تجديدأً للحزن وتكليفاً للمعزى ومخالفة لهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم , ففي الحديث الصحيح أن جرير بن عبد الله البجلي قال:
كنا نعد الاجتماع لأهل الميت بعد دفنه من النياحة.
فالذي ينبغي أن ينصرف الناس إلى شغلهم وحوائجهم فمن صادفهم عزاهم في المسجد , في العمل , في الشارع , في السوق، وهكذا.
ثانياً:- إن ما يفعل اليوم في التعزية من نصب الخيام للجلوس فيها للقيل والقال وصرف للأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة أمر مخالف للشرع , يقول ابن القيم عليه رحمة الله:
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه الاجتماع للعزاء ولا قراءة القرآن عند قبره، وكل هذه بدعة حادثة.
ثالثاً:- ألا يحدّ على ميتٍ فوق ثلاثة أيام كما يفعل كثير من النساء , إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً , فليعلم كما في الصحيح: عليكم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم الكريم , ومنهاج قرآنه المحكم، رزقنا الله إتباع السنة , ورحم الله موتانا بكرمه ومنه.
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
برد التأسي بأهل المصائب فبذلك إطفاء لنار المصيبة ولنعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت , من أصيب مرة ومنهم من أصيب مراراً وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب سيصاب يوماً بنفسه أسوة بأمثاله ممن تقدمه , فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة ويسرة إلا حسرة.
ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال:
حدثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً , فعلم أنه مرض الموت وأشفق على نفسه فكتب لأمه معزياً في ذكاء قائلاً:
يا أماه , إذا جاءك كتابي فاصنعي طعاماً واجمعي من قدرت من الناس ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة واعلمي هل وجدت لشيءٍ قراراً أني لأرجو أن الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه.(/12)
فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً وجمعت الناس وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة.
فلم يتقدم أحد من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها فقالت: بني , من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حياً وميتا.
فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره، قيل لرجل:
كم لك من الولد ؟ قال: تسعة.
فقيل له: إنما نعرف لك ابناً واحداً، قال: الحمد لله, كان لي عشرة فقدمت تسعة أحتسبهم عند الباري الرحيم وبقي لي واحد , لا أدري أهو لي أم أنا له ؟
لكل اجتماع من خليلين فرقة ....... وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ....... دليل على أن لا يدوم خليل
وهاهي أعرابية اسمها أم غسان كما في عيون الأخبار , فقدت جميع أبنائها وفوق ذاك كف بصرها, مصيبة وأي مصيبة ؟! كانت تعيش بمغزلها وتقول:
الحمد لله على ما قضى , رضيت من الله ما رضي لي , وأستعين الله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء.
ثم تصاب مصيبة أخرى بموت جارة لها كانت تبثها أشجانها وأحزانها, فيقال لها : أين فلانة؟
فتقول: الحمد لله على قضاء الله والرجعة لله:
تقسم جاراتها بيتها ..... وصارت إلى بيتها الأدلجِ
وفي العاقبة للأشبيلي:
يروى أن امرأة من الأعراب حجت ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق ومات فدفنته بمساعدة الركب الذين كانوا معها , ثم وقفت بعد دفنه فقالت:
يا بني , والله لقد غذوتك رضيعاً وفقدتك سريعاً وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذ فيها بعيشك وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك.
ثم قالت : اللهم منك العدل ومن خلقك الجور , اللهم وهبتني قرة عين فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر , فصدّقت وعدك ورضيت قضاءك فلك الحمد في السراء والضراء , اللهم ارحم غربته واستر عورته يوم تكشف العورات وتظهر السوءات , رحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى.
ثم لما أرادت الانصراف قالت : أي بني لقد تزودت لسفري فياليت شعري ما زادك لسفرك ويوم معادك ؟ اللهم إني أسألك الرضا عنه برضاي عنه , استودعك بني من استودعني إياك جنيناً في الأحشاء , ومن يجازي من صبر في السراء والضراء.
من شاء بعدك فليمت ..... فعليك كنت أحاذرُ
كنت السواد لناظري ..... فعمى عليك الناظر
ليت المنازل والديار ....... حفائر ومقابر
إني وغيري لا محالة ....... حيث صرت لصائرُ
وأخرج ابن أبي الدنيا في الاعتبار عن الكندي قال:
كانت امرأة من بني عامر لها تسعة من الأولاد , دخلت بهم يوماً غاراً ثم خرجت لحاجة لها وتركتهم في الغار ولما رجعت سقط الغار عليهم وانطبق فجعلت تسمع أنينهم وتتلظى بجحيم عويلهم , لا تملك لهم حولاً ولا طولاً , تئن وتزفر زفرات قطعت أحشاءها , حتى فقدت أنينهم فلم تسمع لهم أنيناً فعلمت أنهم ماتوا جميعاً تحت الغار، فرجعت وبها من الأسى ما الله به عليم , فكانت تردد وتقول:
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا ....... أفردت منهم كقرن الأعضب الوحدِ
وكل أم وإن سرت بما ولدت ....... يوماً ستفقد من ربت من الولدِ
وأخيراً فقد حدثني من أثق به من الصالحين كما أحسبه والله حسيبه , أنه كان هناك رجل له ثلاثة أولاد صغار وزوجة في هناء وسعادة وأمان وسكينة واطمئنان , وذات يوم جاءهم أضياف فقام الأب وذبح لهم كبشاً والأولاد ينتظرون, ودخل للجلوس مع أضيافه بانتظار الطعام وقامت الأم بتغسيل أصغرهم في وعاء كبير مليء بالماء, فأخذ أكبرهم السكين يقلد أباه في ذبح الشاة وقام على أخيه الأوسط فأضجعه ثم ذبحه ذبح الشياه, وجاء لأمه يخبرها فصاحت ورمت بالصغير في وعاء الماء فغرق الصغير في الوعاء, ثم خرجت للأوسط وهو يتشحط في دمه, وهرب أكبرهم للشارع اعترضته سيارة فدهسته, ذهلت الأم و ثكلت جميع أبنائها , فجاء الأب فإذا بها تترنح وتخبره الخبر ثم تسقط ميتة وجداً على أبنائها الثلاثة, وإنا لله وإنا إليه راجعون: صُبت عليها مصائب لو أنها ......... صُبت على الأيام عُدنَ لياليا
أما الأب فحمد الله واسترجع, ثم دخل إلى أضيافه وطلب منهم أن يحفروا قبوراً , وأخبرهم الخبر فياله من خبر ويالها من ضيافة ! حفروا القبور وصلوا على الجميع ودعوا للميت والحي , واستعد كل منهم أن يقدم ابنته زوجة لهذا الرجل الصابر فاختار ابنة أحدهم فتزوجها , ويذكر من نقل هذا أن له ثلاثة عشر ولداً من هذه الزوجة.(/13)
حدث عظيم، وخطب أليم , فهلا نظرت إلى هذا أيها المصاب ؟ فما مصابك مع مثل هذا المصاب ؟ ستهون عليك مصيبتك بلا شك , واعلم أنه هناك من هو أعظم من مصابك , فإذا علم المصاب علم اليقين أنه لو فتش هذا العالم كله , لم يرَ إلا مبتلى بفوات محبوب أو بحصول مكروب , سري عنه , فسرور الدنيا أحلام إن أضحكت أبكت وإن سرت ساءت , وما حصل لشخص يوماً سرور إلا أعقبه شرور , فلكل فرحة ترحة , وما كان ضحك قط إلا وكان بعده بكاء , فلتعلم ولتتأمل أحوال المكروبين أيها المصاب فما مصيبتك بينهم إلا ذرة في فضاء المصائب , وقطرة في بحار الكروب.
تأسَّ أطال الله عمرك بالأُلى .......... مضوا ولهم ذكر جميل مخلدُ
فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى .. لما مات خير الأنبياء محمدُ
وأخيراً : فإن مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
الدعاء والتضرع , واللجوء لله سبحانه وتعالى رب الأرض والسماء , كاشف الضراء , وإن يصبك بسراء فلا راد للسراء، وفي السنة النبوية الغراء من الأحاديث الصحيحة ما يكشف الهم والكرب والضراء , ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ما أصاب عبداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك اللهم بكل اسم هم لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت في علم الغيب عندك أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي , إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً).
فالدعاء الدعاء فإن الله عز وجل قال:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
يا أيها المكروب خاصة , يا أيها الناس عامة , ادعوا ربكم تضرعاً وخفية , ففيه المطمع وإليه المفزع , لا إله إلا هو من لكم غيره يجبر كسركم ؟
من لكم غيره يبدد أحزانكم ؟
من لكم غيره يؤنسكم في وحشتكم ؟
من لكم إذا دفعتم عن الأبواب إلا بابه ؟
من لكم غيره أعز مطلوب وأشرف مرغوب ؟
لا إله إلا هو ... أيها المصابون عليكم من الله الرحمات عدد ما سكبتم من العبرات وكظمتم من الأنات جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات , وأمنكم من الفزع يوم تنشر السجلات , وتقبل الله منا ومنكم وكتب لنا السعادة في الحياة والممات.
وآخر ما يكشف الكرب :-
اعلم أن الذي قدر عليك الأقدار حكيم خبير لا يفعل شيئاً عبثاً ولا يقدّر شيئاً سدىً بل هو رحيم تنوعت رحمته سبحانه وبحمده , يرحم العبد فيعطيه , ثم يرحمه فيوفقه للشكر , ثم يرحمه فيبتليه , ثم يرحمه فيوفقه للصبر ثم يرحمه فيكفر بالبلاء ذنوبه وآثامه , ثم ينمي حسناته ويرفع درجاته , ثم يرحمه فيخفف من مصيبته وطأتها , ويهون مشقتها ثم يتمم أجرها , فرحمته متقدمة على التدابير السارة والضارة ومتأخرة عنها , ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
أحبتي في الله , هذه الكلمات جمعتها من كتيبات وكتب وصغتها لكم صياغة فقط , بعون من الله وتوفيق منه وتسديد , إن أكن أصبت فذلك الذي أردت , وإن تكن الأخرى فحسبي أن ذلك وسعي وجهدي وحسب معرفتي وقدرتي , عظم الله أجر الجميع وجبر كسرهم وعوضهم خيري الدنيا والآخرة فيما فقدوا وجعل هذه الكلمات في صحائف الحسنات يوم تعز الحسنات خالصة لوجه رب السموات والأرض.
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا الله يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم , يا بديع السموات والأرض , يا فالق الحب والنوى , يا ذا الجلال والإكرام يا عظيم العفو , يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة , نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام , يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين , يا من عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب , وخشعت له الأصوات وفاضت له العبرات , ورغمت له الأنوف , انقطع الرجاء إلا منك , وخابت الظنون إلا فيك , وضعف الاعتماد إلا عليك , نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما أغمنا وأن تجبر كسرنا , وأن تعظم أجرنا وأن تعيذنا من شرور أنفسنا , وأن ترحم موتانا وأن تلطف بمبتلانا , وأن ترحم غربتنا في الدنيا ومصرعنا عند الموت , ووقوفنا بين يديك وأن تقينا من ميتة السوء ومن يوم السوء وساعة السوء ,وليلة السوء وجار السوء وصاحب السوء , وأن تعيذنا من النفاق وسوء الأخلاق.
اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه , اللهم اكشف كروبنا ونفّس همومنا واقضِ حاجاتنا , اللهم هبنا عطاءك ولا تكشف عنا غطاءك , ورضنا بقضائك , اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين , اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً.(/14)
اللهم إنهم عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك , احتاجوا لرحمتك وأنت غني عن عذابهم , اللهم زد في حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم , فأنت أرحم بهم من أمهاتهم , لا إله غيرك , ولا معبود سواك , لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/15)
كفى بالموت واعظا
43
الموت والحشر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
غفلة الناس عن الاتعاظ بالموتى حولهم – الدنيا وسرعة زوالها والتحول عنها – طول الأمل وأثره – الوصية بالإكثار من ذكر الموت وأثر ذلك – وجوب المبادرة بالتوبة والاستعداد للموت
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله فمن لا يتقي الله تشابهت عليه السبل: إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
عباد الله: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب.
إن ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا. فالأجل مستور، والأمل خادع.
تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى مثواها الأخير. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف. ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش.
أيها الإخوة: أهل الغفلة أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة. كيف ترجى الآخرة بغير عمل ؟ أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟؟.
ويل لأهل الغفلة: إن أعطوا لم يشبعوا، وان منعوا لم يقنعوا، يأمرون بما لا يفعلون، ينهون وهم لا ينتهون، هم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون.
يا أهل الغفلة: هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟؟؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟؟ وكم من محتال فيها خدعته؟؟ وكم من مختال أصبح حقيرا؟؟ وذي نخوة أردته ذليلا؟؟ سلطانها دول[1]، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكارة، وأيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا. ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
طويل الأمل: يبني ويهدم، وينقض ويبرم، ويقدر فيخطئ التقدير. يقول ويفعل، ويخطط ويدبر، وتأتي الأمور مخالفة للتدبير. يسيء في الاكتساب ويسوف في المتاب ثم هاهو قد تم أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله وانقطعت عنه المعاذير: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
يا أهل الغفلة أيها المسلمون أيها المسلمات: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))[2] بهذا أوصى نبيكم محمد . كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة – كما يقول القرطبي رحمه الله – تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، ((فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها))[3].
وايمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها ثم تكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68].
لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا))[4]، وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة))[5].((الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت))[6].
يقول الحسن رحمه الله: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحا.
ويقول يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال.
ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيما لا موت فيه. لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئا لهم طول مقامهم.
أيها المسلمون: اذكروا الموت والسكرات، وحشرجة الروح والزفرات، اذكروا هول المطَّلعَ. من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
كفى بالموت للقلوب مقطعا، وللعيون مبكيا، وللذات هادما. وللجماعات مفرقا. وللأماني قاطعا.(/1)
استبدل الأموات بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاءوها حفاة عراة فرادا.
اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم لا يجيبون داعيا، ولا يسمعون مناديا. كانوا أطول أعمارا وأكثر آثارا، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
هل تفكرت يا عبد الله يوم المصرع، يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم. أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لحظات العيون، ويحاسب على إصغاء الأسماع: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهون المصائب.
تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت.
يقول الحسن رحمه الله: اتق الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت.
احذر السكرة والحسرة يفجأك الموت وأنت على غرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.
احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه ولا حجة لك.
أيها الإخوة: أين الخائف من قلة الزاد؟ وأين المتخفف من أثقال الدنيا ؟ أين الوجل من بعد السفر ووحشة الطريق ؟ اكتفى من الدنيا بطِّمريه[7]، ومن طعامه بقرصيه. استعان على دنياه بالعفة والسداد فكفاه في دنياه القليل من الزاد. لقد استحيا من ربه حق الحياء تذكر الموت والبلى فحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى أراد الآخرة فترك زينة الحياة الدنيا. آثر ما يبقى على ما يفنى ذلكم هو كيِّس الأكياس.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحفظوا الله ما إستحفظكم وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقفون، وعلى أعمالكم مجزيون وعلى تفريطكم نادمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
[1] أي متداول لا يبقى على حال، ولا يختص به أحد دون أحد.
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/292)، والترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في ذكر الموت، حديث (2307)، وقال: حديث حسن صحيح غريب. والنسائي: كتاب الجنائز – باب كثرة ذكر الموت، حديث (1824)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4258)، وصححه ابن حبان (2992)، وذكره الضياء في المختارة (1701-1702). وحسّن المنذري إسناده. الترغيب (4/117)، وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني وإسنادهما حسن، (10/308)، وصححه الألباني بشواهده، إرواء الغليل (682).
[3] حسن، وهو زيادة على الحديث السابق، أخرجها ابن حبان (2993)، وحسن الهيثمي إسنادهما، مجمع الزوائد (10/308). والألباني كذلك، إرواء الغليل (682).
[4] حسن، أخرجه أحمد (4/294)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الحزن والبكاء، حديث (4195)، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب (4/120)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1751).
[5] حسن، أخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4259)، والطبراني في الكبير (13536)، والبيهقي في الزهد الكبير (456). وصححه الحاكم (4/540). وقوّاه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/249-250)، وحسن المنذري إسناد الطبراني، وجوّد إسناد ابن ماجه. الترغيب (4/119)، وكذا حسن الهيثمي إسناد الطبراني مجمع الزوائد (10/309). وحسّن الألباني الحديث بطرقه. السلسلة الصحيحة (1384). أما الجملة الأولى منه صحيحة، أخرجها البخاري: كتاب الأدب – باب لم يكن النبي فاحشاً، حديث (6029) وغيره.
[6] ضعيف، أخرجه أحمد (4/124)، والترمذي: كتاب صفة القيامة – باب حدثنا سفيان بن وكيع ... حديث (2459) وقال: حديث حسن. وابن ماجه: كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4260) ن والحاكم (1/57) وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: لا والله، أبو بكر واهٍ، قلت: أبو بكر هو ابن أبي مريم الغساني، ضعّفه أيضاً ابن حجر . التقريب (8031)، ومدار الإسناد عليه، فالحديث ضعيف، وضعفه الألباني، ضعف الجامع (4305)، ضعيف سنن الترمذي (436).
[7] الطِّمر: بالكسر الثوب الخلق البالي.
الخطبة الثانية
الحمد لله غير مقنوط من رحمته، ولا مأيوس من مغفرته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمته، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ومصطفاه من رسله، وخيرته من بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن سار على نهجه واستمسك بسنته وحافظ على شريعته وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:(/2)
أيها المسلمون: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، ((بادروا بالأعمال قبل أن تشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ))[1].
لا تكونوا – رحمكم الله – ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل. وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.
أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.
وليتأمل الزائر حال من مضى من أقرانه، أكثَروا الآمال وجمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أشلاؤهم، وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
اتقوا الله رحمكم الله وارجوا الدار الآخرة فتلك دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يبلى نعيمها، ولا يتغير حسنها وإحسانها وحِسانُها، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين: دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
[1] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء في المبادرة بالعمل، حديث (2306) وقال: حسن غريب، والعقيلي في الضعفاء (4/230) في ترجمة محرز بن هارون، والطبراني في الأوسط (3945) وأبو يعلى (6542) وكلاهما رواه بنحوه. وفيه محرز بن هارون نقل العقيلي – في المصدر السابق – عن البخاري أنه قال: منكر الحديث. وقال المنذري: رواه الترمذي من رواية محرز، ويقال: محرز بالزاي، وهو واهٍ. الترغيب (4/125). وأخرجه أيضا الحاكم (4/321)، وفيه علّة خفية ذكرها الألباني، انظر: السلسلة الضعيفة (1666).(/3)
... ... ...
كفى بالموت واعظا ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- التحذير من الحرض وطول الأمل. 2- نازلة الموت تدهم بلا استئذان ولا إنذار. 3- الموت مصير كل حي. 4- حديث عن حال المؤمن والكافر من حين النزع إلى يوم القيامة. 5- مواعظ السلف عن الموت. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيرَكم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حِذركم، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون، لقد اختلفت آراء الناس وتوجهاتهم، وكثر نقاشهم حول قيمة الحياة الدنيا، حتى اعتبرها كثير منهم غاية لهم، وحكم الإسلام هو فصل الخطاب، فالحياة في نظر الإسلام أهم من أن تنسى، ولكنها في الوقت نفسه أتفه من أن تكون غاية وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].
عباد الله، هنالكم خصلتان ذميمتان، خطيرتان على من لم يحذرهما، تلاحقان الإنسان ملاحقة شديدة، حتى في الأحوال التي تشيب فيها اللحية، وتضعف فيها الهمة، ويدنو فيها من انتهاء العمر، وزيارة القبر، خافهما رسول الله على أمته، وحذرها منهما بأسلوب الإخبار المتضمن للإنذار، ألا وهما الحرص وطول الأمل؛ الحرص على المال، والحرص على العمر، والحرص على الشرف، والحرص المفقر لأهله، مهما ملكوا من أمر وجمعوا من حطام، والأمل المتعب لهم، والسارح بهم في خيالات، يكون الأجل إليهم فيها أقرب من تحقق الأمل، قال : ((يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان، الحرص على المال، والحرص على العمر)) [رواه مسلم والترمذي][1]، وقال ((ماذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدنيه)) [رواه أحمد والترمذي][2].
ومدار هذه الإخبارات مخاطبة ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلعة إلى ما عند الله، أن يبذلوا جهودهم في تحرير عقولهم، وسل نفوسهم من هذه الأدواء الفتاكة، داء الحرص على المال والشرف، الذي يطوق الرقاب ويسترق الألباب، وقديما قيل: [أذل الحرص أعناق الرجال] وداء طول الأمل؛ السراب المبلقع، الذي طالما قطع الطريق على أهله، وحال بينهم وبين ما يشتهون.
أيها المسلمون، ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في ذاكرته، ليلة في بيته، مع أهله وأطفاله، منعما سعيدا، في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، ويضاحك أولاده ويضاحكونه، يلاعبهم ويلاعبونه والليلة التي تليها، وبينما الإنسان يجر ثياب صحته منتفعا بنعمة العافية، فرحا بقوته وشبابه، لا يخطر له الضعف على قلب، ولا الموت على بال، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، وقد سئم ما كان يرغبه في أيام صحته، على بقاء في لبه، وصحة في عقله، يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه، ويتذكر أموالا جمعها، ودورا بناها، وقصورا شيدها، وضياعا جدّ وكدّ في حيازتها، ويتألم لدنيا يفارقها، ويترك ذرية ضعافا يخشى عليهم الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يعجل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يجدي الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. عند ذلك تغير لونه، وغارت عيناه ومال عنقه وأنفه، وذهب حسنه وجماله، وخرس لسانه، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون ما يقاسيه من كرب وشده، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون، فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85]. ثم لا يزال يعالج سكرات الموت، ويشتد به النزع، وقد تتابع نفسه، واختل نبضه وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثة هامدة وجيفة بين أهله وعشيرته، قد استوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، ومات اسمه الذي كانوا يعرفون، كما مات شخصه الذي كانوا به يأنسون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(/1)
أيها المسلمون، إن أكبر واعظ هو الموت، الذي قدره الله على من شاء من مخلوق – مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازل به، وخاضع لسلطانه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]. ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه كيف لا، وقد نعاه إلى نفسه بقوله: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]. فالموت حتم لا محيص عنه، ولا مفر منه، يصل إلينا في بطون الأدوية، وعلى رؤوس الجبال، فوق الهواء، وتحت الماء، فلا ينجو منه ملائكة السماء، ولا ملوك الأرض، ولا أحد من أنس أو جن أو حيوان، ولو كانوا في بطون البروج، وغياهب الحصون أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]. ولو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه، وقوة في بدنه، أو وفرة في ماله، وسعة في سلطانه وملكه، لنجا من الموت كثير من الناس، وإلا فأين عاد وثمود؟ وفرعون ذو الأوتاد؟ أين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ أين الجبابرة والصناديد الأبطال؟ فالموت لا يخشى أحدا، ولا يبقي على أحد، ينتزع الطفل من حضن أمه، ويهجم على الشاب الفتي، والفارس القوي.
أيها الناس، الموت على وضوح شأنه، وظهور آثاره، سر من الأسرار، التي حيرت الألباب، وأذهلت العقول، وتركت الفلاسفة مبهوتين، والأطباء مدهوشين، الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذكر في قوم إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العبرة، وأحسوا بالتفريط وشعروا بالتقصير، فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم، فنسيان الموت ضلال مبين، وبلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه امرؤٌ إلا غوى، ولا يمكن علاج ذلك ولا التخلص منه إلا أن يتذكر الإنسان قول الله وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. وقوله : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت)) [3].(/2)
أيها المسلمون، قال رسول الله : ((إن العبد المؤمن، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان ماهذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي مناد من السماء، أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الحسن يجيء بالخير، فيقول أنا عملك الصالح. فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها، كأنتن جيفة وجدت على الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون، فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله : لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحا، ثم قرأ: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج :31]. فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة)) [رواه الإمام أحمد][4].
أيها المسلمون، إن لنا في السلف الصالح أسوة حسنة، وقدوة طيبة، فقد كانوا يكثرون من ذكر الموت حتى في أوقات الصفاء، وأيام السرور، وكان ذلك يبعثهم إلى الجد في طاعة الله، والبعد عن مساخطه.
لما تولى عمر بن عبد العزيز، وخطب خطبة الخلافة، ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فالتزمه، وقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني. فخرج ولم يقِل، وأمر مناديا له أن ينادي، ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
وقال بعض الناس: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاء شديدا، حتى أغشى عليه، فلما أفاق قال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين.
ودخل المزني عند الإمام الشافعي، في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت عن الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا وعلى ربي ـ سبحانه وتعالى ـ واردا، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها.(/3)
قال بعض الحكماء: مازالت المنون ترمى عن أقواس، حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرؤس، فمن عامل الدنيا خسر، ومن حمل في صف طلبها كسر، وإن خلاص محبها منها عسر، وكل عاشقيها قد قيد وأسر مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:32].
فيا تائها بوادي الهوى، انزل ساعة بوادي الفكر، يخبرك بأن اللذة قصيرة، والعقاب طويل، واعجبا لمن يشتري شهوة ساعة، بالغم والنكد! كانت المعصية ساعة لا كانت، فكم ذلت بعدها النفس! وكم تصاعد لأجلها النفس! وكم جرى لتذكارها دمع! أعاذنا الله جميعا من الغفلة، ومن سواء المنقلب في المال والأهل والولد.
عباد الله، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم ح (1047)، سنن الترمذي ح (2339) وقال: حديث حسن صحيح.
[2] صحيح، مسند أحمد (3/456)، سنن الترمذي ح (2376) وقال: حسن صحيح.
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/213)،والترمذي ح (2307) وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي ح (1824) وابن ماجه ح (4258).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (4/287 ـ 288). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدنيا، دار بلاء وابتلاء، وامتحان واختبار، لذلك قدر الله فيها الموت والحياة، وهي مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت حيها. مزجت أفراحها بأتراح، وحلاوتها بالمرارة، وراحتها بالتعب، فلا يدوم لها حال، ولا يطمئن لها بال.
فليت شعري ،أي امرئ سلم فيها من الشدة والنكبة، أي امرئ لم تمسسه المصيبة والحسرة، من عاش ولم يخل من المصيبة، وقلما ينفك عن عجيبة.
فكم من ملوك وجبابرة فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب، والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبرا بعد عين، وأثرا بعد ذات.
وكل إنسان، سيسلك الطريق الذي سلكوه، وسيدرك الحال الذي أدركوه، ولكنه مأخوذ بغمرة من الدنيا عابرة، ستليها ويلات. مستغرق في سبات عميق، ستكشفه سكرات أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:1-4].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ، على خير البرية، وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
كل شيء بالمجان
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• الوقف الأصل والبداية .
• الوقف في الخدمات التعليمية .
• وقفات عن الوقف من رحلة ابن جبير .
• المكتبات والوقف .
• خدمات مكتبية موقوفة .
• أوقاف على الخدمات الصحية .
• أوقاف تتوالد .
• وقف المارستان الكبير المنصوري .
• أوقاف المساجد الثلاثة .
• شهادات مطمورة .
كل شيء بالمجان
المقدمة
أحب في أول وقفة أن ألفت النظر إلى حقيقة العنوان ، وأنه سيكون حديثنا عنه مطابقاً لمضمونه ودلالته ، وقبل أن أبدأ أشير إلى أن كلمة " مجاناً " من العامي الفصيح ، فهي كلمة صحيحة في اللغة ، معناها - كما قال صاحب اللسان - : " العطية بلا ثمن " ، وحديثنا سيوقفنا على كثير من احتياجات المجتمعات الإنسانية وعلى صورة من صور الحضارة البشرية كانت تقدَّم بلا ثمن ولكل أحد ، عبر قرون متعاقبة في تاريخ أمتنا الإسلامية ، وذلك باختصار شديد من خلال الوقف والأوقاف التي امتدت عبر تاريخ الأمة الإسلامية ، منذ عهد الرسالة المحمدية وحتى تاريخنا المعاصر مع اختلاف وتغير .
هذه الأوقاف كانت تدر أموالاً طائلة وتكون لها منافع تبذل ابتغاء وجه الله جل وعلا، وسخِّرت في مجالات الحياة المختلفة وسطر التاريخ الإسلامي صفحات رائعة لم يسطر تاريخ أمة مثلها قط فيما شملته هذه الأوقاف من كل ما يحتاجه المجتمع، بل حتى خرجت عن الدائرة التي يتصورها كثير من الناس وربما يعدونها من الغريب أو المبالغ فيه رغم أنها حقائق واقعة، ولكن نشرع في الموضوع نبدأ بمقدمة وجيزة عن الوقف ومعناها وبداياته الأولى، لننتقل بعد ذلك في جولات واسعة نرى فيها كيف توفر هذه الصورة كل شيء بالمجان كثير وكثير وكثير من حاجات الناس في مجتمعات المسلمين .
الوقف الأصل والبداية
الأصل في الأموال التداول، والأصل أنها تتبادل بين الناس فهذا يأخذ بضاعة ويأخذ ثمناً، وهذا ينتفع بمنفعة ويبذل في مقابلها مالاً وتدور الأموال ويتداولها الناس بين الأغنياء والفقراء بين التجار والمشترين حتى جاء ما يغير ذلك وهو "منع تداول المال" ، وهذا أصل معنى الوقف ، فهو يوقف التداول ويحبس هذه الأموال بحيث لا تباع ولا تشترى ، وإنما تخصص إن كانت أعياناً لشيء معين ، أو إن كانت تدر غلات أن تكون غلات بمنفعة بعينها ، فهذا أصل معنى الوقف .
وبدءه كان على يد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويشير أهل العلم إلى أن أول وقف في التاريخ الإسلامي هو مسجد قباء الذي بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما وصل إلى المدينة ، وبقي بعد ذلك أرضاً وبناءً ومكان ليس ملكاً لأحد بل هو مخصص للعبادة موقوف عليها ، وهذا بعد ذلك جاء بناء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أول من بدأ الأوقاف التي فيها مستغلات أو فيها إنتاج وريع ، إذ ورد أن مخيريق اليهودي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : ( مخيريق خير يهود ) .
قال مخيريق كتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصيته : " إن مت فهذه أموالي إلى محمد يضعها حيث أراه الله ، وترك سبعة حوائط أي بساتين فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقفاً لمجالات الخير والإنفاق " .
وثبت أيضاً أن الصحابة قد أوقفوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في القصة المشهورة عند نزول قول الله جل وعلا : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } .
وقصة أبي طلحة أنه كان له حائط يسمى بئر حاء ، هو أحب أمواله إليه ، فقال : يا رسول الله حائطي الذي بمكان كذا هو لله - جل وعلا - لو استطعت أن أسره ما أعلنته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اجعله في قرابتك ، أي اجعل نفعه وثماره في قرابتك ، وكان لعمر الفاروق - رضي الله عنه - أرض نخيل بخيبر كانت من عطاء خيبر الذي أفاء الله به على المسلمين ، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستشيره فيما يعمل بها ، لينال الأجر والمثوبة من الله - عز وجل - فقال : " يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط قبل أنفس منه فما تأمرني ؟ قال : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرها " ، فجعلها عمر لا تباع ولا توهب ولا تورث تصدق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب والغزاة في سبيل الله والضيف لا جناح على من وليها - أي كان قائماً عليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متموناً منه وجعل الولاية على وقفه هذا لنفسه هو ؛ فإن توفي فإلى حفصة ؛ فإن توفيت فإلى الأكابر من آل عمر - رضي الله عنهم - أجمعين .(/1)
فهذا توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو شئت حبست أصلها يعني أبقيتها كما هي ولم تنتقل ملكيتها ، وإنما أوقف تداول ملكيتها ثم يكون ريعها وثمرتها في وجوه البر والخير ، وكتب عمر هذا ا لتخصيص الذي أشرنا إليه في الفقراء والمساكين والغزاة والضيفان وغير ذلك مما أشرنا إليه ، وتتابع الصحابة في الوقف على وجوه البر والخير ، وانتشر ذلك بينهم بل إنهم أول من أوقف ما يسمى عند الفقهاء بالوقف الأهلي أو الذرِّي ، أي الذي يوقف ويكون ريعه لذرية الرجل من بعده، وقد صنع ذلك الزبير بن العوام - رضي الله عنه - إذ كان له بعض الدور فأوقفها لا تباع ولا تورث ولا توهب ، وجعلها في منفعة بنيها في سكناها وفي انتفاعهم منها ، بل قال : إن للمطلقة المردودة أن تقيم فيها حتى إذا تزوجت ليس لها فيها حق أما طالماً لم تتزوج ؛ فإنها تبقى فيها ، وهكذا لسنا بصدد السرد التاريخي ، وهكذا توسّعت الأوقاف بدأت منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ، ثم توسّع الأمر ، فكان الوقف بعد ذلك يتسع في الإنفاق بمعنى في مصارفه ، فقد كان أولاً في دور العبادة في المساجد ثم على الفقراء والمساكين ، ثم توسّع بعد ذلك فصار يشمل التعليم بأنواعه ، فصار الوقف على المدارس والمعاهد ، ثم صار على المكتبات والكتب ، ثم توسع أيضاً فأصبح على المستشفيات والمساكن وتوسع أيضاً ليشمل الغزاة في سبيل الله .
وتوسّع في الحقيقة في تاريخ الأمة الإسلامية حتى إنه يصدّق القول فيه في أنه مر في تاريخ الأمة أوقات كل شيء بالمجان لمن أراده ممن يستحقه ، إن أراد تعليماً أو أراد تطبيباً أو سكناً أو أراد ماءً أو أراد شيئاً أو شيء من الأمور التي يحتاجها الناس ؛ فإنه واجد في أوقاف المسلمين من التنوع والشمول ما يغطي هذه الحاجات كلها، وعلى هذا يكون معنى الوقف معلوماً كما عرفه بعض الفقهاء بأنه حبس العين على حُكم مُلك الله - جل وعلا - والتصدق بالمنفعة ، فيكون أصل الوقف ليس له مالك ، بل صارت ملكيته لله - عز وجل - ومنفعته أيضاً كذلك ، أما بدايتنا فنحن سنسيح ونجول هكذا بدون نوع من التقسيم والتبويب ؛ لنرى كيف كان الوقف يغطي جوانب الاحتياج المهم ، وكيف أدّى ذلك إلى نهضة علمية وعملية ، وحضارية واجتماعية واقتصادية في حياة الأمة الإسلامية حتى فاق ما حصل في فترات تاريخنا ما هو أكثر من التصور ، وسنبدأ في غالب الأحوال
بالتعليم .
الوقف في الخدمات التعليمية
والوقف على التعليم كان شاملاً يبدأ من الكتاتيب ، وهي الأماكن التي يعلّم فيها صغار الصبيان القراءة والكتابة، وبلغت الكتاتيب هذه أعداداً هائلة في كل بلاد الإسلام ، وكلها كان ينفق عليها من الأوقاف التي يوقفها الأمراء والعلماء والتجار والوجهاء ، حتى إن ابن حوقل أحد المؤرخين يذكر أنه في صقلية وحدها أكثر من ثلاثمائة كُتَّاب ، كل واحد فيه أعداد كبيرة بل كان ابن حوقل في كتابه عن خريطة الأرض وهو ليس بمسلم ، كان يكتب ما يكشف عن غيظه وهذه المدينة في شيء عجيب وهي كثرة الكتاتيب ، ثم يقول : " كأنهم ليس عندهم هم إلا أن يفتتحوا هذه الكتاتيب ويزيدوا منها " .
ولم يكن في الكتّاب معلم واحد بل كان فيه أكثر من خمسة معلمين ، وذكر أبو القاسم البلخي في بلاد ما وراء النهر أن بعض الكتاتيب كانت تتسع لثلاثة آلاف طالب ، ينفق عليها وعلى المدرسين فيها من أموال الوقف من غير مِنَّة لأحد ومن غير فضل لأحد عليها .
ألواح الطلبة موقوفة
ويثْبِت المؤرخين أن هذه الدائرة توسعت كثيراً حتى إن بعض المؤرخين مثل النعيمي في " الدارس من تاريخ المدارس" ، أن هناك أوقاف خصصت لشراء ألواح للطلبة يأتي هو بدون أي شيء الألواح توفر له من الأوقاف والمعلِّم موفَّر من الأوقاف ، وإن كان الطلاب من الفقراء أيضاً يعطون أموالاً ويعطون طعاماً .
المداد ممدود
بل إن ابن زريق - أحد المماليك - أوقف الأموال خاصة لتجهيز الأقلام والمداد وما يشبه ذلك وما يحتاج من ورق ومحابر ، يعني جميع الاحتياجات التعليمية متوفرة بالمجان ، ليس فقط التعليم بل أدوات التعليم والمدرسين والأماكن والمقرات كلها كانت على هذا النحو ، وفي الحقيقة الناظر في التاريخ سيجد أنه يمكن أن يقف على بلد واحد من بلاد الإسلام في تلك العصور ليتوسع في الحديث عنها عن هذه المناحي حتى لا يكاد أن يستطيع أن يغطّي أو أن يحيط بما في بلدٍ واحد .
مدارس الجامعات
ويلحق بهذه الكتاتيب المستوى الأعلى الذي يعتبر مدارس ، بداية المدارس كانت ملحقة بالمساجد ، بعد أن كانت في داخل المساجد ، ثم أصبحت بعد ذلك مستقلة ويلحق بها المساجد ؛ حتى تؤدى فيها الصلوات والمدرسة هي الأصل ، والمدارس السابقة تسميتها بالمدارس اصطلاحي ، وإلا أنها في حقيقتها كان بعضها في حقيقة الجامعات ، ولم تكن مقصورة على تدريس العلوم الشرعية والعربية ، بل صارت تدرّس علوم الطب والكيمياء والصيدلة وغيرها من المآثر التي سنذكرها.(/2)
وقفات عن الوقف من رحلة ابن جبير
يذكر ابن جبير في رحلته - وله رحلة وصف فيها تجواله في بلاد الشرق والمغرب ، فكان يصف كل ما يراه من المساجد والمستشفيات ويصف معالم الحضارة الإسلامية فيما مر به من البلاد ، ورحلته مفيدة وشهيرة مثل رحلة ابن بطوطة التي يذكرها الناس وهي كتاب موجود حقيقي - ذكر أنه شاهد في بلاد مصر مدارس موقوفة على الأيتام والفقراء وأبناء الفقراء ، ورأى ذلك في القاهرة ودمشق ، وفي بلاد كثيرة من البلاد التي مرّ عليها ، أيضاً كانت توضع لهذه المدارس من الأوقاف أمور مما يحتاجه الطلاب فكانت توقف عليها الحمامات والمياه والمساكن حتى يسكن من يحتاج أو لا يجد السكنى من هؤلاء المحتاجين ، وبدأ هناك في العصر المملوكي تطوّر أكبر حيث كان كل شيء في مثل هذه المدارس خاصة ما وقف على الفقراء والأيتام كل بالمجان ، حتى كان مع هذا التعليم والمجانية في كل شيء كان يصرف لكل طالب مخصص من المال لحاجته ولمعيشته ، العجيب أن تاريخنا العظيم يشتمل على أشياء ننبهر اليوم عندما نرى بعضاً من صورها في بلاد الغرب ، ونقول هذه هي الحضارة وهذه هي كذا ، لكن تاريخنا كان فيما هو أعظم ، وسنذكر شهادات من أهل الغرب ومن المنصفين حول هذا .
أوقاف للمدارس وملحقاتها واحتياجاتها
مما كان في تاريخنا أنهم كانوا مما يوفرون من الأوقاف كل ما تحتاجه المدارس ، حتى إن المدارس كان يلحق بها أطباء متفرغين لعلاج الطلبة إذا احتاج أحدهم أو مرض أحدهم ، وكانت حمامات لمدارس الطلبة وطبعاً يلحق بالمدارس المطاعم والمطابخ التي توفر لهم الطعام ، وتعلّق في ساحة المدرسة ساعة يعرف بها الطلبة الأوقات ، وحدث أن بعض المدارس كان يوضع فيها ويبنى فيها غرفة في وسطها تكشف كل الأماكن ، وكانت هذه غالباً يحضرها الأمير أو الخليفة في بعض الأوقات لينظر إلى هذه المدارس وما فيها من الطلبة والمدرسين ، ويضاف إلى ذلك أن المعلم وأن العالم كانت له منزلة عظيمة ، وكانت تكفى حاجته ليس فقط لأداء مهمة التعليم ، بل لما هو أكثر من ذلك ، كانت هناك رواتب تصرف للمدرسين .
أوقاف على حسب الرتبة العلمية ( المعاصرة ) .
وكان المدرسون على مراتب ، فهناك المعيد وهناك الأستاذ وهناك العميد ، وكل هذه التسميات موجودة بتاريخها في تاريخنا بتواريخها وبأسماء من تولّوا وتقلّدوا هذه المناصب ، حتى إن كبار العلماء من الأئمة كانوا قد درسّوا في مثل هذه المدارس العظيمة في بلاد الشام ومصر على وجه الخصوص ، فالإمام النووي والحافظ ابن كثير والإمام تقي الدين السبكي درسوا في دار الحديث بدمشق ، والغزالي والجويني والتبريزي والفيروزآبادي درسّوا في المدرسة النظامية في بغداد ، كانت هذه المدارس فيها كبار الأئمة والعلماء ، ولم تكن مدارس عادية ، بل كانت كما سيأتي التفصيل بذلك ، كانت مدارس بمثابة الجامعات حتى ذكر المؤرخون بعض ما يصرف للمدرسين في هذه المدارس ، فكان بعضهم ما يصرف له أكثر من ستين ألف درهم في العام ، وكان هذا مبلغاً كافياً يحقق كل الاحتياجات التي يحتاجها هؤلاء العلماء والمعلمون حتى يتفرغوا لهذا التعليم .
بدلات مغرية ولباس خاص
بل أيضاً - كما يذكر ابن جبير - وغيره بل أضيف إلى ذلك مخصصات للانتقال بدل مواصلات بالتعبير الحديث ، بل قد أنفق على الخيل والبغال وخصصت لها أوقاف حتى تكون مواصلات دائمة تنقل هؤلاء من أماكن سكناهم إلى أماكن التدريس ، وأيضاً كان هناك بعض التخصيص الذي ينمي مكانة المدرسين والعلماء ويشعرهم بعظمة مكانتهم وتميزهم حتى إنه كان يصرف لهم كسوة متميزة ، خاصة بالمعلمين تختلف عن الطلاب وكل ذلك بالمجان ، وكان لهم الخلعة لباس العلماء يسمى الخلعة دائماً يلبس ويصرف لهم من ذلك ، وهذا كله داخل في هذه المجانية .
كانت هناك بالمدارس تدخل الأقسام الداخلية التي يتوفر لها جميع ما يحتاجه الطالب من السكن والإعاشة وبدأ يتسع ذلك حتى شمل أكثر البلاد الإسلامية ، ولعلنا نذكر بعض المدارس العظيمة التي تعتبر مدارس بمثابة الجامعات الضخمة التي كانت ينتقل إليها الطلبة بالمئات والآلاف ، ولا يحتاجون عند انتقالها ليس هناك غربة وحشة ولا حاجة بل كل شيء متوفر له ، ولعلنا نشير إلى جهود بعض أهل الفضل الذين اشتهر عملهم في هذا الميدان وعلى رأسهم نور الدين زنكي - رحمه الله - ومن بعده صلاح الدين الأيوبي ، فقد فعلا في بلاد مصر والشام عملاً عظيماً جليلاً لنشر هذه المدارس وإجراء الأوقاف العظيمة عليها وتوفير المدرسين وتوفير الأسباب لها .
الخاصة يتنافسون في الوقف العلمي(/3)
وجاء بعدهم المماليك فتأسوا بسنتهم وتوسعوا في ذلك وتنافسوا فيه ، فشمل ذلك الأمراء ثم زوجاتهم من النساء ، ثم توسع ذلك فشمل الأثرياء والتجار بل إن العلماء أنفسهم كان ما يأتيهم من الأموال يوقفون بعض ما يستطيعون من الدور أو الكتب فيجعلونها أوقافاً لله - جل وعلا - من هذه المدارس المدرسة الصالحة بمصر ، وهي أول مدرسة خصصت لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 641 هـ على غرار مدرسة المستنصرية في بغداد التي تعد أو كانت تعد أعظم مدارس الإسلام سعة وكثرة أوقاف، وأيضاً هناك المدرسة الظاهرية التي أنشأها الظاهر بيبرس القائد المشهور في القاهرة عام 626 هـ وأوقف عليها أموالاً طائلة حتى جعل بناءها من أحسن البناء الذي يفوق بناء القصور وأوقف لها مكتبة ضخمة ، وسيأتي لنا حديث خاص عن المكتبات ، وهناك المعتصمية في بغداد أنشأتها السيدة شمس الضحى حفيدة صلاح الدين الأيوبي ، وكانت أيضاً قد أنشأت مدارس أخرى لكن كانت هذه المدرسة من المدارس الكبيرة ، والمدرسة المنصورية التي أنشأها منصور قلاوون 683 هـ وتخصصت في تدريس الطب بالدرجة الأولى ، وأوقف عليها .
الوقف يصل إلى الفلك
وكذلك أوقف على القبة التي سماها "المنصورية" وكان هذه القبة المنصورية عبارة عن مرصد فلكي تفرغ فيها العلماء بالأوقاف لأجراء البحوث ورصد ظواهر الفلك ومعرفة أحوال هذا الكون ، وصنعوا في ذلك تراثاً علمياً عجيباً، لا يتسع المقام لذكر بعضه فضلاً عن الإحاطة به .
الوقف ومؤسسات تعليمية عريقة
وهناك كما قلنا مدارس كثيرة سنذكر بعضاً منها ما هو مخصص على الحرمين فيما نتحدث فيه عن أوقاف الحرمين، وكما قلت هناك بعض المدارس تميزت حتى أنها كانت من أسس التاريخ فيقولون في التاريخ من درَّس فيها وما حدث لها من الحوادث أو احترق بعض كتبها أو تعين فيها بعض العلماء أو إذا أُدخل فيها شيء، فكانت ذلك دائماً شيء عجيب وعظيم في مثل هذا الأمر .
المكتبات والوقف
ونجد أيضاً الوقف يشتمل من الناحية التعليمية على جانب غير المدارس وهو جانب مهم جداً ، وهو جانب المكتبات ووقف الكتب وتوفيرها للعلماء وطلبة العلم ، ولعل هذا ينظر إليه على أنه أمر سهل يعني عمل ليس عظيماً أو كبيراً ، لكن إذا عرفنا أن مسائل الكتابة لم تكن ميسورة وليست هناك مطابع ولا ذلك الورق ، كما هو في عصرنا هذا بل كان الكتاب ينسخ من أوله الى آخره ، ولذلك سنرى عجباً من شمول الأوقاف من كل ما تحتاجه هذه المكتبات ولعلنا نذكر بعض هذه المكتبات ثم نذكر بعض الخدمات التي أوقفت عليها .
من أشهر المكتبات
1 ـ مكتبة المدرسة النظامية : التي افتتحت في بغداد عام 459 هـ وعين لها خزان للكتب ومشرفون وأوقف عليها نظام الملك لشراء نفائس الكتب من موارد الأوقاف مبالغ طائلة ، ثم وسعها من جاء بعده من الأمراء والخلفاء .
2 ـ خزانة مدرسة الإمام أبو حنيفة : والتي افتتحت في نفس العام التي فتحت فيه مكتبة المدرسة النظامية ، وأوقف عليها كتب كثيرة حتى أنها اشتملت على معظم وجل ما يحتاجه أهل العلم وطلبته من كل أنواع العلوم الشرعية والعربية إضافة إلى العلوم الطبية والعلمية .
3 ـ خزانة المدرسة المستنصرية : يقول عنها أحد المؤرخين أن المستنصر نقل إليها في يوم واحد من الكتب ما حمله مائة وستون حمالاً عدا ما نقل إليها فيما بعد من كتب موقوفة .
خدمات مكتبية موقوفة
بعض المكتبات تضم ستين ألف مجلد أو ستين ألف كتاب في ذلك الوقت من الكتب المنسوخة في اليد ، لم تكن الكتب هكذا عشوائية :
أ ـ موظفين للتصنيف والفهرسة .
ب ـ سكن للقراء المغتربين والذين يريدون السكن قرب المكتبة
لأن البلاد كانت متسعة والكتب ليست منتشرة فربما كانت كتب المشرق ليست عند أهل المغرب ، فإذا أتى المغاربة يجدون سكناً في المكتبة فيقيمون فترات طويلة وهذا كله من الأوقاف، ومن ما يذكر في هذا الصدد أن صاحب معجم الأدباء ياقوت الحموي، يذكر أنه جاء إلى بعض هذه المكتبات وأقام فيها سنوات حتى قرأ ما فيها وانتفع بما كان يحتاج إليه في جمع مادة كتابه الواسع وهو كتاب معجم الأدباء .
ج ـ معامل مصاحبة للمكتبة
مهمتها توفير الورق وتيسير الحبر وتجهيز ذلك للطلبة ، بل كان الطلبة والباحثون لا يحتاجون إلى الجهد والوقت فإذا اختاروا شيئاً أو أرادوا نقلاً فإنه من ضمن الأوقاف .
د ـ نساخ متفرغون
كلما احتاج طالب إلى شيء يريد نقله من كتاب ، فالناسخ ينسخه له ليكون عنده ، وقد وجد في بعض المكتبات مائة وثمانون ناسخاً كلهم متفرغون في خدمة العلماء وطلبة العلم ، ويجري أجرهم من الأوقاف دون أن يكون هناك حاجة إلى أن يكون احتياج أو منة أو شيء من ذلك .
أوقاف لتسلية الطلبة الغرباء
يقول ابن جبير في رحلته يقول أنه عندما ذهب إلى مدينة الإسكندرية يصف ما رأى فيها فيقول :(/4)
" كان فيها المدارس والمحارس الموضوعة لأهل العلم والتعبد الذين يفدون من الأماكن النائية، فيجد كل واحد منهم مسكن يؤوي إليه، ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يعني مبالغ مالية تصرف عليه ، وإجراء يقوم به بجميع أحواله ، واتسع اعتناء العلماء والسلاطين بهؤلاء الغرباء الذين يفدون من الخارج ، حتى أنهم أوقفوا للحمامات التي يستعملونها بما تحتاجه ، وأيضاً أقاموا لهما مارستاً وأوكل به أطباء يتفقدون فيه أحوالهم ، وأيضاً تحت أيديهم خدم يأمرونه بالنظر في مصالحهم إذا أرادوا شيئاً من علاج أو دواء ، ورتب أيضاً أقوامٌ برسم الزيارة للمرضى الغرباء ، مريض من هؤلاء طلبة العلم غريب ، فإذا مرض فليس هناك من يعوده ليس له أهل ولا أقارب فجعل من الأوقاف أموال ينفق على من يتفرغون لزيارة وتفقد هؤلاء المرضى من طلبة العلم الغرباء حتى يدخلوا السرور عليهم " .
وأفاض في ذلك ونشره وبين أن هذا كان منتشراً في كثير من البلاد الإسلامية .
تعالوا كل شيء بالمجان
وأيضاً كما قلنا ابن جبير عندما زار المشرق مما رأى من تلك الأوقاف التي كانت أكثر بكثير من بلاد المغرب قال : " كانت تكثر الأوقاف على طلاب العلم في البلاد المشرقية كلها ، وبخاصة دمشق فمن شاء الفلاح من أبناء مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد فيجد الأمور المعينة على طلب العلم كثيرة وأقلها فراغ البال من أمر المعيشة ، هو متفرغ البال عن المعيشة لا يحتاج أن يسأل لا عن المعيشة ولا عن السكن ولا عن المصاريف ولا عن الخدم ولا عن الكتاب ولا عن الآلات ولا عن الأدوات كل ذلك متوفر بالمجان " .
اختلاط الأوقاف لكثرتها
كما قلنا : وانتشرت الأوقاف حتى إنها بلغت مبلغاً عجيباً .. يذكر لنا المؤرخون في سيرة الإمام النووي - رحمه الله - لما كان في دمشق امتنع عن أكل الطعام من دمشق ، وكان يحرص على أن يأتيه طعامه من بلده فلما سئل عن ذلك قال : " قد كثرت الأوقاف في أرض دمشق ولا أدري ما يأتيني من طعام قد يكون موقوفاً على من خصص له " .
بمعنى أنه انتشر الوقف حتى إن النووي لم يعد يستطيع أن يأكل هكذا من أي شيء يأخذه خوفاً أن يكون من الأوقاف المخصصة لأشخاص بأعيانهم أو غير ذلك ، وذكر النعيمي في الدارس أن في دمشق وحده كان هناك اثنتان وخمسون مدرسة اختصت بتدريس الفقه الحنفي ، وثلاث وستون مدرسة اختصت بتدريس الفقه الشافعي ، وإحدى عشر مدرسة للفقه الحنبلي ، وإضافة إلى مدارس الطب والربط والجوامع التي كانت أيضاً كلها بمهمة التعليم .
وكما قلنا انتشر أمر الوقف على المكتبات ، وكانت تسمى المكتبات في ذلك الوقت دار الكتب أو خزانة الكتب أو دار الحكمة أو دار العلم أو نحو ذلك ، وانتشرت حتى إنها لم تعد مقتصرة على العلوم الشرعية بل كانت هناك أيضاً تشتمل على علوم الطبيعة والكيمياء والطب ، وهذا مكّن المسلمين عندما توفرت للمكتبات خدمات الترجمة ، فقد خصص مترجمون يترجمون الكتب العلمية اليونانية في مجالات مختلفة ويوفرونها للعلماء ، فساعد ذلك على أن نقل المسلمون علم أهل اليونان ثم برعوا وتوسعوا فيه ، فكانوا هم الرواد في علم الجغرافيا والكيمياء والطب على وجه الخصوص ، وكل حضارة الغرب التي بنيت كما سنذكر في إشارات سريعة ، بنيت على نتاج هذا العلم الذي قام به المسلمون في ذلك الوقت ، لم يكن الوقت لقضايا الشريعة بل كان واسعاً لكل هذه العلوم المختلفة ، ونصّت وقفية بعض المكتبات أن من يأتي إليها يحق له الإقامة فيها ويتعلم من مصادرها وينفق عليه من مخصصات الوقف، لذلك كان هناك من يأتي فيقيم ؛ لأن البلاد كانت متباعدة والأسفار كانت طويلة كما أشرنا في ذلك .
مكتبات للتفرغ للبحث
هذا وصف لإحدى المكتبات - حتى نرى ضخامتها وليست مقتصرة على غرفة واحدة - هذه إحدى المكتبات في مصر كانت تحتوي على غرف عديدة للمطالعة وغرف خاصة لإلقاء الدروس ، وقاعة للتدريس المخصوص لمجموعة أو فئة قليلة ، وهناك أيضاً كان ينفق عليها ألف دينار شهري ، وجعلت لها مرتبَات الطلبة وللعلماء وللعاملين ، وخصصت نفقات للعلماء الذين يتفرغون للبحث مهمتهم أن يقرأوا وأن يبحثوا ويجدون من يساعدهم ويعينهم في ذلك ، ولهذا نهضت الحركة العلمية في كثيرٍ من حواضر العالم الإسلامي ، وكما قلنا كانت مكتبة بنو عمار في طرابلس الشرق ، كان فيها مائة وثمانون ناسخاً ، وكان فيها أيضاً المترجمون ، وفيها الكثير من الجوانب المتعددة، حتى أن بعض ما كان في المكتبات كان يعد شيئاً ضخماً ، فقد ذكر المؤرخون أن المدرسة النظامية في بغداد كان فيها ما يعادل مليون ونصف من الفرنكات الذهبية أوقافاً لشراء الكتب والمخطوطات .
مراكز لنسخ الكتب
وفي بعض المكتبات نسخ النسّاخ أكثر من مائة وثمانين نسخة من كتاب تاريخ الطبري ، وهو كتاب تاريخي عظيم، وذلك لتوفير نسخ متعددة في المكتبات .(/5)
والمقدسي يحدثنا أيضاً عن مدينة الريّ في مكتبة أوقفت من قبل أهل الخير يقول : أنها لما نقلت من محل إلى محل حملت إلى أربعمائة جمل .
أوقاف للخدمات المكتبية
وكان قد اعتنى أيضاً الواقفون على اختيار العلماء للوقوف هذه الكتب ، بحيث يصنفونها تصنيفاً علمياً يسهل فيه الوصول إلى الحاجة ، فكتب الفقه وكتب الحديث تصنف على أساس علمي - كما قلن+ا - أن ياقوت الحموي جاء ومَكَثَ ثلاث سنوات يعيش في مكتبات مصر ، وهو يسكن ويأكل وينفق عليه ويجد الأوراق والمحابر ، وكل ذلك بالمجان ، ولم يخرج إلا عندما جاءت جحافل المغول والتتار في ذلك الوقت .
وكما قلنا استفيد من ذلك كثيراً ، والرقم الذي ذكرته لاستنساخ تاريخ الطبري [ ألف ومائتي نسخة ] ، وكان هذا في المكتبة الفاطمية في مصر، وأيضاً - كما قلنا - كان هناك الكثير من الخدمات التي أشرنا إليها ، وكانت هناك تنظيمات تتعلق بذلك ، فكان هناك أمين للمكتبة أو مدير وعادة كان من كبار علماء العصر ، ويكون معه أمناء للترجمة ومديرون للأقسام ومناولون مهمتهم أن تطلب الكتاب فيحضرونه لك، ليس هذا وليد هذا العصر بل كان تاريخنا هو السابق في هذا ، ومترجمون يترجمون كتب اللغات الأخرى للعربية ، والناسخون المتخصصون في جمال الخط ، ومع ذلك جيش من الموظفين للفهرسة ، وخازنون للعناية وخاصة الكتب التي تأتي بخطوط مشاهير العلماء كانوا يعتنون بها ، إضافة إلى أمور الورق والحبر والكتابة ، وكانوا يوقفون على هذا خدماً يوفرون كل ما يحتاج إليه المكتبة وروادها من الحاجات ، وبذلك - كما قلنا - توسّع هذا الأمر ولكن - وللأسف - حدثت نكبات راح منها الكثير من هذا العطاء العلمي .
ولعل أعداء الإسلام كان لهم دور كبير ليس فقط المغول والتتار فقط هم الذين فعلوا ما فعلوا عندما دخلوا بغداد ، ونحن كنا نظن أو نقول أحياناً أن هناك مبالغة فيما ذكر من أن مداد كتب بغداد قد ظهرت وأثرت في لون نهر الفرات ، ولكن المؤرخون يذكرون أن هذه الكتب التي قذف بها التتار على نهر الفرات كانت أيضاً من أسباب تهدم الجسر بين ضفتي النهر ، وبالفعل تغيَّر منها لون النهر من كثرة ما كان فيها من الكتب كما قلنا وأشرنا .
ولكن كانت هناك نكبات أخرى كان للنصارى فيها باعٌ كبير وخاصة الحروب الصليبية التي دخلت إلى بلاد الشام دمر الصليبيون أكثر مكتبات القدس والمعرَّة وطرابلس وعسقلان وغزة وغيرها من المدن .
المتعصبون من المسيحيين أحرقوا في يوم واحد في مدينة غرناطة ما قدره الغربيون من المؤرخون أنفسهم بنحو مليون كتاب ، في مدينة غرناطة في يوم واحد أحرقوا مليون كتاب ، وهذه نبذة كما قلنا في هذا الجانب .
أوقاف على الخدمات الصحية
وابتداءً نقول أن هذه الخدمات الطبية التي كانت بالمجان من الأوقاف لم تقتصر على الإنسان ، بل اشتملت أيضاً على الحيوان ، وكانت هناك أوقاف ومستشفيات خاصة بالحيوانات ، وخاصة بالبغال والخيول التي كانت تستخدم في الجهاد وهذا من مآثر حضارتنا الإسلامية ، ولم تكن المستشفيات هكذا أمراً عارضاً بل كانت مستشفيات فيها أقسام بعضها للرمد ، وبعضها للجراحة وبعضها – أيضاً - للأمراض العقلية ، وأخرى للجذام وأخرى للعجزة ، ولم تكن هذا بدون إدارة بل كان فيها رئيس أو مدير للأطباء ، وكان فيها ما يسمى بالجولات الطبية يدور فيها الأساتذة مع طلابهم على المرضى حتى يعلمون ويجيبوا على استفساراتهم الطبية ، وكان هناك اختبار يختبر فيها طالب الطب وبعد الاختبار يجاز ويحق له مزاولة المهنة ، هذا كله كان تعليماً بالمجان لهذه المهنة التي هي عندنا من أصعب وأشق الأمور أن تتاح للإنسان ليدرس الطب .
مستشفيات مجهّزة ومراكز لتعليم الطب
يقول ابن جبير عن المدارس الطبية " أنها كانت منتشرة في مصر في زمانه، وكانت تلحق بها مستشفيات تعليمية وكان الطلبة يتمرنون على الحالات السريرية ، حتى إن بعضاً سأذكر بعض ما ذكره المقريزي في الخطط ؛ لنرى صور عجيبة لبعض بناء هذه المستشفيات تاريخياً ، وذكر أن أول من بنى مستشفى متكامل وثابت هو الوليد بن عبد الملك الأموي ، وعين له الأطباء وأنفق عليه، وكان الإنفاق إما من الأوقاف وإما من بيت مال المسلمين، وبعض المدارس الكبيرة التي ذكرناها كالمستنصرية وغيرها بدأت وبعد ذلك أنشأت لها ملاحق بتدريس الطب ، وكانت بمثابة كلية جديدة يعني المدرسة فيها الفقه وفيها المذاهب الأربعة وفيها تنشئ أماكن لتدريس الطب .
ولم يقتصر الأمر على الطب ، بل كان فرصة لتدريس الكيمياء وعلم الصيدلة على وجه الخصوص ، ومن هنا نبغ المسلمون في هذا الجانب ، وألّفوا كتباً كانت هي الكتب الأساسية التي استفاد منها علماء الغرب في بدايات هذه النهضة الحضارية ، لم يقتصر الأمر على - كما قلنا - على الخلفاء بل اشتمل على حتى الأطباء أنفسهم أسسوا بعض المستشفيات وأوقفوها ودرسوا فيها طلبتهم ، مثل ما اشتهر عن سنان بن ثابت والرازي وشهيد العلماء .
طبيب يوزن بالذهب(/6)
وهذا شهيد العلماء الطبيب الذي استطاع أن يشفي بإذن الله ابنة أحد الأمراء فمنحه وزنه ذهباً مقابل ذلك، فماذا صنع ؟ ما كان من الطبيب إلا أن تبرع بهذا الذهب فأوقفه في سبيل إنشاء مستشفى للتعليم والتطبيب وجعله وقفاً في سبيل الله عز وجل .
ابن سينا الثاني
وابن النفيس أحد أشهر علماء الطب في تاريخ الإنسانية الذي اكتشف الدورة الدموية ، وصاحب الكثير من السبق العلمي التاريخي في مجال الطب ، هذا لقب بـ " ابن سينا الثاني " كان يعمل بالمستشفى المنصوري ، ثم بنى داراً مجاورة وأوقفها على المستشفى ، وكان يدرّس فيها الطلبة ولم يكن متزوجاً وإنما تفرغ فيها للعلم ، فلذلك كل ما أوقف عنده من الكتب والمباني لطلاب الطب الذين يقومون بتطبيب الناس .
مدينة طبية
وابن جبير يحدثنا عن مدينة طبية كاملة ، وهذا من عجيب ما قد نسمعه ، ويذكر ابن جبير أنه وجد حياً كاملاً في أحياء بغداد كالمدينة الصغيرة يسمى [ سوق المارستان ] ، والمارستان يعني المستشفى أو [ البارمستان ] ،كان تطلق هذه الكلمة على المستشفى، يتوسطه قصر فخم وجميل وكبير وتحيط به الثياب والرياض والمقاصير والبيوت المتعددة وجميع المرافق الملوكية وكلها أوقاف أوقفت على علاج المرضى، وكانت تؤمه المرضى وطلبة الطب والأطباء والصيادلة، والذين يقومون على تقديم الخدمات والنفقات جارية عليهم من الأموال الموقوفة من أطراف بغداد، فهذه ليست بمستشفى وإنما مستشفى وسكن للأطباء وللطلبة ومعامل وأماكن للبحث ومكتبات تابعة .. كل ذلك في مكان واحد وقد ازدهر هذا الأمر وشاع ولم يكن هذا أمراً نادراً .
أوقاف تتوالد
كما يذكر المؤرخين أن مدينة قرطبة وحدها، كان فيها خمسين مستشفى أوقفها وأنفق عليها خلفاء وعلماء وتجار وأطباء من مختلف الأموال الوقفية ، بل أيضاً تجاوز ذلك الأمر حتى كان كل من دخل إلى بعض هذه المستشفيات وعولج وشفي يضيف إلى المستشفى شيئاً يجعله وقفاً يلحق بها، فكانت هذه المستشفيات تتسع وتزداد أقسامها .
مرافق للنظافة
وأيضاً اعتنى الواقفون بالصحة العامة في صورة حضارية فريدة، يذكر بعض المؤرخون أن هذه المستشفيات ألحق بها مرافق للنظافة وحمامات .
تعليمات صحية
وأيضاً جعلت شروط للعاملين في المستشفيات استمعوا إلى هذه الشروط كم كان سبقنا في تاريخنا إلى كثير من الأمور، شروط ملزمة للعاملين في الخدمات الصحية بإتباع التعليمات الصحية :
1 ـ لا يسمح لعاجني الخبز أن يعجنوا بمرافقهم أو بأيديهم مباشرة حتى لا يقطر العرق ويختلط بالعجين فلا يعجن إلا وهو يلبس الأكمام يعني القفازات .
2 ـ أن يكونوا أيضاً ملثمين عند تحضير الطعام، ويقول النص خوفاً من أن يعطسوا أو يكون عند كلامهم ينزل شيء من أفواههم أو أنفهم يختلط بالطعام .
3 ـ ويكون عندهم طرادون للذباب حتى تستوفي الشروط الصحية الكاملة لما يحتاج إليه من رعاية المرضى وتوفير النظافة وغير ذلك وكل هذا كما قلنا بالمجان .
مراكز للعناية بالأطفال
والوقف كما قلنا بعض النساء أنشأنا مستشفيات وأوقفنا علينا كزوجة السلطان سليمان القانوني من خلفاء العثمانيين ، وأوقفوا الكثير على التعليم الطبي بالذات ، بل إن هناك كانت مستشفيات خاصة للأطفال ، وهناك ما قد يخصص ضمن المستشفيات أو ربما تخصص وقفية كاملة للأطفال لتغطية حاجاتهم والمريات اللاتي يربينهم وأيضاً كما فعل بعضهم دور خاصة للقطاء ترتب لهم كل شيء مع الناحية الصحية ، حتى أنه يوفر من ضمن الأوقاف نساء مرضعات لأولئك الأطفال فكان كل شيء يحتاجه المجتمع متوفر ويكون متوفر بالمجان من خلال هذه الأوقاف .
تفرغ على طول المدة
وأيضاً خصصت الأوقاف على تأليف كتب الطب والتفرغ للبحث ، حتى كتب كثير من العلماء كتباً كان ينفق عليهم فيها طول مدة تفرغهم بكتابتها ككتاب البيمارستانات لزاهد العلماء الفارقي عميد أحد المستشفيات في القرن الخامس الهجري ، وكتاب مقالة الأميرية في الأدوية البيمارستانية التي كانت تشمل هذا .
وهناك بعض الوقفيات أيضاً تعطينا أن الوقف كان يشمل كلما يحتاج إليه من الأمور التي قد تكون في هذه الناحية .
وقف المارستان الكبير المنصوري(/7)
وننظر إلى وصف في الحقيقة ذكره المقريزي عن المارستان الكبير المنصوري في القاهرة ، يقول في وصفه أنه جعل عليه ألف ألف درهم في كل سنة - يعني مليون درهم في كل سنة - ورتب مصارف المارستان والقبة والمدرسة ومكتب الأيتام ثم استدعى قدحاً من شراب المارستان الذي أوقفه وشربه وقال : " قد أوقفت هذا على مثله فمن دونه وجعلته وقفاً على الملك والمملوك والأمير والجندي والكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى، ورتَّب فيه العقاقير والأطباء وسائر ما يُحتاج إليه لمن به مرض من الأمراض ، وجعل فيه السلطان فراشون من الرجال والنساء لخدمة المرضى وقرر لهم معاليم يعني معلوم يصرف لهم ، ونصب الأسرة للمرضى ، وفرشها بجميع الفرش المحتاج إليها في المرض ، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعاً ، فجعل أواوين - أجنحة - المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها وأفرد قاعة للرمدى ، وقاعة للجرحى ، وقاعة لمن به إسهال ، وقاعة للنساء ، ومكان للمبرودين - لمن يصيبه البرد - ينقسم قسمان للرجال والنساء ، وجعل الماء يجري إلى هذه الأماكن ، وأفرد مكاناً لطبخ الطعام والأدوية والأشربة ، ومكانٌ لتركيب المعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، ومكان يخزن فيه الحواصل ، ومكان يوزّع فيه الأدوية والأشربة ( الصيدلية ) ومكان يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء درس الطب ( قاعة المحاضرات ) .. ولم يحصي عدة المرضى بل جعله سبيل لكل من يرد عليهم من غني وفقير، ولا حدد مدة الإقامة للمريض بل يرتب منه لمن هو مريض في داره سائر ما يحتاج إليه .
وقف لرفع الروح المعنوية للمريض
ووصف وصفاً عجيباً بعد ذلك ، حتى إن من الأوصاف شيء طريف جداً .. أن المريض الغريب هؤلاء الذين يزورونهم في بعض المستشفيات قرر أن يؤتى اثنان للمريض حتى ولو لم يكن غريباً مخصصين فقط ليتهامسا بكلام بينهما كأنهما لا يريدان المريض أن يسمعه ، فيسأله الأول كيف حاله اليوم فيقول الآخر بصوت خفيض أظنه أفضل ألا ترى الحمرة في وجهه ! ألا ترى النضارة في وجهه ! ألا ترى كذا ، ثم ينصرفان حتى ترتفع معنوية المريض وهؤلاء مخصصون من الأوقاف وهذا من عجائب ما قلت في مآثر تاريخنا .
أيضاً لم تشتمل الأوقاف على التعليم ولا على الصحة بل اشتملت على صور كثيرة، الأوقاف على المساجين .. فالمساجين لم يحرموا من الأوقاف ، بل قد خصصت بعض الأوقاف من أجل الإنفاق على تعليمهم والصرف عليهم وعلى عوائلهم ، وكان هناك بعض الأوقاف خصصت على فقهاء من العلماء بشرط أن يؤموا المساجين وأن يصلوا بهم أئمة في أوقات الصلاة ، وأن يدرسوا ويفقهوا المساجين ، وأيضاً خصصت من الأوقاف من يعلمهم بعض الحرف والمهن والصناعات ، حتى يخرجوا إلى المجتمع ويكون ذلك له أثره في تهذيبهم وإصلاحهم وتغيير مسار حياتهم، وهذا كما يقول السجن تهذيب وإصلاح، وكل ما يقال اليوم في هذا الشأن كان في تاريخنا واضحاً .
أوقاف للرفق بالحيوان
بل قد اتسعت الأوقاف خاصة في بلاد الشام ومصر، حتى شملت شيئاً عجيباً يذكر المؤرخون أن هناك كانت أوقافاً مخصصة لتمريض القطط والكلاب والحيوانات المريضة حتى التي لا يستفاد من هذه الحيوانات، لماذا لأن الإسلام دين الرحمة ودين الرفق بالحيوان ولكن لم تكن هذه الأوقاف موجودة وما زال الناس في حاجة بعد أن فاضت حاجة الناس والبشر عن هذه الأوقاف، حتى إن تلك المدارس خاصة في الطب والصيدلة كان يدرس فيها بعض الذميين من غير المسلمين وخاصة في بعض البلاد كبلاد الأندلس وانتشر العلم ، وسنذكر بعض الشهادات التي حملها أو ذكرها أولئك في فضل المسلمين في تعليمهم وإتاحة الفرص لهم .
أين المديونين ؟ أين العزاب ؟
وكانت هناك أيضاً أوقاف لتزويج الشبان العاجزين عن نفقات الزواج، ونحن نعلم أيضاً أنه ليست فقط الأوقاف التي توفر الأمور المجانية بل حتى الزكوات والهبات كلها كانت كذلك، في عهد عمر بن عبد العزيز نعرف أن المؤرخين ذكروا أنه قد خصص من أموال الزكاة بعد أن فاضت عن الحاجة أموالاً لسداد الدين وخصصت أموال لتزويج العزاب .
وخصصت أموال لتوفير القائد للأعمى وضعيف البصر، وكل ذلك كان من سعة المال وفيضه من خلال تشريعات الإسلام، ومن الأوقاف استئجار الرجال ليقودوا العميان ، والوقف الذي قد ذكرته لكم أيضاً أوقاف كانت خاصة بالذين يدخلون السرور على المرضى والمهمومين بهذه الطريقة التي أشرت إليها كما ذكر ذلك المؤرخون .
أوقاف لحليب الأطفال
بل قد ذكر بعض الفقهاء في ثنايا كلامهم وأحكامهم ، ما يشير إلى بعض الأوقاف العجيبة ، حيث كانت هناك أوقاف لتوفير الحليب للأطفال الفقراء حيث يوفر لهم الحليب مجاناً لكل عائلة قد تحتاج إلى ذلك .
بل هناك أوقاف لشعب الأواني المتصدعة بمعنى أن الأواني المتصدعة تصلح وترمم فهناك أوقاف لذلك، كثرت الأوقاف حتى شملت تقريباً كلما يتصوره الإنسان بل ربما ما لا يتصوره الإنسان .
أوقاف المساجد الثلاثة(/8)
ووقفة أيضا قبل أن ننتقل تخصيص الأوقاف ببعض الأمور المهمة والعظيمة عند المسملين كالأوقاف على الحرمين وعلى بيت المقدس وقد كانت الأوقاف المرصودة للحرمين وبيت المقدس ليست محصورة مكانياً بهذه المدن الثلاث بل كانت في جميع بلاد الإسلام أراضي ودور وعقارات كان ريعها مخصص للحرمين، وقبل ذلك من الأوقاف خدمة المسافرين وكانت على الطرقات أموال موقوفة على الخانات التي ينزل فيها المسافرون، ليرتاحوا من عناء التعب يأكلون ويشربون ثم يواصلون فيها مسيرهم وكل ذلك أيضاً بالمجان إستراحات على الطرق، أوقاف الحرمين كانت عظيمة جداً واهتم بها العلماء والأمراء .
ولعلنا نذكر بعضها من باب التأكيد على ذلك، خاصة في القرن الثامن وبعده ذكر المؤرخون كثيراً من الذين أوقفوا على الحرمين مثل إسماعيل بن محمد الصالحي صاحب مصر والحجاز وغيره من بلاد الشام، أوقف قرية كاملة من ديار مصر على كسوة الكعبة كل سنة، واشترى ثلثي منها من وكيل بيت المال وأوقفها على كسوة الكعبة وثلث للحجرة والمنبر، والسلطان ناصر قلاوون أيضاً خصص جزء من ريع أوقافه على مصالح الحرم وأهله، بمعنى أن المغتربين يأتون من كثير من ديار الإسلام خاصة في الحج، وكانت وسائل الانتقال والسفر صعبة وشاقة ، فكان الناس يحتاجون إلى الإقامة في مكة قبله وبعده شهوراً هذا ، إضافة إلى حرص الكثير إلى التعبد والمجاورة سنوات حتى يغتنموا أجر الصلوات والمثوبة، وكانوا يحبون المجاورة وطلب العلم، فكل أولئك كانوا يريدون السكنى والنفقة والأموال بالمجان لما كان على الحرمين من الأوقاف الكثيرة والأربطة .
ولا تزال حتى الآن أربطة ومساكن من أهل البلاد، رباط بخارى لأهل بخارى ، ورباط سمرقند لأهل سمرقند إذا جاءوا من أهل هذه البلد يسكنون في هذه البيوت، ولا أود أن أطيل فقد أحصى الكثير من المؤرخين أعداداً كبيرة ، وذكروا فيها كثيراً مما ذكرت في الوصف من حيث توفير الخدمات لهذه الأماكن، وحتى أيضاً المستشفيات ، وأيضاً أربطة خاصة لطلبة العلم وأربطة خاصة لأهل البلاد المعينة كرباط المغاربة ورباط الحضارمة وأيضاً أوقاف كثيرة خصصت لذلك ، تشمل الكثير من المصالح حتى شملت الآبار والمياه وتوفير المياه الذي كان من أعظم أبواب البر في سقاية الحجاج، فقد فتحت أو حفرت أو أسست آبار كثيرة وفتحت أعين كثيرة من أموال الأوقاف ، حتى توفر ذلك في مكة بشكل كبير ، وكان هناك السبل الذي يسمونه السبيل بأن يخصص جزء من المال ينفق على شراء الماء أو جلبه من أماكنه أو توزيعه على الناس وخاصة في الحرم نفسه، وكذلك البرك التي تجمع المياه كانت لها أوقاف وكذلك ما يسمى بـ [ المطاهر ] التي تخصص للوضوء كلها بالأوقاف، وكثير من الصور الكبيرة والعظيمة كانت في هذا الباب ، كما قلت لو استرسلنا سنجد كثير من روائع حضارتنا الإسلامية تدلنا على ما كانت تشمله الأوقاف والزكوات والصدقات والهبات من مآثر عظيمة أغنت المسلمين ووفرت لهم كثير من الخدمات، وكان لذلك نتائج وآثار عظيمة من أبرزها وأهمها .
الأثر الأول : استقلال التعليم
بحيث كان التعلم لا يخضع لرأي قوي أو أمير أو حاكم بل كان يقوم عليه العلماء من أموال الأوقاف فليس هناك مجال لتغير منهج أو غير ذلك ، بل كانت مواقف العلماء من القوة والصلابة حتى أنهم ردوا ظلم الظالمين ووقفوا في وجوه من خالفوا الشريعة والدين لماذا ؟ لأنه من أسباب ذلك طبعاً يضاف إليه الإيمان والتقوى والثبات أنهم كانوا في استغناء مالي لا يحتاجون إلى المال ولا يذلون من أجل هذا المال .
كما فعل العز بن عبد السلام وكما فعل النووي - رحمه الله - وكما فعل البلقيني وغيره من مواقف كثيرة ، كانت تدل على هذا الجانب وهذا الأمر ومن المواقف تبين استقلال العلماء والتعليم وأنه لم يكن يخضع للضعف، فعندما تضعف الدولة الإسلامية أو تصيبها بعض المشكلات كانت الأوقاف مستمرة والحركة العلمية قائمة، حتى مع وجود بعض الظروف العسكرية والأمنية أو بعض الخلاف داخل بناء الدولة أو الأمارة، كما نعلم في فترات تاريخية كثيرة .
شيخ الإسلام البلقيني كان بعض السلاطين يريد أن يبطل بعض الوقفيات التي كانت لبعض من قبله، فلما عرض الأمر على الفقهاء قالوا لا بد من قوله ومن رأيه أي البلقيني فقال : " أما ما أوقف على خديجة وفطيمة فنعم أي ما أخذ من مال المسلمين وجعل وقفاً على ذريتهم قال هذا فنعم أو أفتى بصحة ... هذه الأوقاف، أما ما كان على العلماء والمدرسين وطلبة العلم فإن هذا من حقهم وإن لهم في الخمس أكثر من ذلك، فلا يجوز إبطاله " .(/9)
فمضى الأمر كما قال، وأيضاً عندما ضم بعض الأمراء من المماليك بعض الأوقاف إلى بعض أملاك الدولة أضطر أن يعوض هذه المدارس تعويضاً عادلاً وأن ينفق عليها وأن ينشأ بدلاً منها لأن التعليم كان مستقلاً والأوقاف كانت محترمة والحكم الفقهي كان يعتبر ذلك اعتداء لا قبول له ، بل إن محمد علي باشا الذي جاء إلى حكم مصر عندما مسح الأراضي الزراعية في مصر عند ولايته وجد أنها تبلغ مليوني فدان في وقته تقريباً وجد أن من بينها ستمائة ألف فدان أراضي موقوفة يعني ما يقدر بثلث أراضي مصر كان أوقافاً، ولا أحد يستطيع أن يتصرف فيها، والوقف على شرط الواقف إذا أوقف على طلبة العلم أو على فقهاء مذهب معين لا يجوز تغييره أبداً، وهكذا كان الاستقلال من أعظم هذه الآثار .
الأثر الثاني : انتشار العلم والتعليم
انتشر العلم والتعليم لماذا ؟ لأن الأوقاف عينت للغني والفقير والكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى شملت كل أحد ، ولذلك انتشر العلم حتى أن بعض من كانوا ينظر إليهم أنهم من أصحاب المهن الوضيعة ، لكنه لما توفرت أسباب العلم بالمجان ويستطيع أن يكون في عمله بالمناسبة ؟ ثم يلتحق بالعلم ولا يحرمه ذلك من الوقف ومن مخصصات الوقف، حتى ولو كان يعمل في النهار، بأن يعمل إلى الظهر ثم بعد ذلك يطلب العلم فهو ممن تشمله الأوقاف، لذلك ... هذه المدارس وانتشر التعليم حتى أن الانتشار كان يعني يشمل الرجال والنساء وكل الناس حتى الصغار حتى اللقطاء الذين يمكن أن يضيعوا في المجتمع، أو الأيتام الذين لم يكن لهم أحد ينفق عليهم، لم يكن أحد يحرم من التعليم، أو يجد عوائق إذا أراد ذلك واهتم به .
بواب الفقهاء
بل إن ذلك وصل إلى أن بعض الذين كما قلنا في مهن عادية كانوا بعد ذلك من كبار العلماء مثل بوّاب من بوابين دار الخلافة، فكان يعمل بواباً ولكن الوقف كان يتيح له أن يتردد لطلب العلم حتى صار من العلماء ، وأرخ التاريخ أنه كان هناك من طلب العلم على يديه وكان هو شيخاً وأستاذاً له، وكثيرون كانوا من هذه المهن التي لا شأن لهم .
ثم غدوا من كبار العلماء بما توفر من هذا، مثل ابن الدبيثي وأحمد بن أبي بكر بن علي الذي كتب تاريخ ابن كثير ، هؤلاء كانوا في مهن وفي أعمال بسيطة ولكن وجدوا فرصة من خلال هذه المجانية ليكون عندهم القدرة على طلب العلم والتفوق فيها، ونجد أنه من أثر هذا الانتشار والانبهار بهذه العناية بالتعليم في حياة المسلمين أن الذين دخلوا من التتار ودمروا المكتبات وأحرقوا الكتب لما نظروا إلى المجتمع الإسلامي وجدوا عظمة الإسلام فدخلوا الإسلام ثم صاروا هم من أعظم من أوقف الأوقاف العظيمة على الكتب والمكتبات وعلى المدارس ، وقد اشتهر من المغول والتتار رجالاً ونساء من كبرائهم وأمرائهم كثيرون أوقفوا الأوقاف على المدارس وعوضوا ما كان منهم أو من أسلافهم من تدمير لهذه المآثر العلمية .
شهادات مطمورة
وأشير أيضاً أخيراً إلى بعض الشهادات التي شهد بها الغربيون وذكروا فيها مآثر المسلمين في هذا الباب، وبينوا فيها شيئاً فريداً عجيباً .
شهادة المنهج التجريبي
يقول أحد المستشرقين الفرنسيين يصف ما كان من روح علمية في بغداد وانتشار مدارسهم : " إن من أهم ما اتصفت به جامعة بغداد هو روحها العلمية الصحيحة التي سادت فيها فقد بحث فيها علماءها في استخراج المجهول من العلوم والعلة من المعلولات وعدم التسليم بما لا يقوم إلا على التجربة والبسط ، وكان العرب في القرن التاسع الميلادي المقصود به الثالث الهجري، يتقنون هذه الأساليب العلمية وهذا هو المنهج المجدي الذي اقتبسهم منه علماء الغرب بعد زمن طويل، وهذا - كما قلنا - يشير إلى بعض هذه الشهادات .
ستمائة في ستمائة
وتقول إيرلا لابيدوس وهذه درست بعض المدن الإسلامية في العصور الوسطى ، ووجدت شيئاً عجيباً فسجلت ذلك بالإحصاء والأرقام وجدت نموذج استخلاص لتراجم الرجال في تلك العصور وفي تلك المدن، وجدت تراجم ستمائة تاجر هؤلاء التجار قالت : " هؤلاء التجار مائتان وخمسة وعشرون كانوا في نفس الوقت أساتذة في المدارس العلمية وعلماء شريعة وأئمة مساجد ، وقضاة محتسبين هؤلاء مائتان وخمسة وعشرون ، ووجدت فيهم كتَّاباً للعدل ونظَّاراً على الأوقاف الخيرية ، ووجدت من بينهم أربعة وثمانين يعملون محدثين في الوقت نفسه في المساجد والمدارس الموقوفة وخمسة عشر منهم كانوا يتولون وظيفة القاضي وست آخرون عملوا في وظائف الإدارة العليا، وستة يعملون في إدارة الحسبة " .
وهذا يدلنا على انتشار العلم وأن التاجر وأن الذي كان عنده أي وظيفة أخرى في حياته، كان العلم كأن محيط به تحت رجليه وبين يديه إذا أراد ليس هناك ما يمنعه لا في الأوقات ولا في الأماكن ولا في أنواع العلم ولا في أصناف المذاهب، بل كان كل ذلك متوفراً .
شهادات زغريد هنكون
لا أحد في روما مؤهل علمياً(/10)
وأيضاً تقول مستشرقة ألمانية مشهورة جداً اسمها [ زغريد هنكون ] تقول : " أن أحد مشاهير القسس الذي درس على العرب في الأندلس وارتقى حتى تقلد بعد ذلك منصب البابوية ، عند المسيحيين ، يقول إنه لمن المعلوم تماماً أنه ليس ثمة أحد في روما ـ وكانت هي عاصمة المسيحية ولا تزال، ليست ثمة أحد في روما له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً في تلك المكتبات، ليس عنده من العلم أن يعمل بواباً لتلك المكتبات التي درست بها، ويقول : وأنى لنا أن نعلم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا لأن فاقد الشيء لا يعطيه " .
وتقول في فصل عنونته في شغف المسلمين بالكتب، قالت :
الكتب كالعشب على الأرض الطيبة
" إنه كان شعب كله يذهب إلى المدرسة ويرى أن طلب العلم عبادة، وتقول إن نور الكتب نمت في كل مكان، نمو العشب في الأرض الطيبة، وتقول إنه في عام 891 م كان يحصي أحد المسافرين عدد دور الكتب في بغداد بأنها أكثر من مائة دار " .
كتب أديرة الغرب عشر كتبها
تقول هذه المستشرقة الغربية الألمانية : " مكتبة صغيرة كمكتبة النجف في العراق كانت تحوي في القرن العاشر الميلادي والرابع الهجري على أربعين ألف مجلد بينما لم تحتوي أديرة الغرب في هذه الفترة سوى على اثني عشر كتاباً وقد ربطت كتب الدير بالسلاسل خشية من ضياعها، أما في العالم الإسلامي فكان كل مسجد له مكتبه الخاصة به " .
كتبه أكثر من كل مكتبات الغرب مجتمعة
ثم تقول أيضاً إن متوسط ما كانت تحتويه المكتبة الخاصة لعربي واحد في القرن العاشر الميلادي كانت أكثر ما تحتويه كل مكتبات الغرب مجتمعة .
فك الخط مشاع
وكانت تقول أيضاً : " أنه في عام 1291 م لم يكن يوجد في دير من أكبر أديرتهم في ذلك الوقت أي شخص يستطيع قراءة الخط وبينما هذا كان عندهم كانت الآلاف المؤلفة من المكتبات والمساجد والمدارس تنتشر في مدن وقرى العالم الإسلامي، وتستقبل الملايين من البنين والبنات ويجلسون على سجاجيدهم الصغيرة، يقرأون ويكتبون .
مخصصات تقدر بمليون ونصف
وفي مثل هذا الوقت أشارت إلى أن ميزانية الإنفاق السنوي من الأموال الموقوفة والمخصصة على إنفاق مكتبة المدرسة النظامية ببغداد يعادل مليون ونصف من الفرنكات الذهبية لشراء الكتب والمخطوطات سنوياً .
وسنجد أن هذا فيه كلام كثير وشهادات عديدة تدلنا على عظمة ما كان في تاريخنا الإسلامي، وعلى عظمة التشريع الإسلامي وعلى روعة الحضارة الإسلامية وهذا كله مما ينبغي العلم به والإطلاع عليه، ومحاولة إحياءه بكل ما يستطاع في بلاد المسلمين، وفي خاصة نفس كل أحد حسب الحاجة والطاقة .(/11)
كلانا على خير
محمد الدويش
المحتويات
مدخل:
المؤيدات:
1. أولاً: من القرآن الكريم:
2. ثانياً: من السنة:
3. ثالثاً: اختلاف معادن اناس وطاقاتهم:
4. رابعاً: حال الصحابة:
5. خامساً: تنوع الوصايا النبوية:
6. سادساً: اتساع أبواب الانحراف:
7. سابعا: نحن في عصر التخصص:
8. ثامنا: أقوال أهل العلم:
أمور لابد منها:
1. أولاً: ألا يربى الناس على طريقة واحد:
2. ثانياً : عدم احتقار جهود الآخرين:
3. ثالثاً: لايسار بالمرء لغير مايحسن:
4. رابعاً: لن نحيط بكل مانريد:
5. خامسا: قد يكون المفضول فاضلا:
6. سادساً: الشهرة ليست فضيلة:
· محاذير
مدخل:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، وبعد: كتب أحد العباد إلى الإمام مالك -رحمه الله- ينكر عليه اشتغاله بالعلم، ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك -رحمه الله-: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر". تختلف أساليب العاملين، وتتنوع طرقهم في سبيل إحياء الأمة وإيقاظها وتغيير حالها؛ فمنهم من يرى أن الجهل قد تفشى في الأمة، وأن إحياءها بإزالة غشاوة الجهل عنها، فُعني بالعلم وسلك طريقه تعلماً وتعليماً ودعوةً إليه. وثانٍ رأى أن هذه الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فسخر وقته وجهده لإنكار المنكرات الظاهرة؛ العامة والخاصة، فاستغرق عليه ذلك جهده ووقته، ورأى أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يسلك لإنقاذ الأمة، وأنه بمثل هذا العمل يدفع الله به العذاب عن الناس. وثالث قد تألم لحال من استهواهم الشيطان؛ فوقعوا في الانحراف والرذيلة، فسخر وقته وجهده لدعوة هؤلاء وإنقاذهم.
ورابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة والبطون الخاوية؛ فصار ينفق من نفيس ماله، ويجمع المال من فلان وفلان، فينفقها في وجوه الخير على الأرامل والمحتاجين وغيرهم. وخامس رأى أن هذه الأمة أمة جهاد، وأنه لا سبيل لرفع الذل عنها إلا به، فاستهوته حياة الجهاد، وحمل روحه على كفه، وامتطى صهوة جواده، فهو كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كلما سمع هيعة لبى وطار يبتغي الموت والقتل مضانه" فيوماً تراه في المشرق، ويوماً تراه في المغرب، وما بين هنا وهناك يسعى للجهاد في سبيل الله، وأصبح لا يطرب أذنه ولا يشنفها إلا أزيز الرصاص وصوت السلاح. وسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعاً؛ فسخر جهده لدعوة غير المسلمين.
وسابع سخر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والمتحدثين زوراً باسمه، كتابةً وتأليفاً؛ فصار يتحدث عن مشكلات الأمة وعن قضاياها، وقد لزم هذا الثغر يواجه به أعداء الله سبحانه وتعالى. وآخر هؤلاء من رأى أن عدة الأمة وأملها الأمة في شبابها وجيلها الناشئ؛ فسخر وقته لتربية الشباب وإعدادهم، وتنشئتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، ورأى أن هذا الطريق هو الذي يخرج العاملين والمجاهدين وينقذ الأمة. وهكذا ترى أبواباً من الخير وألواناً من نصرة الدين والدعوة إليه، وهي أبواب واسعة شتى تسع الجميع على اختلاف طاقاتهم وعقولهم وعلومهم ومداركهم وأفكارهم.
وهنا نتساءل: هل نضيق ذرعاً بهذا التنوع في وسائل الإحياء والتغيير؟ وهل هذا التنوع من الاختلاف والتناحر والخلل؟ وهل يلزمنا أن نبحث عن طريق واحد نسلكه في سبيل إنقاذ الأمة؛ لأن الحق لا يتعدد وصراط الله المستقيم إنما هو واحد؟. حين نرجع إلى عبارة الإمام مالك -رحمه الله- (كلانا على خير وبر) نصل إلى هذه الإجابة: إن الوسائل كلها مطلوبة؛ بل لابد من القيام بها جميعاً، فلابد أن تقوم طائفة بهذا العمل، وأخرى بذاك، وثالثة بغيرهما، وهكذا لندخل جميعاً من أبواب متفرقة، ونسد جميعاً هذه الثغور، ونقف على تلك الحصون، ولا يعيب بعضنا بعضاً؛ بل لسان حال كل طائفة يقول: (كلانا على خير وبر).
المؤيدات:
وهذه النتيجة يؤيدها ما يلي:
1. أولاً: من القرآن الكريم:(/1)
يقول الله سبحانه وتعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد؛ بل لابد أن ينفر من كل طائفة ومن كل قوم ومن كل قبيلة فئة يتفرغون للعلم ويتفقهون في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، أي أن هذه الطائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله ولن تخرج إلى الجهاد، إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها؛ بل إن نفرة الأمة جميعاً وترك هذا الميدان المهم، وهو ميدان تعلم العلم الشرعي أمر غير مطلوب.
2. ثانياً: من السنة:
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبدالله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة." فقال أبوبكر الصديق - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب أو من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجوا أن تكون منهم" متفق عليه. وفي هذا الحديث -وهذه رواية الإمام البخاري في صحيحه- يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هناك طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة، فيدعى كل امرءٍ من باب عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة إنما يؤدي الصلاة المفروضة فقط، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، وإنما اشتهر كل منهم بعمله لاستزادته فيه، وإكثاره منه دون غيره.
3. ثالثاً: اختلاف معادن اناس وطاقاتهم:
وفي هذا الحديث يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الناس يتفاوتون كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، والمعادن قد تحتاج إلى تنقية إذا علقت بها شوائب، فهي تختلف فيما بينها تبعاً لكمية هذه الشوائب العالقة بها، ثم إنها تتفاوت فيما بينها -أيضاً- في القيمة والنفاسة، فالذهب ليس كالفضة في القيمة، والفضة كذلك ليست كسائر المعادن، وتختلف أيضاً في أدوارها بقدر الاستفادة منها في الصناعات وفي خدمة الإنسان وحاجته إليها، فكل هذه المعادن مطلوبة جميعاً، فكذلك الناس يتفاوتون، كما قال الله سبحانه وتعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون(. وكما أن معادن الناس وطاقاتهم وقدراتهم تختلف، فكذلك تربيتهم، والتربية تختلف باختلاف البيئة والزمن، فمن نشأ في البادية ليس كمن نشأ في المدينة أو القرية، فهم يتفاوتون جميعاً في طريقة التفكير وفي الشخصية والسلوك. وقد كان السلف -رحمهم الله- يتفاوتون فيما بينهم، قال ابن المبارك: "رأيت أعبد الناس عبدالعزيز بن أبي رواد، وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبوحنيفة، ما رأيت في الفقه مثله". وقال أبو عبيد: "انتهى العلم إلى أربعة: أبوبكر ابن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له".
4. رابعاً: حال الصحابة:(/2)
إن المتأمل في سيرة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يلمس هذا واضحاً، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبوعبيدة" وقد صنف النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا أصحابه، فأبوبكر كان أرحم الأمة بالأمة حيث كان رجلاً رقيقاً بطبعه، وعمر -رضي الله عنه- رجل فيه حدة وشدة فكان أشد بأمر الله سبحانه وتعالى، وهكذا بقية الصحابة يتفاوتون فيما بينهم، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذا لا يعني أنه أفضلهم لمجرد كونه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وإنما معايير التفضيل معايير أخرى. وحينما جيء بزيد بن ثابت -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان فتى ناجحاً قد قرأ وحفظ، أعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية -لغة اليهود- فتعلمها،وحذقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوما،ً وهنا لسائل أن يسأل فيقول: إن هذا الوقت الذي قضاه زيد في تعلم اللغة، كان من الممكن أنه يقضيه في قراءة القرآن، فقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوغير ذلك، لكن هذا باب خير ومجال لابد أن يسلك ويسد لهذه الأمة، فتصدى زيد -رضي الله عنه- لهذه المهمة. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطانا درساً في هذه القصة، أن كل ميدان من الميادين لابد أن يكون في هذه الأمة من يتولاه، وقد يكون مفضولاً في العموم، لكنه بالنسبة له أفضل من غيره.
لما سئل علي -رضي الله عنه- عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عبدالله بن مسعود؟ قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى وكفى به علماً. قلنا: أبي موسى؟ قال: صبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بالمنافقين. قالوا: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: أبي ذر؟ قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه، فقال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت. وهذا خالد بن الوليد -رضي الله عنه- له مناقب عديدة، وقد أثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبر أنه سيف من سيوف الله، وأنه نعم أخو العشيرة. يقول عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "ما عدل بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا" أي: أنه كان لا يقدم عليهما أحدا،ً والحديث رواه الطبراني، وخالد رضي الله عنه -كما في الصحيحين- احتبس أدراعه واعتده في سبيل الله عز وجل، وفي غزوة حنين جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخلل الناس يبحث عن خالد -رضي الله عنه- فنفث في جرح كان قد أصابه، وهذا الحديث في المسند. وهو الذي يقول عبارته المشهورة: "ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس، أنا لها محب بأحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح فيها العدو". وهو القائل: "لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف، أو طعنة من رمح...". ويقول قيس بن أبي حازم: سمعت خالداً يقول : "منعني الجهاد كثيراً من القراءة". وهذا الأثر ذكره الحافظ في المطالب بلفظ: "لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله". وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح . ويروى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بالناس إماماً فأخطأ في قراءته.
لقد فاق خالد رضي الله عنه في ميدان الجهاد، حتى شغله عن غيره من العبادات، ولذا لا تكاد تجد له فتوى، أو قولاً في تفسير آية من كتاب الله سبحانه وتعالى. ولكن هذا لم ينقص من شأنه ويقلل من مكانته.(/3)
وأبو ذر -رضي الله عنه- يقول عنه الذهبي: "أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم على حدة فيه". ويقول أبو ذر: "أوصاني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، وألا أسأل أحداً شيئاً، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مرا،ً وألا أخاف في الله لومة لائم". وله عبارة مشهورة رواها البخاري تعليقاً في كتاب العلم، والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية: أنه أتاه رجل وهو جالس عند الجمرة الوسطى وهو يفتي فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه وقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه -يعني السيف وأشار على رقبته- فاستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيروا علي لأنفذتها. مع هذه الفضائل السابقة كلها يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- له: "إني أراك ضعيفا،ً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم" فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ينهاه عن الإمارة والولاية، لأنه لا يصلح لذلك، فلكل ميدانه.
وقد عقد ابن القيم -رحمه الله- مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- فقال: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره، وأبوهريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها، وكلاهما على خير. إذن..فلكل ميدانه، بل الميدان الواحد قد يؤتى فيه شخص مالا يؤتاه غيره؛ ففي ميدان العلم نجد أبا هريرة أحفظ وابن عباس أفقه للعلم، فهو أمر وَسِع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فينبغي أن يسع غيرهم من باب أولى.
5. خامساً: تنوع الوصايا النبوية:
كان كثير من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يفدون إليه يستوصونه فيوصيهم، فيقول لأحدهم: "لا تغضب"، ويقول للثاني: "كلما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"، ويقول للثالث: "لا تسبن أحداً". ويوصي أحدهم أن يوتر قبل أن ينام، والآخر أن يقوم الليل، فوصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- تختلف من شخص إلى آخر، وكان كثيراً ما يسأل -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أفضل؟ أو أي الإسلام خير؟، فيجيب هذا بإجابة، وذاك بإجابة أخرى، وما ذاك إلا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف أن كلاً منهم إنما تنفعه هذه الوصية أو هذه الإجابة دون غيرها تبعاً لحاله، لاختلاف الناس وتفاوتهم.
6. سادساً: اتساع أبواب الانحراف:
من يتأمل واقع الأمة اليوم يدرك عمق الخلل والانحراف، وهو انحراف هائل ليس في جانب واحد أو مجال واحد فقط، فانحراف في الحكم، حيث الحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وفي الاعتقاد بمنح الولاء لأعداء الله عز وجل، وانتشر الشرك بأنواعه، وكثر الجهل، وانتشر الفساد الأخلاقي، والأمية، والفقر، والتخلف، إلى غير ذلك، وعندما تتسع أبواب الخلل والانحراف، لابد أن تتسع أبواب الدعوة ومجالاتها.
7. سابعا: نحن في عصر التخصص:
إن هذا العصر هو عصر التخصص، فلابد أن نعيش وأن نفكر بعقلية هذا العصر فيما لا يعارض شرع الله سبحانه وتعالى، ففي السابق قد يكون الرجل موسوعة يقف على أبواب شتى من أبواب العلم والخير، أما الآن فقد تنوعت طرق الحياة وتعقدت أساليبها، وسار الناس على مبدأ التخصص. فلماذا لا يتخصص فلان مثلاً بالعناية بجانب من جوانب العلم الشرعي، والثاني في مشاكل الأمة الاجتماعية، فيحل مشاكل الناس، وينظر في حال المعوزين والفقراء، ويتخصص الثالث في دعوة المنحرفين والضالين، وهكذا كل امرء في ميدانه وفنه.
وسنضرب مثالاً يعطي صورة واضحة عن الحاجة الفعلية للتكامل وسد الثغور كل في مجاله، فالجيش يحتاج إلى مجموعة في المقدمة للقيادة ومواجهة العدو، ويحتاج إلى مجموعة في الخلف يحرسون هؤلاء، ومجموعة يترصدون، ويحتاج إلى مجموعة فنيين يقومون بصيانة الآلات وإعدادها، ومجموعة يقومون بنقل الذخائر، ومجموعة للتمويل ونقل المواد الغذائية، ومجموعة يحرسون ثغور المسلمين حتى لا يؤتوا منها على حين غرة، ومجموعة يخلفون الغازين في أهلهم، وهكذا تتوزع الجهود ويتكامل الجيش، ولا يمكن أن يقوم إلا بهذا التكامل.
فكذلك في حراسة الأمة وحمايتها، والدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى، لابد أن تتضافر الجهود، وأن تتوزع الأدوار جميعاً حتى تقوم هذه الأمة، وإلا كان الخلل والقصور، وعندها لا تنهض الأمة النهوض المراد.
8. ثامنا: أقوال أهل العلم:(/4)
إن السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا، فعباراتهم تدل على ذلك، ومنها: أنه لما جاء رجل إلى الخليل بن أحمد -وهو مشهور بعلم العروض- ليتعلم العروض، شعر الخليل بن أحمد أنه غير قابل لتعلمه، فأعطاه بيتأً يقطعه، وهو:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ففهم الرجل المقصود، واتجه إلى علم النحو فنبغ فيه.
والأعمش كان إذا قيل له: حدث، قال: (لا يقلد العلم خنازير). فليس كل أحد مؤهل لأن يعطى العلم، فالعلم لا يعطى إلا من يستحقه.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في تحفة المودود: "ومما ينبغي أن يتعهد: حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره، ما كان مأذون به شرعاً".
ويقول في مدارج السالكين: "فإذا علم هذا، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته، قال تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله(، ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى ما قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك به طريقاً إلى ربه، ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة". ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها وهذا نادر. ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- عند قول الله عز وجل: ( فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة(: "وفي هذه الآية -أيضاً- دليل وإرشاد وتنبيهٌ لطيفٌ لفائدةٍ مهمةٍ؛ وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يُعِدُّوا لكل مصلحةٍ من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارق؛ فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور". هذه جملة من المؤيدات التي أظنها كافية لأن تعطينا الاقتناع بأن الطرق يجب أن تسلك كلها ، والأبواب أن تطرق جميعها، وأن لا يعتب بعضنا على بعض في سلوك أحدها دون الآخر.
أمور لابد منها:
ثمت أمور ينبغي التنبيه إليها، ومنها:
1. أولاً: ألا يربى الناس على طريقة واحد:
أن لا نسلك بالناس طريقاً واحداً، فكل إنسان له طبيعة خاصة وطريقة خاصة، ؛ فكل له طريقة في التفكير، وطريقة في العمل، وشخصية مستقلة عن شخصية الآخر، وكذلك قدرات تختلف عن قدرات الآخرين، فلا يسوغ أن يربى الشباب جميعاً على طريقة واحدة وفي إطار واحد، كأن يراد من الشباب أن يتحولوا كلهم إلى وُعَّاظ، أو طلبة علم، أو إلى ميدان من الميادين دون غيره، وإلا ستبقى ثغور تحتاج إلى من يسدها، فيجب أن يكُون هناك إطار عام للتربية، لكن يبقى جانب يراعى فيه ويتعاهد فيه، كما قال ابن القيم: يتعاهد فيه حال هذا (الشباب) وينظر إلى ما هو متوجه له، فيسار به إلى هذا الطريق، ما دام مأذوناً فيه شرعاً.
والأبواب المأذون فيها شرعاً أبوابٌ كثيرة وواسعة، لن تضيق أبداً عن شباب المسلمين، بل لعلهم لا يستطيعون الإتيان عليها جميعاً وسدها، فضلاً عن أن تضيق عنهم.
2. ثانياً : عدم احتقار جهود الآخرين:
عندما يسلك الإنسان ميداناً لا يسوغ له أن يحقر الميدان الآخر، فمن سلك طريق الجهاد لا يسوغ له أن يحتقر طالب العلم، الذي حبس نفسه وفرغها للبحث في المسائل الفرعية والقضايا الدقيقة، فالكل على ثغرة من ثغور الأمة يسدها لخدمة دين الله سبحانه وتعالى ولإحياء الأمة، أياً كانت هذه الثغرة فالكل على خير، وكل هذه الأبواب مطلوبة ومرادة للأمة جميعاً.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- : "ومنه -أي اختلاف التنوع- ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريقة، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسنٌ في الدين".(/5)
وإن من القضايا المعاصرة الجدل القائم على الساحة الإسلامية حول مناهج الدعوة، هل ينبغي العناية بمحاربة البدع والخرافات، أو يعتنى بالعمل السياسي، أو بدعوة الضالين والمنحرفين، أو يعتنى بجانب الرقائق وتزهيد الناس في الدنيا، أو بنشر العلم، أو بإنكار المنكرات؟ وكل يحشد الأدلة والمؤيدات على أن هذا الطريق هو الذي ينبغي أن يسلك، وأن الطرق الأخرى كلها تأتي بعده؛ ولكن هذه الميادين كلها مطلوبة؛ فالأمة بحاجة إلى من ينكر البدع، وإلى من يعلم العلم، وإلى من يجاهد في سبيل الله، وهي بحاجة إلى من ينكر المنكرات، وكلُّها جهود خيرة ومطلوبة. فهذا الجدل لا داعي له، ولا يزيد على أن يكون مجرد تراشق وترف فكري، وإهدار لطاقة الأمة فيما لا طائل وراءه.
3. ثالثاً: لايسار بالمرء لغير مايحسن:
كلٌ ميسرٌ لما خلق له، فبعض الناس قد يكون عنده حماس وطاقة، وهو متفرغ وقادر على العمل، لكن إدراكه العقلي محدود وحافظته محدودة، وهو غير مؤهل لتعلم العلم الشرعي، فلا يعقل أن يطلب منه التدريس في حلقة علمية مثلاً، فالأنسب له أن يساهم في إنكار المنكرات، أو المشاركة في الأعمال الإغاثية، أو غيرها مما يصلح لحاله وينجح فيه، ولا يسوغ أن يطلب من إنسان سريع الغضب، ولا يجيد التعامل مع الآخرين أن يعمل في ميدان تربوي، لأن الميدان التربوي يحتاج إلى إنسان حسن المعاملة، طويل النَّفَس، وهكذا الثالث والرابع، فكلٌ ميسرٌ لما خلق له.
4. رابعاً: لن نحيط بكل مانريد:
لن يحيط المرء بكل ما أمر به، فلا يكلف نفسه ذلك، ولا يطالب الناس به. فمن تفرغ لتعلم العلم يقصِر نفسه عليه، ولا يطالبها أن تعمل بعمل من تفرغ لإنكار المنكرات، أو للجهاد،أو غيره، فهو لن يستطيع أن يأتي بكل هذه الأبواب، وما دام على خير فليلزمه، فمن الخطأ ومناقضة الفطرة والواقع أن يحاول المسلم أن يحيط بكل أبواب الخير، فالمطلوب هو أن يسخر وقته وجهده لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، والدعوة إليه، وأبواب الدعوة ومجالات خدمة الدين واسعة ومتنوعة.
وكذلك عليه أن لا يطالب الناس بهذا أيضاً، فمن الخطأ أن يطالَب عالم ومفت في القضايا العلمية بالتحدث عن قضايا فكرية، قد تحتاج إلى شخص آخر، أو أن يطالَب بالخروج المستحب للجهاد، أو التفرغ لإنكار المنكر، أو غيره.
وكذا عندما نجد كاتباً يعنى بقضية المرأة، فيكتب ويحاضر ويخطب ويتحدث عنها، فلا نطالبه أن يلقي محاضرة أو يكتب عن أمور تخص الشباب أو عن قضية علمية شائكة أو عن قضية في واقع المسلمين.
فمن سلك طريقاً ينصر فيه الإسلام لا يطالب بغيره، وإنما يستفاد منه في ميدانه.
5. خامسا: قد يكون المفضول فاضلا:
قد يعتري المفضول ما يجعله أولى من الفاضل، وهذه قاعدةٍ شرعية مهمة، نبه عليها شيخ الإسلام وابن القيم، فمثلاً: قراءة القرآن أفضل من الدعاء في الجملة، لكن في بعض المقامات والأحوال والأوقات يكون الدعاء أفضل، كآخر ساعةٍ يوم الجمعة أو يوم عرفة للحاج.
كذلك قد يكون عمل ما فاضلاً والآخر مفضولاً؛ لكن قد يعتري هذا المفضول أمر يجعله أولى، فمثلاً: القراءة عن الطوائف الدينية -كالقاديانية والبهائية والعلمانية وغيرها من الطوائف والنحل، ومعرفة كل ما يتعلق بها- ليست بأفضل من القراءة في دواوين السنة، لكن الأمة محتاجة إلى سد هذا الميدان وإلى سد هذا الثغر، فهذا مفضول ولكن أتاه أمر جعله في حق فلان من الناس أولى من الفاضل، وهكذا القول فيمن تخصص في الأدب فتفرغ له حفظاً وقراءةً ونقداً ومدارسةً لكتبه ومدارسه؛ لأن جزءاً من معركتنا ميدانها الأدب، فيسد هذه الثغرة لمنازلة الأدب المنحرف ، فالتخصص فيه لبعض الناس أفضل من غيره.
ومصداق ذلك سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان إذا خرج إلى الجهاد يخلف بعض أصحابه أميراً على المدينة، فقد خلف علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في أهله في غزوة تبوك، فاعترض على ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟"، فالجهاد أفضل من القعود عنه، لكن الأفضل في حق علي هنا هو القعود.
6. سادساً: الشهرة ليست فضيلة:
ليست الشهرة هي قيمة الإنسان، فقد تكون بعض الميادين تتطلب شهرة، كالخطابة والتأليف وغيرها مما يشهر بصاحبه ويجعله معروفاً بين الناس، وبعضها لا تتطلب شهرة فيكون صاحبها مغموراً، وهذا لا يعني أفضلية المشهور على المغمور، فالقضية ليست في الشهرة، فقد قال عليه السلام: "رب أشعث، ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره"، وقال: "إن الله يحب العبد التقي الخفي" فهذا العبد البعيد عن الأضواء، الخفي غير المشهور، يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس هناك علاقة مطردة بين الشهرة وبين نصرة دين الله سبحانه وتعالى، فالعبرة بالإخلاص ومدى نفع العمل، وقد ينفع الله بهؤلاء المغمورين ويكتب لهم من الأجر ما لا يكتبه لغيرهم من المشهورين.
محاذير(/6)
مع أهمبة مراعاة هذا الأمر واعتبار، فلابد من الحذر من الوقوع في بعض المحاذير، ومنها:
الأول: لا يسوغ أن يترك الواجب بحجة التخصص، فهناك أمور واجبة على الجميع، كالعلم الشرعي ففيه قدر واجب على الجميع، وكإنكار المنكرات الظاهرة هو واجب على من يراها، وهكذا سائر الواجبات الشرعية، فلا يسوغ أن تترك بحجة التخصص في ميدان معين.
الثاني: لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص، فالإنسان قد يكون عنده خلل ويعاني من فقر مدقع في كافة الجوانب بحجة أنه متخصص، وإنما يجب أن يكون فيه قدر من التكامل، فمن توجه إلى طلب العلم، وأنفق فيه النفيس من وقته، لايسوغ له التفريط في عبادة الله عز وجل، وأن لا يتمعر وجهه إذا رأى معصية لله عز وجل، ولكن ينبغي عليه أن يتربى على عبادة الله عز وجل وطاعته، وعلى إنكار المنكر، وجلب النفع للناس، وعلى كل أبواب الخير، ثم تكون غاية مطلوبه هو تحصيل العلم، قد صرف له كل همه، مع العناية بالجوانب الأخرى. وحينما يحصل خلل واضح في جانب من الجوانب، فإنه سيعود على الجوانب الأخرى بالإبطال، فمثلاً: عندما يكون طالب العلم قاسي القلب، سيفقد الورع الذي يحتاج إليه في علمه وفي فتواه ومواقفه، وكذلك المربي حينما يكون قاسي القلب، أو يكون ضحلاً في العلم والاطلاع، لابد أن ينعكس هذا الخلل على عمله وجهده، إذن .. لابد من التكامل مع التخصص، ولابد أن تكون شخصية الإنسان متكاملة.
الثالث: يجب أن نحذر من الإغراق في التخصص المبكر، فالشباب تكون توجهاتهم واستعداداتهم متقاربة، وكلما تقدمت بهم السن، كلما بدأت تتضح معالم شخصيتهم، فالتخصص المبكر يوقع في أخطاء، منها: الوقوع في الخلل؛ إذ لو بدأ من الصغر في التخصص، سيقع في خلل ويفقد الجوانب الأخرى، وبالتالي لن تكون شخصيته متكاملة، وكذلك قد يتصور أنه إنما يصلح لهذا الميدان، بينما هو يصلح لغيره، فنقع في خطأ في تقويم الشخصية واستكشاف استعدادت الشخص ومواهبه، ولكن عندما يتأخر قليلاً في جانب التخصص، سيتجاوز تلك السلبيات.
الرابع: لا ينبغي الاشتغال بالدون، فقد يكون من الناس من يصلح لميادين كثيرة فينبغي أن يختار الميدان الأولى والأليق به، من خلال حاجة المجتمع وحاجة الدعوة في هذا الميدان، أو من خلال أهمية هذا الميدان أو ذاك، فلا ينبغي أن ينشغل بالدون بحجة أنه قد أفلح ونجح وفتح له في هذا الباب، فهذا فيه إهمال وإهدار للطاقة، كما حصل ذلك للقاضي الذي كان يقضي ويعلم الناس ويصلح بينهم، فلما قرأ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة" ترك القضاء، وانشغل بإماطة الأذى عن الطريق، فهذا قد انشغل بباب من أبواب الخير وشعبة من شعب الإيمان، ولكنه انشغل بأدنى شعب الإيمان، وترك الميدان الأنفع والأولى بأمثاله.
الخامس : لابد من التكامل على مستوى الأمة، فقد يشتغل فرد بسد ثغر من الثغورحسب طاقته ومواهبه ، ولكن على مستوى الأمة يجب أن تسد الثغور جميعاً، ويجب أن يكون هناك تكامل على مستوى مجالات الدعوة ، فهناك فرق بين الفرد وبين الأمة، أو بين الدعوة على مستوى أجمع.
موقع الدويش(/7)
كلمة التقوى
الخطبة الأولى
أما بعد. . .
فاتقوا الله أيها الناس فإن الله تعالى خلقكم لأمر عظيم جليل بينه لكم فقال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون?(1) وقال: ?اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً?(2). فالله قد خلقكم إنسكم وجنكم ذكركم وأنثاكم لعبادته تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ?(3).
أيها المؤمنون إن مفتاح العبودية الأعظم هو شهادة أن لا إله إلا الله. فلا إله إلا الله قامت بها السماوات والأرض ولا إله إلا الله فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا إله إلا الله أول دعوة الرسل لأقوامهم ولا إله إلا الله كلمة التقوى والإسلام ومفتاح الجنة دار السلام.
أيها المؤمنون إن فضائل لا إله إلا الله عظيمة كثيرة فمن ذلك أنها أول ما يطالب بها العبد ليدخل في الدين الذي لا يقبل الله تعالى سواه ففي قصة بعث معاذ إلى اليمن: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ومن فضائلها أن بها يعصم دم العبد وماله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل))(4) رواه مسلم.
ومن فضائل لا إله إلا الله أنها تحرم على النار من قالها صادقاً مخلصاً ففي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))(5). ومن فضائلها أن بها يدخل العبد الجنة دار السلام قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة))(6).
ومن فضائلها أنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة فعن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة))(7) رواه أبو داود بسند صحيح.
ومن فضائل هذه الكلمة المباركة أنها أفضل ما نطق به العبد ففي الترمذي بسند صحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل ماقلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له))(8).
ومن فضائل هذه الكلمة الطيبة أن من قالها بإخلاص حصلت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أحق الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه))(9).
ومن فضائل لا إله إلا الله أنه لا يعدلها شيء في الميزان فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن نبي الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله))(10) رواه أحمد بسند جيد.
ومن فضائل لا إله إلا الله أنها إذا رسخت في قلب العبد بددت ضباب الذنوب وغيومها فعن عبدالله بن عمرو مرفوعاً: ((يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يارب فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا فيقال: إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم فتوضع في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة))(11) رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد صالح.
__________
(1) الذاريات: 56.
(2) الطلاق: 12.
(3) فاطر: 15.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان برقم 23.
(5) أخرجه البخاري في الصلاة برقم 425 وأخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم 33.
(6) أخرجه مسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم 27.
(7) أخرجه أبو داود في الجنائز من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 3116 وسنده صحيح.
(8) أخرجه الترمذي في الدعوات من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 3585.
(9) أخرجه البخاري في العلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم 99.
(10) أخرجه أحمد من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 6547 وسنده جيد.
(11) أخرجه أحمد من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه برقم 6955 وأخرجه الترمذي في الإيمان برقم 2639 وإسناده صالح.(/1)
أيها المؤمنون إن من فضائل لا إله إلا الله الكبار أنها تثمر العمل الصالح فجميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة إنما هي ثمرة هذه الكلمة المباركة قال الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ صدق الله العظيم تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ?(1) فشبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة فمن رسخت هذه الكلمة الطيبة في قلبه إيماناً وتصديقاً انقادت جوارحه لأمر الله تعالى عملاً وتطبيقاً.
فلا إله إلا الله ما أعظم هذه الكلمة وأكثر فضائلها.
أيها الإخوة المؤمنون لنا مع هذه الفضائل وقفتان: الأولى: في معنى هذه الكلمة الطيبة فإن كثيراً من الناس لا يعرفون معناها وقد لا يدركون حقيقة مضمونها ولاشك أن هذا سبب كبير في تخلف هذه الفضائل عن قائلها أيها المؤمنون إن معنى قولكم: لا إله إلا الله أنكم تقرون بأنه لا معبود بالحق إلا الله تعالى فلا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات القلبية كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل غير الله تعالى. ولا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات في صلاة وذبح ونذر ودعاء غيره سبحانه بل الواجب أن يفرد جل وعلا بجميع العبادات الظاهرة والباطنة.
فإن أخل العبد بشيء من ذلك فصرف العبادة لغير الله فإن لا إله إلا الله لا تنفعه بشيء بل هو مشرك كافر متوعد بقوله تعالى: ? إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار?(2) فاحذروا الشرك ياعباد الله فإن خطره عظيم اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك مما لا نعلم.
الوقفة الثانية: أنه لا يكفي في حصول تلك الفضائل والخيرات المترتبة على قول: لا إله إلا الله مجرد قولها فقط قال ابن القيم رحمه الله: (( فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام )) ثم قال رحمه الله: (( فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار فلابد من قول القلب وقول اللسان )). أيها المؤمنون إن قول القلب الذي لابد من توفره لتحصيل تلك الفضائل وإدراك تلك المناقب هو أن تكون أعمالك ياعبد الله كلها لله وأقوالك لله عطاؤك لله ومنعك له حبك لله وبغضك له فمعاملاتك لوجه الله وحده لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً.
فمن صاغ قلبه وقوله وعمله على ذلك فإنه من أهل لا إله إلا الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أيها المؤمنون اقدروا لهذه الكلمة العظيمة قدرها فإنها مفتاح النجاة وباب السعادة في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية
أما بعد. . .
أيها المؤمنون إن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى بعض الأوقات والأزمنة وخصها بفضائل ومواهب ميزها بها عن غيرها من الأزمان ففضل الله سبحانه الأشهر الحرم على غيرها من الأشهر ببعض الفضائل والأحكام قال الله تعالى: ?إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين?(3) وهذه الأشهر قد بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذوالقعدة وذوالحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان))(4) متفق عليه.
فشهرنا هذا شهر رجب هو أحد الأشهر الحرم التي نهانا الله سبحانه فيها عن ظلم أنفسنا ويكون ذلك بالكف عن الفحشاء والمنكر كما قال الأول:
وخير الأمور السالفات على الهدى ... ... وشر الأمور المحدثات البدائع
قال ابن حجر رحمه الله: ((لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة))(5).
فاحذروا أيها المؤمنون البدع والمحدثات
فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
__________
(1) ابراهيم: 24 -25.
(2) المائدة: 72.
(3) التوبة: 36.
(4) أخرجه البخاري في بدء الخلق من حديث أبي بكرة رضي الله عنه برقم 3197 وأخرجه مسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات برقم 1679.
(5) تبيين العجب ص21.(/2)
أيها المؤمنون إن مما أحدثه الناس في هذا الشهر تخصيصهم شهر رجب بأنواع من البدع والمحدثات فمن ذلك تخصيصهم أول جمعة من هذا الشهر بصلاة يسمونها صلاة الرغائب ومن ذلك أيضاً تخصيصهم شهر رجب بصيام أيام معينة منه ومما أحدثوه أيضاً تخصيصهم شهر رجب بالعمرة التي يسمونها الرجبية وكل هذا من البدع والمحدثات التي لم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا السلف الصالح وهي لا تزيد العبد من الله إلا بعداً ففي الصحيح من حديث عائشة مرفوعاً: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))(1) قال ابن القيم رحمه الله: (( وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعداً فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء ))(2).
فاتقوا الله عباد الله و الزموا الكتاب والسنة فإنه لا نجاة للعبد إلا بهما واعلموا أنه لم يثبت من هذه المحدثات شيء. اللهم اجعلنا من العاملين بالكتاب والسنة المتمسكين بهما.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية برقم 1718.
(2) مدارج السالكين (1/96).(/3)
كلنا ذو خطأ
الحمد لله الواحد الأحد الكريم الوهاب الرحيم التواب، غافر الذنب، وقابل التَّوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويغفر للمخطئين المستغفرين، ويقيل عثرات العاثرين، ويمحو بحلمه إساءة المذنبين، ويقبل اعتذار المعتذرين. لا إله إلا هو، إله الأولين والآخرين، وديَّان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون. اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون. أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم يجمعنا بكم سرمدية أبدية في جنات ونهر تحط بكم فيه. واسأله أن يظلنا وإياكم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم لا تعذب جمعا التقى فيك ولك اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك اللهم لا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لقاك، اللهم لا تعذب أعينًا ترجو لذة النظر إلى وجهك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، اللهم كلنا ذوو خطأ، وما لنا إلا عفوك وحسن الظن بك، وحب من تحب، فأقل عثراتنا، وتجاوز عن خطئنا، وأنت أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، رباه
يظن الناس بي خيرًا وإني *** لشر الناس إن لم تعف عني
ومالي حيلة إلا رجائي *** وعفوك إن عفوت وحسن ظني
والله لو علموا قبيح سريرتي *** لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي *** ولَبُئْتُ بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي *** وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
اللهم اجعلني خيرًا مما يظن الظانُّون، واغفر لي مالا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن سهلا إذا شئت.
أحبتي في الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلانية فهي وصية الله -جل وعلا- للأولين والآخرين. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ)
راقبوا الله جل وعلا راقبوا الله جل وعلا فما راقبه عبد وذل وأخطأ إلا آب وعاد وحاله
رحماك يا رب رحماك *** رب يا رب ويا رب الورى
ما ترى في عبد سوء ما ترى
خلق الله السماوات سبعا وخلق الأراضين سبعا وفي مجموع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحاح أن ما بين الأرض وما بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام ومن فوق ذلك عرش الرحمن ومن فوقه ربنا سبحانه وبحمده بائن عن خلقه مستو على عرشه (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) متى علمت هذا ومتى استشعرت هذا فأنت من المتقين
إذا ما خلوت الدهر يوما *** فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
ها هو [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه ويرقبه وهو لا يراه وإذا بعمر يقف وقفة محاسبة ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول عمر أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله يا عمر أو ليعذبنك الله والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به و يقف على رأسه ويقول
يا عمر الخير جزيت الجنة
اكس بناتي وأمهن
وكن لنا في ذا الزمان جنة
أقسم بالله لتفعلن
قال وإن لم أفعل يكون ماذا قال:
إذا أبا حفص لأمضين
قال وإذا مضيت يكون ماذا قال:
والله عنهن لتسألن
يوم تكون الأعطيات منة
وموقف المسئول بينهن
إما إلى نار وإما إلى جنة
فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن زرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه ودخل ولم يجد شيئا في بيته فما كان إلا أن خلع ردائه وقال خذ هذا ليوم تكون الأعطيات منة وموقف المسئول بينهن إما إلى نار وإما جنة هكذا تكون مراقبة الله – عز وجل – وهكذا تكون تقوى الله – عز وجل –(/1)
وعمر الثاني [عمر بن عبد العزيز] وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام ويكسب أو يفيء الله على المسلمين فيئا وهذا الفيء تفاح فأراد أن يقسمه على الرعية بينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه طفل صغير أخذ تفاحة ووضعها في فمه فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح والطفل يبكي ابن عمر يبكي ويخرج ويذهب إلى أمه ويذكر لها الحادثة فترسل غلام من البيت ليشتري لهم تفاحا ويقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته فيقول من أين لكم هذا و والله ما جئتكم بواحدة بتفاحة واحدة فأخبرته الخبر قالت جاء ابنك يبكي فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح قال يا فاطمة والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء هكذا تكون مراقبة الله – جل وعلا – هكذا تكون تقوى الله – جل وعلا – وبها النجاة (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) ما راقب عبد ربه إلا أفلح وفاز وما الحياة الدنيا إلا متاع ما راقب عبد ربه فذلت به قدمه فأخطأ فارتكب فاحشة إلا عاد نادما حسيرا كسيرا فيتقبله ربه وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين بمنه وكرمه الله عز وجل رحيم بل هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه – سبحانه وبحمده – له مائة رحمة أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق كلهم ناطقهم والأعجم صغيرهم والكبير حتى إن الدابة لترفع رجلها لوليدها ليرضع منها ثم يذهب بهذه الرحمة فإذا كان يوم القيامة لرفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة عنده سبحانه وبحمده فيتطاول إبليس ويظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم.
فيا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك اسمع له صلى الله عليه وسلم كما يروى في [البخاري]" يوم يأتيه سبي وإذا بامرأة من بين هذا السبي تبحث عن صبي لها فقدته لا تلوي على شيء كلما وجدت طفلا قلبته ونظرت فيه فإذا به ليس طفلها ثم تجده تجد ابنها بعد مشقة وعناء فتلصقه ببطنها وترضعه ورسول الله وصحابته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم يرقبون الموقف وإذا بها تذرف الدموع على ابنها وهو على ثديها دموع الفرح فيقول صلى الله عليه وسلم أترون هذه طارحة ولدها في النار قال الصحابة لا والله يا رسول الله فقال الله أرحم بعباده من هذه بولدها."
يا كثير العفو عن من كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) أحبتي في الله كثيرا ما يضل الإنسان في الطريق وينحرف عن الجادة بوازع الجهل والهوى أحيانا واستجابة لإغراء عابث أحيانا أو لشهوة جامحة قوية الأمر الذي يهبط بمستواه الإنسان ويحول بينه وبين الطهر والتسامي فتسقط قيمته وينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة والعار تتجه قواه كلها إلى إشباع غرائزه وإتيان لذ ائذه فيسقط إلى منزلة البهيمة حتى إنك لتجده بأذن لا تسمع وبعين لا تبصر وبقلب لا يفقه تجده بهيمة في مسلاخ بشر والإنسان قد تمر به ساعة تنام فيها قواه ويغفو فيها ضميره وتستيقظ غرائزه فيسقط صريع الهوى والشهوة والشبهة فيا له من سقوط ويا لحقارتها من لذة مؤقتة تورث النار
تفنو اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
وكلنا ذوو خطأ والمعصوم من عصمه الله جل وعلا على كل واحد منا أن يذكر فلا ينسى أنه لم يخلق ملكا ولم يخلق بشرا معصوما وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر فتارة يغلب خيره شره فهو خير من الملائكة وتارة يغلب شره خيره فهو شر من البهائم كما قال [ابن القيم] عليه رحمة الله وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كلنا ذوو خطأ في صحيح [مسلم] عن [أبي هريرة] رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" فلابد من الخطأ ولابد من التقصير وكلنا ذوو خطأ
من ذا الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط
تريد مبرئا لا عيب فيه *** وهل نار تفوح بلا دخان(/2)
لكن إياك أن تبقى على الخطأ إياك أن تدوم على المعصية فإن المعصية شؤم وإن المعصية عذاب وإن المعصية وحشة وإن المعصية غضب من الله الواحد الديان وقد يحبس عن أمة خير بمعصية من فرد واحد لم يأمروه ولم ينهوه نسأل الله ألا يحرمنا خير ما عنده من شر ما عندنا هاهم بنو إسرائيل –كما في كتاب التوابين [لابن قدامة]- يلحق بهم قحط على عهد [موسى] –عليه السلام- فاجتمعوا إلى موسى ، وقالوا: يا نبي الله ادعُ لنا ربك أن يسقينا الغيث ، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء ليستسقوا وهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرُتَّع، والشيوخ الرُّكَّع، فما ازدادت السماء إلا تقشعًا، ذهب السحاب الذي في السماء، وما ازدادت الشمس إلا حرارة ، فقال: يا رب استسقيناك فلم تسقِنا، فقال: يا موسى إن فيكم عبدًا يبارزني بالمعصية منذ أربعين عامًا، فمُرْهُ أن يخرج من بين أظهركم؛ فبشؤم ذنبه مُنِعْتم القطر من السماء، قال: يا رب عبد ضعيف وصوتي ضعيف، أين يبلغ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟، فأوحى الله إليه –سبحانه وبحمده- منك النداء وعلينا البلاغ، فقام ينادي في سبعين ألف، قام ينادي فيهم قائلا: يا أيها العبد العاصي الذي بارز الله بالمعصية أربعين عامًا، اخرج من بين أظهرنا؛ فبشؤم ذنبك مُنِعْنَا القطر من السماء، فيوحي الله إلي موسى أنه تلفت هذا العبد يمينًا وشمالا لعله يخرج غيره، فعلم أنه المقصود بذلك، فقال في نفسه: إن خرجت افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن بقيت هلكت وهلكوا جميعًا بالقحط والجدب. فماذا كان منه ؟ ما كان منه إلا أن ادخل رأسه في ثيابه ، وقال: يا رب عصيتك أربعين وأمهلتني، واليوم قد أقبلت إليك طائعًا تائبًا نادمًا ، فاقبلني واسترني بين الخلق هؤلاء -يا أكرم الأكرمين-؛ فلم يستتم الكلام حتى علتْ السماء سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال موسى لربه -سبحانه وتعالي- قال كليم الله لربه: يا رب سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال: يا موسى أسقيتكم بالذي منعتكم به، بنفس العبد الذي منعتكم به أسقيتكم به، قال: يا رب أرني هذا العبد الطائع التائب النادم، قال: يا موسى لم أكن لأفضحه وهو يعصيني أفأفضحه وهو يطيعني؟
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** وأستعيذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
لا إله إلا الله، ما أرحم الله، ما أحكم الله، هو القائل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ما جزاؤهم ؟ (أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مغْفِرَةٌ من ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) هو القائل كما أخبر المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي " يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم لو أتيتني بتراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بترابها مغفرة"
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا *** ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه *** جلاله عن العطا لذي الخَطَا
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ، هو القائل كما في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا ، فاستغفروني أغفر لكم" هو القائل في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) ما أكرم الله -جل وعلا-! ما أكرم الله -سبحانه وتعالى-! هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، ولن يهلك على الله إلا هالك ، فيا مخطئاً وكلنا ذوو خطأ، ويا من سقط في المعصية وكلنا ذاك الرجل، ويا من زلَّتْ قدمه وكلنا ذاك الرجل، صحح أخطاءك، وعالج أمراضك، وغسِّل نفسك مما قد ران عليها، واستأنف الحياة في ثوب التوبة النقي النظيف، واسمع لداعي الله -جل وعلا- يوم يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
توضأ بماء التوبة اليوم نادمًا *** به ترأى أبواب الجنان الثماني(/3)
كلنا ذوو خطأ، والله يمهل ولا يهمل، ويحب التوابين والمتطهرين، ولذلك فتح باب التوبة أمام المخطئين ليتوبوا ويؤوبوا ويعودوا إلى رشدهم، فيغفر لهم ما اقترفوه من إثم وخطيئة وموبقة وصغيرة وكبيرة ؛ فله الحمد أولا وآخر وظاهرًا وباطنًا.
هاهو كما في [البخاري]: رجل من بني إسرائيل أسرف على نفسه كثيرًا، وهو موحد لم يشرك بالله –جل وعلا- قتل وزنا وسرق وغش وكذب واحتال وشهد الزور وأساء كل الإساءة، انتهك حرمات الله، تكبر وتجبر، وحلت به سكرات الموت التي لم يُعفَ منها أحد حتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جمع أبناءه في تلك الساعة ، ساعة لا ينفع فيها مال ، ولا ينفع فيها ولد، ولا ينفع فيها منصب، ولا ينفع فيها جاه، جمع أولاده وقال: أي أبٍ كنت لكم ؟ قالوا: خير أب، قال: فوالذي نفسي بيده ما عملت خيرًا قط، غير أني أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فأضرموا فيَّ نارًا، ثم القوني في النار حتى أصير فحمًا، ثم اسحقوني، ثم زروني مع الريح، فمات فنفذوا وصيته، أضرموا له النار، ورموه فيها حتى صار فحمًا، ثم سحقوه، ثم ذروه مع الريح، تفرق على ذرى الجبال، وعلى رؤوس الأشجار، وعلى السهول والوِهَاد وعلى الأنهار، لكن الذي بدأه أول مرة يعيده، قال الله له: كن فكان، قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ أما علمت أني أستر العيب، وأغفر الذنب، قال: يا رب خفتك وخشيت ذنوبي، قال: أشهدكم يا ملائكتي بأني قد غفرت له وأدخلته الجنة. فلا إله إلا الله، ما أرحم الله! ما ألطف الله بعباده! ما أحلم الله على عباده! (وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رحِيمًا) وكلنا ذوو خطأ .(/4)
هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع فيفتتن بها، وصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" افتُتن بها فراودها على نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالا ولا دينارًا ولا درهمًا، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار، ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب ولما طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: ها أنا ذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل، فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالسًا، قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله –عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضًا إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني ، فماذا كان منه ؟ قال: بلدي في المكان الفلاني ، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، -وهو يريد الخلاص منها- أما هو فذهب وخرج نادمًا على تفكيره في عمل المعصية، نادمًا على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم –هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئًا، وكأن الله –عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب ، أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة وآلمتها مرارة الكبيرة ولسعتها مرارة المعصية وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سببًا في توبتها إلى الله- جل وعلا- ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات –كما ذكر ذلك [ابن قدامة] في كتابه التوابين -. فكان منها أن حزنت حزنًا عظيمًا، وقالت: لأتزوجنَّ قريبًا من أقربائه حبًا فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حبًا في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين، فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟، آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نؤوب أيها الأحبة. قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب؟ إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها -سبحانه وبحمده- القائل: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ
خالف هواك إذا دعاك لريبة *** فلا خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي ***حتى متى وإلى متى وإلى متى
هاهو أحد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- [أبو محجن الثقفي] ممن أسلم مع ثقيف حين أسلمت ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه تمادى في شرب الخمر، تلك الكبيرة من الكبائر، وما زال يُجلد بعد عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أكثر من ذلك سجنوه وأوثقوه ، فلما كان يوم القادسية رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين ، فأرسل لامرأة [سعد بن أبي وقاص]، وقد كان مسجونًا في بيت سعد ، قائلاً : يا بنت آل حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك ؟ قال: تخُلِّي عني ، وتعيرنني البلقاء -فرس [سعد بن أبي وقاص]– فأقاتل مع المسلمين، ولله عليّ إن سلَّمَني الله أن أرجع فأضع رجلي في القيد كما كنت، قالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده، نفسه مشتاقة للجهاد في سبيل الله، ويرى أن المسلمين يُنال منهم ما ينال، فيقول:
كفى حزنًا أن تُرديَ الخيل بالقنا *** وأترك مشدودًا علىَّ وثاقيا
إذا قمت عن نار الحديد وغُلِّقت *** مصاريع دوني قد تصمُّ المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وأخوة *** فقد تركوني واحدًا لا أخَ ليا
فلله عهد لا أقيس بعهده *** لأن فرجت ألا أزور الحوانيا(/5)
فقالت [سلمى]: لقد اخترت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، وأعطته فرس [سعد] الذي كان في الدار، وأعطته مع ذلك سلاحًا، فخرج كالأسد يركض حتى لحق بالجيش المسلم، فجعل لا يزال يحمل على مشركٍ إلا دق صلبه وقتله، حمل على ميسرة القوم، ثم حمل على ميمنة القوم، كان يقصفهم -ليلتئِذٍ- قصفًا عظيمًا، حتى تعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، تعجب سعد وهو يرقب المعركة، ويقول: من ذلك الفارس الملثم؟ ولِمَ يتلثم؟ ولِمَ لمْ يظهر إلا في آخر النهار؟ تساؤلات ترد على ذهن سعد ولم يلبسوا إلا قليلا حتى هزم أعداء الله -عز وجل- ورجع أبو محجن ورد السلاح، وجعل رجليْه في القيد، وعاد سعد، فقالت امرأته: هنيئًا لكم النصر، كيف قتالكم اليوم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقي جند الله ما لقي، ولقوا ولقوا ويذكر لها حتى بعث الله رجلا على فرس أبلق، فلولا والله أني تركت أبا محجن في القيد لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، قالت: إنه -والله- لأبي محجن، وذكرت له ما كان من أمره؛ من أمره كذا وكذا، فما كان من سعد إلا أن ذرف الدموع، وقال: حلوا قيوده ، وأتوني به، فأتوا به إليه، قال: يا أبا محجن -والله- إني لأرجو الله ألا أجلدك على خمر بعد اليوم أبدًا ، قال: لا والله ما أشربها بعد اليوم أبدًا ، قد كنت أشربها فتطهرني بالحد والجلد، وأما اليوم فإن شربتها فلا يطهرني إلا النار، فلم يشربها بعد ذلك أبدًا .
فخالف النفس والشيطان وأعصهما *** وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهم
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا) فمن تجيب
أخي المسلم؟ العز في كنف العزيز، ومن عبد العبيد أذَلَّه الله . هاهو شاب قوي وسيم –وأنا ما أورد هذا القصص إلا لأن فيه عبرة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى)- قوي وسيم حييٌّ عالم في أوْج شهوته وشدة شهوته ، لكنها مربوطة شهوته بقال الله وقال رسوله –صلى الله عليه وسلم-، عمره لا يجاوز الثلاثين ؛ هو [الربيع بن خثيم] ، كان في بلده فسّاق وفجَّار يتواصون على إفساد الناس وليسوا في بلد [الربيع] ، هم في بلدي وفي بلدك وفي كل بلد، ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله، يهمها أن تقود شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار ، تأخذ بحجزها لترميها على وجهها في النار، من أطاعها فليس أمامه إلا النار- تواصوا على إفساد [الربيع] ، فجاءوا بهذه الغانية، وقالوا: هذا ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من [الربيع] ، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني ، ثم ذهبت وتعرضت له في ساعة خلوة ، وأبدت مفاتنها ووقفت أمامه ، فلما رآها خرج فيها قائلا: يا أمة الله كيف بك إذا نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يديْ الرب العظيم؟ أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟ فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله -عز وجل- تقوم من ليلها ما تقوم ، وتصوم من أيامها ما تصوم ، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان يقول هؤلاء المفسدون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) فإياك وداعي الشر، إياك ودعاة الشر، واسمع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعوك إلى أن تضبط نفسك في أي مكان كنت ، أو في أي زمان كنت ، "اتقِ الله حيثما كنت، واتبع السيئة بالحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن" (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) وكلنا ذوو خطأ، لكن الحسنات يذهبن السيئات، فلا تحقر ذنبًا، ولا تستصغر معصية، ولا تستصغر كبيرة، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، القائل كما في الأثر "وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره" يقول [أنس] -رضى الله عنه وأرضاه-: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات يقول هذا لمن؟ لخير جيل عرفته البشرية، ولخير فرقة عرفتها البشرية، ولخير القرون كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-، يقول ذلك للصحابة والتابعين. فيا أيها الحبيب إنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله –سبحانه وبحمده-، إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه قاعد تحت أصل جبل، يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وإن المنافق ليرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره بيده. فيا أيها المخطئون إياكم ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا، وإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل فتهلكه.
خلِّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التُّقَى(/6)
واصنع كماشٍ فوق أرض *** الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
يا أيها المخطئون -وكلنا ذو خطأ- أفيقوا وأقلعوا عن ذنوبكم، واعزموا على ألا تعودوا، واندموا ندمًا يورث العين دمعًا، والقلب خشية، وردوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، وإنما التعامل يكون بالحسنات والسيئات، وعندها يعضُّ الظالم على يديه حتى يأكلها ولا ينفعه ندم، ولا تنفعه حسرة، لو كان الندم هنا لنفعه، ولو كانت الحسرة هنا لنفعه، لو قال: يا رب في الدنيا لقال الله: لبيك وسعديك يا عبدى، أشهدكم أني قد غفرت له.
وتذكر يا من أخطأ -وكلنا ذو خطأ- أننا على الله قادمون، وإليه راجعون، وبين يديه مسؤولون، فمنا من يقدم عليه كالرجل المسافر الغريب القادم على أهله، تراه فرحًا، وتراه مسرورًا، يوم يلقى أحبته وأهله وأبناءه وأصحابه وخِلاَّنه، ومنا من يقدم على الله -عز وجل- قدوم العبد الآبق الشارد عن سيده، تجده ذليلا حسيرًا وَجِلا خائفًا كسيرًا مهانًا (أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم من يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) شتان بين الفريقين، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). يا من قسا قلبه، ويا من صدت نفسه فأمرته بالسوء والفحشاء، هلا زرت المقابر، هلا ذهبت وأحييت هذه السنة التي كادت تموت بيننا، هل ذهبت إلى المقابر فزرتها ودعوت الله -عز وجل- لهم لترى فيها الآباء والأمهات، لترى فيها الإخوان والأخوات، لترى فيها الأحباب والأصحاب والخلان قد توُسَّدُوا التراب، وارتُهِنوا بالأعمال، ما كأنهم فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع، قد حِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم اعلم أنك -قريبًا- ستكون بينهم، ووالله لن تكون إلا في روضة أو حفرة ، القبر روضة من الجنان، أو حفرة من حفر النيران، إن يكُ خيرًا فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده، وإن يك شرًا فما بعد أشد ، ويل لعبد عن سبيل الله صد.(/7)
هاهو [دينار العيَّار]، كان مسرفًا على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة ، فتذكر مصيره ، وتذكر نهايته ، وتذكر أنه على الله قادم ، أخذ عظْمًا نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفسي، كأني بك غدًا قد صار عظمك رفاتًا، وجسمك ترابًا، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ألك قوة على النار؟ يا دينار ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟ وظل على ذلك أيامًا يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلا، فقال: يا أماه دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي موقفًا بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: بنياه أكثرت من إتعاب نفسك؟، قال: راحتها أريد، يا أماه ليتك كنت بي عقيمًا، إن لابنك في القبر حبسًا طويلا، وإن له من بعد ذلك وقوفًا بين يديْ الرحمن طويلا، وتمر ليالٍ وهو يقرأ قول الله، ويقوم ليله، بقول الله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشيًا عليه، فيا مخطئ –وكلنا ذوو خطأ- (أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ها هو [مالك بن دينار] –كما يذكر أهل السِيَر- كان شرطيًا من شُرط بني العباس، وكان يشرب الخمر، وكان صادًّا نادًّا عن الله –عز وجل- ويشاء الله –عز وجل- أن يتزوج بامرأة أحبها حبًا عظيمًا، لكنه كان لا يترك الخمر، يشربها في الصباح والمساء، ويشاء الله –عز وجل- أن يرزق بمولودة من هذه المرأة، فما كان منه إلا أن ملكت عليه لبه هذه الطفلة، ملكت عليه لبه، وملكت عليه قلبه، فكان لا ينتهي عن عمله حتى يأتي إليها ليداعبها ويمازحها، وكان يؤتى بالخمر، فإذا رأته يشرب الخمر ذهبت وكأنها تريد أن تعتنقه، فأسقطت الخمر من يده وكأنها تقول يا أبت اتقِ الله، ما الخمر لمسلم أبدًا، هكذا حالها معه، وفي يوم من الأيام يأتي من عمله ويأتي ليداعبها ويلاعبها ويرميها فتسقط ميتة، فيحزن حزنًا عظيمًا، ويجِدُ عليها وَجْدًا عظيمًا، فما كان منه في تلك الليلة -كما يخبر عن نفسه- إلا أن شرب الخمر، ثم شرب حتى الثمالة، قال: ثم نمت في تلك الليلة وبي من الهمِّ ما لا يعلمه إلا الله، قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس قد خرجوا من القبور حفاة عراة غرلا بُهمًا ، يدوخ الناس في عرصات القيامة، وإذ بهذا الثعبان العظيم فاغرًا فاه، يقصدني من بين هؤلاء الخلق جميعهم ، ويأتي إليَّ يريد أن يبتلعني، قال: وأهرب منه ويطاردني، وأهرب منه ويطاردني ، كاد قلبي أن يخرج من بين أضلاعي، وإذا أنا بهذا الشيخ الحسن السَّمْت، الرجل الوقور، قال: فتقدمت إليه فقلت: بالله عليك أنقذني، قال: لا أستطيع ، ولكن اذهب إلى من ينقذك، قال: فبقي يطاردني، فما وقفت إلا على شفير جهنم قال: فبقى من ورائي ، وجهنم من أمامي. قال: فقلت أرمي بنفسي في جهنم ، وإذا بهاتف يهتف، ويقول: ارجع ، لست من أهلها، قال: فرجعت لأدوك في عرصات القيامة وهو ورائي يطاردني، ورجعت إلى ذلك الشيخ الوقور، فقلت له: أسألك بالله أن أنقذني أو دلني، قال: فأما إنقاذك فلا، ولكني أدلُّك على ذلك القصر، لعل لك فيه وديعة، قال: فانطلقت إلى القصر، وهو لا يزال يطاردني، قال: وإذا بهذا القصر من زبرجد وياقوت، مكلل باللؤلؤ والجوهر، وإذا بالسُتُر ينادي بفتحها: افتحوا السُتُر، قال: ففتحت الستر عن أطفال مثل فلق القمر، وإذا بكل واحدة وواحد ينظر إلى هذا المنظر المهول، وإذا بابنتي من بينهن تقول: أبتاه، ثم ترمي بنفسها من القصر بيني وبين الثعبان، قال ثم تقول للثعبان بيمناها –هكذا- فينصرف، فتضرب على لحيتي، ثم تضرب على صدري، و تقول: أبتاه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) قال بل قلت: بل آن بل آن ثم قلت ما ذاك الثعبان قالت ذلك عملك السيئ كاد يرديك في جهنم .قال وما ذلك الشيخ الوقور قالت ذلك عملك الحسن ضعفته حتى ما استطاع أن يقاوم عملك السيئ قال ثم تضرب صدري ثانية وتقول أبتاه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ(/8)
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) قال: ففزعت من نومي، قال: ثم توضأت، ثم انطلقت إلى المسجد، فذهبت لأداء صلاة الفجر، قال: وإذا بالإمام يقرأ الفاتحة، ثم يبدأ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) فقلت: والله ما كأنه يعني إلا إياي. فيا أيها الأحبة أعمالكم أعمالكم، أعماركم أعماركم. كلنا ذوو خطأ ، كلنا ذوو خطأ. ها هو عبد من بني إسرائيل أطاع الله أربعين عامًا، ثم انقلبت هذه المضغة وانتكس ورجع على عقبيه، وارتد على عقبيه، فعصى الله أربعين عامًا أخرى فقال: وقد رفع يديه إلى الله، يا رب أطعتك أربعين، وعصيتك أربعين، فهل لي من توبة إن أنا تبت وأُبْت وعدت إليك يا رب؟ قال: فسمعت هاتفًا يهتف ويقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك، فلا إله إلا الله، ما أحلم الله بعباده! ما أرحم الله بعباده! ما ألطف الله بعباده! أسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته.
هاهم سلفنا –أيها الأحبة- قلوبهم بالخوف وجلة، وأعينهم باكية، يقول قائلهم: كيف نفرح والموت وراءنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى الصراط مرورنا، والوقوف بين يدي الله مشهدنا، كيف نفرح ؟! (كَانُوا قَلِيلاً من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يأتي أحدهم إلى فراشه فيلمسه في الليل، فإذا هو ناعم لين، فيقول مخاطبًا فراشه: يا فراشي –والله- إنك لليِّنٌ، ولكن فراش الجنة ألْيَنُ، ثم يقوم ليله كله حتى يصبح (كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يناجي أحدهم ويقول: يا قوم –والله- لا أسكن ولا يهدأ روعي حتى أترك جسر جهنم ورائى، والله لا أهدأ ولا أسكن حتى أترك جسر جهنم ورائي، ويجب أن نكون كذلك. كانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وكادت تنخلع خوفًا من الله –جل وعلا- خافوا الله –جل وعلا- فأمَّنَهم ؛ فهو القائل كما في الحديث القدسي " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفيْن ، ولا أجمع له أمنيْن؛ إن أمنني في الدنيا خوَّفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة" (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) كان لسان حال الواحد من سلفنا وهو يناجي ربه في ثلث الليل الآخر، ثلث الآيبين، ثلث التوابين، ثلث المستغفرين، ثلث المخطئين، ثلث النادمين الذي ضيعناه ، الذي سهرنا إلى تلك اللحظة، ثم رمينا أنفسنا كالجِيف، ونسأل الله أن يعاملنا برحمته، وإن عاملنا بعدله لعذبنا، ثم لم يظلمنا سبحانه وبحمده. كان لسان حال الواحد منهم:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا *** وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ
وقلت يا عدتي في كل نائبة *** ويا من عليه كشف الضر أعتمدُ
أشكو إليك ذنوبًا أنت تعلمها *** مالي على حملها صبر ولا جَلَدُ
وقد مددت يدي بالذل معترفا *** إليك يا خير من مدَّت إليه يده
فلا تردَّنها يا رب خائبة *** فبحر جودك يروي كل مَن يرِدُ
هذه حال سلفنا، فما حالنا يا أيها الأحبة؟ ما حالنا في ليلنا؟ وما حالنا في نهارنا؟ أما ليلنا -إلا ما رحم الله- على الأغنيات وعلى المسلسلات وعلى التمثيليات وعلى الأفلام، وعلى قيل وقال إلى الثلث الذي ينزل فيه الرب سبحانه نزولاً يليق بجلاله، هل من داعٍ فأستجيب له؟، وهل من مستغفر فأغفر له؟، هل من تائب فأتوب عليه؟، وفي تلك اللحظة نحن على قسمين -أيضًا-؛ منَّا مَن هو كالجيفة البطَّال، ومنَّا من لا زال مواصلا في غيِّة وظلمه، يدعوه الله إلى التوبة وهو مازال على فسقه وعلى فجوره، أما يخشى أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد)
يا راقد الليل مسرورًا بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا(/9)
كيف كان ليل سلفنا ؟ هاهو أحدهم؛ وهو [رياح بن عمر القيسي] عليه رحمة الله، أحد التابعين، تزوج امرأة صالحة، وأراد أن يختبرها، أراد أن يختبرها هل هي من اللاتي تركن إلى زخارف الدنيا؟ هل هي الصائمة القائمة أم هي المشغولة بقيل وقال وبالأزياء والموديلات وما أشبه ذلك من زخارف الدنيا؟ يوم جاء الصباح ما كان منه إلا أن رآها تعجن عجينها، وتعمل عمل البيت تقُومُ ببيتها، فقال: يا [دؤابة]، -واسمها دؤابة- أتريدين أن أشترى لك أَمَة لتخدمك؟ قالت: يا رياح إني تزوجت [رياحًا]، وما تزوجت جبارًا عنيدًا، ثم جاء الليل، قام يتناوم، فقامت ربع الليل الأول، وقالت له: يا رياح قم، قال: أقوم، ثم نام مرة أخرى، فقامت الربع الثاني، وقالت: يا رياح قم، فتناوم –أيضًا- مرة أخرى، ثم قامت ربع الليل الثالث، ثم قالت: يا رياح قم، فقال: أقوم ولم يقم، فقالت: يا رياح قد فاز المحسنون، وعسكر المعسكرون، يا ليت شعري من غرَّني بك؟، يا ليت شعري من غرني بك؟، تقول اتغريت فيك ووقعت بإنسان لا يقوم الليل -مع أنه يقوم الليل، ولكنه أراد أن يختبرها-. فهل جعلنا لثلث الليل الآخر منا لو ركعتين علّ الله أن يرضى علينا بنظرة رحمة، وبنظرة عطف فيرحمنا في الدنيا والآخرة، فنسعد في الدنيا والآخرة سعادة الأبد. نسأله الله -سبحانه وبحمده- أن يجعلنا من المرحومين المغفور لهم. أما في النهار فما حالنا ؟ منا -والله أيها الأحبة- مَن يخرج الصباح مِن بيته فيجمع الحرام، يبحث عن الحرام أيًا كان، فيجمع الحرام، فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام. فما حال سلفك يا عبد الله؟ إن امرأة من السلف يوم يخرج زوجها في الصباح تقول له: اتقِ الله ولا تطعمنا إلا حلالاً، فإنا نصبر على الجوع، لكنا لا نصبر على النار، فهل قال لنا نساؤنا كذلك ونحن نخرج ، يا أيها الأحبة؟ ثم بعد ذلك نرجو النجاح، بعد هذه الأعمال، وبعد هذا الليل المخزي، وبعد هذا النهار المخزي، نرجو النجاة:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليَبَس
ركوبك النعش ينسيك الركوب *** على ما كنت تركب من بعل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد *** وضمَّة القبر تنسي ليلة العُرْس
أبناؤنا كيف نربيهم؟ ربيناهم تربية مادية، وهيَّأناهم تهيئة مادية، فجعل الواحد همَّه في سيارة وفي ثوب وفي زخرف من زخارف الدنيا وفي قصر، ونسي قصور الجنة، وأنهار الجنة، ونعيم الجنة، أشغلناه بهذا عن ذاك، ربيناه تربية البهائم، سمَّنَّاه كما تُسمَّن العجول، ثم ماذا يكون؟ هل هذه هي المسئولية التي وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عنقك " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...... " "ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشا لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" هيَّأنا لهم كل مادة، لكنا لم نُرَبِّي أرواحهم، ثم نرجو نجاتهم، فوالله ما مثلنا إلا كقول القائل:
ألقاه في الماء مكتوفًا وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء
أما أبناء سلفنا فكيف كانوا؟ سأضع لكم نموذجًا، كيف كانوا يربونهم؟ وكيف كانوا يتعاملون معهم؟ وكيف تربوا فأصبح الطفل منهم كالرجل منا، بل كالعابد الزاهد منا. هاهو [خيثمة بن الحارث] -عليه رضوان الله ورحمته- ما كان منه يوم أن دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنُفرة إلى غزوة بدر إلا أن جاء إلى ابن له اسمه [سعد]، ابن صغير، وكان معه من النساء الكثير، ومعه من البنات والأخوات يعولهن هذا الرجل الكبير [خيثمة بن الحارث] فقال لابنه [سعد]: يا بني تعلم نساءنا، وليس لهن من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن وأذهب لأجاهد في سبيل الله جل وعلا ، قال: يا أبتاه للنساء رب يحميهن، والله ما تطمع نفسي في هذه الدنيا بشيء دونك، لكنها الجنة يا أبتاه، والله لو كان غير الجنة لآثرتك به، وانطلق يجاهد في سبيل الله، وجلس الأب الكبير مع هؤلاء النساء، وقُتِل شهيدًا -بإذن الله- في سبيل الله هذا الطفل، يوم جاء الخبر أباه في اليوم الثاني قالوا له: لقد قتل نحتسبه شهيدًا عند الله -جل وعلا- فما كان منه إلا أن قال: أواه أواه، والله لقد فاز بها دوني، والله لقد كان أعقل مني، لقد رأيته البارحة يسرح ويمرح في أنهار الجنة وثمارها وأزهارها ، ويقول: يا أبتاه إلْحَقْ بنا، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
ومع ذلك الظلام الذي نراه الآن فهناك بشائر -ولله الحمد- والباب مفتوح يا أيها الأحبة، ولن يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها أو غرغرة الروح في الحلقوم، المبشرات كما قلت كثيرة وكثيرة ولله الحمد، والصور المضيئة كثيرة وكثيرة، والخير في الأمة لا زال ولن يزال بإذن الله إلى قيام الساعة " لا تزال طائفة على الحق منصورة ......" ولولا هذه المبشرات لضاقت علينا الأرض بما رحبت ، ولكن من فضل الله -سبحانه وتعالي- علينا.(/10)
كانت النماذج يا أيها الأحبة- من الماضي، فإليكم النماذج من الحاضر، وهي مبشرات أقولها لكل من آلمَه ما يرى من تدهور حال الأمة المسلمة وذهابها إلى الهاوية، هناك بشائر وسأذكر لكم بعض الأمثلة على ذلك ، هاهي عجوز بلغت الثمانين من عمرها في مدينة <الرياض> هذه العجوز جلست مع النساء فرأت أنهن لا ينتفعن من أوقاتهن، جلساتهن في قيل وقال، في غيبة ونميمة، في فلانة قصيرة وفلانة طويلة وفلانة عندها كذا، وفلانة ليس عندها كذا، وفلانة طلقت، وفلانة تزوجت، كلامًا -إن لم يبعدهن عن الله عز وجل- فهو تضييع لأوقاتهن، فاعتزلت النساء وجلست في بيتها تذكر الله -عز وجل- آناء الليل وأطراف النهار، وكان أن وضعت لها سجادة في البيت تقوم من الليل أكثره، وفي ليلة من الليالي قامت -ولها ولد بار بها، لا تملك غير هذا الولد من هذه الدنيا بعد الله -جل وعلا- ما كان منها إلا أن قامت لتصلى في ليلة من الليالي، وفي آخر الليل يقول ابنها: وإذا بها تنادي، قال: فتقدمت وذهبت إليها، فإذا هي ساجدة على هيئة السجود، وتقول: يا بني ما يتحرك في الآن سوى لساني، قال إذاً أذهب بك إلى المستشفى، قالت: لا، وإنما أَقْعِدني هنا، قال: لا، والله لأذهبن بك إلى المستشفى -وقد كان حريصًا على برِّها جزاه الله خيرًا- فأخذها وذهب بها إلى المستشفى، وتجمع الأطباء وقام كل منهم يدلي بما لديه من الأسباب، لكن لا ينجي حذر من قدر.
إن الطبيب بطبِّه ودوائه *** لا يستطيع دفاع نَحْبٍ قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي *** قد كان يُبرئ مثله فيما مضى
مات المداوِي والمداوَى والذي *** جلب الدواء وباعه ومن اشترى
حلَّلوا وفعلوا وعملوا، ولكن الشفاء بيد الله -سبحانه وبحمده-، قالت: أسألك بالله إلا رددتني على سجادتي في بيتي، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ويوم ذهب إلى البيت وضَّأها ثم أعادها على سجادتها، فقامت تصلى. يقول: وقبل الفجر بوقت ليس بالطويل، وإذ بها تناديني، وتقول: يا بني أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لتلفظ نفسها إلى بارئها -سبحانه وبحمده- فما كان من ولدها إلا أن قام فغسَّلها وهي ساجدة، وكفَّنها وهي ساجدة، وحملوها إلى الصلاة عليها وهي ساجدة، وحملوها بنعشها إلى المقبرة وهي ساجدة، وجاءوا بها إلى القبر فزادوا في عرض القبر لتدفن وهي ساجدة، ومن مات على شيء بُعثَ عليه، تبعث بإذن ربها ساجدة.
(يُثَبِّتُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ) أيعجز شبابنا، أيعجز شاباتنا، أيعجز نساؤنا، أيعجز رجالنا أن يفعلوا كما فعلت هذه المرأة؛ أن يقوموا من ليلهم ولو بعضه؛ ليقفوا بين يدي الله، ليلقوه وقد غفر لهم ما اقترفوا من إثم وخطيئة؟. أسأل الله –عز وجل- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.(/11)
المبشرات كثيرة جدًا كما قلت أيها الأحبة. أورد صاحب كتاب قصص السعداء والأشقياء هذا الحدث وفيه عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع. سائق الإسعاف كان فظًا غليظًا، لا يتذكر إذا ذُكِّر، ولا يتعظ إذا وُعظ، يباشر الحوادث الشنيعة فيحمل أشلاء المصابين، رأس المصاب في يد، ورجل المصاب الآخر في يد أخرى، فلا يهزُّه ذلك المنظر، ولا يؤثر فيه، كان تاركًا للصلاة، مرتكبًا للموبقات، ويشاء الله –عز وجل كما يقول هو- أن بُلِّغت ليلة من الليالي عن حادث من الحوادث على مدخل مدينة <الرياض>، قال: في الساعة الواحدة ليلاً، قال: ركبت السيارة، وانطلقت مسرعًا نحو الحادث، ووصلت إلى موقع الحادث؛ فإذا بي أجد سيارة بيضاء قد ارتطمت بأحد أعمدة الإنارة –أحد أعمدة الكهرباء- قال: وأدت إلى انطفاء الكهرباء في تلك المنطقة، قال: والغريب أني أرى نورًا خافتًا ينبعث من السيارة، قال: فانطلقت متوجهًا إلى باب السيارة، وكان في يدي سيجارة، قال: فإذا بي أري رجلاً كَثَّ اللحية، مستنير الوجه –وجهه كأن فلقه قمر- قد ملأ نور وجهه السيارة، وقد ارتطمت أجزاؤه السفلي بمقود السيارة، قال: فحاولت أن أعيد المقعد إلى الخلف لأنقذه، فقال: أتريد أن تنقذني يا بني؟ قلت: نعم، قال: إذا سمحت أطفئ سيجارتك، واتق الله –جل وعلا-. قال: فما كان مني إلا أن أطفأتها، ورجعت أحاول إنقاذه، قال: وما استطعت أن أخرجه كما ينبغي، قال أتريد أن تنقذني فعلاً، قال: نعم، قال: فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، والله يا بني لا أملك لك مكافأة على إنقاذي إلا نصيحة أوجهها إليك، فهل تقبل ذلك؟ قال: قلت: تفضل، قال: عليك بتقوى الله، عليك بتقوى الله عليك بتقوى الله، وإياك ورفقة السوء. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم مات، قال: فارتجفت مكاني، وأخذته من هناك، وأخذته في السيارة، وسلمته في قسم الحوادث في الساعة الثالثة ليلاً، قال: ولم أستطع النوم، كلماته لازالت تَرِنُّ في أذني، قال: وقمت إلى صلاة الفجر، وتوضأت وصليت، وأخبرت إمام المسجد الذي بالحي بما حصل، فقال: احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، وادع الله له؛ وادع الله عز وجل له فخير ما تكافئه به الدعاء، ثم يقول هذا الرجل: فاسأل الله أن يرحمه، وأن يغفر له، وأن يجمعني به في الجنة " لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم". أرأيتم أيها الأحبة، رجلاً يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلم أنه مسئول أمام الله أن يأمر وينهي، فماذا كان منه؟ يقول له: أطفئ سيجارتك، ويقول له: اتقِ الله، وبعضنا يرى المنكرات والعظائم أمام عينه فلا تهتز فيه شعرة، ويذهب ويخرس كالشيطان لا يتكلم بكلمة، ألا فاتقوا الله، وقولوا كلمة الحق، لا تخشوا في الله لومة لائم؛ فإن الله ينفع بها، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحدا خيراً لك من حُمر النِّعم،(/12)
وهاهو حدث آخر حدث في مدينة >الرياض<، وقد نقلته قبل ذلك في محاضرة كل يغدو ولكن أرى أن المقام مناسب له الآن، رجل عمره ما بين الثلاثين والأربعين، شاب في مقتبل شبابه، لا يرتاح ليلة من الليالي إلا على كأس خمر يشربها، أو امرأة يزني بها، حياته مظلمة، عربدة وفساد وعناد وبُعد عن الله الواحد الدَّيان، تمر به الأيام والليالي، ويشاء الله أن يتزوج بزوجة، وبعد زواجه يزداد طغيانه، ويزداد عصيانه، ويرزقه الله عز وجل بابنة من زوجته لتترعرع وتبلغ الخامسة من عمرها، ترعرعت وبلغت الخامسة من عمرها وهي لا ترى أباها إلا قليلاً، يسهر ليله على معصية الله، ثم يأتي مُنهكًا لينام، ونادرًا ما تراه ابنته، في الليل نائمة وهو سهران على المعاصي، وفي النهار في عمله وهي في البيت، تمر الأيام وتمر الليالي فلا يزداد إلا سوء، وفي ليلة يتفق مع بعض قرناء السوء يجتمعون على شرب الخمور، ويقدِّر الرحمن أن يتأخر عن هؤلاء الرفقة السيئين، ثم يقول هو عن نفسه: ذهبت وفتشت عنهم يمنة ويسرة، نظرت إليهم هنا وهناك –يبحث عنهم- فلم أجدهم، قال: فما كان مني إلا أن ذهبت إلى صديق سوء آخر، فذهبت إليه وأخذت منه فيلمًا ماجنًا خليعًا جنسيًا يستحي إبليس أن ينظر إلى ذلك، فكيف بالبشر؟، قال: ثم أخذته وعدت به في الساعة الثانية ليلاً ، ولا إله إلا الله، ثلث الليل الآخر يتنزل الرب، هل من داعٍ فأستجيب له، ومنا من تهراق دموعه على خدِّه من خشية الله، فذلك هو الفائز، ومِنَّا من يرضع المعاصي في تلك الساعة وخاصة هذه الأيام مع قدوم البث المباشر ، في الساعة الثانية ليلاً الله يقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟، والناس ينظرون إلى ما يغضب الله –جل وعلا- قال: فدخلت إلى بيتي ونظرت إلى زوجتي وابنتي فوجدتهم نائمتين، قال: ودخلت إلى غرفة ذلك الجهاز؛ –يقصد الفيديو- الذي خرب بيوت كثير من المسلمين، وأضاع شباب المسلمين، قال: فدخلت ووضعت الشريط في ذلك الجهاز، ثم جلست، وبينما أنا جالس وإذا بالباب يفتح، وإذا بها ابنتي –عمرها خمس سنوات- وإذا بها تدخل وتنظر إلىّ بنظرات حادة، بنظرات قوية وتقول: عيب عليك يا والدي، اتقِ الله، عيب عليك يا والدي اتقِ الله، قال: ذهلت ودهشت، وقلت: من علَّمها؟، من أنطقها؟ إنه رب الأرباب –سبحانه وبحمده- قال: وأغلقت الجهاز، وخرجت ونظرت إليها، فإذا هي نائمة، قال: فخرجت وأنا أتذكر قولتها: عيب عليك يا والدي، اتق الله، بقيت في الشارع أمشي وآتي، وإذا بمنادٍ ينادي الله أكبر ، الله أكبر نداء صلاة الفجر الذي حُرِمَه كثير من المسلمين، والذي ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن من عِظَم الأجر فيه لو لم يكن من الإنسان إلا أن يأتي حبوًا لتلك الصلاة لجاء حبوًا، قال: فذهبت وتوضأت ودخلت في المسجد، وما كنت أصلي أبدًا، قال: وكبرت مع الإمام، قال: ويوم سجدت انفجرت من البكاء، قال وعندما انتهى الإمام من صلاته، قال الرجل الذي بجانبه: ما بك يا أخي؟، قال: قلت له: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي، سبع سنوات ما ركع فيها لله ركعة، بأي وجه يلاقي الله –جل وعلا-، قال: ثم ذهب الناس، وبقيت أتذكر جرائمي وفضائحي، وذنوبي التي عظُمت وعظمت وعظمت، قال: ونظرت في الساعة، فإذا وقت الدوام يحين، قال: فانطلقت إلى عملي، وكان لي زميل لطالما ذكرني بالله –جل وعلا- ولكنني لم أتذكر، قال: دخلت عليه ونظر إلي وقال: والله إني لأرى بوجهك اليوم شيئًا غير الذي أراه منك كل يوم، قال: لقد كان من أمري البارحة كذا وكذا وكذا وقص عليه قصته، فقال: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك لتوقظك وما أرسل إليك ملك الموت ليقبض روحك، ثم قال: إني لم أنَمْ البارحة، وأريد أن تأذن لي لأذهب لأنام، فأذن له فخرج من عنده، وذهب ودخل في مصلى الدائرة التي يعمل فيها، ثم قام يصلى من الساعة العاشرة إلى صلاة الظهر، قال: وجئته وظننت أنه ذهب إلى البيت، قال: فتقدمت إليه، ولما رآني انفجر بالبكاء، فقلت له: لِمَ لَمْ تذهب وتسترح؟، قال: يا أخي سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة، بأي وجه ألاقي ربي، والله إن بي شوقًا عظيمًا إلى الصلاة. النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة " وتواعد هو وإياه على ليلة جديدة وعلى عُمْر جديد؛ ليكون عمره تلك الليلة، وليكون عمره بدايته في ذلك اليوم، وما مضى فعُمْر لا يتشرف به، وذهب إلى بيته يريد أن يرى ابنته التي لم يرَها منذ أن قالت له كلمتها، ويدخل البيت، وإذا بزوجته تصرخ في وجهه أين أنت؟ نتصل عليك فلم نجدك، لقد ماتت ابنتك منذ لحظات ومنذ ساعات، فما كان منه إلا أن انهار، لم يتمالك نفسه إلا وهو يردد كلماتها؛ عيب عليك يا والدي، عيب عليك يا والدي، اتق الله، ثم ماذا كان؟ كان منه أن اتصل بزميل الصلاة زميله وأخبره، فجاء وكفَّنوها وصلوا عليها صلاة العصر، وذهبوا بها إلى المقبرة، ويوم وصل إلى المقبرة قال: خذ ابنتك -يقول زميله- وضَعْها في لحدها، فأخذها(/13)
ودموعه تقطر على كفنها .
وليس الذي يجرى من العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل وتقطر
ما كان منه إلا أن وضعها في القبر، ويوم وضعها في القبر قال كلامًا أبكى جميع من حضر الدفن، قال: يا أيها الناس أنا لا أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور، هذه البنت أخرجتني من الظلمات إلى النور بإذن الله -سبحانه وبحمده-، فأسأل الله أن يجمعني وإياها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أرأيتم أيها الأحبة يوم يعود العبد إلى الله فيجد الله -سبحانه وتعالى- توَّابًا رحيمًا.
يا أيها المذنبون -وكلنا ذوو خطأ- المولود إذا ولد أُذِّن في أذنه اليمنى، وإذا مات صُلِّيَ عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان إلى الصلاة، ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! إن للموت أَخْذَة تسبق اللمح بالبصر، إياكم والتسويف ؛ فإن سوف جندي من جنود إبليس.
أعماركم تمضى بسوف وربما *** لا تغنمون سوى عسى ولعلما
فاقضوا مشاربكم عجالى إنما *** أعماركم سِفْر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا *** أن تُسْترد فإنهن عوارِ
اذكروا أن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وإذا كانت نظرة الخلق إليك تمنعك من المعصية فإن الله أولى بذلك، أَصْلح ما بينك وبين الله، وتقرَّب إليه بطاعته؛ عسى أن تكون ممن يبدل الله سيئاتهم حسنات؛ فإنك عما قريب تُحمل على أكتاف الرجال ، ونفسك إن كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، وإن كانت طالحة تصيح بصرخات تقض منها المضاجع: يا ويلها، أين تذهبون بها؟
أحبتي في الله أسعد ساعة في العمر وأصدق لحظة في الحياة تلك الساعة التي يقف العبد فيها مع نفسه محاسبًا ، وقفة العتاب، وقفة الملامة ، إنها ساعة المخطئين المنيبين إلى رب العالمين ، إنها ساعة المنكسرين من خشية إله الأولين والآخرين، إنها ساعة العتاب، إنها ساعة الحساب التي يتذكر فيها العبد ما أصاب، أيام خلت وليالٍ مضت قد قصر فيها في جنب الله، إذا تذكر السيئات وما أصاب من الأوزار رق قلبه، وانكسر فؤاده من خشية الله، تذكر حقوقًا لله ضيعها، وحدودًا لله جاوزها، ومحارم لله انتهكها فانكسر فؤاده من خشية الله، ورقَّ قلبه خوفًا من الله، إنها ساعة الحزن والندامة والأسى على التفريط في جنب الله، لكن سرعان ما يزداد الألم والندم إذا تذكر أنه إلى الله صائر وراجع ومسؤول، وأنه مرتحل من هذه الدنيا ليقف بين يديْ جبار السماء والأرض، ثم يسأل نفسه، كيف ألقاه وحقوقه ضيعت؟ كيف ألقاه ومحارمه انتهكت؟ كيف ألقاه وحدوده تجاوزت؟ كيف ألقاه ؟ بأيِّ وجه ألقاه بأيِّ قدم أقف بين يديْه؟ عندها ينكسر قلبه ويرقُّ فؤاده، ولا يجد إلا أن يدمع من خشية الله، ثم لا يملك إلا أن يرفع يديْه، ربَّاه أسأت، ربَّاه ظلمت، ربَّاه أسرفت، ربَّاه ذنوبي، من أرجو لها سواك؟، من يفتح الباب إن أغلقتَه؟، من يعطي العطاء إن منعتَه؟ فيصلح الحال، وتُبدَّل السيئات -بإذن الرب- إلى حسنات؛ فالبدار البدار. انتبه عبد الله وتيقظ وادخل باب التوبة المفتوح قبل إغلاقه مبادرًا منكسرًا (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الْذِينَ يَتَّبِعُونُ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) .
أحبتي في الله العيون تذنب، والآذان تذنب، والقلوب تذنب، والأبصار تذنب، والأرجل تذنب، وكلنا ذوو خطأ وذنب. والله لا يغفر تلك الذنوب إلا التوبة النصوحة، التوبة التوبة لعلكم تفلحون ، الأوبة الأوبة، متى ما أقبلتم على الله فاستغلوا ذلك الإقبال؛ فإن النفس كالحديدة لا تلين بيد الحدَّاد إلا إذا كانت ساخنة، فإذا بردت جمدت وصارت أشدَّ من الحجارة. ألا واستغلوا اندفاع الأنفس إلى الخيرات؛ فإن لكل نفس إقبالاً وإدبارًا، ولكل خافق سكونًا
إذا هبت رياحك فاغتمنها *** فإن لكل خافقة سكونًا
ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فلا تدرى السكون متى يكون
إن صاحب الشمال -المَلَك الموكَّل بالسيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ ؛ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت عليه واحدة فضلاً مِن الله ومِنَّة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، التوبة على عَجَل قبل دنوِّ الأجل، لنندم ونقلع، ونرد المظالم، ولنخالط الصالحين؛ فبخلطة الصالحين نتذكر رب العالمين. (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتوبون من قريب فأولئك أتوب عليهم وكان الله عليما حكيما)
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
يا من يرى مد البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الألين
ويرى نياط عروقها في مخها *** والمخ في تلك العظام النُحَلِّ
رب اغفر لجمع تاب من ذلاتها *** ما كان منه في الزمان الأول(/14)
نسألك اللهم باسمك الأعظم، نسألك اللهم بعزِّك وذلِّنا إلا رحمتنا. نسألك بقوتك وضعفنا، بغناك وفقرنا إليك إلا غفرت لنا. هذه نواصينا الخاطئة الكاذبة بين يديك. عبادك سوانا كثير ولا رب لنا سواك. لا ملجأ ولا منجى إلا إليك، لا مهرب منك إلا إليك. نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، ونسألك سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه إلا رحمتنا وتقبلتنا. من يغفر الذنوب إلا أنت؟، من يستر العيوب إلا أنت؟. اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم تقبلنا فيمن تقبلت، اللهم تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوزْ عن سيئ ما عملنا، ربَّاه من يفتح الباب إن أغلقته، من يعطينا العطاء إن منعته. اللهم تقبلنا في التائبين، واغفر ذنوب المذنبين. اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، في حاجة إلى رحمتك، وأنت في غنى عن عذابنا، اللهم جازِنا بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عفوًا وغفرانا. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم الكلام وربنا محمود *** وله المكارم والعُلا والجُود
وعلى النبي محمد صلواته *** ما ناح قُمْري وأورق عُود
***********
يقول أحدهم: حبذا لو دعوت الشباب إلى أن يأخذوا في طريقهم قبل أن يأتوا إلى حضور حلقات الذكر إخوانهم الذين ربما انشغلوا وربما غفلوا.
فأقول لهم: يا أيها الأحبة لأن يهديَ الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم إن [أبا بكر] -رضي الله عنه وأرضاه- يدخل على المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيؤمن برسالته ، ثم يخرج من عنده ويرجع وقد أدخل في دين الله -بإذن الله- ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة وهم في ميزان حسناته. فهلا ركزت جهدك على أن تأتي بواحد لتذيقه ما ذُقتَه من حلاوة الإيمان. إن من أعظم الأخوة علينا أن نشارك غيرنا فيما نشترك فيه في حلقات الذكر. إن المؤمنين وهم في الجنة على مقاعدهم إخوانًا على سُرُر متقابلين يتذكرون بعض إخوانهم من أصحاب الكبائر، يتذكرون بعض إخوانهم فيقولون: يا رب كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ فيأذن الله –عز وجل- بالشفاعة لكل رجل جلس مع آخر ولو لساعة واحدة يذكر فيها الله –عز وجل-. " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتذاكرونه ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أنَّا اتَّجهنا ، وسبحان الله وبحمده، أشهد أن لا إله إلا هو، أحمده وأستغفره وأتوب إليه.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/15)
كن ربانيا ولا تكن رمضانيا ... ...
محمد حسان ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الثوابت الإيمانية 2- الاستقامة على الدين 3- الاستعانة بالله ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أحبتي في الله:
إننا اليوم على موعد مع لقاء من الأهمية البالغة بمكان وهو بعنوان: "كن ربانياً ولا تكن رمضانياً" وكما تعودنا دائماً حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا فسوف نركز هذا الموضوع في العناصر التالية:
أولاً: الثوابت الإيمانية.
ثانياً: عرفت فالزم.
ثالثاً: استعن بالله ولا تعجز.
فأعيروني القلوب والأسماع والوجدان أيها الأحبة، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله ،وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: الثوابت الإيمانية.
أحبتي في الله:
ها هو رمضان قد انتهى فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، لقد انتهى شهر الصيام، انتهى شهر القيام والقرآن، انتهى شهر البر والجود والإحسان، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر.
فليت شعري من المقبول منا في رمضان فنهنيه ومن المطرود المحروم منا فنعزيه.
فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليالي ذات أنوارِ
على ليالي لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام و أوزارِ
ما كان أحسننا و الشمل مجتمع منا المصلي و منا القانت القاري
فابكوا على ما مضى في الشهر و اغتنموا ما قد بقي من فضل أعمارِ
أيها الفضلاء الأعزاء:
مما لا ريب فيه أن الله جل وعلا قد فضل شهر رمضان على سائر الشهور والأزمان، واختصه بكثير من رحماته وبركاته، ويسر الله فيه الطاعة لعباده مما لا يحتاج إلى دليل أو برهان، فأنت ترى المسلمين في رمضان ينطلقون بأريحية ويسر إلى طاعة الرحيم الرحمن جل وعلا، ولم لا؟! وقد غُلِّقت أبواب الجحيم، وفتحت أبواب النعيم، وغل فيه مردة الجن والشياطين، فأنت ترى الناس تقبل على طاعة الله وعبادته بأريحية عجيبة، ولكن ما يحزن القلب ويؤلم النفس أنك ترى كثيراً ممن عطروا بأنفاسهم الزكية المساجد في رمضان يعرضون عن طاعة الله رب البرية بعد رمضان، وكأنهم في رمضان يعبدون ربا أخر، فالإيمان له ثوابت لا يستغني عنها المؤمن حتى يلقى الكبير المتعال، فمثلاً الصلاة: من من المؤمنين الصادقين يستغني عن الصلاة بعد رمضان؟! انظر إلى المساجد في رمضان، وانظر إلى ذات المساجد بعد رمضان.
أيها الموحدون: هل يستغني مؤمن صادق مع الله عن هذا الأصل الأصيل وعن هذه الثوابت الإيمانية حتى يلقى رب البرية وهو الركن الثاني من أركان هذا الدين قال تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]
وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
وحذر الله أشد التحذير من تضييع الصلاة ومن تركها في رمضان أو غير رمضان فقال جل وعلا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
وقال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:38-43].
فيا من هيأ الله له صيام شهر رمضان لا تضع الصلاة، فالصلاة صلة لك بالله، ومعين لك يطهرك من المعاصي والذنوب، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أَعَدَّ الله له نُزلاً في الجنة كلما غدا أو راح))([1]).
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبي قال: ((ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ))([2]).
افترض الله على المؤمنين الصلاة وتعبدهم بها في كل زمان ومكان حتى يلقى العبد ربه ليُسأل أول ما يُسأل عن الصلاة.
فعن أبي هريرة قال: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر))([3]).
أيها الموحدون: ومن الثوابت الإيمانية: القرآن
إن القرآن حياة القلوب والأرواح، القرآن حياة النفوس والصدور، القرآن حياة الأبدان، القرآن شراب النفس وطعامها، فهل يستغني مؤمن عن روحه؟! هل يستغني مؤمن عن أصل حياته، إن القرآن يهدى للتي هي أقوم فلا تضيعوا هذا الطريق ولا تنصرفوا عنها.(/1)
إن طرف القرآن بيد الله، وإن طرفه أيديكم فإذا تمسكتم بهذا الحبل المتين لن تضلوا، ولن تهلكوا أبداً، وهل يستغني أحد عن أن يكلمه الله في اليوم مرات، فمن أراد أن يكلم الله فليدخل في الصلاة ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن، وهل تستغن عن ربك أيها الموحد؟!، لا تضيع القرآن بعد رمضان ،واعلم أن الله قد مَنَّ عليك بالقرآن في رمضان فجعلت لنفسك ورداً يومياً، فلماذا بعد رمضان تركت هذا الورد ووضعت المصحف في علبته كأنك لن تحتاج إليه إلا في رمضان المقبل؟!
فيا أيها الحبيب الكريم:
اقرأ القرآن واعمل بما فيه، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) ((اقرؤوا الزهراوين: البقرة، وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) ((اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة))([4]).
ويقول كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار))([5]).
((رجل أتاه القرآن فهو يقرأه آناء الليل وآناء النهار)) أي في سائر العام فلا تهجروا القرآن يا أمة القرآن بعد رمضان، ومن الثوابت التي لا غنى عنها للمؤمن بعد رمضان: ذكر الرحيم الرحمن.
أخي الكريم:
إذا كنت تحافظ على الأذكار والاستغفار في رمضان، فهل تستغني عن هذا الزاد بقية العام، إن الذكر شفاء من الأسقام ومرضاة للرحمن ومطردة للشيطان، فرطِّب لسانك دوماً بذكر الرحيم الرحمن جل وعلا، واسمع لحبيبك المصطفى كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني من حديث معاذ بن جبل يقول : ((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم))؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((ذكر الله عز وجل))([6]).
انظر إلى فضل الذكر، فالذاكر في معية الله، كما في الصحيحين أنه قال: ((قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه حين يذكرني فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلىَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشى، أتيته هرولةً))([7]).
فاذكر الله جلا وعلا لتكون دوماً في معيته سبحانه وتعالى، والمعية نوعان: معية عامة، ومعية خاصة، أما المعية العامة فهي معية العلم والمراقبة والإحاطة والمعية الخاصة فهي معية الحفظ والنصر والعون والمدد والتأييد، فهل تستغني أيها المؤمن عن معية الله جل وعلا؟!!
فإذا أردت ذلك فداوم على الذكر ولا تضع هذا النور أبداً، ويكفى أن تعلم أن النبي قال في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري الطويل ((… وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، وكذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله))([8]).
إذاً لابد لك من هذا الزاد لأن فيه الخير العظيم، فالذكر من الثوابت التي لا غنى عنها بحال لا في رمضان ولا في غير رمضان.
ومن الثوابت الإيمانية أيضاً: الإحسان إلى الناس.
إننا نرى كثيراً من الناس لا تظهر عليهم علامات الجود والكرم إلا في رمضان فقط، فإذا ما انتهى رمضان لا تجد إلا العبوس في وجه الفقراء ولا نجد إلا البخل والشح ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أنت قد منَّ الله عليك بالإنفاق على الفقراء والمساكين وكثير من أوجه الخير في رمضان فهلا عودت نفسك على الإنفاق حتى ولو بالقليل.
ففي الصحيحين من حديث عدي أن الحبيب النبي قال: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة))([9]).
فالإحسان من الثوابت الإيمانية التي لا يستغني عنها مؤمن في رمضان ولا في غير رمضان حتى يلقى ربه جل وعلا.
ومن هذه الثوابت الإيمانية أيضاً: قيام الليل.
في رمضان وُفقت بفضل الله ورحمته ومنته إلى صلاة التراويح والقيام فلماذا لا تستمر على هذا الدرب المنير؟.. لماذا تضيع القيام بالليل.
اسمع للنبي وهو يقول في الحديث الذي رواه الحاكم وابن خزيمة والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي أمامة يقول : ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات))([10]).(/2)
فاعمل أخي المسلم على أن تكتب من القائمين الليل ولو بركعة واعمل جاهداً أن تكون من أصحاب هذه الآية: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16].
ومن الثوابت الإيمانية: التوبة.
ما منا أحد إلا وتاب وأناب إلى الله في رمضان، فهل معنى ذلك أنه إذا انتهى رمضان انتهى زمن التوبة ولا نحتاج إلى توبة وأوبة إلى الله جل وعلا؟!
وانظر إلى حال الكثير من المسلمين تجد أن الكثير منهم ينفلتون يوم العيد إلى المعاصي والشهوات وكأنهم كانوا في سجن وبمجرد أن تم الإفراج عنهم مغرب اليوم الأخير من رمضان انطلقوا وكأنهم خرجوا من هذا السجن وسرعان ما انكبوا على أنواع المعاصي والشهوات كجائع انكب على الطعام من شدة الجوع الذي أَلَمَّ به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ذلك ليس بحال المؤمن الموحد، فإن المؤمن الموحد عمره كله عنده عبادة لرب الأرض والسماوات فتجده ينتقل من عبودية إلى عبودية، ومن طاعة إلى طاعة ومن فضل إلى فضل، لذا يجب عليك أن تكون دائماً في عبودية حتى تلقى رب البرية، يقول النبي كما في صحيح البخاري من حديث أبى هريرة: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))([11]).
النبي صلوات الله عليه وسلامه يقسم بالله، أنه يتوب ويستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل وفي رواية مسلم قال ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه واستغفره في اليوم مائة مرة))([12]).
هذا حال سيد الخلق أجمعين وإمام المرسلين فما حالنا؟! فالتوبة من الثوابت الإيمانية التي لا غنى عنها لمؤمن بعد رمضان، وهذه بعض الثوابت التي نحافظ عليها في رمضان، ويتخلى عنها أكثرنا بعد رمضان، فأحببت أن أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي بهذه الثوابت الإيمانية التي لا يستغني عنها مؤمن بحال حتى يلقى رب البرية جل وعلا.
ثانيا: عرفت فالزم.
ذقت حلاوة الإيمان وعرفت طعم الإيمان، عرفت هذا في رمضان، ما منا من أحد صام وقام رمضان وقام ليلة القدر إلا وذاق هذه الحلاوة، حلاوة شرح الصدر وسرور القلب، عرفت فالزم، الزم هذا الضرب المنير، واستقم على هذا الصراط المستقيم، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل))([13]). وفي صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: ((كان رسول الله إذا عمل عملاً أثبته))([14]). أي داوم عليه وحافظ عليه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال للنبي ((قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك)). قال الحبيب : ((قل آمنت بالله ثم استقم))([15])، قل آمنت بالله ثم استقم، أي استقم على ضرب الإيمان، استقم على طريق التوبة، استقم على طريق الاستغفار، استقم على طريق قيام الليل، استقم على طريق الإحسان، استقم على طريق هذه الثوابت الإيمانية التي أعانك الله عليها في رمضان، قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآْخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا قرأها يوماً على المنبر عمر بن الخطاب فقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ثم استقاموا على منهج الله فلم يروغوا روغان الثعالب، والاستقامة هي المداومة والثبات على الطاعة.
أيها الحبيب الكريم: عرفت فالزم.. الزم هذا الدرب ولا تنحرف عنه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
([1]) رواه البخارى رقم ( 662 ) فى الآذان ، باب فضل من غدا إلى المسجد أو راح ، ومسلم
رقم ( 669 ) فى المساجد ، باب المشى إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات .
([2]) رواه مسلم رقم ( 251 ) فى الطهارة ، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره ، والموطأ
( 1/ 161 ) فى قصر الصلاة فى السفر ، والترمذى رقم ( 51 ) فى الطهارة ، والنسائى
( 1/89-90 ) فى الطهارة .
([3]) رواه الترمذى رقم ( 413 ) فى الصلاة ، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة
الصلاة ، والنسائى ( 1/ 232 ) فى الصلاة والحاكم ( 1/ 263 ) ورواه أيضاً أحمد فى
المسند ( 5/ 72 ) وهو فى صحيح الجامع ( 2573 ) .
([4]) رواه مسلم رقم ( 804 ) فى صلاة المسافرين ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ،
والترمذى رقم ( 2886 ) فى ثواب القرآن ، باب ما جاء فى سورة آل عمران .(/3)
([5]) رواه البخارى رقم ( 5026 ) فى فضائل القرآن ، باب اغتباط صاحب القرآن ، ومسلم رقم
( 815 ) فى صلاة المسافرين ، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ، والترمذى رقم
( 1937 ) فى البر والصلة .
([6]) الموطأ موقوفاً ( 1/ 112 ) فى القرآن ، باب ما جاء فى ذكر الله تعالى ، ومرفوعاً عند أحمد
فى المسند ( 5/ 239 ) ، ( 6/ 447 ) والترمذى رقم ( 3374 ) فى الدعوات ، وابن ماجة
رقم ( 3790 ) فى الأدب وصححه الأرناؤوط فى تخريج جامع الأصول .
([7]) رواه البخارى رقم ( 7405 ) فى التوحيد ، باب قول الله تعالى : ويحذركم الله نفسه
ومسلم رقم ( 2675 ) فى الذكر ، باب الحث على ذكر الله تعالى .
([8]) أخرجه الترمذى رقم ( 2867 ) فى الأمثال ، باب ما جاء فى مثل الصلاة والصيام والصدقة
والطبرانى فى الكبير ( 3/ 285 ) رقم ( 3427 ) وابن خزيمة وابن حبان ( 1222 موارد )
والحاكم ( 1/ 117 ) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى وهو فى صحيح الجامع
( 1724)
([9]) رواه البخارى ( 6539 ) فى التوحيد ، باب كلام الرب عز وجل ، ومسلم ( 1016 ) فى الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، والترمذى ( 2427 ) فى صفة القيامة
([10]) رواه الترمذى رقم ( 3543 ، 3544 ) فى الدعوات وابن أبى الدنيا فى (( كتاب التهجد ))
وابن خزيمة فى صحيحه وحسنه الألبانى فى صحيح الترغيب ( 620 ) وهو فى صحيح
الجامع ( 4079 )
([11]) رواه البخارى رقم ( 6307 ) فى الدعوات ، باب استغفار النبى فى اليوم والليلة .
[12] رواه مسلم رقم ( 2702 ) فى الذكر والدعاء ، باب استحباب الاستغفار والإكثار منه .
([13]) رواه البخارى ( 6462 ) فى الرقاق ، باب القصد والمداومة فى العمل ، ومسلم ( 782 )
فى الصلاة ، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره ،واللفظ له والموطأ ( 1/ 118 )
وأبو داود ( 1/ 315 ) فى صلاة الليل ، والنسائى ( 3/ 218 ) فى صلاة الليل .
([14]) رواه مسلم رقم ( 746 / 141 ) فى صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل .
([15]) رواه أحمد فى المسند ( 3/ 413 ، 4/ 385 ) ومسلم رقم ( 38 ) فى الإيمان ، باب جامع
أوصاف الإسلام ، والترمذى رقم ( 2412 ) فى الزهد ، باب ما جاء فى حفظ اللسان
قال هذا حديث صحيح ، وابن ماجة رقم ( 3972 ) فى الفتن ، والدارمى ( 2710 ) فى
الرقاق ، والبيهقى فى السنن ( 6/ 320 ) وعبد الرازق فى مصنفه ( 2011 ) وابن حبان
( 2543 موارد ) والحاكم فى المستدرك ( 4/ 313 )، والخطيب فى تاريخه ( 2/ 370 ) ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة الكرام.
ثالثاً: استعن بالله ولا تعجز.
من أعانه الله على الطاعة فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول لك على طاعته، ولا قوة لك على الثبات على دينه إلا بمدده سبحانه فاستعن بالله ولا تعجز واتقه ما استطعت واطلب المدد والعون منه أن يثبتك على طريق طاعته وعلى درب نبيه وتدبر وصيته لمعاذ بن جبل.
كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما أن النبي قال لمعاذ بن جبل يوماً: ((يا معاذ والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ، لا تدعن في كل صلاة - وفي رواية- دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))([1]).
نعم اطلب العون والمدد من الله على عبادته سبحانه وأنت إن سلكت هذا الدرب المنير لن يخزك الله أبداً، أليس هو القائل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
هذا وعد منْ؟! وعد رب العالمين، ورب الكعبة سيصرف الله بصرك عن الحرام، وسيصرف الله قلبك عن الشهوات والشبهات، وسيحفظ الله فرجك من الحرام، وسيصرف الله يدك عن البطش في الحرام، وسيصرف الله قدمك من الخطأ الحرام، فأحسن أيها المسلم الموحد ليكون الله معك، فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجَّاه، ومن فوض إليه أموره كفاه، قال جل في علاه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ … [الزمر:36].(/4)
علق قلبك بالله سبحانه فهو الغنى الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ومع ذلك لو تاب إليه عبده الفقير الحقير مثلى لفرج بتوبته وهو الغنى عن العالمين يقول النبي : ((لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوِّيَّة مهلكةٍ، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله – قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده))([2]).
وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب : ((قدم على النبي سَبْيٌ، فإذا امرأة من السَّبْي تحلُب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته)) فقال لنا النبي : ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها))([3]).
والله لو تدبرت هذا الحديث لوقفت على العجب العجاب، لذا قال أحد السلف: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك أفترضاه لي وأنت أرحم الراحمين؟!!
نعم إنها رحمة الله جل وعلا، ينادي بها على عباده بهذا النداء الندى العذب: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
إنها رحمة الله التي وسعت كل شيء فاستعن بالله ولا تعجز، و إن زلت قدمك عُد وإن زلت أخرى عُد، وإن زلت للمرة الألف عُد، واعلم بأن الله لا يمل حتى تملّوا، نحن عبيده هو الذي خلقنا ويعرف ضعفنا وفقرنا وعجزنا لذا لا يريد منا الطاعة وإنما يريد منا العبودية له سبحانه وتعالى.
فالطاعة لك أنت، فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ففي صحيح مسلم من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر أن رسول الله قال: قال الله تعالى: ((... يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً…))([4]).
أيها الموحد: استعن بالله على الطاعة، واستعن بالله على أن تثبت على هذا الدرب المنير، واعلم يقيناً أن من أعظم الأسباب التي تعين العبد على أن يثبت على طاعة الله جل وعلا أن يكون وسطاً معتدلاً في طاعته لربه، لا غلواً في الإسلام ولا تنطع، فخير الأمور الوسط، لا غلو، لا إفراط، لا تفريط، لذا يقول المصطفى : ((إن الدين يسرٌ ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه فَسَدَّدوا وقاربوا و أبشروا واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوحة وشيء من الدُّلْجة))([5]).
وعن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي : ((لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فَتَرَ فليقعد))([6]).
وكلكم يعلم قصة الرهط الذين جاءوا لبيوت النبي والحديث في الصحيحين من حديث أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ؟ فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء إليهم النبي فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى))([7]).
نعم لقد جمع النبي هذا المنهج الوسط وحوله إلى منهج عملي على أرض الواقع في هذا الدعاء الرقيق الرقراق الذي رواه مسلم فقد كان النبي يدعو الله ويقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دُنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر))([8]).
إنه منهج الوسط.. منهج الاعتدال، لقد جمع النبي بكلماته هذه بين خيري الدنيا والآخرة لأن من كسب الدنيا بالعمل الصالح كسب الآخرة بإذن الله، ومن خسر الدنيا بالعمل السيء خسر الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
([1]) رواه أبو داود رقم ( 1522 ) فى الصلاة ، باب الاستغفار ، والنسائى ( 3/ 53 ) فى
السهو ، والحاكم ( 3 / 273 – 274 ) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى
وهو فى صحيح الجامع ( 7969 ) .
([2]) رواه البخارى رقم ( 6308 ) فى الدعوات ، باب التوبة ، ومسلم رقم ( 2744 ) فى
التوبة ، باب فى الحض على التوبة ، والترمذى رقم ( 2499 ، 2500 ) فى صفة القيامة
باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه .(/5)
([3]) رواه البخارى رقم ( 5999 ) فى الأدب ، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته ، ومسلم رقم
( 2754 ) فى الفضائل ، باب فى سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه .
([4]) رواه مسلم رقم ( 2577 ) فى البر والصلة ، باب تحريم الظلم ، والترمذى رقم ( 2497 )
فى صفة القيامة .
([5]) رواه البخارى رقم ( 39 ) فى الإيمان ، باب الدين يسر وهو فى صحيح الجامع ( 1611 )
([6]) رواه البخارى رقم ( 1150 ) فى التهجد ، باب ما يكره من التشديد فى العبادة ، ومسلم
رقم ( 784 ) فى صلاة المسافرين ، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره .
([7]) رواه البخارى رقم ( 5063 ) فى النكاح ، باب الترغيب فى النكاح ، ومسلم ( 1401 )
فى النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة .
([8]) رواه مسلم رقم ( 3427 ، 3428 ) فى الدعوات ، باب ما يقول إذا رأى المبتلى . ... ...
... ...
المصدر:http://www.alminbar.net ... ...(/6)
كن عابداً
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده, وابن عبده, وابن أمته, ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وقدوة العابدين, وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء:1، وبعد فإن أصدق الحديث كتاب وخير الهدي هدي محمد عبده ورسوله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن أهم واجب على المكلف, وأعظم فريضة عليه، أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم, وقد أخبرنا سبحانه في غير ما موضع من كتابه أنه خلق الثقلين لعبادته، فقال-عز وجل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي: توحيده بأنواع العبادة من الصلاة, والصوم, والزكاة, والحج, والسجود, والطواف, والذبح, والنذر, والخوف, والرجاء, والاستغاثة, والاستعانة والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسل الرسل جميعا، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها والدعوة إليها، والأمر بإخلاصها لله وحده، كما قال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة 21 . وقال-عز وجل-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الإسراء 23. ومعنى قضى ربك في هذه الآية أمر وأوصى، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}البينة 5.
وقال-عز وجل-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الحشر7، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} النساء 59.
وقال-عز وجل-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...} الآية النساء 80، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ...} الآية النحل 36، فالعبادة علة وجودنا, وسر سعادتنا في الدنيا, وثمن جنة ربنا في الآخرة.
أيها المسلمون: إن جميع الرسل-عليهم الصلاة والسلام-من أولهم إلى آخرهم دعوا إلى عبادة الله-تعالى-وحده لا شريك له : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ الأعراف : 59، كما أن الله-عز وجل - قد جعل العبودية وصفاً لأكمل خلقه وأقربهم إليه وهم الأنبياء والملائكة فقال –سبحانه- :{ أَنْ يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعاً } النساء : 172.
ووصف الله-تعالى-أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة-بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال-تعالى : { تَبَارَكَ الَذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } الفرقان : 1، وقال -سبحانه : { سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الإسراء : 1.
وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إحسان العبودية أعلى مراتب الدين، وهو الإحسان، فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان : "أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك"1. فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله-تعالى -، إذ أكرم ما يكون العبد عند الله-تعالى-عندما يكون أعظم عبادة وخضوعاً لله- عز وجل.(/1)
فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة2. والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له ، كان أقرب إليه ، وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق : أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل : احتجْ إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره . فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه ، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم ، كنت أعظم ما يكون عندهم ، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم ، وهذا من حكمة الله ورحمته ، ليكون الدين كله لله ولا يُشرَك به شيء3.
وكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله-تعالى-، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته4.
فحاجة الإنسان إلى عبادة الله -تعالى – ضرورية، وفوق كل حاجة ضرورية، يقول ابن القيم – في هذا الصدد: "اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم ، والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ؛ فإن حقيقة القلب روحه وقلبه ، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره.. ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ، ورضاه وإكرامه لها"5. فحقيقة العبد قلبه وروحه ، ولا صلاح لها إلا بإلهها، الله الذي لا إله إلا هو, فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بلقائه فلو حصل للعبد لذّات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع ، ومن شخص إلى شخص ، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملتذ به ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنه، ويضره ذلك6.
فالعبادة غاية الخضوع لأمر الله، وغاية محبته فمن أطاعه، ولم يحبه لا يكون عابداً له، ومن أحبه، ولم يخضع له لا يكون عابداً له.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ
فالغاية العظمى، والهدف النبيل من هذه العبادة هي غذاء النفس ، فكما أن الجسم غذاؤه الطعام والشراب فالنفس غذاؤها العبادة، فليس الإنسان هو الغلاف المادي الذي نحسه ونراه ، ولكن حقيقة الإنسان هو ذلك الجوهر النفيس الذي صار به سيد المخلوقات، هذا الجوهر الذي يحيى ويسعد بذكر الله والإقبال عليه، ويهلك ويشقى بالغفلة والبعد عنه.
أيها المسلمون: إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلا حسن الصلة برب الوجود، وهذا هو جوهر العبادة . فالعبودية الخالصة لله-جل جلاله-هي عين الحرية، وسبيل السيادة الحقيقية، فهي وحدها تعتق القلب من رق المخلوقين، وتحرره من الذل ، والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلة والطواغيت ، التي تستعبد الناس ، وتسترقهم.
عباد الله: إن العبادة حق الله على عباده ، فعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-قال : كنت رديف النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال لي : "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟" قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : "حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً"7 .
فالعبادة هي: التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، والهادي إلى صراطه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:(/2)
عباد الله: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-كان أعبد الناس، وأتقاهم, وأخشاهم لربه-سبحانه وتعالى-، وإن لنا القدوة الصالحة والحسنة في اتباعه واقتفاء أثره، والإقتداء به في عبادته، فالعبادة هي روح المسلم, وزاده الذي يحيى به روحه، وتعلوا بها نفسه، فقد كان-عليه الصلاة والسلام- يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان يتصدق وينفق في سبيل الله لا يخشى الفقر، وكان يجاهد في سبيل الله فيبلوا بلاءً حسناً، وكان يصوم حتى يقال أنه لا يفطر، وكان يقوم حتى يقال أنه لا ينام، وكان يحسن إلى الناس، فيساعدهم ويقضي حوائجهم، وكان يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وإلى الاستعانة به والاستغاثة، والخوف منه، وغيرها من أنواع العبادات والعقائد التي صححها للناس ودعاء إليها، كل ذلك احتساباً وعبادة وإخلاصاً لله-سبحانه وتعالى- فكن عابداً مقتدياً برسول الهدى والنور-صلى الله عليه وسلم.
أما صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ومن بعدهم من السلف الصالح فقد فقهوا عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت، همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفاً من عباراتهم، وعبادتهم:
فعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-قالت:" ما رأيت أحداً أكثر صلاة ولا صياماً منه، ولا أحداً أشدَّ فَرَقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف".
وهذا عامر بن عبد الله قيل له: " كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟"، فقال: " هل هو إلا أني صرفتُ طعام النهار إلى الليل، ونومَ الليل إلى النهار؟ وليس في ذلك خطيرُ أميرٍ". وكان إذا جاء الليل قال:" أذهب حَرُّ النار النوم" فما ينام حتى يصبح لله درهم من عُبَّاد.
وعن أحمد بن حرب قال:" يا عجباً لمن يعرف أن الجنة تُزَيَّنُ فوقه، والنار تُسَعَّرُ تحته، كيف ينام بينهما؟".
عباد لليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسدغاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إليه يستجدون رأياهم
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه.
عباد الله: إنه هؤلاء السلف الصالح كانت حياتهم عبادة, صيام في النهار، وقيام بالليل، وغزو في سبيل الله, وتنافس في أمر الآخرة، قال الحسن البصري-رحمه الله-:" من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره".
فالعبادة دأبهم وديدنهم حتى أن أحدهم كان يرغم نفسه على العبادة فيخوفها بالسوط, فهذا أبو مسلم الخولاني قد علق سوطاً في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه:" قومي فو الله لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منكِ لا مني". فهذا هو دأب الصالحين, إذ كانوا مستعدين للموت في أي وقت، وأي لحظة، فهذا منصور بن زاذان: " كان لو قيل له: إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل" وذلك لما كان عليه من عبادة للمولى تبارك وتعالى. وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له:" القيامة غداً" ما وجد متزيداً.. وكان يقول:" اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي". وقال أنس بن عياض: " رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له:" غداً القيامة" ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة".
وهذا وكيع عليه-رحمة الله-: كان عابداً فقد روي عنه أنه لم تفته التكبيرة الأولى" وكان الربيع بن خثيم يقاد إلى الصلاة وبه الفالج –الشلل-، فقيل له:" قد رُّخِّصَ لك" قال: " إني أسمع " حيَّ على الصلاة" فإن استطعتم أن تأتوها ولو حَبْواً.
أيها المؤمنون:إن حياة المؤمن كلها عبادة،وطاعة لله-تبارك وتعالى-فهذا حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله-عزوجل-فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة، وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة، وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله-عز وجل-8.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا أخيَّ المجامعُ
عبد الله: كن عابداً لله واقتدي برسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه ومن تبعهم من سلفنا الصالح من علماء ودعاءه ومخلصين، فإن كنت مقتدي فاقتدي بمن قد مات أما الحي فلا تأمن عليه الفتنة.
اللهم اجعلنا لك عابدين لك شاكرين لك ذاكرين لك منيبين يا ربنا يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد،
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - رواه مسلم.
2 - العبودية ، ص 38 .(/3)
3 - مجموع الفتاوى ، 1/39 .
4 - العبودية ، ص 80 .
5 - طريق الهجرتين ، ص 57 .
6 - راجع مجلة البيان، "العبودية لله قواعد ومسائل" د . عبد العزيز آل عبد اللطيف. بتصرف
7 - متفق عليه.
8 - راجع: علو الهمة ص(209-213).(/4)
كن في الدنيا كأنك غريب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ: أيها الأحبة: لقد حثنا النبي- صلى الله عليه وسلم- على اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات، قبل الفوات، وحثنا على الاستعداد للآخرة، وعدم الاغترار بالدنيا.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: أخذ رسول الله بمنكبي،فقال:" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ". وكان ابن عمر- رضي الله عنهما- يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)1.
يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-2: هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيء جهازه للرحيل، قال-تعالى-:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}3 .
وكان علي بن أبي طالب يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
وجاء عن بعض الحكماء: عجب ممن الدنيا مولية عنة، والآخرة مقبلة إليه بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبة له: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة بأحسن ما بحضراتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى4.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كالغريب؛ مقيم في بلد غربة، همُّه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون حاله كالمسافر ليله و نهاره، يسير إلى بلد الإقامة، لا يقيم البتة..
كما أوصى النبيُّ ابنَ عمر أن يكون في الدنيا على أحد تلك الحالين.
فهو غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه
أو ينزل نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة.. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن. لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطها منها، ووعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول.
وكان عطاء السلمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك. وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين.
فالمؤمن إذن سائر في دنياه يقطع منازل سفره، منزلاً منزلاً حتى ينتهي به ذلك إلى آخر منازل سفره؛ وهو الموت، وأول منازل إقامته وهو القبر.
ومن علم أن هذه حاله في الدنيا، فلا غرو أن تكون همته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب. وقد قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة.5
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصير برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
000000000000
1-البخاري كتاب الرقاق باب قول النبي كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل برقم (3759).
2- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (2/377-378) بتصرف وزيادات.
3- غافر:39.
4- الحلية: 5/292.
5- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (2/377-381).(/1)
كن نافعا أين ما كنت
الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
حلف الله فقال في كتابه (وَالْعَصْرِ *إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر) الليل والنهار اقسم بهما أن العباد خاسرون إلا من اتصف بأربع صفات (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..) (العصر:3)
وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة وعملوا الصالحات (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3) الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالصبر على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله المؤلمة ، فبالأمرين الأوليين يكمل الإنسان نفسه وبالأمرين الآخرين يكمل غيره وبتكميل هذه الأربعة الأمور يكون الإنسان قد سلم من الخسارة وفاز بالربح العظيم ، إذاً نجاة الإنسان موقوفة على سعيه في نفع الآخرين ونصحهم وتوصيتهم بالحق والصبر وقد قال الله –تعالى- (.. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج:77) وقال عن أصفيائه (.. وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ..) (الأنبياء:73) .
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن فعل الخيرات نتحدث وعن النفع المتعدي نتكلم وقد اجتمعنا في هذا البلد الأمين نسأل الله أن يديم أمنه وان يجعلنا إليه آيبين وان يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته . ومرحبا بكم مرحبا بهذه الوجوه التي نسأل الله تعالى أن يحفظها يوم الدين من نار السموم وان يجعلها نيرةً بطاعته وان يبيضها يوم تلقاه .
إخواني الفرصة طيبة والمشهد مجتمع لنتحدث عن كن نافعا أينما كنت انه شعار من شعار شباب الدين كن نافعا أينما كنت .ولقد أمر الله بالإحسان في كتابه فقال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ ..) (النحل:90) (.. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ..) (النحل:30) (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ ..) (الاسراء:7)
نحن يجب أن نحسن إلى الناس وان ننفعهم بشتى أنواع النفع والنبي –صلى الله عليه وسلم – اخبر أن أحب الناس إلى الله انفعهم للناس (خير الناس انفعهم للناس) انفعهم بالإحسان بالمال والجاه لأن الناس عباد الله فان نفعهم نعمة يسديها الإنسان ويدفع عنه نقمه ويرتفع شرفا وقدرا بدفع الآخرين .
قال ابن القيم – رحمه الله - : وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير وان أضدادها من اكبر الأسباب الجالبة لكل شر فما استجلبت نعم الله تعالى و استدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير وان أضدادها من اكبر الأسباب الجالبة لكل شر فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمته بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه .
كل معروف تبذله يا أخي للناس فهو صدقة كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – (كل معروف صدقة ) وهذا الكلام مهم لأن كل واحد عليه في كل يوم يقوم الصباح من النوم عليه ثلاثمائة وستين صدقة مقابل ثلاثمائة وستين مفصل من مفاصله لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – اخبرنا بقوله ( كل سلامي من الناس عليه صدقة ) هذه الصدقات الكثيرة من أين نحصلها وكيف نجمعها ثلاثمائة وستين صدقة ، نفع الناس من أبواب الصدقات العظيمة التي تحصل بها يا أخي هذه الثلاثمائة والستين وزيادة لو أردت ، قال – عليه الصلاة والسلام – ( على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقةٌ منه على نفسه ، قال أبو ذر : يا رسول الله من أين أتصدق وليس لنا أموال ؟ قال –عليه الصلاة والسلام - : لأن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله وأستغفر الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماع زوجتك أجر ، قال أبو ذر : كيف يكون لي اجر في شهوتي ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحتسب به ؟ قلت : نعم ، قال : فأنت خلقته ؟ قال : بل الله خلقه ، قال : فأنت هديته ؟ قال : بل الله هداه ، قال : فأنت ترزقه ؟ قال : بل الله كان يرزقه ، قال : كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه فان شاء الله أحياه وان شاء الله أماته ولك اجر ) والحديث صححه الألباني – رحمه الله – في السلسلة الصحيحة .(/1)
من أعظم الصدقات أداء حقوق الإخوة ، أداء الحقوق للإخوة (حق المسلم على المسلم رد السلام وعيادة المريض وإتباع الجنائز و إجابة الدعوة وتشميت العاطس ). يا أخي كل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة . يا عبد الله إذا رفعت متاع صاحبك على سيارته وحملته عليها منفعة للآخرين فهذه صدقة .
امرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبع كما قال البراء بن عازب : بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس و إبرار المقسم ونصر المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعي . لا ينبغي للمسلم يا إخوان أن يحتقر معروفا مهما كان قليلا لان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ ) رواه مسلم . الوجه الطلق نفع متعدي يدخل السرور على أخيك هذا صدقة في ميزانك .
والأجر في نفع المسلمين عظيم فقد جاء في الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربه من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) زاد ابن أبي الدنيا ( ومن مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ) وحسنة العلامة الألباني في صحيح الترغيب .
يا أخي من نَفََّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس فرج و أزال وكشف نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والجزاء من جنس العمل ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.. ستر بدنه رأيت عورة حاج نائم في المخيم مكشوفة غطيتها.. ستر بدنه رأيت امرأة شيئا من جسد أختها مكشوفا غير منتبهة إليه فغطته . من ستر مسلما سترة الله في الدنيا والآخرة سترته فلم تظهر عيبه سترته سترا معنويا سترته بثوب وقد عرى سترا ماديا سترت عيبه فلم تسمح لأحد أن يغتابه ولا أن يذمه ،من فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة فلم يفضحه بإظهار عيوبه وذنوبه. من نَفَّسَ عن مسلم كربه وكربة نكرة وليست معرفه ؟ أسألكم ، نكرة والنكرة هذه في سياق ؟ ما نوعها ؟ شرطية والنكرة في سياق الشرط ماذا تفيد ؟ العموم يعني أي كربة صغيرة أو كبيرة ( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ) ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) يعني من كان ساعيا في قضاء حاجة أخيه فان الله سيقضى حاجته .
في الحديث هذا كما يقول العلماء تنبيه على فضيلة عون الأخ على أموره و إشارة إلى أن المكافأة عليها بجنسها من العناية الإلهية. في هذا الحديث فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة أو غير ذلك ورب رأي يساوي ملايين .أحيانا واحد يعطيك رأيا لا يقدر بثمن وهذا من النفع إذا فيه المعاونة والإشارة بالمصلحة والنصيحة وفضل الستر على المسلمين وفضل انظار المعسر وفضل المشي في حاجة الإخوان .
احب الناس إلى الله انفعهم للناس واحب الأعمال إلى الله – عز وجل – سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا (ولأن امشي مع أخي المسلم في حاجة احب إليّ من أن اعتكف في هذا المسجد - أي مسجد ؟ المسجد النبوي مسجد المدينة- شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ) وقال (ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله – تعالى – قدمه يوم تزول الأقدام ويوم تزل الأقدام ) حديث حسن .
الصراط الذي سنقطعه كلنا إذا متنا على الإسلام (دحض مزلة )يروغ تنزلق عليه الأقدام أدق من الشعرة واحد من السيف هل تريد أن تثبت قدمك على الصراط ؟ امشي في حاجة أخيك المسلم حتى تنهيها له وتقضيها له وتثبتها له .
قال ابن عباس – رضى الله عنه – من مشى بحق أخيه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة ، راجع لي مراجعة ..احضر نتيجتي .. قدمني معك في الوظيفة.. من مشى بحق أخيه ..حصل لي دين.. كل خطوة صدقة كما جاء عن ابن عباس والحديث رجال إسناده ثقات .
تصوروا أيها الإخوة أن السلف كانوا لا يرون لأنفسهم فضلا على صاحب الحاجة بل يرون الفضل لصاحب الحاجة الذي علقها بهم ، قال ابن عباس : ثلاثة لا أكافئهم رجل بدأني بالسلام ورجل وسع لي في المجلس ورجل اغبرت قدماه في المشي إلي إرادة التسليم علي فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله – عز وجل – من هو هذا الرابع ؟اسمع ..قال : رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله ، واحد صار عنده حاجة مضطر، يطلب مِنْ مَنْ أن يقضي له هذه الحاجة ثم رآني أهلا لحاجته فأنزلها بي .
قال ابن القيم – رحمه الله – في وصف شيخ الإسلام ابن تيميه : كان شيخ الإسلام يسعى سعيا شديدا لقضاء حوائج الناس .
كان علي بن الحسين – رحمه الله – يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك ، كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل .(/2)
ويكفينا يا شباب يا أيها الناس يا أيها الكبار والصغار والنساء والرجال والأولاد أن السعي في نفع الخلق كان من صفات النبي – صلى الله عليه وسلم – و أخلاقه ، بماذا استدلت خديجة على أن ما حصل في غار جراء لا يمكن أن يكون شرا بماذا استدلت ؟ بِخُلُقْ النبي – عليه الصلاة والسلام – قالت : كلا هذا ليس شرا ابشر فوالله لا يخزيك الله أبدا فوالله انك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف . كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا سئل عن حاجة لم يرد السائل عن حاجته . قال جابر : ما سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئا قط فقال : لا ، البخاري في هذا مفرد ومسلم في الفضائل .
وقد شابه الصديق نبيه في صفاته حتى وصفه بذلك رجل من المشركين وليس من المسلمين واحد من المشركين شهد للصديق بأخلاقٍ مثل أخلاق صاحبه، لما خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة حي من المشركين قال : أين تريد يا أبا بكر ،قال أبو بكر : أخرجني قومي من هذه البلد فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج ليه لماذا ؟ قال : فانك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ، رواه البخاري . ألا تعجب كيف وصف ابن الدغنة أبا بكر بصفات التي وصفت بها خديجة النبي – عليه الصلاة والسلام – .
أيها الاخوة صلة الرحم معروفة الإحسان إلى الأقارب بالقول والفعل الأقارب من جهة أبيك وأمك تحمل الكَلَّ ..الكَلّ اصله الثقل وهو كل على مولاه ويدخل في هذا الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك وهو من الكلال وهو الإعياء أم قولها وتكسب المعدوم تكسب كسبت الرجل و أكسبته مالاً لغتان تكسبه مالا تعطيه مالا تكسب المعدوم تكسب غيرك المال المعدوم أو تعطيه إياه تبرعا ويجد الناس عندك مالا يجدون عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق أو أنك تكسب المال المعدوم وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به في وجوه الخير و أبواب المكارم ، يسمى الرجل المعدم الفقير كالمعدوم الميت لأنه لا يتصرف في المعيشة كتصرف غيره ، تَقْري الضيف تكرمه يقال للطعام المقدم للضيف قِراً ، وتعين على نوائب الحق جمع نائبة وهي الحادثة ما يحدث في الناس من المصائب ، قال مثلك يا أبا بكر لا يخرج باختياره لأنه صاحب نفع متعي لأهل البلد ولا يخرج بغير اختياره .
استنبط بعض العلماء من هذا لاحظ معي إذا كنت مشتغلا بالدعوة أو نشر العلم استنبط بعض العلماء من هذا الحديث أن من كانت فيه منفعة متعدية يعني للناس لا يُمَكَنْ من الانتقال عن البلد إلى غيره بغير ضرورة راجحة ، لو جاء يطلع من البلد نقوله : لا إلى أين تخرج أنت تنفع الناس ابقى في البلد إبقى هنا الناس يحتاجونك وهذا الذي استنبطوه مهم جدا في تقرير انتقال بعض الدعاة وطلبة العلم من البلدان التي صار لهم شأن فيها وتأثير قبل ما يطلع نقوله انتظر مثلك لا يَخْرُج ولا يُخْرَج .
وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – كل مسلم يستطيع أن ينفع أخاه المسلم بأي وجه من وجوه النفع أن ينفعه فقال ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) رواه مسلم . تقرأ على مريض رقية من القرآن منفعة ينفعه.. تدرسه في الامتحانات منفعة أي منفعة مباحة ، طبع المؤمن يا إخوان كالنخلة وكالنحلة بنقطة ومن غير نقطة ، نخلة لا يسقط ورقها صيفا ولا شتاءا يفيد رطب يفيد سعف يفيد بالظل يفيد صيفا شتاء، وكالنحلة أيضا متعدد المنافع آثاره فيها العلاج النافع للناس .
ثم أن السعي فيما ينفع الناس من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار فقد روى البيهقي عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال ( الإيمان بالله ، قلت : يا رسول الله إن مع الإيمان عملا ) لاحظ كيف الصحابي يفهم أن الإيمان لازم لابد له من عمل ( قال : يرضخ مما رزقه الله ) عطاء مال يعطي ( قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ به ، قال : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، قلت : يا رسول الله أرأيت إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، قال : يصنع لأخرق ) وهو الجاهل الذي لا صنعة له يتكسب منها ، ( قلت : أرأيت إن كان أخرق -هو اخرق هو نفسه اخرق- لا يستطيع أن يصنع شيئا ،قال : يعين مظلوما ، قلت : أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما ، قال : ما تريد أن تترك في صاحبك من خير ليمسك أذاه عن الناس ، فقلت : يا رسول الله إذا فعل ذلك دخل الجنة قال : ما من مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة ) وصححه الألباني في صحيح الترغيب.(/3)
امسك عن الشر صدقة منك على نفسك ، طيب هذه متى تكون صدقة ؟ متى يكون الإمساك عن الشر صدقة ؟ لو واحد فجأة انتبه قال : أوه أنا صار لي ثلاث ساعات ما سويت مشكلة لأحد أنا اخذ اجر... لأ لا يكون الممسك عن الشر مأجورا إلا إذا نوى الإمساك عن الشر أما واحد ناسي نفسه في البيت وقال : أنا صار لي زمان ما سويت مشكلة مع أحد ، لا يكون مأجورا حتى ينوي بإمساكه عن الشر وجه الله .
أيها الإخوة لما سُئِل النبي – عليه الصلاة والسلام – أي الأعمال افضل قال ( إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته أو كسوت عورته أو قضيت له حاجة ) حديث حسن من أسباب خيرية هذه الأمة على ما سواها من الأمم أنها انفع الأمم لغيرها فان هذه الأمة تنفع غيرها بأشياء كثيرة على رأسها هداية الأمم الأخرى إلى الإسلام وما يترتب على ذلك من دخولهم الجنة ونجاتهم من النار قال أبو هريرة في تفسير قول الله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ..) (آل عمران:110) قال : خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام .معناه أننا نجاهد الكفار ونأتي بهم أسرى في السلاسل ثم إذا عاشوا مع المسلمين عرفوا صحة الإسلام فدخلوا فيه طوعا فدخلوا الجنة .
وهناك في مسألة النفع موازين و أفضليات يا عباد الله فمن ذلك أن أبا ذر وأبو ذر لاحظ المواقف المتعددة له في قضية النفع وعمل الخير والأسئلة حول الموضوع سالت النبي – صلى الله عليه وسلم - أي العمل افضل قال ( إيمان بالله وجهاد في سبيله قلت : فأي الرقاب افضل ، قال : أعلاها ثمنا و أنفسها عند أهلها ، قلت : فإن لم افعل ، قال : تعين ضايعا أو تصنع لأخرق ، قلت : فان لم افعل ، قال : تدع الناس من الشر فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك ) تعين ضايعا الضائع في الضياع الذي عنده فقراء وعيال والأخرق الذي لا صنعة له .
وفي الحديث إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع مظنة الإعانة كل واحد يتصدق عليه لكن الصانع فيه ناس عنده حرفة عنده مهارة لكن ما عنده أدوات تشتري له أدوات ما عنده محل تجهز له محلا لشهرته بصنعته قد يغفل عن إعانته .
أوجه النفع كثيرة جدا وكلما كان العمل انفع للعباد كان أفضل عند الله – سبحانه وتعالى – ليه كان الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال أي الناس أفضل ( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ) لان الجهاد يوصل به رب العالمين إلى الآخرين الدين والدعوة ويكون سببا في فتح البلاد ودخول الإسلام فيها ودخول الناس في الدين أفواجا وإذلال الكفر وحماية حوزة الدين وحفظ حرمات المسلمين ورعاية الثغور وحراسة الحدود .
ومما يتعدى نفعه أيها الإخوة الحراسة في سبيل الله ( عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ) لأنهما لا تمسهما النار حرص الصحابة على الحراسة في سبيل الله لأنه عمل متعد نفعه للمسلمين لان فيه حراسة للمسلمين وكف الشر عن المسلمين .
في غزوة من الغزوات النبي – صلى الله عليه وسلم – نزل في شعب من الشعاب وقال ( من رجلان يكلآنا في ليلتنا هذه من عدونا ، فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار : نحن نكلؤك يا رسول الله ) فخرجا إلى ثَمِ الشِّعْب ثم قال الأنصاري أتكفيني أول الليل و أكفيك آخره أم تكفيني آخره و أكفيك أوله فقال المهاجري : بل اكفني أوله و أكفيك آخره ، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي فافتتح سورة من القران فبينما هو يقرأ إذ جاء زوج المرأة ، من هو زوج المرأة لابد نرجع للوراء في السيرة أغار المسلمين على قوم من المشركين وواحد من المسلمين أصاب امرأة لرجل من المشركين وكان الرجل غائبا فلما رجع بعدما انتهت الغارة أُخْبِرَ بما حصل لزوجته فهذا الرجل حلف أن لا يرجع حتى يهريق في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دما ، قام الأنصاري في الليل يصلي حارس يصلي الليل حراسة وقيام ليل فجاء زوج المرأة فلما رجل قائما عرف انه الذي يريده ربيئة القوم فينتزع له بسهم فيضعه فيه وهو قائم يقرأ في السورة التي هو فيها فلم يتحرك كراهية أن يقطعها ثم عادله زوج المرأة بسهم آخر فوضعه فيه فانتزعه فوضعه وهو قائم يصلي ولم يتحرك كراهية أن يقطعها ثم عادله زوج المرأة الثالثة بسهم فوضعه فيه فانتزعه فوضعه وهو يصلي انتزع السهم ووضعه ثم ركع فسجد ثم قال لصاحبة اقعد فقد أوتيت فجلس المهاجري فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف انه قد نذر به علم به وإذا الأنصاري يموج دما من رميات صاحب المرأة فقال له اخوة المهاجري : يغفر الله لك ألا كنت آذنتني أول ما رماك ، فقال : كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها اصلي بها فكرهت أن اقطعها و أيم الله لولا أن أضيع ثغرا امرني به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحفظه لقطع نفسي قبل أن اقطعها . أنا مستعد أموت ولا اقطع سورة .(/4)
من أعظم العبادات المتعدية النفع أيها الإخوة إن لم تكن أعظمها على الإطلاق تعليم الناس العلم.. الدين.. الشريعة.. وثواب من علم الناس الخير عظيم جدا ومن ذلك أن له مثل ثواب من عمل بذلك العلم كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( من علم علما فله اجر من عمل به لا ينقص من اجر العامل ) رواه ابن ماجه وهو حديث حسن . في البخاري ( خيركم من تعلم القران وعلمه ) الجامع بين تعلم القران وتعليمه مكمل لنفسه مكمل لغيره في نفع ذاتي ونفع متعدي ولذلك داخل في قوله – تعالى – (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33) .الدعاء إلى الله يقع في أمور ومن ذلك تعليم القران .
ضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – مثلا جميلا لهذا الذي يعلم الناس الخير كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فقبلت الماء وانبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت المكافأة للذي يعلم الناس العلم ويعلم الناس الخير كانت المكافأة عظيمة جدا حتى أن الله تعالى جعل أهل السماوات و أهل الأرض يستغفرون لمن يعلم الناس الخير والهم الله – تعالى – أنواع الحيوان الكبير والصغير منها من النملة إلى الحوت الاستغفار للعالِم فقال – عليه الصلاة والسلام – ( أن الله وملائكته و أهل السماوات والأرضيين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ) حديث حسن .
يا أخي كم نوع من السمك في البحار ؟ كم سمكة ؟ كم نوع من البهائم كم نوع من الحيوانات ؟ كم نوعا من الطيور ؟ كم واحد ؟ كلها تدعو لمن يعلم الناس الخير ، ليه ؟ لان نفعه يصل إلى الآخرين نفع متعدي يا جماعة فكروا في هذا الأمر والله العظيم إن هذا الحديث كاف جدا لتحميس ودفع الناس لتعليم الآخرين الخير علم تَعَلَّم وَعَلِّم لماذا كان العالِم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ؟ يا أخي النبي – عليه الصلاة والسلام – قال ( وان العالم ليستغفر له – كم واحد كم بليون ؟ - من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ) حديث صحيح .
لو قال قائل لماذا تستغفر الحيوانات للعالم ؟
فالجواب
أولا : كرامة من الله لمن حمل العلم الشرعي بين جنبيه .
ثانيا : أن نفع العالم قد تعدى حتى انتفعت به الحيوانات لان العالم يقول للناس : (حد شفرتك و أرح ذبيحتك) ولا تذبحها بحضرة الأخرى واسقها ماءا وارفق بها ( وإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة ) ويقول للناس (في كل ذات كبد رطبة اجر) حتى لو سقيت قطا فلك اجر ، شكرت الحيوانات هذا التعليم النافع لها لهذا المعلم فألهمها الله الاستغفار له دائما ، أهل السماوات و أهل الأرض .
ولذلك فان العلم الشرعي التعلم والتعليم من أعظم العبادات ، سُئِل النووي : هل يجوز للمعتكف أن يقرا القران ويقرئه غيره وان يتعلم العلم ويعلمه غيره ؟ أجاب عن هذا فقال : يجوز ولا كراهة في ذلك في حال الاعتكاف وذلك أفضل من صلاة النافلة لان الاشتغال بالعلم فرض كفاية فهو افضل من النفل ولأنه مصحح للصلاة وغيرها من العبادات ولان نفعه متعد إلى الناس وقد تظاهرت الأحاديث بتفضيل الاشتغال بالعلم على الاشتغال بصلاة النافلة .
حدثني كاتب للشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – أن الشيخ كان يترك صيام النافلة في بعض الأيام ويقول: لأنه يضعفني عن القيام بحوائج الناس ، لأن الشيخ يأتيه المستفتون و أصحاب الحاجات و الشفاعات وغير ذلك من الناس يأتونه ، قال : يضعفني . الصيام نفعه للشخص والأعمال الأخرى المتعدية التي تنفع الآخرين .
ولذلك أجاب العلماء في مسالة رفع الصوت بالقران أيهما أفضل الإخفاء أم الجهر ؟ إذا كان ما في رياء فان رفع الصوت أفضل لان العمل فيه أكثر وفيه نفع متعد كما قال العلماء لأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه ويطرد النوم ويزيد في النشاط ويوقظ غيره من نائم أو غافل وينشطه وهذه النيات إذا اجتمعت في هذا الشخص فإنه سيكون له نفع متعد إلى الآخرين .
أيها الإخوة إن هذا الموضوع يجيبنا على سؤال يتردد في أذهان الكثيرين من الأخيار وخصوصا أئمة المساجد في رمضان وغيره .هل البقاء يعلم الجماعة دين الله ويصلي بهم في مسجدهم في البلد أو القرية أو القبيلة أفضل أم الذهاب إلى مكة ؟
والجواب أن النفع المتعدي مقدم بالجملة على النفع القاصر فالأفضل أن يبقى مع الناس ويكتب له اجر المسجد الحرام بالنية كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( إن في المدينة رجالا ما سلكتم واديا ولا قطعتم شعبا إلا كانوا معكم ) يعني شاركوكم في الأجر ( قالوا : كيف وهم في المدينة ؟ قال : حبسهم العذر ) وهذا عذره شرعي ، فعلى طالب العلم الذي يكون في قرية ليس غيره يُعَلِّم فيها يحتاج الناس إليه فليستمر في عمله وان ينوي بقلبه انه لولا وجود هذا الواجب لذهب إلى المسجد الحرام واعتمر واعتكف وجاور ، أما إذا وجد من ينوب عنه في هذه المهمة فله أن يذهب وخير له أن لا يطيل الغياب .(/5)
الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – سُئل هل يجوز للمعتكف أن يتصل بالتلفون لقضاء حوائج المسلمين ؟ قال : نعم يجوز للمعتكف أن يتصل بالتلفون لقضاء بعض حوائج المسلمين إذا كان التلفون في المسجد الذي هو معتكف فيه لأنه لم يخرج من المسجد .
وقضاء حوائج المسلمين إذا كان هذا الرجل معنيا بها فلا يعتكف أصلا إذا كان مسئول عن مستودع خيري مثلا يعني لان قضاء الحوائج أهم من الاعتكاف لان نفعها متعد والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر إلا إذا كان النفع القاصر من مُهِمات الإسلام وواجباته يعني مثلا صلاة الفجر جماعة هي نفسها أصلا صلاة الفريضة لك أنت فهذا ما يمكن تضييعه بأي عمل آخر لكن النوافل المقارنة في النوافل النفع المتعدي أفضل ولذلك قال العلماء : أن الداعية إلى الله عمله عظيم لحديث ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) ( من دعا إلى هدي كان له من الآجر مثل من تبعه ) إذا القضية كبيرة . فيا أيها المشتغل بالدعوة في المدارس في المساجد في المكتبات في المخيمات في الأحياء يا أيتها المشتغلات في الدعوة في البيوت والمدارس والكليات المسالة مسالة عظيمة لماذا ؟ لان النفع متعدي وهذه وراثة الأنبياء
من العبادات المتعدية يا إخوان الآذان ، ولذلك كان فضله عظيما ( يغفر الله للمؤذن منتهى آذانه ويستغفر له كل رطب ويابس سمع صوته ) حديث صحيح وفي رواية أخرى صحيحة ( وله مثل اجر من صلى معه ) فكيف بالإمام والخطيب المحتسب ايضاً الذي لا يأخذ اجره .
النصيحة للمسلمين ألم يقل النبي – عليه الصلاة والسلام – ( الدين النصيحة ) ما هي النصيحة لهم ؟
إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم .
تعليمهم ما يحتاجون من أمر دينهم ودنياهم.
ستر عوراتهم سد خلتهم .
دفع المضرة عنهم .
جلب المنفعة لهم .
توقير كبيرهم رحمة صغيرهم .
تخولهم بالموعظة .
ترك غشهم .
محبة الخير لهم .
الذب عن أموالهم وحماية أعراضهم وهكذا كل أنواع النصيحة .
نفع المسلمين يمكن يكون بالدعاء لهم في صلاة الجنازة نحن ندعو للأحياء والأموات ، اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وذكرنا وأنثانا وصغيرنا وكبيرنا ، ( من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل ) .
من ضمن النفع المتعدي نصرة المظلوم والظالم ، كيف نصرة الظالم ؟ تحجزه وتمنعه من الظلم فإن ذلك من نصره ( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ) ولذلك أنت تقول في المجلس : اسكت لا نعلم عليه إلا خيرا ، إذا كان ذلك كذلك .
من أعظم النفع المتعدي يا إخوان الإصلاح بين المتخاصمين (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114)
قال الشيخ العلامة السعدي – رحمه الله - : لا خير في كثير مما يتناجى به الناس وتخاطبون وإذا لم يكن فيه خير فانه لا فائدة منه كفضول الكلام المباح إما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح و إما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه ثم استثنى – تعالى – فقال إلاّ من أمر بصدقة يعني من مال أو علم أو أي نفع كان أو معروف وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنة أو إصلاح بين الناس الإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض بل وفي الأديان وقال – تعالى – (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ..) (آل عمران:103) (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ..) (الحجرات:9) وقال – تعالى – (.. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ..) (النساء:128) ولذلك فإن الله – تعالى – ينجح عمل المصلحين ولا يصلح عمل المفسدين .
من مجالات الإصلاح :
q الإصلاح بين الموصي والورثة (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ..) (البقرة:182)
q الإصلاح لحقن الدماء شيء عظيم جدا لان الخصومة بين المسلمين تحلق دينهم فتؤدي بهم للعداوة والبغضاء والظلم والبغي والتعدي كان السعي بإزالتها بالإصلاح اعظم من الصلاة والصيام والصدقة والنافلة ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم – ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة ) رواه أبو داود وهو حديث صحيح . ( افضل الصدقة إصلاح ذات البين ) حديث صحيح .(/6)
q يا أخي إذا أقسمت بالله العظيم انك ما تصلح ولا تتدخل في بين اثنين لشر جاءك من قبل و أتيحت لك فرصة التدخل بالمعروف كفر عن يمينك وتدخل لان الله قال (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا ..) (البقرة:224) بما ؟ (..وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:224)
من نفع المتعدي حتى تكون نافع أيضا أقيموا الشهادة لله (....وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ..) (البقرة:282)
حتى للصغار الأطفال يشهدون في المدرسة في مثل خصومة الصغار فيما بينهم .
أعمال النفع المتعدي كثيرة نحن نحتاج أن نتعمق في هذه المسألة كيف نحن مثلا نخدم العابدين ؟ نعينهم على الطاعة نهيئ المساجد خصوصا في رمضان نخدم المعتكفين ، النبي – عليه الصلاة والسلام – اهتم يصلي على جنازة شخص كان ينظف المسجد بعد شهر لماذا ؟ لان عمله عظيم في خدمة الناس وربما فاق من خدم الصائمين في السفر فذهب بالأجر والثواب لان نفعه إحسان تعدى إليهم والى غيرهم كما قال – عليه الصلاة والسلام – لما قام المفطرون وابتعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا قال (ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) ضربوا الخيام نصبوها سقوا الإبل ، الصوام سقطوا .الصيام في السفر نافلة ( ذهب المفطرون بالأجر ) لماذا ؟ نفعهم تعدى إلى غيرهم .
المسلم ينفع غيره ولو كان جالسا في الطريقة ولو كان ماشيا في الشارع ولذلك النبي – عليه الصلاة والسلام – لما قال ( أعطوا الطريق حقه ) ماذا قال ؟ ( غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وجاء في روايات أخرى (وتغيث الملهوف وتهدوا الضال ) جمعها ابن حجر الروايات في قوله :
جمعت آداب من رام الجلوس على الطريق من قول خير الخلق إنسانا
أفشى السلام وأحسن في الكلام وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا
في الحمل عاون ومظلوما اعن و أغث لهفانا في سبيلا واهدي حيرانا
بالعرف مر و أنهى عن نكر وكف أذى وغض طرفا واكثر ذكر مولانا
من النفع المتعدي بذل المال انك تبذل المال يزيده صدقتك ( ما نقص مال عبد من صدقة ) وإذا كان في سبيل الله بسبعمائة إلى أضعاف كثيرة كذلك يبارك لك فيه وينفعك في القبر والآخرة ( إن الصدقة لتطفئ على أهلها حر القبور ) ( و إنما يستظل المؤمن يوم القيامة بظل صدقته ) حديث صحيح .
لما فقه الصحابة هذا جادوا بأنفس أموالهم بسخاوة نفس فتصدق أبو طلحة بأحسن ماله بستان بيرحاء . أبو الدحداح اندفع لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ..) (الحديد:11) قال أبو الدحداح : يا رسول الله وان الله ليريد منا القرض ؟ قال ( نعم يا أبا الدحداح ) قال : ارني يدك يا رسول الله فناوله يده قال : فإني أقرضت ربي حائطي ، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة بستان ستمائة نخلة ، من الذي يسكن فيه زوجته أم الدحداح مع من ؟ مع عيالهما ، جاء أبو الدحداح بعدما تصدق بالبستان : يا أم الدحداح قالت : لبيك ، قال : اخرجي فإني قد بايعت ربي – عز وجل - . حديث صحيح .
هل قالت : يا مجنون ما فعلت بنا وفي أولادك ؟ قالت : ربح البيع و أثنت عليه خيرا ،لذلك النبي – عليه الصلاة والسلام – ما نسي هذا لأبي الدحداح لما مات أبو الدحداح وصلى على جنازته اخبر عن كثرة الأغصان المعلقة له في الجنة فروى مسلم عن جابر بن سمرة قال : صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ابن الدحداح ثم أتى بفرس عري ونحن نمشي حوله فقال ( كم من عذق معلق أو مدلا في الجنة لابن الدحداح ) كم من عذق غصن النخلة ، العذق النخلة بكاملها .
في يا إخوان في قضية قسمة الأرزاق بين الخلائق والمفارقة بينهم في ذلك وتثبيت نعم عند الناس ونزعها من آخرين في علاقة في أمور خفية لأشياء يقوم بها هؤلاء ويقصر فيها هؤلاء ، خذ هذه اللطيفة من اللطائف في أقدار الله – تعالى – قال النبي – عليه الصلاة والسلام – تأملوا في هذا الحديث ( إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرهم فيها ما بذلوها – يعني يديم عليهم النعمة ماداموا يبذلونها في منفعة ؟ الخلق – فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم ) وفي رواية للطبراني ( أن لله عند أقوام نعما يقرها عندهم ما كانوا في حوائج الناس ما لم يملوا فإذا ملوا نقلها إلى غيرهم ) حسنهما في صحيح الترغيب .
والنبي – عليه الصلاة والسلام – حتى يعلمنا مجالات أخرى أيضا في قضية نفع الناس ونفع الخلق قال ( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له .وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا انه لا حق لأحد منا في فضل) . رواه مسلم .(/7)
عندك مكان زائد في السيارة توصل فيه أحد وصله عندك سيارة زائدة تعيرها أحد أعرها عندك زيادة في المال اقرضه (ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة ) حديث صحيح . إذا كان معسرا أنظره فان الله ربما يتجاوز عنك يوم القيامة ويقول لملائكته : نحن أحق به من هذا منه . ( من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ) رواه مسلم . ( من أراد أن تستجاب دعوته وان تكشف كربته فليفرج عن معسر ) قال الهيثمي : رواه احمد ورجاله ثقات . وإذا قضيت دينا عن ميت نفعته بعد الموت وبردت جلدته في قبره فكم يا ترى يكون لك من الأجر ؟!
يا أيها الجماعة والأخوان أن هذه الأمور التي فيها نفع الخلق من أسباب النجاة من مهالك الدنيا ومن سوء الخاتمة (صنائع المعروف تقي مصارع السوء ) كما قال – عليه الصلاة والسلام – (أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) حديث صحيح .
ألا تذكرون قصة أصحاب الغار ، الرجل الذي كان واقفا على والديه ليشربا يحسن إليهما إلى الغير والى أولاده بعدهما ، الرجل الذي قعد بين رجلي المرأة وقام عنها صنع معروفا عظيما انه أبقى المال الذي أعطاها ، أعطاها مالا كثيرا في وقت قحط أبقاه عندها ، لكن أعظم الثلاثة على الراجح هذا الرجل الذي استأجر أجيرا بفرق من أرز ، أجرة ما جاء أخذها تركها ومشى زرعها وحصد الزرع واشترى به بقرا وصارت كثيرة وتوالدت وكم مضى على ذلك من المدة ينمي في مال غيره وينفع أخاه لما جاء طالبه بالمال وظن انه يهزأ به فأخذه فاستاقه كله فلم يترك منه شيئا ولا حتى أعطاه أي شيء ما قال أنت شريك ولا شيء فبسببه فرج عنهم التفريج النهائي .
كم يكون لبان المساجد من الخير وهو يمكن الناس من الصلاة والذكر والاعتكاف وحلق العلم وحلقات التحفيظ ( من بنى مسجدا لله بنى الله له بيتا في الجنة ) .
ممكن يشترك مجموعة من الشباب أو من الناس من الأخيار رجالا و نساءً في عمل خيري كلهم يدخلون الجنة بسهم واحد يصنعه صاحبة يحتسب به الخير والذي يناوله والذي يرمي به .
الشريط الإسلامي الذي يحاضر فيه ابتغاء وجه الله والذي يسجله وينسخه والذي يشتريه ويموله والذي يوزعه ويناوله ممكن يدخلون الجنة بشريط واحد، ليه تستكثر على الله ذلك ؟ الله اكثر و أطيب.
الشفاعة يا أخي اشفع لأخيك (اشفعوا تؤجروا) النبي – عليه الصلاة والسلام – أحيانا يطلب منه حاجة لا يقضيها فورا لماذا ؟ سؤال أنا أسألكم أجيبونا ؟ النبي – عليه الصلاة والسلام – يأتي واحد يقوله يطلب منه طلبا لا يلبيه له مباشرة لماذا ؟ لأنه يريد من الصحابة الموجودين أن يشاركوا في الأجر فيشفعوا فهو لا يلبيها مباشرة حتى يقوم هذا يقول أعطه يا رسول الله ، هذا مستحق يا رسول الله ، هذا ما نعلم عليه كذا يا رسول الله .. حتى يتيح الفرصة لأكبر عدد مشاركة في الأجر ( اشفعوا تؤجروا ) شفاعة حلال ليست شفاعة واسطة يسقط بها على حق غيره ويسقط بها حق غيره ويؤخذ ما ليس من حقه يسقط حدا من حدود الله هذه حرام ، النبي – عليه الصلاة والسلام – شفع حتى في الأشياء الاجتماعية ولما قال ( لو راجعتيه فانه أبو ولدك ) يقول لبريرة لكي ترجع لزوجها .
أما صلة الرحم فانتم تعرفون ما فيها من النفع في الدنيا والآخرة . و إطعام الطعام من أسباب دخول الجنة .
و إماطة الأذى عن الطريق فيه منفعة للمسلمين ممكن واحد يدخل به الجنة ويثاب المسلم على كل نفع أسداه ولو لحيوان بهيم واحد دخل في كلب سقاه دخل الجنة مما حصل له من الأجر في أمة سابقة ( من حفر ماءً لم يشرب كبد حي من جني ولا انس ولا طائر الا اجره الله يوم القيامة ) رواه ابن خزيمة وهو حديث صحيح .
لماذا فضل بعض العلماء الزراعة على الصناعة والتجارة ليه فضلوا الزراعة ؟ لحديث ( لا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ) إلى يوم القيامة وهكذا لأن فيه نفع للناس ، لو غرست شجرة كل واحد وقف بسيارته تحتها فاستظل بظلها هو أو السيارة فأنت تؤجر على ذلك .
السعي على الأولاد في سبيل الله ( السعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) .
و أخيرا نريد أن نستعرض بسرعة أيها الإخوة مشاريع فيها نفع متعدي وأشياء تتواصى بها ختاما لهذا الموضوع :
انتم في مكة من اعظم النفع الذي تقدمونه وكذلك كل حاج يأتي من مكان آخر تزود علما وفقه قبل أن يأتي ، تعريف الحجاج بالمناسك تعريف الناس بأوقات العبادة تنبيه النساء إلى أحكام الشريعة تنبيه الحجاج على البدع لئلا يقعوا فيها .
أنت في حي يا أخي إعْرِف أحوال أهله افحص عن المحتاجين فيه.
اجمع المعلومات عن الذين يستحقون المساعدة شفاعات عند الأغنياء .
جمع زكوات والصدقات .
زيارة المحتاجين .
قدم دعوةً مع الصدقة .
النساء والأرامل تقوم النساء عليهن من المسلمات .
زيارة المرضى في المستشفيات لرفع المعنويات .
رعاية اسر المساجين .(/8)
وجدوا رجلا في مستشفى مؤخرة عمليته لأنه يحتاج فصيلة دم قام الشباب بسرعة بالجوالات اشتغلت الجوالات ما مضت مدة بسيطة جدا إلا والدم موجود في المستشفى وعملت العملية ، كم كان لها اثر على ذلك الشخص .
أنت توصل نساء أهل بيتك لقضاء حوائجهن والفسحة المباحة و أخذهم من مكة للطائف في مكان مباح كم يكون لها اثر على النفسيات واستعداد لتقبل الحق وقبول الدعوة .
إتاحة الفرصة للناس للاستفادة من المشايخ والدعاة بعقد الحلق و إقامة المخيمات وتنظيم المحاضرات وتنسيق برامج الاستفتاء على الهاتف بين أهل الحي وعامة الناس وطلاب المدرسة وبين العلماء وطلبة العلم .
القيام على الحملات الخيرية في الحج .
الاهتمام بالعمالة وما اكثر الملايين الموجودة في الجاليات بيننا ، تشفع لهذا عند كفيل وتقضي لهذا حاجة وتقدم لهذا مطوية بلغته دعوة بالمقدور والميسور لا يسقط بالمعسور .
قرب بين الجيران اعمل لهم اجتماعا اجمع من أهل الحي من يمكن جمعه .
أتح العمل التطوعي للمتقاعدين ، مت قاعد يموت قاعدا !! اجعل له مجالا ينفع بدلا من أن يموت وهو قاعد .
هناك كتب شرعية. واحد جاب مشروع قال الطلاب في آخر السنة الدراسية يرموا الكتب في براميل الزبالة وفي الشوارع وفي الطرقات وفي الأرصفة وفي الحارة وفيها آيات وأحاديث اجمعوا لنا الكتب الدينية واللغة العربية أعطوها المؤسسات الخيرية هذه ترسلها لمسلمين في الخارج فيستفيدون منها .
مشروع زيارة الأيتام أو دار الأيتام .
لوحات حائطية ..دعايات .. حتى هذه الشاشات التجارية الدعائية الكبيرة المضيئة يمكن استعمالها حتى لوحات الشارع تجمع بعض الصدقات لكتابة عبارة تؤثر في نفس مارة تستفيد..حجابك.. عفافك .
تقديم المعونات للطلاب المحتاجين وخصوصا طلاب العلم الشرعي حتى وجبة إفطار في مقصف المدرسة لطالب مسكين لا يشتري كل يوم فلما رصدوا حالته لماذا لا يشتري مثل بقية الطلاب إذا به ليس عنده ما يشتري به .
يا أخي حط صندوق شكاوي وأسئلة تأتى بإجابات جماعة المسجد إليهم من عالم ربما تنقذ عن طريق فتح المجال لإبداء الشكاوي عند الطلاب تنقذ أختا من الانحراف و أُماً من الفاحشة ربما يكون هناك من الأشياء التي تقضي من الحاجات لهؤلاء مالا يخطر ببال ، وقد أنقذ بعضهم من الانتحار بسبب فتح مثل هذا المجال .
استيعاب أولاد الحي في حلقات التحفيظ ومراكز النساء ودور النساء وهذه تعطي دارها ليكون تحفيظا وتلك تعطيه مؤقتا غير الحج معليش نقبل فيه خير كل السنة إلا عشرة أيام إلا أسبوعين .
التسميع على الهاتف حتى بين النساء ، أعمال الخير هذه ربما تكون مجالا لاشغال الضرائر عن أذى الزوج .
إن صناديق الإقراض الخيري المنضبطة بما فيها من الكفيل والمتابعة والتحصيل أعمال خيرية ونفع متعدي وربما أُقْرِضَ عشرات الآلاف لأشخاص وفرجت كروبات من صندوق بسيط أول ما نشا وإقراض الطلاب الجامعيين لحين استلام مكافآتهم .
مجلس الحي والتعاون مع عمدة الحي .أيها الإخوة إن كثير من المنكرات تزول بالتعاون وإيصال الخبر والتعاون مع الجهات المسئولة لمكافحة منكر أو رفع ظلم أو منع جريمة ومع رجال الأمن ومكافحة المخدرات وربما يقضى على شرور كثيرة ولا تعلم ما ينالك من الأجر بسبب هذا الإبلاغ والتعاون .
صاحب مغسلة يضع مع الملابس مطوية كل ما أعطاهم غسيلا كوي غسيل مكوي معلق مصفف هؤلاء أكثرهم شباب الذين يأتون بهذه الملابس يقرؤون فلو فقدوها مرة قالوا : فين اللي كنتم تحطولنا مع الثياب ليش ما حطيتوا يمكن نسيتوا ، إذا تعود الناس أن يأخذوا أشياء من الخير افتقدوها بعد ذلك .
أنت ماشي في الطريق يا أخي ما في شباب على الأرصفة ممكن تنزل على الطريق وتدعوهم بالكلمة الطيبة لو عصوك وآذوك وسخروا منك فقد قمت بعمل العمل الذي كان يقوم به الأنبياء فيواجهون بهذا فيصبرون فتؤجر وإذا انتفعوا أجرت أيضا . نزل من سيارته لما وجد شباب على طرب وبلوت ورقص في الشارع فقال : يا شباب أنا والله أمر بكم كل يوم وأنا طالع من عملي صَعُبَ عليّ وضعكم هذا اليوم أنا من شهور أراكم الموضوع أن الله خلقنا لكذا كذا والجنة كذا والنار والآخرة وكلمتين طيبة فسبه واحد منهم سبا مقذعا لماذا ؟ قال له : يعني بما معناه اسمح لي انك حيوان ، ليه ؟ قال : أنت الآن شايفنا من شهور وعندك كل هذا العلم وما وقفت إلا الآن وينك من زمان ، ثم اقلع .وإذا تاب رئيس الشلة اخذ ورائه الشلة .
أيها الإخوة إننا نحتاج فعلا إلى إيصال الخير إلى الناس بكل طريق مطويات كتيبات أشرطة وهذه الأشياء فيها منافع لا تحصى
دلهم على الزواج ووفق بين رأسين بالحلال كما يقول العامة .
اشترك في الهيئات الخيرية فيها إيصال النفع للآخرين
وجه العمل ليكون على الكتاب والسنة .
لو لاعبت الأطفال لو عقدت لهم مسابقة ،مسابقة لأهل الحي وجوائز يُسَرُّون بها كثيرا ولو سافرت وانقطعت أسبوعا أو شهرا يقولون أين المسابقة ؟(/9)
هناك ناس سافروا في أعمال الخير من خلفهم في أهليهم بخير فله اجر عظيم .
رعاية اسر المساجين ، المسجون يمكن أسرته تضيع إذا لم نقم أنا وأنت وهو بشيء بهذا الموضوع .
هناك أناس في البادية يحتاجون إلى إيصال الخير لهم ويكون ناس من أبنائهم يكلمونهم بلهجتهم يكون التأثير فيهم كبير .
إننا نحتاج إلى إيصال النفع بسائر وشتى الأساليب بالقنوات والمواقع والمقالات ، زود الجرائد والمجلات بمقالات هادفة اعمل دورات لو كنت متخصصا في بعض الأشياء كمبيوتر إسعافات أولية خطابة إدارة ستجد أنك أوصلت خيرا .
لو اجتمع مجموعة من الشباب وقالوا هذا مسجد ثلاجته خربانه مصلح الثلاجة بمال بسيط جمعوه وساعدهم الفني وقال : مادام ثلاجة مسجد نصف الأجرة ( لا تحقرن من المعروف شيئا ) .
واحد يضع حلاوة في جيبه كلما راح للمسجد يعطي الأولاد في الطريق ، كان الشيخ ابن السعدي – رحمه الله – يفعل ذلك إذا خرج من البيت تهافت إليه الأولاد لان معه حلوى في جيبه يعطيهم إياها ، يعني ممكن واحد يقول يعني ايش هذا العمل ؟ يا أخي هذا فيه شيء عظيم وهو إدخال السرور على نفس مسلمة حتى لو كان طفلا إدخال السرور على نفس مسلمة أنت ممكن تقول نكتة بالحق طبعا وليس نكتة سخيفة ولا نكتة فيها استهزاء بالمسلمين ولا ولا ، تدخل سرورا على مسلم على نفس مسلم تؤجر عليها الست أدخلت السرور على نفسه . حط الفكة في جيبه الريالات كلما حصل الأطفال يحضرون الصلاة قال هذه مكافأة لك وهذه مكافأة لك واحد رايح للمسجد رايح للمسجد .كان الشيخ عبد العزيز بن باز إذا ذهب إلى المسجد ماشيا ضرب بعكازه وعصاه باب الجيران الصلاة الصلاة يوقظهم للصلاة وهو ذاهبٌ لصلاة الفجر .
هناك ناس مسنين يحتاجون إلى إعانة و أعمى يعبر طريقا وشخص يوقفك بسيارته وينزل النافذة ليسألك عن عنوان فتدله عليه ربما تدخل بذلك الجنة وما يدريك ( لا تحقرن من المعروف شيئا ).
إعارة الأغراض إلى الآخرين وعلى الآخرين أن يصونوها وان يحفظوها وان يعيدوها سليمة .
إننا أيها الإخوة لا يمكن أن نتخيل أحيانا مالا يمكن أن ينشا عن المشروع الخيري إعلان عن جمع ملابس للفقراء ملابس قديمة ملابس مستعملة بحالة جيدة ، جاء شخص إلى الأمام قال : أعلنتم عن مشروع الملابس ، قال : نعم ، قال : عندي أشياء برا ، قال : جيبها . قال : هات معك عمال يعني أصلا جايبها في تريلا في شاحنة أو شاحنات .واحد يرفع لواء الخير وانظر ماذا يحدث من التقاطر وتوجيه الجهود لأجل عمل الخير .
هناك أذى في طرقات وربما يكون أمام بيت الجار وربما قصّر العامل في البلدية فأنت قمت بالمطلوب في إزالة الأذى فلك اجر كبير .
يمكن رسالة هاتف جوال يهدي الله بها ناس أنت تعرفهم أو لا تعرفهم .
أيها الإخوة كانت تلك أمثلة ومشروعات و أبواب عملية المقصود منها ضرب المثال في هذا الموضوع الحيوي والمهم والخطير جدا لأنه يؤدي إلى دخول الجنة قضية مصيرية .
كن نافعا أينما كنت أسال الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وصلى الله وسلم
على نبينا
--------------------------------------------------------------------------------
موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامية(/10)
كوسوفا الجريحة
205
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
23/12/1419
جامع السلام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كوسوفا بينت عظيم حقد النصارى على المسلمين. 2- تعريف بإقليم كوسوفا. 3- كوسوفا تحت جحيم الشيوعية ثم النصرانية. 4- حرمة دم المسلم عند الله. 5- صور من العدوان الهمجي الصربي. 6- مأساة لاجئي كوسوفا. 7- دعوة لمساندة مسلمي كوسوفا.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه .
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلٍم أمسى سليبًا ومسلمة لها حرم
وكم من مسجد جعلوه ديرا على محرابه نصب الصليب
أتسبى المسلمات بكل وثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب
في مرور الأيام وتعاقب الأعوام وتراكم الأحداث يزداد سجل التاريخ صفحات إثر صفحات وهنا يحسن التأمل ويلزم التدبر وتتكاثر نكبات الأمة ، وتتوالى عليها الأحداث والغير ، وتتفتق فيها الجروح ، ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان في كثير من أجزائها وأرجائها ، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسى آخرها أولها ، ويغطي حديثها على قديمها ، وأذل العدو مَّنا جباهًا وتلاشى من راحتينا الحديد، فإلى صفحات مكلومة نستذكر فيها كوسوفا الجريحة ، كوسوفا التي فضحت النصرانية وحقد أهلها ومقدار ما استودعوا من وحشية وهمجية في عصرنا الحديث ، كوسوفا التي بكت أهلها من هاجر أو قتُل أو شُرَّد ، كوسوفا التي بينت ضعف أمة الإسلام وكيف باع المسلمون بدولهم وأنظمتهم وثراوتهم أذلاء لا يستطيعون نصرة إخوانهم أو مد يد العون إلا بعد أن يؤذن لهم .
كوسوفا التي وضّحت لنا كم تغلي قلوب الأعداء حقدا علينا وكم يعضون الأنامل غيظا يريدون قطع دابر ديننا كي تغور القوى ، ويتبع الهوى ، وتعم البلوى ، يريدون ألا يعز إسلام ولا يقوى يقين وألا يتم تمكين ، يصرون بحربهم أو قصفهم على تمزيق أهل الإسلام قطعانا في بقاع الأرض لا مرعى يجود ، ولا راع يذود ، ولا دولة تؤوي ، كوسوفا التي أبانت عوار منظمات ما يسمى بحقوق الإنسان حيث يعامل أهلها كما يعامل الأرقاء ، ولا ينالون حقوقهم إلا بطريق الاستجداء ، ولا يظهرون إلا بصورة التشريد والإيذاء .
إنها كوسوفا الجريحة التي تأثرت بكل ذلك ولازالت تتأثر . . .
عباد الله :
إقليم كوسوفا بمساحته التي تزيد عن عشرة آلاف كيلو متر مربع، يسكنه أكثر من مليوني إنسان نسبة المسلمين منهم ثلاثة وتسعين بالمائة، ويشتمل على عدد من الثروات المهمة مما جعله مطمعا للغاصبين ، وسكانه من الألبان القدماء في هذه المنطقة ،أما الصرب فهم ممن استقدم إلى أوربا الشرقية .
وقد حصلت في كوسوفا معركة شهيرة عام ألف وثلاثمائة وتسعة وثمانين ميلادية بين المسلمين العثمانيين وبين النصارى الصرب انتصر فيها المسلمون انتصارا حاسما، وخلّصت هذه المعركة الألبان من حكم الصرب ، ولا زال الصرب يتذكرون هذه المعركة حيث أحيوا قبل عشر سنين ذكراها بأن أعلن رئيس الصرب بهذه المناسبة إلغاء الحكم الذاتي لمسلمي كوسوفا، وقال كلمته المشهورة "معركة كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم ونحن مستعدون بأن نضحي بثلاثمائة ألف مقاتل وصربي لاستئصال الإسلام من سراييفوا إلى مكة" ومنذ ذلك الوقت بدأت الأزمة حتى اشتد أوارها في أيامنا الحالية بالرغم من النداءات التي كان يوجهها مسلمو كوسوفا إلى إخوانهم المسلمين إبان حرب البوسنة والهرسك بأن الدائرة ستدور عليهم فلم يع المسلمون ذلك إلا بعد اشتداد الأزمة .
إخوة الإيمان :
لم يكتف الصرب أخزاهم الله بما لاقاه المسلمون خلال ثمانين عاما من الحكم الشيوعي في يوغسلافيا من اضطهاد للحريات وسلب للكرامات وإلغاء لكل معالم الدين فقاموا بعد سقوط شيوعيتهم بإحياء دور الكنيسة في حربهم ضد المسلمين يدعمهم بذلك رهبان كنسائهم بجعل هذه الحرب حربا عقائدية وتطهيرية ونشرا لدينهم الفاسد فقامت حرب الإبادة في كوسوفا بشتى صورها وإليكم بعضا منها حسب آخر التقارير التي نقلتها عدد من المنظمات الإسلامية القليلة التي بدأت العمل هناك .
أيها الأخوة المؤمنون:(/1)
يقول رسول الله : ((لأن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسلم )) . وفي رواية ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) . رواه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني. بالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان وأصبح الدم المسلم رخيصا لا يقام لإراقته وزن، وتفيد آخر التقارير من داخل كوسوفا أن القتلى من المسلمين بالآلاف وأن الانتهاكات الإنسانية على أشدها داخل المدن المحاصرة، فهناك مِن المسلمين منَ يحرقون أحياء أمام ذويهم كما حصل ذلك منذ أسبوع في مدينة بيجا، ويشتد الوضع سوءا حيث أعدم بصورة بشعة ثلاثون مسلما في محافظة سوهارت، كما تم إعدام عشرين أستاذا أمام طلابهم في قرية جودن على الحدود بين ألبانيا وكوسوفا كما تم جمع عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال من قرية قيرز وَوُضِعُوا في معسكر كامل محاصر من الدبابات والميليشيات الصربية حيث لا طعام ولا دواء ولا كساء أما بقية القرى والمدن فهي تعيش تحت وابل جيكوفا التي لا يستطيع أحد دخولها، يذكر شهود العيان الخارجين من حجيمها أن الجثث متناثرة في الشوارع، أما المساجد فقد تم تدمير عدد منها من خلال المدن المذكورة هذا عدا عن الاغتصاب للنساء الذي أصبح سمة للصرب في تعاملهم مع نساء المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله ويكفي أيها الأخوة المؤمنون أن نتذكر ما كان للمسلمين في البوسنة حتى نتخيل ما يمكن حدوثه لمسلمي كوسوفا ولنسائهم الحرائر كل ذلك بسبب أنهم مسلمون .
وطفلة ما رأتها الشمس إذ برزت كأنما هي ياقوت ومرجاُن
يقودها العَلْجُ للمكروه كارهة ً والعين دامعة والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
أما الفتيات اللاتي يقبعن في معسكرات الاعتقال فقد تجازون الألف في عدد من معسكرات الاعتقال الصربية التي تشتمل كذلك على عدد من الرجال والأسر من المسلمين ويجعلون كدروع بشرية أمام القذائف عدا ما يتعرضون له من جوع وهلاك حتى بان ذلك في أجسامهم وهم يعيشون مآساة دامية ونكبة فاجعة حلت بهم، وهم أقوام عزل حرموا في كل شيئ حتى الدفاع عن أنفسهم ،إنها مأساة رفع فيها الظلم والاضطهاد أعلامه وراجت فيها سوق المجازر الجماعية ، حدثوني عن أتباع دين أهينوا مثل هذه الإهانات حدثوني عن أمة ترى وتسمع ذلك ثم لا نرى منها سوى التنديد المتأخر ، حدثوني عن القوى الهائلة والثروات المعطلة والقنوات الفضائية العربية التي أصبحت جميعها مسخرة للرياضة والفن ومحجوبة أو مشوهة في عرض أحوال المسلمين ، إن أحد خلفاء المسلمين هب ومعه جيش عرمرم لنصرة امرأة صرخت وا معتصماه :
ولكن رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا الُيتَِّم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أيها المسلمون :
صفحتنا الأخرى عن كوسوفا الجريحة تتعلق بمظهر آخر من مظاهر الأزمة ووجه كالح أسفرت عنه الأزمة وهو تهجير النساء والأطفال والشيوخ بالقوة من ديارهم ومنازلهم وبسرعة عظيمة حتى قاربوا المليون لاجئ خلال أسبوعين ، ولا شك أن صعوبة عودة هؤلاء إلى ديارهم تتضح لنا حين نرى ما حل بلاجئي البوسنة الذين لم يعد أكثرهم إلى مواقعهم الأصلية حتى اليوم ، إن مصيبة بلاجئي كوسوفا هي بحد ذاتها عظيمة بل قد يكون وضعهم ومصيرهم أسوأ حالا وأشد ضررا مما هو في داخل كوسوفا ، وكأنه التهجير أصبح هدفا يسعى إليه النصارى بغربهم وشرقهم لتفريق هذه الجموع المسلمة في أوربا يقول تعالى لا يألونكم خبالا ودُّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .[آل عمران: 118]
إن هؤلاء اللاجئين من مسلمي كوسوفا الذين تعرضوا لكل بلاء على أيدي الصرب قد وقعوا ضحايا للجوع والعطش ، وفريسة للأمراض التي لا تجد لها رفعا ولا دفعا ، فلا مأوى يأوون إليه فيتقون به البرد القارس ، يهيمون في كل واد ينتظرون الموت، عزل من كل شيء فراشهم، أرض ملأى بالثلوج ولحافهم السماء ، فإلى الله نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس ، كيف أصبح اللجوء واليتم سمة للمسلمين تميزهم عن غيرهم في بقاع العالم ، تراهم يقتسمون أرغفة الخبز جوعى ، تستقبلهم منظمات كافرة ترحلهم إلى بلدانها لتغريبهم وتغيير دينهم أو تقليله في نفوسهم .
تمزقهم نيوب الجوع حتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على ضواء ويقتسمون أرغفة الخيال
وناموا في العراء بلا غطاء وساروا في العراء بلا فعال
كأن البيد تلفظهم فتجري بهم بيد إلى بيد خوالي
وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أفتك بالرجال
وقبل الجوع تنهشهم أياد من الأفرنج دامية النصال(/2)
أين أنتم إخوتي من صورة الأطفال الذي يحملون من معسكرات اللاجئين على وجوههم الحيرة وفي أعينهم الذهول بعد أن فقدوا أو أضاعوا آباءهم ، صورة ترجف بالفؤاد ، وتفت الأكباد صورة رأيناها لذلك الأب المسلم والدمع يتقار من عينيه وهو يحيل الدمع عن محاجرها ، يقبل أطفاله قبلات الوداع ، أما إلى أين سيذهبون ، متى سيلتقون وماذا سيواجهون ، فهذا ما لا نعلمه ولا يعلمه هو ، ترى أطفالهم خلف زجاج الحافلات منقولين إلى بلدان لا يعرفون فيها إسلامهم الذي ولدوا عليه، بل يعيش بعضهم في مراكز التنصير والكنائس حيث يودعون فيها دينهم وإسلامهم الذي نشأوا عليه .
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند جمعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
أيها الأخوة :
هذه هي القضية ، وذلكم هو وضعها وأخواتها مثلها ، إن القضية ليست غامضة ولا ملتوية ، وما هي بالمستعصية الفهم أو الشائكة ، لكنها تحتاج إلى شيء من الفهم القرآني ، والإلمام بطبائع الأشياء واستعراض النواميس الإلاهية والسنن الأزلية .
إن إزالة أسباب الخذلان والهوان أهم وأولى من إزالة آثار العدوان ، وهذا الطغيان لن يوقفه إلا الإسلام، وان مَيْل الميزان لا يعدله إلا القرآن ، الحل بيّن والحق واضح ، إنه صراع عقائد ، ومعركة مع من كفر بالله واتخذ له صاحبة وولدا تعلى الله عما يقولون علوا كبيرا ، إنه حكم قرآني لا تشوبه شهوات ولا شبهات ، حقائق اليقين من رب العالمين ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم .[البقرة: 120] خطاب قرآني يخاطب المسلم في وجدانه وعقله ولا يزالون يقاتلونكم حتى يرودكم عن دينكم إن استطاعوا معهم ومع يهود معركة حياة ومصير يتقرر بها وجود أو عدم انتصار أو اندثار يقول عن معركتنا جل وعلا كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ،[المائدة: 64] ولنستيقن إخوتي أن كل ما نراه من مصاعب تحل بعالمنا الإسلامي إنماهي بإذن الله إرهاصات لنمو إسلامي متكامل، يشمل الحياة كلها وألا يدخل اليأس في قلوبنا، فوعد الله عز وجل بالنصر والتمكين متحقق بإذن الله بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الشرك وأهله ونسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر لإخواننا المسلمين في كوسوفا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .[الحج:40]
بارك الله لي ولكم . . .
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى واعلموا أن مشاركتنا لإخواننا المسلمين في كوسوفا مطلوبة ومهمة وآداءً لواجب النصرة ، إنها مشاركة مبعثها الاهتمام بأمور المسلمين.
والشعور بالأخوة الإيمانية المبنية على لحمة الدين والإسلام، المتجاوزة حدود اللون والجنس والوطن ، إننا نطالب كل مسلم بالمشاركة الوجدانية ، ومشاركتهم مشاعره وعواطفه إنك مطالب ، أخي المؤمن ، أن تشعر بالجسد الواحد ، أن تحس بجوعهم وهم جوعى ، وبفقرهم وهم حفاة عراة ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، فياليت شعري هل رأيت المرأة العجوز وهي تسعى لاهثة هربا من القذائف الصربية حتى تصل إلى الحدود وإذا بها بدلا من أن تلتقط أنفاسها تلفظ آخر أنفاسها ، بعد أن بلغت رسالتها للمسلمين الغافلين عن قضيتها غير عابئين بصرختها لأنهم لاهثون خلف كرة يشجعونها أو فن رخيص يطربون له ،ترى هل تتذكر المرأة المسلمة وهي تعيش في كنف زوج وتهنأ بالسعادة والراحة ، هل تذكرت كم من امرأة توالت عليها المحن وفقدت عشيرتها بعد أن كانت تحت كنف زوج عطوف بل تَضْحَي بيد الكافر رهينة وقد هتك بالرغم عنها سترها .
وأنت أخي المؤمن ، حين تنظر إلى أطفالك تذكر أطفالهم فكم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية ، ويلتمس حنان الأم الرؤم ، يرنوا إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه
كيف لو أبصرت طفلا لم يذق منذ رأى دنياه طعما للحنان
لم يذق إلا الأسى المر ولم يسمع سوى ، صوت الطعان يا ابنتي قولي معي : أيها العالم سحقا حينما تغدو حياة الناس مَيْدُان رهِان
حينما يفتقد الطفل الحنان(/3)
نريد الشعور بالجسد الواحد الذي أخبر عنه الذي إذا اشتكى منه عضٌو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، إن دمعة من عينيك ، وزفرة من صدرك لهي دليل صدق الانتساب لهذا الدين بل هي عبادة تؤجر عليها ، ثم إكمالا لذلك يتحول هذا الهم وهذه المشاعر إلى بذل المستطاع في نصرتهم والوقوف معهم يقول عليه الصلاة والسلام ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )) ، رواه مسلم وقال : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه َدْينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام )) رواه الطبراني وصححه الألباني ، فهلا مددنا أيدينا إخوتي بالدعم المادي والمعنوي لإخواننا المسلمين في كوسوفا حيث يستقبل مكتب هيئة الإغاثْة الإسلامية التبرعات لهم، كما أننا ندعوكم هذا اليوم لبذل اليد بالمال لإخوانكم في مسلمي كوسوفا ونستقبل تبرعاتكم لهم بعد الصلاة على يد بعض إخوانكم وستصل هذه التبرعات إليهم عبر شباب من هذا البلد في أسرع وقت بإذن الله ، وعليكم بالدعاء والابتهال إلى الله برفع البلاء وكشف اللأواء عنهم ، اللهم أنت المستعان وبك المستغاث وعليكم التكلاف ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم يا كاشف الخطوب ويا مفرج الكروب ويا من يجب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء نسألك لإخواننا في كوسوفا النصر والإعانة ، اللهم كن لهم ناصرا يوم قل الناصر ، ربنا من يسمع بكاء الأطفال إلا أنت ومن يجيب نداء النساء إلا أنت ، اللهم اجعل لهم مما هم فيه مخرجا وفرجا ، اللهم نفس كربهم ، ويسر أمرهم ، وفرج همهم واخذل عداءهم إنك سميع مجيب اللهم اجعل بذل المسلمين اليوم درعا ووقاء لهم من عذاب جهنم واجعله نصرة لإخواننا المسلمين ورفعة لهم وكشفا لكربتهم بفضلك يا أرحم الراحمين استغاثة.
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب(/4)
كونوا على الخير أعوانا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " آل عمران : 102
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " النساء : 1
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " الاحزاب : 70-71
أما بعد :
فقد جاء الإسلام بالأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان قال الله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ِ(2) سورة المائدة
وما أحوجنا في هذا الزمان الذي انتشر فيه الشرّ وانحسر فيه الخير وقلّ المعينون عليه أن نحيي هذه الشعيرة العظيمة وندعو إليها ونحثّ عليها لما فيها من الخير العظيم والنفع العميم . من إقامة أمر الدين وتقوية المصلحين ، وكسر الشرّ ومحاصرة المفسدين .
الإعانة ومرادفاتها في اللغة
قال صاحب الألفاظ المؤتلفة :
باب الاعانة :
يقال أعانه وأجاره وأيده .. ورافده وأغاثه وعاونه وعاضده وآزره وناصره .. وظافره وظاهره ومالأه ، والعون : الظهير ، ورجل معوان كثير المعونة للناس و استعان به فأعانه و عاونه وفي الدعاء : " رب أعني ولا تعن علي . " وتعاون القوم أعان بعضهم بعضا .
ومن ثمرات التعاون الألفة ، قال الجرجاني في تعريف الألفة : اتفاق الآراء في المعاونة على تدبير المعاش
( انظر الألفاظ المؤتلفة 1/159 ، التعريفات 1 /51 ، ولسان العرب 13/298 )
وفي التعريف كلمة مهمة وهي : " اتفاق الآراء " وما توحي به من وحدة الهدف ، واجتماع القلوب على بلوغه .
معنى التعاون شرعا
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : " الإعانة هي : الإتيان بكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، والامتناع عن كل خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المسلمين ، بكل قول يبعث عليها ، وبكل فعل كذلك " ( تيسير الكريم الرحمن 2/238 بتصرف يسير )
وسئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى " فقال : هو أن تعمل به وتدعو إليه وتعين فيه وتدل عليه . ( حلية الأولياء 7 /284 )
يقول القرطبي في تفسيره : ( وتعاونوا على البر والتقوى : هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ؛ أي ليُعِن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الدال على الخير كفاعله ) الجامع لأحكام القرآن 3/6/33 .
وقال القاسمي في تفسيره : ( لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون ، أُمروا - إثر ما نهوا عنه - بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى .. ، ثم نُهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ) ( محاسن التأويل 3/22)
وقال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى .. الآية :
( اشتملت هذه الاية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم ، فإن كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين : واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق ، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونه والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولاسعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله ) ( زاد المهاجر 1 /6-7 ) .
ثم بيّن أهمية التعاون على البر والتقوى وأنه من مقاصد اجتماع الناس فقال : " والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى ، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا ، فإن العبد وحده لايستقلُّ بعلم ذلك ولابالقدرة عليه ؛ فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعضه معينا بعضه لبعضه . ( زاد المهاجر 1/13)
فالإنسان ضعيف بوصفه فردا ، قوي باجتماعه مع الآخرين ، وشعور الإنسان بهذا الضعف يدفعه حتما إلى التعاون مع غيره في أي مجال ، فأمر الله العباد أن يجعلوا تعاونهم على البرّ والتقوى .
الفرق بين البر والتقوى ، والإثم والعدوان :(/1)
قيل البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكل برّ تقوى ، وكل تقوى بر . وقيل : البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، وقد ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البرّ رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته . ( أنظر الجامع لأحكام القرآن 6/47)
و" البرّ هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين ، والتقوى في هذه الآية : اسم جامع ، لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . ( تيسير الكريم الرحمن 2/238)
وقال ابن القيم مفرقا بينهما : " وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فإن البرّ مطلوب لذاته إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم وأما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه ( زاد المهاجر 1 /11)
أما الفرق بين الإثم والعدوان :
فيقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : ( " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو التجري على المعاصي التي يأثم صاحبها .. " والعدوان " وهو التعدي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم .
فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه ) ( تيسير الكريم الرحمن 2/239)
ومن القواعد المؤكّدة في التعاون :
أن المعاونة على البرّ : برّ
قال البيهقي - رحمه الله - : " الثالث والخمسون من شعب الإيمان ؛ وهو باب في التعاون على البر والتقوى قال الله عز وجل ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ومعنى هذا الباب أن المعاونة على البر بر لأنه إذا عدمت مع وجود الحاجة إليه لم يوجد البر وإذا وجدت وجد البر فبان بأنها في نفسها بر ثم رجح هذا البر على البر الذي ينفرد به الواحد بما فيه من حصول بر كثير مع موافقة أهل الدين والتشبه بما بني عليه أكثر الطاعات من الاشتراك فيها وأدائها بالجماعة " ( شعب الإيمان 6/101 )
ثم ساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تمنعه من الظلم ، فذلك نصره ) أخرجه البخاري برقم 2444
ومعنى هذا أن الظالم مظلوم من جهته كما قال الله عز وجل ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ) فكما ينبغي أن ينصر المظلوم إذا كان غير نفس الظالم ليدفع الظلم عنه كذلك ينبغي أن يُنصر إذا كان نفس الظالم ..
التعاون بين البشر من فطرة الله التي فطر الناس عليها
يقول ابن خلدون في مقدمته :
الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكَنّ وغير ذلك وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيّء لذلك التعاون ، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه . ( مقدمة ابن خلدون 1/429 )
وبيّن رحمه الله أهمية الاجتماع والتعاون لبني البشر وذكر أن التعاون يحصل به من الثمرة أكثر من حاجات المتعاونين فقال :
( قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجاته في معاشه وأنهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك ، والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا ، فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصته منه وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حدّاد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم ) . انتهى ( مقدمة ابن خلدون ج: 1 ص: 360)
ويقول في موضع آخر فيه مزيد بيان : ( إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصلح حياتها ولا بقاؤها إلا بالغذاء ، وهداه إلى التماسه بفطرته ، وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله ، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء ، غير موفية له بمادة حياته منه .
ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا ، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري .(/2)
هب أنه يأكل حبا من غير علاج ؛ فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه ؛ الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل ، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد ، فلابد من اجتماع القُدُر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم ) ( مقدمة ابن خلدون 2/272-274 ) .
وهذا الكلام يدل قطعا على أن توزيع المهمات لإنجاز الأعمال من التعاون المطلوب ، وأن هذا التعاون بين الأفراد ينتقل بعمل كلّ منهم ليصبح وظيفة عامة اجتماعية تكفل العيش لعدد كبير من المجمتع ، فالتعاون بين الأفراد وتقسيم العمل ظاهرتان ملازمتان للإنسان ولا غنى له عنهما ، وأنّ تعاون المجموعة لا يُنتج ما يكفيهم فقط وإنما يزيد ويفيض .
وهذا كلام عام في الأمور الدينية والدنيوية ، فأما بالنسبة للتعاون الشّرعي فإن الأسباب الدافعة لدى المسلم للتعاون على البرّ والتقوى والمشاركة في الخير عدّة ومنها :
- تحصيل ثواب امتثال الأمر الوارد في قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى "
- زيادة الأجر والمضاعفة : قال ابن القيم رحمه الله : ( فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله ، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة ؛ فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة ، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر بل قد قيل إن الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين ، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ، ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم ، وقد أخبر الله سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم . ( الروح 1/128)
- الحاجة : فإنّ كثيرا من الأهداف والمشاريع الإسلامية لا يُمكن تحقيقها فرديا ، ولهذا قيل : لا يعجز القوم إذا تعاونوا .
- إتقان العمل وسهولة القيام به يكون أبلغ مع التعاون والعمل الجماعي وذلك أن الاشتراك في العمل مع آخرين يجعله أخفّ مشقّة وأسهل لتوزّع الحمل على الجميع
والتعاون المأمور به في الآية :
الأول : تعاون على البر والتقوى ؛ من الجهاد وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستيفاء الحقوق وإيصالها إلى مستحقيها ، يقول القرطبي في تفسيره : ( والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" ، ويجب الإعراض عن المتعدي، وترك النصرة له ورده عما هو عليه ) ( الجامع لاحكام القرآن 6/47 )
والتعاون المنهي عنه في الآية : التعاون على الإثم والعدوان ؛ كالإعانة على سفك دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، أو انتهاك عرض مصون ، أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك ..
والمعاونة تكون بالجاه والبدن والنفس والمال والقول والرأي .
مجالات التعاون على البر والتقوى :
إن التعاون على البر والتقوى يكون بوجوه كثيرة تفوق الحصر ، فكل عمل في مرضاة الله يكون التعاون والتظاهر عليه من التعاون على البر والتقوى .. ومن أمثلة ذلك :
أولا : التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين :
ويكون ذلك بنصرة الإسلام وأهله ، فقد حضّ الله تعالى عباده المؤمنين على نصرة دينه وأوليائه ، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة بشتى الوسائل المشروعة ، فقال عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله " الصف : 14 ، أي يساعدني في الدعوة إلى الله ( البداية والنهاية 2/85 ) .(/3)