أيها المسلم و المسلمة: وفي يوم عظيم أنتم فيه أشد حاجة إلى الظل تستظلون به من حر الشمس حين تدنو من الخليقة، والعرق يلجمهم على قدر أعمالهم ـ هل علمتم أن من أسباب ظل الله للعبد يوم لا ظل إلا ظله ـ البعد عن مقارفة الزنا، وتصور عظمة الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)).
أيها المسلمون: إن عذاب الله شديد، وعقابه أليم. وهو يمهل و لا يهمل، فلا تؤخذوا بالاستدراج، ولا ينتهي تفكيركم عند حدود الحياة الدنيا، فإن يوما عند ربكم كألف سنة مما تعدون .
ولو عدنا مرة أخرى للدنيا لوجدنا من الزواجر و الروادع غير ما مضى ما يكفي للنهي عن هذه الفاحشة النكراء .
فالأمراض المدمرة يجلبها الزنا وقد جاء في الحديث، ((أن النبي صلى الله عليه و سلم أقبل على المهاجرين يوما فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن فذكر منها: ((ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم(1))).
وهنا نحن اليوم نشهد نبوة النبي صلى الله عليه و سلم في المجتمعات التي ينتشر فيها الزنا .
أيها المسلم و المسلمة: وكل منا محتاج إلي كشف الكربات التي تصادفه في الدنيا و كشف كربات القيامة من باب أولى، وقد ورد أن البعد عن الزنا سبب لتفريج الكربات، كما في قصة الذين انطبق عليهم الغار، فاستصرخ كل منهم ربه بعمل عمله، وكان من أعمال أحدهم أنه راود يوما امراة في الحرام، فلما وقع منها موقع الرجل من امرأته قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فخاف الله وأقلع عنها، وكان هذا العمل سببا لرفع جزء من الصخرة عنهم .. وكذلك يفرج الله عن عباده العارفين به حال الضراء إذا مسهم الضر و أصابهم البلاء.
أيها المسلمون: هذه مقدمات وروادع لفاحشة الزنا، وبيان لبعض عقوباتها في الآخرة والأولى. اما الأسباب المؤدية للجريمة، وأما العوامل المساعدة على الخلاص منها، فتلك لأهميتها أرجئ الحديث عنها لخطبة قادمة بإذن الله.
عصمني الله وإياكم من كل مكروه، وأخذ بأيدينا الى الخير والفلاح.
هذا وصلوا على القائل: ((ما من عبد يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة مادام يصلي علي فليقلَّ العبد من ذلك أو ليكثر(1))) .
(1) ابن حمد 1/27، والنظر صحيح الجامع 3/165 0
(2) ابن حمد 1/127 0
(1) صحيح الجامع 6/306 0
(1) صحيح الجامع 5 / 174 ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
فاستقم كما أمرت
الحمد لله المحمود بكل لسان المعبود في كل مكان الذي لا يشغله شأن عن شأن
سبحانه جل عن الاشباه والانداد وتنزه عن الصاحبة الاولاد .
وأشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
وأشهد ان نبينا وحبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام .
اما بعد عباد الله اتقوا حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون وبعد :-
عباد الله الاستقامة موضوع عظيم، جدير بكل مؤمن، العناية بالاستقامة، والحرص على ذلك في جميع الأوقات، وسؤال الله - جل وعلا - والضراعة إليه بطلب التوفيق لذلك.
عبد الله، إحرص على الخير، وبادر إليه وكن من أهله ، وأحذر الشر وأبتعد عنه وعن وسائله وأسبابه، وعليك بسؤال ربك والضراعة إليه: أن يمنحك العون والتوفيق.
وهذه الدنيا هي دار الابتلاء والامتحان، هي دار العمل والإعداد للآخرة. فالله خلق الخلق؛ ليعبدوه، وأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وأعطاهم عقولا وأسماعا وأبصارا، وابتلاهم بالشياطين، من الإنس والجن، والشهوات.
وهذه الدار دار عمل، ليست دار نعيم ولكنها دار عمل، هي دار الغرور،
((" فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ))
متاعها قليل، كما
قال تعالى (( أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ"))
و لقد أمر الله - عز وجل - عباده المؤمنين بالثبات على هذا الدين القويم، والاستقامة عليه حتى الممات، وكان على رأس الخلق إمام الموحدين، وقائد الغر المحجلين سيد المرسلين المعصوم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال الله له"(( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))هود112
فاستقم كما أمرت . . أحس - عليه الصلاة والسلام - برهبتهه وقوتها حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليها: شيبتني هود وأخواتها . . . . فالاستقامة: عباد الله هي الاعتدال والمضي على نهج الله دون انحراف . مع اليقظة الدائمة ، والتدبر الدائم ، والتحري الدائم لحدود الطريق المستقيم
وقال أيضا"جل وعلا ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ))الشورى:15
كيف لا؟ وقد جعل الله لمن آمن بدينه حقا، واستقام على طريقه صدقا، الفضائل العظيمة، والمنازل الرفيعة، والدرجات العلا في يوم تزل فيه الأقدام، وتخف فيه الموازين، ولا شك أن الاستقامة من أعظم المسؤوليات، وأوجب الواجبات، التي كلفنا الله - عز وجل - بها، وأن على المرء أن يبذل جهده ويسأل ربه العفو والغفران إذا ما قصّر أو أخل في حياته بشيء منها، قال الله - عز وجل - على لسان رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ))فصلت6
وقد أخبر - عليه الصلاة والسلام - أن الناس لن يعطوا الاستقامة حقها فقال((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))رواه ابن ماجة،
وقد تنوعت أقوال سلف هذه الأمة في تعريفها، وما المراد منها؟ فها هو أعظم الخلق استقامة بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول عنها: الاستقامة أن لا تشرك بالله شيئا، ويقول الفاروق أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.
ويقول ترجمان القرآن وحبر هذه الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما -: استقاموا أي أدوا الفرائض، وحقيقة الاستقامة: السداد في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد
والحق أخي المسلم : إن الاستقامة تعني التمسك بهذا الدين كله، صغيرة وكبيرة، قليلة وكثيرة، جلية وخفية والثبات عليه حتى الممات،
ورحم الله شيخ الإسلام بن تيمية يوم قال(أعظم الكرامة لزوم الاستقامة)تهذيب المدارج
نعم.. الاستقامة طريق إلى الجنة ونعيمها، والفوز بالنجاة من النار وجيحيمها.. الاستقامة تعني طاعة الكريم الرحمن، ومتابعة أشرف الرسل من ولد عدنان.. الاستقامة طريق إلى محبة الله والانقياد له وعبوديته وحب التلذذ بذكره.. الاستقامة ثبات على الدين، ولزوم لصراط الله المستقيم..
وثبات حتى الممات قال تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))
ومما يعينك عبد الله على سلوك سبيلها ونيلها والتشرف بأن تكون من أهلها ما يلي:
أولاً الإخلاص لله تعالى -:
فإن من أعظم الأصول المهمة في دين الله تعالى تحقيق الإخلاص لله تعالى إذ إنه حقيقة الدين، ومفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام"وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين"البينة:5(/1)
وهو مما ينبغي للعبد المجاهدة فيه حتى يُرزق تمامه، سئل سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله تعالى - أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
ثانياً متابعة المعصوم - صلى الله عليه وسلم -:
قولا وفعلا في كل ما يأتي الإنسان ويذر في حياته، فلا يكمن حب المسلم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بمتابعته - عليه الصلاة والسلام
(( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))آل عمران31
ولا شك أن اتباع هدي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - واقتفاء أثره في الأقوال والأعمال والأحوال عظيم، وطريق جليل لنيل الاستقامة والثبات عليها، وحق لمن فارق السنة أن يفارق الدليل، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل.
ثالثاً فعل الطاعات واجتناب المحرمات:
فإن مما يعين العبد المسلم إلى الوصول إلى الاستقامة وتحقيقها محافظته على الطاعات فرائض كانت أو نوافل، وهي مما أهمّ الوسائل التي تجلب للعبد محبة سيده ومولاه((ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه))رواه البخاري
فإذا أحب الله عبدا أعانه وسدده ووفقه للاستقامة على دينه، كما أن اجتناب المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها جليِّها وخفيِّها له الأثر الكبير في تحقيق معنى الاستقامة، إذْ يقول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم –((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) رواه أحمد
رابعاً العلم:
وأفضله بلا شك: علم الوحيين الكتاب والسنة، الذي هو أفضل القربات إلى الباري - جل وعلا وهو تركة الأنبياء وتراثهم، وبه تحيا القلوب، وتُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال والحرام، وهو الدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، وهو الصاحب في الغربة، والحديث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، وبه يعرف العبد ربه، ويوحده ولا يعبد غيره ويأنس به ولا يلتجأ إلى سواه، ورحم الله عمرو بن عثمان المكي يوم قال"العلم قائد، والخوف سائق، والنفس حرون بين ذلك جنوح خداعة، رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف يتمّ لك ما تريد) تهذيب مدارج السالكين
خامساً مصاحبة الصالحين: إن من أهم ما يعين على الاستقامة مصاحبة الصالحين ومجالستهم وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم قال((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل))رواه أبو داود
سادساً الدعاء: وهو السلاح الخفي للمؤمن، وحقيقته: إظهار العبد افتقاره إلى سيده ومولاه، وهو سمة من سمات المحسنين المستقيمين
قال تعالى
((وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ))الأعراف56 وليس شيء أكرم على الله من الدعاء، فهو من أجلّ وأهمّ الأسباب الجالبة للاستقامة بإذن الله تعالى ، كيف لا؟ والعبد يقرأ في كل ركعة من صلاته((اهدنا الصراط المستقيم))
اهدنا الصراط المستقيم . . وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم المصل اليك ؛ ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته . . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته .
والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين . وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه . فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين . .
صراط من : صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . . فهو طريق الذين قسم لهم نعمته . لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه . أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه . . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين . .
ورحم الله إمام أهل البصرة الحسن البصري، كان إذا قرأ هذه الآية (فاستقم كما أمرت) كان يقول: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة
روى الإمام أحمد والنسائي عن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً غيرك.
قال صلى الله عليه وسلم ((قل آمنت بالله ثم استقم))
قلت فما أتقي؟ أي: أتوقى شره، فأومأ إلى لسانه..
والاستقامة: الإقامة والملازمة للسير على الصراط المستقيم الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي إليه كما قال - تعالى - :
((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ))الشورى53
وقال تعالى ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ))الأنعام153
إنه صراط واحد صراط الله وسبيل واحد يؤدي الى الله طريق التوحيد والعبودية لله وحده
فالماشي على الصراط المستقيم لا يحيد يمنة ولا يسرة فيضل ويقع في المتاهات.(/2)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفَى,وصلاةً وسلاماً على عبادِه الذين اصطفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له العليّ الأعلى, وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, صاحب النّهج السوي والخلق الأسنى, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
وبعد
عباد الله لو تأملنا هذه الاية المباركة وهي
قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ))فصلت30) لوجدنا إشراقات كثيرة منها:
1 - ألا تخافوا من ردّ حسناتكم فهي مقبولة، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة.
2 - ألا تخافوا مما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم في الدنيا.
وهذه التنزلات الملكية بالأمان من المخاوف ومن الأحزان، وبالبشائر تتوارد عليهم وتتوالى وتتابع في جميع أحوالهم وفي حالات المخاوف، وأشدها عند الموت وفي القبر وعند البعث، ففي هذه المواطن الثلاثة المخيفة المغمّة يكونون في أمان وسلام ويستبشرون بالأمن والأمان من الرحيم المنان.
- نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا.. فكيف ذلك؟
إن الملائكة أحباؤنا الذين يدعون لنا بالخير، ويلهموننا إياه ويحسّنون لنا الحسن، ويحذروننا من الشر حين كان الشيطان يزيّنه لنا، يدل على ذلك ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه ("إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد من ذلك شيئاً - أي الإيعاد بالخير والتصديق بالحق - فليعلم أنه من الله تعالى ، فليحمد الله تعالى . ومن وجد الأخرى - أي لمة الشيطان - فليتعوذ بالله من الشيطان)ثم قرأ ((الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاًوَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))البقرة268
والملائكة يحضرون مجالس العبادة والصلاة وتلاوة كتاب الله، كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم:
((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.)).
والملائكة هم معناإن كنا من أهل الاستقامة والثبات في الآخرة.. فكيف ذلك؟ إنهم يكونون معنا في قبورنا، يلاطفوننا ويؤانسوننا، ويحتفون بنا، لئلا تعترينا وحشة في القبور، وفي الحشر والنشر، ويصاحبوننا في سيرنا على الصراط المستقيم حتى نصل إلى الجنة إن شاء الله تعالى وتتلقانا ملائكة الجنة فندخلها بسلام وأمان قال تعالى - : ((وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ))الزمر73
وهم الملائكة يشهدون للمؤمنين عند ربهم بطاعتهم وعبادتهم وأذكارهم وتلاوة كتاب الله، لأنهم معهم يشاركونهم.
قال تعالى : ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ))غافر51 ومن جملة الأشهاد الملائكة عليهم السلام.
روى ابن ماجة عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها)وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول) فالاستقامة نور في الحياة الدنيا، وعزة وكرامة في الآخرة ومنازل الأبرار في الجنة. اللهم اجعلنا من أهل الاستقامة. يارب العالمين
هذا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه
فقال (( انَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))الأحزاب56
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان – اليمن(/3)
فاستقم كما أمرت
محمد العواودة
تشكل مباني الإسلام الخمسة عماد الدين وجوهره، وعلى ممارسة هذه الشعائر يدأب كل من أسلم وجهه لله، تنفيذا لامر الله وطاعته، إلا أن الكثير ومع تمسكهم بممارسة هذه الشعائر، يكونون أقل دأبا بالالتزام بمسائل التشريع الأخرى، ظنا منهم أن عدم الالتزام فيما سوى الأركان (بتأويل كان أو غير تأويل) سيذوب في الأركان من حيث الثواب، وأن هذه الأركان وحدها ضمانة الله لعباده لدخول جنته أو دفع عذابه.
إلا أن الحقيقة تجانب هذا الفهم للدين، فالإسلام كشرع ومنهاج أعم وأكبر من أن يختزل في أركانه الخمسة أو أن يترتب على ممارستها فقط جنة أو دفع عذاب، فبالرجوع إلى المعنى الحقيقي للإسلام؛ فهو الاستسلام انقيادا وانصياعا بالكلية لامر الله المتمثل في شرعه، فلا يجوز أن نؤمن ببعضه ونكفر ببعض انقيادا وراء الأهواء والشهوات، فالشرع جملة متكاملة من الأحكام يكون الإخلال بشيء منها قدحا بالهوية من جهة ويكون على حساب ما تكامل منها من جهة أخرى، والكلام هنا ليس لمن قال الله فيهم (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) بل لمن انتهج ما تقدم كطريقة حياة باسم الإسلام.
والقدح بالهوية يكون بانتزاع كمال صفة الانقياد لامر الله التي على إثرها سمي المسلم مسلما، أو كمال صفة التصديق والإخلاص التي على إثرها سمي المؤمن مؤمنا، مثال قوله صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " أو قوله " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "فمع أنه بالعرف يكون مسلما، ودمه وماله وعرضه معصوم باسم الإسلام إلا انه لا يتحقق فيه المعنى الشرعي الأصيل بالتسليم الكامل لامر الله، ولا يبعد معنى الحديث الثاني عن الأول والأحاديث كثيرة في هذا السياق.
وأما ما يكون فيه الخلل على حساب ما تكامل منها، فيكون بمرجوح الميزان، إذ "تأكل السيئات الحسنات كما تأكل النار الحطب" كما في الخبر، فلا تكفي إذا الممارسة للشعائر المجردة عن الإخلاص المخول للاتساق مع المراد الشرعي من الإسلام لرجحان الميزان، الذي هو بيت القصيد لكل مسلم، فيما قد يؤدي الأمر في منتهاه إلى الإفلاس في رصيد مما كان قد أثيب فيه من عمل صالح ولا سيما ثواب ممارسة الأركان، ففي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سأل أصحابه يوما عن ماهية المفلس، فقالوا المفلس من لا درهم له ولا متاع. فقال صلى الله عليه وسلم إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار.
فالأحاديث واضحة في المسألة، ولا مناص من التطبيق الكامل لمسائل الشرع، إذا كنا نهتم فعلا بالحياة الآجلة التي هي حصاد العاجلة، وما يترتب على هذا الحصاد من عقاب وثواب، وسعادة وبؤس على صفة الدوام.
وإذا كنا فعلا نريد أن نهتم، فالعلاج النافع لذلك هو الإخلاص بالخضوع الكامل للتشريع، والإخلاص منبته الإحسان، والإحسان كما هو معروف، أن" تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، فإذا كان العبد يرى الله في جميع تصرفاته، فذاك يعني أنه استقام لامر الله ويستحق كرمه وعطاءه(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)، فجعل الله الاستقامة شرطا لدخول الجنة، ولا ينبو عن الفهم من دليل الخطاب، أن ممارسة الشعائر الدينية وحدها لا تفي بمقصود الاستقامة(/1)
{فاستقم كما أمرت}
يقول الله (عز وجل) : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } [*] .
قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله (تعالى) في المنشط والمكره من القضايا الجوهرية في التصور الإسلامي ، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع وأدبياته ، وليس أدل على ذلك من وصية الله (تعالى) لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية وفي غيرها بـ (الاستقامة) ، التي هي : (المداومة على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه) .
وقد قام (عليه الصلاة والسلام) بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول فصل يصلح به جماع أمره ، حيث جاء في الصحيح : أن سفيان بن عبد الله (رضي الله عنه) قال : قلت : (يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم) [1] .
ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية :
1- إن في قوله (جل وعلا) { وَلا تَطْغَوْا } ، وقوله : { وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من ملابسات السرّاء والضرّاء ، وقد أخبرنا ربنا (جل وعلا) أن من طبيعة البسط والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان ، حيث قال (سبحانه) : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ } [الشورى : 27] .
والبغي هو مجاوزة الحد ، وهو يتجسد في صور متعددة : فبغي القوة :
البطش بالضعفاء ، وبغي الجاه والنفوذ : الظلم وأكل الحقوق ، وبغي العلم : اعتماد العالم على ما لديه من شهرة ومكانة ؛ مما يدفعه إلى القول بغير دليل ، ورد أقوال المخالفين من غير حجة ولا برهان ، وطغيان المال : التبذير والإسراف والتوسع الزائد في المتع والمرفهات .
والعارض الثاني للاستقامة على خلاف الأول ، حيث تدفع الطموحات والتطلعات المصلحية والضعف والظروف الصعبة إلى مصانعة الظالمين ومداهنتهم وإشعارهم بالرضا عما هم فيه ، والاستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع في تحسين الأحوال وتحقيق المكاسب ... مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام في هذه الحال تقتضي المناصحة ، والهجر ، والضغط الأدبي ، والتحذير من التمادي في ذلك ، وهذا كله منافٍ للركون ؛ لكن الشيطان يبرهن دائماً على أنه يملك خبرات مميزة في تزيين الباطل والتلبيس على الخلق ، فهو ينسيهم أحكاماً ومواعظ وأدبيات ومواقف وتجارب ، ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك !
2- إن الاستقامة في التحليل النهائي ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه ومعتقداته ، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة ، ومهما ضيع من فرص ومكاسب .
وينبغي أن يكون واضحاً : أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه ، ورغب إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى ، فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين ، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم أمر الآخر .
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة أو مصلحة آنيّة ، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة فإنه بمثابة (التربع) على قمة من الشعور بالسعادة والرضا والنصر والحكمة والانسجام والثقة بالنفس ، وقد أثبتت المبادئ أنها قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة ، كما أثبت الجري خلف الشهوات دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة ، لكنه لا يفتأ أن يرتد على صاحبه بالتدمير الذاتي ، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن ، ويتألّف الشكل على حساب ضمور المضمون !
إن المبدأ أشبه شيء بـ (النظارة) إذا وضعناها على أعيننا ، فإن كل شيء يتلّون بلونها ، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم ، إنه حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب يستغرب من ذلك ، ويترفّع ؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين ، وإذا رأى الناس يخبطون في المال الحرام تقززت نفسه ؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر أولئك ، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يتجلد ويصبر ؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله (تعالى) .(/1)
إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية فإن من السهل الوقوف على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام ، ويدورون بالتالي في فلكه ، وهناك تشاهد من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه ، كما تشاهد من يتمحور حول المتعة ، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد ، ومن يتمحور حول المال ، فهو يجوب العالم بحثاً عنه ، ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ ، فهو مستعد لأن يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم .. وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من البشر استهدفت أن تحيا لله ، وأن تبحث عن رضوانه ، ومن ثم : فإنه يمكن تفسير كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور ، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ - صلى الله عليه وسلم- أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها : { قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ } [الأنعام : 162 ، 163] .
إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون ، بل هم أكثر أهل الأرض ، ولكن لا برهان على ذلك لدى أكثرهم ، ويمكن أن يقال : إن لأكثر الناس دينين : ديناً معلَناً وديناً حقيقيّاً ، ودينُ المرء الحقيقي هو الذي يكرِّس حياته من أجله .
إن من طبيعة المبدأ أنه يمد من يتمحور حوله بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن رصيده الفعلي ، ولذا : فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب المبادئ والالتزام ، وهم أنفع الناس للناس ؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يسحبوا من رصيدها الحيوي ، إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة .
التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى ، ويجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء ! !
المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية ، ويجعلها واضحة مفهومة .
نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة تُوهِن من سيطرة المبدأ على السلوك ، لكن تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبّعوا بمبادئهم ؛ حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم ، وأناس لا تمثل المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكميل شكلي لبشريتهم [2] .
3- لا يماري أحد في أن الإنسان اكتشف في العصر الحديث من الآيات والسنن ما لم يكتشف عشر معشاره في تاريخ البشرية الطويل ، لكن مع هذا فعنصر المخاطرة والإمكانات المفتوحة ما زال قائماً ؛ حيث تتحكم في الظاهرة الواحدة عشرات الألوف من العلاقات التي يصعب معها التنبؤ بنتائج الاجتهادات والأنشطة المختلفة ، ولا سيما في القضايا الكبرى ، كمصائر الأمم والحضارات ، وقضايا التقدم والتخلف ، وما تنطوي عليه من تفاعلات وتغيرات ، وإن الله (جل وعلا) قد ضمن لنا نتائج الاستقامة في الدنيا والآخرة ، فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء لا تكون إلا خيراً ، وإلا في صالح الإنسان ، وقد قال الله (جل وعلا) : { إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128] ،
وقوله : { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه : 132] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف : 96] .
أما من يسلك دروب المعاصي والفجور ، ويتبع مغريات الأهواء والشهوات فإنه يظل يتوجس خيفة من سوء العاقبة ، لكنه لا يعرف شكل العقوبة ، ولا طريقة نزولها ولا توقيتها ؛ ليكون الشك والغموض والخوف عاجل جزائه ، ومقدمةً للبلاء الذي ينتظره ، ثم تكون الخيبة الكبرى والخسارة العظمى ! !
إن هناك فترة سماحات تطول أو تقصر بين الانحراف وعواقبه وهذا هو الذي جعل الابتلاء تامّاً ، كما أنه هو الذي جرّأ أهل المعاصي على التماري في غيهم ، لكن العاقل الحصيف ينظر دائماً إلى الأمام ويتحسس ما هو آتٍ ، ويضغط على واقعة من أجل السلامة في مستقبله .
4- علينا أن نجمع بين النصوص التي تدل على ضرورة الاستقامة والالتزام بالمنهج الرباني ، والنصوص التي تفيد رفع الحرج والعنت عن هذه الأمة ، من مثل قوله (جل وعلا) : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج : 78] ، وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا } [البقرة : 286] ، وقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } [البقرة : 185] ، وإذا فعلنا ذلك ، فإننا سنفهم من مجموعها أمرين :
الأول : هو ضرورة تزويد المسلمين بثقافة شرعية تتضح فيها حدود الواجبات والمباحات والمحظورات ، بما يشكل خارطة فكرية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم وعلاقاته .(/2)
الثاني : توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تجعل التزام المسلم بدينه ميسوراً ، وبعيداً عن الحرج والمشقة التي لا تُحتمل ؛ إذ إنه لا يكفي أن تكون التعاليم الإسلامية ضمن الطوق ، بل لا بد إلى جانب ذلك من أن تكون الظروف المعيشية العامة التي يحيا فيها المسلم مناسبة ومشجِعة على الالتزام .
إنه كلما تعقدت الظروف المطلوبة للعيش الكريم قلّ عدد أولئك الذين يتصرفون ضمن مبادئهم ويلتزمون حدود الشرع ، فحين يكون المرتّب الشهري للموظف لا يكفي لسداد أجرة البيت الذي يسكنه فإن شريحة كبيرة من الموظفين سوف تلجأ إلى طرق غير مشروعة في تأمين احتياجاتها اليومية ، وآنذاك سيشعرون أن الالتزام التام لا يخلو من العنت ، وحينئذ سيكون عدد الملتزمين بالطرق الشرعية في الكسب محدوداً .
إن الحضارة الحديثة أضعفت الإرادة بما أوجدته من صنوف اللهو والمتع ، وجعلت الشروط المطلوبة للحد الأدنى من العيش الكريم فوق طاقة كثير من الناس ، كما أنها أوجدت من الطموحات إلى الكماليات وأشكال المرفِهات ما يتجاوز بكثير الإمكانات المتاحة ، وهذا كله جعل الاستقامة على الشرع الحنيف بحاجة إلى نمط من الرجال أرقى ، كما جعل من الواجب على الأمة أن تفكر مليّاً في توفير ظروف تساعد على الاستقامة ، وتحفز عليها .
إن المنهجية الإسلامية تقوم دائماً على ما يمكن أن نسميه بـ (الحلول المركبة) ؛ إذ إن هناك من النصوص والأحكام ما يرفع الوتيرة الروحية للمسلم ، كما إن هناك ما يزيد في بصيرته ، وهناك ما يدعوه إلى الصبر والجلد ، وهناك ما يحفزه على تحسين ظروف عيشه وأدائه ، ولا بد أن نمح الفاعلية لكل ذلك حتى يمكن تجسيد المنهج الرباني في حياة الناس .
إن الفكر مهما كان قويّاً ، وإن الوعي النقدي مهما كان عظيماً ، فإن سلوك الناس لن يتغير كثيراً ما لم تنشأ ظروف وأوضاع جديدة تحملهم حملاً على التحول إلى سلوك الطريق الأقوم والأرشد .
ويؤسفني القول : إننا لم نستطع إلى الآن أن نبلور نظرية إصلاحية إسلامية معاصرة ومتعمقة في تلمس شروط الاستجابة والظروف الصحيحة والمثلى لها ، إلى جانب تلمس مجمل الحساسيات والترابطات والتداعيات التي تشكل المناخ المطلوب لقيام حياة إسلامية راشدة ! .
إن جل اهتمامنا ينصب على بيان ما يجب عمله ، أما البرامج والكيفيات والإجراءات والأطر والسياسات التي يجب اتباعها وتأسيسها من أجل تحويل المبدأ إلى واقع معيش .. فإنها لا تلقى ما تستحقه من اهتمام ومتابعة ، والخبرات لدينا في ذلك ما زالت ضئيلة ، بل إن هناك مَن يستوحش من الخوض في غمار مثل هذا النوع من البحث ، ويعد التعمق في ذلك ضرباً من (الاستغراب) أو الجنوح نحو المادية ! ، ومن الدعاة من يدعي أنه عارف بكل ذلك ، لكن لو نظرت في إنتاجه المعرفي لم تقف له في هذه السبيل على كتاب أو رسالة ، بل على خاطرة أو فكرة .
(وما أطيب العرسَ لولا النفقة) ! !
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
_______________
(*) الآيتين : 112 ، 113 من سورة هود .
(1) أخرجه مسلم .
(2) انظر في ميزان التمحور حول المبدأ : العادات السبع للقادة الإداريين ، ص 120 .
أ.د. عبدالكريم بكار(/3)
فاطمة الزهراء
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
أيها الأخوة الكرام سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، نسأل الله - سبحانه وتعالى -كما جمعنا في هذا البيت من بيوته أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وهذا لقاء نفتتح به المجموعة الثامنة من سلسلة المحاضرات وعنوان هذه السلسلة:" شباب كانوا أئمة الهدى "
وفاتحتها الخيرة إن شاء الله هذه المحاضرة بعنوان: فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة
وهو درسنا السادس والسبعون بعد المائة في سلسلتنا المتتالية على تفاوت بينها .
ولاشك أن الحديث في سير الأعلام له فوائد عظيمة وهذه مقدمتنا الوجيزة تختصر هذه الفوائد في ثلاثة جوانب:
الأول: إبراز القدوات السامية الصحيحة ، التي يجدر بنا أن نجعلها قدوات نتأسى بها ، ونترسم خطاها بدلا من القدوات الزائفة الزائغة.
الثاني: شحذ الهمم العالية فإن في السير سبقا عظيما وتنافسا شريفا وقدوات بلغت مراتب عالية فمتى ما قرأنا هذه السير ووقفنا عندها شحذت منا هممنا الضعيفة ورفعت معنوياتنا التي يعتليها كثير من الوهن أو الخلل.
الثالث: الإلمام بالمعارف المتنوعة ؛ فإن السير تتضمن علوما مختلفة قد يمر فيها مواقف من الحكمة ، وقد يمر فيها صور من الجرأة ، وقد تتجلى فيها ملامح من الحياة ، وقد يمر فيها شذرات من تفسير أو فقه أو أصول وغير ذلك ، فهذه فوائد عظيمة جدير بنا أن نعنى حينئذ بمطالعة السير وليس أعظم ولا أنفع من سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما حديثنا عن فاطمة - رضي الله عنها - فحديث عذب يرقق القلوب ، ويذكّر بالمعاني الإيمانية اللازمة لنا ، ونحن نمر ها هنا مروراً وجيزاً بقدر ما يتسع له المقام ونبدأ في محطات مختلفة:
أولها: الحسيبة النسيبة.
وثانيها: الوليدة الجديدة.
وثالثها: الزوجة الأثيرة.
ورابعها: الشبيهة الحبيبة.
وخامسها: الصابرة العظيمة.
ثم نقف وقفات لابد منها مع الأفهام الخاطئة والأفكار الزائغة ، التي تفسد علينا كثيراً من هذه المعاني الفاضلة والآثار الحميدة.
أولاً: الحسيبة النسيبة
عمن نتحدث؟ من هذه الشخصية؟ التي نتجاسر على أن نذكرها ونمر على سيرتها ، ونشنف الآذان بذكرها ، ونعطر الأنوف بعبق ريحها الطيب الأخّاذ ، ونملأ القلوب بمعاني الإيمان في مواقفها العظيمة ومآثرها الجليلة ..
من هذه الشخصية؟ والناس يبحثون عن الأحساب والأنساب فهل ثمة حسب أو نسب يمكن أن يضاهي ما لفاطمة رضي الله عنها؟ من أبوها؟ محمد بن عبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين حسب الشرف كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله نظر إلى بقايا العرب والعجم فمقتهم جميعا إلا بقايا من أهل الكتاب) ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فاصطفى العرب واصطفى كنانة من العرب ثم اصطفى قريشاً من كنانة ثم اصطفى بني هاشم من قريش ، ثم اصطفاني من قريش ، فأنا خيار من خيار من خيار) ذلك هو صلى الله عليه وسلم وأما حسب الدين فمن مثله عليه الصلاة والسلام؟
{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }[الأحزاب: من الآية40].
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }[ الفتح: من الآية29].
وأما حسب الخلق فحسبك: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم:4].
فمن مثل أبيها صلى الله عليه وسلم ؟
وإن جنحنا إلى أمها فخديجة بنت خويلد ، وما أدراك ما خديجة بنت خويلد ! أم المؤمنين وأول أزواج الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -لم يجمع معها غيرها ولم يتزوج إلا بعد وفاتها ومن هي في حسبها وشرفاً، دينا وخلقا ونسبا ؟ هي الشريفة المعروفة في حسبها ونسبها - رضي الله عنها - وأما حسب الدين فهي أول من آمن بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم .. هي أول من تلقى خبر الوحي هي أول من كان المثبت المعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جاء يرجف فؤاده فقالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فوالله لا يخزيك الله أبدا).
من هي؟ جاء جبريل عليه السلام إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول له: (إذا أتتك خديجة فاقرأ عليها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) ، رواه البخاري والترمذي.
واحدة من قلائل النساء الكمّل في هذه الدنيا ، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد.. ) .
ولو ذهبنا نمضي في هذا لوجدنا كثيراً وكثيراً قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد).
وروى البزار والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين).(/1)
ولنمض لننظر إلى زوجها ، فارس الفرسان ، أول المسلمين من الفتيان ، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. علي بن أبي طالب ، الفارس المغوار ، الشجاع البطل الهمام المكي - رضي الله عنه وأرضاه - قال أبو رافع : ( أول من أسلم من الرجال علي وأول من أسلم من النساء خديجة ) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ! إلا أنه لا نبي بعدي).
قال الذهبي رحمه الله في مقدمة ترجمة فاطمة رضي الله عنها : " سيدة نساء العالمين في زمانها ، البضعة النبوية ، والجهة المصطفوية ، بنت سيد الخلق رسول الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية أم الحسنين رضي الله عنها وأرضاها" .
ونعيش هذه المعاني وقد خفق بها قلب إقبال الشاعر الكبير وهو يقول:
نسب المسيح بنى لمريم سيرة **** بقيت على طول المدى ذكراها
والمجد يشرق من ثلاث مطالع **** في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ **** من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفى **** هذي الشعوب إذا تروم هداها
ولزوج فاطمة بسورة هل أتى **** تاج يفوق الشمس عند ضحاها
أسد بحصن الله يرمي المشكلات **** بصيقل يمحوا سطور دجاها
في روض فاطمة نما غصنان لم **** ينجبهما في النيرات سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب **** دائرة الوئام والاتحاد ابناها
هي أسوة للأمهات وقدوة **** يترسم الفجر المنير خطاها
لما شكا المحتاج خلف رحابها **** رقت لتلك النفس في شكواها
جادت لتنقذه برهن خمارها **** يا سحب أين نداك من جدواها
فمها يرتل آي ربك بينما **** يدها تدير على الشعير رحاها
رضي الله عنها وأرضاها.
ثانياً: الوليدة الجديدة
ولدت رضي الله عنها - كما ذكر ابن سعد في الطبقات- وقريش تبني البيت ، وذلك قبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: " والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار ترتيب بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زينب الأولى ، ثم الثانية رقية ، ثم الثالثة أم كلثوم ، ثم الرابعة فاطمة الزهراء " .
وقال ابن حجر في الإصابة: " ولدت فاطمة والكعبة تبنى والنبي ابن خمس وثلاثن سنة " ، وبهذا جزم المدايني ، قال ابن حجر:" وهي أسن من عائشة بخمس سنين " .
وأما الزهراء فهو وصف لم يذكر في شيء من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لكنه ذكر في تراجمها غلبة لهذا المعنى ، الذي هي أشبه به رضي الله عنها .
قال صاحب التاج: " الزهراء المرأة المشرقة الوجه ، والبيضاء المستنيرة ، المشربة بحمرة " .
والزهراء البقرة الوحشية ، ومعلوم أنهم يضربون بها المثل في الجمال ، كما قال قيس بن الخطيم:
تمشي مثل الزهراء في دمث **** الروض إلى الحزن دونها الجرف
والزهراء كذلك السحابة البيضاء ، التي تبرق وتستنير بذلك البرق .
فهذا عن ولادتها - رضي الله عنها - فهي أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه كما سيأتي ذكره.
ونمضي الآن إلى صورة واسعة هي أوسع الصور فيما ورد من ترجمة فاطمة رضي الله عنها:
ثالثاً: الزوجة الأثيرة.
ليكون درسا للآباء والأمهات والبنات وللأمة كلها كيف يكون الزواج ؟ وكيف يكون المهر ؟ وكيف تكون الحياة ؟ وكيف يكون تدبير الأمور ؟
ونحن اليوم نعاني ما نعاني من هذه المشكلات التي أورثت خللا في المجتمعات والتي ساعدت على شيوع المعاصي وكثرة السيئات وقللت من الحصانة والعفة وغير ذلك مما نعلمه.
أما خطبتها: فقد كانت على ما رواه ابن سعد في الطبقات جاءت بتدرج وببيان ؛ لمكانها ومقامها - رضي الله عنها - فقد روى أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أبا بكر انتظر بها القضاء ، وخطبها عمر ، فقال له : انتظر بها القضاء ، ثم قال بعضهم لعلي : اخطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ! فقال : بعد أبي بكر وعمر ! فذكروا له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبها فزوجه النبي إياها).
وفيما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن حجر بن عنبس قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي : هي لك يا علي لست بدجال - أي لست بكذاب - قال الشراح وذلك أنه قد وعد علياً بها قبل خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاورها واختار لها عليا ربيبه ، الذي تربى في حجره وعلى نظره ، وكان علي يقول: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع سنين لا أصلي إلا أنا وهو " ، يعني قبل أن يفشو الإسلام ، وقبل أن تظهر الجماعة ، وقبل أن يكون دار الأرقم وغير ذلك ..
يقول ابن سعد في الطبقات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة : إن عليا يذكرك - يعني يخطبك - فسكتت ، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.(/2)
وفيما جاء من خطبة علي رضي الله عنه فيما رواه بريدة قال : قال نفر من الأنصار لعلي: عندك فاطمة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال: ما حاجة ابن أبي طالب؟ فقال: يا رسول الله! ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً وأهلاً، لم يزد عليهما، فخرج علي بن أبي طالب على أولئك الرهط من الأنصار ينتظرونه، قالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي : مرحباً وأهلاً، فقالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، أعطاك الأهل والمرحب، فلما كان بعد ذلك، بعدما زوجه قال: يا علي إنه لا بد للعروس من وليمة.
هذه خطبتها - رضي الله عنها وأرضاها - وعندما تزوجها علي - كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب - كان عمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ، وكان عُمر علي واحد وعشرون عاماً على الصحيح في هذه الروايات ، وكان هذا الزواج في رجب ، بعد ما كان من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقدمه المدينة بنحو خمسة أشهر ، ثم بنى بها - يعني دخل بها - بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر ، وأخطأ من قال أن البناء كان يوم أُحد ، وأن القصة فيها أن حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ذبح شارتين في وليمة عرس علي رضي الله عنهم أجمعين.
هذه خطبة فاطمة رضي الله عنها فكيف جُهزّت؟ وما كان مهرها؟ وكف كانت وليمتها؟ وكيف كان بيتها وجهازها؟ ثم كيف كانت عيشتها ومسيرتها في حياتها؟
أما المهر فالروايات متكاثرة ؛ لأنه عندما خطب علي - رضي الله عنه - وتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله ما لي من شيء ، فقال: وكيف؟ قال: فذكرت صلته وعائدته علي ـ يعني فضل النبي عليه السلام عيه ـ فتجرأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟ قال: يا رسول الله ما عندي ما أصدقها ، كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب قال: " ولم يكن يومئذ صفراء ولا بيضاء " ، لا ذهب ولا فضة عند علي ولا عند غيره إذ ذاك في أول الهجرة ، ما زال المسلمون في شدة كبيرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين درعك الحطمية؟ هي درع أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نسبة إلى بطن حطم بن محارب كانوا مشتهرين بصناعة الدروع وقيل: الحطمية التي تحطم السيوف ، وقيل: الثقيلة الحصينة، قال: هي عندي يا رسول الله قال: أصدقها إياها ، فباعها بأربعة وثمانين درهماً فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها بلال ، وقال: ( اجعلوا ثلثيها في الطيب ، وثلث في المتاع ) ، وهذا من فقه النبي - صلى الله عليه وسلم ومعرفته - بطبائع النساء .. اجعلوا ثلثيها في الطيب وثلث في المتاع واللباس وغير ذلك ، فهذا كان مهر سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها وأرضاها.
فما بال من يغالون في مهور بناتهم أيظنون ذلك منقبةً وشرفاً؟ أيظنونه تعظيماً لبناتهم؟ لوكان ذلك كذلك لكان الأحق به بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكنت أخبر بعض الأخوة أنه عقد في هذا الأسبوع ، وكنت أكتب هذا العقد لأصحابه فرأيت عقداً قبله والمهر مسطور فيه بمائة ألف فقلت : سبحان الله وما ينفع ذلك أو يفيد ، ونرى أننا بهذا نسد كثيراً من أبواب الحلال ، ونفتح أبواباً ونيسر طرقا للحرام ، وقد نكون بذلك آثمين ، وقد يكون الآباء في هذا من يعضلون بناتهم ، وممن يكون عليهم وزر في هذا إذا فاتها قطارها وتأخر عنها حظّها من بعد .. هذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم هذا مهرها.
أما جهازها ، فقالت أم أيمن: " ولّيت جهازها ، فكان فيما جهزتها به مرفقة من أدم ـ من جلد ـ حشوها ليف وبطحاء مفروش في بيتها ". هذا هو الفراش الوثير الذي كان في بيت فاطمة رضي الله عنها.
فقد وردت روايات كثيرة في هذا المنى ، حتى إنهم جاءوا بهذا التراب والحصى ليفرش في هذا البيت كأنما هو توطئة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مع فاطمة بخملة ووسادة أدم حشوها ليف ورحاءين وسقاء وجرتين .
كم هي هذه الثروة عظيمة ؟ وكم هي موجودة في هذا البيت؟ كأنما هو قصر عامر وهو كذلك عامر بالإيمان والتقوى ، وما كان حشو فراشهما وسائدهما إلا الليف ، بل قد ورد أن من صداقها أنه كان لهم جلد لخروف ، إذا ناموا جعلوه على جهة الصوف وإذا احتاجوه لفوه من جهة الجلد ، وهذا يدلنا على البساطة ، و رواية أم أيمن مروية من الطبراني وإسناده رجال الصحيح.
لننظر إلى هذه المعاني من كانت هذه مقدمتها في خطبتها وفي مهرها وفي جهازها فأي شيء تكون عيشتها؟ وعلى أي صورة تكون حياتها؟ هل فيها مثل ما عندنا؟ أو ما عند نسائنا؟ لابد أن يكون المسكن فيه كذا من الغرف ولابد أن يكون فيه غرفة للنوم ، وأخرى للطعام ، وثالثة للجلوس ورابعة لكذا وكذا ، وخامسة لكذا .. ولابد.. ولابد.. كأنما يريد أن يسكن في جنة قبل جنة الآخرة .(/3)
ولا نقول هذا - ونحن نعرف أوضاع الحياة الاجتماعية - تحريماً له ، لكن إذا وجد ما يقتضي التنازل عنه مما هو خير ومما هو في جمع بين زوجين صالحين فالعاقل من يسمع لذلك ويتأسى بخير خلق الله عليه الصلاة والسلام ، ولتكن ابنته في شرفها وفخرها أنها كان لها أثر من فاطمة أو غير فاطمة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أين كان سكنها؟ وكيف عاشت؟ في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلاً فطلب علي منزله حتى يسكن فاطمة فيه ، وبنى بها فى بيت أمه فاطمة بنت أسد وكان ذلك بعيدا عن بيت رسول الله وكانت تتمنى أن تكون من السكن بقرب أبيها وسرعان ما تحقق أملها فقد جاءها النبى قائلا : " إنى أريد أن أحولك إلىّ " ، فقالت لرسول الله : فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول وأكون إلى جوارك .
فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء إلى النبى فقال : يا رسول الله إنه بلغنى أنك تحول فاطمة إليك وهذه منازلى وهى أقرب بيوت بنى النجار بك وإنما أنا ومالى لله ولرسوله والله يا رسول الله المال الذى تأخذ منى أحب إلىّ من الذى تدع .
فقال له الرسول: " صدقت بارك الله عليك " فحولها رسول الله إلى بيت حارثة .
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتحولت إلى جوار أبيها عليه الصلاة والسلام.
وماذا من بعد أيها الأخوة الأحبة؟ فاطمة وعلي ومن هما فاطمة وعلي؟ خذوا هذه اللوحة المعبرة المؤثرة في هذه الحياة الزوجية.
أقبل علي ذات يوم على فاطمة ودخل وهو منهك متعب مجهد من طبيعة الحياة وشدتها وكسب العيش وكده فقال: والله لقد سنوت حتى قد اشتكيت صدري ، السانية هي البعير الذي يستقى به الماء كان علي يسقي الماء عن طريق الناقة أو أحيانا بنفسه قال: قد سنوت حتى قد اشتكيت صدري وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه، (اطلبي خادماً ) فقالت : أنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي - والمجل هو ثخن الجلد ووجود البثور فيه من كثرة ما كانت تطحن الشعير رضي الله عنها وأرضاها - فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما جاء بك وما حاجتك أي بنية ؟ قالت : جئت لأسلم عليك ، واستحيت أن تسأله فرجعت . فقال علي : ما فعلت ؟ قالت : استحييت أن أسأله . فأتياه جميعاً فقال علي : يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقالت فاطمة : لقد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله - عز وجل - بسبي وسعة فأخدمنا، فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم ؟ (والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها) ، هناك أولويات هؤلاء يريدون خادما وفي المسلمين من أهل الصفة من لا يجد طعاما ، لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم ، وإذا بالرسول في مسائه وليله يأتي إليهما ويطرق عليهما بابهما وقد دخلا في كسائهما ، وعليهما فرش إن غطيا الرأس بدت الأقدام ، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرادا أن يقوما قال: مكانكما ، ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟ قالا: بلى: فقال : ( كلمات علمنيهن جبريل : تسبحان الله دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا ، وتكبران عشرا ،وإذا أويتما إلى فراشكما تسبحان ثلاثة وثلاثين ،وتحمدان ثلاثة وثلاثين ،وتكبران أربعا وثلاثين فذلك خير لكما من خادم ) قال علي: فما تركتها مذ سمعتها، فقال ابن الكواء قال: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.
انظروا إلى هذه الصورة علي يشقى وفاطمة تتعب والسبي موجود ، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل يريد لهما خادماً في الدنيا وإنما خادماً في الجنة ، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار ، ولذلك صرفهما إلى عبادة ، لكنه كان يدل على أن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما ولا ينسى أن ما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيءٌ من هم أو غم فمسح ذلك بقدومه عليهما وإيناسه لهما ، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام.
صورة أخرى ؛ لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج حتى أصبح هذا الباب من الأبواب ، باب تسطر فيه الأقلام وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع بل وتضرب فيه الأمثال هذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمر بن مرة عن أبو البختري قال: قال علي لأمه : اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحاج ، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن .(/4)
في صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفت الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة ، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة إلى غير ذلك.
هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير التعليق والتفريغ من كلامنا وقولنا ، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً ، وأن كان فراشها أدما حشوه ريش ، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ولحاءين وإن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.
رابعا: الشبيهة الحبيبة
شبيهة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. روت عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة ، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داوود في السنن.
وفي رواية عند البخاري في الصحيح تخبر فيه عائشة بما كان من آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إنا كنا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها رحب بها وقال: مرحبا بابنتي).
وفي حديث مسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) رواه البخاري في الصحيح.
والبضعة القطعة من اللحم وفي رواية هذا الحديث في الصحيح أيضا : (مضغة مني) ، أي قطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان - عليه الصلاة والسلام- ينص على ذلك ويذكره ، وكانت عائشة - رضي الله عنها - حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبصر الشبه ، وتدرك المقام ، وتعرف الصلة ، وتدرك خفقات قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنته الحبيبة الأثيرة رضي الله عنها.
وهذا ابن عباس - رضي الله عنه - يروي أن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - دخل على علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما يضحكان ، فلما رأيا النبي عليه الصلاة والسلام سكتا ، فقال لهما عليه الصلاة والسلام: (ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتماني سكتتما؟ فبادرت فاطمة فقالت: بأبي أنت يا رسول الله قال : هذا _تعني عليا _ أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، فقلت: بل أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: يا بنية لك رقة الولد وعلي أعز علي منك) ،وهذا من بديع قوله وفصيحه ، ومن حسن مأخذه عليه الصلاة والسلام : (لك رقة الولد وعلي أعز علي منك) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وفي رواية مسور الأخرى : (فاطمة شبنة مني ، يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها وإنه تنقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وحسبي ) ، أوكما قال عليه الصلاة والسلام والحديث أيضا رجاله ثقات كما ذكره الهيثمي في المجمع.
وفي حديث عمران بن حصين كذلك ما يدل على ذلك ، قال عمران: إني لجالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت فاطمة فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وسلم، يعني في إزائه مقابلة له ، فقال: (ادني يا فاطمة فدنت دنوة ثم قال: ادني يا فاطمة فدنت دنوة فقال: ادني يا فاطمة فدنت دنوة حتى قامت بين يديه قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها وذهب الدم من شدة الجوع وشظف العيش ، قال: فبسط النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه ثم وضع كفه بين ترائبها، أي عظام صدرها فرفع رأسه وقال: اللهم مشبع الجوعة وقاضي الحاجة ورافع الوضعة لا تجع فاطمة بنت محمد، قال عمران: فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران ) رواه الطبراني في الأوسط وفيه عتبة بن حميد وثّقه ابن حبان وضعفه غيره وبقية رجاله ثقات.
وهذا يدلنا على مكانتها ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ، وحسبنا بذلك منقبة وفضيلة وشرفاً وعزاً وكرماً لا يدانيها فيها غيرها كما سيأتي في تعليل ذلك.
وفي حديث أبي ثعلبة الخشني ، وقد رواه ابن عبد البر في الاستيعاب قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يأتي فاطمة ثم يأتي أزواجه " ، لمَ ؟ لأنها وحيدة بناته التي بقيت رضي الله عنها وأرضاها.(/5)
وهذا ابن سعد في الطبقات يروي عن ابن أبي ثابت قال: "كان بين علي وفاطمة كلام فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم _ يعني شيء من الخلاف _ فألقوا له شيئا فاضطجع عليه فجاءت فاطمة فاضطجعت من جنب وعلي فاضطجع من جنب فأخذ رسول الله بيده ويدها فوضعها على سرته ثم أصلح بينهما وخرج - عليه الصلاة والسلام - فقيل: دخلت وأنت على حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك ، قال: وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي .
هكذا كانت فاطمة - رضي الله عنها - شبيهة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبيبة إلى قلبه ، وكانت مضرب مثله ، ومضرب المثل لا يكون إلا في العزيز القريب الأثير ، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: ( يا فاطمة بنت محمد اعملي لا أغني عنك من الله شيئا) ؟ لِمَ خصها بالذكر؟ لقربها وحبها .. ألم يقل عليه الصلاة والسلام يوم قصة المخزومية: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)؟ إنه يدل على تعظيمه ومحبته لها عليه الصلاة والسلام.
وذكر ابن حجر في الإصابة عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: " كانت فاطمة أصغر بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحبهن إليه " ، وسئلت عائشة رضي الله عنها ، كما روى الترمذي في سننه بسند حسنه ، قيل لعائشة : أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة قيل: فمن الرجال؟ قالت زوجها إن كان كما علمت صواما قواما ، وتكلم الذهبي في السير على صحة هذا الحديث وإن كان قد حسنه الترمذي ورواه الحاكم وصححه.
وفي حديث بريدة عن النبي عليه السلام : " كان أحب النساء إلى رسول الله فاطمة ، ومن الرجال علي " ، قال إبراهيم النخعي: يعني من أهل بيته ورواه الترمذي كذلك.
ولعلنا نتساءل هنا لماذا كانت لفاطمة هذه الخصوصية التي حظيت بها رضي الله عنها وأرضاها؟ وهناك إجابة طويلة لكن لابد من ذكرها مع الإيجاز:
أولا: لأن لها كنية فريدة وليس المقصود الكنية وإنما معنى كنيتها التي ذكرها الذهبي وابن حجر وغيرهم من العلماء كانت تكنى بـ " أم أبيها " ، ولا أعرف أحدا من النساء لها كنية أنها أم أبيها هي ابنته ولكنها تكنى بأنها أم أبيها لِمَ كان ذلك كذلك؟ لأسباب كثيرة .. فاطمة رضي الله عنها أصغر بناته وكانت بعض بناته قد تزوجن وبنتاه الأوليان كانتا متزوجتين من ابني أبي لهب عم النبي عليه الصلاة والسلام في الجاهلية قبل الإسلام ، وتلك مزوجة من العاص لم يبق مع النبي إلا فاطمة كانت تشهد ما يلقى النبي - عليه الصلاة والسلام - من الأذى والصد والإعراض من قريش ، وكانت معه عليه الصلاة والسلام في هذه المواقف - كما سيأتي معنا - وكانت كذلك عندما مضى النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لم يكن عنده زوجة ، فمن كان يخدمه من كان في بيته ؟ من كان يقوم بشأنه من ؟ كان يعد طعامه ؟ من كان يهيأ له أحواله ؟ ابنته أم أبيها - رضي الله عنها وأرضاها - ولذلك كانت قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت بهذه الكنية الفريدة.
الأمر الثاني: الذرية الحبيبة ؛ فإنه قد قضت حكمة الله - عز وجل - أن ينقطع نسل بنات النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يبقى أبناؤه ، فلم يبق نسل متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من فاطمة رضي الله عنها وأرضاها .
ونعلم كيف كان النبي يحب الحسن والحسين ، وكيف كان يحني ظهره فيرتحله الحسن والحسين فيقول: (نعم الراكبان أنتما ونعم الجمل جملكما) ، وكيف كان النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما جاء الحسن والنبي يخطب في المسجد فعثر في مرطه ، فنزل النبي - عليه الصلاة والسلام - فأخذه نزل من منبره وأخذه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسمي الحسن والحسين إلا بابني وكانا يدعوانه يا أبت ، ففاطمة - رضي الله عنها - أبقت لنبي الله - عليه الصلاة والسلام - بفضل الله - جل وعلا - أن يقال له : أب وأن يقول هو لهؤلاء أنهم أبناؤه فكانت له قريبة.
والثالث: الصحبة الطويلة ؛ فإن أخواتها من بنات رسول الله - عليه الصلاة والسلام - تتابعت وفاتهن وتقدمت ، وبقيت هي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - دهراً طويلاً ..
نعرف أن رقية شُغل بها عثمان في يوم بدر ، وأن أم كلثوم توفيت بعد ذلك في العام التاسع من الهجرة ، ولم يبق إلا فاطمة - رضي الله عنها - فصحبت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - حتى توفي عنها ولفظ أنفاسه الأخيرة إلى الرفيق الأعلى وهي في هذه الحياة رضي الله عنها وأرضاها.
فهذه صفحة من صفحات حياتها في شبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه إياها .
ثم ننتقل إلى صفحة أخرى وهي:
خامسا: الصابرة العظيمة
وعندنا في ذلك كثير وكثير من المناقب لفاطمة رضي الله عنها ؛ لنرى قدوة للنساء .. نساؤنا اليوم من أدنى عارض تجزع وتصيح وتتراجع ولا تكاد تحتمل شيئاً ، أما فاطمة فهذه محطات من الابتلاء مرت فيها بنجاح منقطع النظير .
أولها: أذى الأب الرسول عليه الصلاة والسلام(/6)
وكلنا نعرف القصة الشهيرة المروية في السيرة، لما ائتمر أبو جهل ومن معه من سفهاء قريش برسول الله -صلى الله عليه وسلم - قالوا: إذا سجد فضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، وقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ففعل ذلك إلى فاطمة الخبر وهي التي كانت في بيته عليه الصلاة والسلام فتحركت - وكانت صغيرة في السن - فذهبت فألقت ذلك عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ونظفته وطيبته ، فما رفع رأسه من السجود إلا بعد أن فعلت ذلك .. كانت ترى صناديد قريش وهم يتعرضون له عليه الصلاة والسلام بالأذى القولي والفعلي وتحتمل ذلك ، وترى في صبر النبي عليه الصلاة والسلام قدوتها وأسوتها رضي الله عنها وأرضاها ، ثم ماذا ؟ مرّت مع النبي صلى الله عليه وسلم بحصار الشعب الظلوم ، عاشت ثلاث سنوات من أشد وأقسى السنوات التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والمسلمين معه ، حتى أكلوا ورق الشجر ، وحتى قرحت أشداقهم وحتى روى سعد رضي الله عنه: أنه ذهب يتبول قال: فإذا أنا أسمع قعقعة فأخذتها فإذا هي شن - يعني قطعة من جلد - قال: " فأخذتها فدققتها فسفتها فكانت قوتي أياما " .. هكذا كانوا وكانت فاطمة البنت الرقيقة الصغيرة الفتية في عمرها .. صبرت واحتملت ومرت بهذه الظروف العصيبة وشظف العيش وشدته ، تتأسى بأبيها عليه الصلاة والسلام ثم ماذا من بعد؟
الثاني: فقد الأم العظيمة
عام سماه أهل السير : " عام الحزن " كان من أشد ما مرّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن فقد زوجته خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - الحبيبة إلى قلبه ، المواسية له ، المؤزرة والمساندة له - عليه الصلاة والسلام - وكان ذلك عظيما على أصغر البنات التي لم تكن تزوجت بعد وهي فاطمة رضي الله عنها صبرت واحتسبت ومضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث: في معاناة الهجرة الحزينة
يوم هاجر رسول الله - عليه الصلاة والسلام -لم يصحب معه أبناءه ثم من بعد أرسل أبا رافع - مولاه - فأخذ زينب وفاطمة - رضي الله عنهما - ولحق بهم الحويرث الأشقى فنخز بعيرهما وآذاهما فسقطتا من عليه ، وقد وهت أجسادهما وكانتا ضعيفتين ، وهذا هو الذي أعلن النبي عليه الصلاة والسلام عن نفر يوم فتح مكة أن يقتلوا ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة ، ومنهم الحويرث لما فعل ببنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومضت هذه الفتاة في ريعان شبابها - ما زالت في الخامسة عشرة من عمرها - تحتمل ل هذه الصعاب بإيمان عظيم ، وصبر جليل ، واحتساب للأجر عند الله سبحانه وتعالى ، ومواصلة على الطريق دون جزع ولا تراجع ولا تضعضع ولا ضعف بحال من الأحوال ثم ماذا بعد ذلك؟
خامسا: موت الإخوة والأخوات
إخوانها جميعاً ماتوا .. إبراهيم والقاسم وعبد الله أبناء النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن بعد ذلك أخواتها واحدة إثر الأخرى وهي تشيع وتدفن - رضي الله عنها وأرضاها - والحزن يملأ قلبها فينصب على يقينها وإيمانها فإذا بها ترضى بقضاء الله وقدره لكن ذلك أمره عظيم.
ثم ما ورد في بعض الروايات أنها شهدت أُحداً ، وكان لها فيها شيء من المشاركة ، ورأت ما رأت مما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج رأسه ودمي وجهه ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).
ثم كان المصاب الأعظم الذي لم تتماسك بعده حتى أدركتها منيتها وحانت وفاتها .. ذلك الحدث فقد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم يوم قالت فاطمة رضي الله عنها عندما زارت النبي صلى الله عليه وسلم: واكرب أباه ! فقال عليه الصلاة والسلام: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة ، ثم لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " واأبتاه إلى جبريل نعاه ، جنة الخلد مأواه " ، ثم لما دفن - عليه الصلاة والسلام - قالت لأنس كما في الصحيح: " يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – التراب ؟ " ، وفي بعض الروايات : أنها ما رؤيت مبتسمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وسنرى الآن في بعض فضائلها ما جاء في هذه القصص العظيمة فكانت صابرة - رضي الله عنها - صبراً عظيماً ، يدلنا على ما ينبغي أن تتحلى به النساء المؤمنات من الصبر والاحتمال فيما يعرضن له في طاعة الله - سبحانه وتعالى - والثبات على هذا الدين لا أن يكون ذلك برقّة وضعف وخور كما نرى نسأل الله - عز وجل - السلامة .(/7)
أما الفضائل فكثيرة ولعلنا نقف فيا وقفات بقدر ما يكفينا في هذا الوقت في الصحيح من رواية عائشة : كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده -لم يغادر منهن واحدة - فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآها رحّب بها وقال: (مرحبا بابنتي) ثم أجلسها عن يمينه أو عن يساره ، ثم سارها - يعني أسر إليها كلاما - فبكت رضي الله عنها ، ثم سارها مرة أخرى فضحكت ، فقالت عائشة: خصك رسول الله من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين، ثم قالت: ما قال لك؟ قالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فلما توفي رسول الله قالت لها عائشة: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله، قالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني المرة الأولى فأخبرني أن جبريل - عليه السلام - كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه الآن مرتين ، وإني لأرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإنه نعم السالف أنا لك .. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني ثانية فقال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت .
وفي رواية عائشة أيضا في لفظ آخر: لما رآها استبشر وتهلل فسارّها فبكت ثم ضحكت ، فقالت عائشة: ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من بكاء ثم سألتها، وقالت في رواية ثالثة: إن كنت لأرى هذه ـ يعني فاطمة ـ لأعقل نسائنا فإذا هي امرأة من النساء ، يعني كنت أظنها ذات جلد فلما رأتها تضحك وتبكي قال: هذه المرأة من النساء ليس عندها شيء مختلف ، فلما علمت بذلك عرفت بهذا ، وفي رواية: فبكيت قال: ( أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ؟ وأنك أول أهلي لحوقاً بي؟ ) فضحكت وهذا عند البخاري ومسلم.
وكان الأمر كذلك كما سيأتي في وفاة فاطمة - رضي الله عنها - وهذا الحديث روي روايات كثيرة منها رواية الترمذي وفيها: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت، وفي هذا الحديث كما قلنا روايات مختلفة ورواية حذيفة عند الترمذي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ( هذا ملك نزل من السماء لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلّم علي وأن يبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أخرجه الترمذي وحسنه.
وعندنا رواية في الفضائل وسيأتي ذكرها باختصار فيما هو من الشبهات والأخطاء هي رواية عند البخاري ومسلم ، وكذلك عند أبي داود والترمذي من حديث المسور بن مخرمة لما ذكر في هذه القصة: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل يريد أن يتزوجها على فاطمة فسعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يقول المسور يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم، فقال: ( إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها ) ، ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس ثم قال: (وإني لست أحرّم حلالاً ، ولا أحلّ حراماً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً ) ، وفي الرواية الأخرى في ذلك كثير من الألفاظ قال: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني ) وقال: (يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها ) وهذا الحديث أيضا من فضائلها رضي الله عنها وأرضاها.
ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وفاطمة سيدة نسائهم إلا ما كان من مريم بنت عمران) وهذه الروايات كثيرة في فضائلها رضي الله عنها ومما ذكره الترمذي أيضا قال عليه الصلاة والسلام في شأن قصة خطبة علي أو إرادته خطبة بنت أبي جهل قال: ( إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم عليا بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ؛ فإنها بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ) قال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وقد مر بنا بعض الأحاديث التي فيها فضائل لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها ووقفتنا الأخيرة بل ذكر وفاة فاطمة رضي الله عنها.
وقفة مع المعارف ومع الأوهام الخاطئة ومع الأفكار الزائغة
التي تشوه علينا هذه الصورة المشرقة الوضاءة في سيرة وتعامل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض هذه الأوهام التي وردت بها النصوص ، وأخذها بعض الناس مآخذ تبعد عن فهم حقيقة إيمان الصحابة وفضيلتهم رضي الله عنهم وأرضاهم .(/8)
ومن ذلك ما هو مشهور في الحديث الصحيح عند البخاري أن عائشة روت ذلك أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيها سألت أبا بكر ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ديناراً ولا درهماً ما تركناه صدقة) ، فغضبت فاطمة وعاشت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، والحديث عند البخاري في الصحيح وقد أورده بألفاظ مخلفة كثيرة.
وبعض الناس أخذوا هذا مآخذ شتى وجعلوه خصومة بين أبي بكر - رضي الله عنه - وبين فاطمة - رضي الله عنها - وبين عائشة رضي الله عنها وبين عمر رضي الله عنهم أجمعين .. فما فقهوا فقه الإيمان ؟ وما عرفوا كيف كان أولئك النفر من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ ونحن قد رأينا ما روت عائشة في فضائل فاطمة وما كانت تلمحه وتدركه من شبهها برسول الله - عليه الصلاة والسلام - ومحبته لها عليه الصلاة والسلام.
وأما هذا فقد ذكر العلماء فيه إيجازا للقول ؛ لأن المقام يقصر عن التفصيل أن هذا أخذ فيه أبو بكر بسنة وحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن فاطمة كانت متأولة كانت تظن أن هذا الحديث لا يدخل فيما أفاء الله عليه من الأراضي كأرض فدك وخيبر وغيرها .. وهذا من حزنها على أبيها ؛ فإنها لم تمتنع حتى عن أبي بكر فحسب بل كانت في حال في غالبه بعيدة عن الناس وعن مؤانستهم لما عظم من حزنها على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانت أول أهله لحوقاً به كما ذكر عليه الصلاة والسلام.
وهذه الروايات يذكرها ابن حجر ويبين معانيها في الفتح يقول فيما رواه أحمد وأبو داود قال: أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ قال: بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده) فرأيت أن أرده على المسلمين، قالت: فأنت وما سمعته. قال هذا لا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران ولا يدل على الرضا ، ثم ذلك فيه لفظة منكرة ، ثم بعد ذلك روى ذكر رواية الشعبي عند البيهقي: أن أبا بكر زارها فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ قالت: أ تحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت.
قال ابن حجر : وهو وإن كان مرسل فإسناده إلى الشعبي صحيح ، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة في هجر أبي بكر .
وقال بعض الأئمة: إنما كان هجرها انقباضاً عن لقائه والاجتماع به ، وليس ذلك من الهجران المحرم إنما شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا ويعرض هذا وكأن فاطمة لما خرجت رضي الله عنها من عند أبي بكر رضي الله عنه تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها ، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحدث فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر ، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نورث) ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه وتمسك أبو بكر بالعموم رضي الله عنه.
فهل في مثل هذا الفقه ما يثيره أولئك القوم من هذه الفتن والمحن التي يجترئون بها على مقام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذمون من ثبت القرآن بمدحهم والثناء عليهم ؟
ونحن نعرف في هذا أقوالا كثيرة ، حتى إن ابن حجر رحمه الله أفاض فيها وذكرها ، ومن ذلك في هذا السياق ما ذكر في الصحيح أيضا : أنه لما ماتت فاطمة - رضي الله عنها - دفنها علي ليلاً ولم يعلم بها أبا بكر فقالوا ذلك خصومة ، وذلك إرادة أن لا يصلي عليها أبو بكر وغير ذلك ، لكن ماذا قال أهل العلم؟ قالوا: وكان ذلك بوصية منها لإرادة الزيادة في التستر ولعله – أي علي - لم يُعلم أبا بكر بموتها ؛ لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عليه وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها ولا صلى عليها.
وأيضا لما جاء وبايع كان الناس قريباً منه ورجع إلى المعروف رضي الله عنه وأرضاه بعد موت فاطمة أعلن بيعته وإن كان لم يكن في تركه للبيعة شق عصا ولا مخالفة ولا إبطال لهذه البيعة ، لكنه راعى شعور فاطمة وحزنها وانشغل بها ، فلما قضى الله ذلك الأمر قال المازني رحمه الله: العذر لعلي في تخلفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفيه بيعة الإيمان أن يقع من أهل الحل والعقد ولا يجب الاستيعاب ولا لزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده بيده بل يكفي التزام طاعته والانحياد له ، بأن لا يخالفه ولا يشق العصا عليه وهذا كان حال علي لم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر وقد ذكر سبب ذلك.(/9)
أما في هذه الرواية وهي في البخاري : كراهية حضور عمر ، قالوا: لأن عمر كان رجلاً صلباً شديداً ، فخشوا من أن يكون فيه المعاتبة وشدة القول في الأخذ والرد ، وهم كانوا يريدون المصافاة ، حتى لما أراد أن يذهب قال: لا تذهب إليهم، قال: وما عساهم أن يفعلوا بي؟ فقال علي رضي الله عنه في سياق هذا الحديث كلاماً نفيساً ، وقال أبو بكر كلاماً كذلك ، وفي رواية البخاري: فتشهد علي قال: أشهد أن لا إله إلا الله واستفتح الكلام قال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وفي شرح ذلك: قالوا: إن علياً كان يرى أن بعض الأمور كان ينبغي أن يشهدها ويستشار فيها وأبو بكر رضي الله عنه كان يرى جزم الأمر والإسراع فيه لئلا ينفرط الحبل ، وعلي شغل برسول الله عليه الصلاة والسلام وبفاطمة من بعده ولم يكن إلا ذلك قال: وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً، استمعوا لرواية البخاري قال: حتى فاضت عينا أبي بكر بكاء رضي الله عنه فلما تكلم قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آلو فيه عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعته ، فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه ثم استغفر .. وتشهد علي فعظّم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفسية على أبي بكر ولا إنكارا للذي فضّله الله به ، ثم قال : " ولكنا نرى لنا نصيبا فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت ، وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع المعروف ".
فهل في هذا النص ما يقوله القائلون وما يرجف به المرجفون وما يقوله الذين أفسدوا على الناس مقام مكانة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يكون حالهم إن كان الناس يبرئون أنفسهم من مثل هذه الشحناء فكيف بأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ بل كيف بالصفوة المباركة من المقربين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقفة ثانية في هذه الأوهام والأخطاء
فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ) قال النووي رحمه الله: قال العلماء في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً.
والمقصود أنه وهو حيّ -عليه الصلاة والسلام - وهذا بخلاف غيره فلما كان ذلك يؤدي إلى إيذاء فاطمة وذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم حرم من هذا الوجه أو لم يكن ممكناً الجمع بينهما من هذا الوجه ، قال النووي: وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله: ( لست أحرم حلالا ولا أحل حراما) ولكنه نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين يعني في الحديث:
إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة ، فيتأذى حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهلك من آذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة.
والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة هذا طبعاً بسبب الغيرة وهو مذكور أيضا قال: (إني أخشى أن تفتن في دينها) ، أي بسبب غيرتها لأنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ابن عمها رضي الله عنهم أجمعين .
ولذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين هذا فترك علي خطبتها لئلا يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام ، وثبت أن علياً لم يتزوج معها غيرها ، بل ولم يتسرى بغيرها من السراري أو الإماء حتى توفيت رضي الله عنها وأرضاها .
هذا موجز ما ذكره النووي ، وقد أفاض أيضا القرطبي في شرح مسلم ، والمازني كذلك والقاضي عياض في هذه المعاني بنفس هذا المعنى أو قريبا منه ، وكما قلت في شأن ما ورد من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة في تفضيل عائشة رضي الله عنها وذكرها لمآثر فاطمة رضي الله عنها ، وقد مر بنا ذلك في أحاديث كثيرة مما ذكرناه من قبل ونكتفي بهذا ؛ لأن هذه المسائل عند أهل السنة والجماعة وأهل الإيمان والتقوى واضحة لا تلتبس إلا عند الزائغين والمنحرفين نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من طرقهم ، وأن يجنبنا مسالكهم وأن يهديهم إلى سواء السبيل والصراط لمستقيم ؛ فإن الثلم والذم لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام معارضة لكتاب الله - عز وجل - ولما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ذم لهم حتى ولو لم يكن ذلك في النصوص ، فلئن كان ذلك كذلك فأي قوم كان هؤلاء؟ وكيف عن لهم أن يكونوا من أصحاب النبي وحملة الدين ثم يكونون على هذا الذي يصورونه من فرقتهم وخلافهم وكيد بعضهم لبعض ونحو ذلك .(/10)
وكيف يمكن أن نفهم وندرك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه ! وكيف ندرك هذه العلاقات العظيمة والمآثر الكريمة والأقوال الجليلة في مدح بعضهم لبعض وثناء بعضهم لبعض ، ومعرفة بعضهم لحق بعض ، حتى قال سعد فيما قاله في الحديث المشهور : ثلاث لعلي تمنيت لو أن لي واحدة منها: وذكر أن تكون مني بمنزلة هارون ، وذكر ما ذكره كذلك في يوم خيبر لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .. هذا كله معروف شائع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومقامهم وحالهم دلنا على أنهم أليق بذلك وأجدر به .
ولئن كنا اليوم نعيب الإنسان إذا كانت له خصومة مع صديق أو حبيب أو قريب ونرى في ذلك جفاء في طبعه ، ونرى في ذلك سوءا في خلقه ، فكيف ينسب ذلك إلى صفوة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف ينسب إلى أبي بكر وهو الذي يبكي عندما يذكر أبناء أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي جعل نفسه قائما بأمر الأمة كلها عموما وأمر أهلها خصوصا ؟ وكيف بعمر رضي الله عنه الذي كان يعطي أمهات المؤمنين أكثر ما يعطي من العطاء الذي يوزعه للمسلمين ؟
وغير ذلك مما هو مشهور معلوم ثابت في الصحيح فلا شك أن هذا من زيغ الفكر ومن ظلمة القلب ومن انحراف النهج والقصد ، ومن الفتنة التي ينبغي لكل مسلم أن يبرأ منها وأن يجتنبها ، وأن يحذّر الناس منها وأن يدعو إلى غيرها وأن ينبه الواقعين فيها.
ونحن بحمد الله - عز وجل - في قلوبنا من الإيمان واليقين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعظيم والإجلال لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يكون وقاية لنا من ذلك.
وأما صفحتنا الأخيرة: ففي وفاة فاطمة رضي الله عنها
وما أدراك ما وفاتها؟ كانت على الصحيح بعد ستة أشهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يوم وفاتها نادت مولاتها أم رافع ، وجاءت بماء فاغتسلت أحسن اغتسال ثم لبست أحسن ثيابها ثم طلبت أن يكون فراشها في وسط بيتها ، ثم اطلعت واستقبلت قبلتها وقالت: كأني مقبوضة، فما لبثت أن قبضت روحها إلى خالقها وبارئها رضي الله عنها وأرضاها.
كان ذلك وهي ابنة ثلاثين سنة على الصحيح ، كما روى ذلك عبد الله بن محمد بن الحسن ، وصلى عليها العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل في قبرها علي والفضل رضي الله عنهم أجمعين ، وكانت فاطمة رضي الله عنها هي أول من وضع له هذا القباء من نساء المسلمين ؛ لأنها - رضي الله عنها - كانت حيية تحب الستر ، فكانت في حديث مع أسماء تقول لها: هؤلاء النساء، يعني عندما يكفّنّ يكون الثوب فوقهن فكأنه يصف أجسادهن ، فقالت: لقد رأيت شيئا عند أهل الحبشة، وذكرت لها أنهم يضعون جريداً فيرفعون به عن جسم المرأة ، فلما ماتت فاطمة رضي الله عنها صنع به ذلك، فكانت أول امرأة في الإسلام فعل بها ذلك ، وكانت وفاتها رضي الله عنها وهي في الثلاثين من عمرها ، ومضت إلى الله - سبحانه وتعالى - بهذا الصبر والاحتمال والقرب من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والنموذج المثالي للمرأة الصابرة المحتسبة ، والزوجة الوفية العاملة البارة بزوجها ، الوفية لعشرتها ، وكان لها أعظم الفضل فيما أكرمها الله - عز وجل - بها من الأبناء الذين كان لهم أثر عظيم وبر كبير ، ومنفعة حتى ذكر النبي عليه الصلاة والسلام من مناقب الحسن والحسين ما هو معلوم.(/11)
فاعتبروا يا أولي الألباب!!
إعداد/ التحرير
تكاثرت البلايا مع الخطايا، وأحاطت بالناس المصائب من فوقهم ومن تحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وليس ذلك عجيبا ولا غريبًا؛ فهذا قدر الله.
إنما الغريب والعجيب أن يتفرق الناس تجاه هذه الكوارث إلى شيع وأحزاب لا تعرف حكمة رب الأرباب في الثواب والعقاب، فمن الناس من يخرج من أزمة كالتي تُعرف بأنفلوانزا الطيور بأن اللحوم ستكون غالية أضعافًا، والسمك سيتصارع مع الثيران ويشاركها الأوزان والأثمان.
ومن الناس وهم التجار من سيعتبرون أنه قد جاء الموت وخراب الديار، ومنهم من يرى أن ذلك فرج ورزق واسع للقطط والكلاب ولا حسد. ومنهم من سيتحول إلى سارق لتعويض الفارق في الدجاج النافق. ومنهم من سيستفيد من كل هذه المتناقضات ويستغلها بلا تقوى ولا ورع.
والحق والصواب هو قول الوهاب: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى:30].
وقوله: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه:124].
والله عز وجل يرسل بالآيات تخويفًا لعباده لعلهم يرجعون عن المعاصي، ولكنَّ كثيرًا من المسلمين لا يبالي بهذه الآيات ويصرح بأن هذه ظواهر طبيعية ولا علاقة لها بالمعاصي والذنوب، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاف الآيات ويلجأ إلى ربه يدعوه فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفهم الظواهر الطبيعية؟؟(/1)
فتاوى اللجنة الدائمة
من أفطر آخر النهار ثم رأى الشمس
س: ومضمونه: تذكر أنك أفطرت في يوم من أيام رمضان بناء على قول ابنتيك إن المغرب أذن وبعد خروجك إلى المسجد أذن المؤذن وتسأل هل عليك قضاء؟
الجواب: إذا كان فطرك واقعًا بعد غروب الشمس فليس عليك قضاء، وإن تحققت أو غلب على ظنك أو شككت أن فطرك حاصل قبل غروب الشمس فعليك القضاء أنت ومن أفطر معك؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بناقل شرعي وهو الغروب هنا.
العاجز عن الصوم والقضاء
س: أسأل فضيلتكم عن الإطعام للعاجز في رمضان كالشيخ الهَرِم والمرأة العاجزة من كبر، ثم المريض الذي لا يشفى، ثم الحامل والمرضع التي إذا صامت نشف لبنها عن ابنها.
الجواب: أولاً: من عجز عن صوم رمضان لكبر سن كالشيخ الكبير والمرأة العجوز أو شق عليه الصوم مشقة شديدة رخص له في الفطر، ووجب عليه أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا، نصف صاع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك مما يطعمه أهله، وكذلك المريض الذي عجز عن الصوم أو شق عليه مشقة شديدة ولا يرجى برؤه لقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها {البقرة: 286}، وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج {الحج: 78}. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: في قوله وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين "نزلت رخصة في الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينًا". {البخاري: 5-155، وأبو داود: 2-738}. اه.
والمريض الذي يعجز عن الصوم أو يشق عليه مشقة شديدة ولا يرجى برؤه حكمه حكم الشيخ الكبير الذي لا يقوى على الصوم.
ثانيًا: أما الحامل التي تخاف ضررًا على نفسها أو على حملها من الصوم، والمرضع التي تخشى ضررًا على نفسها أو رضيعها من الصوم، فعليهما فقط أن يقضيا ما أفطرتا فيه من الأيام كالمريض الذي يرجى برؤه إذا أفطر.
إجراء عملية راجحة الفشل
س: هل يجوز ترك إجراء عملية ورفضها إذا كانت نسبة نجاح العملية طبيًا ضعيفة، ولا تتجاوز نسبة 30% من خلال الاستقراء الطبي، علمًا أنه لو ترك فإن نسبة الوفاة قد تصل إلى 100% طبيًا، فما الحكم؟
المشروع علاج المريض، ولو كانت نسبة النجاح قليلة؛ لعموم الأدلة الشرعية، ورجاء أن يكتب اللَّه له الشفاء.
الفرق بين الوكيل والتاجر
س: رجل طلب من آخر شراء شيء ما، وسعر الشيء مثلاً ثلاثة دنانير، فكان ذلك الشخص يعطيها له بأربعة دنانير، ويأخذ لنفسه الفرق، فهل يصح شرعًا هذا الفعل أم لا؟
الجواب: الوكيل أمين ونائب عن المشتري، فلا يجوز له أن يزيد في ثمن السلعة ليأخذ الزيادة بدون علم الموكل، لكن متى أعلمه بالزيادة فلا حرج.
شراء محصول الثمار لعدة سنوات
س: أعطيت مبلغًا من المال لتاجر فاكهة لكي يتاجر لي به ويعطيني أرباحًا على ذلك، ثم علمت أنه يشتري محصول الحدائق لمدة 5 سنوات مقدمًا؛ لأن هذا يعطيه تخفيضًا عن ثمن الحدائق الأصلي، فهل هذه الأرباح التي يعطيها لي من هذه التجارة حلال، وأنا راضية بذلك ومشتركة معه في المكسب والخسارة؟
الجواب: لا يجوز شراء محصول الحدائق لمدة خمس سنوات؛ لما في ذلك من الجهالة والغرر، فلا يجوز لك الاشتراك مع التاجر المذكور، ولا أخذ أرباح من تلك المتاجرة، ولو كنت راضية بذلك.
البيع بالأجل وتحديد الربح
س: إنه متسبب في البيع والشراء، وإنه يبيع السلعة مؤجلاً بربح قد يصل إلى الثلث أو الربع، وقد يبيع السلعة على شخص بثمن أقل أو أكثر من بيعها على الآخر. ويسأل هل يجوز ذلك؟
الجواب: قال اللَّه تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا {البقرة: 275}، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه {البقرة: 282} الآية، وعليه: فإذا كان السائل يبيع ما يبيعه بعد تملكه إياه تملكًا تامًا وحيازته، فلا حرج عليه في بيعه بما يحصل التراضي والاتفاق عليه، سواء ربح الربع أو الثلث، كما أنه لا حرج عليه في تفاوت سعر بيعه بضائعه، بشرط أن لا يكذب على المشتري بأنه باعه مثل ما باع على فلان، والحال أن بيعه عليه يختلف عنه، وأن لا يكون فيه غرر، ولا مخالفة لما عليه سعر السوق، إلا أنه ينبغي له التخلق بالسماحة والقناعة، وأن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، ففي ذلك خير وبركة، ولا يتمادى في الطمع والجشع، فإن ذلك يصدر غالبًا عن قساوة القلوب، ولؤم الطباع، وشراسة الأخلاق.
قول الداعي: يا معين
س: هل يجوز قول الإنسان عند الاستعانة مثلاً- بالله عزَّ وجلَّ: يا معين يا رب، أو عند طلب التيسير في أمر: يا مسهل، أو يا ميسر يا رب، وما الضابط في ذلك؟ وما حكم من يقول ذلك ناسيًا أو جاهلاً أو متعمدًا؟
الجواب: لك أن تقول ما ذكرت؛ لأن المقصود من المعين والمسهل والميسر في ندائك هو اللَّه سبحانه وتعالى لتصريحك بقولك يا رب آخر النداء سواء قلت ذلك ناسيًا أو جاهلاً أو متعمدًا.
وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/1)
فتح مكة 1 ... ...
مازن التويجري ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- قريش تنقض شروط صلح الحديبية. 2- أبو سفيان يحاول تجديد الصلح. 3- قصة كتاب حاطب إلى قريش. 4- إسلام أبي سفيان بن الحارث. 5- رسول الله يفتح مكة. 6- بعض ما جرَ من بعد فتح مكة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
كان من بنود غزوة الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه, ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه, وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءًا منه, فأي عدوان عليها هو عدوان على من دخلت في عهده وعقده.
ودخلت خزاعة في عهد النبي , ودخلت بنو بكر في عهد قريش, وقد كانت الحروب والعداوات بينهما منذ غابر الأزمان, فأضحت كل واحدة في أمن من الأخرى, ولكن حصل غدر من بني بكر, فخرج نوفل بن معاوية في جماعة معه في شهر شعبان للسنة الثامنة من الهجرة فأغاروا على خزاعة ليلاً, وهم على ماء يقال له الوتير, فأصابوا منهم رجالاً, وتناوشوا واقتتلوا, وأعانت قريش بني بكر بالسلاح, بل وقاتل رجال منهم مع بني بكر مستغلين ظلمة الليل, حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فقالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم: إلهك إلهك. فقال: لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم, فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم, أفلا تصيبون ثأركم فيه.
وانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله في المدينة مستغيثًا ومستنجدًا فقال له عليه السلام: ((نصرت يا عمرو بن سالم)) ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: ((إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب)).
وسرعان ما أحست قريش بخطأها وغدرها, فخافت من عواقبه الوخيمة, فبعثت قائدها أبا سفيان ليجدد الصلح, وقد أخبر رسول الله أصحابه بما ستفعل قريش إزاء غدرتهم فقال: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة, ودخل أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة, فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه, فقال: يا بنية, أرغبت بي عن هذا الفراش, أم رغبت به عني؟ قالت: بل هذا فراش رسول الله , وأنت رجل مشرك نجس, فقال: والله لقد أصابك بعدي شر, ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يرد عليه شيء, ثم ذهب إلى أبي بكر ليكلم رسول الله فقال: ما أنا بفاعل, ثم أتى عمر فكلمه, فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله , فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به, ثم جاء عليًا فقال: إنك أمس القوم بي رحمًا, وإني قد جئت في حاجة, فلا أرجعن كما جئت خائبًا, اشفع لي إلى محمد, فقال: ويحك يا أبا سفيان, لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه, حينها أظلمت الدنيا في عيني أبي سفيان, فعاد أدراجه إلى مكة لم يصب مطلوبه, وبعد ذلك تجهز النبي وأمر الصحابة بالجهاز, وأعلمهم أنه سائر إلى مكة, وقال: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها)) وزيادة في الإخفاء بعث سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن إضم على ثلاثة برد من المدينة في أول شهر رمضان سنة ثمان للهجرة, ليظن الظان أنه يتوجه إلى تلك الناحية ولتذهب بذلك الأخبار[1].
وكتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشًا, فجعلته في قرون رأسها, ثم خرجت به، وأتى الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث رسول الله عليًا والمقداد فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ, فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش, فانطلقا يسابقان الريح حتى وجد المرأة بذلك المكان, فاستنزلاها, وقالا: معك كتاب قالت: ما معي كتاب, ففتشا رحلها فلم يجدا شيئًا, فقال علي: أحلف بالله ما كذب رسول الله 4 ولا كذبنا, والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك, فلما رأت الجد منه قالت: أعرض, فأعرض, فحلت قرون رأسها فأخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بمسير رسول الله إليهم, فدعا رسول الله حاطبًا, فقال: ((ما هذا يا حاطب؟)) قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله, والله إني لمؤمن بالله ورسوله, وما ارتددت ولا بدلت, ولكني كنت امرأ ملصقًا في قريش لست من أنفسهم, ولي فيهم أهل وعشيرة وولد, وليس لي فيهم قرابة يحمونهم, وكان من معك لهم قرابات يحمونهم, فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه, فإنه قد خان الله ورسوله, وقد نافق, فقال رسول الله : ((إنه قد شهد بدرًا, وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) [2], فذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم أخرجه البخاري.(/1)
وهكذا أخذ الله العيون, فلم يبلغ إلى قريش خبر خروج المسلمين إليهم, ولعشر خلون من شهر رمضان للسنة الثامنة من الهجرة غادر رسول الله المدينة متجهًا إلى مكة, في عشرة آلاف من الصحابة, ولما كان في الجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب, وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا.
ثم لما كان رسول الله بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية, فأعرض عنهما, لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجر, فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك, وقال علي لأبي سفيان: ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تا الله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين [يوسف: 91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً, ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [يوسف:92]. فأنشده أبو سفيان: ... ...
لتغلب خيل اللات خيل محمد ... لعمرك إني حين أحمل راية ...
فهذا أواني حين أهدى فأهتدي ... لكا لمدلج الحيران أظلم ليله ...
على الله من طردته كل مطرد ... هداني هاد غير نفسي ودلني ...
فضرب رسول الله صدره وقال: ((أنت طردتني كل مطرد)) [3]. فأسلم وحسن إسلامه, ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله منذ أسلم حياء منه, وكان رسول الله يحبه, وشهد له بالجنة.
وواصل رسول الله سيره وهو صائم والناس صيام حتى بلغ الكديد فأفطروا, أفطر الناس ثم واصل حتى بلغ مر الظهران، نزله عشاءً, فأمر الجيش, فأوقدوا النيران, فأوقدت عشرة آلاف نار, وفي الصباح من يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان غادر رسول الله من الظهران إلى مكة, وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بن حرب وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمضيق الوادي عند خطم الجبل, حتى تمر به جنود الله ميراها, ففعل, فمرت القبائل على راياتها, كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: قبيلة كذا, فيقول: مالي ولها حتى نفدت القبائل, فمر به رسول الله في كتيبته الخضراء, فيها المهاجرون والأنصار, لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد, قال سبحان الله يا عباس, من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار, فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة, ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا, قال العباس: يا أبا سفيان, إنها النبوة, قال: فنعم إذن.
ولما مر رسول الله بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك, فأسرع أبو سفيان بن حرب حتى دخل مكة فصرح بأعلى صوته, يا معشر قريش, هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به, فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن, قالوا: قاتلك الله, وما تغني عنا دارك, قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن, ومن دخل المسجد فهو آمن, فتفرق الناس إلى دورهم وفي المسجد, وتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين, ونزل رسول الله بذي طوى وكان يضع رأسه تواضعًا حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل, وهناك وزع جيشه فجعل على الميمنة خالد بن الوليد, وفيها: أسلم, وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل أخرى, فأمره أن يدخل مكة من أسفلها, وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا, حتى توافوني على الصفا.
وجعل على الميسرة الزبير بن العوام وكان معه راية رسول الله فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من كداء, وأن يغرز رايته بالحجون, ولا يبرح حتى يأتيه, وكان أبو عبيدة على الرجالة ولا سلاح لهم, فأمره أن يأخذ بطن الوادي, حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله .
وتحركت كل كتيبة, فأما خالد فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه, وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد بالخندمة فناوشوهم شيئًا من قتال, فأصابوا منهم اثني عشر رجلاً فانهزم المشركون, وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله الصفا.
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله بالحجون عند مسجد الفتح, وضرب له هناك قبة, فلم يبرح حتى جاءه رسول الله , ثم نهض رسول الله والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله, حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه, ثم طاف بالبيت وفي يده قوس, وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا, فجعل يطعنها بالقوس ويقول: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا [الإسراء:81]. قل جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد [سبأ: 49]. والأصنام تتساقط على وجهها[4].
بأبي أنت وأمي يا رسول الله, كم من صنم في هذا الزمان يرنو إلى قوسك الطاهر, ويراعك النقي ليخر صريعًا على وجهه في الثرى, أصنام الآراء والأفكار المسعورة, أصنام العلمنة والحداثة, أصنام النعيق والتبعية واللهث وراء الغرب الكافر, ألا كم من صنم في هذا الزمان لا يسجد له ولا يتمسح به, لكنه أشد على الإسلام من ألف صنم وحجر.(/2)
وكان طوافه على راحلته, فلما أتمه دعا عثمان بن طلحة, فأخذ منه مفتاح الكعبة, فأمر بها ففتحت فدخلها, فرأى فيها الصور, ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام, فقال: قاتلهم الله والله ما استقسما بها قط, ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده, وأمر بالصور فمحيت, ثم أغلق عليه الباب ومعه أسامة وبلال.
وصلى في الكعبة ثم دار في البيت وكبر في نواحيه ووحد الله, ثم فتح الباب, وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع فقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له, صدق وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج, ألا وقتيل الخطأ شبه العمد، بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة, مأئة من الإبل, أربعون منها في بطونها أولادها, يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء, الناس من آدم, وآدم من تراب, يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات:13]. ثم قال: ((يا معشر قريش, ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا, أخ كريم وابن أخ كريم, قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم [يوسف: 92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [5].
ثم سأله علي أن يجمع لهم الحجابة مع السقاية, فقال رسول الله : ((أين عثمان بن طلحة؟)) فدعي له فقال له: ((هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء, خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم, يا عثمان: إن الله استأمنكم على بيته, فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف)) [6].
[1] القصة بطولها رواها ابن إسحاق في سيرته (سيرة ابن هشام ح 390 ـ 391).
[2] رواه البخاري ح (3983).
[3] سيرة ابن هشام 4/400 ـ 401
[4] انظر قصة الفتح تمامها في سيرة ابن هشام كما رواها ابن إسحاق (4/400 ـ 405).
[5] رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة ابن هشام (4/412).
[6] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/412). ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
وحانت الصلاة, فأمر رسول الله بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة, وأبو سفيان وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة, فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدًا أن لا يكون سمع هذا, فيسمع منه ما يغيظه, فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته, فقال أبو سفيان بن حرب: أما والله لا أقول شيئًا, لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء, فخرج عليهم رسول الله فقال لهم: ((قد علمت الذي قلتم)), ثم ذكر لهم ذلك, فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله, والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا, فنقول: أخبرك[1].
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله في الناس خطيبًا, فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله, ثم قال: ((أيها الناس, إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا أو يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم, وإنما حلت لي ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب)) [2].
ولما تم الفتح قالت الأنصار فيما بينها: أترون رسول الله إذ فتح عليه أرضه وبلده أن يقيم بها, وهو يدعو على الصفا رافعًا يديه, فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله, فلم يزل بهم حتى أخبروه, فقال رسول الله : ((معاذ الله, المحيا محياكم, والممات مماتكم)) [3].
ثم أخذ رسول الله البيعة على الرجال بالسمع والطاعة فيما استطاعوا, ثم أخذ البيعة على النساء فقال: ((أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا, ولا تسرقن)) فقالت هند بنت عتبة: إن أبا سفيان رجل شحيح فإن أنا أصبت من ماله هنات, فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال, فضحك رسول الله وعرفها, فقال: ((وإنك لهند)) قالت: نعم, فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
فقال: ((ولا يزنين)) فقالت: أوَ تزني الحرة؟ فقال: ((ولا يقتلن أولادهن)) فقالت: ربيناهم صغارًا, وقتلتموهم كبارًا, فأنتم وهم أعلم, فقال: ((ولا يأتين ببهتان)) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح, وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق, فقال: ((ولا يعصينك في معروف)) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك, ولما رجعت جعلت تكسر صنمها, وتقول: (كنا منك في غرور) [4].
ثم أقام عليه السلام بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام, ويرشد الناس إلى الهدى والتقى, وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام, ولكسر الأوثان التي حول الكعبة, فكسرت كلها, ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره.
[1] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/413).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/415 ـ 416)، وبعضه في البخاري ح (112).(/3)
[3] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/416) والخبر رواه مسلم ح (1780).
[4] رواه الطبري في تاريخه (2/161). ... ...
المصدر: http://www.alminbar.net(/4)
فتح مكة 2
الفتح المبين
ـ كان ذلك في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وسببها أن أناسًا من بني بكر، كلموا أشراف قريش في أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح. (وخزاعة كانت قد دخلت في عهد المسلمين)، فأجابوهم إلى ذلك، وخرج حشد من قريش متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن امية، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فالتقوا مع بني بكر في مكان اسمه الوتير، وبيتوا خزاعة ليلاً وهم مطمئنون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلاً، وعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم، فقام وهو يجر رداءه قائلاً:
"لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي" وقال: "إن هذا السحاب ليُستهل بنصر بني كعب".
وندمت قريش على ما بدر منها، فارسلت أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة ويماددها. وقدم أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، فذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أنا بفاعل".
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: "أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به (والذر صغار النمل)".
وانطلق أبو سفيان عائدًا إلى مكة خائبًا، لم يأت بشيء.
وتجهز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أخفى أمره، وقال: "اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة".
ولما أجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسير، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يحذرهم من غارة عليهم من المسلمين. قال علي رضي الله عنه: "فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد. فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءً ملصقًا في قريش - أي كنت حليفًا لهم ولست منهم- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم ، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم، فأنزل الله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق..[ الآيات إلى قوله تعالى: ]فقد ضل سواء السبيل[. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حسين، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب: أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم، فالتقى كلهم في الظهران - مكان بين مكة والمدينة- وقد بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف. ولم تكن الأنباء قد وصلت قريشًا بعد، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرًا بسبب فشل ابي سفيان فيما جاء به إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى دنوا إلى مر الظهران فإذا هم بنيران عظيمة، فبينما هم يتساءلون فيما بينهم عن هذه النيران، إذ رآهم أناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان".
قال ابن إسحاق يروي عن العباس تفصيل إيمان أبي سفيان: "فلما أصبحن غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد. وقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك.. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وان محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.(/1)
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير مقبلاً إلى مكة، قال للعباس: احبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فخرجت فحبسته عند مضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى اله عليه وسلم أن أحبسه، ومرت القبائل عليها راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ .. وهكذا، حتى مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار!.. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد اصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا ! .. فقال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن".
ثم قال له العباس: "النجاة إلى قومك!..فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة قبل أن يصلها رسول الله، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فأقبلت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه وهي تقول: اقتلوا الحُميْت الدسم الاحمس، قُبِّح من طليعة قوم! .. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من نفوسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم والى المسجد".
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة" فلم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله هذا، وقال: بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. وأمر قادة جيوشه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا ستة رجال وأربعة نسوة، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، وهم عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نُقَيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتَنى وقرينة (وكانتا جاريتين تتغنيان دائمًا بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم).
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها (كداء) وأمر خالد بن الوليد أن يدخل بمن معه من أسفلها (كدى). فدخل المسلمون مكة من حيث أمرهم، ولم يجد أحد منهم مقاومة، إلا خالد بن الوليد، فقد لقيه جمع من المشركين فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، فقاتلهم خالد فقتل منهم أربعة وعشرين من قريش، وأربعة نفر من هذيل. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بارقة السيوف من بعيد، فأنكر ذلك، فقيل له: إنه خالد قوتل فقاتل، فقال: "قضاء الله خير".
روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر والحاكم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرًا (متعممًا) بشقة بردٍ حَبِرة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
وروى البخاري عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع.
ودخل صلى الله عليه وسلم مكة متجهًا إلى البيت، وحوله ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". وكان في جوف البيت أيضًا آلهة، فأبى أن يدخل وفيه الآلهة، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه".
وكان قد أمر صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة البيت) أن يأتيه بالمفتاح، فجاءه به، ففتح البيت، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح، وقال له: خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم (أي حجابة البيت) ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. يشير بقوله هذا إلى قول الله تعالى ]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها[ [النساء: 4/58].
وأمر رسول الله بلالاً فصعد فوق الكعبة فأذن للصلاة. وأقبل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجا. قال ابن إسحاق: وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعلمون ماذا يفعل بهم، فخطب فيهم قائلاً:(/2)
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: ]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا عن أكرمكم عند الله أتقاكم[. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وروى الشيخان عن أبي شريح العدوي أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما خاطب به الناس يوم الفتح: "إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها أناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر أن يسفك بها دمًا أو يعضد بها شجرًا، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب".
ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنها. فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئًا، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرًا ما أخذته على الرجال، وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلاً لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدًا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال عليه الصلاة والسلام: وإنك لهند بنت عتبة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت: وهل تزني الحرة قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارًا وقتلتهم يوم بدر كبارًا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر من قولها حتى استغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
قال: ولا تعصينني في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر. وكان رسول الله لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تمسه، إلا امرأة أحلها الله له".
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية: لا يشركن بالله شيئًا، قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها". وروى مسلم عن عائشة بنحوه.
"وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، يوم الفتح، رجلاً من المشركين، وكان علي رضي الله عنه يريد قتله، قالت: فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة بنته تستره بثوب، قالت: فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، ثم انصرف. فقلت: يا رسول الله. زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلاً أجرته، فلان: ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
وأما أولئك النفر الذين كان رسول الله قد هدر دمهم، فقد قُتل بعضهم وأسلم الآخرون: قتل الحويرث وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة، وقتلت إحدى الجاريتين المغنيتين وأسلمت الأخرى. وشفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وحسن إسلامه، وأسلم عكرمة ، وهبار، وهند بنت عتبة.
روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة؟ قال: نعم: فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه".
ومرّ فضالة عائدًا إلى بيته بامرأة كان يميل إليها ويتحدث معها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فانبعث يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت: لا يأبى عليّ الله والإسلام
لو ما رأيت محمدًا وقبيله بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينًا والشرك يغشى وجه الإظلام
دروس من فتح مكة
من أعظم بشائر القرآن الكريم
الأستاذ/ حسن ضياء الدين عتر
انهمك الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأبطال الميامين بعد الهجرة في ردع الأعداء الكائدين هنا وهناك في أرجاء الجزيرة العربية، لا يُخمدون نارًا إلا أوقد العدو للحرب نارًا أخرى.(/3)
في هذه الغمرة جاءتهم بشارة عظيمة فريدة فوق الذي في حسبانهم يومئذ، إن الله سيمنحكم نصرًا عظيمًا وعزًا وطيدًا، ويفتح لكم قلعة الشرك الحصينة؛ أم القرى، مكة المكرمة؛ ويتهاوى الشرك كله.. ويدخل الناس معكم في دين الله أفواجًا.. نزلت هذه البشارة تخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إمامهم وقائدهم: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)
ذهب العلامة عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - رحمه الله- مذهب جمهور المفسرين، إلى أن سورة النصر نزلت قبل فتح مكة إذْ أخبر الله بفتحها قبل وقوعه. وجاء مستقبل الزمان بتحقق الفتح، كما أنبأ الله تعالى من قبل وأخبر. فسورة النصر علم من أعلام نبوة سيد المرسلين وإلهية رسالته.
لقد استدل الحافظ ابن رجب على نزول سورة النصر قبل الفتح بدلائل أهمها:
1) ظاهر النص القرآني، فقد دلت اللغة العربية على أن "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان. وعوّلَ على هذا بعض أئمة اللغة كالزمخشري في كشافه.
2) روى النسائي من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت: ]إذا جاء نصر الله والفتح[ إلى آخر السورة، قال ابن عباس: نُعْيَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنُزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن" فقال رجل: يا رسول الله ، وما أهل اليمن"، قال: (قوم رقيقة قلوبهم، لينة قلوبهم، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان".
أقول: إن المقصود بـ "أهل اليمن" في الحديث هم الأشعريون، فإنهم طليعة وفود اليمن، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة عند فتح خيبر، ويدلك ذلك على نزول سورة النصر قبل فتح مكة. وهو قول الجمهور، وإليه ذهب الإمام ابن رجب رحمة الله عليه.
تكشف لك الدراسة العلمية أن هذه السورة الجليلة علم ساطع من أعلام نبوة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وبرهان باهر على إلهية رسالته، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن سقوط معقل الشرك في المستقبل القريب، لتقرَّ عين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتطهير مكة من دنس الشرك والوثنية، قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، تباركت أسماؤه وتعالت صفاته.
قال الإمام الجليل عبد الرحمن بن رجب الحنبلي في قوله تعالى: ]إذا جاء نصر الله والفتح[: "أما (نصر الله): فهو معونته على الأعداء، حتى غَلَبَ صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم". وقال الإمام الألوسي في قوله تعالى: (إذا جاء): "المراد بالمجيء الحصول".
وفي قوله تعالى (نصر الله): "أي إعانته تعالى وإظهاره إياك (يا رسول الله) على عدوك".
وقال الإمام أبو السعود العمادي: "والتعبير عن حصول النصر والفتح بالمجيء، للإيذان بأنهما متوجهان نحوه عليه السلام، وأنهما على جناح الوصول إليه عن قريب".
وذكر القاضي البيضاوي نحو ذلك وزاد عليه قوله: "وقد قرب النصر من وقته فكنْ مترقبًا لوروده، مستعدًا لشكره".
ذهب الإمام ابن رجب الحنبلي مذهب جمهور المفسرين وفيهم ابن عباس وغيره إلى أن المراد بالفتح: "هو فتح مكة بخصوصها". ثم قال: "قال ابن عباس وغيره، لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على مكة". وفي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: "وكانت العرب تلَوِّم [أي تنتظر] بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامه، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.." الحديث.
وقد استدل العلامة ابن كثير بفتح مكة على نبوة سيد المرسلين وساق استدلاله تمهيدًا لحديث عمرو بن سلمة الذي أوردناه آنفًا.
وعن الحسن قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ قالت الأعراب: أما إذْ ظفر بأهل مكة؛ وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل؛ فليس لكم به يدان. فدخلوا في دين الله أفواجا".
الحق أن فتح مكة علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى حمى بيته من أهل الضلالة والبغي، وهم أصحاب الفيل. بينما فتح أبوابها وذلل وعرها، وأخضع أعناق جبابرتها وصناديدها لسيد المرسلين حبيبه محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير: "والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولاً واحدًا" وتدل عليه أحاديث كثيرة، وإذا أطلق لفظ "الفتح" فالمراد به فتح مكة المكرمة، وقد ورد هذا في القرآن العظيم. قال الله تعالى:(/4)
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) [الحديد]
سيد المرسلين يوم الفتح الأعظم
كشف الله تعالى ما يكون بعد الفتح من شأن سيد المرسلين، وهو شأن إخوانه المرسلين قبله. فإنك لا تجد في تاريخ أحد منهم، قبل النصر ولا بعده، بعض ما تجده في زعماء الضلالة من طغيان وتكبر وتجبر وتطاول وظلم وإذلال للناس.. فهذه سورة النصر تُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة وتوجه قلبه إلى جانب عظيم من جوانب الصلة بالله تبارك وتعالى [فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا].
وفتح الله على رسوله الأمين وأصحابه الميامين أعتى قلاع الشرك في الجزيرة العربية فدخل مكة ظافرًا؛ بجيش عظيم منيع من أصحابه، لم يجتمع من أبناء الجزيرة العربية نظيره قط، وذلك في أواخر شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة من الهجرة، دخلها خاشعًا لله متواضعًا، ذاكرًا عابدًا، يقرأ سورة الفتح على ناقته. روى البخاري في صحيحه عن معاوية بن قُرةَّ قال: "سمعت عبد الله بن مُغفَّل يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يُرجعُ. وقال [أي معاوية بن قُرة]: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع".
"الترجيع": ترديد القارئ الحرف في الحلق. يفيدك هذا التعبير أن الرسول صلى الله عليه سلم في هذا النصر العظيم كان يمعن في تلاوة ألفاظ هذه السورة وفي التفكير بمعانيها اعترافًا بفضل الله عليه. أجل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة على مشهد من جمع عظيم، وقد كاد له الذين ناصبوا دعوته العداء حتى أخرجوه من بلده، لكنه لم يدخلها مزهوًا مختالاً. إنما دخلها خاضعًا متواضعًا لله خير الناصرين، وذلك في شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة من الهجرة.
روى الإمام الحاكم وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعًا".
وفي رواية البيهقي عن أنس قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعًا".
وأفادت رواية الواقدي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توسط الناس على هذه الحال.. "تواضعًا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال صلى الله عليه وسلم : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة".
لقد رتب الله على الفتح والنصر أمرًا جليلاً عظيمًا: [فسبح بحمد ربك واستغفره. ]فإن الصلة بالحق تباركت أسماؤه وتعالت صفاته لا يجوز أن تكون قاصرة على أيام الشدة، إذ يفتقر العبد إلى مولاه، فيناديه من أعماقه رباه! رباه! وهو في أمرِّ حالات الافتقار وأشدِّ حالات الظلام، ولكن الصلة الواجبة بين العبد وربه صلة دائمة لا تنقضي ولا تنقطع مدى الحياة، مهما أمد الله له في النعم، وأزجى له من العز والنصر والسؤدد.
كانت العرب تنتظر نتيجة الصراع بين المصطفى "صلى الله عليه وسلم" وبين قلعة الشرك والوثنية. دخل الرسول الكريم مكة ظافرًا متنصرًا.. ودانت له الرقاب.. لكنه دخلها متذللاً لله رب العالمين. فليس في النصر إغراء يحوله عن طريقته الفضلى..!! ولا ما يستدعي أن يقترف شيئًا من جرائم الجبارين، زعماء الغرور والطغيان، من سفك دماء العزل من السلاح، وهتك أعراض الحرائر المسالمات، وسلب الأموال وتخريب الديار وانتهاك حرمات الله، وإهانة الشرفاء والفضلاء، وإذلال الناس وكبت حرياتهم، وملء السجون بجموع النبغاء والكرماء والفضليات الشريفات!!.
إن للجبابرة الطغاة شاكلة شهيرة ملأت التاريخ الغابر والمعاصر نكبات ومآسي وفواجع.. ولقد أماطت الأحداث اللثام عن طغاة استلبوا زعامات في الماضي والحاضر فعاثوا في أقوامهم فسادا..!! وعن طغاة بغوا في الأرض، ظلمًا وعدوانًا، تجبرا وغرورا، فاقترفوا من فظائع الجرائم ما تذهل له العقول..!! ولا تغيب عن بالك مجازر اليهود وأذنابهم في فلسطين ولبنان، ولا مجازر الهندوس والوثنيين في مسلمي الهند، ومثل ذلك في أفريقيا. وغير ذلك كثير في عصرنا. طغيان وسفك دماء.. وانتهاك أعراض.. وسلب أموال.. وتخريب ديار.. ذاكم صنيع الجبارين، كما أخبر الله عنهم، قال تعالى: } قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل].(/5)
أما نحن معشر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلنا شاكلة أخرى وطريقة مثلى، رسمها الحق تبارك وتعالى، وها أنت تشهدها في دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في أعظم نصر، وقد طأطأ رأسه.. خاشعًا مخبتًا متذللاً لله واهب النصر رب العالمين ]وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم[ [سورة الأنفال:10] إن ذلك التواضع الجم والأدب الكامل والتذلل والاستكانة بين يدي الحق جبار السموات والأرض، لنا طريقة التعامل مع عباد الله، كل حسب حالة (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [سورة المائدة: 54].
لقد آذت قريش رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى مريرًا، فصبر عليهم ثلاث عشرة سنة بعد البعثة ثم هاجر مضطرًا من مكة إلى المدينة.
واستمرت المصاولة بينه وبينهم بعد الهجرة ثماني سنين حتى أظفره الله عليهم إذْ داهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم. وسبق إليه أبو سفيان، الذي جلب الأحزاب لحربه وتسبب وزوجته بواسطة وحشي في قتل عمه حمزة والتمثيل به، فلاطفه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاه للإسلام.. فقال: ويحك يا أبا سفيان.. ألم يأنِ لك أن تعلم وتشهد أن لا إله إلا الله!؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك!! ثم جعل الرسول له مكرمة خاصة لدى اقتحام المسلمين مكة، فجعل الأمان لمن دخل داره فقال: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن). واجتمع الذين حاربوا الله ورسوله يستمعون إلى الحكم فيهم، وهم يظنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى عن استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم، فقال: ما تقولون أني فاعل بكم!!) فقالوا: أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف )قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة يوسف: 92].
وضح لك من ذلك كله تفوق رسول الله صلى الله عليه سلم على الناس أجمعين بسعة الصدر، ولين العريكة، وكرم العشرة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس بل هو صلى الله عليه وسلم يفوقهم في جميع محاسن الأخلاق.. حتى رحُب صدره لأجلاف الجاهلية؛ وهم من أغلظ البشر طبعًا وأقساهم معاملة. وإن عظيم عفوه هذا يكشف عن تأهيل الله سيدنا محمدًا لمقام الرسالة العظمى، وهو من أعلام نبوته الساطعة الباهرة صلى الله عليه سلم
المصدر: http://www.islam-online.net(/6)
فتنة مسايرة الواقع
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله ـ عز وجل ـ لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد ثبوتها، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه ـ عز وجل ـ في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله ـ عز وجل ـ وعصمه. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا منهم.
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ)) [إبراهيم: 27].
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن هذه الآية: "تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم"(1).
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه ـ تبارك وتعالى ـ: (( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) [الإسراء: 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه ـ تعالى ـ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار ـ عياذاً بالله تعالى ـ؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم ـ عليهم السلام ـ عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك ـ بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم. وسجل الله ـ عز وجل ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ قولهم: ((مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)) [المؤمنون: 24].
وقال ـ تعالى ـ عن قوم هود: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [الأعراف: 70]، وقال ـ تبارك وتعالى ـ عن قوم صالح: ((قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [ هود: 62].
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ عن قوم فرعون: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)) [يونس: 78]، وقال عن مشركي قريش:
((وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...)) [البقرة: 170] والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟
نعوذ بالله ـ تعالى ـ من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه،(/1)
وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله ـ تعالى ـ شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(2).
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فكذلك صاحب الهوى ـ إذا ضل قلبه وأُشرب حبه ـ لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه"(3).
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: "لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(4). قال الشارح في تحفة الأحوذي: "الإمعة هو الذي
يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان".
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله ـ عز وجل ـ وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"(5).
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال:يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم"(6).
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله ـ تعالى ـ فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله ـ بادئ ذي بدء ـ حتى يكون لدعوته بعد ذلك
أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.(/2)
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه ـ والله ـ هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس. إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله ـ تعالى ـ في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله ـ عز وجل ـ. وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله ـ عز وجل ـ وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: "وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا ـ بكل أسف ـ من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها.
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله ـ مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ـ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(7).
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه(8).
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ـ عز وجل ـ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر ـ وما أبرئ نفسي ـ.
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ـ ومن سنوات عديدة ـ كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع، ومن أبرز هذه العادات والممارسات:(/3)
- ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخضع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين، وكل هذا ـ ويا للأسف ـ بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال: نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم!! .
- ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
- ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح
كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله ـ عز وجل ـ من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله ـ عز وجل ـ فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول ـ والعياذ بالله تعالى ـ إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: "هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها: أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!"(9).
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.(/4)
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً"(10) ويقول أيضاً: "إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها"(11).
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: "يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن
له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك"(12).
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله ـ عز وجل ـ ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها ـ بزعمهم ـ مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله ـ عز وجل ـ نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: ((وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)) [الإسراء: 73 - 75].
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها:
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله، ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.(/5)
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!(13).
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض الميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول(14)ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ـ ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله ـ عز وجل ـ باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: "هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري"(15).
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: "لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات ـ لو أخذ بها ـ لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها ـ بزعمهم ـ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: "إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية" والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
5 - أحكام أهل الذمة:
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!"(16).
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: "إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى".
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ـ ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ـ ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
ـ التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر(17).
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.(/6)
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:
1 - الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله ـ عز وجل ـ الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله ـ عز وجل ـ يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله ـ عز وجل ـ لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ(18):"وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)) [النساء: 66 - 68] وقال ـ تعالى ـ: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) [العنكبوت: 69] وقال ـ تعالى ـ: ((والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)) [محمد: 4 - 6]، وقال ـ تعالى ـ: ((ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء)) [الروم: 10]، وقال ـ تعالى ـ: ((كِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) [المائدة: 15، 16]، وقال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ)) [الحديد: 28]، وقال ـ تعالى ـ: ((وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)) [الأعراف: 154].
وما أجمل ما قاله سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ في النقل السابق حيث قال: "ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ـ ولو يسيراً ـ لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء".
3- الآثار الدعوية:
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة:
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله ـ عز وجل ـ وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: ((ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء: 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله ـ عز وجل ـ وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها:(/7)
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال ـ عز وجل ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) [النساء: 66] فذكر ـ سبحانه ـ في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: "فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق"(19).
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله ـ عز وجل ـ لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله ـ تعالى ـ. وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.
الهوامش:
(1) بدائع التفسير، 3/17.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(3) الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
(4) تحفة الأحوذي، 6/145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
(5) رواه الترمذي، ح/ 2186.
(6) أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.
(7) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 ـ 43 (باختصار).
(9) في ظلال القرآن، 2/ 1219.
(10) الموافقات، 2/ 128.
(11) المصدر السابق، ص / 247.
(12) إعلام الموقعين، 4/ 229.
(13) في ظلال القرآن، 3/ 245.
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب)، للأستاذ محمد حامد الناصر.
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، ص 22.
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار).
(17) المصدر السابق، ص 353، 354.
(18)الفتاوى، 14/245.
(19) بدائع التفسير، 1/17.
مجلة البيان(/8)
فجاءته إحداهما تمشي على استحياء د. عبد الحي يوسف*
يُثني ربنا سبحانه على هذه الفتاة بأنها كانت حييةً في مشيتها, سيماها الوقار والأدب, ما كانت تمشي على الأرض مرحاً, ولا كانت خرّاجةً ولاّجة, ولا هي ممّن يزاحمنَ الرجال, بل خرجت في طاعة أمر أبيها، الذي بعث بها إلى الكليم موسى عليه السلام فجاءت تبلّغه الرسالة: (إنّ أبي يدعوك ليجزيكَ أجر ما سقيتَ لنا)[2]، (الحياء لا يأتي إلاّ بخير)[3], قال العلماء في الحياء: انقباض النفس عن مواقعة القبيح. وهو خلقٌ كريم مطلوب في الرجل والمرأة جميعاً، وهو من شمائل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وعباد الله الصالحين، كما روى البخاري عن أبي سعيد: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أشدّ حياءً من العذراء في خدرها, وكان لا يواجه أحداً بشيء يكرهه, وكان إذا كره شيئاً عُرف في وجهه صلى الله عليه وسلم". ولئن كان الحياء خُلُقَ كلِّ مؤمنٍ, إلا أنَّه في حقِّ المرأة أكرمُ وألزمُ وأوجب, ليزيدها ربها على الجمال جمالاً، فكوني ـ يا أمة الله ـ حيية سِتِّيرة في مظهرك ومخبرك, ومدخلك ومخرجك, وقولك وفعلك, وسلامك وكلامك.
كوني حييةً إذا خرجت من بيتك, تخرجين في ثوب الحياء, لا زينةَ ولا تبرُّج, ولا سفورَ ولا عطر, تقصدين قضاء حاجة، أو تحقيق مصلحة، فإذا ما فرغتِ رجعتِ بمثل ما خرجتِ مأجورةً غير مأزورةٍ.
كوني حييةً إذا ما تكلمتِ, فلا ترفعي صوتاً، ولا تُحدِثي ضجيجاً, واقتدي بنبيك الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ما كان فظّاً ولا غليظاً، ولا سخَّاباً بالأسواق, ولا تُقَلِّدي تلك الخرقاء التي صوتها شديد، وكلامها وعيد.
كوني حييةً إذا سلمتِ على رجلٍ أو سلَّم عليكِ, ولْتكُنْ تحيَّتُكِ تحيةَ الإسلام, ولا تصافحيه؛ فإن نبيَّكِ صلى الله عليه وسلم ما مسّت يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ إلا امرأة يملكها, فاقتدي به؛ ترشدي وتفلحي.
كوني حييةً إذا ما هاتفتِ أحداً أو هاتفكِ, فلا تكثري من الكلام في غير ما فائدة، واقتصري على النافع المفيد, وإيّاكِ ومضاحكةَ الرجال والثرثرة معهم؛ فإنها لا تقود لخير أبداً.
كوني حييةً في مشيتك ولا تضربي الأرض برجليك, ولتكن مشيتك مشية الحياء والخفر, الزمي جانب الطريق وحافَّته, ولا تُكثري من الالتفات, ولا تُوزِّعي الابتسامات؛ فيطمع الذي في قلبه مرض.
كوني حييةً من فعل ما لا يليق, فلا تأكلي في الطريق, ولا تلبسي ما لا ينبغي لك لبسه, ولا تأذني في بيتك لمن كان زوجك له كارهاً, ولا تخالطي الرجال في حفل ولا عرس، كفعل من لا خلاق لهم.
كوني حييةً في لفظك ومنطقك, فلا تلْعني ولا تطْعني, ولا تسُبِّي ولا تفْحُشي, كوني عَفَّة اللسان، كثيرة الإحسان، (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن)، لا تلعني أولادك ولا تدعي عليهم, وإيّاكِ والغيبة والنميمة والبهتان والكذب وإفشاء الأسرار.
كوني غافلة عن عيوب جيرانك، حييّة من أن تتسمعي أخبارهم، أو تتجسَّسي على أسرارهم، فقد قال تعالى: (ولا تجسسوا)[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا))[5]، واشتغلي ـ رحمك الله ـ بعيبك عن عيوب الناس.
أختاه، اعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصانا جميعاً فقال: ((استحوا من الله حق الحياء))، قالوا: "يا رسول الله وما ذاك؟"، قال: ((أن تحفظ الرأس وما وعى, والبطن وما حوى, وأن تذكر الموت والبِلى؛ فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء)).
يا أمة الله، تذكَّري أنه ما ينبغي أن يراكِ ربُّكِ حيث نهاكِ, فإيّاكِ والمعصية فإن المعاصي تزيل النعم, وحقٌّ علينا أن نستحي من ربِّنا أن نضيّع أوامره أو أن نفرِّط في فرائضه. وما أحسن ما قيل:
----------
[1] القصص25
[2] القصص 25
[3] متفق عليه
[4] سورة الحجرات: 12
[5] رواه البخاري ومسلم، راجع رياض الصالحين للنووي رحمه الله باب النهي عن التجسس والتسمع لكلام يكره استماعه
[6] قال ابن منظور: جحم النار: أوقدها، وهي جحيم وجاحمة، وجمر جاحم شديد الاشتعال. لسان العرب 2/189(/1)
فرض الكفاية
أحمد سعد الدين
الحكم التكليفي:
هو عند الأصوليين يتجلى في "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء طلباً أو تخييراً"، أو "أثر هذا الخطاب" كما هو عند الفقهاء، ثم ينقسم هذا المفهوم إلى خمسة مستويات من الدلالة بحسب صيغة الخطاب المتضمن والمحتوي له: "الوجوب والحرمة والكراهة والندب والإباحة". ما يعنينا في هذا السياق المستوى الأول "الوجوب" وانشطاره وتفرعه -بحسب الأصوليين- إلى عدد من الأقسام، لعل من أهمها تفريعه بحسب المخاطبين به إلى عيني وكفائي. ويقصد الأصوليون بالواجب العيني ذلك الفعل الذي "طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين بعينه". أما الواجب الكفائي فهو ذاك الذي يروم الشارع حصوله "من جماعة المكلفين" من غير نظر إلى من يفعله أو يقوم به، وإنما مقصوده تحقق وقوعه من مجموع المكلفين. وإنما سمي واجباً كفائياً لأنه يكفي في حصول المطلوب به قيام بعض المكلفين بفعله دون البعض ولهذا فان ذمة من لم يفعل هذا الواجب تبرأ بفعل غيره وان لم يقم به احد مطلقاً فان الإثم واقع على الجميع.
والتقسيم إلى الكفاية والأعيان كما يكون في الواجبات يكون في المندوبات كالأذان، والإقامة، والتسليم، والتشميت، وما يفعل بالأموات من المندوبات فهذه على الكفاية. وعلى الأعيان كالوتر، والفجر، وصيام الأيام الفاضلة، وصلاة العيدين، والطواف في غير النسك ، والصدقات. وقد تكون الجزئية الواحدة فرض عين في حالة وفرض كفاية في حالة أخرى، فإذا تعين لإظهار الحق فرد بذاته كان أداء الواجب عينياً، فإذا لم يكن في الجهة إلاّ طبيب واحد لا يحصل علاج المريض بدونه كان قيامه بهذا العلاج عينياً، وكذا بالنسبة للإفتاء والإرشاد والأمر بالمعروف، فالمناط في اعتباره كفائياً أو عينياً هو إمكان تحقق المصلحة أو المطلوب الشرعي بغيره أو تعينه هو، ومع صيرورته واجباً عينياً فان أصله واجب كفائي إذ يسقط عنه التكليف بفعل الغير ولم يطلب فعله من كل فرد أصلاً. وقد يكون التكليف كفائياً ثم ينقلب عينيا كما إذا كان في البلدة عدة أطباء ووجد المريض، ثم ارتحل الأطباء إلاّ واحداً، أو ماتوا إلاّ واحداً قبل علاج المريض ، فالتكليف بالعلاج كان كفائياً عند وجود الأطباء في البلدة ولم يكلف به واحد منهم بعينه، ولما انفرد واحد منهم في البلدة تعين هو للتكليف بالعلاج وأصبح عينياً عليه، ومثل ذلك يقال في جميع الواجبات الكفائية عندما يجري فيها مثل ذلك.
وعلى الجملة فإن الواجب الكفائي يتميز عن الواجب العيني بقصد الشارع ونظرته إلى كل منهما، فالقصد من الواجب الكفائي وقوع الفعل نفسه لما يترتب عليه من جلب المصلحة أو درء المفسدة بقطع النظر عمن يصدر منه، فإذا وقع الفعل على الوجه المطلوب ارتفع التكليف به سواء وقع من فرد أو أكثر، ومن أي فرد كان. وهذا بخلاف الواجب العيني فان نظرة الشارع فيه إلى نفس المكلف ولذا فان الخطاب يتجه إلى الفاعل نفسه حتّى إذا عجز عن القيام بالفعل لم يطلب الشارع وقوعه من غيره لأن المصلحة التكليفية ترجع إلى نفس المكلف.
وأمثلة فروض الكفاية كثيرة وتنقسم إلى ديني ودنيوي:
فالديني: ما يتعلق بأصول الدين وفروعه:
مثل القيام باقامة الحجج والبراهين القاطعة على إثبات الصانع وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه، وإثبات النبوات، ودفع الشبه والمشكلات. والاشتغال بعلوم الشرع من تفسير وحديث وفقه، والتبحر في ذلك. وتصنيف الكتب لمن منحه الله فهما واطلاعاً. وحفظ القرآن والحديث ونقل السنن. والاجتهاد فلو اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع، وان قصر فيه أهل عصر عصوا بتركه واشرفوا على خطر عظيم. وتعليم الطالبين والافتاء. وتولية القضاء. وتحمل الشهادة وأداؤها. وتولي الإمامة العظمى . والجهاد حيث الكفار مستقرون في بلادهم، أما إذا ديست أرض الإسلام ففرض عين. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية ، قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران:104. ودفع ضرر المحاويج من المسلمين من كسوة وطعام إذا لم تندفع بزكاة أو بيت مال، ومثله محاويج أهل الذمة. وإغاثة المستغيثين في النائبات. وإقامة الجماعة والأذان والإقامة. وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم. ورد السلام حيث المُسّلَّم عليه جماعة.(/1)
والقسم الدنيوي: كالحرف والصناعات وما به قوام المعاش والشراء والحراثة وما لابد منه حتّى الحجامة والكنس، وعليه عمل الحديث: "اختلاف أمتي رحمة للناس" ومن لطف الله عز وجل إن جبلت النفوس على القيام بها. وقد عد العلماء الحرف والصناعات وأنواع الزراعات من فروض الكفاية لأنه لا يقوم أمر الدين والدنيا إلا بها وتركها فيه هلاك ومفسدة ويلزم أن يقوم بها من تحصل الكفاية بفعله وإلا أثمت الأمة وعدها الغزالي في الوسيط من فروض الكفاية المناكحات وهو مشكل على طريقته في الصنائع لأن الطبع يحث عليها. كما عدوا من فروض الكفاية الاشتغال بعلم الطب، وألحق به وفاقاً للغزالي الحساب.
التخصص قد غدا من فروض الكفاية وهو متعيَّن فيمن تهيأ له ويؤدي إلى تقسيم العمل وتجويده وإحسانه وبلوغ الثمرة المرجوة منه. إنَّ إنشاء مخبز في بلد من فروض الكفاية على أهل البلد . هناك علوم هي من قبل فرض الكفاية .. إن قامت به بعض المسلمات سقط عن الأخريات .. مثل تمريض النساء وتطبيبهن، وتوليدهن، وتعليمهن وهذه الأمثلة التي ضربها الفقهاء إنما هي على سبيل المثال وهي ما يناسب حاجات مجتمعاتهم، وبالإمكان أن نضيف إليها قائمة أخرى مما استجد من حاجات في عصرنا، ومعظمها مما يقع في القسم الدنيوي، أما في القسم الديني فلا تعدو الإضافات أن تكون صوراً جديدة من المصالح الدينية التي نص عليها العلماء قديما.
ففي القسم الديني:
ـ التركيز على دفع الشبهات التي تثيرها المذاهب الفكرية المعاصرة.
ـ التجديد في وسائل إقامة الحجج والبراهين وفقا لمنطق العصر وعلومه.
ـ الاشتغال بعلوم الشرع من منطلق تطبيقها على الحياة المعاصرة.
ـ تصنيف الكتب وفقاً لمخطط يسد الثغرات الناشئة عن توقف الحياة الفكرية بسد باب الاجتهاد لعدة قرون.
ـ استخدام مختلف الوسائل في تيسير وصول القرآن والحديث والعلوم الشرعية إلى الناس من موسوعات ومعاجم وفهارس وأدمغة الكترونية ووسائل الاتصال الأخرى.
ـ إقامة مؤسسات الاجتهاد الجماعي، ومؤسسات إعداد المجتهدين بما يكفل ازدهار الاجتهاد وأداءه وظيفته.
ـ إقامة مؤسسة الإمامة بما يكفل وحدة المسلمين وتعاونهم وتطبيق الشورى.
ـ الاكتفاء الذاتي في الصناعات الحربية بما يكفل القيام بواجب الإعداد دون اعتماد على غير المسلمين.
ـ تعميم الإعداد والتعبئة الشاملة للأمة بما يكفل دفع العدوان عنها وحماية السلام العادل.
ـ إقامة مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن أنظمة متخصصة متطورة تكفل تحقيق الوظيفة دون تعسف في الفهم أو إساءة في الممارسة ، ومع بقاء دور الأفراد كاملاً غير منقوص وكفالة وتنظيم قيامهم بهذا الواجب.
ـ وضع النظم وإقامة المؤسسات الكفيلة بتأمين ضرورات المعيشة من غذاء وكساء ومسكن وصحة وتعليم مجاناً لغير القادرين وتنظيم التأمينات الاجتماعية بكافة صورها لجميع المواطنين.
وفي القسم الدنيوي:
ـ تحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات الاقتصادية بدءاً بالضروريات من زراعة وصناعات لمتطلبات الغذاء والملبس والمسكن والصحة والتعليم بما يكفل الاستقلال الاقتصادي للأمة الإسلامية وتيسير هذه الضروريات مجاناً لغير القادرين وبأسعار معقولة للقادرين.
- إقامة المعاهد التعليمية ومؤسسات البحث العلمي والنظم التدريبية الكفيلة بتقدم الأمة في جميع المجالات وتكوين العناصر المتخصصة المدربة اللازمة لتغطية هذه المجالات.
- ِوضع النظم الكفيلة بتعبئة المدخرات والفوائض وتوجيهها للاستثمار في هذه المجالات ووضع الحوافز الربحية والضريبية المعينة على ذلك.
إقامة المؤسسات الاقتصادية والمالية والمصرفية في إطار الشريعة ووفق مبادئها. قد يكون الأمر الواحد حقاً للشخص وواجباً عليه في نفس الوقت: كثيراً ما تتأكد المصلحة ـ خاصة كانت أو عامة ـ بحيث تتدخل الشريعة بحكم تكليفي فيما كان مجرد حق شخصي. من ذلك حق العمل والزواج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشورى.
- فالعمل حق للفرد على الجماعة إن تيسر للفرد حصوله عليه بتيسير أدواته ورأس ماله، وهو واجب في نفس الوقت على القادر "القوى المكتسب" بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم.
ـ والزواج حق للفرد على الجماعة أن تيسره للفرد إن عجز عن تكاليفه حتّى تعينه عن أن يعف نفسه به، وهو في نفس الوقت واجب إن كان يخشى على نفسه الفتنة.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق للفرد على الجماعة إن تيسر قيامه به وتعينه عليه، وقد يكون موجهاً إلى ولي أمر أو غيره من أصحاب الولايات، وهو في نفس الوقت واجب عليه ولا يختص بأصحاب الولايات، ولا بالعدل ولا بالحر ولا بالبالغ ولا يسقط بظن انّه لا يفيد أو علم ذلك عادة، ما لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من ضرر المنكر الواقع كما يقول السيوطي في الأشباه والنظائر.(/2)
ـ والشورى حق للفرد أن يقوم المجتمع على أساسها وان يشارك حسب طاقته في مختلف مؤسساتها، ومن واجب الجماعة تمكينه من ذلك، وهي في نفس الوقت واجب عليه حتّى لا يستبد بالأمة مستبد، وهي اوجب على صاحب الرأي والاختصاص والمكانة الأمر الواحد قد تجري عليه الأحكام الخمسة وفقاً للظروف: بل قد تعتريه الأحكام السبعة على رأي الحنفية في تقسيم الحكم التكليفي: فالفعل الواحد قد تعتريه هذه الأحكام كلها أو بعضها بحسب ما يلابسه.
ـ فمثلا الزواج قد يكون فرضاً على المسلم إذا قدر على المهر والنفقة وسائر واجبات الزوجية وتيقن من حال نفسه انّه إذا لم يتزوج زنى.
ـ ويكون واجباً إذا قدر على ما ذكر وخاف انّه إذا لم يتزوج زنى.
ـ ويكون مندوباً إذا كان قادرا على واجبات الزوجية وكان في حال اعتدال لا يخاف أن يزني إذا لم يتزوج.
ـ ويكون محرماً إذا تيقن انّه إذا تزوج يظلم زوجته ولا يقوم بحقوق الزوجية.
ـ ويكون مكروهاً تحريماً إذا خاف ظلمها. والله أعلم(/3)
فضل شهر الله المحرم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم اما بعد
فهذا تلخيص لكتاب لطائف المعارف للشخ بن رحب رحمه الله
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم و أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل "
وأفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم و يشهد لهذا أنه صلى الله عليه و سلم قال في هذا الحديث : [ و أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ] و مراده بعد المكتوبة : و لو أحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض و بعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء
فبادر أخي في الله باغتنام الفرصة واقبل وصية نبيك الحبيب فلقد جاء أبا أمامة رضي الله عنه للنبي صلي الله عليه وسلم فقال له ]أوصني فقال له عليك بالصوم فإنه لا عدل له[
صححه ابن حجر والألباني
وكذلك أخي الحبيب أنت تفتتح عام هجري جديد فلتكن توبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
قطعت شهور العام لهوا وغفلة و لم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجباً وافيت فيه بحقه و لا صمت شهر الصوم صوما متمما
و لا في ليالي عشر ذي الحجة الذي مضى كنت قواما و لا كنت محرما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة وتبكي عليها حسرة و تندما
و تستقبل العام الجديد بتوبة لعلك أن تمحو بها ما تقدما
شهر الحرام مبارك ميمون و الصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمة لوجه إلهه في الخلد عند مليكه مخزون
و ممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر و الحسن البصري و غيرهما
قال بعضهم : إنما هو غداء و عشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت و قد كتبت في ديوان الصائمين .
وفيه يوم عظيم له فضل عظيم في الصحيحين [ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ و هذا الشهر ـ يعني رمضان ].
و في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء فقال : ما هذا من الصوم ؟ ! قالوا : هذا اليوم الذي نجى الله عز و جل موسى عليه السلام و بني إسرائيل من الغرق و غرق فيه فرعون و هذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح و موسى عليهما السلام شكرا لله عز و جل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحق بموسى و أحق بصوم هذا اليوم فأمر أصحابه بالصوم .
و في صحيح مسلم [ عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن صيام عاشوراء ؟ فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ]
وصوم يوم عاشوراء له مراتب لما رواه مسلم
[ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود و النصارى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ] قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وممن رأى صيام التاسع والعاشر الشافعي وأحمد وإسحاق وكره أبو حنيفة إفراد العاشر وحده بالصوم . والأكمل أن يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر وهو قول أحمد يرحمه الله.
شهر صفر
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا عدوى و لا هامة و لا صفر فقال أعرابي : يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فمن أعدى الأول ؟
و كثير من الجهال يتشاءم بصفر و ربما ينهى عن السفر فيه و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء و قد روي أنه : [ يوم نحس مستمر ] في حديث لا يصح بل في المسند [ عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم : دعا على الأحزاب يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر ] قال جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه الإجابة أو كما قال.
و أما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح و إنما الزمان كله خلق الله تعالى و فيه تقع أفعال بني آدم فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه و كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين أللحين ـ يعني اللسان ـ و قال : ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان(/1)
و في الجملة : فلا شؤم إلا المعاصي و الذنوب فإنها تسخط الله عز و جل فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا و الآخرة كما إنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا و الآخرة قال بعض الصالحين و قد شكي بلاء وقع في الناس فقال : ما أرى ما أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب و قال أبو حازم : كل ما يشغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو عليك مشؤم و قد قيل :
فلا كان ما يلهي عن الله أنه يضر و يؤذى إنه لمشؤم
فيا أخي في الله قد جائنا صفر
كم ذا التمادي فها قد جاءنا صفر شهر به الفوز و التوفيق و الظفر
فابدأ بما شئت من فعل تسر به يوم المعاد ففيه الخير ينتظر
توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم من قبل يبلغ فيكم حده العمر
..................................................................................
ربيع الأول
منة الله لهذا الكون في شهر ربيع الأول قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } فليس هناك منة من الله تعالى أعظم قدراً من إرساله محمد صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
و قوله تعالى : { يتلو عليهم آياته } يعني يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من آياته المتلوة و هو القرآن و هو أعظم الكتب السماوية و قد تضمن من العلوم و الحكم و المواعظ و القصص و الترغيب و الترهيب و ذكر أخبار من سبق و أخبار ما يأتي من البعث و النشور و الجنة و النار ما لم يشتمل عليه كتاب غيره حتى قال بعض العلماء لو أن هذا الكتاب وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض و لم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله و أن البشر لا قدرة لهم على تأليف ذلك فكيف إذا جاء على يدي أصدق الخلق و أبرهم و أتقاهم و قال إنه كلام الله و تحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فيه فكيف مع هذا شك و لهذا قال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } و قال : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }
فلو لم يكن لمحمد صلى الله عليه و سلم من المعجزات الدالة على صدقه غير هذا الكتاب لكفاه فكيف و له من المعجزات الأرضية و السماوية مالا يحصى .
خرج مسلم في صحيحه [ من حديث أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال : ذاك يوم ولدت فيه و أنزلت علي فيه النبوة ] أما ولادة النبي صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين فكالمجمع عليه بين العلماء و قد قاله ابن عباس و غيره
الاختلاف في شهر ولادته صلي الله عليه وسلم
و أما شهر ولادته فقد اختلف فيه : : فقيل : في شهر رمضان روي عن عبد الله بن عمرو بإسناد لا يصح و قيل : في رجب و لا يصح و قيل : في ربيع الأول و هو المشهور بين الناس حتى نقل ابن الجوزي و غيره عليه الاتفاق و لكنه قول جمهور العلماء , وكذلك اشتهر أنه ولد صلى الله عليه وسلم بعد عام الفيل, ثم اختلفوا في أي يوم كان من الشهر : فمنهم من قال : هو غير معين و إنما ولد في يوم الإثنين من ربيع من غير تعين لعدد ذلك اليوم من الشهر و الجمهور على أنه يوم معين منه.
وأما وفاته صلى الله عليه وسلم
في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه ]
أخي الحبيب اعلم أن الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون }
فهذا هو حال الخلق فكيف بك وأنت لاهي تلعب ؟
استعدي للموت يا نفس واسعي للنجاة فالحازم المستعد
قد تيقنت أنه ليس للحي خلود و لا من الموت بد
إنما أنت مستعيرة ما سوف تردين و العواري ترد
فما أهل الحياة لنا بأهل و لا دار الحياة لنا بدار
و ما أموالنا و الأهل فيها و لا أولادنا إلا عواري
و أنفسنا إلى أجل قريب سيأخذها المعير من المعار
سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته ؟ فأنشد:
و الله لو أنك توجتني بتاج كسرى ملك المشرق
و لو بأموال الورى جدت لي أموال من باد و من قد بقي
و قلت لي : لا نلتقي ساعة اخترت يا مولاي أن نلتقي(/2)
و كانت وفاته صلى الله عليه و سلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم و الناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر فهم المسلمون أن يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه و سلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحف و ظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر و توفى صلى الله عليه و سلم من ذلك اليوم
البخاري 680
فجيعة المسلمين وحيرتهم عند وفاة النبي صلي الله عليه وسلم
و لما توفي صلى الله عليه و سلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخربط و منهم من أقعد فلم يطق القيام و منهم من اعتقل لسانه فلم ينطق الكلام و منهم من أنكر موته بالكلية و قال : إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى و كان من هؤلاء عمر و بلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة و رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجى فكشف عن وجهه الثوب و أكب عليه و قبل جبهته مرارا و هو يبكي و هو يقول : وانبياه واخليلاه واصفياه و قال : إنالله و إنا إليه راجعون مات و الله رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : و الله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتب الله عليك فقدمتها ثم دخل المسجد و عمر يكلم الناس و هم مجتمعون عليه فتكلم أبو بكر و تشهد و حمد الله فأقبل الناس إليه و تركوا عمر فقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت و تلا : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الآية فاستيقن الناس كلهم بموته و كأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها البخاري1241
و قالت فاطمة عليها السلام : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه . البخاري 4462
ليبك رسول الله من كان باكي ... أفلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا
جزى الله عنا كل خير محمدا فقد كان مهديا و قد كان هاديا
و كان رسول الله روحا و رحمة و نورا و برهانا من الله باديا
و كان رسول الله بالخير آمرا و كان عن الفحشاء و السوء ناهيا
و كان رسول الله بالقسط قائما و كان لما استرعاه مولاه راعيا
و كان رسول الله يدعو إلى الهدى قلبي رسول الله لبيه داعيا
أينسى أبر الناس بالناس كلهم و أكرمهم بيتا و شعبا و واديا
أينسى رسول الله أكرم من مشى و آثاره بالمسجدين كما هيا
تكدر من بدع النبي محمد عليه السلام كل مل كان صافيا
و كنا إلى الدنيا الدنية بعده و كشفت الأطماع منا مساويا
و كم من منار كان أوضحه لنا و من علم أمسى و أصبح عافيا
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا و إن كان كاسيا
وخير خصال المرء طاعة ربه و لا خير فيمن كان الله عاصيا
وظيفة شهر رجب
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجة الوداع فقال في خطبته : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان ] و ذكر الحديث
قال الله عز و جل : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات و الأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } التوبة 36
رجب أول الأشهر الحرم وهم رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم وأفضلها ذو الحجة والله اعلم
سبب تسمية شهر رجب
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و رجب مضر ] سمي رجب رجبا لأنه كان يرجب : أي يعظم كذا قال الأصمعي و المفضل و الفراء و قيل : لأن الملائكة تترجب للتسبيح و التحميد فيه.
ما جاء في صلاة الرغائب
الأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب و باطل لا تصح و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء.
حكم الصوم في رجب
و أما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن أصحابه.
وروي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام و يقول : ما رجب ؟ إن رجبا كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك و في رواية كره أن يكون صيامه سنة.
فلا يصوم رجب إلا من كان يصوم صيام معتاد مثل الاثنين والخميس وثلاثة من كل شهر ويوم ويوم .....
هل الاعتمار في رجب له فضل؟
و أما الإعتمار في رجب فقد [ روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر في رجب فأنكرت ذلك عائشة عليه و هو يسمع فسكت ] البخاري1775,1776(/3)
شهر رجب مفتاح أشهر الخير و البركة قال أبو بكر الوراق البلخي : شهر رجب شهر للزرع و شعبان شهر السقي للزرع و رمضان شهر حصاد الزرع و عنه قال : مثل شهر رجب مثل الريح و مثل شعبان مثل الغيم و مثل رمضان مثل القطر و قال بعضهم : السنة مثل الشجرة و شهر رجب أيام توريقها و شعبان أيام تفريعها و رمضان أيام قطفها و المؤمنون قطافها جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر و بمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر.
بيض صحيفتك السوداء في رجب بصالح العمل المنجي من اللهب
شهر حرام أتي من أشهر حرم إذا دعا الله داع فيه لم يخب
طوبى لعبد زكى فيه له عمل فكف فيه عن الفحشاء و الريب
انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة و اغتنام أوقاته بالطاعات له فضيلة عظيمة
يا عبد أقبل منيبا و اغتنم رجبا فإن عفوي عمن تاب قد وجبا
في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت للتائبين فكل نحونا هربا
حطوا الركائب في أبواب رحمتنا بحسن ظن فكل نال ما طلبا
و قد نثرنا عليهم من تعطفنا نثار حسن قبول فاز من نهبا
وظائف شهر شعبان
خرج الإمام أحمد و النسائي [ من حديث أسامة بن زيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر و يفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه و إلا صامهما و لم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر و تفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك و إلا صمتهما ؟ قال : أي يومين قلت : يوم الاثنين و يوم الخميس قال : ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين و أحب أن يعرض عملي و أنا صائم قلت : و لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال : ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان و هو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز و جل فأحب أن يرفع عملي و أنا صائم ] حسنه الألباني
و في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان و ما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان ] زاد البخاري في رواية : [ كان يصوم شعبان كله ] و لمسلم في رواية : [ كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ]
والحكمة من صيام شعبان تغافل بعض الناس عنه !!
و في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد : منها : أنه يكون أخفى و إخفاء النوافل و إسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه و لهذا قيل : إنه ليس فيه رياء.
معنى آخر في صوم شعبان
و قد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة بل قد تمرن على الصيام و اعتاده و وجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام و لذته فيدخل في صيام رمضان بقوة و نشاط و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام و قراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان و ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
حال السلف في هذا الشهر
قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء
و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القراء
و كان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن.
مضى رجب و ما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلا بحرمتها أفق و احذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قسرا و يخلي الموت كرها منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم فخير ذوي الجرائم من تدارك
وأما إحياء ليلة النصف من شعبان ففيها:-
يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة و القصص و الدعاء و لا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه و هذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام و فقيههم و عالمهم و هذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.
فقم ليلة النصف الشريف مصليا فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه
فكم من فتى قد بات في النصف غافلاً وقد نسخت فيه صحيفة حتفه
فبادر بفعل الخير قبل انقضائه و حاذر هجوم الموت فيه بصرفه
و صم يومها لله و أحسن رجاءه لتظفر عند الكرب منه بلطفه
وظائف شهر رمضان المعظم
قال تعالى}شهرُ رمضانَ الذي أنزل فيه القرآنُ هدىً للناسِ وبيناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهرَ فليصمه........ { البقرة 185
شهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى , و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر و يشهد لذلك قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } و قوله : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } و قد سبق [ عن عبيد بن عمير : أن النبي صلى الله عليه و سلم بدىء بالوحي و نزول القرآن عليه في شهر رمضان ].
حال السلف مع القرآن في رمضان(/4)
كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع منهم قتادة و بعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي , وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة و غيرها كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان و كان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة و في بقية الشهر في ثلاث , وكان قتادة يختم في كل سبع دائما و في رمضان في كل ثلاث و في العشر الأواخر كل ليلة و كان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة و عن أبي حنيفة نحوه و كان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان و كان الزهري إذا دخل رمضان قال : فإنما هو تلاوة القرآن و إطعام الطعام قال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم و أقبل على تلاوة القرآن من المصحف .
أخي الحبيب أما لك من توبة في هذا الشهر العظيم ...؟ ؟ ؟
فإن لم يكن... فمتى ؟ ؟ ؟
يا من ضيع عمره في غير الطاعة يا من فرط في شهره بل في دهره و أضاعه يا من بضاعته التسويف و التفريط و بئست البضاعة يا من جعل خصمه القرآن و شهر رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه و الصور في يوم القيامة ينفخ
رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و قائم حظه من قيامه السهر كل قيام لا ينهى عن الفحشاء و المنكر لا يزيده صاحبه إلا بعدا و كل صيام لا يصان عن قول الزور و العمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا و ردا يا قوم أين آثار الصيام أين أنوار القيام.
هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن و في بقيته للعابدين مستمتع و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم و يسمع و هو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع و مع هذا فلا قلب يخشع و لا عين تدمع و لا صيام يصان عن الحرام فينفع و لا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع و تراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر و لا تسمع كم تتلى علينا آيات القرآن و قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة و كم يتوالى علينا شهر رمضان و حالنا فيه كحال أهل الشقوة لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة و لا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة و إذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة. و إذا صاموا صامت منه الألسنة و الأسماع و الأبصار أفما لنا فيهم أسوة ؟ كما بيننا و بين حال الصفا أبعد مما بيننا و بين الصفا و المروة كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و حسبنا الله .
يا نفس فاز الصالحون بالتقى و أبصروا الحق و قلبي قد عمي
يا حسنهم و الليل قد جنهم و نورهم يفوق نور الأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم فعيشهم قد طاب بالترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت دموعهم كلؤلؤ منتتظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت وخلع الغفران خير القسم
ويحك يا نفس ألا تيقظ ينفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في ثوان و هوى فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي
وبعد ذلك إذا انتهي فودعوه بعمل صالح يشهد لكم به عند الملك العلام وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام
سلام من الرحمن كل أوان علي خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتةً فما الحزن من قلبي عليك بفاني
وظائف شهر شوال
خرج مسلم [ من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ]
أكثر العلماء على : أنه لا يكره صيام ثاني يوما لفطر و قد دل عليه [ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لرجل : إذا أفطرت فصم ]صحيح
وله أن يصوم الستة من أي أيام الشهر
فمن صيام رمضان و إتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها و قد جاء ذلك مفسرا [ من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام رمضان بعشرة أشهر و صيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة ] . صححه الألباني
و في معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة : منها : أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله
و منها : أن صيام شوال و شعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة و بعدها فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل و نقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم القيامة
و منها : أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده .
و منها : أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب و أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر و هو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقوم حتى تتورم قدماه فيقال له : أتفعل هذا و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا ](/5)
- كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائما و يجعل صيامه شكرا للتوفيق للقيام .
كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها ثم للتوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر أخر و هكذا أبدا فلا يقدر العبد غلى القيام بشكر النعم .
و حقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر كما قيل
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله و إن طالت الأيام و اتصل العمر
قال أبو عمر الشيباني : قال موسى عليه السلام يوم الطور : يا رب إن أنا صليت فمن قبلك و إن أنا تصدقت فمن قبلك و إن بلغت رسالاتك فمن قبلك فكيف أشكرك ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني.
وظائف شهر ذي القعدة
ذي القعدة من الأشهر الحرم
و قيل : إن تحريم ذي القعدة كان في الجاهلية لأجل السير إلى الحج و سمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال وقد نسخ هذا الحكم وهو مذهب الجمهور.
- و تحريم المحرم لرجوع الناس فيه من الحج إلى بلادهم
- و تحريم ذي الحجة لوقوع حجهم فيه
- و تحريم رجب كان للاعتمار فيه من البلاد القريبة
و من خصائص ذي القعدة أن عمر النبي صلى الله عليه و سلم كلها كانت في ذي القعدة سوى عمرته التي قرنها بحجته مع أنه صلى الله عليه و سلم أحرم بها أيضا في ذي القعدة و فعلها في ذي الحجة مع حجته.
عُمَرُ النبي صلى الله عليه وسلم ومتى كانت
و كانت عمره صلى الله عليه و سلم أربعا : عمرة الحديبية و لم يتمها بل تحلل منها و رجع و عمرة القضاء من قابل و عمرة الجعرانة عام الفتح لما قسم غنائم حنين و قيل : إنها كانت في آخر شوال و المشهور أنها كانت في ذي القعدة و عليه الجمهور و عمرته في حجة الوداع كما دلت عليه النصوص الصحيحة و عليه جمهور العلماء أيضا.
و لذي القعدة فضيلة أخرى و هي أنه قد قيل : إنه الثلاثون يوما الذي واعد الله فيه موسى عليه السلام قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى : { و واعدنا موسى ثلاثين ليلة } قال ذو القعدة { و أتممناها بعشر } قال عشر ذي الحجة.
يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام لا في شهر حلال و لا في شهر حرام يا من هو في الطاعات إلى وراء و في المعاصي إلى قدام يا من هو في كل يوم من عمره شرا مما كان في قبله من الأيام متى تستفيق من هذا المنام متى تتوب من هذا الإجرام يا من أنذره الشيب بالموت و هو مقيم على الآثام أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن و الإسلام الموت خير لك من الحياة على هذه الحال و السلام.
يا غاديا في غفلة و رائحا إلى متى تستحسن القبائحا
و كم إلى كم لا تخاف موقفا يستنطق الله به الجوارحا
واعجبا منك و أنت مبصر كيف تجنبت الطريق الواضحا
و كيف ترضى أن تكون خاسرا يوم يفوز من يكون رابحا
وظائف شهر ذي الحجة
خرج البخاري [ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا : يا رسول الله و لا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : و لا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه و ماله لم رجع من ذلك بشيء ]
و أيضا فأيام هذا العشر تشتمل على يوم عرفة و قد روي أنه أفضل أيام الدنيا كما جاء في حديث جابر الذي ذكرناه و فيه يوم النحر و في حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر ]. صححه الألباني
وقد أقسم الله تعالى بلياليه , فقال {والفجر * وليالٍ عشر } الفجر 1,2 وهذا يدل على فضيلة لياليه أيضاً , لكن لم يثبت أن لياليه ولا شيء منها يعدل ليلة القدر
ومن فضائله أيضاً أنه من جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام
قال الله تعالى {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة}الاعراف142
- ومن فضائله أنه خاتمة الأشهر المعلومات أشهر الحج التي قال الله فيها {الحج أشهر معلومات}الحج27,28
- ومن فضائله انه الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها علي ما رزق من بهيمة الأنعام قال الله تعالى {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتون من كل فجٍ عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلوماتٍ علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام }الحج27,28
من يستحق أن يحتفل بالعيد؟
مر قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟ قال : يوم يغفر لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو مطرود بعيد كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات :
بحرمة غربتي كم ذا الصدود ألا تعطف علي ألا تجود
سرور العيد قد عم النواحي و حزني في ازدياد لا يبيد(/6)
فإن كنت اقترفت خلال سوء فعذري في الهوى أن لا أعود
فضائل يوم عرفة
فيوم عرفة له فضائل متعددة منها : أنه يوم إكمال الدين و إتمام النعمة و منها : أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب و ابن عباس فإن ابن عباس قال : نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة و يوم عرفة.
و منها : أنه روي أنه أفضل الأيام خرجه ابن حبان في صحيحه من [ حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل الأيام يوم عرفة ].
و منها : أن صيامه كفارة سنتين و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
و منها : أنه يوم مغفرة الذنوب و التجاوز عنها و العتق من النار و المباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة و إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ].
أسباب العتق من النار ومغفرة الذنوب
فمن طمع في العتق من النار و مغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التي يرجى بها العتق و المغفرة فمنها : صيام ذلك اليوم ففي صحيح مسلم [ عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله و التي بعده ].
و منها : حفظ جوارحه عن المحرمات في ذاك اليوم.
و منها : الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص و صدق فإنها أصل دين الإسلام الذي أكلمه الله تعالى في ذلك اليوم و أساسه.
هذا ونسألكم الدعاء لكل من ساهم في نشر هذا الخير نسأل الله القبول
سبحانك اللهم وبحمدك , أشهد أن لا إله إلا أنت , أستغفرك وأتوب إليك.
وصلي اللهم علي خير الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين .
المرجع
1-كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي.
مع بعض التعليقات البسيطة لبعض طلبة العلم القائمين علي التجميع .
اخوكم فى لله ابوادريس(/7)
فضائل الصحابة
الفصل الأول: تعريف وبيان.
المبحث الأول: تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: بم يعرف الصحابي؟
الفصل الثاني: طبقات الصحابة وعددهم.
الفصل الثالث: الثناء على الصحابة في القرآن الكريم.
الفصل الرابع: الثناء على الصحابة في السنة النبوية.
الفصل الخامس: الثناء على الصحابة في أقوال السلف والعلماء.
الفصل السادس: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم.
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين.
المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر.
المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد.
المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان.
الفصل السابع: فضل العشرة المبشرين بالجنة.
الفصل الثامن: فضل الصحابة من أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً.
الفصل التاسع: عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: وجوب محبتهم رضي الله عنهم.
المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم.
المبحث الثالث: الشهادة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم.
المبحث الرابع: إثبات عدالتهم.
المبحث الخامس: ترتيب الصحابة في الفضل والإمامة.
الفصل العاشر: تحريم سب الصحابة.
المبحث الأول: تحريم سبهم بنص القرآن.
المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سبهم.
المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة.
المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته.
الفصل الحادي عشر: المنحرفون في هذا الباب.
المبحث الأول: الشيعة والرافضة.
المبحث الثاني: الخوارج.
المبحث الثالث: النواصب.
الفصل الأول: تعريف وبيان:
المبحث الأول: تعريف الصحابة لغة واصطلاحاً:
تعريف الصحابة لغة:
قال الفيروز آبادي: "استصحبه: أي دعاه إلى الصحبة ولازمه"[1].
وقال الجوهري: "والصحابة بالفتح: الأصحاب، وهي في الأصل مصدر، وأصْحَبْتُهُ الشيء: جعلته له صاحباً، واستصحبته الكتاب وغيره، وكل شيء لاءم شيئاً فقد استصحبه"[2].
وقال أبو بكر بن الطيب: "لا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً، كما أن القول (مكلِّم ومخاطب وضارب) مشتق من المكالمة والمخاطبة والضرب وجار على كل من وقع منه ذلك قليلاً كان أو كثيراً… يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار"[3].
تعريف الصحابي في الاصطلاح:
أما تعريف الصحابي اصطلاحاً فقد اختلف في ذلك:
فعن عبد القدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر فقال: "ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه"[4].
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"[5].
وقال علي بن المديني: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"[6].
وقال سعيد بن المسيب: "الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين"[7].
وتعريف سعيد بن المسيب هذا تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "والعمل على خلاف هذا القول؛ لأنهم اتفقوا على عد جمع جم من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع"[8].
والتعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر بقوله: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام".
ثم قال شارحا التعريف: "فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى، ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى وقولنا: (به) يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، ويدخل في قولنا: (مؤمناً به) كل مكلف من الجن والإنس… وخرج بقولنا: (مات على الإسلام) من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله… ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا وهذا هو الصحيح المعتمد"[9].
المبحث الثاني: بم يعرف الصحابي؟
لقد وضع العلماء رحمهم الله طرقاً وضوابط لمعرفة كون الشخص صحابياً وتلك الطرق أو الضوابط هي:(/1)
1- أن تثبت صحبته بطريق التواتر المقطوع به لكثرة ناقليه أن فلاناً من الصحابة وذلك كأبي بكر وعمر وبقية العشرة وناس آخرين من الصحابة رضي الله عنهم.
2- أن تثبت الصحبة للشخص عن طريق الاستفاضة والشهرة.
3- أن يروى عن أحد من الصحابة أن فلاناً له صحبة وكذا عن آحاد التابعين بناء على قبول التزكية من واحد وهو الراجح.
4- أن تثبت الصحبة بإخباره عن نفسه إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة بقوله: أنا صحابي[10].
وقد ذكر الحافظ ابن حجر ضابطاً يستفاد منه معرفة جمع كثير يكتفى فيهم بوصف يدل على أنهم صحابة وهذا الضابط مأخوذ من أمور ثلاثة:
أحدها: أنهم كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصحابة، فمن تتبع الأخبار الواردة في حروب الردة والفتوح وجد من ذلك الشيء الكثير.
الثاني: قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له. وهذا أيضاً يؤخذ منه شيء كثير.
الثالث: لم يبق بمكة والطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد حجة الوداع، فمن كان في ذلك الوقت موجوداً اندرج فيهم لحصول رؤيته بالنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرهم هو صلى الله عليه وسلم[11].
[1] القاموس المحيط (1/95).
[2] الصحاح (1/161) باختصار، وانظر لسان العرب لابن منظور (7/286) والمعجم الوسيط (1/507)، وانظر أيضاً التعريفات للجرجاني (173).
[3] انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (69-70).
[4] انظر: الكفاية (69)، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث (77)، ومقدمة ابن الصلاح (146).
[5] صحيح البخاري مع الفتح (7/3).
[6] انظر: فتح الباري (7/5).
[7] انظر: الكفاية (68-69) وانظر أيضاً أسد الغابة (1/18).
[8] فتح الباري (7/4).
[9] الإصابة (1/7-9).
[10] انظر الكفاية للخطيب البغدادي (70) ومقدمة ابن الصلاح (146) والتقييد والإيضاح (285).
[11] الإصابة (1/10).
الفصل الثاني: طبقات الصحابة وعددهم:
إن الصحابة رضي الله عنهم يتفاوتون في مراتبهم من حيث السبق إلى الإسلام أو الهجرة وشهود المشاهد الفاضلة وقد ذكر العلماء أنهم على اثنتي عشرة طبقة:
الطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة حيث بايعه جماعة فيها على الإسلام.
الطبقة الثالثة: المهاجرة إلى الحبشة.
الطبقة الرابعة: الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة الأولى يقال: فلان عقبي وفلان عقبي.
الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
الطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء وهو يبني المسجد.
الطبقة السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))[1].
الطبقة الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
الطبقة العاشرة: المهاجرون بين الحديبية والفتح، ومن هؤلاء خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وأبو هريرة وغيرهم، وفيهم كثرة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر قصده خلق كثير من كل ناحية من أجل الهجرة.
الطبقة الحادية عشرة: هم الذين أسلموا يوم الفتح وهم جماعة من قريش.
الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة، ومن هؤلاء السائب بن يزيد وعبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير فإنهما قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهما، ومن هؤلاء أيضاً: أبو الطفيل عامر بن واثلة وأبو جحيفة وهب بن عبد الله فإنهما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف وعند زمزم[2].
قال ابن الصلاح: "وإذا نظرنا إلى تفاوت الصحابة في سوابقهم ومراتبهم كانوا بضع عشرة طبقة"[3]، ومن العلماء من زاد على ذلك.
وأما محمد بن سعد فقد جعلهم خمس طبقات:
الأولى: البدريون.
الثانية: من أسلم قديماً ممن هاجر عامتهم إلى الحبشة وشهدوا أحداً فما بعدها.
الثالثة: من شهد الخندق فما بعدها.
الرابعة: مسلمة الفتح فما بعدها.
الخامسة: الصبيان والأطفال فمن لم يغز سواء حفظ عنه، وهم الأكثر، أم لا[4].
أما عددهم رضي الله عنهم:
فليس هناك دليل قاطع على ضبط أفراد الصحابة بعدد معين، وما يذكر من ذلك فإنما هو تبيان لأعداد من الصحابة كانوا في مشهد مخصوص، أو أن ذلك كان باعتبار وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، أو كونهم في بلد معين يجمعهم.
ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن الصلاح في مقدمته عن أبي زرعة الرازي حيث سئل عن عدة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن يضبط هذا؟! شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفاً، وشهد معه تبوك سبعون ألفاً"[5].(/2)
وفي رواية أخرى عنه قال: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة وكل قد روى عنه سماعاً أو رؤية"[6].
وقال ابن كثير: "وأما جملة الصحابة فقد اختلف الناس في عدتهم، فنقل عن أبي زرعة أنه قال: يبلغون مائة ألف وعشرين ألفاً"[7].
وقال ابن الأثير: "وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… كثيرون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألفاً سوى الأتباع والنساء، وجاء إليه هوازن مسلمين فاستنقذوه حريمهم وأولادهم، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً: وكل من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلهم لهم صحبة وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان، وكذلك حجة الوداع وكلهم له صحبة"[8].
ومما تقدم يتضح أن ضبط الصحابة رضي الله عنهم في عدد معين غير ممكن وأن كل من ذكر شيئاً من هذه الأعداد فإنما حكاه على قدر تتبعه ومبلغ علمه وأشار بذلك إلى وقت خاص وحال، فإذاً لا تضاد بين كلامهم ولا تعارض[9].
[1] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: فضل من شهد بدراً (3983) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم (2494) من حديث علي بن أبي طالب.
[2] الباعث الحثيث لأحمد شاكر (2/504) وأحكام القرآن لابن العربي (2/1002) والعواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (1/412).
[3] مقدمة ابن الصلاح (197).
[4] انظر الجزء الثالث والرابع من كتابه الطبقات فإنه خص هذين الجزئين بتراجم الصحابة.
[5] مقدمة ابن الصلاح (148).
[6] انظر: التقييد والإيضاح (289).
[7] البداية والنهاية (5/397).
[8] أسد الغابة (1/19).
[9] انظر: صحابة رسول الله للكبيسي (119).
الفصل الثالث: الثناء على الصحابة في القرآن الكريم:
أهل السنة والجماعة يثبتون فضل الصحابة رضي الله عنهم الذي نطق به القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم حميد، كما يثبتون جميع ما صح في فضلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا الفضل على وجه العموم أو على وجه الخصوص.
ولقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز على سبيل الجملة في آيات كثيرة ومواضع شتى منها:
1- قال الله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
في هذه الآية الكريمة وجه سبحانه فيها الخطاب إلى جميع الأمة المحمدية ومضمونه أنه سبحانه جعلهم خيار الأمم ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، وأول الداخلين في هذا الخطاب إنما هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله القرطبي: "المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلاً. قال هذا حديث حسن صحيح[1] وفي التنزيل: {قال أوسطهم} أي أعدلهم وخيرهم… ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم وقوله تعالى: {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} أي: في المحشر للأنبياء على أممهم"[2].
2- قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
قال ابن الجوزي: "وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل بدر.
والثاني: أنهم المهاجرون.
والثالث: جميع الصحابة.
الرابع: جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم نُقِلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس"[3].
وقال الزجاج: "وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر أمته"[4].
وقال السفاريني: "{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة، لكن الخلاف في التفاسير مشهور ورجح كثير عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم"[5].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: (خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام)[6].
وعن السدي أنه قال: "{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا، ولكن قال {كُنتُمْ} في خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"[7].(/3)
3- قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان رضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم… وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أبي بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أُبي: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]... فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك"[8].
4- قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:117].
قال أبو بكر الجصاص: "وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار، وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم؛ لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم، وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم" [9].
5- قال الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59].
قال ابن جرير الطبري: "الذين اصطفاهم، يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به الجاحدين بنبوة نبيّه"، ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: أصحاب محمد اصطفاهم لنبيه"[10].
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: "{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفة من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ f جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ g وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ h الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32- 35].
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))[11]. ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم المصطفَون من المصطفَين من عباد الله"[12].
6- وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].(/4)
قال ابن كثير: " فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"[13].
[1] أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب: ومن سورة البقرة (2961) والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2362).
[2] الجامع لأحكام القرآن (2/153-154).
[3] زاد المسير لابن الجوزي (2/16).
[4] معاني القرآن وإعرابه (1/456).
[5] لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/377).
[6] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب كنتم خير أمة أخرجت للناس (4557).
[7] انظر: جامع البيان (4/43).
[8] تفسير القرىن العظيم (2/367).
[9] أحكام القرآن للجصاص (4/371).
[10] جامع البيان (20/2).
[11] أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2652)، ومسلم في المناقب باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3651).
[12] منهاج السنة (1/156).
[13] تفسير القرآن العظيم (6/365).
الفصل الرابع: الثناء على الصحابة في السنة النبوية:
1- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: ((ما زلتم ها هنا؟!)) قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معكم العشاء قال: ((أحسنتم)) أو ((أصبتم)) قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون))[1].
قال النووي: "ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)) أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً، وقد وقع كل ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون)) معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم"[2].
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان يغزو فئام[3] من الناس فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم))[4].
قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم"[5].
3- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: ((قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته))[6].
قال النووي: "اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه"[7].
4- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه))[8].
قال الخطابي: "النصيف بمعنى النصف، كما قالوا: الثمين بمعنى الثُمن. والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم"[9].
5- عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كنديان[10] مذحجيان[11]))، حتى أتياه فإذا رجلان من مذحج قال: فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله، أرأيت من رآك وآمن بك واتبعك وصدقك ماذا له؟ قال: ((طوبى له)) قال: فمسح على يده وانصرف، ثم أتاه الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله، أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك ماذا له؟ قال: ((طوبى له ثم طوبى له))[12].
قال ابن كثير: "وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث ابن سمي وأبي إسحاق السبيعي وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار غصن منها"[13].(/5)
والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة ومشتهرة بل متواترة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة"[14].
[1] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم (2531).
[2] شرح النووي على صحيح مسلم (16/83).
[3] الفئام الجماعة الكثيرة (النهاية في غريب الحديث 3/406).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (2897)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: فضل الصحابة رضي الله عنه ثم الذين (2532).
[5] شرح النووي على مسلم (16/83).
[6] أخرجه البخاري في الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم (2533).
[7] شرح النووي على صحيح مسلم (16/84).
[8] أخرجه البخاري في المناقب باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت (3673)، ومسلم في فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (2540).
[9] معالم السنن (4/284).
[10] كندة: بالكسر مخلاف كندة باليمن اسم القبيلة (معجم البلدان: 4/482).
[11] مذحج: قبيلة من قبائل العرب وهم: ولد أود بن زيد بن يشجب مرة. (معجم البلدان:5/88).
[12] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (17388) والطبراني في الكبير (22/742) والبزار كشف الأستار (2769) والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/18) وقال: إسناده حسن.
[13] تفسير القرآن العظيم (4/89).
[14] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/430).
الفصل الخامس: الثناء على الصحابة في أقوال السلف والعلماء:
1- قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها)[1].
2- عن أبي أراكة قال: صلّى عليٌ الغداة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كأن عليه كآبة، ثم قال: (لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أرى أحداً يشبههم، والله إن كانوا ليصبحوا شعثاً غبراً صفراً، بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين).
وقال أيضاً: (وأولئك مصابيح الهدى يكشف الله بهم كل فتنة مظلمة، سيدخلهم الله في رحمة منه، ليس أولئك بالمذاييع البُذُر[2] ولا الجفاة المرائين)[3].
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم)[4].
4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ) [5].(/6)
5- عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أريد الفتن، فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرأ {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم، قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك، قال أبو صخر: لكأني لم أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب القرظي[6].
6- عن قتادة بن دعامة السدوسي قال: "أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه"[7].
7- عن أيوب السخيتاني قال: "من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق"[8].
8- وقال الإمام مالك بن أنس: "من يبغض أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين"، ثم قرأ قول الله تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر:6- 10].
وذُكِر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ثم قال: "من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقد أصابته الآية"[9].
9- وقال أبو جعفر الطحاوي: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"[10].
10- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]، وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))[11]... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون..."[12].
[1] مروج الذهب ومعادن الجوهر (3/75) للمسعودي.
[2] المذاييع: هو جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه وقيل: أراد الذين يشيعون الفواحش. (القاموس المحيط ـ ذاع)، والبُذُر: جمع بَذِر وهو كثير الكلام (القاموس ـ بذر).
[3] انظر: حلية الأولياء (1/76-77).
[4] حلية الأولياء (1/305-306).
[5] المسند (1/379). وانظر: شرح السنة للبغوي (1/214-215).
[6] الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/272) للسيوطي.
[7] رواه الإمام أحمد في المسند (3/134).
[8] انظر: البداية والنهاية (8/13) لابن كثير.
[9] انظر: شرح السنة للبغوي (1/229).
[10] العقيدة الطحاوية مع شرحها (528).
[11] أخرجه البخاري في المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت..(3673) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم (2533).
[12] العقيدة الواسطية مع شرحها (لمحمد خليل هراس) (142-151).
الفصل السادس: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم:
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين:
السبق هو التقدم إما في الصفة أو في الزمان أو في المكان.
فالتقدم في الصفة: يكون لمن سبق إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر واتخذ ما ينفق قربات عند الله عز وجل.
والتقدم في الزمن: يكون لمن تقدم في أوان قبل أوان.(/7)
والتقدم في المكان: يكون لمن تبوأ دار النصرة واتخذها بدلاً عن موضع الهجرة، وأفضل هذه الوجوه هو السبق في الصفات[1].
قال الراغب الأصبهاني: "أصل السبق التقدم في السير نحو: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} [النازعات:4]، ويستعار السبق لإحراز الفضل والتبريز وعلى ذلك: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [المعارج:10] أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة نحو قوله: {يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ} [الأنبياء:89]"[2].
ومما يدل على أن السبق بالصفات هو الأفضل قوله عليه الصلاة والسلام: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)) [3].
وقد اختلف العلماء في المراد بالسابقين الأولين على أقوال ستة:
الأول: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة.
الثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وهي الحديبية. قاله الشعبي.
الثالث: أنهم أهل بدر. قاله عطاء بن أبي رباح.
الرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته.
الخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى قاله الماوردي.
السادس: إنهم الذين أسلموا قبل الهجرة[4].
والقول الراجح من هذه الأقوال ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال بعد ذكره لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] قال: "وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة، ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه، كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم، والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك، فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئاً فشيئاً وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه، وله بذلك فضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب، وليس مثل هذا ما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين، إذ ليس بعض هذه الشرائع أولى بمن يجعله خيراً من بعض، ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية، فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص، وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان، لأنه قد كان غائباً قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته"[5].
المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر:
أما الآيات التي أثنى الله عز وجل فيها على أهل بدر فمنها:
1- قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبْصَارِ} [آل عمران:13].
قال ابن جرير الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: قل ـ يا محمد ـ للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك: قد كان لكم آية، يعني: علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون، والفئة الجماعة من الناس التقتا للحرب وإحدى الفئتين: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهدوا وقعة بدر والأخرى مشركوا قريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} هم مشركو قريش"[6].(/8)
2- وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ J وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62، 63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما أيده في حياته بالصحابة"[7].
وقال القرطبي: "{هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: قواك بنصره يريد يوم بدر، {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار"[8].
3- مدح الله عز وجل أهل بدر بصفة الإيمان في غير ما موضع كما في قوله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} [الأنفال:17]، وقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} [آل عمران:123]، وقوله تعالى: {فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} [الأنفال:12].
أما ثبوت فضل أهل بدر والثناء عليهم في السنة النبوية فكثير من ذلك:
1- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس - قال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ[9] فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين))، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، وأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك؟)) قال حاطب: والله، ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله به عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً)) فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فأضرب عنقه فقال: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفر لكم)) فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم[10].
قال الحافظ ابن حجر: "ووقع الخبر بألفاظ منها: ((فقد غفرت لكم))، ومنها: ((فقد وجبت لكم الجنة))، ومنها: ((لعل الله اطلع...))، لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع"[11].
2- وعن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر ـ قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: ((من أفضل المسلمين)) ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"[12].
3- عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع فقال: ((ويحك أوَهبلت؟! أوَجنة هي؟! إنها جنات كثيرة وإنه في جنة الفردوس))[13].
قال الحافظ ابن كثير: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا لم يكن في ساحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب[14] وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوسَ"[15].
4- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدعاء الذي دعا به يوم بدر: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))[16].
المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد:
جاء الثناء على أهل أحد في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها:
1- قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121].
هذه الآية تضمنت الثناء البالغ على أهل أحد بشهادة الله تعالى لهم بحقيقة الإيمان الذي حل واستقر في قلوبهم الطيبة، وفي هذه الشهادة فضيلة أيما فضيلة لمن حضر من الصحابة موقعة أحد[17].
2- وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
3- وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:172].(/9)
قال ابن جرير الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله وللرسول من بعدما أصابهم الجراح والكِلام، وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد"[18].
ما جاء في فضل ومنزلة أهل أحد في السنة النبوية:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم))، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169][19].
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جيء بأبي مسجّى وقد مثل به، قال: فأردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي، ثم أردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي، فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: ((من هذه؟)) فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو فقال: ((ولِمَ تَبكي؟ فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)) وفي رواية أنه قال: ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه))[20].
قال ابن حجر: "(أو) في قوله، ((تبكين أو لا تبكين)) للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه"[21].
المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان:
لقد ورد في فضل أصحاب بيعة الرضوان نصوص محكمة كثيرة من القرآن والسنة النبوية من ذلك:
1- قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه الرحمة، وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب"[22].
2- قال تعالى: {لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح:5].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح:1] قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئاً مرئياً فما لنا؟ فأنزل الله: {لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[23].
3- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح:10].
قال ابن جرير رحمه الله: "وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ} يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول: فسيعطيه ثواباً عظيماً، وذلك أن يدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الإيمان"[24].
4- قال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً R وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح:18، 19].(/10)
قال أبو بكر الجصاص: "فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية، وصدق بصائرهم، فهم قوم بأعيانهم... فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة، أولياء الله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان، وقد أكد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني: الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله: {إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء:35]"[25].
ومما ورد في فضل أهل بيعة الرضوان في السنة المطهرة:
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ((خير أهل الأرض)) وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة[26].
قال الحافظ ابن حجر: "هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما"[27].
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذي بايعوا تحتها)) قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]))[28].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)) قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً... وإنما قال: ((إن شاء الله)) للتبرك لا للشك"[29].
3- عن جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية))[30].
4- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يصعد الثنية، ثنية المراد، فإنه يُحَط عنه ما حُطّ عن بني إسرائيل)) قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)) فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له[31].
[1] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/1002) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/237).
[2] المفردات (228).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب فرض الجمعة (876)، ومسلم في كتاب الجمعة باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] انظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (3/490-491).
[5] منهاج السنة النبوية (1/154-155)، وانظر: شرح الطحاوية (ص 530).
[6] جامع البيان (3/193-194).
[7] منهاج السنة (1/156).
[8] الجامع لأحكام القرآن (8/42).
[9] روضة خافي: موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة.
[10] أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب الجاسوس (3007) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر (2494).
[11] فتح الباري (7/305-306).
[12] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: شهود الملائكة بدراً (3992)، وابن ماجة في المقدمة باب فضل أهل بدر (160).
[13] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3982).
[14] هو الذي لا يعلم راميه أو لا يعرف من أين أتى أو جاء دون قصد راميه.
[15] البداية والنهاية (3/361).
[16] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763).
[17] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (1/183).
[18] جامع البيان (4/176).
[19] أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب: في فضل الشهادة (2520)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (2384)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2199) (2/479).
[20] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الدخول على الميت بعد الموت (1244)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471).
[21] فتح الباري (3/116).
[22] تفسير القرآن العظيم (6/330)، وانظر تفسير البغوي مع الخازن (6/158)، وفتح القدير (5/45).
[23] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الحديبية (4172).
[24] جامع البيان (26/76).
[25] أحكام القرآن (5/273).
[26] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: غزوة الحديبية (4155)، ومسلم في كتاب الإمارة باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش (4155).
[27] فتح الباري (7/507).
[28] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أصحاب الشجرة وأهل بيعة الرضوان (2496).(/11)
[29] شرح النووي لصحيح مسلم (16/85).
[30] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم (2495).
[31] أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2780).
الفصل السابع: فضل العشرة المبشرين بالجنة:
1- فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
أ- قال الله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:41].
قال ابن جرير الطبري: "وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه؛ لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار. وقوله: {إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ} يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في الغار، والغار: النقب العظيم يكون في الجبل، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} يقول: إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ} وذلك أنه خاف من الطلب"[1].
وقال أبو بكر ابن العربي: "فيها عدة فضائل مختصة لأبي بكر، لم تكن لغيره، منها قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فوصف الصحبة في كتابه متلواً إلى يوم القيامة، ومنها قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في الغار: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)) وهذه مرتبة عظمى وفضيلة شماء لم يكن لبشر أن يخبر عن الله سبحانه أنه ثالث اثنين أحدهما أبو بكر، كما أنه قال مخبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثاني اثنين"[2].
ب- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: ((إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله)): قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خُيّر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر))[3].
قال النووي: "قال العلماء: معناه أكثرهم جوداً وسماحة لنا بنفسه وماله، وليس هو المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة؛ لأنه أذىً مبطل للثواب ولأن المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك وفي غيره"[4].
ج- عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة))، فقلت: من الرجال؟ قال: ((أبوها))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب))، فعد رجالاً[5].
هذا الحديث فيه تصريح بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وفيه دلالة بينة لأهل السنة في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين[6].
2- فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك))، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار[7].
قال الحافظ ابن حجر: "وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر"[8].
ب- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علَيّ وعليهم قُمُص، فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علَيّ عمر وعليه قميص اجتره)) قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: ((الدين))[9].
ج- وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً آخر))[10].
قال الحافظ ابن حجر: "فيه فضيلة عظيمة لعمر، تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه، لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة؛ إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته"[11].
3- فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه:
أ- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عنهما قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم[12].(/12)
ب- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة))، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة))، فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: ((ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه))، فإذا عثمان بن عفان[13].
ج- عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه - وقال محمد - ولا أقول ذلك في يوم واحد، فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتش[14] له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) [15].
4- فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أ- عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)) قال: فبات الناس يدوكون[16] ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال: ((أنفذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير ذلك من حمر النعم))[17].
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في قوله: ((يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)): "فيه فضيلة عظيمة لعلي بن أبي طالب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك"[18].
ب- عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) قال سعيد بن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعداً فلقيت سعداً فحدثته بما حدثني عامر فقال: أنا سمعته فقلت: أنت سمعته؟ فوضع أصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا فاستكتا[19].
قال النووي: "فيه إثبات فضيلة لعلي ولا تعارض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله، وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده"[20].
ج- عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: ((أنت مني وأنا منك))[21].
5- فضائل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه:
أ- عن الزبير رضي الله عنه قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فأقعد تحته طلحة فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة، قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوجب طلحة))[22].
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أوجب طلحة)) أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم، فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده[23].
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم[24].
ج- ومن مناقبه الرفيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب ذكر طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ"[25].
6- فضائل الزبير بن العوام رضي الله عنه:
أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبي حوارياً، وإن حواريّ الزبير بن العوم))[26].
ومعنى قوله عليه السلام: ((وحواري الزبير)) أي: خاصتي من أصحابي وناصري، ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصائه وأنصاره، وأصله من التحوير: التبييض[27].(/13)
ب- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه، فعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء، فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟)) فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: ((فداك أبي وأمي))[28].
ج- عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:172] قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: ((من يذهب في إثرهم؟)) فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير[29].
7- فضائل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
أ- عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط[30] فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ أخذت أهريق على يديه من الإداوة، وغسل يديه ثلاث مرات ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كمّا جبته، فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة، وغسل ذراعيه إلى المرفقين، ثم توضأ على خفيه ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدّموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة، فلما سلّّم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: ((أحسنتم)) أو قال: ((أصبتم)) يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها[31].
ب- وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة...))[32].
8- فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
أ- عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد[33].
ب- عن عائشة رضي الله عنه عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ((ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة)) قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: ((من هذا؟)) قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله: ((ما جاء بك؟)) قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام[34].
ج- عن سعد رضي الله عنه قال: إني لأول العرب رمى في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط...[35].
وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة[36].
9- فضائل أبي عبيد بن الجراح رضي الله عنه:
أ- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا ـ أيتها الأمة ـ أبو عبيدة بن الجراح))[37].
الأمين هو الثقة المرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيداً في ذلك، لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك[38].
ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم، فاختلفوا، فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ـ وكان عمر يكره خلافه نعم ـ نفِرّ من قدر الله إلى قدر الله[39].
قال الحافظ ابن حجر: "وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر"[40].
ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح))[41].
10- فضائل سعيد بن زيد رضي الله عنه:
أ- عن قيس بن حازم قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر، ولو أن أحداً أرفض[42] للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض[43].(/14)
ب- ومن مناقبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة في حديث العشرة المتقدم.
ج- ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من الشهداء في حديث: ((اثبت حراء)).
[1] جامع البيان (10/136).
[2] أحكام القرآن (2/951).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب: الخوخة والممر في المسجد (466)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2382).
[4] شرح النووي على صحيح مسلم (15/150)، وانظر: فتح الباري (1/559).
[5] أخرجه البخاري في المناقب باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت (3662)، ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر (2384).
[6] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/153).
[7] أخرجه البخاري في كاب المناقب باب: مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي (3679).
[8] فتح الباري (7/75).
[9] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي (3691).
[10] أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب: صفة إبليس وجنوده (3294)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: من فضائل عمر رضي الله عنه (2397).
[11] فتح الباري (7/47).
[12] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: مناقب عثمان بن عفان (3697).
[13] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3695).
[14] تهتش: يقال: هش لهذا الأمر يهش هشاشة إذا فرج به واستبشر وارتاح له وخف.
[15] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه (2401).
[16] يدوكون: أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه.
[17] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة خيبر (4210)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2406).
[18] تيسير العزيز الحميد (107).
[19] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل علي بن أبي طالب (2404).
[20] شرح النووي على صحيح مسلم (65/174).
[21] أخرجه البخاري في كتاب الصلح باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان (2501)، والترمذي في المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب (3649).
[22] أخرجه الترمذي في كتاب الجهاد باب ما جاء في الدرع (1692)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (1383) (2/138).
[23] انظر: تحفة الأحوذي (5/341).
[24] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما (2417).
[25] أخرجه البخاري في المناقب باب ذكر طلحة بن عبيد الله.
[26] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في كتاب المناقب باب مناقب الزبير بن العوام (3719)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما (2415).
[27] النهاية لابن الأثير (1/457-458).
[28] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: مناقب الزبير بن العوم (3720).
[29] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: الذين استجابوا لله والرسول (4077).
[30] الغائط: هو المكان المنخفض من الأرض.
[31] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام (274).
[32] أخرجه الترمذي في المناقب باب مناقب عبد الرحمن بن عوف (3747).
[33] أخرجه البخاري في المناقب باب: مناقب سعد بن أبي وقاص (3725)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: في فضل سعد (2412).
[34] أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله (2885)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: في فضل سعد (2410).
[35] أخرجه البخاري في المناقب باب مناقب سعد (3728).
[36] انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/591)، وفتح الباري (7/84).
[37] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عنه (3744)، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: فضائل أبي عبيدة بن الجراح (2419).
[38] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/191)، وفتح الباري (7/93).
[39] أخرجه البخاري في الطب باب ما يذكر في الطاعون (5729) بتمامه؛ ومسلم في كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219).
[40] انظر: الإصابة (2/244).
[41] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (9147)، والترمذي في المناقب باب مناقب معاذ بن جبل و... (3795) وقال: حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل.
[42] أي: زال من مكانه.
[43] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه (3862).
الفصل الثامن: فضل الصحابة من أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً:
المراد بأهل البيت لغة وشرعاً:
الأهل لغة:
قال الخليل بن أحمد: "أهل الرجل زوجه والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الإسلام من يدين به"[1].(/15)
وقال الراغب الأصفهاني: "أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم نسب، وتعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً إذا قيل أهل البيت لقوله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33]"[2].
قال ابن منظور: "وأهل المذهب: من يدين به وأهل الإسلام من يدين به وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره أعني علياً عليه السلام، وقيل: نساء النبي صلى الله عليه وسلم... إلى أن قال: والتأهل: التزوج، والآهل الذي له زوجة وعيال، والعزب الذي لا زوجة له... وآل الرجل أهله وآل الله ورسوله أولياؤه"[3].
وأما شرعاً:
فقال القرطبي: "والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم، وإنما قال: {وَيُطَهّرَكُمْ} لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام"[4].
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ها هنا لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً؛ إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح... ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]"[5].
ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً:
1- قال تعالى: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
قال القرطبي: "شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات"[6].
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع"[7].
2- قال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28، 29].
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن: الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة[8].
3- قال تعالى: {يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في بيان معنى الآية: ({يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء} يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي)[9].
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما بعد: ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي))[10].
[1] انظر: مقاييس اللغة (1/150).
[2] المفردات في غريب القرآن (ص 29).
[3] لسان العرب (11/29-30).
[4] الجامع لأحكام القرآن (14/183).
[5] تفسير القرآن العظيم (5/452-458).
[6] الجامع لأحكام القرآن (14/123).
[7] تفسير القرآن العظيم (5/425).
[8] تفسير القرآن العظيم (5/447).
[9] انظر:تفسير البغوي على حاشية الخازن (5/212).
[10] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: فضائل علي بن أبي طالب (2408).(/16)
الفصل التاسع: عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
المبحث الأول: وجوب محبتهم رضي الله عنهم:
من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم، لما شرفهم الله به من صحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام والهجرة في سبيله، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة على هذا المعتقد في كثير من الآيات والأحاديث منها:
1- قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روي ذلك عن مالك وغيره قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}[1].
2- عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه))[2].
3- عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار))[3].
4- عن عدي بن ثابت قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله))[4].
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر))[5].
المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم:
من حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على كل من جاء بعدهم من عباد الله المؤمنين أن يدعو لهم ويستغفر لهم ويترحم عليهم، وقد دل على هذا كم كبير من نصوص الوحيين منها:
1- قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ}.
2- عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي، أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم[6].
قال النووي: "قولها: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا، وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ}"[7].
3- عن قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال بعد قراءته لقوله تعالى: {َالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ}: "إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسبهم"[8].
المبحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم:
من عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون لمن شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فهناك أشخاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة، وهناك آخرون أخبر ببعض النعيم المعد لهم في الجنة، والكل يشهد له أهل السنة والجماعة بالجنة تصديقاً منهم لخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن عشرة من المهاجرين بأنهم من أهل الجنة وسماهم بأعيانهم، وهؤلاء العشرة هم المذكورون في حديث سعيد بن زيد.
وتبشير هؤلاء لا ينافي تبشير غيرهم، فلقد جاء تبشير عدد من الصحابة في غير ما حديث، ومن أمثلة أولئك:
1- بلال بن رباح رضي الله عنه:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال))[9].
2- حارثة بن سراقة رضي الله عنه:
عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: ((ويحك أوَهبلتِ؟! أَوَجنة واحدة؟ إنها جنات كثيرة وإنه في جنة الفردوس))[10].
المبحث الرابع: إثبات عدالتهم رضي الله عنه:(/17)
تعريف العدالة لغة واصطلاحاً:
العدالة لغة: قال ابن منظور: "رجل عدل بين العدل والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل"[11].
وقال الفيروز آبادي: "العدل ضد الجور وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدُولة والمِعدلة والمعدَلة"[12].
العدالة اصطلاحاً: أما تعريف العدالة في الاصطلاح فقد تنوعت فيها عبارات العلماء والمحدثين والأصوليين، وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد، وهو: أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، ولا تتحقق إلا بالإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الفسق.
دلالة القرآن على لعدالة الصحابة:
1- قوله تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أن وسطاً بمعنى (عدولاً خياراً)[13] ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة.
2- قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
3- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
4- قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].
5- قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].
قال القرطبي: "فالصحابة كلهم عدول أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم، ومنهم من فرّق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث، وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله: {مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم إذ كانت تلك المرور مبنية على الاجتهاد"[14].
أما دلالة السنة على تعديلهم رضي الله عنه:
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب))[15].
قال ابن حبان: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال: ((ألا ليبلغ فلان منكم الغائب))، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً"[16].
وقد مرت الآيات والأحاديث الدالة على تعديلهم في الفصلين الثالث والرابع فيرجع إليها.
المبحث الخامس: ترتيب الصحابة في الفضل والإمامة:
تعريف الإمامة لغة:
قال ابن منظور: "والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين... والجمع أئمة... وإمام كل شيء قيّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم... وأممت القوم في الصلاة إمامة وائتم به أي: اقتدى به، وإمام الغلام في المكتب ما يتعلم كل يوم. ويقال فلان إمام القوم معناه هو المتقدم لهم، ويكون الإمام رئيساً كقولك: إمام المسلمين"[17].
تعريف الإمامة اصطلاحا:(/18)
عرفها العلماء بتعريفات مختلفة من حيث اللفظ، متحدة في المعنى، ومضمون تعريفاتهم: أنها سياسة الإمام التي يجب أن تكون وفق الشريعة الإسلامية الغراء التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعيداً عن الحكم بالهوى والشهوة في كل حال ولا بد أن يكون حكمه بالشرع في كل الأمور الدينية والدنيوية، حتى يصدق عليه أنه نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالقيام بشرع الله الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة، ولفظ الإمام والخليفة والأمير ألفاظ الحديث النبوي[18].
عقيدة أهل السنة في ذلك:
وعقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة كترتيبهم في الفضل، فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين، فأهل الحق يعتقدون اعتقاداً جازماً لا مرية فيه ولا شك أن أولى الناس بالإمامة والأحق بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى عباد السماك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون[19]. قال أبو عمر: "قد روى عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا، وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية لمكان صحبته"[20].
[1] الجامع لأحكام القرآن (18/32).
[2] أخرجه الترمذي في كتاب المناقب باب: فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3862) والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي برقم (808) وقال عنه الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب: علامة الإيمان حب الأنصار (17)، ومسلم في كتاب الإيمان باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه (74).
[4] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه (76).
[5] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: حب الأنصار (3783)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه (75).
[6] أخرجه مسلم في كتاب التفسير باب حدثنا يحي بن يحي.. (3022).
[7] شرح النووي على صحيح مسلم (18/158-159).
[8] أسنده الطبري في جامع البيان (28/44-45).
[9] أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3679).
[10] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3982).
[11] لسان العرب (11/430).
[12] القاموس المحيط (4/13).
[13] انظر: جامع البيان للطبري (2/7)، الجامع لأحكام القرآن (2/153)، تفسير القرآن العظيم (1/335).
[14] انظر: الجامع لأحكام القرآن (16/399).
[15] أخرجه البخاري في كتاب العلم باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب (105) وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والدبات باب: تغليط تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679).
[16] انظر: الإحسان بترتيب صحيح بن حبان (1/91).
[17] لسان العرب (12/24)، وانظر: القاموس المحيط (4/78)، وتاج العروس (8/193).
[18] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة للدكتور ناصر الشيخ (2/504).
[19] أي متغلبون.
[20] جامع بيان العلم وفضله (2/226-227)، وانظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (2/514).
الفصل العاشر: تحريم سب الصحابة:
المبحث الأول: تحريم سبهم بنص القرآن:
1- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً E وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب:58].
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين، فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: {اأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ} ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ} في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة؛ لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم، وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى[1].
قال الحافظ ابن كثير: "ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم"[2].
2- وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}.(/19)
قال أبو عبد الله القرطبي: "روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء...} حتى بلغ: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارُ}، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية"، ثم قال: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"[3].
المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سبهم:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))[4].
قال النووي: "واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام، من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون"[5].
2- وعن أبي سعيد أيضاً قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))[6].
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي))[7].
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))[8].
المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة:
1- روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال لي يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]، قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم، قالها ثلاثاً، قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه[9].
2- وعن جابر رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر[10].
3- عن محمد بن علي بن الحسين بن علي أنه قال لجابر الجعفي: يا جابر، بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر ويزعمون أني آمرهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده، لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن استغفر لهما وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما، فأبلغهم أني بريء منهم وممن تبرأ من أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما[11].
المبحث الرابع: حكم سابّ الصحابة وعقوبته:
اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم، هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل أو أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزير.
1- ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو انتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح، ببغضهم وأن من كانت هذه صفته فقد أباح دم نفسه وحل قتله إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم.
قال الطحاوي في عقيدته: "وحبهم ـ أي الصحابة ـ دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"[12].
وقال الذهبي: "فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين، لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحق فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته"[13].
واستدل أصحاب هذا القول بأمور منها:
أ) أن سب الصحابة وانتقاصهم والطعن فيهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاص له وحط من مكانته عليه الصلاة والسلام لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل"[14].(/20)
ب) أن الطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع أحكام الشريعة الإسلامية إذ هم نقلتها والمبلغون لها.
قال القرطبي: "فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"[15].
ج) أن الطعن في الصحابة يؤدي إلى إنكار ما قام عليه الإجماع قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادقة المتواتر من الكتاب والسنة الدالين على أن لهم الزلفي إلى ربهم[16].
2- وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل بل يعزر تعزيراً شديداً.
قال إسحاق بن راهويه: "ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس"[17].
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدله منها:
أ) ما رواه الشيخان في صحيحيهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد وقد سب عبد الرحمن بن عوف ((لا تسبوا أصحابي...)).
ب) ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبي برزة الأسلمي قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه قال: فانتهره، وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم[18].
ج) أن الله ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة وقال في الثاني: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا} [النساء:112]، ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة.
[1] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة (2/833).
[2] تفسير ابن كثير (5/515).
[3] الجامع لأحكام القرآن (16/296).
[4] أخرجه البخاري في المناقب باب: لو كنت متخذاً خليلاً (3673).
[5] شرح النووي على صحيح مسلم (16/).
[6] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (2541).
[7] أخرجه الطبراني في الأوسط (5/94) والكبير (12/434) وقال الهيثمي في إسناد الاوسط: "رجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقةَ" مجمع الزوائد (10/21).
[8] أخرجه الطبراني في الكبير (3/174) وحسنه بمجموع طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة (2340).
[9] ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/283).
[10] انظر: جامع الأصول (9/408-409).
[11] انظر: البداية والنهاية (9/349).
[12] شرح الطحاوية (528).
[13] الكبائر (235).
[14] الصارم المسلول على شاتم الرسول (580).
[15] الجامع لأحكام القرآن (16/299).
[16] الأجوبة العراقية (49).
[17] انظر الصارم المسلول (568).
[18] المسند (1/9).
الفصل الحادي عشر: المنحرفون في هذا الباب:
المبحث الأول: الشيعة والرافضة:
إن الرافضة وقفوا من الصحابة موقفاً لم ترضه اليهود في أصحاب موسى، ولم ترضه النصارى في أصحاب عيسى، فلقد اجترؤوا على الصحابة الكرام وتناولوهم بالطعن والقدح:
فمن مطاعنهم في الصحابة عموماً أن أكثرهم انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التي جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو واشتغلوا بالتجارة وذلك دليل على عدم الديانة.
ومن مطاعنهم في الصحابة أنهم يعتقدون فيهم أنهم ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهم جحدوا النص على إمامة علي وبايعوا غيره بالخلافة.
ومن مطاعنهم أيضاً أنهم حرفوا القرآن وأسقطوا منه كلمات، بل آيات، وأن القرآن الموجود لدى السبعة كما يزعمون يعادل ثلاث مرات من القرآن الموجود بين أيدينا، ومطاعنهم في الصحابة عموماً أنهم يقولون: إن كثيراً منهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين والفرار من الزحف أكبر الكبائر.
ومن مطاعنهم زعمهم أن الصحابة آذوا علياً وحاربوه وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من آذى علياً فقد آذاني)).
وهناك عشرات المطاعن غير ما ذكرنا وبخصوص بعض الصحابة مما يندى له الجبين نسأل الله العافية[1].
المبحث الثاني: الخوارج:
لقد امتاز الخوارج عن الشيعة الرافضة بإثباتهم إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية وأنها كانت برضى المؤمنين وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، لكنهم هلكوا فيمن بعدهما حيث كادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فأنكروا إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها كما أنكروا إمامة علي رضي الله عنه بعد التحكيم، بل أدى سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأم المؤمنين عائشة وابن عباس وأصحاب الجمل وصفين[2].
قال أبو الحسن الأشعري: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري"[3].(/21)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا علياً ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أَوْلى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه"[4].
المبحث الثالث: النواصب:
النواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للاعتقاد السديد في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان اعتقاد عدم محبة رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحملهم على التدين ببغضه وعداوته، والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين وغيره، وسُمّوا بالنواصب: لنصبهم العداء لآل البيت الأطهار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الخوارج الذين يكفرون علياً والنواصب الذين يفسقونه يقولون: إنه كان ظالماً طالباً للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه"[5].
وبعد أن كان مذهب النصب له وجود في دمشق فإنه تلاشى واضمحل حتى عدم نهائياً، قال الذهبي: "كان النصب مذهباً لأهل دمشق في وقت، كما كان الرفض مذهباً لهم في وقت، وهو في دولة بني عبيد ثم عدم ـ ولله الحمد ـ النصب، وبقي الرفض خفيفاً خاملاً"[6].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
* * * *
[1] انظر: هذه المطاعن بالتفصيل والردود عليها في عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (3/889) وما بعدها.
[2] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (3/1157).
[3] مقالات الإسلاميين (1/204).
[4] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/89).
[5] منهاج السنة النبوية (1/162).
[6] ميزان الاعتدال (1/76).(/22)
فضائل سورة الفاتحة
القرآن الكريم كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أنعم الله عليه بقراءته كله أو حفظه كله، فتلك هي الغاية العليا، والمنزلة السامية التي تشرئب إليها الأعناق، أما إذا لم يتيسر ذلك، فإن الله عز وجل لم يحرم غير القادر على ذلك عظيم الأجر، وجعل لقراءة بعض السور أو الآيات من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما يطيب به خاطر القارئ ويجعله مطمئنًا إلى سعة رحمة الله وعظيم فضله، فمن ذلك:
فضل قراءة الفاتحة
هذه السورة على قصرها ووجازتها- قد حوت أسرار القرآن، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، ولهذا تسمى أم القرآن فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة والعبادة والتشريع والجزاء والإيمان بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وتأمر بإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء والتوجه إليه تعالى بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان، ونهج سبيل الصالحين وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين، وفيها الحديث عن منازل السعداء ومراتب الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله تعالى ونهيه إلى غير ما هنالك من مقاصد وأهداف، وقد تكلم في فضل هذه السورة كثير من العلماء والمفسرين، ولأهمية ما كتبوه ننقل بعضًا منه ثم نُتبِع ذلك بالأحاديث الواردة في فضلها مع شرح معانيها، والله المستعان.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى قيل: إن جميع القرآن فيها وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن.
ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده، ولا تصح الصلاة إلا بها، ولا يلحق عمل بثوابها، وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم، كما صارت قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن؛ إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ، و قل هو الله أحد فيها التوحيد كله، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه الصلاة السلام لأبيّ: "أي آية في القرآن أعظم؟" قال: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم". وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له". أفضل الذكر لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد، والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في تفسير القرآن الكريم (1-3): سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتتح بها القرآن الكريم، وقد قيل إن أول سورة نزلت كاملة، هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد والأحكام والجزاء، وغير ذلك، ولذلك سميت "أم القرآن" والمرجع للشيء يسمى "أُمًّا".
مميزات سورة الفاتحة
وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها، منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، ومنها أنها رقية إذا قرئ بها على المريض شفي بإذن الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي قرأ على اللديغ فبرئ: "وما يدريك أنها رقية؟". رواه البخاري ومسلم.
وقال العلامة برهان الدين البقاعي في نظم الدرر (1-12):
وقد ظهر في علم هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها، لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه وعنوانه الدال إجمالاً على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه السلام عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام ومقصود كل سورة هاد إلى تناسبها، فالفاتحة اسمها "أم الكتاب" و"الرقية" و"الحمد" و"الشكر" و"الدعاء" و"الصلاة"، فمدار هذه الأسماء كما ترى على أمر خفي كاف لكل مراد وهو المراقبة، وهي أم كل خير، وأساس كل معروف ولا يعتد بها إلا إذا ثنيت فكانت دائمة التكرار، وهي كنز لكل شيء شافية لكل داء، كافية لكل هم وافية بكل مرام، واقية من كل سوء، وهي إثبات للحمد الذي هو الإحاطة بصفات الكمال، وللشكر الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو، وأعظم مجامعها الصلاة.
إذا تقرر ذلك فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال واختصاصه بملك الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة والاستعانة بالسؤال في التزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين مختصًا بذلك كله، ومدار ذلك كله مراقبة العباد ربهم، لإفراده بالعبادة فهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إليه.
وقال ابن القيم عليه رحمة الله في مدارج السالكين (1-25):(/1)
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن، فاشتملت على التعريف بالمعبود- تبارك وتعالى- بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها وهي (الله والربُّ والرحمنُ)، وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة، ف إياك نعبد مبنيٌّ على الإلهية، و إياك نستعين على الربوبية، وطلب الهداية إلى صراطه المستقيم بصفة الرحمة، والحمدُ يتضمن الأمور الثلاثة، فهو المحمودُ في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثناءُ والحمد كمالان لحمده، وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حَسَنِها وسيِّئها وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل وكل هذا تحت قوله: مالك يوم الدين .
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة:
أحدها: كونه رب العالمين، فلا يليقُ به أن يترك عبادهُ سُديً هَمَلا، لا يُعَرِّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما، فهذا هضمٌ للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به، وما قَدَرَهُ حق قدره من نسبه إليه.
الثاني: أخذها من اسم "الله" وهو المألوهُ المعبود، ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: من اسمه "الرحمن" الذي رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالِهم، فمن أعطى اسم "الرحمن" حقَّهُ عَلِمَ أنه متضمنٌ لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمُّنِهِ إنزال الغيث وإنبات الكلأ، وإخراج الحب، فاقتضاء الرحمة لما يحصلُ به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما يحصل به حياة الأبدان والأشباح لكنِ المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظَّ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك.
الموضع الرابع: من ذكر "يوم الدين" فإنه اليومُ الذي يُدينُ اللهُ العبادَ فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات، وما كان الله ليعذب أحدًا قبل إقامة الحجةِ عليه، والحجةُ إنما قامت برسله وكتبه، وبهم اسْتُحِق الثواب والعقاب، وبهم قام سوق يوم الدين، وسيق الأبرارُ إلى النعيم، والفجارُ إلى الحجيم.
الموضع الخامس: من قوله: إياك نعبد ، فإن ما يُعبدُ به الرب تعالى لا يكونُ إلا على ما يحبه ويرضاه، وعبادتُه- هي شكرُهُ، وحبه وخشيته- فطريٌ ومعقول للعقول السليمة، لكنَّ طريق التعبد وما يُعبدُ به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم، وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمرٌ مستقر في العقول، يستحيل تعطيل العالم عنه، كما يستحيلُ تعطيله عن الصانع.
فمن أنكر الرسول فقد أنكر المُرْسِل، ولم يؤمن به، ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرًا به.
الموضع السادس: من قوله: اهدنا الصراط المستقيم ، فالهداية: هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهما بعد البيان والدلالة، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق، وجعلُ الإيمان في القلب، وتحبيبه إليه، وتزيينه في قلبه، وجعله مؤثرًا له، راضيًا به، راغبًا فيه. وهما هذان اللذان، لا يحصلُ الفلاح إلا بهما.
الموضع السابع: من معرفة نفس المسؤول- وهو الصراط المستقيم- ولا تكونُ الطريقُ صراطًا حتى يتضمن خمسة أمور: الاستقامةُ، والإيصالُ إلى المقصود، والقربُ وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقًا للمقصود، ولا يخفى تضمنُ الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة، فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه؛ لأن الخط المستقيم هو أقربُ خط فاصل بين نقطتين، وكلما تعوَّج طالَ وبَعُدَ، واستقامته تتضمن إيصالهُ إلى المقصود ونصْبهُ لجميع من يمرُّ عليه يستلزمُ سَعتهُ، وإضافته إلى المُنعَمِ عليه، ووصفهُ بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال، يستلزم تَعَيُّنَهُ طريقًا.
و"الصراط" تارة يُضَافُ إلى الله، إذ هو الذي شَرَعَهُ ونصبه، كقوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما {الأنعام: 153}، وقوله: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله {الشورى: 52- 53}، وتارة يضاف إلى العباد، كما في الفاتحة، لكونهم أهل سلوكه، وهو المنسوبُ لهم، وهم المارُّونَ عليه.
الموضع الثامن: من ذِكرِ المنعَمِ عليهم، وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال، فانقسم الناسُ بحسب معرفةِ الحقِّ والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة، لأن العبد إمَّا أن يكون عالمًا بالحق، أو جاهلاً به، والعالِمُ بالحق إما عاملٌ بموجبه أو مخالف له.(/2)
فهذه أقسام المكلفين، لا يخرجون عنها البتة، فالعالمُ بالحقِّ العاملُ به: هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو المفلحُ: قد أفلح من زكاها {الشمس: 9}، والعالِمُ به المُتَّبعُ هواه: هو المغضوبُ عليه، والجاهلُ بالحقِّ: هو الضالُّ، والمغضوب عليه، ضالٌ عن هداية العمل، والضالُّ مغضوب عليه لضلالِهِ عن العلم الموجب للعمل فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكنَّ تارك العمل بالحق بعد معرفته به أَوْلى بوصف الغضب وأحقُّ به، ومن هاهنا كان اليهودُ أحق به، وهو متغلظٌ في حقهم كقوله تعالى في حقهم: بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب {البقرة: 90}.
وقوله تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل {المائدة: 60}.
والجاهل بالحق: أحقُّ باسم الضلال، ومن هاهنا وُصفتِ النصارى به في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل {المائدة: 77}، فالأُولى: في سياق الخطاب مع اليهود، والثانية: في سياقه مع النصارى. وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالُّون".
ففي ذكر المُنعم عليهم- وهم من عَرِف الحق واتبعهُ- والمغضوب عليهم- وهم من عرفه واتبع هواه- والضالين- وهم من جَهِلهُ- ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة؛ لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود، وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.
وإلى لقاء إن شاء الله تعالى(/3)
فضائل شهر رمضان ... ...
أحمد فريد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- موعظة في استقبال رمضان. 2- خصوصيات شهر رمضان. 3- تعريف الصوم. 4- فوائد الصوم. 5- صيام الجوارح. 6- رمضان شهر القرآن والقيام والإنفاق. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
ثم أما بعد:
قال الله عز وجل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185].
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة.
يا من دامت خسارته، قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.
من لم يربح في هذا الشهر، ففي أي وقت يربح.
من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.
عباد الله هبت على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق .
لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل ،فلم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، قد مدت في هذه الأيام، موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعى: يا قومنا أجيبوا داعي الله [الأحقاف:31].
فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعى.
قال المعلّى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وقال يحي بن أبي كثير: كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلا .
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنة ))([1]).
وله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ))([2]) وفي رواية عند مسلم ((فتحت أبواب الرحمة)).
قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره، وحقيقته أن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر، وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين.
قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن إعجازهم عن الإغواء وتزيين الشهوات.
وهذا الشهر عباد الله مدرسة ربانية رحمانية تفتح أبوابها كل سنة شهرا كاملا يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات .
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قال الله: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه ))([3]).
والصيام في اللغة هو الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، فهو إمساك المكلف بالنية عن الطعام والشراب والشهوة من الفجر إلى المغرب.
وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:
منها كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد يقسي القلب ويعميه، وخلو البطن من الطعام والشراب، ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للفكر والذكر.
ومنها أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بامتناعه عن هذه الشهوات في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك بتذكر من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.
ومنها أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي الصوم وجاءً؛ لقطعه عن شهوة النكاح.
ولا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك الشهوات المباحة في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال، من الكذب والظلم والاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ))([4]).(/1)
قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام.
وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا.
والصائمون على طبقتين: أحدهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح، فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24].
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين .
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم))([5]). وفي رواية: ((فإذا دخلوا أغلق)) وفي رواية: ((من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا)).
والطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته .
أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجلّ من ذلك .
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت [العنكبوت:5].
وقوله عز وجل في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) معناه أن الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة، بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
وقيل الحكمة في إضافة الصيام إلى الله عز وجل، أن الصيام هو ترك حظوظ النفوس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها، من الطعام والشراب والنكاح، ولا يوجد ذلك في غيره من العبادات.
قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، وقيل: لأن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها دائما، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، والله عز وجل يحب من عباده أن يعاملوه سرا.
وشهر رمضان له خصوصية بالقران كما قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [البقرة:185].
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنزل جملة واحدة من اللوح الحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر ويشهد لذلك قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر [القدر:1].
كان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
والشهر عباد الله مجاهدة بالليل والنهار، فكما أن العبد يجاهد نفسه بالصيام ويلزمها بأخلاق الصائمين، يجاهد نفسه كذلك بالقيام تشبها بالصالحين. قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))([6]).
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يؤما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قرب الفجر.
والشهر كذلك عباد الله تدريب على الإنفاق وكثرة الجود، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ([7]).
فقد كان النبي أجود الناس وكان جوده لله وفي ابتغاء مرضاته، وكان جوده يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضا، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.
ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود.
وفي تضاعف جوده في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، فإن العمل يشرف ويزداد ثوابه لشرف الزمان، أو المكان، أو لشرف العامل وكثرة تقواه.(/2)
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء.
كما قال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ([8]).
فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم الجنازة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة ))([9]).
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وقد قال : ((الصيام جنة))([10]). وقال : ((الصدقة تطفئ الخطيئة))([11]).
قال أبو الدرداء: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
ومنها: ما قاله الشافعي رحمه الله: أَحِبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان، اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم عن مكاسبهم، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا.
اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
([1])البخاري (4/112) الصوم : هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومسلم (7/87) أول كتاب الصوم رقم (1898).
([2])البخاري (4/112) الصوم ، رقم 1899.
([3])البخاري (4/103) الصوم : باب فضل الصوم ومسلم (8/32) في الصيام : باب فضل الصيام.
([4])رواه البخاري (4/16) في الصوم : باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم وفي الأدب باب قول الله تعالى: واجتنبوا قول الزور ورواه أبو داود (6/488) في الصوم ك باب الغيبة والترمذي (3/226) باب ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم .
([5])البخاري (4/111) في الصوم : باب الريان للصائمين ومسلم (8/32) في الصيام : باب فضل الصيام.
([6])رواه البخاري (4/250) التراويح : باب فضل من قام رمضان.
([7])رواه البخاري (4/116) الصوم : باب أجود ما كان النبي يكون في رمضان ، ومسلم (15/68،69) الفضائل : جوده .
([8])رواه الطبراني في الكبير عن جرير. وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 317، (2/293).
([9])أخرجه مسلم في صحيحه (3/92) ، (7/110) والبخاري في الأدب المفرد (75) – أحكام الجنائز 69.
([10])رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وتقدم تخريجه .
([11])لم أقف على لفظه وقد روى الترمذي عنه e ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء)) وحسنه الترمذي ولكن ضعفه الألباني في الإرواء حديث 885 (3/390) وذكره الألباني في الصحيحة رقم 1908(4/535) لفظ ((صدقة السر تطفئ غضب الرب)) وقال حفظه الله بعد أن ذكر طرق الحديث : وجملة القول أن الحديث بجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب بل يلحق بالمتواتر عند بعض المحدثين المتأخرين. ... ...
المصدر:http://www.alminbar.net(/3)
فضائل يوم عرفة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن الله قد فرض على عباده فرائض عديدة، واختصهم بمزايا سامية، وإعطائهم فضائل مرتفعة راقية، ومواسم وأيام شريفة مباركة، يباهي بهم فيها ملائكته، ويستجيب لهم فيها دعائهم ويعطي كل سائل مطلبه، ومن هذه المواسم والأيام المباركة يوم عرفة والذي سنتطرق للحديث عنها فنقول وبالله وحده نستعين:
بعض فضائل يوم عرفة:
إن ليوم عرفة مزايا عديدة، وفضائل كثيرة، فهو يوم عظَّمه الله، ورفع قدره، وجعل الوقوف في ذلك اليوم ركناً من أركان الحج؛ بل الحج كله، وإليك بعضاً من فضائله:
1. أن الله قد أقسم به: ومن المعلوم أن العظيم لا يقسم إلا بعظيم، وعلى أمر عظيم، قال الله - تعالى-: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}سورة الفجر(3) قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "الوتر يوم عرفة، والشفع يوم الذبح"، وهو قول عكرمة والضحاك، وهو اليوم المشهود الذي قال الله فيه: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ }سورة البروج(3) ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه؛ فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه)1.
2. أنه يوم عيد لأهل الموسم؛ فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً!! قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة"2 قال ابن حجر - رحمه الله -: "التنصيص على أن تسمية يوم عرفة يوم عيد"، وقد نقل الكرماني عن الزمخشري أن العيد هو السرور العائد، وأقر ذلك فالمعنى: "أن كل يوم شرع تعظيمه يسمى عيداً"3، وقال ابن رجب - رحمه الله - في لطائف المعارف ما معناه: "أن العيد موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فاز وبإكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم لهم عليها مغفرته: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}سورة يونس(58) ، فالغافل يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بمولاه"4.
3.أن الله أخذ فيه الميثاق؛ فعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني يوم عرفة -، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبلاً قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى يقوله: {بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}سورة الأعراف(172-173)5.
4.أن الله يباهي بأهل عرفات ملائكته، ويعمهم بالرحمة والغفران؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً)6، قال المناوي - رحمه الله - في المطامح: "وذا يقتضي الغفران وعموم التكفير؛ لأنه لا يباهي بالحاج إلا وقد تطهر من كل ذنب، إذ لا تباهي الملائكة وهم مطهرون إلا بمطهر"7، وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه يدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)8.
5.أن الدعاء فيه مستجاب: فعن طلحة بن عبيد الله بن كريز أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك)9.
1. أن من صامه إيماناً واحتساباً فإن الله يكفر بذلك ذنوب سنتين؛ فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والباقية)10.
2. أن الله جعل الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج بل هو أهمهما فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة)11 قال ابن رشد: "أجمعوا على أنه ركن من أركان الحج، وأن من فاته فعليه حج قابل"12، وقال ابن قدامة المقدسي: "والوقوف ركن لا يتم الحج إلا به إجماعاً"13.
أمور ينبغي فعلها للحاج وغيره:(/1)
1. الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق، فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله - تعالى- في ذلك اليوم وأساسه، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير"14، وتحقيق التوحيد يوجب عتق الرقاب، وعتق الرقاب يوجب العتق من النار؛ كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير. في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)15.
2. الإكثار من الدعاء بالمغفرة والعتق من النار: فقد روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار، وليس يوم أكثر فيه عتق للرقاب من يوم عرفة، فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عني فسقة الجن والإنس، فإنه عامة دعائي اليوم.
3. التوبة الصادقة فإن الله - تعالى- يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}سورة النور (31) ، ويقول - تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}سورة التحريم(8) ، والتوبة واجبة في كل وقت إلا أنها في الأوقات الفاضلة آكد وأوجب، والإصرار على الذنب سبب للحرمان من الغفران ورضا الرحمن فقد روى ابن أبي الدنيا وغيره: أن رجلاً رأى في المنام أن الله قد غفر لأهل الموقف كلهم إلا رجلاً من أهل بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه، فسأله عن حاله فذكر أنه كان مدمناً لشرب الخمر فجاء ليلة وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنور، فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت.
4. الإكثار من فعل الخيرات، وبذل المعروف والإحسان إلى الناس، فإن العمل الصالح يضاعف أجره في الأوقات الفاضلة، وكذا العمل القبيح الفاسد يضاعف عقاب فاعله في الأيام الفاضلة.
أمورٌ ينبغي فعلها لمن لم يكن حاجاً:
إضافة إلى ما سبق فإنه ينبغي لغير الحاج عمل ما يلي:
1. صيام يوم عرفة فإنه قد جاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده)16، وهذه خاصة بمن لم يوفق للحج، أما من كان حاجاً فالأفضل له الفطر وذلك ليتقوى على الدعاء وفعل الطاعات والقربات في ذلك اليوم الأغر.
من أحوال الصالحين في يوم عرفة:
• كان حكيم بن حزام يقف بعرفة ومعه مئة بدنة مقلدة، ومئة رقبة، فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء يقولون: "ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا"17.
• وقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوءتاه منك وإن عفوت18.
• وكان أبو عبيدة الخواص قد غلب عليه الشوق والقلق ويقول: "واشوقاه إلى من يراني ولا أراه"19، وكان بعد ما كَبُرَ يأخذ بلحيته ويقول:" يا رب! قد كَبرت فأعتقني"20.
• و دعا بعض العارفين بعرفة فقال: " اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني"21.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
________________________________________
1 - رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة البروج برقم (3339)، وحسنه الألباني في المشكاة (1362) والصحيحة ( 1502).
2- متفق عليه رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه 1/25-45،وبرقم 4145، و4330، و6840 واللفظ له، ومسلم في صحيحه كتاب التفسير 4/2312-3017.
3- راجع فتح الباري(8/271).
4- انظر لطائف المعارف لابن رجب، صـ(299).
5- رواه أحمد في المسند 1/272-455، والنسائي في السنن الكبرى كتاب التفسير باب سورة الأعراف 6/347-11191، والحاكم في المستدرك برقم(4000)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1697) والصحيحة (1623).(/2)
6 - أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك باب تباهي الله أهل السماء بأهل عرفات 4/263-2839، وصححه ابن حبان في كتاب الحج باب الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما 9/163- 3852، والحاكم في المستدرك أول كتاب المناسك 1/636-1708، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 1863).
7- فيض القدير (2/279-277).
8- رواه مسلم في كتاب الحج باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة 2/982-1348.
9- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الصيام باب الاختيار للحاج في ترك صوم يوم عرفة 4/284-8174)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1503). وهو في صحيح الجامع رقم(1102).
10- رواه مسلم في كتاب الصيام باب استحباب ثلاثة أيام من كل شهر وصوم بوم عرفة وعاشوراء والاثنين 2/818-1162.
11- رواه الترمذي في كتاب الصوم باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 3/237-889، والنسائي في كتاب مناسك الحج باب فرض الوقوف بعرفة 5/256-3016، وابن ماجة في كتاب المناسك باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2/1003-3015، وأحمد 4/309-18796، وقال الشيخ الألباني: صحيح كما في صحيح الجامع برقم (3172).
12- بداية المجتهد (1/481).
13- المغني (3/432).
14- أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء يوم عرفة 5/572-3585، وقال الألباني: صحيح كما في صحيح الترمذي رقم(2837).
15- متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده 3/1198- 3119، وبرقم 6040، واللفظ له، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 4/2071- 2691.
16- رواه مسلم في كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين 2/818-1162.
17 - لطائف المعارف 1/299.
18- لطائف المعارف 1/310.
19- شرح حديث لبيك 1/99.
20- صفة الصفوة 4/276.
21- لطائف المعارف 1/310.(/3)
فضائيات - غزو جديد
دار الوطن
الحمد لله الذي أمرنا بطاعته، ونهانا عن معصيته ومخالفته، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
نحن على مشارف قرن جديد، ولا يزال للإسلام قوة وأتباع، ولا يزال في الأمة رجال يؤرقهم همّ الإسلام، يحملون قضيته، ويحفظون حدوده، ويذودن عن حياضه.
وهذا ما دعا أعداء الإسلام لأن يزيدوا من حملتهم ضد الإسلام ويضاعفوا من خططهم ومؤامراتهم، لإضلال المسلمين وإفسادهم وإخراجهم من دينهم، وجعلهم دُمى يحركونها كيفما أرادوا، قال تعالى: [البقرة:217].
حرب الفضائيات
إن أخطر ما يواجه به المسلمون اليوم ذلك الغزو الوافد إلينا عن طريق القنوات التلفزيونية الفضائية.
إنه غزو جديد.. لا تشارك فيه الطائرات ولا الدبابات.. ولا القنابل والمدرعات.. غزو ليس له في صفوف الأعداء خسائر تُذكر.. فخسائره في صفوفنا نحن المسلمين.. إنه غزو الشهوات.. غزو الكأس والمخدرات.. غزو المرأة الفاتنة.. والرقصة الماجنة.. والشذوذ والفساد.. غزو الأفلام والمسلسلات.. والأغاني والرقصات.. وإهدار الأعمار بتضييع الأوقات. إنه غزو لعقيدة المسلمين في إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وأمور الغيب التي وردت في كتاب الله وصحت عن نبينا محمد رب ارجعون كلا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً : { يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان و يبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله } [متفق عليه].
ثالثاً: اكسر صنم قلبك أولاً:
قال الإمام ابن القيم: "إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله سبحانه كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً".
فيا صاحب الدش !
لن يسلم إيمانك إلا بتكسر صنم الهوى والشهوة في قلبك.. ولن يكون ذلك إلا بإبعاد هذا الطبق الذي فوق سطح بيتك..
اصعد الآن.. خذ معول العزم.. واضرب به هذا الصنم.. ليسلم لك توحيدك.. وتصح توبتك.. وتصلح عبوديتك.. قال النبي قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون : {.... فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } [رواه مسلم].
أين أنت من قوله : { العينان تزنيان وزناهما النظر } [متفق عليه].
أين أنت من قوله FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" : { أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني } [متفق عليه].
أخي الكريم:
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية الى طغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
حصاد القنوات
1- العقائد الباطلة:
عرضت إحدى القنوات الفضائية فيلماً هندياً من مشاهده أن ثعباناً لدغ طفلة، فأسرع أخوها الى صنم وأخذ يدعوه ويستغيث به كي يشفيها، فلما عاد إليها وجدها قد شفيت، فرجع الى الصنم وقال له: سأظل أصلي لك، وشكراً على ما فعلت لأختي.
وهذا المشهد يحتوي على:
1- الكفر بالله. 2- دعاء غير الله. 3- الدعوة الى عبادة الأصنام. 4- الاعتقاد بأن لغير الله تصرفاً في الكون. 5- وأقل ما يقع فيه من المشاهد لمثل هذا هو عدم إنكار المنكر ولو بقلبه، وذلك لغفلته الشديدة عن دين الله تعالى.
2- الجنس:
قال الدكتور بلومر: "إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الأمور الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية، يتعلمها الشباب من خلال السينما و التلفزيون" [بصمات على ولدي].
وتقول إحدى الفتيات في سن الثامنة عشرة: "إني أفكر بالانتحار في كل دقيقة، بل في كل ثانية، لأنه لا تمضي ساعة واحدة دون أن أشعر بالعاطفة الجنسية الجامحة تخترق أحشائي كما يخترق الرصاص جسم الإنسان ويقتله !! وكلما شاهدت فيلماً عاطفياً أو قرأت قصة غرامية تثور عاطفتي و غرائزي" [العفة ومنهج الاستعفاف].
3- الجريمة:
قال الدكتور سبوك: "هناك عدد من رجال القضاء و المحللين النفسيين يؤكدون أنه عندما يتم سؤال أحد الشباب المنحرف عن فكرة الجريمة لديه، فإن الإجابة تكون من رواية بوليسية، أو من برنامج في التلفزيون،أو من فيلم سينما" [أبناؤنا بين وسائل الإعلام و أخلاق الإسلام].
4- الجهل:(/1)
قالت مارغريت سميث: "إن الطالبة لا تفكر إلا بعواطفها، والوسائل التي تتجاوب مع هذه العاطفة، إن أكثر من 60% من الطالبات سقطن في الامتحانات، وتعود أسباب الفشل الى أنهن يفكّرن في الجنس أكثر من دروسهن وحتى مستقبلهن، وأن 10% منهن فقط مازلن محافظات" [صون المكرمات].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=62 ...(/2)
فضل الأذان والمؤذن
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد:
لا يشك مسلم في أن الأذان شعارٌ من شعائر أهل الإسلام، ونداءتهم إلى الصلاة والعبادة، أمر المسلمون، بتلبيته، وإجابته، فإذا كانت هذه خصائصه ومميزاته, فإنه لابد أن يكون فيه فضل عظيم، وأجر كبير، إذ أنه من الأعمال التي يتقرب إلى الله - عز وجل - بها، فقد قال الله - عز وجل - في كتابه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. قالت عائشة - رضي الله عنها - وعكرمة ومجاهد, وقيس بن أبي حازم أنها نزلت في المؤذنين، قالت عائشة: فالمؤذن إذا قال: حيّ على الصلاة فقد دعا إلى الله(1).وقال محمد بن سيرين والسدي, وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المراد بها المؤذنون الصلحاء(2)فليس هناك أحسن ممن يدعوا إلى الله، ويعمل صالحاً، بدليل الآية السابقة، فهو فضل عظيم, وأجر جزيل من رب العالمين.
ثم إن هناك ثم أمور وفضائل في الأذان والمؤذن ذكرت في السنة الغراء, فإليك هذه الفضائل:
1 - الاستهام على الأذان:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول, ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا...)(3).
قال الإمام النووي:(معناه أنهم لو علموا فضيلة، الأذان وقدرها, وعظيم جزائه, ثم لم يجدوا طريقاً يحصلونه به لضيق الوقت عن أذان بعد أن أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله"(4).
2 - المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة:
عن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)(5)
أي أن الناس يعطشون يوم القيامة والإنسان إذا عطش انطوت عنقه, والمؤذنون لا يعطشون يومها, فلا تنطوي أعناقهم(6)، وقيل معناه: "أكثر الناس تشوفاً إلى - رحمة الله -؛ لأن المتشوف يطيل عنقه إلى ما يتطلع إليه, فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب, وقيل إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم, لئلا ينالهم ذلك الكرب, وقيل معناه أنهم سادة ورؤساء, والعرب تصف السادة بطول العنق, وقيل أكثر أتباعاً, وقيل أكثر أعمالاً وروي إعناقاً بكسر الهمزة إسراعاً إلى الجنة من سير العنق"(7) فأي المعاني كان فهو فضل للمؤذن، وشرف له وسعادة في الآخرة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، يوم تبلغ القلوب الحناجر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
3 - الشيطان يفر من الأذان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثُوب بالصلاة أدبر،حتى إذا قضي التثويبُ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه). قال الحافظ ابن حجر: "والحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة, فقيل يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة, فإنه لا يسمع المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له(8).
4 - الجن والإنس وكل شيء يشهد للمؤذن:
فقد جاء من حديث عبد الرحمن بن أبي صعصعة - رضي الله عنه - أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذنت، بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى، صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (9).
5 - النبي يدعو للمؤذن بالمغفرة:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)(10)..
6 - المغفرة للمؤذن من الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(المؤذن يغفر له مدى صوته ويستغفر له كل رطب ويابس)(11).
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يعجب ربك عز وجل من راعي غنم في رأس شظية، بجبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: أنظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة)(12).
7 - الأذان دليل على وجود الإسلام:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر, وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك و إلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجت من النار، فنظروا فإذا هو راعي معزى)(13).
8 - أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد:(/1)
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)(14).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
1 - تفسير القرطبي (15/315).
2 - تفسير ابن كثير(4/101).
3 - البخاري في الفتح/ (615)، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان.
4 - شرح صحيح مسلم(4/158).
5 - صحيح مسلم(1/242)(387). كتاب الصلاة، باب فضل الأذان.
6 - كشف الخفاء(2/384).
7 - الديباج للسيوطي(2/122).
8 - فتح الباري(2/86).
9 - البخاري(1/206)(609)، كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء.
10 - سنن أبي داود(1/254)(517). كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، وصححه الألباني كما في صحيح سنن ابن ماجه(1/226).
11 - سنن ابن ماجه (1/240)(724)، كتاب الأذان، باب فضل الأذان وثواب المؤذنين. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه(1/266).
12 - سنن أبي داود(1/519)(1203)، باب الأذان في السفر.
13 - صحيح مسلم(1/241)(8102)، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان.
14 - سنن أبي داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم(489).(/2)
فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وبصرنا بسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب العزة والرفعة لمن اهتدى بهداه، وكتب الذلة والصغار على من خالف أمره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من أعز الله به الدين، وأخرج به المؤمنين من الذل إلى النصر المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. أما بعد(1):
فإن الله -تعالى- اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وعقْدُ التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجارُ عظمة المشترى، وقدر الثمن، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد، عرفوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البيِّنِ والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة، تذهب لذتها وشهوتها، وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضىً واختياراً من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك(2)، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعاف أموالكم معها:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169)،لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلباً للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجلّ الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن..!
أخي –رعاك الله-: تأمل قصة جابر بن عبد الله وقد اشترى منه -صلى الله عليه وسلم- بعيره، ثم وفاه الثمن وزاده ورد عليه البعير، وكان أبوه قد قتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في وقعة أُحُد، فذكَّره بهذا الفعل حال أبيه مع الله، وأخبره أن الله أحياه وكلمه كفاحاً وقال: (يا عبدي تمنَّ عليَّ).3
فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق! فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن، ووفَّق لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعاض عليه أجلَّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو –سبحانه- الذي وفقه له، وشاءه منه:
فحيَّ هلا إن كنت ذا همةٍ فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرت إلى الأطلال عُدنَ حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على ... طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحْيِ بذكراهم شراك إذا دنت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافنَّ الكَلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبَساً من نورهم ثم سر به ... فنورهمُ يهديك ليس المشاعلا
وحي على وادي الأراك فقل به ... عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي مُعرِّف الـ ... أَحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جَمْع بليلته فإن ... تفُت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عَدْنٍ فإنها ... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سَباك الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ ... خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوماً دارسات فما بها ... مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوماً عفت ينتابها الخلق كم بها ... قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا !
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية، والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حياً فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
(انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل).4
وقال: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام، ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكَّلُ اللهُ للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة).5
وقال: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).6(/1)
وقال فيما يروي عن ربه -تبارك وتعالى-: (أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة).7
وقال: (جاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، ينجي الله به من الهم والغم).8
وقال: (أنا زعيم -والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة، من فعل ذلك لم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت).9
وقال: (من قاتل في سبيل الله فَواق ناقة10 فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل في سبيل الله من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإنه له أجر شهيد، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك، ومن خرج به خُراج في سبيل الله كان عليه طابَِع الشهداء11).12
وقال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة).13
وقال لأبي سعيد الخدري: ( يا أبا سعيد: مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد! فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: (الجهاد في سبيل الله).14
وقال : (من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خَزَنةُ الجنة، كلُّ خزنةِ باب: أي فلان هَلُمَّ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى من تلك الأبواب كلها؟ قال: (نعم، وأرجو أن تكون منهم).15
وقال: (من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، وعاد مريضاً، أو أماط الأذى عن طريق فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حِطَّة).16
وقال: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار).17
وقال: (لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد). وفي لفظ: (في قلب عبد) وفي لفظ: (في جوف امرىء) وفي لفظ: (في منخري مسلم).18
وقال: (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكاً يوم القيامة).19
وقال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها).20
وقال: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأُمِن الفُتَّان).21
وقال: (كل ميت يُختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر).22
وقال: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل).23
وقال: (مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة، أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة؟! جاهدوا في سبيل الله، مَن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة).24
وقال: (حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله).25
وقال لرجل -حرس المسلمين ليلة في سفرهم من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة-: (قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها).26
وقال: (من بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة).27
وقال: (من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عِدل مُحرَّر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة).28 وعند النسائي تفسير الدرجة عام.
وقال: (من علم الرمي ثم تركه فليس منا -أو- قد عصى).29
وقال لمعاذ عن الإسلام: (وذروة سنامه الجهاد).30
وقال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف).31
وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف).32
وصح عنه أنه قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).33(/2)
فهذه مجموعة أحاديث صحيحة، تدل على فضل الجهاد في سبيل الله -تعالى-، وأنه من الإسلام بمكان رفيع، ولهذا كان ذروةَ سنام الإسلام.. وقد جاء في أحاديث أخرى بيان خطورة ترك الجهاد والركون إلى الدنيا، وهذه المخاطر تعود على الفرد والمجتمع والأمة بشكل عام..
نسأل الله أن يتوفانا وهو راض عنا، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، تحت راية الجهاد في سبيل الله وحده لا شريك له..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
________________________________________
1- ما سيأتي من الكلام هو لابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد (3/64). بتصرف يسير.
2- أي لا نرجع عن عقد البيع، بل نمضيه، والإقالة في البيع: هي الرجوع عنه لمصلحة المشتري أو البائع..
3- كما ثبت في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه قال: لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: (يا جابر ما لي أراك منكسراً؟) قلت: يا رسول الله استشهد أبي قتل يوم أحد، وترك عيالاً وديناً، قال: (أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟) قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: (ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً، فقال: يا عبدي تمنَّ عليَّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب -عز وجل-: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون) قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2258).
4- رواه البخاري ومسلم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
5- رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
6- رواه البخاري ومسلم.
7- رواه أحمد والنسائي، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، وهو حديث صحيح، انظر صحيح النسائي للألباني (3126).
8- رواه أحمد، والنسائي في السنن الكبرى، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1319)، والسلسلة الصحيحة (670).
9- رواه النسائي وابن حبان والطبراني والحاكم، عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه-، وهو حديث صحيح، انظر صحيح الجامع للألباني (1465).
10- قال في مختار الصحاح في باب (فَوق): (فُوَاقٌ: الفَُوَاقُ بضم الفاء وفتحها: ما بين الحَلْبتَين من الوقت؛ لأنها تُحلب ثم تُترك سويعة يرضعها الفصيل لتدُرَّ، ثم تُحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقاً).
11- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ومن خرج به خُراج) الخُراج: بضم الخاء المعجمة: ما يخرج في البدن من القروح والدماميل. وقوله: (فإن عليه طابع الشهداء) بفتح الموحدة وبكسرها: أي الخاتم يختم به على الشيء، يعني عليه علامة الشهداء. (انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داوود 7/155) لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي.
12- رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود، وغيرهم، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وهو حديث صحيح، انظر عدة كتب للألباني منها: صحيح الجامع (6416)، ومشكاة المصابيح (3825)، وغيرهما.
13- رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
14- رواه مسلم والنسائي. عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
15- رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
16- رواه أحمد عن أبي عبيدة ابن الجراح -رضي الله عنه-.
17- رواه البخاري عن أبي عَبْس ابن جبر -رضي الله عنه-، ولم يرو له البخاري غيره كما ذكر ابن حجر.
18- رواه بمختلف الروايات الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهو حديث صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب للألباني (2606).
19- رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2239).
20- رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-.
21- رواه مسلم عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه-. والفتان: بضم الفاء وتشديد التاء جمع (فاتن)، وبفتح الفاء للإفراد، وبالضم هو رواية الأكثرين، كما ذكر النووي في شرح مسلم. أي الذين يفتنونه في القبر، وفي رواية الترمذي: (وقي فتنة القبر).
22- رواه الترمذي وأبو داود وابن حبان والحاكم عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4562).
23- رواه أحمد والترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهو حسن لغيره كما في صحيح الترغيب والترهيب للألباني (1224).
24- رواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (3830).
25- رواه أحمد والدارمي عن أبي ريحانة -رضي الله عنه-، وهو حسن لغيره كما في صحيح الترغيب والترهيب للألباني (3321).
26- رواه أبو داود والنسائي، عن سهل ابن الحنظلية -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2183).(/3)
27- رواه أحمد وأبو داود والنسائي، عن أبي نجيح السلمي -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6126).
28- رواه أحمد وغيره. وهو ضمن الحديث السابق جاء في قصة واحدة.
29- رواه مسلم عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه-.
30- رواه أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وهو قطعة من حديث طويل ووصية عظيمة، صححه الألباني في صحيح الجامع (5136).
31- رواه أحمد والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهو حديث حسن كما في صحيح ابن ماجه للألباني (2041).
32- رواه البخاري ومسلم عن عبد الله ابن أبي أوفى -رضي الله عنه-.
33- رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.(/4)
فضل الحياء وكيفيته
عبد العظيم بدوي الخلفي
1084
ملخص المادة العلمية
1- فضل الحياء. 2- تعريف الحياء وأقسامه. 3- كيف يكون الحياء من الله تعالى.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن لكل دين خلقا، وإن خلق الإسلام الحياء)).
هذا حديث عظيم، بيّن فيه النبي أن الغالب على أهل كل دين سجيّة سوى الحياء، والغالب على أهل ديننا الحياء، لأنه متمّم لمكارم الأخلاق، وإنما بعث النبي لإتمامها.
ولما كان الإسلام أشرف الأديان أعطاه الله سبحانه أسنى الأخلاق وأشرفها وهو الحياء.
ولقد كان النبي المثل الأعلى في الحياء: فعن أبي سعيد الخدري قال: ((كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه)).
ولقد كثرت الأحاديث عن النبي في مدح الحياء والحث عليه وبيان منزلته من الدين.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي مر برجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال : ((دعه، فإن الحياء من الإيمان)).
وعنه قال: قال رسول الله : ((الحياء والإيمان قًرِنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)).
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت )).
وقد اختلفت عبارات العلماء في الإعراب عن معنى الحياء. فقيل: هو خلق يبعث على فعل الحسن وترك القبيح. وقيل: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره.
وقال الزمخشري: هو تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم.
وقال الراغب: الحياء انقباض النفس من القبيح.
وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة. وهو مركب من جبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقلّما يكون الشجاع مستحيا.
فالحياء خلق الكرام، وسمة أهل المروءة والشرف، وعنوان الفضل والعقل، من حرمه حرم الخير كله، ومن تحلى به ظفر بالعزة والكرامة ونال الخير أجمع.
والحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه. فعندما ترى الإنسان يشمئز ويتحرج من فعل ما لا ينبغي، أو ترى حمرة الخجل في وجهه صابغة إذا بدر منه ما لا يليق، فاعلم أنه حي الضمير، نقيّ المعدن، زكي العنصر. وإذا رأيت الرجل لا يكترث ولا يبالي بما يبدر منه فهو امرؤ لا خير فيه، وليس له وازع يمنعه من ارتكاب الجرائم، واقتراف الآثام الدنايا.
وقد جعل العلماء الحياء قسمين:
الأول: الحياء من الناس.
ومنه أن يطهّر الإنسان فمه من الفحش، وأن يعزّ لسانه عن العيب، وأن يخجل من ذكر العورات، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها.
ومنه أن يقتصد المسلم في تحدّثه بالمجالس، فإن بعض الناس لا يستحيون من امتلاك ناصية الحديث في المحافل الجامعة، فيملئون الأفئدة بالضجر من طول ما يتحدثون.
ومنه أن يخجل الإنسان من أن يؤثر عنه سوء، وأن يحرص على بقاء سمعته نقية من الشوائب، بعيدة عن الإشاعات السيئة.
ومنه أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم، وأن يؤتي كل ذي فضل فضله، فللغلام مع من يكبرونه، وللتلميذ مع من يعلمونه مسلك يقوم على التأدب والتقديم، فلا يسوغ أن يرفع فوقهم صوته، ولا أن يجعل أمامهم خطوة.
وأما القسم الثاني من الحياء فهو الحياء من الله عز وجل، فنحن من خيره، ونتنفس في جوّه، وندرج على أرضه، ونستظل بسمائه، والإنسان بإزاء النعمة الصغرى من مثله يخجل أن يقدم إلى صاحبه إساءة، فكيف لا يخجل الناس من الإساءة إلى ربهم؟ الذي تغمرهم آلاؤه من المهد إلى اللحد، وإلى ما بعد ذلك من خلود طويل.
إن حق الله على عباده عظيم، ولو قدروه حق قدره لسارعوا إلى الخيرات يفعلونها من تلقاء أنفسهم، ولابتعدوا عن السيئات خجلا من مقابلة الخير المحض بالجحود والخسّة.
ولقد بيّن النبي كيف يكون الحياء من الله؟ فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ذات يوم لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء)). قالوا: إنا نستحيى من الله يا رسول الله الحمد لله. قال: ((ليس كذلك، ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء)).
وهكذا بيّن أن حقيقة الحياء من الله تكون بمجموع هذه الأمور، وأن من ترك منها شيئا نقص حياؤه على قدر ما ترك منها.
وأول هذه الأمور: حفظ الرأس مجملا عبارة عن التنزه عن الشرك، فلا يضع رأسه لغير الله ساجدا، ولا يرفعه على عباد الله تكبرا، فإن السجود لغير الله شرك، قال : ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)).
والتكبر على عباد الله كبيرة، وكلاهما من موجبات النار.(/1)
قال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72].
وقال النبي : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)).
وأما تفصيلا: فحفظ الرأس معناه: أن يحفظ العبد الرأس وما وعاه من الحواس كالفم واللسان، والعين والأذن.
فحفظه يكون باجتناب أكل الحرام وما فيه شبهة، فإن النبي قال: ((كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)).
وأكل الحرام يمنع قبول الدعاء كما في الحديث: ((إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون .
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟.)) وأما اللسان فإمساكه عن الحرام والشر واجب، وقد كثرت الأحاديث في الأمر بصيانة اللسان، منها:
قوله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
ولما أرشد النبي معاذ بن جبل ودلّه على أبواب الخير كلّها قال: ((ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: أمسك عليك لسانك)). وقال لسفيان الثقفي وقد قال له: ((ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه وقال هذا)).
وإنما كان اللسان بهذه المنزلة من الخطر: لأن به يكون الشرك بالله، والكفر به، وبه يكون الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وبه يكون القول على الله بغير علم، وكل ذلك من الموبقات.
وأما العين فقد أمر المسلم بحفظها عن النظر إلى ما متّع الله به الكفار من متاع الحياة الدنيا.
قال الله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى [طه:131].
وقال تعالى: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [آل عمران:196].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)).
وقد أمر الله تعالى أيضا المؤمنين والمؤمنات بغض البصر عما لا يحل النظر إليه.
قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن [النور:30-31].
وقال لعلي قال: ((يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وعليك الثانية)).
وسئل عن نظر الفجأة؟ فقال: ((اصرف بصرك)).
وقال : ((إياكم والجلوس في الطرقات))! قالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها!.
فقال : ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)). قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
وإنما شدد الإسلام في النظرة لأنها بريد الشهوة ورائد الفجور، ولقد أحسن من قال:
كل الحوادث مبدأها النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقف على الخطر
كم من نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور جاء بالضرر
ومما يجدر التنبيه عليه أنه لا فرق في النظرة بين أن تكون مباشرة أو غير مباشرة، فالنظرة إلى الصورة في الورق أو في المجلة أو على الشاشة حرام كالنظر إلى المرأة.
أما الأذن: فحفظها يكون بترك الاستماع إلى الخنا والفجور، وبترك الاستماع إلى القينات والمعازف، وبترك الاستماع إلى كل ما حرم الله الاستماع إليه، فإن المسلم مخاطب بتغيير المنكر إذا رآه أو سمعه، فإذا استمع الإنسان للمنكر ألفه قلبه، حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
وقد جعل النبي استماع الأذنين زنا كزنا العينين، فقال : ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه)).
ويدخل في حفظ الرأس حفظه عن نظر من لا يجوز له النظر إليه، فرأس المرأة عورة، و((الأذنان من الرأس))، كما قال النبي ، فلا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تكشف رأسها بحضرة الأجانب، ينظرون إليه، فضلا عن أن يمسّوه. كما يدخل في حفظ الرأس حفظ الوجه من تغيير خلق الله، فلا يجوز لرجل أو امرأة الاعتداء على الوجه بتغيير خلق الله.
أما الرجل فقد فطره الله على أن يكون ذا لحية قد تكثف وقد تخف، فلا يجوز للرجل أن يعتدي على لحيته بالإزالة، أو بالأخذ منها أخذا يشبه الإزالة، فقد أمر النبي بإعفاء اللحية وتوفيرها، فقال : ((اعفوا اللحى)). ((وفروا اللحى)). ((أرخوا اللحى)). فمن حلق لحيته فقد خالف أمره ، والله عز وجل يقول: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].(/2)
أما المرأة فقد خلقها الله لا لحية لها، لكنها قد ينبت في وجهها شعر خفيف، وقد يثقل فيرى، وفي هذه الحالة لا يجوز لها إزالة هذا الشعر، فإن فعلت فهي ملعونة على لسان محمد ، فقد لعن النامصة والمتنمصة.
وأما حفظ الفم، كما يدخل فيه حفظه عن الحرام وما فيه شبهة، كما سبق في حفظ الفم، كما يدخل فيه حفظه عن أن يمتلأ بالمباح، فإن الله تعالى يقول: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [الأعراف:31].
وقال النبي : ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)).
وأما ما حواه البطن فالمراد به الفرج، وحفظ الفروج قد أمر الله به فقال: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن [النور:30-31].
ومدح الحافظين فروجهم فقال: والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب:35].
وحفظ الفرج يكون بحفظه من الوطء الحرام، والنظر الحرام، واللمس الحرام، وقد قال : ((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة)) واللمس أشد من النظر.
ومما يحزن القلب تساهل المؤمنات في الذهاب إلى الأطباء الرجال لأتفه الأسباب، وتمكينهم من الكشف على العورة المغلظة والنظر إليها ولمسها من غير ضرورة. فاتقين الله معشر المسلمات، واحفظن فروجكن، واعلمن أن الحياء والإيمان قرناء، إذا رفع أحدهما رفع الآخر. ورحم الله الداية!!.
ويدخل في حفظ ما حوى البطن وحفظ الرجلين عن السعي بها إلى الحرام، وتختص المرأة بحفظ رجليها عن نظر من لا يجوز له النظر إليهما، فرجلا المرأة عورة، ومعنى ذلك أن المرأة التي تلبس جلبابا فوق الكعبين لم تحفظ رجليها ولم تستح من ربها حق الحياء، فكيف بالتي تلبس الملابس التي دون الركبتين أو فوقهما حتى تبدو رجلاها، لا بل فخذاها! إي والله فخذاها، فماذا تستر هذه الجيبة الضيقة القصيرة المفتوحة من الخلف، وإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تهلكنا بما فعل المبطلون.
ومن حقيقة الاستحياء من الرب: ذكر الموت، لأن من ذكر أن عظامه تصير بالية، وأعضاءه متمزقة، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمه ما يلزم من طلب الآجلة، وعمل على إجلال الله وتعظيمه.
ومن أراد الآخرة أي الفوز بنعيمها ترك زينة الدنيا، لأن الآخرة خلقت لحظوظ الأرواح، وقرّة عين الإنسان، والدنيا خلقت لمرافق النفوس، وهما ضرتان، إذا أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، فمن أراد الآخرة وتشبّث بالدنيا كان كمن أراد أن يدخل دار ملك وعلى عاتقه جيفة، والملك بينه وبين الدار، لابد أن يمر عليه، فكيف يكون حينئذ؟ فكذا مريد الآخرة مع تمسكه بالدنيا، فآثروا ما يبقى على ما يفنى.(/3)
فضل الذكر والذاكرين
بقلم : د. جمال المراكبي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وبعد.
فإن الذكر ضد النسيان وضد الغفلة.
لأجل هذا أمر المولى تبارك وتعالى به عباده المؤمنين قال تعالى: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون {البقرة:152}.
وقال تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين {الأعراف:205}.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا *وسبحوه بكرة وأصيلا {الأحزاب:41-42}.
وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا {الأحزاب:21}.
وقال: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما {الأحزاب:35}.
والذاكرون الله كثيرًا هم الذين يذكرون الله في كل حال كما قال ربنا: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار {آل عمران:191}.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه". {رواه مسلم}
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان فقال: سيروا هذا جمدان، سبق المفردون.
قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات". {رواه مسلم}
قال ابن عباس: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوًا وعشيًا أي صباحًا ومساءً، وفي المضاجع أي عند النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله أي في دخوله وخروجه والمعنى أنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم.
وقال ابن الصلاح: إذا واظب المسلم على الأذكار المأثورة الثابتة صباحا ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة ليلا ونهارًا كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وفي الحديث الذي رواه الأربعة إلا الترمذي "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعا، كتبا في الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" ذكر ذلك النووي في الأذكار وروى ابن ماجه عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله عز وجل". {وصححه الألباني}
فما أعظم أخي المسلم وما أيسر أن تكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وأن يبقى لسانك وقلبك وظاهرك وباطنك على هذا الذكر، فلا تغفل عن الله طرفة عين.
وقد ورد في فضل الذكر آيات وأحاديث كثيرة يطول المقال بذكرها منها ما رواه ابن ماجه والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟
قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله".
حضور الملائكة مجالس الذكر
والملائكة يتتبعون الذاكرين ويحرصون على مجالس الذكر كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارةً فُضلا يبتغون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب. قال: فكيف لو رأو جنتي؟
قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟
قالوا: من نارك يا رب.
قال: وهل رأوا ناري؟
قالوا: لا.
قال: فكيف لو رأوا ناري؟
قالوا: ويستغفرونك.
قال: فيقول: قد غفرتُ لهم، وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا.
قال: يقولون: رب فيهم فلانٌ عبدٌ خطاء إنما مَرَّ فجلس معهم.
قال: فيقول: وله غفرت، هم القومُ لا يشقى بهم جليسهم. {رواه مسلم}.
فتأمل أخي المسلم هذه المحاورة بين الله عز وجل وبين الملائكة، وفكر في قول الله تعالى: فاذكروني أذكركم وفي قوله في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". {رواه البخاري}
وقوله: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه". {صحيح ابن ماجه}(/1)
وسل نفسك هل أنت مع ربك، وهل تحب أن يكون الله معك، وأن يذكرك في الملأ الأعلى من الملائكة، أم تريد أن تعرض عن الله وأن ترضى بملازمة الشياطين ومصاحبتهم أعاذنا الله منهم.
ذكر الله عز وجل عصمة من الشيطان
فيا من يشكو من مس الشيطان ومن وسوسة الشيطان أين أنت من ذكر الله ومعية الرحمن والله تبارك وتعالى يقول: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين *وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم *إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون {الأعراف:199-201} ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون *وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين *وأعوذ بك رب أن يحضرون {المؤمنون:96-98}.
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم {فصلت:34-36}.
فهذه مواضع ثلاثة في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة يرشد فيها المولى تبارك وتعالى إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف وبالتي هي أحسن فإن هذا يُصلحه ويكفه عما هو فيه من التمرد بإذن الله تعالى حتى يصبح كأنه ولي حميم.
ثم يرشد المولى تبارك وتعالى إلى الاستعاذة به من العدو الأصيل وهو الشيطان الرجيم إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير {فاطر:6}.
فإنه لا يكفه عنك الإحسان لإنه يريد هلاكك بالكلية وهو عدو لك ولأبويك من قبلك، وكل همه أن يحول بينك وبين الجنة كما فعل مع أبويك من قبل: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين {الأعراف:15-17}.
ولهذا أرشد عباده إلى الاستعاذة بالله منه فهو سبحانه الذي يرد كيده، ويكف شره، ويعفو عن زلات عباده ويتوب عليهم كما تاب على الأبوين حين زلا قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين {الأعراف:23} فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم {البقرة:37}
وذكر الله عز وجل في الجملة يحمي من الشيطان الرجيم، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد عن الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فذكر أمرهم بالتوحيد والصلاة والصوم والصدقة ثم ذكر الخامسة وهي ذكر الله عز وجل فقال: "وآمركم أن تذكروا الله عز وجل، فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله عز وجل". الحديث
قال ابن القيم: فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه عن ذكر الله عز وجل وأن لا يزال لهجًا بذكره سبحانه، فإن العبد لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه عدوه إلا من باب الغفلة، فهو يرصد العبد ويتربص به فإذا غفل العبد وثب عليه وافترسه، فإذا ذكر العبد ربه انخنس عدو الله وتصاغر حتى يكون كالذباب ولهذا سماه المولى تبارك وتعالى الوسواس الخناس لأنه يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله تعالى خنس وكف وانقبض وتصاغر، ولا يتسلط إلا على من عجز عن ذكر ربه من أولياء الشيطان الضالين المضلين.
وقد روى أحمد في مسنده عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنتُ رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فعثر الحمار فقلت: تعس الشيطان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم في نفسه وقال: صرعته بقوتي.
فإذا قلت: بسم الله، تصاغرت إليه نفسه حتى تكون أصغر من الذباب". {شرح السنة ج12 ص354 ح3384}
وقد روى عن أبي هريرة أنه قال: إن الشيطان إذا لُعن ضحك وإذا تُعوذ منه هرب.
وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس. {الوابل الصيب لابن القيم}
فالغفلة عن ذكر الله عز وجل موات للقلوب.
"ومثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت". {متفق عليه} والبيت الذي لا يصلي فيه أهله كالقبر الذي يسكنه الأموات، وفي الحديث الصحيح "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا". {متفق عليه}، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد يضرب على مكان كل عقدة، عليك ليلٌ طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".(/2)
وإن من الموات أن يترك بعض الناس اللجوء إلى الله تعالى ويلجأون إلى ما يضرهم ولا ينفعهم من السحرة المشعوذين والكهنة والعرافيين، وهذا أعظم ما يطمع فيه الشيطان من ابن آدم أن يوقعه في الشرك ويحول بينه وبين التوكل على الله وحده، وينسون قول الله تعالى وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون {البقرة:102}.
وإن من العجب العجاب أن يلجأ بعض المسلمين إلى طلب الرقية ممن يزعمون أنهم يعالجون بالقرآن الكريم والرقية الشرعية مع أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي علمنا الرقية الشرعية حذرنا من أن نطلبها من أحد أو نسأل أحدًا وهو الذي يقول: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". {الترمذي وأحمد}
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب من صفوة هذه الأمة "هم الذين لا يسترقون" أي لا يطلبون الرقية من أحد من الناس مع أن الرقية مشروعة ونافعة بإذن الله تعالى ولكنها مع ذلك لا يطلبها المؤمنون المتوكلون على الله عز وجل فهم "لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
واعلم أخي المسلم أن الغفلة عن ذكر الله تورث قسوة القلب، فيصدأ القلب، ويغلفه الران، حتى يصبح الغافل على شفا جرف هار ينهار به في أتون النفاق المفضي إلى الدرك الأسفل من النار، ولا ينقذنا من هذه الهاوية إلا الله عز وجل نحتمي به ونعتصم به من الضلالة.
وذكر الله عز وجل أمان من النفاق، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا كما قال ربنا عز وجل.
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا {النساء:142}.
لأجل هذا ختم المولى تبارك وتعالى سورة "المنافقون" بالتحذير من الغفلة عن ذكر الله عز وجل مخالفةً لسبيل المنافقين فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون *وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين *ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون {المنافقون:9-11}.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/3)
فضل الشهادة أسامة بن عبد الله خياط ...
ملخص الخطبة ...
1- سمو الغاية يستلزم سمو البذل والثمن. 2- بذل النفس أعظم ثمن للجنة. 3- منزلة الشهيد وفضل الشهادة. 4- نماذج من شهداء الصحابة. 5- وللشهادة موكب في عصرنا هذا. 6- دعوة لنصرة إخواننا في فلسطين والتحذير من خذلانهم. 7- تضليل الإعلام الغربي وتشويهه لحقيقة ما يصفه إخواننا في فلسطين. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله خير زاد يصحب المرء في حياته الدنيا وفي سيره إلى الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون: إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها, ولا ريب أن سمو الأهداف وشرف المقاصد ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقي منازلها, وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم, فإن الذود عن حياض هذا الدين والذب عن حوذته والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته يتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان, ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعددة, لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس, وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الله ونصر دين الله, وذلك هو المراد لمصطلح الشهادة والاستشهاد.
ولقد جهد رسول الله كل جهد, واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم, وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ثم في نفوس أمته من بعدهم, سالكًا في ذلك مسلكين:
أحدهما: إفصاح بين وإيضاح جلي لما يعتمد في ذات نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة حمله على التمني أن يرزق بها مراتٍ متعددة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثم أغزو فأقتل, ثم أغزو فأقتل)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, وإنها لأمنية يا لها من أمنية كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق, والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
والمسلك الثاني في ترسيخ مفهوم الشهادة وإحيائه في القلوب وبعثه في النفوس ما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السنة الشريفة من بيان محكم وإيضاح دقيق لفضل الشهادة ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر, في الطليعة من ذلك بيان صفة حياة الشهداء عند ربهم, فعن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون , فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله فقال: ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل)), الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
ومنها أن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دُفعة ـ والدفقة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدم وغيره ـ ويرى مقعده من الجنة, ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها, ويُزوج اثنتين وسبعين من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقاربه ـ وفي لفظ ـ من أهل بيته)) أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح.
ومنها أنه يخفف عنه مس الموت حتى إنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة, وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)), ومنها أن باب الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها, فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل لم أرَ قط أحسن منها قالا لي: أما هذه فدار الشهداء)).
ومن ألوان الكرامة أيضًا أن الملائكة تظله بأجنحتها؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "جيء بأبي إلى النبي ـ أي شهيدًا يوم أحد ـ قد مُثل به فوضع بين يديه فذهبتُ أكشف عن وجهه فنهاني قومي فسمع, أي النبي , فسمع النبي صوت صائحة فقال: ((لما تبكين؟ فلا تبكي مازالت الملائكة تظله بأجنحتها)).
ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة هو الذي يحب أن يرجع إلى الدنيا كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا, وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)), وفي رواية: ((لما يرى من فضل الشهادة)) أخرجه البخاري ومسلم.(/1)
وليس عجبًا إذًا أن يجد هذا البيان النبوي الرفيع صدًا ضخمًا وأثرًا بالغًا وسلطانًا قويًا على نفوس تلك الصفوة المختارة, والصحبة التقية من الصحابة الكرام الأعلام, فتوطدت في نفوسهم أعمق معاني الشهادة, وترسخت في قلوبهم أسمى درجات الحب لها والولع بها والعمل الدؤوب لبلوغ مقامها, والتنعم برياضها.
وفي صحيح السنة من أخبار هذا الشوق الظامئ, والحب الطهور الذي أكرم الله به هذه الكوكبة المؤمنة والطليعة الراشدة, ما لا يحده حد, ولا يستوعبه بيان, فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: انطق رسول الله وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون فقال رسول الله : ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونكم)), فدنا المشركون فقال رسول الله : ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)), فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله إلى جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم)), قال: بخ بخ, قال: ((ما يحملك على قول بخ بخ)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها, فقال: ((فإنك من أهلها)), فأخرج تمرات من قرنه ـ وهو جعبة النبال ـ فجعل يأكل منهن, ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل.
فانظروا رحمكم الله كيف استبطأ رضي الله عنه الشهادة لتأخرها عنه دقائق معدودات, ولقد كانت كلمات بعضهم عند الشهادة صرخات مدوية زلزلت قلوب قاتليهم, وحملتهم على الدخول في دين الله, هذا حرام بن ملحان رضي الله عنه أحد القراء الذين بعث بهم رسول الله يدعون قومًا من المشركين إلى الإسلام, ويقرأون عليهم القرآن, فغدرت بهم رعل وذكون من قبائل العرب وقتلوهم عند بئر معونة, فهذا حرام يصيح عند الاستشهاد في وجه قاتله: فزت ورب الكعبة, وأدبر قاتله من المشركين بعد إسلامه وسأل عن معنى ذلك فقيل له إنه قصد الشهادة فكانت سببًا في إسلام هذا القاتل, أخرج هذه القصة البخاري في صحيحه.
وكان بعضهم يأتيه من روح الجنة وريحها ما لا يملك معه إلا شدة الإقبال على القتال وعلى الاستبسال فيه, فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء, يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين, ثم تقدم, واستقبله سعد بن معارذ رضي الله عنه فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول ما صنع, قال أنس: ووجدنا به بضعًا وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح, أو رمية بسهم, وجيء به وقد مُثل به فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه أخرجه البخاري ومسلم.
ثم استمعوا رعاكم الله إلى خبر هذا الأعرابي المسلم كيف صدق الله في طلب الشهادة فصدقه الله وبلّغه ما أراد, فقد أخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي بعض أصحابه فلما كانت غزاة غنم النبي فقسم وقسم له ـ للأعرابي ـ فأعطى أصحابه ما قسم له, وكان ـ يعني الأعرابي ـ يرعى ظهرهم يعني إبلهم, وما يركبون من دواب, فلما جاء دفعوه إليه, فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي فأخذه فجاء به إلى النبي فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك)), قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك, ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة, فقال النبي : ((إن تصدق الله يصدقك)), فلبثوا قليلاً ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به النبي يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي : أهو هو؟ قالوا: نعم, قال: ((صدق الله فصدقه)), ثم كفنه النبي في جبته, ثم قدمه فصلى عليه, وكان مما ظهر من صلاته : ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا, أنا شهيد على ذلك)).(/2)
وأي شهادة يا عباد الله أرفع وأسمى وأصدق وأخلص من هذه الشهادة الكريمة العظيمة, وكم في حياة السلف أيها الأخوة من صور هذا الحب العاطر والشوق الظامئ إلى الظفر بمقام الشهادة, ياله من مقام, وهكذا مضت على بذل الشهادة المضئ كواكب متتابعة وقوافل متعاقبة من الشهداء الأبرار الذين بدمائهم الزكية أروع صحائف التضحية والبذل وأرفع أمثلة العطاء والجود, إنه الجود بالنفس, وهو أقصى غاية الجود, فهاهم شهداء المسلمين في البوسنة والهرسك, وفي كوسوفا, وفي الشيشان, ومن قبل في أفغانستان, وفي غيرها من ديار الإسلام, وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا, نرى ويرى العالم كله معنا هذه الصور العظيمة المتجددة من صور الانتفاضة والشهادة ـ إن شاء الله ـ على أرض بيت المقدس, وعلى كل أرض فلسطين المسلمة الصابرة, إننا في حاجة يا عباد الله إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشهادة وتبعث في روحها حب الاستشهاد من جديد سيرًا على درب السلف رضوان الله عليهم, ذلك الدرب الذي سلكه من قبلهم رسول الله والأنبياء من قبله نصرًا لدين الله ودحرًا لأعداء الله.
فيا أيها المسلمون في كل أرجاء الدنيا: النصرة النصرة, انصروا إخوانكم في بلاد الأقصى؛ فإن نصرهم فرض متعين عليكم فلا تخذلوهم, واسمعوا لقول نبيكم صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول: ((ما من مسلم يخذل امرئً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته, وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))حد ينصري أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه بإسناد حسن.
ويا أهل العلم, وقادة الفكر والرأي في الأمة, جردوا أقلامكم وابسطوا ألسنتكم في إحياء معنى الشهادة والاستشهاد وتعميق مفهومها في النفوس, وترسيخه في سويداء القلوب بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية, وإنما رأيناه في هذه البلاد المباركة, بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله من صور البذل السخي, والعطاء المتدفق المنبعث من مختلف المستويات, قادة وعلماء ومسئولين, رجالاً ونساءًا, شبابًا وشيوخًا وأطفال, كل ذلك مما يفرح به المؤمنون, وَيشْرَق به الكافرون الحاقدون من اليهود الطاغين, ومن شايعهم وأيدهم وناصرهم وناضل دونهم من المستكبرين المتجبرين, وهكذا ما وقع في بلاد المسلمين قاطبة من صور النصرة والمساندة لإخوانهم في فلسطين فجزى الله خيرًا كل من بذل من نفسه وأو ماله لله ولنصر إخوانه في الله, ونسأله سبحانه أن تواصل هذه المسيرة المباركة طريقها في البذل والعطاء والفداء, فإلى المزيد, إلى المزيد, فالبدار البدار إلى جنة عرضها السموات والأرض, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم , نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله , أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ...
...
الخطبة الثانية ...
الحمد لله الذي جعل الشهادة بابًا من أعظم أبواب الجنة, دار السلام, أحمده سبحانه, حث الأمة على المضي في درب الشهادة في سبيل الملك العلام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله, خير من ضرب الأمثال في حب الشهادة, وفي بذل التضحيات العظام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:(/3)
فيا عباد الله: لقد دأبت بعض أجهزة الإعلام الأجنبية على تسمية ما يصدر من إخواننا المسلمين الصابرين في بيت المقدس, وفي كل فلسطين من تصدٍ لعدوان اليهود ـ لعنهم الله ـ ومن تحدٍ لطغيانهم وبغيهم وتجبرهم, دأبت هذه الأجهزة الإعلامية الأجنبية على تسمية هذا التحدي والإقبال والاستبسال وعلى وصفه بأنه أعمال عنف, وابتنت عليه الدعوة إلى وقف أعمال العنف وإلى الاستماتة في محاولة إيقافها, وهذا يا عباد الله من تحريف الكلم عن مواضعه, وهؤلاء اليهود المجرمون هم أصحاب هذه الصفة المقبوحة التي سجلها عليهم كتاب الله, وهو أيضًا من تسمية الأشياء بغير أسمائها خداعًا, وتضليلاً منهم ومن أشياعهم من قوى الاستكبار والطغيان, فإن ما يقوم به إخوانكم المسلمون في فلسطين لا يسمى أعمال عنف ـ كما زعموا ـ بل انتفاضة مباركة لصد العدوان وقمع الباطل ودحر الطغيان, وهذا حق مشروع في جميع الشرائع الإلهية وفي كل الأعراف والقوانين الدولية, لا يملك إنكاره ولا دفعه إلا جاهل مكابر, أو مغرض خبيث, فكيف أيها المسلمون تسمى هذه الانتفاضة المباركة أعمال عنف, وإذا سلمنا جدلاً بأنها أعمال عنف, فمن هو الذي أشعل نارها وأذكى أوارها وألهب جذوتها أول مرة؟ ألم يكن أحد زعمائهم, ألم يكن هذا المشعل المفسد هو أحد زعمائهم حين اقتحم بجنوده حرمة المسجد الأقصى المبارك, وحين أطلق جنوده النار على الركع السجود, إن الحق بيِّن, وكيف يساوى بين الجلاد والضحية, وبين الظالم والمظلوم وبين المعتدي والمعتدى عليه, إن الحق يا عباد الله بيِّن, والحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار, لكنه الخداع والتضليل, والمغالطة والمكابرة يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا , اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد, وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وعن سائر الآل والصحابة والتابعين, ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون , فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
موقع المنبر ...(/4)
فضل الشهادة
1478
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
23/7/1421
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- سمو الغاية يستلزم سمو البذل والثمن. 2- بذل النفس أعظم ثمن للجنة. 3- منزلة الشهيد وفضل الشهادة. 4- نماذج من شهداء الصحابة. 5- وللشهادة موكب في عصرنا هذا. 6- دعوة لنصرة إخواننا في فلسطين والتحذير من خذلانهم. 7- تضليل الإعلام الغربي وتشويهه لحقيقة ما يصفه إخواننا في فلسطين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله خير زاد يصحب المرء في حياته الدنيا وفي سيره إلى الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون: إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها, ولا ريب أن سمو الأهداف وشرف المقاصد ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقي منازلها, وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم, فإن الذود عن حياض هذا لدين والذب عن حوذته والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته يتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان, ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعددة, لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس, وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الله ونصر دين الله, وذلك هو المراد لمصطلح الشهادة والاستشهاد.
ولقد جهد رسول الله كل جهد, واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم, وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ثم في نفوس أمته من بعدهم, سالكًا في ذلك مسلكين:
أحدهما: إفصاح بين وإيضاح جلي لما يعتمد في ذات نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة حمله على التمني أن يرزق بها مراتٍ متعددة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثم أغزو فأقتل, ثم أغزو فأقتل)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, وإنها لأمنية يا لها من أمنية كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق, والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
والمسلك الثاني في ترسيخ مفهزم الشهادة وإحيائه في القلوب وبعثه في النفوس ما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السنة الشريفة من بيان محكم وإيضاح دقيق لفضل الشهادة ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر, في الطليعة من ذلك بيان صفة حياة الشهداء عند ربهم, فعن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون, فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله فقال: ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل)), الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
ومنها أن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دُفعة ـ والدفقة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدم وغيره ـ ويرى مقعده من الجنة, ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها, ويُزوج اثنتين وسبعين من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقاربه ـ وفي لفظ ـ من أهل بيته)) أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح.
ومنها أنه يخفف عنه مس الموت حتى إنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة, وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)), ومنها أن باب الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها, فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل لم أرَ قط أحسن منها قالا لي: أما هذه فدار الشهداء)).
ومن ألوان الكرامة أيضًا أن الملائكة تظله بأجنحتها؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "جيء بأبي إلى النبي ـ أي شهيدًا يوم أحد ـ قد مُثل به فوضع بين يديه فذهبتُ أكشف عن وجهه فنهاني قومي فسمع, أي النبي , فسمع النبي صوت صائحة فقال: ((لما تبكين؟ فلا تبكي مازالت الملائكة تظله بأجنحتها)).
ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة هو الذي يحب أن يرجع إلى الدنيا كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا, وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)), وفي رواية: ((لما يرى من فضل الشهادة)) أخرجه البخاري ومسلم.(/1)
وليس عجبًا إذًا أن يجد هذا البيان النبوي الرفيع صدًا ضخمًا وأثرًا بالغًا وسلطانًا قويًا على نفوس تلك الصفوة المختارة, والصحبة التقية من الصحابة الكرام الأعلام, فتوطدت في نفوسهم أعمق معاني الشهادة, وترسخت في قلوبهم أسمى درجات الحب لها والولع بها والعمل الدؤوب لبلوغ مقامها, والتنعم برياضها.
وفي صحيح السنة من أخبار هذا الشوق الظامئ, والحب الطهور الذي أكرم الله به هذه الكوكبة المؤمنة والطليعة الراشدة, ما لا يحده حد, ولا يستوعبه بيان, فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: انطق رسول الله وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون فقال رسول الله : ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونكم)), فدنا المشركون فقال رسول الله : ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)), فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله إلى جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم)), قال: بخ بخ, قال: ((ما يحملك على قول بخ بخ)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها, فقال: ((فإنك من أهلها)), فأخرج تمرات من قرنه ـ وهو جعبة النبال ـ فجعل يأكل منهن, ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل.
فانظروا رحمكم الله كيف استبطأ رضي الله عنه الشهادة لتأخرها عنه دقائق معدودات, ولقد كانت كلمات بعضهم عند الشهادة صرخات مدوية زلزلت قلوب قاتليهم, وحملتهم على الدخول في دين الله, هذا حرام بن ملحان رضي الله عنه أحد القراء الذين بعث بهم رسول الله يدعون قومًا من المشركين إلى الإسلام, ويقرأون عليهم القرآن, فغدرت بهم رعل وذكون من قبائل العرب وقتلوهم عند بئر معونة, فهذا حرام يصيح عند الاستشهاد في وجه قاتله: فزت ورب الكعبة, وأدبر قاتله من المشركين بعد إسلامه وسأل عن معنى ذلك فقيل له إنه قصد الشهادة فكانت سببًا في إسلام هذا القاتل, أخرج هذه القصة البخاري في صحيحه.
وكان بعضهم يأتيه من روح الجنة وريحها ما لا يملك معه إلا شدة الإقبال على القتال وعلى الاستبسال فيه, فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء, يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين, ثم تقدم, واستقبله سعد بن معارذ رضي الله عنه فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول ما صنع, قال أنس: ووجدنا به بضعًا وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح, أو رمية بسهم, وجيء به وقد مُثل به فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه أخرجه البخاري ومسلم.
ثم استمعوا رعاكم الله إلى خبر هذا الأعرابي المسلم كيف صدق الله في طلب الشهادة فصدقه الله وبلّغه ما أراد, فقد أخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي بعض أصحابه فلما كانت غزاة غنم النبي فقسم وقسم له ـ للأعرابي ـ فأعطى أصحابه ما قسم له, وكان ـ يعني الأعرابي ـ يرعى ظهرهم يعني إبلهم, وما يركبون من دواب, فلما جاء دفعوه إليه, فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي فأخذه فجاء به إلى النبي فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك)), قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك, ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة, فقال النبي : ((إن تصدق الله يصدقك)), فلبثوا قليلاً ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به النبي يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي : أهو هو؟ قالوا: نعم, قال: ((صدق الله فصدقه)), ثم كفنه النبي في جبته, ثم قدمه فصلى عليه, وكان مما ظهر من صلاته : ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا, أنا شهيد على ذلك)).(/2)
وأي شهادة يا عباد الله أرفع وأسمى وأصدق وأخلص من هذه الشهادة الكريمة العظيمة, وكم في حياة السلف أيها الأخوة من صور هذا الحب العاطر والشوق الظامئ إلى الظفر بمقام الشهادة, ياله من مقام, وهكذا مضت على بذل الشهادة المضئ كواكب متتابعة وقوافل متعاقبة من الشهداء الأبرار الذين بدمائهم الزكية أروع صحائف التضحية والبذل وأرفع أمثلة العطاء والجود, إنه الجود بالنفس, وهو أقصى غاية الجود, فهاهم شهداء المسلمين في البوسنة والهرسك, وفي كوسوفا, وفي الشيشان, ومن قبل في أفغانستان, وفي غيرها من ديار الإسلام, وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا, نرى ويرى العالم كله معنا هذه الصور العظيمة المتجددة من صور الانتفاضة والشهادة ـ إن شاء الله ـ على أرض بيت المقدس, وعلى كل أرض فلسطين المسلمة الصابرة, إننا في حاجة يا عباد الله إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشهادة وتبعث في روحها حب الاستشهاد من جديد سيرًا على درب السلف رضوان الله عليهم, ذلك الدرب الذي سلكه من قبلهم رسول الله والأنبياء من قبله نصرًا لدين الله ودحرًا لأعداء الله.
فيا أيها المسلمون في كل أرجاء الدنيا: النصرة النصرة, انصروا إخوانكم في بلاد الأقصى؛ فإن نصرهم فرض متعين عليكم فلا تخذلوهم, واسمعوا لقول نبيكم صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول: ((ما من مسلم يخذل امرئً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته, وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))حد ينصري أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه بإسناد حسن.
ويا أهل العلم, وقادة الفكر والرأي في الأمة, جردوا أقلامكم وابسطوا ألسنتكم في إحياء معنى الشهادة والاستشهاد وتعميق مفهومها في النفوس, وترسيخه في سويداء القلوب بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية, وإنما رأيناه في هذه البلاد المباركة, بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله من صور البذل السخي, والعطاء المتدفق المنبعث من مختلف المستويات, قادة وعلماء ومسئولين, رجالاً ونساءًا, شبابًا وشيوخًا وأطفال, كل ذلك مما يفرح به المؤمنون, وَيشْرَق به الكافرون الحاقدون من اليهود الطاغين, ومن شايعهم وأيدهم وناصرهم وناضل دونهم من المستكبرين المتجبرين, وهكذا ما وقع في بلاد المسلمين قاطبة من صور النصرة والمساندة لإخوانهم في فلسطين فجزى الله خيرًا كل من بذل من نفسه وأو ماله لله ولنصر إخوانه في الله, ونسأله سبحانه أن تواصل هذه المسيرة المباركة طريقها في البذل والعطاء والفداء, فإلى المزيد, إلى المزيد, فالبدار البدار إلى جنة عرضها السموات والأرض, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم, نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله , أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الشهادة بابًا من أعظم أبواب الجنة, دار السلام, أحمده سبحانه, حث الأمة على المضي في درب الشهادة في سبيل الملك العلام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله, خير من ضرب الأمثال في حب الشهادة, وفي بذل التضحيات العظام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:(/3)
فيا عباد الله: لقد ذأبت بعض أجهزة الإعلام الأجنبية على تسمية ما يصدر من إخواننا المسلمين الصابرين في بيت المقدس, وفي كل فلسطين من تصدٍ لعدوان اليهود ـ لعنهم الله ـ ومن تحدٍ لطغيانهم وبغيهم وتجبرهم, دأبت هذه الأجهزة الإعلامية الأجنبية على تسمية هذا التحدي والإقبال والاستبسال وعلى وصفه بأنه أعمال عنف, وابتنت عليه الدعوة إلى وقف أعمال العنف وإلى الاستماتة في محاولة إيقافها, وهذا يا عباد الله من تحريف الكلم عن مواضعه, وهؤلاء اليهود المجرمون هم أصحاب هذه الصفة المقبوحة التي سجلها عليهم كتاب الله, وهو أيضًا من تسمية الأشياء بغير أسمائها خداعًا, وتضليلاً منهم ومن أشياعهم من قوى الاستكبار والطغيان, فإن ما يقوم به إخوانكم المسلمون في فلسطين لا يسمى أعمال عنف ـ كما زعموا ـ بل انتفاضة مباركة لصد العدوان وقمع الباطل ودحر الطغيان, وهذا حق مشروع في جميع الشرائع الإلهية وفي كل الأعراف والقوانين الدولية, لا يملك إنكاره ولا دفعه إلا جاهل مكابر, أو مغرض خبيث, فكيف أيها المسلمون تسمى هذه الانتفاضة المباركة أعمال عنف, وإذا سلمنا جدلاً بأنها أعمال عنف, فمن هو الذي أشعل نارها وأذكى أوارها وألهب جذوتها أول مرة؟ ألم يكن أحد زعمائهم, ألم يكن هذا المشعل المفسد هو أحد زعمائهم حين اقتحم بجنوده حرمة المسجد الأقصى المبارك, وحين أطلق جنوده النار على الركع السجود, إن الحق بيِّن, وكيف يساوى بين الجلاد والضحية, وبين الظالم والمظلوم وبين المعتدي والمعتدى عليه, إن الحق يا عباد الله بيِّن, والحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار, لكنه الخداع والتضليل, والمغالطة والمكابرة يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد, وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وعن سائر الآل والصحابة والتابعين, ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.(/4)
فضل الشهر المحرم ... ... ...
عبد الله فهد السلوم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- فضل الصيام في شهر المحرّم وفضل صيام عاشوراء ومخالفة اليهود في صومه بأن يُصام ويُصامَ يومٌ قبله 2- الحث على الاجتهاد في الصيام في هذا الشهر والتزوّد من الخير واستحضار نصر الله لأوليائه كما نصر موسى عليه السلام على فرعون وقومه في يوم عاشوراء 3- الحث على المداومة على الأعمال الصالحة لأن الأعمال بالخواتيم 4- الحساب الشرعي العربي مبنيٌ على الشهور الهلالية وأن عمر رضي الله عنه أرّخ بالهجرة وجعل المحرّم أول شهور السنة 5- الحث على تقوى الله والحرص على طاعته ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أيها الإخوة: أنتم في شهر الله المحرم أحد الأشهر الأربعة الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وهذا الشهر فيه من الفضائل ما ليس في غيره ومن ذلك فضل الصيام فيه فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) ومن خصائص هذا الشهر أن فيه فضيلة صيام عاشوراء وهو العاشر من محرم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره) وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا:هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله : فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله وأمر بصيامه)) وعن سلمة بن الأكوع أن النبي : ((أمر رجلاً من أسلم أن أذن في الناس من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء)) وعن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي عن صيام عاشوراء فقال: ((احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [مسلم]. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر يعني عاشوراء)) [مسلم]، مخالفة لليهود، فاجتهد أيها المسلم في صيام التاسع مع العاشر وإن لم تفعل فصم العاشر في هذا الشهر الحرام واجتهد فيه بصيام غير عاشوراء كالإثنين والخميس وأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وتزود من الخيرات لتقدم لنفسك زاداً تجده غداً أمامك والله يقول: فمن يعمل مثقال ذرة خير يره .
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن عليك الليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم ساكن عند الصباح بقصره وعند المساء قد كان من ساكني القبر
واعلموا يا عباد الله أن شهركم هذا شهر نصر وعز لنبي الله موسى وقومه على فرعون الطاغية المتجبر على رغم كثرة عددهم وعدتهم وخيلائهم فإن الله ينصر أولياءه الداعين إليه ولا يخذلهم ويجيب رجاءهم قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فتفطن أيها المسلم في هذا الشهر وأنت تصلي وتصوم لله وتسارع في الخيرات صائماً مخلصاً تفطن أنك منصور وأن الله راض عنك يحفظك ويؤيدك واستشعر عندما تكون في طاعة ربك فإن الله يحبك وسيجزيك أحسن الجزاء لأن الله لا يوفق لطاعته إلا من يحب ولا يهدي إليه إلا من ينيب، فكم حرم من الخلق من حرم من نعمة الصلاة والزكاة والصيام والحج وأنت فرض الله عليك بتوفيقه فوهبك هذا الخير من العبادات التي أنت فيها وتأتي إليها مسرعاً حريصاً على مرضاة ربك فافرح بهذا الخير واحرص عليه ولا تتهاون فيه وخف عليه من الحبوط والرد والنقصان وخف من سوء الخاتمة واحرص على حسن الختام فإن الأعمال بالخواتيم، قال رسول الله : ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) متفق عليه، وقال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامه فلا تظلم نفسُ شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وإتباع سنة نبيه أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...(/1)
الحمد لله على إحسانه ونشكره على جوده وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، عباد الله إن من رحمة الله أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنياً على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رؤي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهي الشهر الماضي فابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لامن زوالها فأول الشهر يدخل بغروب الشمس، ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث جمع الناس سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي وقال بعضهم: يبدأ من بعثته وقيل: يبدأ من هجرته وقيل: من وفاته، ولكنه رجح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين وفيها تكوين أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون، ثم شاور عمر الصحابة من أي شهر يبدأون السنة فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجراً إلى المدينة وقال بعضهم: من رمضان، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة ويلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولوية شهر المحرم، عباد الله إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر في معرفة التاريخ اليومي الذي يبدأ من الهجرة (هجرة النبي من مكة إلى المدينة) وأن علينا جميعاً فرادى وأمة مسلمة أن نكون أمة متميزة بأخلاقها ورأيها ومعاملاتها تميزاً عن سائر الأمم الكافرة غير المهتدية بهدي الإسلام الطاهر النقي لنكون أمة عدل وخير وأمة صدق مع الله في كل تصرفاتنا ليحصل لنا صلاح أحوالنا مع أنفسنا فنعيش الرضى والطمأنينة والسكينة وإنشراح الصدر وقرة العين بالإيمان الصادق ويحصل لنا صلاح أحوالنا مع الناس جميعاً، لأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن توكل على الله كفاه ويحصل لنا النصر على الأعداء المقبوحين المرذولين فتعيش الأمة حياة العزة والإباء ويتحقق قول الله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله فإن الخيرية والرفعة والسؤدد والتوفيق من الله يحصل بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فجددوا أيها الإخوة المسلمون إيمانكم في بداية عامكم هذا وتوبوا إلى ربكم وصلوا قلوبكم فيه تفوزوا بجنته ورضوانه في الدنيا والآخرة فإن الله يحب المستجيبين لأمره وينصرهم ويرحمهم ويشرح صدورهم ويقوي قلوبهم بالتوكل عليه قال تعالى: وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . ... ... ...
... ... ...
موقع المنبر ... ... ...(/2)
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما
بعد:
فإن للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم منزلة كبيرة في قلب كل مسلم، لذا سوف نتحدث بإيجاز
عن الأحكام الفقهية المتعلقة بها، فنقول وبالله التوفيق:
قال اللَّه تعالى في
كتابه العزيز: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا
أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
[الأحزاب: 56].
قال ابن كثير رحمه اللَّه: «المقصود من هذه الآية أن اللَّه
أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند
الملائكة، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة
والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالَمَيْنِ، العلوي والسفلي
جميعًا».
[تفسير ابن كثير جـ3 ص514]
فائدة هامة: لماذا خُصَّ المؤمنون بالسلام
دون اللَّه والملائكة؟
الجواب: لأن السلام هو تسليم النبي صلى الله عليه وسلم مما يؤذيه، فلما
جاءت هذه الآية عقيب ذِكْر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم : وما كان لكم أن تؤذوا
رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن
ذلكم كان عند الله عظيما [الأحزاب: 53]، والأذية إنما هي من
البشر، فناسب التخصيص بهم والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكره بعده».
[الفتوحات
الإلهية للعجيلي جـ3 ص454]
معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
قال أبو العالية: «صلاة
اللَّه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء (أي أن الملائكة تطلب
من اللَّه الزيادة من ثنائه على النبي).
وقال ابن عباس: «يصلون: يَُبِّركون»
(أي يدعون له بالبركة) البخاري - كتاب التفسير - باب 10).
قال الحليمي: معنى
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صلِّ على محمدٍ: عظِّم
محمدًا.
قال ابن حجر: المراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه، وإبقاء
شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام
المحمود.
وقال ابن حجر أيضًا: معنى صلاة اللَّه على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه،
وصلاة الملائكة وغيرهم: طلب ذلك له من اللَّه تعالى، والمراد طلب الزيادة، لا
طلب أصل الصلاة. [فتح الباري جـ11 ص16]
وقال ابن القيم: معنى صلاة اللَّه على
النبي صلى الله عليه وسلم : الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله وحرمته،
وصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم : تعني أننا نطلب من اللَّه الزيادة في ثنائه على النبي صلى الله عليه وسلم
وإظهار فضله وشرفه وتكريمه وتقريبه له.
[جلاء الأفهام ص261، 262]
معنى التسليم
على النبي صلى الله عليه وسلم :
التسليم: معناه السلام، الذي هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، ومعنى
التسليم أيضًا: لا خلوت يا محمد من الخيرات والبركات، وسلمت من المكاره والآفات
والنقائص، فعندما نقول: اللهم سَلِّم على محمد، فإنها تعني: اللهم اكتب لمحمد
في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص، فيزداد على مَرِّ الأيام عُلوًا،
وأمته تكاثرًا، وذِكْره ارتفاعًا».
[فضل الصلاة على النبي للشيخ عبد المحسن
العبَّاد ص88]
حُكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم
بالغ عاقل، مرة واحدة في العمر، وما عدا ذلك فهي سنة مستحبة.
[الشفا للقاضي
عياض جـ2 ص62]
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث
كثيرة، سوف نذكر بعضًا منها:
1- روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من
صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى اللَّه عليه عشرًا». [مسلم حديث 408]
2- روى النسائي
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى اللَّه عليه عشر صلوات،
وحُطت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات».
[حديث صحيح: صحيح النسائي
للألباني جـ1 ص415]
3- روى النسائي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للَّه
ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام».
[حديث صحيح: صحيح النسائي
للألباني جـ1 ص410]
4- روى الطبراني عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من
صلى عليَّ حين يصبح عشرًا وحين يُمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة».
[حديث
حسن: صحيح الجامع للألباني حديث 6357]
5- روى الترمذي عن أُبي بن كعب قال: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثُلثا الليل قام فقال: «يا أيها الناس: اذكروا اللَّه،
اذكروا اللَّه، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما
فيه، قال أُبيٌّ: فقلت: يا رسول اللَّه، إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من
صلاتي عليك ؟ قال: ما شئت، قلت: الربع ؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت:(/1)
فالنصف ؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت: فالثلثين ؟ قال: ما شئت فإن
زدت فهو خير لك». قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا تُكْفَى هَمَّك ويغفر
ذنبك».
[حديث حسن: صحيح الترمذي للألباني حديث 1999]
قال المنذري: قوله: «فكم
أجعل لك من صلاتي» معناه: إني أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟»
[الترغيب والترهيب جـ2 ص389]
وقال المباركفوري: قوله: «أجعل لك صلاتي كلها» أي
أصرف بصلاتي عليك جميع الذي كنت أدعو به لنفسي. وقوله: «إذًا تُكفى همك» يعني
إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ أُعطيت خَيْريْ الدنيا والآخرة.
[تحفة الأحوذي جـ7 ص129، 130]
التحذير من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا:
1- روى
الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رَغِمَ أنفُ رجل ذُكرتُ عنده فلم
يصلِّ عليَّ». [حديث صحيح: صحيح الترمذي حديث 2870]
رغم أنف: يعني لصق بالتراب
ذلاً وهوانًا.
2- روى الترمذي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البخيل مَنْ
ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ». [حديث صحيح، صحيح الترمذي حديث 2811]
3- روى
الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا اللَّه
فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة (حسرة وندامة) فإن شاء عذبهم وإن
شاء غفر لهم».
[حديث صحيح: صحيح الترمذي حديث 2691]
صفة الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم :
سوف نذكر أصح صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
1- روى الشيخان عن كعب بن
عُجْرة قال: «خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: يا رسول اللَّه، قد علمنا كيف نُسلِّم
عليك، فكيف نصلي عليك ؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما
صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما
باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد».
[البخاري حديث 6357، ومسلم حديث 406]
2- روى
الشيخان عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟ قال:
قالوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم،
وبارك على محمد وعلى أزوجه وذريته كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد.
[البخاري حديث 2369، ومسلم 407]
3- روى النسائي عن زيد بن خارجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «صلوا عليَّ واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل
محمد».
[حديث صحيح: صحيح النسائي جـ1 ص414]
حُكم جهر المؤذن بالصلاة على النبي
بعد الأذان:
إن جهر كثير من المؤذنين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان بدعة لم
يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمؤذنون في عهده، ولم يفعلها الصحابة والخلفاء الراشدون
والتابعون مع عِلْمهم بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحرصهم على الطاعات، ولو كان
ذلك خيرًا لسبقونا إليه، ومن المعلوم أن ألفاظ الأذان عبادة مبنية على التوقيف،
لا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان.
روى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». [البخاري 2697]
قال
الإمام مالك بن أنس: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم
خان الرسالة؛ لأن اللَّه تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
[المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا. [الإحكام في أصول
الأحكام لابن حزم جـ6 ص225]
حكم الصلاة على غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
سوف نتناول
الحديث عن هذه المسألة من عِدة وجوه بإيجاز شديد:
أولاً: الصلاة على الأنبياء
والمرسلين:
قال ابن القيم: سائر الأنبياء والمرسلين يُصلى عليهم ويُسلَّم.
[جلاء الأفهام ص627]
روى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا على
أنبياء اللَّه ورسله فإن اللَّه بعثهم كما بعثني». [حديث حسن: صحيح الجامع
للألباني حديث 3782]
ثانيًا: الصلاة على آل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميعًا
بمعنى أن نقول:
اللهم صلِّ على آل محمد.
قال ابن القيم: آل النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي عليهم بلا خلاف بين
الأمة. [جلاء الأفهام ص636]
ثالثًا: هل يُصلى على آل نبينا محمد منفردين؟
بمعنى
أن يفرد واحد منهم بالذكر، فيُقال: اللهم صلِّ على علي، أو اللهم صلِّ على
الحسن أو الحسين أو فاطمة ونحو ذلك، وهل يُصلى على أحد من الصحابة ومَنْ
بَعْدهم ؟
قال الإمام النووي رحمه اللَّه عند الإجابة عن هذين السؤالين:
الصحيح، الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد
نُهينا عن شعارهم. [الأذكار للنووي ص159]
قال ابن القيم: إن الرافضة إذا ذكروا
أئمتهم يصلون عليهم بأسمائهم، ولا يصلون على غيرهم ممن هو خير منهم وأحب إلى(/2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينبغي أن يُخالفوا في هذا الشعار.
[جلاء الأفهام ص640]
فائدة
هامة:
قال الإمام النووي: اتفق العلماء على جواز جَعْل غير الأنبياء تبعًا لهم
في الصلاة، فيُقال: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته
وأتباعه، للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أُمرنا به في التشهد، ولم يزل السلف
عليه خارج الصلاة أيضًا. [الأذكار للنووي ص160]
حُكْمُ قول: فلان عليه
السلام:
فَرَّق أهل العلم بين السلام والصلاة، فقالوا: السلام يُشرع في حق كل
مؤمن، حي وميت، حاضر وغائب، فإنك تقول: بَلِّغ فلانًا مني السلام، وهو تحية أهل
الإسلام، ولذا يجوز أن نقول: فلانٌ عليه السلام.
وأما الصلاة فإنها من حقوق
الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولهذا يقول المصلي: السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، ولا
يقول: الصلاة علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين. [جلاء الأفهام ص639، 640]
أوقات
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
ذكر أهل العلم أوقاتًا وأحوالاً يُستحبُ عندها أن نصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم ، يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- بعد ترديد نداء المؤذن للصلوات
المفروضة.
2- عند دخول المسجد والخروج منه.
3- بعد التشهد الأخير في الصلاة.
4-
عقب دعاء القنوت.
5- في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية.
6- قبل الدعاء
وبعده على الإطلاق.
7- عند خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء وغيرها.
8- عند
ذِكْر اسمه صلى الله عليه وسلم أو كتابته.
9- عند الصفا والمروة في الحج والعمرة.
10- يوم
الجمعة.
11- عند الصباح والمساء.
12- عند ختام المجلس.
13- عند إلقاء دروس
العلم وختامها.
14- بين التكبيرات أثناء صلاة العيدين. [الشفا للقاضي عياض جـ2
ص66- 72، جلاء الأفهام ص463، 611]
ثمرات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
ذَكَر الإمام ابن
القيم ثمرات للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، يُمكن أن نجملها فيما يلي:
1- أنها امتثال
لأمر اللَّه تعالى.
2- سبب للحصول على الحسنات ورفع الدرجات ومحو السيئات.
3-
شفاعته يوم القيامة لمن يصلي عليه.
4- أنها سبب لقرب المسلم من النبي صلى الله عليه وسلم يوم
القيامة.
5- أنها سبب لصلاة اللَّه والملائكة على المسلم.
6- أنها سبب لإجابة
الدعاء.
7- أنها سبب لمغفرة الذنوب وجلاء الهموم.
8- أنها سبب لطيب المجلس.
9-
أنها تنفي عن قائلها صفة البخل.
10- أنها سبب لدوام محبة قائلها للنبي صلى الله عليه وسلم
وزيادتها.
11- أنها متضمنة لِذْكر اللَّه وشكره، ومعرفة نعمه على عباده بإرساله
النبي صلى الله عليه وسلم لهداية الناس.
12- أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمره وعمله وأسباب
مصالحه. [جلاء الأفهام ص612، 626]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى
اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم
الدين.(/3)
فضل العشر الأواخر وليلة القدر
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ، ما لا يجتهد في غيرها مسلم(1175) عن عائشة ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها البخاري (1913) ومسلم(1169) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره " البخاري (1920) ومسلم (1174) زاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره .
وقولها " وشد مئزره " كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات .
وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع .
وقولهم " أحيا الليل " أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها . وقد جاء في حديث عائشة الآخر رضي الله عنها : " لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القران كله في ليلة ولا قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان" سنن النسائي (1641) فيحمل قولها " أحيا الليل " على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل .
وقولها : " وأيقظ أهله " أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة ، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : " سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُنزل من الخزائن ! من يوقظ صواحب الحجرات ؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) . لكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة .
وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ، ومبادرته الأوقات ، واغتنامه الأزمنة الفاضلة .
فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة ، والجِدّ والاجتهاد في عبادة الله ، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي ، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله ، وانتهى عمره ، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم .
ومن فضائل هذه العشر وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) سورة الدخان الآيات 1-6
أنزل الله القران الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها مباركة وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم أن الليلة التي أنزل فيها القران هي ليلة القدر.
وقوله " فيها يفرق كل أمر حكيم " أي تقدّر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام ، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة .
والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر -والله أعلم - أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ ، قال ابن عباس " أن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وأنه لفي الأموات " أي انه كتب في ليلة القدر انه من الأموات . وقيل أن المعنى أن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة .
ومعنى ( القدر ) التعظيم ، أي أنها ليلة ذات قدر ، لهذه الخصائص التي اختصت بها ، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر التضييق ، ومعنى التضييق فيها : إخفاؤها عن العلم بتعيينها ، وقال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر ، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة ، من ( القدر ) وهو التضييق ، قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) سورة الفجر /16 ، أي ضيق عليه رزقه .
وقيل : القدر بمعنى القدَر - بفتح الدال - وذلك أنه يُقدّر فيها أحكام السنة كما قال تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) . ولأن المقادير تقدر وتكتب فيها .
فسماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) البخاري ( 1910 ) ، ومسلم ( 760 ) .
وقد خص الله تعالى هذه الليلة بخصائص :(/1)
1- منها أنه نزل فيها القرآن ، كما تقدّم ، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . تفسير ابن كثير 4/529 .
2- وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) سورة القدر الآية/3
3- ووصفها بأنها مباركة في قوله : ( إنا أنزلنه في ليلة مباركة ) سورة الدخان الآية 3 .
4- أنها تنزل فيها الملائكة ، والروح ، " أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له " أنظر تفسير ابن كثير 4/531 والروح هو جبريل عليه السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه .
5- ووصفها بأنها سلام ، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد أنظر تفسير ابن كثير 4/531 ، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .
6- ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) الدخان /4 ، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها ، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير انظر تفسير ابن كثير 4/137،138 وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له ، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم " شرح صحيح مسلم للنووي 8/57 .
7- أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله : ( إيماناً واحتساباً ) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه . فتح الباري 4/251 .
وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة ، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها ، وهي قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتى مطلع الفجر ) سورة القدر .
فقوله تعالى : ( وما أدراك ما ليلة القدر ) تنويهاً بشأنها ، وإظهاراً لعظمتها . ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) أي : أي إحْياؤها بالعبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة ، وهذا فضل عظيم لا يقدره قدره إلا رب العالمين تبارك وتعالى ، وفي هذا ترغيب للمسلم وحث له على قيامها وابتغاء وجه الله بذلك ، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس هذه الليلة ويتحراها مسابقة منه إلى الخير ، وهو القدوة للأمة ، فقد تحرّى ليلة القدر .
ويستحب تحريها في رمضان ، وفي العشر الأواخر منه خاصة جاء في صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ ( والقبة : الخيمة وكلّ بنيان مدوّر ) عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ قَالَ وَإِنِّي أُرْيْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ . صحيح مسلم 1167(/2)
وفي رواية قال أبو سعيد : ( مطرنا ليلة إحدى وعشرين ، فوكف المسجد في مُصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت إليه ، وقد انصرف من صلاة الصبح ، ووجهه مُبتل طيناً وماء ) متفق عليه ، وروى مسلم من حديث عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه نحو حديث أبي سعيد لكنه قال : ( فمطرنا ليلة ثلاثة وعشرين ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألتمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري 4/260
وليلة القدر في العشر الأواخر كما في حديث أبي سعيد السابق وكما في حديث عائشة وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) حديث عائشة عند البخاري 4/259 ، وحديث ابن عمر عند مسلم 2/823 ، وهذا لفظ حديث عائشة .
وفي أوتار العشر آكد ، لحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ) رواه البخاري 4/259 .
وفي الأوتار منها بالذات ، أي ليالي : إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين . فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر ، في الوتر ) رواه البخاري ( 1912 ) وانظر ( 1913 ) ورواه مسلم ( 1167 ) وانظر ( 1165 )
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري ( 1917 - 1918 ) . فهي في الأوتار أحرى وأرجى إذن .
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى ( أي تخاصم وتنازع ) رجلان من المسلمين ، فقال : ( خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) البخاري ( 1919 ) . أي في الأوتار .
وفي هذا الحديث دليل على شؤم الخصام والتنازع ، وبخاصة في الدِّين وأنه سبب في رفع الخير وخفائه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين ، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتاسعة تبقى ، لسابعة تبقى ، لخامسة تبقى ، لثالثة تبقى ) فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع وتكون الاثنان والعشرون تاسعة تبقى ، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى ، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح ، وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر ، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه ) انتهى المقصود من كلامه رحمه الله الفتاوى 25/284،285 .)
وليلة القدر في السبع الأواخر أرجى ، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام ، في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) رواه البخاري ( 1911 ) ومسلم ( 1165 ) . ولمسلم : ( التمسوها في العشر الأواخر ، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي .
وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر عند أحمد ومن حديث معاوية عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) مسند أحمد وسنن أبي داود ( 1386 ) . وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء ، حتى أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، قال زر ابن حبيش : فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالعلامة ، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها . رواه مسلم 2/268
وروي في تعيينها بهذه الليلة أحاديث مرفوعة كثيرة .(/3)
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : ( أنها ليلة سبع وعشرين ) واستنبط ذلك استنباطاً عجيباً من عدة أمور ، فقد ورد أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة وجمع ابن عباس معهم وكان صغيراً فقالوا : إن ابن عباس كأحد أبنائنا فلم تجمعه معنا ؟ فقال عمر : إنه فتى له قلب عقول ، ولسان سؤول ، ثم سأل الصحابة عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها من العشر الأواخر من رمضان ، فسأل ابن عباس عنها ، فقال : إني لأظن أين هي ، إنها ليلة سبع وعشرين ، فقال عمر : وما أدراك ؟ فقال : إن الله تعالى خلق السموات سبعاً ، وخلق الأرضين سبعاً ، وجعل الأيام سبعاً ، وخلق الإنسان من سبع ، وجعل الطواف سبعاً ، والسعي سبعاً ، ورمي الجمار سبعاً . فيرى ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين من خلال هذه الاستنباطات ، وكأن هذا ثابت عن ابن عباس .
ومن الأمور التي استنبط منها أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين : أن كلمة فيها من قوله تعالى : ( تنزل الملائكة والروح فيها ) هي الكلمة السابعة والعشرون من سورة القدر .
وهذا ليس عليه دليل شرعي ، فلا حاجة لمثل هذه الحسابات ، فبين أيدينا من الأدلة الشرعية ما يغنينا .
لكن كونها ليلة سبع وعشرين أمر غالب والله أعلم وليس دائماً ، فقد تكون أحياناً ليلة إحدى وعشرين ، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدّم ، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين كما جاء في رواية عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه كما تقدّم ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) رواه البخاري 4/260) .
ورجّح بعض العلماء أنها تتنقل وليست في ليلة معينة كل عام ، قال النووي رحمه الله : ( وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها ) المجموع 6/450 .
وإنما أخفى الله تعالى هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها ، ويجدّوا في العبادة ، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها .
فينبغي للمؤمن أن يجتهد في أيام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر ، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن يجتهد في الدعاء والتضرع إلى الله .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي : ( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ) رواه الإمام أحمد ، والترمذي (3513) ، وابن ماجة (3850) وسنده صحيح .
ثالثاً : اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة ، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف هذه العشر كما جاء في حديث أبى سعيد السابق أنه اعتكف العشر الأول ثم الوسط ، ثم أخبرهم انه كان يلتمس ليلة القدر ، وانه أريها في العشر الأواخر ، وقال : ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده متفق عليه ولهما مثله عن ابن عمر .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة .
وقال الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله يدخل قبل غروب الشمس ، وأولوا الحديث على أن المراد أنه دخل المعتكف وانقطع وخلى بنفسه بعد صلاة الصبح ، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف ، انظر شرح مسلم للنووي 8/68،69 ، وفتح الباري 4/277 . ويسن للمعتكف الاشتغال بالطاعات ، ويحرم عليه الجماع ومقدماته لقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة /177 .
ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها .
العلامات التي تعرف بها ليلة القدر :
العلامة الأولى : ثبت في صحيح مسلم من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها . مسلم ( 762 )
العلامة الثانية : ثبت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة ، ورواه الطيالسي في مسنده ، وسنده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة طلقة ، لا حارة ولا باردة ، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ) صحيح ابن خزيمة ( 2912 ) ومسند الطيالسي .
العلامة الثالثة : روى الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة بلجة " أي مضيئة " ، لا حارة ولا باردة ، لا يرمى فيها بنجم " أي لا ترسل فيها الشهب " ) رواه الطبراني في الكبير انظر مجمع الزوائد 3/179 ، مسند أحمد .
فهذه ثلاثة أحاديث صحيحة في بيان العلامات الدالة على ليلة القدر .(/4)
ولا يلزم أن يعلم من أدرك وقامها ليلة القدر أنه أصابها ، وإنما العبرة بالاجتهاد والإخلاص ، سواء علم بها أم لم يعلم ، وقد يكون بعض الذين لم يعلموا بها أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة وذلك لاجتهادهم . نسأل الله أن يتقبّل منا الصيام والقيام وأن يُعيننا فيه على ذكره وشُكْره وحُسْن عبادته . وصلى الله على نبينا محمد .(/5)
فضل العشر من ذي الحجة
أولاً: فضل العشر عموماً.
- الأعمال التي تستحب فيها:
أ. الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد.
ب. الاجتهاد في سائر الطاعات.
ثانياً: فضل يوم عرفة.
1. كثرة عتق الله تعالى لعباده من النار.
2. أنه اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه للأمة دينها.
3. أنه يوم عيد.
4. أن فيه يقع أعظم الأركان الذي به يدرك الحج ألا وهو الوقوف بعرفات.
- الأعمال التي تستحب فيه:
أ. الصيام.
ب. الدعاء.
ثالثاً: فضل يوم النحر.
الفصل الأول: فضل العشر عموما:
1 ـ قال الله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].
قال ابن جرير رحمه الله: "والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه"([1]) .
وقال القرطبي رحمه الله: "وإنما نكرت ولم تعرّف لفضيلتها على غيرها، فلو عُرِّفت لم تستقل([2]) بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها"([3]) .
وقال ابن القيم رحمه الله: "فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب عز وجل به"([4]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف"([5]) .
وقال ابن رجب رحمه الله: "ولعشر ذي الحجة فضائل أخر غيرها تقدم، فمن فضائله: أن الله تعالى أقسم به جملة، وببعضه خصوصًا. قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ}... وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السّلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عباس، روي عنه من غير وجه"([6]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين"([7]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "وهي على الصحيح ليالي عشر رمضان، أو عشر ذي الحجة؛ فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع بغيرها، ... وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فإنه ما رُئيَ الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة؛ لما يرى من تنزُّل الأملاك والرحمة من الله على عباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة مستحقة أن يقسم الله بها"([8]) .
2 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ([9]) .
قال ابن رجب رحمه الله: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده"([10]).
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) "فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منهما، وكذلك سائل الأعمال.
وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره"([11]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة، وفضل عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة"([12]) .
3 ـ وقال تعالى: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ} [الحج: 27، 28].
قال ابن عباس عن الأيام المعلومات: (أيام العشر)([13]).
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: كي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم، في أيام معلومات، وهن أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل، وفي قول بعضهم: أيام العشر، وفي قول بعضهم: يوم النحر وأيام التشريق"([14]).
قال ابن رجب رحمه الله: "وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنخعي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه"([15]).
الأعمال التي تستحب فيها:
أ ـ الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ([16]).
قال الإمام البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما"([17]).(/1)
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد([18]).
وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير([19]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد"([20]).
ب ـ الاجتهاد في سائر الطاعات:
كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه([21]).
وروي عنه أنه قال: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) ([22]) كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن رجب رحمه الله: "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج"([23]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره"([24]).
([1]) جامع البيان (30/ 169).
([2]) في المطبوع من تفسير القرطبي: تستقبل.
([3]) الجامع لأحكام القرآن (20/ 39).
([4]) التبيان في أقسام القرآن (ص 18).
([5]) تفسير القرآن العظيم (4/539، 540).
([6]) لطائف المعارف ( ص 469 ـ 470).
([7]) فتح القدير (5/613).
([8]) تيسير الكريم الرحمن (7/621 ـ 622).
([9]) أخرجه البخاري في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق (969) بنحوه. وهذا لفظ الترمذي (757).
([10]) لطائف المعارف (ص 458).
([11]) من كلام الحافظ ابن رجب في اللطائف (ص459).
([12]) فتح الباري (2/460).
([13]) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله عبد بن حميد، وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582) وصحح إسناد ابن مردويه.
([14]) جامع البيان (9/138).
([15]) لطائف المعارف (ص 471).
([16]) أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750). قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح".
([17]) صحيح البخاري كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
([18]) أخرجه الفريابي في أحكام العيدين (ص 119).
([19]) أخرجه أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/9).
([20]) زاد المعاد (1/56).
([21]) أخرجه الدارمي في سننه (1774)، والبيهقي في الشعب (3752).
([22]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/281).
([23]) لطائف المعارف (ص 476).
([24]) فتح الباري (2/460).
الفصل الثاني: فضل يوم عرفة:
ليوم عرفة فضائل كثيرة ومحاسن جمة عفيرة منها:
1 ـ كثرة عتق الله لعباده من النار، وأنه سبحانه يباهي بالحاج فيه ملائكته ويعمهم بالغفران.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))([1]) .
قال النووي: "هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة"([2]).
2 ـ أنه اليوم الذي أكمل الله فيه للأمة دينها وأتم عليها نعمته:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 2] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة، يوم جمعة([3]) .
3 ـ أنه يوم عيد.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عِيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))([4]) .
قال ابن القيم رحمه الله: "يوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة، ولذلك كُره لمن بعرفه صومه"([5]).
4 ـ أن فيه يقع أعظم الأركان الذي به يدرك الحج ألا وهو الوقوف بعرفات.(/2)
عن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))([6]).
قال الترمذي: "والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر، فقد فاته الحج، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق".
وقال النووي: "أي: عماده ومعظمه عرفة"([7]).
وقال المناوي: "أي: معظمه أو ملاكه الوقوف بها، لفوت الحج بفوته"([8]).
وقال السيوطي: "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه... فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) يدل على أفضلية عرفة؛ لأن التقدير: معظم الحج وقوف عرفة. فالجواب: أن لا نقدر ذلك، بل نقدر أمرًا مجمعًا عليه: وهو إدراك الحج وقوف عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه"([9]).
وقال السندي: "والمقصود: أن إدراك الحج يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة"([10]).
وقال الشوكاني: "قوله: ((الحج عرفة)) أي: الحج الصحيح حج من أدرك عرفة"([11]).
ولله در ابن القيم حين يصور ذلك الموقف العظيم:
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمةً ومغفرة ممن يجود ويُكرم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبةً وإني بهم برٌّ أجود وأرحم
فأُشهدكم أني غفرتُ ذنوبهم وأعطيتُهم ما أمَّلوه وأنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقفِ الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعي وربك أرحم
وما رئي الشيطان أغيظَ في الورى وأحقر منه عندها وهو ألأم
وذاك لما قد رآه فغاظه فأقبل يحثو الترب غيظًا ويلطم
وما عاينتْ عيناه من رحمةٍ أتت ومغفرة من عند ذي العرش تقسم
بنى ما بنى حتى إذا ظن أنه تمكَّن من بنيانه فهو مُحكم
أتى الله بنيانا له من أساسه فخر عليه ساقطًا يتهدم
وكم قدْر ما يعلو البناء وينتهي إذا كان يبنيه وذو العرش يهدم
الأعمال المستحبة فيه:
1 ـ الصيام: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟. .. وذكر الحديث بطوله، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده...))([12]).
قال النووي: "((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) معناه: ذنوب صائمه في السنتين. قالوا: والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء, وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجات"([13]).
قال ابن القيم رحمه الله: "فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيرًا كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة. وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: ((إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة))([14]) قالوا: فإذا كان دأبه دائمًا أنه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟ وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات. ويا لله العجب. فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه.
فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير. وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه. ولم يقدره حق قدره. فأي شيء يكفر هذا؟!
فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرًا وباطنًا ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه من عجب أو رؤية نفسه فيه. أو يمن به، أو يطلب من العباد تعظيمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟!
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحسر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه"([15]).
2 ـ الدعاء: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ([16]).
قال ابن عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، ... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"([17]).(/3)
قال المباركفوري: "قوله: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) لأنه أجزل إثابة، وأعجل إجابة، قال الطيبي: الإضافة فيه إما بمعنى اللام، أي: دعاء يختص به، ويكون قوله: ((وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله)) بيانًا لذلك الدعاء، فإن قلت: هو ثناء! قلت: في الثناء تعريض بالطلب"([18]).
([1]) أخرجه مسلم في: الحج، باب: فضل الحج والعمرة (1348).
([2]) شرح مسلم (9/117).
([3]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: زيادة الإيمان ونقصانه (45)، ومسلم في التفسير (3017).
([4]) أخرجه أحمد (4/152)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم أيام التشريق (773)، وأبو داود في الصوم، باب: صيام أيام التشريق (2419). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/434)، وصححه الألباني في صحيح السنن (620).
([5]) زاد المعاد (1/ 61).
([6]) أخرجه أحمد (4/309)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463).
([7]) شرح مسلم (2/37).
([8]) فيض القدير (3/406).
([9]) في حاشيته على النسائي (5/256).
([10]) في حاشيته على النسائي (5/256).
([11]) نيل الأوطار (2/139).
([12]) أخرجه مسلم في: الصيام (1162)
([13]) شرح مسلم (8/50/ 51).
([14]) رواه مسلم (1162) في الصيام باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم عاشوراء.
([15]) الوابل الصيب (ص 20 ـ 21).
([16]) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في الصحيحة (1503): "وجملة القول: أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم".
([17]) التمهيد (6/41).
([18]) تحفة الأحوذي (10/33).
الفصل الثالث: فضل اليوم العاشر وهو يوم النحر:
عن عبد الله بن قرط الثمالي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)) ([1]) .
قال ابن تيمية رحمه الله: "أفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة والأول هو الصحيح؛ لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة وحدها، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنّة واتفاق العلماء والله أعلم"([2])
قال ابن القيم رحمه الله: "فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر"([3]).
([1]) أخرجه أحمد (4/ 1350)، وأبو داود في الحج، باب: في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ (1765). وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811).
([2]) مجموع الفتاوى (25/ 288) بتصرف يسير.
([3]) زاد المعاد (1/54).(/4)
فضل عشر ذي الحجة
عبد العزيز بن محمد القنام ...
ملخص الخطبة ... ... ... ...
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- بركة الطاعة. 3- الزمن المبارك. 4- فضائل عشر ذي الحجة. 5- ما يشرع من الأعمال في هذه العشر. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ... ...
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول : ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبدًا.
والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي))، فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين))، ((والصدقة بسبعمائة ضعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))، و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول ، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، والتي تستقبلونها إن شاء الله هذه الأيام؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات قليلة السيئات عالية الدرجات متنوعة الطاعات.
فمن فضائلها أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.(/1)
ومن فضائلها أن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيها وتر وهو عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدّم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرة، والنهار سبعا وخمسين مرة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الرب في آخره: هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له. مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وفي قوله سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:63، 64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببت العيش أبدا"، وقال آخر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا قيام الليل وصلاة الجماعة وصحبة الصالحين".
ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات والتلذذ بالطاعات ومحبة المخلوقات، وبكمال الدين تنتصر السنة وتنهزم البدعة ويقوى الإيمان ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطّ ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا ـ معشر اليهود ـ اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة). وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.
ومن فضائلها أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة، منها اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.(/2)
ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.
ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال : ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوّه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال : ((الحج عرفة))، وصومه تطوعًا يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر))، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
ومن الأعمال المشروعة فيها الذكر، يقول تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعًا للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كلّ على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يذكَر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].(/3)
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، فدونكم الفضائل فاغتنموها، وإياكم والتواني والكسل، ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه، فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات، عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.
اللهم وفقنا لأرشد الأقوال والأفعال لا يوفق لأرشدها إلا أنت، اللهم جنبنا سيئ الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يجنبنا سيئها إلا أنت، اللهم اهدنا وسددنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيَات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيد المرسلين وبقَوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذلك ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ... ...
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مستيقنٍ بها في جنانه، ومقرٍّ بها بلسانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبلغُ للوحيين: سنته وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
وإن من أفضل الأعمال في هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ الإهلال بالحج والتقرب إلى الله جل وعلا به، والتقرب إلى الله بصوم عرفة لمن لم يحج، وفضل الأضاحي، ولعل الله جل وعلا ييسر لنا الكلام عن فضلها في الجمعة القادمة.
ومن الأعمال في هذه العشر الإكثار من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله ، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها بابا من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.
وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئًا، فمن أراد منكم أن يضحي فثبت دخول شهر ذي الحجة فإنه لا يحلّ له أن يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئا، هكذا جاء الحديث عن رسول الله ، إذا دخل العشر وأراد الإنسان أن يضحي فلا يأخذن من هذه الأمور الثلاثة شيئا الشعر والظفر والبشرة يعني الجلد، وأما من يضحّى عنه وهم أهل البيت فلا حرج عليهم أن يأخذوا شيئا من ذلك لأن النبي إنما نهى من أراد أن يضحي وأهل البيت يضحى عنهم ولا يضحّون، ولهذا لا نعلم أن النبي كان ينهى أهله أن يأخذوا شيئا من ذلك مع أنهم كانوا يضحى عنهم، فقد كان رسول الله يضحي بأضحيتين: إحداهما عنه وعن أهل بيته، والثانية عن أمته جميعا، فجزاه الله عنا خيرا، وجعلنا من أتباعه ظاهرا وباطنا، وحشرنا في زمرته، وسقانا من حوضه، وجمعنا به في جنات النعيم، إنه هو الكريم الوهاب.
وأكثروا من الصلاة والسلام علي نبيكم محمد ، أكثروا من الصلاة عليه في كل وقت فإنه أعظم الناس حقا عليكم، أكثروا من الصلاة عليه فإنكم بذلك أمرتم، أكثروا من الصلاة عليه فإنكم تنالون بذلك أجرا عظيما، فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشره.(/4)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين. ... ... ... ...
المنبر
... ... ... ...(/5)
( فضيحة المشعوذين (2) )
عناصر الموضوع :
1. علاقة رجال الإنس برجال الجن
2. صور من عجز الشياطين
3. صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن)
فضيحة المشعوذين (2):
بعد أن مهد الشيخ لهذا الموضوع في خطبة ماضية بكلام مفصل عن خلق الجن وقدراتهم، استهل هذه الخطبة ببيان علاقة رجال الإنس بالجن، ومنها استغاثة أهل الجاهلية برجال الجن. كما أورد في هذه الخطبة بعض حيل المشعوذين، وكذبهم في ادعاء تحضير الأرواح، وتفصيل صور كثيرة من عجزهم وضعفهم، وبيان الفرق بين حيلهم وبين كرامات الأولياء. وفي ختام هذه المادة ذكر حيل بعض المشعوذين الذي لا يتصلون بالجن، بل يضحكون على الناس بغية المال أو استهداف الدِّين.
علاقة رجال الإنس برجال الجن:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد:فقد تحدثنا في الخطبة الماضية -أيها الإخوة- عن أمرٍ من مظاهرة شياطين الجن لشياطين الإنس، وشيءٍ من ماهية العلاقة بين شياطين الجن وشياطين الإنس، وأن هذه المؤامرة لا تزال مستمرة لحرف الناس عن التوحيد، وإيقاعهم في الشرك، ولا تزال تسمع بين الفينة والأخرى عن قصصٍ عجيبة غريبة تدل على كثرة وقوع الناس في زماننا في حبال الشعوذة والدجل، وكثرة إتيانهم وغشيانهم للسحرة والعرافين والكهان، وهذا أمرٌ يصادم التوحيد بالكلية، وهو أمرٌ خطيرٌ ينبغي أن يتصدى له دعاة التوحيد، وهذا شأنهم دائماً وأبداً أن يبينوا للناس أن أعظم معروفٍ جاءت به الرسل هو التوحيد، وأعظم منكرٍ نهت عنه الرسل هو الشرك. لقد بين الله سبحانه وتعالى هذه العلاقة بين شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويبن الله لنا كيف استهوت بعض شياطين الجن المشركين فعبدوهم: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بالوادي في طريق سفره قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن، ازدادت الجن طغياناً وكفراً، كما قال سبحانه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] ولذلك فإن المسلم لا ينخدع أبداً بما يراه ويسمعه من أفعال هؤلاء الشياطين، مهما كانت الحيل، ومهما كانت الخوارق التي يظهرونها على أنها خوارق، ومهما كان التعاون بين شياطين الإنس والجن من هؤلاء الكهنة والعرافين والمشعوذين، مهما ظهر من الأشياء الغريبة والعجيبة، فإن المؤمن يبقى على الثوابت التي جاءت بها شريعته، ولا يستجرينه الشيطان، ولا تخدعه هذه التصرفات، فإنه ولله الحمد على إيمانٍ ودينٍ وتوحيد.
كلام شيخ الإسلام عما يفعله الجن للمشعوذين:(/1)
ولما كان من واجب أهل العلم كشف هذه الأشياء سطر ذلك العلماء في كتبهم، وذكرنا شيئاً مما بسطه شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا التعاون، وعن الأشياء التي ظهرت في عهده، وهي في عهدنا موجودة بدرجة كبيرة إن لم تكن أكثر، ذكر رحمه الله فعل هؤلاء الشياطين الذين كانوا يطيرون بأوليائهم في الهواء وينقلونهم من مكان إلى مكان، ويأتون لهم بأشياء يطلبونها، ولكنهم لا يفعلون لهم ذلك إلا إذا كفروا معهم بالله رب الأرض والسماوات، وفعلوا المنكرات والموبقات، وإن تظاهروا بالصلاح والتقوى، ولذلك لما تكلم رحمه الله تعالى عن الحلاج الذي يقدسه اليوم بعض مفكري القرن العشرين، ويكتبون عنه على أنه شهيد الثورة والإصلاح، وإنما كان دجالاً من الدجاجلة، وكان مشركاً بالله تعالى، قال: كان له شياطين تخدمه أحياناً، وكان بعض أتباعه معه على جبل أبي قبيس فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلى مكانٍ قريبٍ فجاء بصحن حلوى، فكشفوا الأمر بعد ذلك فوجدوه قد سُرق من دكان حلوى باليمن، حمله شيطان تلك البقعة. قال رحمه الله: ونحن نعرف كثيراً من هؤلاء في زماننا وغير زماننا، مثل شخصٍ هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهواء إلى نافذة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى باب الصغير فيعبر منه هو ورفيقه وهو من أفجر الناس، وكذلك كان بالشوبك وهي قلعة من أطراف الشام يأتي من قرية يُقال لها: الشاهدة ، يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، يحمله ذلك الشيطان يقطع به الطريق، ثم إن هؤلاء الشياطين يسألونهم أموراً كبقرٍ وخيلٍ يخنقونها خنقاً لا يذكرون اسم الله تعالى عليها، وهؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين منهم من يطير في الهواء والشيطان طائرٌ به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم يقول: أنا أصرع أمامكم شخصاً فيسقط شخصاً بالفعل، ويكون الشيطان الذي مع هذا الرجل هو الذي صرع ذلك الرجل، فيحسب الجاهلون أنها كراماتٌ من كرامات أولياء الله المتقين. قال رحمه الله تعالى: فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر ويقول له: هنيئاً لك يا ولي الله والشياطين هي التي تخاطبه، فإذا قرأ آية الكرسي ذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها فخاطبه، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، ومنهم من تأتيه الشياطين بمن يهواه من امرأة أو صبيٍ لفعل الفاحشة من زناً ولواط، وبعض هؤلاء إما أن يؤتى بهم إليه مدفوعاً ملجئاً مكرها أو مختاراً. إلى هذه الدرجة يصل التعامل بينهم إلى قيادة هؤلاء لعمل الفاحشة، وكذلك فإنه رحمه الله قد بين أن بعض هؤلاء الشياطين يتنزلون بأشياء من المكاشفات والتأثيرات على هؤلاء، فيُسمعونهم كلاماً كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم عابديها في الجاهلية، وفي غير الجاهلية بعد الإسلام، فيتخيل هؤلاء أن الأصنام تتكلم، ثم بين رحمه الله تعالى أن هؤلاء يجتمعون في أماكن الخبث، والأماكن المقفلة المهجورة، وأماكن القمامة والأوساخ، نظراً لأن الشياطين تغشى تلك الأماكن. قال رحمه الله: ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله؛ صارت الشياطين كثيراً ما تأوي إلى المغارات والجبال مثل: مغارة الدم التي بجبل قاسيون وجبل لبنان الذي بساحل الشام ، وجبل الفتح بأسوان مصر ، وجبالٍ بالروم وخراسان والجزيرة وجبل اللكامي والأحيس وجبل سولانا قرب أردبيل ، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالاً من الصالحين يعتقدون أن فيها أولياء، ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هم رجالٌ من الجن؛ فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] قال رحمه الله: ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجلٍ شعرانيٍ جلده يشبه جلد الماعز، فيظن من لا يعرفه أنه إنسيٌ وإنما هو جني، فهذا من التلبيسات أيضاً، وكذلك التحول إلى الصور والأشكال يساعدهم على ذلك.
قصة من الواقع: فضيحة مشعوذ.(/2)
بعد الخطبة الماضية -أيها الإخوة- حضر لدي أحد الإخوان فقال: بمناسبة هذه الخطبة أخبرك عما وقع لي: سمعت أن شيخاً في القرية عندنا وليٌ من أولياء الله وعنده كراماتٌ وخوراق، فذهبت إليه، قال: فمن يوم أن لقيته قال: أهلاً بفلان، وسماني باسمي، ولم أكن رأيته من قبل، واستغربت ودهشت كيف عرف اسمي!! ثم بعد ذلك لزمته وصرت معه أخدمه على أني أخدم الشيخ، وأتقرب إلى الله بتلك الخدمة، وكنت أرى منه عجائب قال وهو يحدثني هذا الشخص: وكنت معه مرة في الغرفة، فالتفتُّ فجأة إليه فإذا شكله قد تغير وصار أقرب ما يكون إلى الشبح، فقلت له: شبهه لي بأي صورة؟ قال: أقرب ما يكون إلى شكل الخنزير، ثم عاد إلى شكله مرة أخرى، إلى هيئته الإنسية التي أعرفها، قال: وأتيته مرة بفتاة أوصتني أمها بالذهاب بها إلى هذا الشيخ، لأن الخطاب ينفرون منها، ولم يكتب لها نصيبٌ في الزواج، فخشيت عليها من العنوسة، قال: فذهبت بها إليه فجلس كأنه يقرأ عليها فذهبت لشيءٍ ثم جئت على حين غفلة، فرأيته يقبلها، ففوجئ لما رآني، وجعل يتمتم كأنه يأخذ عليها العهد بالانتساب إلى الطريقة، وذكر أشياء أخرى. والمهم -أيها الإخوة- أن هؤلاء الناس موجودون إلى الآن، وأن الناس يُفتنون بهم، وأنهم أصحاب فواحش، وهذا الذي يزعم أنه شيخ قال له في آخر الجلسة: اذهب إلى أهلك وأنا أوصلها إلى بيتها، فماذا وراء ذلك إلا فعل الحرام؟ وماذا وراء التعامل مع الشياطين إلا التلبيس على السذج والمساكين، ولذلك إذا قال لك أحد هؤلاء الذين يدعون أنهم يقرءون على المصروعين، ويخرجون السحر ويفكونه إذا قال: لا تدخل مع زوجتك أو لا بد أن أقرأ عليها لوحدها، فاعلم أنه دجالٌ كذاب أشر، وأنه أفاكٌ أثيم: (ما اختلى رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما).
بعض حيل المشعوذين:(/3)
واعلموا -عباد الله- أن هذا شيءٌ موجودٌ واقعٌ عند هؤلاء الدجالين، يطلب الخلوة بالمرأة لكي يُخرج منها الشيطان بزعمه، وهو يريد من وراء ذلك فعل الحرام، وقضاء شهوته ووطره، ولذلك فإن الموحد يعلم علم اليقين أن مثل هذا مخالفٌ لدين الله، مخالفٌ لشريعة الإسلام. ومن حيل هؤلاء.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويحكى عن شيخٍ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون إبرائه، فيرسل إلى أتباعه من الشياطين فيفارقون المصروع ويقوم ليس به بأس، فيعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، إذاً العملية عملية ابتزاز، هذا يعمل السحر وهذا يفكه، وهذا يصرعه، وهذا يخرج منه الجن، ويقوم المصروع سواءً كان بالتعاون بينهم أو كان نفس هذا الدجال الذي يرسل شيطانه ليصرع الإنس ثم يخرجه هو، ويأخذ الأشياء ويسرقها ذلك الشيطان ثم يخبرهم بمكانها، فالعملية صارت عملية تجارة، هذا يدخل الجني ثم يخرجه، وهذا يعمل لهم سحراً ثم يفكه، وهؤلاء يدفعون، ولو كانوا يتحصنون بكتاب الله ما جعلوا للشياطين عليهم سبيلاً. أقول لكم بصدقٍ وإخلاصٍ أيها الإخوة: إن هذه العملية نصبٌ واحتيال، ومع ذلك فالناس لا يزالون يذهبون إلى السحرة والمشعوذين الذين يعقدون السحر ويفكونه، أو يتعاونون فيما بينهم على ذلك، ويدعون المغيبات، وقد حصلت قصص ذكرها العلماء، ذكروا أن رجلاً عند أميرٍ في مجلس فيما مضى من الزمان تحدى الناس أن يعلم عدد الحصى في يد كل شخصٍ، فكان الناس يأخذون كفاً من الحصى فيعدونها ثم يخبرهم بعددها ويكون كلامه صحيح، حتى جاء رجلٌ من الموحدين ممن يعرف تلك الحيل فقال: أنا أقبض كفاً من حصى وأتحداك أن تعرف عددها فأخذ كفاً من حصى وقال: بسم الله ولم يعد، ثم قال: كم في كفي؟ قال: عدها حتى إذا قلت لك يكون الجواب مطابقاً، قال: لا أعدها إلا بعد أن تخبرني، فأخبره بعددٍ فلما عد ما في يده كان الذي أخبره به خطأً، ثم أخبرهم بأن القرين من الجن الذي يكون مع هذا العاد يعد معه ويعرف العدد، فيخبر قرين ذلك الدجال أو الذي يدعي معرفة المخبئات بالعدد، فيخبره لصاحبه ثم يخبر الناس، إذاً فهذا النوع من التعاون لا يمكن أن يخفى على الموحدين ولا أن يذهبوا بعد ذلك إلى الدجالين والمشعوذين، ثم إن بعض هؤلاء يأخذون أموال الناس ظلماً إما بالسرقة، وإما بغيرها من النصب والاحتيال. واحد يُتصل به بالهاتف (مكالمات خارجية) يقول: لا أخبركم بمكان السحر ولا بعلة صاحبكم حتى تحولوا لي مبلغ خمسمائة ريال، أو ألف وخمسمائة أو أكثر، وتحول المبالغ إلى ذلك الدجال، ليخبرهم عبر الهاتف أين يوجد السحر، وما هي علة هذا الرجل، ومن الذي سحر صاحبهم، ونحو ذلك من الكلام، هذا ما يحدث حقاً وحقيقةً من النصب والاحتيال على هؤلاء المساكين، والسبب ضعف الإيمان لم يتحصنوا بـ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] .. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وآية الكرسي، وباسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فصاروا نهباً للشياطين.
كذب المشعوذين في عملية تحضير الأرواح:(/4)
وذكرنا كذلك أن ما قام من سوق تحضير الأرواح، وأن بعض الناس يستطيع أن يحضر روح القريب من أبٍ أو أمٍ ونحو ذلك وأنه كله دجل، وأن بعضه من التعاون مع الشياطين الذين يستطيعون التشكل فيأتون الإنسان بصورة أبيه الميت، أو أمه، ونحو ذلك، وقد حكى بعضهم تجربته عن ذلك فقال: ذهبت إلى هذا الذي يقول: إنه تعلم تحضير الأرواح بأذكارٍ وأمورٍ يقرأها، وتلاواتٍ ورياضاتٍ وممارسات، فأكون معه على الطعام فتأخذه الإغفاءة المعهودة فيميل رأسه إلى الأمام وتلتصق ذقنه بصدره ثم يحثني الزائر الذي يزعم أنه ملك أو أبو هريرة أو أبو الحسن الشاذلي أو نحو هؤلاء بأمور، ثم وعدوني وبشروني بقرب زيارة والدي الميت لي في وقتٍ عينوه، وانتظرت الموعد بلهف، وطلبوا مني أن أقرأ سورة الواقعة، إذاً يمكن من طرق التلبيس أن يطلبوا من الشخص أن يقرأ سورة من القرآن، ثم قالوا: سيحضر والدك بعد لحظات، ولكن بشرط لا تسأله عن شيء، وبعد دقائق جاء شخصٌ، ودخل فزعم أنه أبي في شكله، وسلم علي وأظهر سروره بلقائي، وأوصاني أن أعتني بهذا الشيخ وأهله، وأنه فقير محتاج إلى المال، وهذا هو لب القضية (الاحتيال المالي) وبعض الدجالين لكي يخفي أمره بزيادة لا يطلب مالاً في البداية، كنا نقول للناس: إنهم لا يستعملون القرآن، وبعض الدجالين يستعملونه تلبيساً، وقلنا لهم: يحتالون لأخذ المال، وبعض الدجالين يقولون لمن يأتيهم في البداية: لا نريد منكم مالاً، لا نريد إلا وجه الله: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] ولكن بعد ذلك يبدءون بأخذ الأموال. فإذاً لا بد من معرفة الواقع ولماذا قالوا له: لا تسأله عن شيء؟ أو يأتي شكلٌ يخاطبه بالخفاء يقول: أنا روح أبيك ويخبره عن أشياء لا يعرفها إلا هذا الولد فعلاً، ولكن يعرفه القرين ويعرفه الجن المحيطون به، ويخبرون ذلك الشخص فيظنه حقاً وهو دجل وتلبيس، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: (وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانانِ في صورة أبيه وأمه فيقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك) الحديث في سنن ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر أن من فتنة الدجال يبعث له شيطانان في صورة أبيه وأمه الميتين. ثم إن مما يدل على كذبهم في عملية تحضير الأرواح أن الله يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] ويستيقظ الإنسان من نومه، أما الذي يموت في المنام وهو نائم وعددٌ من الناس ماتوا في نومهم، يمسك الله أرواحهم فإذا كان الله يمسكها، فهل تستطيع الروح أن تأتي لهذا الولد؟ ! وإذا وكل الله بالأرواح ملائكة يعذبونها إن كانت شقية كافرة، وينعمونها إن كانت صالحة، فهل يستطيع أحدٌ أن يخرج روح الميت من قبضة الملائكة الموكلين بها؟! فإذا كانت الأرواح ممسكة عند ربها بحسب الآية وموكلٌ بها حفظة أقوياء مهرة، فهل يمكن أن تتفلت لتأتي إلى رجلٍ يقول إنه حضر روح فلان وفلان؟! وإذا كان هذا الشخص الميت صالحاً ينعم في قبره، أو من الشهداء الذين أخبرنا الله عنهم وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم: (إن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر تسرح بهم في رياض الجنة) فهل هذه الروح مستعدة أن تترك النعيم لتأتي إلى هذا الرجل، أو إلى الشيطان، أو إلى الجني، أو إلى الدجال، أو إلى الذي يحضر الأرواح ليلتقي بولده وهو منعمٌ أصلاً في ذلك المكان؟! إذاً: المسألة واضحة ولله الحمد والمنة.
صور من عجز الشياطين:
ثم إنه بعد هذا العرض لبعض قدرات الجن والعلاقة بينهم وبين شياطين الإنس؛ لتنكشف الألاعيب لعامة الناس ويكون الناس على بينة لا بد أن نعلم -أيها الإخوة- أن الله لم يتركنا نهباً للشياطين، وأن الجن بالرغم من قدراتهم الهائلة من الطيران والتشكل ونحو ذلك، فإنهم لا يستطيعون أن يلعبوا بنا كيف شاءوا، وبالرغم من كل ما سبق من القصص، فإن ذلك لا يعني بأنهم يحركون من شاءوا كيف شاءوا، ويخطفون من شاءوا، ويصرعون من شاءوا، وينهبون أموال من شاءوا، ويتلاعبون بأضواء البيوت والكهرباء كيف شاءوا أبداً، فإن لهم قدراً مقدوراً وحداً محدوداً لا يتعدونه، فإن الله أخبرنا عن عجزهم.
من عجزهم: أنهم لا يعلمون الغيب.(/5)
قال الله تعالى في قصة سليمان: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14] وما استمروا على العمل الذي أمرهم به سليمان، وهم لا يعلمون بموته وهم مستمرون في العمل الذي سخرهم الله له، لا يعلمون أن سليمان قد مات تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]. إذاً: لا يعلمون الغيب، وإذا حصل شيء من استراق السمع من السماء عن مسألة غيبية كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك شيءٌ قليلٌ وليس كثيراً، ولذلك يضطر الكاهن أن يكذب معها تسعة وتسعين كذبة، ولذلك فإنهم كما قال الله تعالى لا يستطيعون استراق الخبر إلا شيئاً يسيرا فبين الله تعالى في كتابه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:6-10]. وانظر إلى السماء في ليلة صافية في الليل فإنه لا يخلو الأمر أن ترى بعض الشهب النازلة بهذه السرعة والتي نهينا عن تتبعها بأبصارنا خشية على الأبصار، إذاً إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:10] فهو شيءٌ نادر.
من عجزهم: أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عجز الجن أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (من رآني فإني أنا هو فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي) (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتزيا بي) فإذا رأى إنسانٌ في المنام وهو صادق صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في الكتب شعره غير جعدٍ ولا سبطٍ، في عينيه شدة سواد في شدة بياض، لا بالطويل ولا بالقصير، ربعة، بعيد ما بين المنكبين، عظيم المشاش، أبيض مشرب بالحمرة فهو هو، هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الشيطان لا يستطيع أن يتزيا بصورته عليه الصلاة والسلام في المنام، لكن يمكن أن يخرج له رجلٌ أسود أو شيءٌ غامض يقول: أنا رسول الله افعل كذا، لكن لا يستطيع الشيطان يتمثل بالصورة النبوية الحقيقية في المنام.
من عجزهم: أنهم لا يستطيعون فتح باب مغلق ذكر اسم الله عليه.
ومن عجزهم، أنهم لا يستطيعون فتح بابٍ مغلقٍ ذكر عليه اسم الله، ولا فتح إناءٍ أُغلق وذكر عليه اسم الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً أجيف عليه، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله) متفقٌ عليه، ورواية أحمد : (فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يكشف غطاءً، ولا يحل وكاءً). فإذاً: لا يستطيعون فتح بابٍ ذكر اسم الله عليه، ولذلك إذا دخل العبد بيته وذكر اسم الله قال الشيطان: فاتكم المبيت، فإذا ذكر اسم الله على عشائه قال: فاتكم المبيت والعشاء، فمن رحمته تعالى أنه لم يسلط علينا الجن يفعلون بنا ما يشاءون ويقلبون المعارك، ويقضون مضاجع أهل البيوت كلهم ويلعبون بالعالم، بل إن لهم آثاراً محدودة، وأشياء معينة ينجحون فيها من صرعٍ ونحوه، ولكن ليس نصف الناس مصروعين، ولا ثلاثة أرباعهم، المصروعون عدد قليل، وكذلك المسحورون، وكذلك الذين يصابون بعين، ونحو ذلك من الأشياء، فليس للجن القدرة على التلاعب بكل الناس، فإذا ذكر العبد ربه لم يستطع الشيطان أن يفعل به شيئاً.
من عجزهم: تمكن بعض الإنس منهم.(/6)
بل ذكر بعض أهل العلم أنه ربما حاول شيطانٌ أن يمس إنساناً مؤمناً ذاكراً لله فيصرع الشيطان، فتجتمع عليه الشياطين، يقولون: ما بال صاحبنا؟ فيقول بعضهم لبعض: صرعه الإنسي. وأبو هريرة ألقى القبض على الشيطان، قبض عليه في القصة المشهورة في الصحيحين الذي جاء يسرق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه صارع شيطاناً فصرعه، والقصة في سنن الدارمي صحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي ، فهو عمر رضي الله عنه، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم؟ قال لا والله إني منهم لضليع _أنا من أقواهم- ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم قال: تقرأ: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] قال: نعم، قال: فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ كخبج الحمار، ثم لا يدخلها حتى يصبحْ. والضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح، يخرج الشيطان من البيت له ريحٌ كريح الحمار لا يستطيع أن يعود بعد ذلك.
الفرق بين خوارق الدجالين وكرامات الأولياء:
فإن قال قائل: فرقوا لنا بين خوارق هؤلاء الدجالين الذين يتعاونون مع الجن والمشعوذين والشياطين وبين كرامات أولياء الله المتقين، فالجواب: قال أهل العلم: إن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، ولذلك لا بد من التحري في حال المدعي هذا الخارق أو صاحب الكرامة، فمثلاً هل يصلي الفجر في جماعة؟ هل يغض بصره عن الحرام؟ هل هو ملتزم بأحكام الدين أم لا؟ فإذا تبين لك أنه فاسق فلا يمكن أن يكون الذي يجري على يده كرامة! وإنما هو من فعل الشياطين، ولذلك لا بد من التأكد من صحة معتقد هؤلاء الأشخاص وعبادتهم قبل أن نقول: هذه كرامة، أو هذا من فعل الشياطين. وكذلك فإن ولي الله لو أجرى الله على يده كرامة لا يخبر بها ولا ينشرها في العالمين؛ لأن من إخلاصه أن يكتم أمره، ولكن قد يكشفها الله لبعض الناس، قال تعالى عن مريم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37] كرامة من الله، لكن هؤلاء يقول: تعال أريك أشياء عجيبة، ثم يريه خوارق يفعلون ذلك تباهياً، وهذا لا يمكن أن يعمله ولي الله.
لماذا لا نستفيد من قدرات الجن؟(/7)
فإن قال قائل: ما دام الجن عندهم قدرات، فلماذا لا نستعملهم في فك السحر، وعلاج المصروع، والبحث عن المفقودات، والسيارة المسروقة ونحو ذلك، فنقول: لا يجوز الذهاب إلى هؤلاء الكهنة أو المشعوذين أو الدجالين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم علينا الذهاب إليهم: (من أتى عرافاً فسأله فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) و (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فنحن ممنوعون من الذهاب إليهم، حتى لا يستحوذوا علينا ولا يوقعونا في الشرك، والشارع أعلم فلما نهانا عن الذهاب يجب علينا أن ننتهي. ثانياً: ما يدريك بأن العلاقة بين هذا الإنسي والجني علاقة شرعية أليس في الغالب أنها علاقة شركية؟ وأنه يأمره بالشرك؟ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قال: كان أحد هؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين على فراش الموت فقال لولده: إن شيطاناً كان يطير بي إلى كذا وكذا، فإذا متُّ سيأتيك على هيئة جمل فاركب عليه، فلما مات أبوه جاءه على هيئة جمل فركب عليه فلما صار في منتصف الطريق قال: إن أباك كان يسجد لي، فرفض الولد أن يسجد له فألقاه في الصحراء، فإذاً يأمرونهم بالشرك، وبينا صوراً من ذلك في الخطبة الماضية. ثالثاً: ما يدريك أن هذا الجني المطلوب الاستعانة به مشرك وكافر والله قال عنهم: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14] وكذلك قال: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً [الجن:11] قال المفسرون فمنهم المسلم واليهودي والنصراني والسني والبدعي، وأهل الأهواء موجودون عندهم، فما أدرانا أن هذا الجني صالح مستقيم الدين والعقيدة حتى يجوز لنا أن نتعامل معه، خصوصاً وأن القضية من عالم الغيب؟! إذاً إثبات أن هذا الإنسي صالح وأن الجني الذي يتعامل معه صالح، وأن التعامل مباح، والوسيلة مباحة أمرٌ صعبٌ جداً لا يكاد يثبت، فكيف بعد ذلك يفتح الباب على مصراعيه ونقول: عنده جن يستعملها في المباحات، ولو فرضنا وجد شيء فهو نادر جداً جداً، ولا يجوز التوسع فيه على الإطلاق. قال شيخ الإسلام : والشيطان وإن أعان إنساناً على مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيذنا من شر شياطين الإنس والجن أجمعين، وأن يحفظنا وأهلينا من كل سوء إنه هو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن):
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! إن كثيراً من هؤلاء المشعوذين حيلتهم الدجل والكذب وربما لا يكون عندهم جنٌ أصلاً، ولا يقدرون على تحضير جنٍ ولا على استدعائهم، ولكن يخادعون الناس فيوهمونهم بأشياء، وهذا حال كثيرٍ من الناس، وربما كان بعضهم عاطلاً عن العمل لا يجد عملاً ولا وظيفة فاشتغل مشعوذاً يضحك على الناس يهمه أنه يقرأ ويحصل الأموال الطائلة ويبيع الزيت والماء بأسعار عالية، وما به إلا الفاقة، ثم بعد ذلك ادعى أنه صاحب قدرات وأنه يتعامل مع الجن وهؤلاء كثيرون في المجتمع، وهم يزدادون بشكل مريع، ويجب أن يقف أهل الإيمان والتوحيد لمحاربتهم.
مناظرات مع أهل الشعوذة:(/8)
وبعضهم ادعى هذه الأشياء فيما مضى فتصدى لهم أهل العلم، فإذا نظرنا في مناظرة شيخ الإسلام رحمه الله للفرقة البطائحية الذين كانوا في عهده ينتسبون إلى الرفاعي ونحو ذلك، كيف ناظرهم وكشف زيف حالهم؟ هؤلاء من حيلهم، قال رحمه الله: كانوا يرسلون بعض النساء إلى بعض البيوت يستخذلون عن أحوال أهلها الباطنة، ثم يكاشفون صاحب البيت بما علموه زاعمين أن هذه الأمور من الأمور التي اختصوا بالاطلاع عليها، فإذاً حيلة إرسال نساء للبيوت يطلعون على أحوال البيت فإذا جاءهم من هذا البيت إنسانٌ مسحورٌ مصروعٌ أو فيه ما فيه قالوا: أنت في بيتك كذا، فهل هذا صحيح أم لا؟ أنت عندكم كذا -من الأشياء الباطنة- وهذا المغفل يقول: صحيح كيف عرفوا، لا بد أن عندهم قدرات، فبين رحمه الله تعالى الطرق التي كانوا يتسترون بها، ومن ألاعيبهم أيضاً: قال: ودلسوا على آخر كان يدعى قبجق إذ أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم، وأتوا به في الليل يقولون: هذا القبر سيخبرك بأشياء وأخبار، وأوهموه أن الموتى تتكلم، وما هو إلا صاحبهم يتكلم من داخل قبرٍ وهذا المسكين يظن أن هذا من أنباء الغيب، يوحون بها إليه، ولذلك ناظرهم رحمه الله لما جاءوا بأطواق الحديد بقضهم وقضيضهم وجموعهم أمام الناس والملأ والأمراء في عهده وقال لهم: هذه بدع وصرخ فيهم، قالوا: نحن نريد الأربعة القضاة والفقهاء ونحن قومٌ شافعية، قال شيخ الإسلام فقلت: هذا غير مستحبٍ ولا مشروعٍ عند أحدٍ من علماء المسلمين، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت له: يا كمال الدين ! ما تقول في هذا؟ قال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، وقال: ليس لأحدٍ الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال شيخهم عبد الله الكذاب: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يُوقف عليها وقال: الباطن لنا والظاهر لغيرنا، وأنتم أهل الظاهر ونحن أصحاب الباطن، فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر، والمدارس والمجالس، والشريعة والحقائق كل هذا مردود إلى الكتاب والسنة، ليس لأحدٍ الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فرفع صوته وقال: نحن لنا أحوال ولنا خوارق وكرامات، ونحن ندخل في النار ولا تحرقنا، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمديٍ -المنتسبين إلى أحمد الرفاعي - من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيءٍ فعلوه في النار فأنا أصنع مثلما تصنعون ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق، فضج الناس بذلك، فأخذ ذلك الشيخ عبد الله الكذاب يظهر القدرة ويقول: أنا وأنت ندخل في النار وتحدى، فقلت: قم فلم يقم فأخذت أكرر عليه القيام فمد يظهر -خلع القميص- وأنه سيتحدى فقلت: لا حتى تغتسل أولاً بالماء الحار والخل فقال متظاهراً: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو حزمة حطب فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به المقصود، هات قنديلاً لا حزمة من حطب وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل وذكر لي أنه اصفر وجهه، ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، ولو طرتم في الهواء ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك دليلٌ على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وللخرب: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه ثم يقول له قم فيقوم ومع هذا فهو دجالٌ كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقعٌ عظيم، وذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:118-119] فعندما يكون في الناس من أهل العلم من يكشف الزيف والحيل، وأن بعض الناس مشعوذون لا عندهم جن ولا شيء، وإنما مجرد أكاذيب وألاعيب، فإن الناس لا يذهبون إلى هؤلاء، ولكن إذا سكت أهل الحق والناس في جهل، تراكم الناس على أبواب المشعوذين زرافاتٍ ووحداناً، وأتوهم من كل فجٍ عميق.
بعض علامات المشعوذين:(/9)
فإذا قلت أعطنا علامات للمشعوذ، فإن لذلك علامات كما قلنا، أولاً: أنه ليس بصاحب دين ولا عبادة. ثانياً: أنه ربما يطلب أشياء من المحرمات كخنق ديكٍ أو ذبح شيء، ويشترط أن لا يذكر عليه اسم الله. ثالثاً: يعطي أوراق فيها مربعات ورسومات عجيبة وغريبة، أو يعطي أشياء فيها طلاسم وكلمات غير مفهومة، ويقول: الزمها وضعها تحت المخدة، وعلقها على جنبك، ونحو ذلك، وكذلك يطلب اسمك واسم أمك، هذا من علامات المشعوذ أيضاً، ونحو ذلك من الأشياء والعلامات التي يعرفها بعض من جرب وذهب إلى هؤلاء. نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تنصر السنة وتعلي شأن أهليها، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم اكبت شأن المشعوذين والدجالين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، واكبت اليهود والنصارى والمنافقين، وأظهرنا عليهم يا رب العالمين!(/10)
فقه الأزمة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
في فقه الأزمة والفتنة نواصل حديثنا ، وأسلفت غير مرة أن منبر الجمعة ينبغي أن يكون له دوره البارز ، لكن على منهجية صحيحة ، وبلغة واضحة فصيحة ، وبأسلوب منهجي حكيم ، ليس فيه مزايدات سياسية ، ولا مهاترات إعلامية، ولا مغالطات من هنا أو هناك ..
ومن هنا ؛ فإنما سأذكره أمر يفيدنا في حياتنا العامة كلها ، وفيما قد يمر بنا أفراداً من مشكلات أو معضلات ، في دوائرنا الضيقة الخاصة ، كما أنه من باب أولى يفيدنا فيما يحيط بنا كمجتمع ، وما يحيق بنا كأمةٍ ونحن نرى تكالب الأعداء من كل حدب وصوب ، وتوجّه سهامهم في كل ميدان ومجال ، وحصول كثير من الأمور المؤلمة المحزنة سواء ما كان ذلك مادياً محسوساً بانتهاك العرض ، أو استلاب الأرض ، أو احتلالها ، أو غير ذلك .. أو ما كان معنوياً فيما تعلق باختراق الأفكار ، وإثارة الشائعات ، وكثرة الشبهات ، ونحو ذلك فلعلنا في أضواء كتاب ربنا ، وفي ضلال سنه نبينا صلى الله عليه وسلم ، وعلى أرضية تاريخنا المشرق والوضيء ، ومن خلال واقعنا الذي نتأ مله بكل هذه المعاني والمعالم أن نتلمح طريقناً ، واضحاً ، نافعاً ، مفيداً ، بإذن الله عز وجل .
أولاً : التثبت والتبيين
فهذا معلم واضحاً في منهج الإسلام لا ينبغي تعجل لا تستجلي في الحقيقة ولا رد فعل تغيب فيه الإثباتات في أي أمر من الأمور صغيرها وكبيرها .. { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } .
وكم من خبرٍ في أمورنا الخاصة وحياتنا الشخصية تلقيناه دون تمحيص ورمينا آخرين بتهم وجزلنا بوقوعهم في الخطاء ثم تبين من بعد أننا لم نعي ما سمعنا ، وأننا تجاوبنا مع عواطفنا ومشاعرنا دون أن نتثبت على وفق المنهج القرآني .. { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري في الأدب المفرد : ( بئس مطية الرجل زعموا ) ، تسأله ما حجتك في ذلك : " سمعتهم يقولون " ..
وكالة يقولون وكالة مذمومة في كتاب الله عز وجل { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله } .
وتلك فدية عظيمة من لم يكن في كل أمره متثبتاً متبيناً ؛ فإنه يوشك أن تكون حالته دائماً أنه صحيفة لكل من شاء أن يكتب فيها خبراً صادقاً أو كاتباً قضيةً صائبةً أو خاطئة فهو حينئذٍ كما وصف الله - عز وجل - أهل النفاق {
والذين في قلوبهم مرض إذ تلقونه بألسنتكم } .
فهم يتلقون بآذانهم وأسماعهم ، لكنهم يمرون ذلك على عقولهم ، ولا على مناهج التثبت والتمحيص فينطقون به بألسنتهم ..
ولعل حادثة الإفك وهي شأن لم يكن خاصاً برسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - بل عمّ مجتمع المسلمين وكان حدثً من أشد ما مر بهم من الفتنة ، والأزمة ، وشيوع الشائعات ،وكثرة القالات .
ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي شيء فعل
مما روته عائشة كما في صحيح مسلم مواقف وغمضات ، قالت : جاء إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال : أما بعد يا عائشة ؛ فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله - عز وجل - وإن كنتِ ألممت بذنب فاستغفر الله وتوبي إليه ؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه .
رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة يسألها ويستثبت منها ، والأمر كان جد عصيب ، ولم يكن في نفسه - عليه الصلاة والسلام - شك وريبة لكن الأمر وقد تعلق به أراد أن يقطع قطعاً جازماً ، وأن يبين بياناً يخرس الألسنة ، ثم كان له من بعد - عليه الصلاة والسلام - مواقف أخرى ، وأسئلة من هنا وهناك ، ثم رقى المنبر وقال : من يعذرني من رجل تكلم في أهلي ، حتى اختلف الحيان من الأوس والخزرج فسكنّهم وأسكتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تنزلت البراءة من فوق سبع سماوات جازمةً ، قاطعةً ، ناصعةً ، شاهدةً ، ببراءة الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها - وليس المقام مقام إفاضة وإنما أريد أن نأخذ هذه القضايا في أصولها وفي عناوينها ودلالاتها فحسب .
ثانياً : العدل والإنصاف
وما أدراك ما العدل والإنصاف أمر عزيز ، ثقيل ، لا تطيقه إلا النفوس المؤمنة الخالصة ، المخلصة ، إذ في النفوس من الأهواء ، ومن شوائب البغضاء والعداء ، ما يحملها على ظلم من تخالفه بل على الظلم أحياناً بصورة عامة إذا كانت تريد تحصيلاً لمصلحتها أو تحقيقاً لمنفعتها
والله - جلّ وعلا - يقرر تقريراً عظيماً في هذا الدين { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } ، ذلك هو أمر الله بالعدل على إطلاقه في كل حال ، ومع كل أحد ، وتحت كل ظرف ، فإن العدل قيمة مطلقة وهو من أسس هذا الدين ، ومن أخلاقه العظيمة ، ومبادئه الرائعة البديعة ، ومن هنا جاء قول الحق سبحانه وتعالى : { ولا يجرمنكم شنئآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .(/1)
لا يحملنكم بغض قومٍ على أن تظلموا وتحيفوا عليهم ولو كانوا من الأعداء ومن غير المسلمين ، فكيف بغيرهم من المسلمين ؟
وذلك أمر مهم ؛ فإن أحوال الفتن والأزمات تثير الضمائر ، وتشعل نيران الأحقاد ، فمن لم يكن له نفس مؤمنة ، وعقل راجح ؛ فإنه يتحرك ويندفع مع أهوائه ويقع في الظلم الذي حرمه الله - عز وجل - كما ورد في حديث أبي ذر - القدسي - عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال : ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرم فلا تظالموا ) .
وكم من قضية تستطيل فيها الألسنة ! وتتحرك فيها الأهواء لتكون حينئذٍ ظلماً محضاً ، ولننظر مرة أخرى إلى مواقف خلّص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ..
في تلك الحادثة - حادثة الإفك - وفي هذه الرواية عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقربين منه ، قالت عائشة في روايتها : فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله فقال : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيراً ، وأما علي - رضي الله عنه - فقال : لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، فسأل النبي بريرة - جارية عائشة - فقالت رضي الله عنها : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمسه عليها إلا أنها كانت جارية حديثة السن تعجن العجين فتنام عنه فتأتي الداجن فتأكله ..
أولئك قوم لم يكن لأحد منهم أن يحكم ولا أن يجور في حكمه بل حموا أنفسهم ، وتوقفوا عند حدودهم ، وأحسنوا ظنونهم .. ورحم الله أبا أيوب الأنصاري عندما نقلت له أم أيوب ما يقال ويشاع ، فقال : يا أم أيوب أكنتِ فاعلة
قالت : لا والله ، فقال : فلعائشة خيرٌ منكِ ، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرٌ مني .
ذلكم هو الإنصاف والتدرج ، أن تضع نفسك موضع من أرسلت عله سهام التهم بغير بينة أو برهان ، وأن تتحرى أن لا تكون مجرماً ، معتدياً ، حتى وإن كان المخطئ قد وقع في خطئه وثبت خطئه ؛ فإن حكمنا عليه ينبغي أن لا يتجاوز حدود الخطاء وإلا كنا عادلين فيما حكمنا عليه من خطئه وجائرين فيما زدنا عليه مما لم يثبت له وذلك هو الأمر الذي لا بد منه .
ومن روائع ذلك العجل والإنصاف الذي لا يكون إلا مع شدة التحري والإيمان والورع ما كان من أم المؤمنين زينب ، وما أدراك ما زينب ! تقول عائشة عنها هي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم – أي هي المنافسة التي قد يكون بينها وبينها شيء - فسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ..
لم تنتهز فرصةً لتشفي غليلاً ، ولن تستجب لهون قد يكون داعياً في النفس بطبيعته لمن ينافس أو يكون في ذات المرتبة .
قالت عائشة رضي الله عنها : " كانت هي التي تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع
، وأما أختها - وهي حمنة بنت جحش - فخاضت وكانت تحامي وتسامي عن أختها فهلكت فيمن هلك " .
فانظروا صاحب الشأن ترفع واستعلى ، وعدل وأنصف ، وتورع وأخلص ، وغيره فاته ذلك فوقع وأخطأ وجار في حكمه وذلك ما ينبغي أن نتنبه له .
ثالثاً : الإخلاص والتجرد
فإن الأزمات يتأكد فيها الإخلاص لله عز وجل والتجرد من المصالح والمنافع الذاتية ، والارتباط بمصالح الأمة والمصالح العامة ؛ فإنه من غير المقبول مطلقاً أن يكون هناك أتباع لأهواء النفوس ؛ لتحصيل المكاسب أو لأخذ المنافع الذاتية وفوق ذلك إغضاء ، وإعراض ، عما قد يترتب على ذلك من مضرة في المصالح العامة فلا بد من الترفع عن الأهواء ، والبعد عن حب الظهور ، والابتعاد عن الانتصار للنفس ، والتشفي وكم في مواقف الصحب الكرام - رضوان الله عليهم - ما يدل على سمومٍ في هذه المعاني .
ولعل ما أثر عن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - في معركة وقتالٍ مع الأعداء ليس في حال من حالات السلم أو السكون وقد أوشك أن يعلوا بسيفه على رجل من أهل الشرك فسبه وبسق في وجهه فأمسك علي سيفه وتركه
لما قال خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضاه الله عز وجل .
تلك النفوس التي ترتفع عن الانتصار لذاتها ، والتشفي لمتطلبات أهواء نفوسها ، وذلك ما ينبغي أن يكون .. فكم من مخالف تختلف معه في قضية شخصية ثم تأتي فرصة فإذا بك كأنما تنتقم منه ! متخطياً العدل والإنصاف متناسياً التثبت ولتبين مندفعاً مع حب الانتقام أو مع تصفية الحسابات وحينئذٍ تختلط الأوراق ، وتعظم الفتنة ، وتتكاثر أسباب الأزمة ، لأنه تغيب حينئذٍ الحقائق مع مثل هذه الأمور .
ومن ثم - أيها الأخوة الأحبة - لا عصمة إلا بالإيمان ولا وقاية إلا بخوف الرحمن ، ولا يمكن أن يسير الإنسان في هذا الحقل من الأشواك بما فيه من أهواء النفوس ، ووساوس الشياطين ، وقرناء السوء ، وتسلط الأعداء ، إلا أن يعصمه الله - سبحانه وتعالى - باستمساكه بكتابه واعتصامه بسنه رسوله صلى الله عليه وسلم .(/2)
ألسنا نعرف من مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير التي ترك فيها ما هو لنفسه ، وما هو حق ، له إرادة المصلحة العامة وإرادة الخير للأمة ، بل قد فعل ذلك أصحابه - رضوان الله - عليهم فترفعوا عن مثل هذا ، والأمر -كما قلت - يطول فيه الحديث ومن بعد .
رابعاً : المصارحة والمناصحة
فإنه لا بد في أوقات الأزمة والفتنة أن تكون مصارحة مبنية على الحقائق ، ومناصحة تترجم الحرص على المصلحة العامة ، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث من جوامع كلمه قدر النصيحة في دين الله عز وجل : الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وهو حديث عجيب جدير بتأمل ومعرفة دلالاته .. النصيحة لله - عز وجل - ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فهل بقيت دائرة تخرج عنها هذه النصيحة ولا تشملها ؟ فأين التناصح بالإخلاص وقول الحق بالأسلوب والمنهج الحكيم ، الذي يحقق المنافع والمقاصد ، ولا يكون مثيراً لغير ذلك مما يعارضه أو يناقضه .
ونحن نعلم كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطبّق ذلك ويطبقه أصحابه ويعلنون الحق ، ويبرزون الصدق ، خاصةً في المواقف العصيبة مع كل الأدب والاحترام ومع كل الحكمة ووضع الأمور في نصابها أليست غزوة الأحزاب كانت شدة من أعظم الشدائد ، ومحنه من أقصى المحن في ذلك الأتون الذي مر بالنبي - عليه الصلاة والسلام - والصحابة مع شدة خوف وجوع وبرد ، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يخفف فأراد مقترحاً أن يعطي لغطفان ثلث ثمار المدينة حتى يرجعوا عن الأحزاب ويتفكك هذا الجمع الغفير من الأعداء ، فسأل واستشار - عليه الصلاة والسلام - السعدين سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فماذا قالا ؟ بكل الأدب وبكل الفقه : أوحي يا رسول الله أم أمر تراه لنا ؟ إن كان وحياً فهو موضع التسليم لا الاعتراض ، ولا رأي ، ولا نقاش ، فذلك الذي تخضع له الرقاب وتمتثل له الأمة المسلمة ، وأما إن كان رأياً تره لنا ، قال : بل رأي أراه لكم ، فصدقوه القول وصارحوه ، وقالوا : يا رسول الله كنا وهؤلاء في جاهلية وكفر والله ما يطمعوا منا بتمرة إلا شراءً أو قرا ، أفبعد أن أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك نعطيهم ثمارنا ! والله لا نعطهم إلا السيف . فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيهم ومشورتهم .
ينبغي أن نخلص النصح والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل ذلك في البيعة للإسلام ، كما ورد في الحديث الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال : بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام ، فزادني والنصح لكل مسلم .
لماذا إذا رأينا المخطئ لم يكن عندنا إلا سهام الاتهام والإغلاظ والجفاء دون أن نخلو به دون أن نكون فيما بيننا وبينه وإن قررنا خطأه وإن ثبت جرمه قلنا له عد إلى الله ، وتذكّر الله ، وارجع فإن أبواب توبة الله - عز وجل - مفتوحة ، وذلك ما يعين على تلاف كثيرٍ من الأخطاء وعدم التمادي فيها ، وذلك ما سيحكم أيضاً بإحكام وأمرٍ آخر أذكره وهذا أمره يطول .
خامساً : المرابطة والمواجهة
وهي أمرً مهم ؛ فإننا اليوم على مستوى الأمة الإسلامية جمعاء ، وعلى مستوى هذه البلاد والمملكة خصوصاً مستهدفون بالعداء ، لا يحتاج ذلك إلا برهان ، ولا يحتاج إلا تفصيل وبيان ، ونحن نعلم الاستهداف فكرياً ، ومنهجياً ، وتعليمياً ، واجتماعياً ، وسياسياً وكل ذلك ظاهر ، بين ، معلنٌ ، فكيف حينئذٍ لا نلتفت إلى أننا مرابطون على ثغور الإسلام لأن هذا البلد هو بلد الإسلام فيه نشأ ومنه انطلق ولا يزال في أصل بلاد الحرمين هذا الإسلام وإعلان تطبيق شريعته ، وإظهار معالم شعائره ، وشرائعه ، والانتداب لذكره ، ونشره ، والدعوة إليه ، ثم بعد ذلك ننشغل عن هذا الهجوم الشرس بما قد يكون أدنا منه وهذا من فقه الأولويات الذي ذكرته من قبل لا بد أن ننتبه إلى الخطر الأعظم ، فلا نغفل عنه ونعطيه من الالتفات إليه ، ومن المواجه له ومن المرابطة لعدم اختراقه لصفوفنا ما يستحق .
ولعلي هنا أنقل نقلً واحداً في ومضة سريعة لمسئول من المسئولين في تلك البلاد والدول المواجه والمعلنة لهذا العداء ، يقول : " لدينا إستراتيجية غاية في البساطة ، فنحن نريد في المنطقة نظم موالية لنا ، ثم إننا نريد ثرواتها بلا منازع ، فنحن نريد ضماناً نهائياً لأمن إسرائيل ؛ لأنها الصديق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه " ، فنحن نقول لا ينبغي أن ننسى في أي وقت وتحت أي ظرفٍ ما يحيط بديننا ، وأمتنا ، وبلادنا ، ومجتمعنا ، من هذا العداء الذي يبرم أمره كل ليلٍ وكل نهار وتتوالى أحداثه وتتوالى إعلاناته وتظهر ملامحه في كل ميدان ومجال ، وهي قضية مهمة لا بد من الانتباه لها وعدم نسيانها بحال من الأحوال .
سادساً : الوحدة والاجتماع(/3)
فإنه مهما كان من أمرٍ فإن الذي أشرت إليه من وجود الوحدة الجامعة والولاية الشرعية المجمع عليها والمنعقدة والمنتظمة التي لا يصح الخروج عنها ولا الانفلات منها ، وقد أشرنا إلى أدلة ذلك الشرعية وإلى الأضرار والمفاسد المترتبة عليه ، فينبغي حينئذٍ أن لا نتبادل الاتهامات ، وأن لا نسمح للاختراقات أن تشقق أو تفتت وحدتنا ، وأن تزايد على لحمتنا وأن تمس أصل اجتماعنا وأتلافنا على أصل ديننا وعلى أصل ولايتنا ، بحيث لا يكون هناك أثر لذلك .
والأمر من بعد ومن قبل أوسع وأعظم من أن تحيط به كلماتنا في هذا المقام - وللحديث بقية نتمها - ولكني أحب أن أؤكد - معاشر الأخوة - أنه لا بد لنا في كل أمر من أمورنا الخاصة والعامة الصغيرة ، والكبيرة ، أن يكون مرجعنا كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الأئمة من العلماء قديمهم ، وحديثهم والاسترشاد بالآراء والتوجيهات التي ترتبط بذلك وتنطلق منه ومن قبل ذلك ومعه كذلك الاستجابة والطاعة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولولاتهم { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم } .
وكذلك ما نعلمه من هذه المعاني التي نحتاج إليها ، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ على أمة الإسلام أمنها وأمانها وأن يحفظ عليها وحدتها وقوتها وأن يعيد إليها قوتها وعزتها .. نسألك اللهم لهذه البلاد المقدسة الطاهرة أن تحفظ عليها أمنها ، وأمانها ، وإسلامها ، وسلامها ، ورزقها ، ورغد عيشها ، وألفتها ، ووحدتها ، ونسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين ، وشرور المعتدين ، وفتنة الفاتنين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، فاتقوا الله في السر والعلن واحرصوا على أداء الفرائض والسنن ، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، واجتنبوا كل ما شاع وظهر من الفتن ، نسأل الله - عز وجل - أن يسلمنا منها ، ثم كذلك - أيها الأخوة - أمران أختم بهما وأعرج على صور تناقض كثيراً مما ذكرناه .
سابعاً : الإعلام والإحكام
والإعلام اليوم هو الذي يسمعه الناس ويرونه يقرؤونه مكتوباً على الصحف ، ويشاهدونه على الشاشات ، ويسمعونه من الإذاعات ، ولذلك فهو مصدر من المصادر الأساسية ، بل يكاد يكون عند كثيرٍ من الناس هو المصدر الأول لمعرفة المعلومة وتحليلها وما ورائها وغير ذلك .
ومن هنا تأتي مسؤولية الكلمة ، ومسؤولية الإحكام في الحديث عن الأمور كلها ، وخاصة في الأحوال التي تكون فيها التباسات واشتباهات ، ومن هنا ندرك عظمة الكلمة في منهل الإسلام { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .. { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } .
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به بنار سبعين خريفا ) .
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري ، الرجل يتكلم بالكذبة يطيرها عنه الناس ، أخبر - عليه الصلاة والسلام - أنه هو المعذب بكلاليب تؤتى بفمه ثم تشقه إلى آخر شدقه ثم يعود كما كان .
ومن هنا لا بد لكل أحد في كل دائرة من دوائره - حتى في أسرته وفي دائرة قرابته - أن يحرص على الانتباه لهذا والدقة فيه ؛ فإنه قد يكون أمران متناقضان أو متباعدان والوسط بينهما هو الحق فثمة مبالغة في التهويل أو مبالغة في التهوين وليس ذلك مطلوباً ، ولا هذا مرغوباً ، بل ينبغي الحرص على الحقائق ، وليس كذلك كل ما يعلم ويقال فإن من الأمور ما ينبغي إخفائه أو عدم التصريح به لأن لا يتسبب في أمور من البلبلة أو غير ذلك وهذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عندما بلغه في ذلك الموقف العصيب في يوم الأحزاب بلغه نقض بني قريظة للعهد ، فلم يقبل الخبر على عواهنه بل أراد تثبتاً وتبيناً ، فأرسل السعدين ؛ ليستجليا له الخبر ، ثم قال : إن علمتما خيراً فأذيعا - إن كان الأمر أن القوم على عهدهم فانشروا ذلك وأذيعوه وبثوه في وسائل الإعلام ؛ ليثبت القلوب ، ويرفع الروح المعنوية ، ويزيل البلبلة - وإن كان غير ذلك فالحنوا لي لحناً لا يعرفه غيري - قولوا قولاً ليس صريحاً ، لا يفقهه سواي ؛ حتى لا تشاع أو حتى لا يذاع الخبر فيكون سبباً في شيء من إضعاف المعنويات أو في شيء من الخوف أو نحو ذلك - فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : عضل والقارة - ذكروه بأخبار بعض من سلف من الغادرين - فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ) .(/4)
أراد أن يطمئن النفوس والقلوب وإن كان قد أخذ بالأسباب ، ولن يغب عنه ما ينبغي أخذه في مثل هذا الأمر ، لكنه كان يدرك - عليه الصلاة والسلام - كيف ينبغي أن تبث الأخبار وأن تنشر الوقائع ، كما نرى أحياناً في وسائل الإعلام في بعض ما يحصل من الجرائم والفواحش ويذكرون قصصها ، وتفاصيلها ، فيكون في بعض الأحيان أثر ذلك من الناحية السلبية أكثر من الإيجابية فتهون المعاصي في نفوس الناس ، وتجرؤهم عليها ، وقد تبين لهم سبلها ، وذلك ما يقولونه أو ما يقوله الإعلاميون والتربويون والنفسيون فيما تبثه الوسائل الإعلامية من الأفلام الإجرامية والعنفية وغير ذلك ، فينبغي أن نراعي ذلك وأن نلتفت له .
ولا بد من الدقة في استخدام المصطلحات ، وتحرير محل النزاع وعدم إطلاق الكلمات التي لها دلالات مختلفة دون تعيينها وتحديدها ، حتى لا يحصل من ذلك ما يكون فيه أثر غير محمود .
ثامناً : الشرع والردع
هو الأساس الذي ينبغي أيضاً تحكيمه وإحكامه ؛ فإن إقامة شرع الله - عز وجل - أمراً لا بد منه ، فكل من وقع في إثمٍ أو اقترف ذنباً ، أو ارتكب كبيرةً ، أو اجترأ جريرةً ؛ فإنه إن استوفي حكمه بقضاءٍ وثبت عليه ما عليه ، فإن حكم الشرع يأخذ طريقه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغنى من حد فقد وجب ) .
فإذا بلغ الأمر إلى الوالي والحاكم الشرعي ؛ فإنه لا مجال حينئذٍ إلا تمحيص البينات ، وتحقيق القضايا ، ثم إقامة الأحكام .
والردع في منهج الشرع أوسع من إقامة الأحكام ، فالحدود الشرعية في السرقة والقتل والزنى وغيرها هي من العلاجات التي تحسم مادة الفتن والجرائم ، لكنها ليست وحدها ؛ فإن الإيمان قبلها ، وإن تنمية الرقابة الله - عز وجل - والخوف منه ، والحياء منه ، والنظر إلى العواقب في الآخرة ، وغير ذلك من الأمور التربوية والاجتماعية هي أيضاً من أساليب الردع .
و أختم بقضية مهمة وهي :
تاسعاً : التربية والتهيئة
فإن التربية في المنزل وفي المدرسة وفي الشارع هي التي بإذن الله - عز وجل - كانت على المنهج الصحيح وقتنا كثيراً من الشرور وكانت على مبدأ الوقاية خير من العلاج ..
تركنا أبنائنا لا نعلمهم ، لا نربيهم ، لا نلفت نظرهم من لأخطاء ، لا نحذرهم من المشكلات ، ثم ذهبوا إلى دور العلم فلم يجدوا من التربية من المعلمين توجيهاً وتنبيهاً وتذكيراً ، ولفت نظر وعلاج أخطاء ما ينبغي ، ثم خرجوا إلى المجتمع فلم يجدوا من وسائل الإعلام أو من الدعاة والعلماء القدر الكافي الذي يوجه ويرشد ويبين الأخطاء ويوضح المعالم .. فحينئذٍ حصل لنا بعض ذلك الذي وقع من التفريط والغلو والتطرف ، وقد أسلفنا القول فيه من قبل .
ثم أيها - الأخوة الأحبة - لعلنا هنا نختم في هذا المقام بإعادة التذكير ، وهو أنه ينبغي لنا أن نتحدث بصوت هادئ ؛ فإن الجعجعة والصراخ لا تنفع في هذه الأحوال ، وأننا ينبغي لنا أن نتحدث بمنهج سليمٍ سديد ؛ فإن المهاترات لا تنفع ، ونحن ينبغي لنا أن لا نتعجل ، وأن لا نجعل هناك شيءٌ من الافتراق والتباعد ، ولا ينبغي أن نتكلم عن هذا أو ذاك بأنه مخالف للشرع ، وبأنه يريد مصادرة الدين ، وبأنه يريد كذا وكذا ..
ولا ينبغي لمن يعتلي المنبر أو يتكلم في الوعظ والإرشاد كما لا ينبغي للآخرين أن يقولوا عن كل ملتزم أو متدين بأنه مخطئ في كذا ، وأنه يقصد كذا حتى كأن الناس شقوا عن القلوب والنوايا ينبغي لنا أن ندرك عظمة الخطر ، وأهمية الاتحاد ، ومرجعية الشرع ، وينبغي لنا أن ندرك أن مزية هذه البلاد - أولاً وآخراً - هي قيامها على الإسلام ، وتحالف الدولة مع الدعوة ، وأن أمر الاستهداف إنما هو أعظمه وأكثره في ديننا ، فلا ينبغي أن يكون منا جميعاً لا من هذا ولا من ذاك ، وأن لا نصنف الناس فريقين وأن نقول أهل المنابر وأهل المحابل ، ونجعل هناك أموراً تثار فيها البلابل .
ينبغي لكل مسلم - وكلنا مسلمون - أن يكون مخلصاً لله ، ومراعياً لبعض هذا الذي ذكرته ، فهو ينطبق على جميع الناس لا يستثنى منه أحد ، ولا يظنن أحد كذلك أن العالم أو الداعي مبرأ من النقص أو منزّه عن الخطأ ، بل هو إنما يستمد قوة نهجه أو صواب رأيه من أصل كتاب الله وسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ، ومن خلفهما وهما عصمة كل معتصم ونجاه كل راغب في النجاة بإذن الله نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً …(/5)
فقه الأضحية
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن للأضحية أحكامًا وآدابًا، أحببت أن أُذَكِّر بها إخواني الكرام من خلال هذه الكلمات الموجزة:
تعريف الأضحية:
الأضحية اسم لما يذبحه المسلم من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة تقربًا إلى الله تعالى، وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: «سميت الأضحية بهذا الاسم لأنها تفعلُ في الضحى، وهو ارتفاع النهار». [مسلم بشرح النووي جـ7 ص127]
حُكْمُ الأضحية:
الأضحية سُنَّة مؤكدة، يكره تركها لمن يقدر عليها. [المجموع للنووي جـ8 ص583/ المغني جـ31 ص63]
روى مسلم عن أم سلمة، رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدُكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره».
[مسلم ـ الأضاحي ـ حديث 14]
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في هذا الحديث: دلالة على أن الضحية ليست بواجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: «وأراد أحدُكم أن يضحي». [سنن البيهقي جـ9 ص362]
في هذا الحديث علق النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب. روى عبد الرزاق عن أبي مسعود الأنصاري قال: «إني لأدعُ الأضحية وإني لموسر، مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليَّ. [إسناده صحيح، مصنف عبد الرزاق جـ4 ص383]
وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب أنه قال لرجل: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تركته فليس عليك.
[إسناده صحيح، مصنف عبد الرزاق جـ4 ص083]
وقال الإمام مالك بن أنس: «الضحية سنة وليست بواجبة، ولا أحبُ لأحد ممن قوي على ثمنها أن يتركها». [موطأ مالك جـ1 ـ كتاب الضحايا ص883]
فضل الأضحية:
روى عبد الرزاق عن طاوس قال: «ما أنفق الرجل من نفقة أعظم أجرًا من دم يُهراق في هذا اليوم ـ أي يوم النحر ـ إلا رحم يصلها».
[إسناده صحيح، مصنف عبد الرزاق جـ4 ص683]
الأنعام التي تكون منها الأضحية:
اتفق أهل العلم أن الأضحية لا تصح إلا من الإبل والبقر، ومنها الجاموس، والغنم ومنها الماعز، بسائر أنواعها، فيشمل الذكر والأنثى، والخصي والفحل، ولا تجزئ غير هذه الأنواع، لأنه لم ينقل أحد من العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، التضحية بغير هذه الأنواع من الأنعام، ولأن الأضحية عبادة تتعلق بالحيوان، فتختص بهذه الأنواع المذكورة فقط. قال تعالى: ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [الحج:43].
[الفقه الإسلامي الزحيلي جـ3 ص116]
أفضل الأضاحي:
الإبل ثم البقر ثم الغنم ثم الاشتراك في الإبل ثم الاشتراك في البقر. [المغني جـ31 ص663]
قال البخاري ـ رحمه الله ـ قال يحيى بن سعيد الأنصاري: سمعت أبا أمامة بن سهل قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون.
[البخاري ـ كتاب الأضاحي باب 7]
روى عبد الرزاق عن عروة بن الزبير قال: «لا يُهدي أحدُكم لله ما يستحي أن يُهدي لكريمه، الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له.
[إسناده صحيح، مصنف عبد الرزاق جـ4 ص683]
سِنُّ الأضحية عند الذبح:
يُجْزئ من الضأن ما له ستة أشهر ودخل في السابع، ومن الماعز ما له سنة كاملة ودخل في الثانية، ومن البقر ما له سنتان كاملتان ودخل في الثالثة، ومن الإبل ما له خمس سنين ودخل في السادسة، يستوي في ذلك الذكر والأنثى، ولا يجزئ أقل من ذلك. [الاستذكار لابن عبد البر جـ51 ص451/ المغني لابن قدامة جـ31 ص863:963]
ويجب على المسلم الذي يريد أن يُضحي ويحرص على اتباع السنة أن يتأكد من سن الأضحية عند شرائها وذلك بسؤال أهل الخبرة.
روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مُسنة إلا أن يَعْسُر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن». [مسلم حديث 3691]
التضحية بالخَصِيّ من الأنعام:
يجوز أن تكون الأضحية بالخصي من الإبل أو البقر أو الغنم.
روى ابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين، أملحين موجوءين.
[حديث صحيح، صحيح ابن ماجه حديث 1352]
موجوءين: أي: خصيين. [لسان العرب جـ6 6674]
الخِصاء: إذهاب عضو غير مستطاب، يَطيبُ اللحم بذهابه ويكثر ويسمن. [المغني جـ31 صـ73]
ما لا يُجزئ من الأضاحي:
روى أبو داود عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء، بَيِّنٌ عَوَرها، المريضة بينٌ مرضها، العرجاء بينٌ ظلَعُها، والكسيرة التي لا تُنْقي. أي لا نقي لها، وهو المخ.
[حديث صحيح، صحيح أبي داود 1342](/1)
قال ابن عبد البر: أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجمع عليها، لا أعلم خلافًا بين العلماء فيها، ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها، إذا كانت العلة في ذلك قائمة، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز في الضحايا، فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء، فالمقطوعة الرِّجْل أحرى ألا تجوز، وكذلك ما كان مثل ذلك كله».
[الاستذكار لابن عبد البر جـ51 ص421]
العيوب اليسيرة في الأضحية معفو عنها:
قال الخطابي عند شرحه لحديث «أربع لا تجوز في الأضاحي» في هذا الحديث دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول: بينٌ عورها، بين مرضها، بينٌ ظلعها، فالقليل غيرُ بينٍ، فكان معفوًا عنه». [معالم السنن للخطابي جـ2 ص991]
الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته:
يجب أن نعلم أولا أن أهل بيت الرجل هم من تلزمه النفقة عليهم، قليلا كانوا أو كثيرًا، والأضحية بالشاة الواحدة تجزئ عنهم جميعًا.
[مجموع فتاوى ابن تيمية جـ32 ص461]
روى ابن ماجه عن عائشة وأبي هريرة، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين سمينين، أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم. [حديث صحيح، صحيح ابن ماجه 1352]
وروى الترمذي عن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت كما ترى. [حديث صحيح، صحيح الترمذي حديث 1621]
روى عبد الرزاق عن عكرمة قال: كان أبو هريرة يجئ بالشاة، فيقول أهله: وعنا، فيقول: وعنكم.
[إسناده صحيح، مصنف عبد الرزاق جـ4 ص483]
الأضحية عن الجنين:
روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر لم يكن يضحي عما في بطن المرأة.
[صحيح، موطأ مالك ـ الأضاحي 31]
الأضحية عن الغائب:
روى عبد الرزاق عن معمر قال سألت الزهري: أنضحي عن الغائب؟ فقال: لا بأس به.
[صحيح، مصنف عبد الرزاق جـ4 ص283]
الاشتراك في الأضحية الواحدة:
يجوز للمسلم أن يشترك في الأضحية مع غيره إذا كانت من الإبل أو البقر، فيجزئ البعير الواحد أو البقرة الواحدة عن سبعة أفراد.
[المغني لابن قدامة جـ31 ص293]
روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. [مسلم حديث 8131]
ذبح الأضاحي عن الأموات:
يجوز ذبح الأضاحي عن الأموات ويصل الثواب إليهم، إن شاء الله، لأن الأضحية نوع من الصدقات، والصدقة تصح عن الميت وتنفعه.
روى ابن ماجه عن عائشة وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد صلى الله عليه وسلم.
[حديث صحيح، صحيح ابن ماجه حديث 1352]
قال ابن تيمية: تجوز الأضحية عن الميت كما يجوز الحج عنه والصدقة عنه ويُضحى عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها.
[فتاوى ابن تيمية جـ62 ص603]
وقال محمد شمس الحق العظيم آبادي: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضحي عن أمته، ممن شهد لله بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ وعن نفسه وعن أهل بيته، ولا يخفى أن أمته صلى الله عليه وسلم ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، كان كثير منهم موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكثير منهم توفوا في عهده صلى الله عليه وسلم، فالأموات والأحياء كلهم من أمته صلى الله عليه وسلم ودخلوا في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم، والكبش الواحد كما كان للأحياء من أمته، فهو كذلك للأموات من أمته صلى الله عليه وسلم بلا تفرقة.
[عون المعبود جـ7 ص483]
ما يتجنبه صاحب الأضحية:
روى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهَلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذن من شَعْره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي». [مسلم ـ الأضاحي حديث 24] النهي في هذا الحديث يشمل شعر الرأس والشارب والإبط والعانة.
وقت ذبح الأضحية:
يبدأ وقت الأضحية بعد الانتهاء من صلاة العيد أو مرور وقت بمقدار الانتهاء من صلاة العيد ويمتد الذبح ليلا ونهارًا حتى آخر أيام التشريق الثلاثة.
[الاستذكار جـ51 ص891/ المجموع جـ8 ص983:193]
التحذير من ذبح الأضاحي قبل صلاة العيد:
لا يجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد أو قبل مرور وقت بمقدار صلاة العيد.
[سبل السلام للصنعاني جـ4 ص335]
روى البخاري عن البراء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء». [البخاري حديث 569](/2)
وروى مسلم عن جُندب بن سفيان البجلي قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يَعْدُ أن صلى وفرغ من صلاته وسَلَّم، فإذا هو يرى لحم الأضاحي قد ذُبحت قبل أن يفرغ من صلاته فقال: من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله». [مسلم حديث 0691]
التوكيل في ذبح الأضحية والتصرف فيها:
من السنة أن يقوم صاحب الأضحية بذبحها بنفسه، روى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين، أقرنين، ويضع رِجْله على صفحتهما ويذبحهما بنفسه.
[البخاري حديث 4655/ مسلم حديث 6691]
ويجوز لصاحب الأضحية أن يُنيب غيره في ذبحها والتصرف فيها بلا حرج، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التوكيل وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثًا وستين بدنة ثم أعطى السكين لعلي بن أبي طالب فنحر الباقي وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدى مائة بدنة في حجة الوداع. [البخاري 8171/ مسلم 8121]
توجيه الأضحية إلى القبلة:
يُستحبُ عند ذبح الأضحية أن تُوَجَّه تجاه القبلة.
روى مالك عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر ينحر هديه بيده، يصفهن قيامًا ويوجههن إلى القبلة. ثم يأكل ويطعم.
[صحيح، موطأ مالك ـ الحج ـ حديث 541]
ما يقال عند ذبح الأضحية:
من السنة عند ذبح الأضاحي أن يقول صاحب الأضحية ـ أو نائبه باسم الله والله أكبر، اللهم تقبَّل من فلان ويذكر اسمه، ويذكر الوكيل اسم من أنابه، وآل فلان ويُذكر اسم صاحب الأضحية.
[مسلم حديث 7691]
أجرة الجزَّار:
يجب على صاحب الأضحية أو من ينوب عنه أن يعطي الجزَّار أجرة عمله من عنده، ولا يجوز أن يعطيه أجرته من لحم الأضحية أو يعطيه جلدها بدلا من الأجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
روى مسلم عن علي بن أبي طالب قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلَّتها وأن لا أعطي الجزَّار منها. قال «نحن نعطيه من عندنا». [مسلم حديث 7131]
فائدة هامة:
يجوز لصاحب الأضحية أن يُعطي الجزَّار شيئًا من لحم الأضحية على سبيل الهدية أو الصدقة، ولا حرج في ذلك، لأنه مستحق للأخذ منها كغيره من الناس، بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها.
[المغني لابن قدامة جـ31 ص183-283/ فتح الباري لابن حجر جـ3 ص056:156]
تقسيم لحوم الأضاحي:
يُستحب أن تقسم الأضحية ثلاثة أقسام: فيأكل أهل البيت ويدخرون ثلث الأضحية، ويتصدقون بثلث على الفقراء والمساكين ويُهدون لأصدقائهم الثلث الباقي. [الاستذكار جـ51 ص371/ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ21 ص25/ المغني جـ31 ص973]
روى مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن لحوم الأضاحي: «كلوا وادخروا وتصدقوا». [مسلم حديث 1791]
وقفات هامة مع الأضحية:
1 ـ إذا عَيَّن المسلم أضحية، فولدت، فولدها تابع لها وحكمه حكمها، سواء كان حملا قبل التعيين أو حدث بعده. [الأم للشافعي جـ2 ص422/ المغني جـ31 ص573]
2 ـ إذا أوجب المسلم على نفسه أضحية سليمة من العيوب ثم أصابها عيب يمنع الإجزاء بتضحيتها، من غير إهمال منه، ذبحها وأجزأته ولا شيء عليه. [الأم للشافعي جـ2 ص522/ المغني جـ31 ص373:773]
3 ـ إذا أوجب شخص على نفسه أضحية معينة ثم أصابها تلف أو سُرقت أو ضلت بإهمال منه وجب عليه أن يذبح مثلها أو يكون عليه قيمتها يوم أتلفها، وأما إذا حدث ذلك بغير تفريط منه فلا شيء عليه، فإن عادت إليه الأضحية التي سرقت ذبحها سواء في زمن الذبح أو بعده.
[الأم جـ2 ص522/ المغني جـ31 ص473]
4 ـ يجوز لصاحب الأضحية إذا عينها أن يستبدلها بأفضل منها وليس بأقل منها.
[المغني جـ31 ص483]
5 ـ لا يجوز بيع شيء من الأضحية، لا لحمها ولا جلدها ولا صوفها، واجبة كانت أو تطوعًا، لأنها تعينت بالذبح وقد جعلها صاحبها لله تعالى، ويجوز الانتفاع بجلدها وصوفها أو التصدق به.
[الأم جـ2 ص422/ المغني جـ31 ص283:383]
6 ـ مَنْ عيَّن أضحية ثم مات قبل ذبحها، وجب على ورثته ذبحها، ولا يجوز بيعها والتصدق بثمنها، ولا يجوز بيعها لسداد دَيْنه لأن دَيْن الله أحق بالقضاء. [المغني جـ31 ص873]
7 ـ من نذر أضحية نذرًا مطلقًا (أي غير مقيد، كأن يقول: نذرت هذه الأضحية لله تعالى) ثم ذبحها، فله أن يأكل منها وأهل بيته ولا حرج في ذلك لأن نذر الأضحية محمول على المعهود، والمعهود من الأضحية ذبحها والأكل منها. [المغني جـ31 ص193]
8 ـ من أوجب على نفسه أضحية ثم لم يذبحها حتى خرج وقت الذبح، وجب عليه ذبحها في أقرب وقت ويصنع بها ما يصنع بالمذبوحة في وقتها.
[المغني جـ31 ص783](/3)
9 ـ الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لأن نَفْس الذبح وإراقة الدم هو المقصود، وهو عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى: فصل لربك وانحر [الكوثر:2] وقال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين [الأنعام:261] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى وكذلك الخلفاء من بعده، ولو علموا أن الصدقة أفضل من الأضحية لعدلوا إليها.
[المدونة جـ2 ص07/ المجموع جـ8 ص524/ المغني جـ31 ص163]
والحمد لله رب العالمين.(/4)
فقه مراتب الأعمال
د. سعد الدين العثماني
الفقه استنباط للمعاني:
اتفقت نصوص الكتاب والسنة على أهمية الفقه بالنسبة للمسلم، وحثت على طلبه وإعلاء شأنه، ففي الصحيحين عن معاوية أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)(1)، والفقه: الفهم؛ فهم معاني الكلام ومراميه وإنزاله منازله.
وثبت في نصوص أخرى أن الفقه ليس هو حفظ النصوص واستعراضها، وإدراك ظواهر ألفاظها، فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أَرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، شربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه الله به فَعلم وعَلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)(2).
فالمستجيبون لما بعث الله به رسوله صنفان: صنف أول: تلقى الهدى والعلم فأنبت منه (الكلأ والعشب الكثير) علما وعملاً، إذ فَجّر من ذلك علماً وفقهاً كثيراً نفع الله به، وصنف ثان: نقل الهدى والعلم كما تلقاه، فهو بمثابة الأرض التي يستقر فيها الماء فينفع به الناس.. فالأولون فقهاء والأخيرون حفظة، ولكلٍ دوره ومكانته.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلّغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)(3)، وهذا التأكيد نفسه على أن حمل النصوص وحفظها لايصنف وحده الإنسان في دائرة الفقهاء، بل هو في حاجة إلى شروط زائدة: فطرية ومكتسبة.
ولذلك لم يكن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كلهم في مستوى واحد من الفقه أو الحفظ، بل كان منهم فقهاء عرفوا بعمق الاستنباط ودقة الفهم والقدرة على الغوص في عمق التشريع، من أمثال الخلفاء الراشدين وعبد الله بن عباس، وكان منهم قراء حفظوا القرآن وأتقنوا حروفه، وأحكموا آياته من أمثال زيد بن ثابت، وكان منهم محدثون انصرفت همتهم إلى حفظ الحديث وإتقانه مثل أبي هريرة وكان لكل منهم حظ معين في التخصصات الثلاثة كلها، إلا أن همته كانت مصروفة أكثر إلى الفقه أو القراءة أو حفظ الحديث. وهناك من اشتهر في الفقه والحفظ كليهما مثل عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنهم جميعاً).
وعندما دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقهه في الدين) (4) لم يكن المقصود أن يكثر حفظه للنصوص أو أن يدرك ظواهر ألفاظها فقط، بل المقصود من الدعاء: أن يبارك في فهمه واستنباطه، حتى يستخرج من النصوص كنوزها، ويدرك من الكلام معانيه ومراميه؛ لذلك كانت أرضه من أطيب الأراضي وأخصبها، قبلت الهدى والعلم النبويين، فأنبتت من كل زوج كريم.
يقول ابن تيمية وهو يعقد المقارنة بين حفظ أبي هريرة وفقه ابن عباس: (وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟! وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق: يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ماحفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها)(5).
وهكذا فإن على شباب الصحوة الإسلامية أن يدركوا أن مجرد قراءة النصوص وحفظها ليس فقهاً، بل الفقه شيء زائد عن مجرد الألفاظ، وهذا أمر ورد واضحاً في قوله (تعالى): ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء: 82]: قال ابن كثير في تفسير الآية: (يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه)، فالكلام أن معنى يستنبط يستخرج، يقول: (ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقه الاستنباط، إذ إن موضوعات الألفاظ لاتنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط، من أولي العلم حقيقته ومعناه).
لذلك فإن معرفة فنون العلم والفقه الواردين في الشرع، وتتبع تقريرات علماء السلف في ذلك هو وحده العاصم من الخروج عن مراد الشرع نظراً وعملا، وهو الهادي للسداد والتوفيق ولخيري الدنيا والآخرة.
المقصود بفقه مراتب الأعمال:(/1)
هو من أنواع الفقه التي يجب أن يتعلمها المسلم ويهتم بها، وهو يعني: العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وأرجحها ومرجوحها، فإن كانت الأعمال طاعة علم أيّها أحب إلى الله وأكثرها أجراً وثواباً، وإن كانت معصية علم أيّها أبغض إلى الله وأكثرها وزراً وعقوبة، وإن كانت الأعمال وسيلة إلى أهداف معينة (المقاصد الشرعية مثلاً) علم أيّها أقدر على تحقيق هذه الأهداف، وأيّها أولى بذلك، وإن كان الإنسان أمام بدائل متعددة من خير أو شر، علم خير الخيرين وشر الشرين، وإذا جهل المسلم أي الأعمال أفضل وأولى لاشك أن ينفق وقته وجهده وماله في أجر أقل ويفوت ماهو أجل وأعظم، وأنه اختلطت لديه مراتب الأعمال واختل لديه توازنها قد يصل إلى عكس مقصود الشرع؛ فيأثم من حيث يريد أن يغنم، أو إلى عكس مقصوده في الواقع؛ فيفسد من حيث يريد أن يصلح.
القرآن الكريم ومراتب الأعمال:
وقد وردت آيات عديدة في كتاب الله (عز وجل) تبين أن الأعمال ليست كلها في درجة واحدة، بل تختلف درجاتها في الخير، كما تختلف دركاتها في الشر.
ومن ذلك قوله (تعالى): ((إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [البقرة: 271]. قال ابن كثير: (فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها)*.
ومن ذلك أيضا قوله (تعالى): ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [التوبة: 19] ففاضلت الآية بين أمرين كلاهما طاعة وقربة، وبينت أنهما لايستويان عند الله (تعالى).
وفي قوله (تعالى): ((لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) [القدر: 3] دليل على أن عبادة وقيام ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر.
كما بين القرآن الكريم في آيات أخرى: أن المحرمات منها الكبائر والصغائر، فقال (تعالى): ((إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً)) [النساء: 31]، وقال سبحانه مادحاً عباده المحسنين: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ)) [النجم: 32]. فدلت الآيتان على أن المنهيات قسمان: كبائر، وأخرى دونها سميت في الآية الأولى سيئات، وفي الثانية لمَماً. قال ابن كثير (لأن اللمَمَ من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال).
السنة النبوية ومراتب الأعمال:
والسنة النبوية زاخرة بالنماذج والأمثلة لتفاضل الأعمال والتكاليف الشرعية التي يجب على المسلم مراعاتها في عبادته وحركته في الحياة، وربما يكون أجمع حديث في ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الإيمان بضع وسبعون ـ أوبضع وستون ـ شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)(6).
وقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراراً عن: أي الإسلام أفضل، أو أيه خير فأجاب، وإنما المقصود أي أعمال المسلم أفضل أو أخير؛ ولذلك بوب الإمام النووي لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من ذلك النوع، فقال: (باب بيان تفاضل الإسلام، أو أي أموره أفضل)(7).
وفي المقابل بينت أحاديث عديدة كون الذنوب أنواعاً ومراتب، فعن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يارسول الله. قال ـ ثلاثاً ـ: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) وكان متكئاً فجلس فقال: (ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور)(8). وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت يارسول الله: أي الذنوب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك)(9).
أصول الفقه يضع القواعد:
وانطلاقاً مما مر، فقد اتفقت الأمة على أن الأحكام الشرعية التي كلف بها المسلم أنواع ومراتب، وليست على ميزان واحد، كما اتفق جمهور العلماء على انقسام مأمورات الشرع إلى واجبات ومستحبات، وانقسام منهياته إلى مكروهات ومحرمات. يقول مجد الدين ابن تيمية في المسودة: (اتفق الفقهاء والمتكلمون على أن أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم ومكروه ومباح)(10).(/2)
ولأن الواجب على المسلم أن يضع كل أمر شرعي موضعه، ولايخلط بين أنواع الأحكام أو يتعامل معها كيفما اتفق، فقد بين العلماء ـ والأصوليون منهم بالخصوص ـ تعريف كل نوع من الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة، ووضعوا قواعد لكيفية استنباطها وأساليب التفريق بينها، كما قرروا أنه ـ لذلك ـ لايجوز أن يُسوّى بين الواجب والمندوب (لافي القول ولا في الفعل ولافي الاعتقاد)(11)، ولايسوى بين الحرام والمكروه(12)، ولابين المباح وبين المندوب والمكروه(13)، يقول الشاطبي: (الواجبات لاتستقر واجبات إلا إذا لم يُسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولايُسامح في تركها البتة، كما أن المحرمات لاتستقر كذلك إلا إذا لم يسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلاتفعل، ولايسامح في فعلها)(11).
والمصالح الشرعية مقسمة إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وهي مرتبة هذا الترتيب، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضروية كما يقول الشاطبي: (ليست كالأوامر الشرعية المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الضروريات ليست في الطلب على وزان واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس، ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات، والحاجيات كذلك..)(14).
إذاً لايكفي المسلم أن يعلم ما أَمَر به الشرع أو مانهى عنه، بل عليه أن يعلم أيضا درجة الأمر أو النهي، وأن ينزل كل ذلك مرتبته دون إفراط ولاتفريط.
فقه مراتب الأعمال خاصةُ العلماء بهذا الدين:
وقد وصف الإمام ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين. يقول: (فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً. فأما مراتب المنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين: وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين)(15).
أما تلميذه ابن القيم فقد اعتبر انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عقبات الشيطان التي لايتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها، إن الشيطان في هذه العقبة يأمر الإنسان ويُحَسّن له الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، ويريه مافيها من الفضل والربح؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسبا وربحاً، (لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له)، ثم قال ابن القيم: (فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها، وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا، ورئيساً ومرؤوسا، وذروة وما دونها... ولايقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه)(16).
غياب حس الأولويات:
لقد كان لعدم الاهتمام بتعليم المسلم هذا الفقه الجليل آثار قد تكون بعيدة المدى وشديدة الضرر دنيا، وأخرى. ومن تلك النتائج:
1- ضياع الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة وتروي لنا السنة من ذلك أمثلة كثيرة فعن أنس قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاً صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الرّكَاب، فقال رسول الله (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)(17).
وقد يصل الأمر إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه، فعن أبي هريرة قال: قال رجل: يارسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: (هي في النار) قال: يارسول الله فإن فلانة... يذكر من قلة صيامها، وصدقتها وصلاتها، وأنها تصدق بالأثوار من الأقط (أي بالقطع من اللبن المجفف) ولاتؤذي جيرانها، قال: (هي في الجنة)(18).
كما أن ابن الجوزي قد ذكر أمثلة متعددة لدى العبّاد بالخصوص، كلها ناتج عن قلة الفقه بمراتب الأعمال، قال مثلا: (وقد لبّس إبليس على جماعة من المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلاناً فلا يقدر على الكسب لعائلته)(19).(/3)
2- سوء فهم الشريعة: إن الجهل بمراتب الأعمال عندما يكون عاماً، يؤدي إلى فوضى فكرية عارمة، تشوه الشريعة وتخل بتوازنها، لقد أرسى الشرع بين المأمورات والمنهيات توازنا لايجوز الإخلال به، تماما كَنِسَب الدواء الواحد، قد يؤدي تغييرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه، إن لم ينقلب إلى سم قاتل، ومن ذلك أن المسلم اليوم مثلا قد أضحى عنده ترتيب جديد لأوامر الشرع، يجعل الشعائر التعبدية (فرائض ومستحبات) أعلى مرتبة من سائر الواجبات والفرائض الأخرى، وأوكد من ترك منهيات الشرع (محرمات ومكروهات).
3- غياب حس الأولويات في الدعوة: فسوء فهم الشريعة واختلاط مراتب أحكامها يؤدي إلى عجز الدعاة عن البدء بما يجب البدء به. فإذا كان في أحكام الدين واجب ومستحب، وفاضل ومفضول، فإن الدعوة إلى الواجب والفاضل مقدم على الدعوة إلى مادونها، لكننا نرى من بين شباب الصحوة الإسلامية ودعاتها من ينشغل بالمسائل المرجوحة والأحكام الخلافية، وتُبدد الجهود والطاقات فيها، والأولى البدء بالدعوة إلى أصول العقيدة والشريعة، وبذل الجهد في معالجة القضايا المصيرية الكبرى للأمة. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد من اعتبار درجة المعروف ودرجة المنكر، حتى لايُفسد الإنسان بدل أن يصلح، وحتى لاينفّر بدل أن يبشر، ولذلك اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه: (إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لايفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر، أُمر به، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم ماهو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزِم للمنكر الزائد عليه، أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله)(20) إن هذا النص تطبيق رائع لفقه مراتب الأعمال وتقديم الراجح منها، وقد صاغ الأصوليون ذلك في قواعد تشريعية هادية مثل: دفع أشد المفسدتين بأخفهما. والإتيان بأعظم المصلحتين وتفويت أدناهما، وتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، وعدم ترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة..
ولايستقيم عمل دعوي إلا بفقه هذه الأصول والقواعد والالتزام بها، فعسى أن يوفق أبناء الصحوة الإسلامية وشبابها إلى ذلك، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) البخاري ـ كتاب العلم ـ باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ومسلم ـ كتاب الزكاة ـ باب النهي عن المسألة.
(2) البخاري ـ كتاب العلم ـ باب فضل من علم وعلم، ومسلم ـ كتاب الفضائل ـ باب بيان مثل مابعث النبي -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والعلم.
(3) ابن ماجه في سننه ـ في المقدمة ـ باب من بلغ علماً، وأحمد في المسند. وورد بروايات عدة متقاربة عن زيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهما، انظر الألباني ـ صحيح الجامع الصغير (1/225).
(4) البخاري ـ كتاب الوضوء ـ باب وضع الماء عند الخلاء، وهو في مسند أحمد باللفظ نفسه. وروي في االصحيحين وفي السنن بألفاظ مختلفة، انظر: فتح الباري (1/204، 205).
(5) مجموع الفتاوى (4/93، 94).
(6) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، انظر صحيح الجامع الصغير للألباني (2/417).
(7) شرح النووي على مسلم (2/9).
(8) البخاري ـ كتاب الأدب ـ باب عقوق الوالدين من الكبائر، وأخرجه أيضا مسلم وأحمد والترمذي.
(9) البخاري ـ كتاب الأدب ـ باب قتل الولد خشية أن يأكل معه.
(10) المسودة في أصول الفقه (ص: 65)، وانظر باب الحكم الشرعي في كتب أصول الفقه.
(11) الموافقات (3/321) و (3/336).
(12) نفسه (3/331).
(13) نفسه (3/326)
(14) نفسه (3/206)
(15) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 28).
(16) مدارج السالكين(1/221).
(17) البخاري ـ كتاب الجهاد ـ باب فضل الخدمة في الغزو ومسلم ـ كتاب الصيام ـ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، والنسائي ـ كتاب الصيام فضل الإفطار في الصيام، واللفظ هنا لمسلم، الرّكاب: الرواحل وهي الإبل التي يسار عليها (البيان).
(18) أخرجه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد. كذا في الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني (19/219).
(19) تلبيس إبليس (ص 141)
(20) الحسبة (ص 38 ـ 39)
· لكلام ابن كثير تتمة، معرفتها مهمة، وهي قوله: (لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية.
مجلة البيان(/4)
فقه وآداب وأحكام الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
معاشرَ الأئمَّةِ والخطباء والوعاظ، إخوانَنا المربِّين والناصحين والمرشدين، معاشرَ المسلمين:
يسرُّ المنبرَ سرورًا عظيمًا أن يُهدي لكم بمناسبة شهر رمضان المبارك هَدِيَةً، نسأل الله تعالى أن تنال إعجابَكم، وأن تحظى بالقبول لديكم.
بين يديكم مجموعةٌ من البحوث العلمية القيِّمة، تناولت جميعَ الأحكام والآدابِ والمخالفات المتعلقة بهذا الشهر الكريم، على وجه البسط والتفصيل، قائمة على الدليل والتعليل.
والمنبر من وراء ذلك يهدف إلى توفير مادةٍ علمية تفصيلية متكاملة شاملة لكلِّ ما يتعلَّق بشهر رمضان، بحيث لا يبقى للخطيب في منبره ولا للواعظ في محرابه إلا أن يَجْتَبِي المختار، ويجتني الثمار.
ونهيب بإخواننا أئمةِ المساجد وغيرِهم من الدعاة اهتبالَ فرصةِ إقبال المسلمين في رمضان بتذكيرهم بالكثير مما لا يسعهم جهلُه من أمور دينهم، وأن لا يقتصروا في وعظهم على ما يتعلق برمضان
البشارة بقدوم رمضان: أولا: البشارة لغة:
البشارة لغة:
قال الزجاج: "معنى يبشرك: يسرك ويُفْرحك، بشرت الرجل أبشره: إذا فرّحته، وبَشَر يبشر: إذا فرح".
وقال: "ومعنى يبشرك من البشارة".
وقال: "وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومن هذا قولهم: فلان يلقاني ببشرٍ، أي بوجه منبسط عند السرور"().
قال الجوهري: "والبشارة المطلقة لا تكون إلاَّ بالخير، وإنما تكون بالشرّ إذا كانت مقيّدة به، كقوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]. وتباشر القوم إذا بشّر بعضهم بعضاً.
والتباشير: البشرى، وتباشير الصبح: أوائله، وكذلك أوائل كل شيء".
قال: "والبشير: المبشِّر، والمبشِّرات: الرياح التي تبشر بالغيث"().
البشارة والتهنئة بقدوم شهر رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم)) ([1]).
وما يُروى في الباب من حديث سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، فقال: ((أيها الناس قد أظلّكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، ...)) الحديث: فلا يصح([2]).
وحديث أبي هريرة المتقدم أصلٌ في تبشير وتهنئة الناس بعضهم بعضاً بقدوم شهر رمضان. قال ابن رجب: "كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقتٍ يغل فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!"([3]).
([1]) أخرجه النسائي (4/129) في الصوم، باب: فضل شهر رمضان، بسند صحيح، عن بشر بن هلال قال: حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي قلابة به. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1992).
([2]) ابن خزيمة (1887) ك: الصيام، باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر. من طريق علي بن حجر السعدي ثنا يوسف بن زياد ثنا همام بن يحيى عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب به. وأخرجه الحارث في مسنده (321) وانظر: المطالب العالية، (1047) ك: الصوم، باب فضل شهر رمضان من طريق عبد الله بن بكر حدثني بعض أصحابنا رجلٌ يقال له: إياس، رفع الحديث إلى سعيد بن المسيب به، وعند البيهقي في الشعب (3608) عن عبد الله بن بكر السهمي ثنا إياس بن عبد الغفار عن علي بن زيد به، والمحاملي في أماليه (293) من طريق الحسين ثنا سعيد بن محمد بن ثواب ثنا عبد العزيز بن عبد الله الجدعاني ثنا سعيد بن أبي عروبة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب به. والحديث مداره على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، انظر: التقريب (4768)، تهذيب الكمال (2/434)، المجروحين لابن حبان (2/78) ط السلفي.
([3]) لطائف المعارف (ص279).
إظهار الفرح والسرور بقدوم رمضان:
الفرح بمواسم الطاعات والحزن على فواتها أمر متفق عليه عند السلف.
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58].
قال هلال بن يساف: "بالإسلام وبالقرآن"([1]).
وعن أيفع الكلاعي رضي الله عنه قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه، خرج عمر رضي الله عنه ومولى له، فجعل يعد الإبل، فإذا هو أكثر من ذلك، فجعل عمر رضي الله عنه يقول: الحمد لله. وجعل مولاه يقول: هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر رضي الله عنه: كذبت، ليس هذا، هو الذي يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وهذا مما تجمعون([2]).(/1)
قال القاسمي: "{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} يعني القرآن الذي أكرموا به {وَبِرَحْمَتِهِ} يعني الإسلام، {فَبِذَلِكَ} أي فبمجيئهما {فَلْيَفْرَحُواْ} أي لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع، {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي من الأموال وأسباب الشهوات، إذ لا ينتفع بجميعهما ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون. والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا"([3]).
وصوم رمضان أحد أركان الإسلام.
قال ابن رجب: "بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في المنام سابقاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أليس بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، فوالذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض)) خرّجه الإمام أحمد وغيره([4]).
من رُحِم في شهر رمضان فهو المرحوم، ومن حُرم فهو المحروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم([5]).
وفي الباب حديث ضعيف، وهو ما رواه أبو مسعود الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ وأهلَّ رمضان، فقال: ((لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان))([6]).
([1]) تفسير الطبري (7/125).
([2]) تفسير ابن أبي حاتم (6/1960).
([3]) تفسير القاسمي (9/46).
([4]) أخرجه أحمد في المسند (2/333)، وابن ماجه (3925) في تعبير الرؤيا، باب تعبير الرؤيا، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3171).
([5]) لطائف المعارف (ص280).
([6]) أخرجه ابن خزيمة (1886) في الصوم، باب ذكر تزين الجنة، لشهر رمضان. وفيه جرير بن أيوب البجلي، قال عنه البخاري في التاريخ الكبير (2/215): "منكر الحديث" . وكذا قال أبو زرعة وأبو حاتم كما في الجرح والتعديل (2/503)، وفيه عن يحيى بن معين: "جرير بن أيوب البجلي ليس بشيء".
المستبشرون بقدوم رمضان:
الذين يفرحون بحلول شهر رمضان صنفان:
1. أهل الطاعة والإيمان:
يفرحون بما في رمضان من أنواع الطاعات، وما أعدّه الله لأهلها من الأجر والثواب ومن ذلك:
الصوم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([1]).
قال ابن حجر: "قوله: ((إيمانا)) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، ((واحتساباً)) أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه"([2]).
صلاة التراويح:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([3]).
قال النووي: "والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح"([4]).
قيام ليلة القدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([5]).
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))([6]).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر)) أي احرصوا على طلبها واجتهدوا فيه"([7]).
العمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحجي معنا؟)) قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه - لزوجها وابنها – وترك ناضحاً ننضح عليه. قال: ((فإذا كان رمضان اعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان حجة))([8]). وفي لفظ: ((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي))([9]).
قال ابن العربي: "حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة فضيلة الحج بانضمام رمضان إليها"([10]).
وقال ابن الجوزي: "فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد"([11]).
تلاوة القرآن:
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة([12]).
2. أهل الغفلة واللهو والعصيان:
يفرحون بما في رمضان من ألوان المباحات واللهو والمحرمات، ومن ذلك:
المأكولات والمشروبات الرمضانية:
فتمتلئ الموائد امتلاءً عجيباً من ذلك، ولا يكاد يسلم من هذا الأمر إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.(/2)
ولا يخفى ما في هذا الأمر من مناقضة لحكمة تشريع الصوم من تقليل الطعام الذي يساعد على صفاء النفس وسمو الروح؛ حتى يخف الجسد وينشط لصلاة التراويح، وعلى العكس حين يمتلئ المسلم من هذه الأطعمة ؛ فإن صلاة العشاء، تثقل عليه، ناهيك عن صلاة التراويح، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))([13]).
فوازير رمضان، والأفلام والمسلسلات الرمضانية:
وهذه فيها ألوان من المعاصي من سماع الأغاني المحرَّمة، وإطلاق البصر في رؤية ما حرَّم الله، وتضييع أشرف الأوقات فيما حرَّم الله.
مباريات كرة القدم التي تقام في هذه الشهر الفضيل.
اختلاط الجنسين في الأسواق:
فبعض ضعاف النفوس يرون شهر رمضان موسماً للغزل والمعاكسات، وممارسة ما حرّم الله، وفي هذا انتكاس أيُّ انتكاس . وحال الأسواق اليوم يندى لها الجبين، فعلى أولياء الأمور أن يتقوا الله في بناتهم، ويراقبوهنّ ويحافظوا عليهن.
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عند رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته))([14]).
([1]) أخرجه البخاري (1901) في الصوم، باب:من صام رمضان إيماناً واحتساباً، واللفظ له. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
([2]) فتح الباري (4/251).
([3]) أخرجه البخاري (37) في الإيمان، باب:تطوع قيام رمضان من الإيمان. ومسلم (759) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
([4]) شرح مسلم (6/39).
([5]) البخاري (35) في الإيمان،باب قيام ليلة القدر من الإيمان. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها،باب:الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
([6]) أخرجه البخاري (2017) في فضل ليلة القدر،باب:تحرِّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
([7]) شرح مسلم (5/58).
([8]) أخرجه البخاري (1782) في الحج،باب: عمرة في رمضان.
([9]) أخرجه البخاري (1863) في الحج،باب: حج النساء.
([10]) انظر: فتح الباري (3/604).
([11]) المصدر نفسه.
([12]) أخرجه البخاري (9) في بدء الوحي، باب بدء الوحي.
([13]) أخرجه الترمذي (2380) في الزهد، باب:ما جاء في كراهية كثرة الأكل . وقال:"هذا حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 5236)، والحاكم في المستدرك (4/331)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (1939).
([14]) البخاري (893) في الجمعة، الجمعة في القرى والمدن.
من أماني السلف الصالح بلوغ شهر رمضان:
قال معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم"([1]).
وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم: اللهم سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلاً"([2]).
([1]) لطائف المعارف (ص280).
([2]) المصدر السابق.
أخطاء يقع فيها بعض الناس في استقبال شهر رمضان:
1. اغتنام آخر شعبان في الإكثار من الأكل والشرب:
إذا العشرون من شعبان ولَّت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغارٍ فإن الوقت ضاق عن الصغار([1])
2. التسخط من قدوم شهر رمضان لمشقة الصيام:
قيل: إنه كان للرشيد ابن سفيه، فقال مرةً:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعد آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقدرة على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر
فأخذه داء الصرع، فكان يُصرع في كل يوم مرات متعددة، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر([2]).
هذا حال الجهال، وإلا فإن الأكياس كانت السنَة كلها عندهم رمضان.
3. التلهف في شراء مؤن رمضان من المأكولات والمشروبات:
مر جابرٌ على عمر بلحم اشتراه بدرهم نقال: فقال له عمر: ما هذا؟! قال: اشتريته بدرهم، قال: كلما اشتهيت شيئاً اشتريته، لا تكون من أهل هذه الآية: { أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]"([3]).
ودخل عمر على ابنه عبد الله وإذا عندهم لحم، فقال: ما هذا اللحم؟! فقال: اشتهيته، قال: أوكلما اشتهيت شيئاً أكلته، كفى بالمرء سرفاً أن يأكل ما اشتهاه([4]).
وباع قوم من السلف جارية لهم، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له، ويستعدون بالأطعمة، وغيرها، فسألتهم، فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟! لقد كنت عند قومٍ كل زمانهم رمضان، ردّوني عليهم([5]).
([1]) لطائف المعارف (ص276).
([2]) لطائف المعارف (ص276).
([3]) مصنف ابن أبي شيبة (5/140)، الزهد لابن أبي عاصم (1/124).
([4]) الزهد لابن أبي عاصم (1/123).
([5]) لطائف المعارف (ص278).
أبيات شعرية([1]):
جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائرٍ هو آت(/3)
أني رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدّ حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوّه نادماً يوم الحصاد
* * *
إذا رمضان أتى مقبلاً فأقبل فالخير يستقبل
لعلك تخطئه قابلاً وتأتي بعذر فلا يقبل
* * *
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
واحمل على جسدٍ ترجو النجاة له فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهل وجيران وإخواني
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
([1]) جميع هذه الأبيات مأخوذة من لطائف المعارف (ص279-282).
فضائل شهر رمضان
1. فيه أنزل الله القرآن
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
قال ابن كثير: "يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم"([1]) .
قال محمد رشيد رضا: "إن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، أفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ببعثة محمد خاتم النبيين عليه السلام، بالرسالة العامة للأنام، الدائمة إلى آخر الزمان"([2]) .
قال ابن سعدي: "... هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم،وهو القرآن الكريم،المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية"([3]) .
([1]) تفسير القرآن العظيم (1/221).
([2]) تفسير المنار (2/158).
([3]) تيسير الكريم الرحمن (1/ 222 ـ 223).
2. فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) ([1]) .
قال أبو الوليد الباجي: "يحتمل أن يكون هذا اللفظ على ظاهره، فيكون ذلك علامة على بركة الشهر وما يرجى للعامل فيه من الخير"([2])
وقال ابن العربي: "وإنما تفتح أبواب الجنة ليعظم الرجاء، ويكثر العمل، وتتعلق به الهمم، ويتشوق إليها الصابر، وتغلق أبواب النار لتجزى([3]) الشياطين، وتقل المعاصي، ويصد بالحسنات في وجوه السيئات فتذهب سبيل النار"([4]).
وقال القاضي عياض: "قيل: يحتمل على الحقيقة، وأنّ تفتّح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار، علامة لدخول الشهر، وعظم قدره، وكذلك تصفيد الشياطين؛ ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه"([5]) .
([1]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: هل يقال رمضان (1898)، ومسلم في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (1079).
([2]) المنتقى شرح الموطأ (2/75).
([3]) كذا في المطبوع، ولعلها: لتخزى.
([4]) عارضة الأحوذي (3/198).
([5]) إكمال المعلم (4/5).
3 ـ أن الله اختصه بفريضة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال المقربة إليه سبحانه وتعالى، وأجلها، فهو سبب لمغفرة الذنوب والآثام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ([1]) .
قال ابن بطال: "قوله: ((إيمانًا)) يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى على صيامه وقيامه، وقوله: ((احتسابًا)) يريد بذلك ليحتسب الثواب على الله، وينوي بصيامه وجه الله"([2]) .
وقال الطيبي: "يعني بالإيمان الاعتقاد بحقية فرضية صوم هذا الشهر، لا الخوف والاستحياء من الناس من غير اعتقاد بتعظيم هذا الشهر، والاحتساب طلب الثواب من الله الكريم"([3]) .
وقال المناوي: "وفيه فضل رمضان وصيامه، وأن تنال به المغفرة، وأن الإيمان وهو التصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صوم رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطوية صافية امتثالاً لأمره تعالى واتكالاً على وعده"([4]) .
([1]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في صيام رمضان وهو التراويح (760).
([2]) شرح البخاري (4/21).
([3]) الكاشف عن حقائق السنن شرح مشكاة المصابيح (4/137).
([4]) فيض القدير (6/160).
4 ـ فيه ليلة هي خير من ألف شهر، وهي ليلة القدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم)) ([1]) .
([1]) أخرجه النسائي في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (2105)، وأحمد (2/230)، وعبد الرزاق (7383)، وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان (1644)، وحسّنه المنذري في الترغيب (2/99)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (999): "صحيح لغيره".
5 ـ أن فيه استجابة الدعاء، والعتق من النار:(/4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة)) ([1]) .
([1]) أخرجه أحمد (2/254)، وأبو نعيم في الحلية (8/257)، وقال الهيثمي في المجمع (10/216): "ورجاله رجال الصحيح"، وله شاهد عند ابن ماجه في الصيام، باب: فضل شهر رمضان (1643)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (604): "رجال إسناده ثقات".
6 ـ أن العمرة فيه تعدل أجر حجة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحجّي معنا؟)) قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه ـ لزوجها وابنها ـ وترك ناضحًا ننضح عليه. قال: ((فإذا كان رمضان اعتمري فيه؛ فإن عمرةً فيه تعدل حجة)) ([1]) .
قال ابن بطال: "قوله: ((كحجة)) يريد في ثواب، والفضائل لا تدرك بالقياس، والله يؤتي فضله من يشاء"([2]) .
وقال النووي: "أي: تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، بأنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة"([3]) .
وقال الطيبي: "أي: تقابل وتماثل في الثواب؛ لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت"([4]) .
([1]) أخرجه البخاري في الحج، باب: عمرة في رمضان (1782)، ومسلم في الحج، باب: فضل العمرة في رمضان (1256) واللفظ له.
([2]) شرح البخاري (4/438).
([3]) شرح مسلم (9/ 2).
([4]) الكاشف عن حقائق السنن المعروف بـ "شرح المشكاة" (5/219).
وفي فضائل رمضان أحاديث كثيرة ضعيفة. انظرها في مبحث: "أحاديث لا تثبت في شهر رمضان وصيامه".
أولاً: إثبات دخول رمضان بالهلال.
أولاً: إثبات دخول رمضان بالهلال.
1ـ دليله: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن أغمي عليكم فاقدروا له))([1]).
قال ابن عبد البر: "فيه أنّ الله تعبَّد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يوماً"([2]).
وهو قول الحنفية([3]) والمالكية([4]) والشافعية([5]) والحنابلة([6]).
2 ـ عدد الشهود في هلال شهر رمضان:
اختلف العلماء في عدد الشهود الذين يثبت بهم دخول رمضان على أقوال:
القول الأول: يكتفى بشهادة عدل واحد.
وهو قول الحنابلة والأصح عند الشافعية.
قال الشافعي: "فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان، ورآه رجل عدل، رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط"([7]).
وقال النووي: "في المسألة قولان:
أصحهما باتفاق الأصحاب يثبت بعدل، وهو نصّه في القديم، ومعظم كتبه في الجديد للأحاديث الصحيحة في ذلك.
والثاني: نصّه في البويطي: "لا يثبت إلا بعدلين"([8]).
ثم قال بعد ذلك: "فالحاصل أن المذهب ثبوته بالعدل"([9]).
وقال المرداوي عند قول صاحب المقنع (ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد): "هذا المذهب نصَّ عليه، وعليه جماهير الأصحاب"([10]).
أدلة هذا القول:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته؛ فصام وأمر الناس بصيامه ([11]).
2- عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال؛ يعني رمضان، فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: نعم. قال: ((أتشهد أنّ محمدًا رسول الله؟)) قال: نعم. قال: ((يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا))([12]).
القول الثاني: يشترط شهادة عدلين.
وهو قول المالكية، وقول للشافعية.
قال في المدونة: "أرأيت استهلال رمضان هل تجوز فيه شهادة رجل واحد في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا تجوز فيه شهادة رجل واحد، وإن كان عدلاً. قلت: فشهادة رجلين؟ قال: هي جائزة في قول مالك"([13]).
دليل هذا القول:
عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنّه خطب في اليوم الذي يشك فيه؛ فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا))([14]).
القول الثالث: إن كان بالسماء علة يقبل شهادة الواحد، وإن لم يكن بالسماء علة فلا بد أن يكون الشهود جمعاً غفيراً.
وهذا هو قول الحنفية.
ودليله:
أن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار، وإن تفاوتت الأبصار في الحدة ظاهر في غلطه، قياساً على تفرد ناقل زيادة من بين سائر أهل مجلس مشاركين له في السماع، فإنها ترد، وإن كان ثقة"([15]).
الترجيح:
الراجح في المسألة والله أعلم قبول شهادة الواحد.
قال ابن حزم: "قد صح في الدين قبول خبر الواحد، فهو مقبول في كل مكان؛ إلا حيث أمر الله تعالى بأن لا يقبل إلا عدد سماه لنا".
وقال أيضاً في الكلام على حديث عبد الرحمن بن زيد المتقدم : "وليس فيه إلا قبوله اثنين ، ونحن لا ننكر هذا ، وليس فيه أن لا يقبل واحد"([16]).(/5)
وقال ابن القيم: "الصحيح قبول شهادة الواحد مطلقاً؛ كما دل عليه حديثا ابن عمر وابن عباس، ولا ريب أن الرؤية كما تختلف بأسباب خارجة عن الرائي؛ فإنها تختلف بأسباب من الرائين؛ كحدة البصر وكلاله، وقد شاهد الناس الجمع العظيم يتراءون الهلال فيراه الآحاد منهم، وأكثرهم لا يرونه، ولا يعد انفراد الواحد بالرؤية من بين الناس كاذباً"([17]).
3 ـ عدد الشهود في هلال شوال وسائر الشهور:
جمهور أهل العلم وأكثرهم على أنه لا يقبل في شهود هلال شوال إلا شهادة رجلين وأن شهادة رجل واحد غير مقبولة. ولم يخالف فيه إلا أبو ثور وابن حزم.
قال الترمذي: "ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنّه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين"([18]).
وقال النووي: "وأمّا الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلاَّ أبا ثور فجوَّزه بعدل"([19]).
واحتج الجمهور بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب المتقدم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا))([20]).
وحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك الرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما([21]).
وذهب ابن حزم إلى ما قال به أبو ثور؛ وهو عدم التفرقة بين الهلالين، وأنه يكفي فيه قول واحد.
قال ابن حزم: "ولو صح عنده بخبر واحد أيضاً كما ذكرنا فصاعداً أنّ هلال شوال قد رؤى فليفطر أفطر الناس أو صاموا، وكذلك لو رآه هو وحده"([22]).
وحجته حديث ابن عمر السابق.
وقال في جوابه على الجمهور: "فإن تعلق من فرَّق بين هلال رمضان، وهلال شوال بهذين الخبرين، وقال: لم يرد إلاَّ في هلال رمضان؟
لنا: ولا جاء نص قط بالمنع من ذلك في هلال رمضان، وأنتم أصحاب قياس، فهلاَّ قستم هلال شوال على هلال رمضان؟
فإن قالوا: إنّ الشاهد في هلال رمضان لا يجر إلى نفسه، والشاهد في هلال شوال يجر إلى نفسه.
قلنا: فردوا بهذا الظن بحينه شهادة الشاهدين في شوال أيضاً؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما كما تفعلون في سائر الحقوق.
وأيضاً فإن من يكذب في مثل هذا لا يبالي قُبل أو رُد"([23]).
وقال في رده على الجمهور احتجاجهم بحديث الحارث بن حاطب: "ليس فيه إلا قبوله اثنين، ونحن لا ننكر هذا، وليس فيه أن لا يقبل واحد"([24]).
وقال الشوكاني: "وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وحديث أمير مكة فهما واردان في شهادة دخول رمضان، أما حديث أمير مكة؛ فظاهر لقوله فيه: (نسكنا بشهادتهما)، وأمّا حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب؛ ففي بعض ألفاظه: (إلا أن يشهد شاهدا عدل)، وهو مستثنى من قوله ((فأكملوا عدة شعبان)) فالكلام في شهادة دخول رمضان، وأمّا اللفظ الذي سيذكره المصنف أعني قوله: ((فإن شهد مسلمان فصوموا وأفطروا)) فمع كون مفهوم الشرط قد وقع الخلاف في العمل به، هو أيضاً معارض بما تقدم من قبوله صلى الله عليه وسلم لخبر الواحد في أول الشهر، وبالقياس عليه في آخره، لعدم الفارق؛ فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لإثبات هذا الحكم به، وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة؛ فالظاهر أنه يكفي فيه واحد؛ قياساً على الاكتفاء به في الصوم، وأيضاً التعبد بقبول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع؛ إلاَّ ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد؛ كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر ما قاله أبو ثور"([25]).
4ـ شروط الشهود:
أ- الإسلام.
ب- العقل.
ج- العدالة.
قال النووي: "وأما الكافر والفاسق والمغفل، فلا يقبل قولهم فيه بلا خلاف"([26]).
وقال ابن نجيم: "ويشترط العدالة في الكل؛ لأنّ قول الفاسق في الديانات التي يمكن تلقيها من العدول غير مقبول؛ كالهلال ورواية الأخبار؛ ولو تعدد كفاسقين فأكثر"([27]).
وقال في بيان العدالة المقصود بها عند الحنفية: "وحقيقة العدالة: ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، والشرط أدناها، وهو ترك الكبائر والإصرار على الصغائر، وما يخل بالمروءة"([28]).
وقال النووي: "ولا خلاف في اشتراط العدالة الظاهرة فيمن نقبله"([29]).
وقال البهوتي: "ويقبل فيه – أي هلال رمضان – وحده خبر مكلف لا مميز عدل نصاً"([30]).
حكم شهادة المرأة والعبد:
اختلف العلماء في قبول شهادة المرأة والعبد على قولين:
القول الأول: أنها تقبل؛ لأن صوم رمضان أمر ديني فأشبه رواية الأخبار. وبه قال الحنفية([31]).
القول الثاني: أنها لا تقبل؛ لأن طريقها طريق الشهادة، بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل. وبه قال المالكية والشافعية([32]).
حكم شهادة المستور([33]):
اختلف العلماء في قبول شهادة المستور على قولين:
القول الأول: أنه لا تقبل شهادته ؛ لأنه لم تظهر عدالته لنا. وهو قول للحنفية والشافعية([34]).
القول الثاني: أنه تقبل شهادته ؛ لأنه يُسامح فيه كما يُسامح في العدد احتياطاً. وهو قول الحنفية والأصح عند الشافعية([35]).
5 ـ صوم المنفرد وإفطاره:(/6)
ذهب جماهير العلماء إلى أنَّ من رأى هلال رمضان وحده يلزمه صومه؛ وإن لم تقبل شهادته، وكذا لو رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر؛ وإن لم تقبل شهادته.
وهو قول الأئمة الأربعة وابن حزم.
قال المرغيناني: "ومن رأى هلال رمضان وحده صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته))([36])، وقد رأى ظاهراً، وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة"([37]).
وقال أيضاً: "ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطاً في الصوم"([38]).
وقال الدردير: "يجب على من انفرد برؤية رمضان الصوم وإظهاره، – ولا يجوز فطر – أي إظهار فطر شخص – منفرد بشوال – أي برؤيته؛ لئلا يتهم بأنه ادعى ذلك كذباً ليفطر، وأما نيّة الفطر فتجب عليه – إلا بمبيح – للفطر في الظاهر؛ كسفر وحيض؛ لأن له أن يعتذر بأنه إنما أفطر لذلك"([39]).
وقال النووي: "من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصوم، ومن رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر، وهذا لا خلاف فيه عندنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) رواه البخاري ومسلم.
قال أصحابنا: ويفطر لرؤية هلال شوال سراً؛ لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان"([40]).
وقال المرداوي عند قول ابن قدامة في المقنع (ومن رأى هلال رمضان وحده، ورُدَّت شهادته؛ لزمه الصوم): "وهذا الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب"([41]).
وقال عند قول ابن قدامة (وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر) :"هذا المذهب، نقله الجماعة عند أحمد، وعليه أكثر الأصحاب"([42]).
وقال ابن حزم: "ومن صح عنده بخبر من يصدقه؛ من رجل واحد أو امرأة واحدة، عبد أو حر أو أمة أو حرة فصاعداً أنّ الهلال قد رؤى البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم، صام الناس أو لم يصوموا، وكذلك لو رآه هو وحده. ولو صح عنده بخبر واحد أيضاً كما ذكرنا فصاعداً أن هلال شوال قد رؤى فليفطر أفطر الناس أو صاموا، وكذلك لو رآه هو وحده، فإن خشي في ذلك أذى؛ فليستتر بذلك"([43]).
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصيام والفطر يكون مع الناس.
فقال رحمه الله: "يصوم مع الناس ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون))([44]) رواه الترمذي.
قال: "وأصل هذه المسألة أنّ الله سبحانه وتعالى علَّق أحكاماً شرعية بمسمى الهلال والشهر، كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} [البقرة:189].
فبيَّن سبحانه أنّ الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ a أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ b شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ} [البقرة:183، 185]، أنه أوجب صوم شهر رمضان وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء، وإن لم يعلم الناس به، وبه يدخل الشهر؟ أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟
على قولين:
فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعاً قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحداً قال: من رآه يقف وحده دون سائر الحاج وأنه ينحر في اليوم الثاني ويرمي جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون ألحقوه بالنحر، وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين، وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوماً، وتناقض هذه الأقوال يدل على أنّ الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ فشرط كونه هلالاً وشهراً شهرتُه بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلاَّ مع المسلمين، وهذا معنى قوله: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون))، قال أحمد: "يد الله على الجماعة".(/7)
وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم أو ليس شهراً في حقهم كلهم؟ يبيِّن ذلك في قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]. فإنّما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه"([45]).
وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله هو الأقرب، والله أعلم.
6ـ هل الرؤية في بلد ملزمة لبلد آخر:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنّ الرؤية في بلد يشق بها الصيام في البلد الآخر من غير اعتبار باختلاف المطالع.
وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة على الصحيح عندهم، وبعض الشافعية.
قال ابن نجيم الحنفي: "ولا عبرة باختلاف المطالع – فإذا رآه أهل بلدة، ولم يره أهل بلدة أخرى؛ وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك، إذا ثبت عندهم بطريق موجب، ويلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب"([46]).
قال ابن شاس: "وإذا رؤي الهلال في بلد؛ لزم غيرهم الصوم، والقضاء إن فات من غير تفصيل"([47]).
وقال المرداوي: "لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره فإن كانت المطالع متفقة؛ لزمهم الصوم أيضاً، وإن اختلفت المطالع؛ فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضاً، قدَّمه في الفروع والفائق والرعاية، وهو من المفردات"([48]).
القول الثاني: أنه لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر. وهو الصحيح عند الشافعية.
قال النووي: "إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين: أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر، وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون، وصححه العبدري والرافعي والأكثرون، والثاني: يجب، وبه قال الصيمري وصححه القاضي أبو الطيب والدارمي وأبو علي السنجي وغيرهم"، ثم قال: "والصحيح الأول"([49]).
قال: "وفيما يعتبر به البعد والقرب ثلاثة أوجه: أصحها، وبه قطع جمهور العراقيين والصيدلاني وغيرهم أنّ التباعد يختلف باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب أن لا يختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين، لأنّ مطلع هؤلاء مطلع هؤلاء، فإذا رآه هؤلاء فعدم رؤيته للآخرين لتقصيرهم في التأمل أو لعارض بخلاف مختلفي المطالع.
والثاني: الاعتبار باتحاد الأقاليم واختلافه، فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان، وبهذا قال الصيمري وآخرون، والثالث: أن التباعد مسافة القصر والتقارب دونها، وبهذا قال الغوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخرسانيين"([50]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالصواب في هذا - والله أعلم - ما دل عليه قوله: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون))([51])، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم، وكذلك إذا شهد الرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب فعليهم إمساك ما بقي سواءً كان من إقليم أو إقليمين"([52]).
ثم قال: "فالضابط أنّ مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله: ((صوموا لرؤيته))([53]) فمن بلغه أنه رؤي، ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار"([54]).
وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله هو أحسن الأقوال في المسألة، والله أعلم.
وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي قراراً في هذه المسألة، وهذا نصه:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها، فرأى أن الإسلام بني على أنه دين يسر وسماحة تقبله الفطرة السليمة والعقول المستقيمة لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع لما في ذلك من التخفيف على المكلفين مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعاً وعقلاً.(/8)
أما شرعاً: فقد أورد أئمة الحديث حديث كريب وهو: (أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، فاستهل علي شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أَوَلا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) [رواه مسلم في صحيحه]([55]).
وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في شرحه على مسلم بقوله: (باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنّهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له([56]).
وناط الإسلام الصوم والإفطار بالرؤية البصرية دون غيرها لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) [رواه البخاري ومسلم([57])في صحيحيهما].
فهذا الحديث علَّق الحكم بالسبب الذي هو الرؤية، وقد توجد في بلد كمكة والمدينة، ولا توجد في بلد آخر، فقد يكون زمانها نهاراً عند آخرين فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار.
أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة.
وقد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير، فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فيما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس أو لكل بلد حكم يخصه، وكثير من كتب أهل المذاهب طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع للأدلة القائمة من الشريعة بذلك، وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل.
وأما عقلاً فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه، لأنّه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل، فقد توافق الشرع والعقل على ذلك فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك التي منها أوقات الصلاة ومراجعة الواقع تطالعنا بأنَّ اختلاف المطالع من الأمور الواقعية.
وعلى ضوء ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنَّه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي؛ لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية، لأنّ ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة، وأنَّه الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم، والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
نائب الرئيس
محمد علي الحركان
...
رئيس مجلس المجمع الفقهي
عبد الله بن حميد
7 ـ إغمام الهلال:
اختلف العلماء فيما إذا حجب الهلالَ شيء ليلة الثلاثين من شعبان:
القول الأول: أنه يكون يومَ ثلاثين من شعبان ولا يلزم صومه لأنه يوم شك. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية.
قال المرغيناني: "وإذا غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً))([58])، ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه إلا بدليل ولم يوجد"([59]).
قال الدردير: "وإن غيمه السماء ليلة الثلاثين، ولم ير الهلال فصبيحته يوم شك، وأما لو كانت مصحية لم يكن يوم شك لأنه إذا لم تثبت رؤيته كان من شعبان جزماً"([60]).
قال الشيرازي: "ولا يجب صوم رمضان إلاّ برؤية الهلال فإن غم عليهم وجب عليهم أن يستكملوا شعبان، ثم يصوموا"([61]).
القول الثاني: وجوب صوم الثلاثين من شعبان بنية رمضان. وهو قول الحنابلة.
قال المرداوي عند قول ابن قدامة في المقنع (وإن حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب): "وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه، وصنفوا فيه التصانيف، وردوا حجج المخالف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه، وهو من مفردات المذهب"([62]).
قال ابن عبد البر: "وروي عن ابن عمر في معنى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) شيء لم يتابعه على تأويله ذلك فيما علمت إلا طاوس وأحمد بن حنبل، وروي عن أسماء مثله وعن عائشة نحوه، وذلك أن ابن عمر كان يقول: إذا لم ير الهلال ولم يكن في السماء غيم ليلة الثلاثين من شعبان، وكان صحواً أفطر الناس ولم يصوموا، وإن كان في السماء غيم في تلك الليلة أصبح الناس صائمين([63]) وأجزأهم من رمضان إن ثبت بعد أن الشهر تسع وعشرون، وربما كان شعبان حينئذ تسعاً وعشرين"([64]).(/9)
ثم قال: "هذا الأصل ينتقض على من أصَّله لأنّ من أغمي عليه هلال رمضان فصام على فعل ابن عمر، ثم أغمي عليه هلال شوال لا يخلو أن يكون يجري على احتياطه خوفاً أن يفطر يوماً من رمضان أو يترك احتياطه، فإن ترك احتياطه نقض ما أصّله، وإن جرى على احتياطه صام واحداً وثلاثين يوماً، وهذا خلاف ما أمر الله به عند الجميع"([65]).
وقال ابن القيم: "وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صامه، ولم يكن يصوم يوم الإغمام ولا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله، وهذا أمره، ولا يناقض هذا قوله: ((فأكملوا العدة)) والمراد بالإكمال إكمال عدة الشهر الذي غم كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ((فأكملوا عدة شعبان)) وقال: ((لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة))، والذي أمر بإكمال عدته هو الشهر الذي يغم، وهو عند صيامه وعند الفطر منه، وأصرح من هذا قوله: ((الشهر تسعة وعشرين فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة))، وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه، وإلى آخره بمعناه، فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى"([66]).
ثم قال: "وقال: ((لا تقدموا رمضان))، وفي لفظ: ((لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه))([67])، والدليل على أنّ يوم الإغمام داخل في هذا النهي حديث ابن عباس يرفعه: ((لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين))([68])، ذكره ابن حبان، فهذا صريح في أنّ صوم يوم الإغمام من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين صومٌ قبل رمضان"([69]).
وقال أيضاً: "الثاني: أنّ الصحابة كان بعضهم يصومه، وكان بعضهم لا يصومه، وأصح وأصرح من روي عنه صومه عبد الله بن عمر، قال ابن عبد البر: وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس، قلت: المنقول عن علي وعمر وعمار وحذيفة وابن مسعود المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعاً، فأمّا صوم يوم الغيم احتياطاً على أنّه إن كان من رمضان فهو فرضه، وإلاّ فهو تطوع فالمنقول عن الصحابة يقتضي جوازه، وهو الذي كان يفعله ابن عمر وعائشة"([70]).
ثم قال أخيراً: "وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وبه تجتمع الأحاديث والآثار، ويدل عليه ما رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوماً))([71]) فدل على أن ابن عمر لم يفهم من الحديث وجوب إكمال ثلاثين بل جوازه، فإنه إذا صام يوم الثلاثين فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطاً، ولو فهم كما يقوله الموجبون لأمر أهله وغيرهم، ولم يكن يقتصر على صومه في خاصة نفسه ولا يأمر به، وبيَّن أنّ ذلك هو الواجب على الناس"([72]).
هذا الذي اختاره ابن القيم ورجَّحه، وحققه هو أحسن الأقوال، والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري: الصيام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) (1906)، ومسلم: الصيام (1080).
([2]) التمهيد (2/39).
([3]) البحر الرائق (2/459).
([4]) مواهب الجليل (2/379).
([5]) تحفة المحتاج (3/372).
([6]) شرح منتهى الإرادات (2/338).
([7]) الأم (2/94).
([8]) المجموع (6/284).
([9]) المصدر نفسه.
([10]) الإنصاف (3/274).
([11]) صحيح؛ رواه الدرامي: الصوم، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان (1691)، وأبو داود: الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2322)، والدارقطني: الصيام (2/156)، والحاكم: الصوم (1541)، وصححه ابن حزم في المحلى (4/164)، والحاكم في المستدرك، والألباني في الإرواء رقم (908).
([12]) أخرجه أبو داود في الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان رقم (2340)، والترمذي في الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة رقم (691)، والنسائي في الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان رقم (2112)، وابن ماجه في الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال رقم (1652)، وأعله النسائي بالإرسال (4/438) ط المعرفة، وقال الترمذي: "وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً" (3/74-75) وأخرجه الحاكم في المستدرك في الصوم رقم (1543)، وقال: "صحيح، ولم يخرجاه"، قال الألباني: "وفيه نظر، فإنّ سماكاً مضطرب الحديث، وقد اختلفوا عليه، فتارة رووه موصولاً، وتارة مرسلاً". ورجح ضعفه كما في الإرواء (4/15) رقم (907).
([13]) المدونة (1/174).(/10)
([14]) أخرجه أحمد في المسند (4/321) والنسائي في الصغرى: الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (2115)، والدارقطني، الصيام، باب الشهادة على رؤية الهلال (2/167) وصححه الألباني في الإرواء (4/16) رقم (909) وفي صحيح الجامع الصغير (3705)، وفي صحيح سنن النسائي (1997).
([15]) انظر: البحر الرائق (2/465-468).
([16]) المحلى (4/164).
([17]) الطرق الحكمية (ص128).
([18]) جامع الترمذي (3/75).
([19]) شرح صحيح مسلم للنووي (3/190).
([20]) تقدم تخريجه.
([21]) رواه أبو داود في الصيام باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال (2338) والدارقطني في الصيام باب الشهادة على رؤية الهلال (2/167) والبيهقي في الصيام باب من لم يقبل على رؤية هلال الفطر إلا شاهدين عدلين (4/247) وقال الدارقطني: "هذا إسناد متصل صحيح"، وصححه النووي في المجموع (6/284)، والألباني في صحيح أبي داود (2/445).
([22]) المحلى (4/163).
([23]) المحلى (4/164).
([24]) المحلى (4/164).
([25]) نيل الأوطار (4/222-223).
([26]) المجموع (6/284).
([27]) البحر الرائق (2/465).
([28]) البحر الرائق (2/465).
([29]) المجموع (6/284).
([30]) شرح منتهى الإرادات (2/343).
([31]) البحر الرائق (2/465).
([32]) مواهب الجليل (2/382) والمهذب مع المجموع (6/284).
([33]) المستور هو من ظاهره السلامة، ولم يعدل، انظر: تحفة المحتاج (3/379).
([34]) البحر الرائق (2/465) المجموع (6/284).
([35]) البحر الرائق (2/465) المجموع (6/284).
([36]) تقدم تخريجه في مبحث إثبات دخول رمضان بالهلال.
([37]) الهداية مع فتح القدير (2/248).
([38]) الهداية مع فتح القدير (2/252).
([39]) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي للدردير (1/241).
([40]) المجموع (6/290).
([41]) الإنصاف (3/277).
([42]) الإنصاف (3/278).
([43]) المحلى (4/163).
([44]) صحيح، رواه الترمذي في الصيام باب ما جاء في الصوم يوم تصومون برقم (697)، والدارقطني في الصيام (2/164)، والبيهقي في الصيام باب القوم يخطئون في رؤية الهلال (4/252) وقال الترمذي: "حديث حسن غريب" (3/80)، وصححه الألباني في الإرواء (4/11) برقم (905).
([45]) مجموع الفتاوى (25/114-118).
([46]) البحر الرائق (2/471).
([47]) عقد الجواهر الثمينة (1/355).
([48]) الإنصاف (3/173).
([49]) المجموع (6/280).
([50]) المجموع (6/280).
([51]) تقدم تخريجه في فقرة (5).
([52]) مجموع الفتاوى (22/105).
([53]) تقدم تخريجه.
([54]) مجموع الفتاوى (25/107).
([55]) أخرجه مسلم في الصيام برقم (1087).
([56]) أخرجه أبو داود في الصيام باب إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة برقم (2332)، والترمذي في الصوم باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم برقم (693)، والنسائي في الصيام باب اختلاف أهل الآفاق في الرؤية برقم (2110).
([57]) تقدم تخريجه في فقرة (1).
([58]) تقدم تخريجه في فقرة (1).
([59]) الهداية (1/129) الكتب العلمية.
([60]) الشرح الصغير (1/241).
([61]) المهذب مع المجموع (6/275).
([62]) الإنصاف (3/269).
([63]) أخرجه أحمد في المسند (2/5) برقم (4488) وأبو داود: الصيام، باب: الشهر يكون تسعاً وعشرين (2319) كلاهما من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر، وأصله في مسلم: الصيام (1080) بدون فعل ابن عمر.
([64]) التمهيد (2/347).
([65]) التمهيد (2/349).
([66]) زاد المعاد (2/41).
([67]) أخرجه الشافعي في مسنده (ص187) وأصله في البخاري في الصيام باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين برقم (1914).
([68]) أخرجه الترمذي في الصيام، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له برقم (688)، والنسائي في الصيام باب إكمال شعبان ثلاثين برقم (2129)، وابن حبان في الصوم ذكر خبر ثان يصرح بالزجر عن صوم يوم الشك رقم (3594) وقال الترمذي: حسن صحيح.
([69]) زاد المعاد (2/41).
([70]) زاد المعاد (2/45).
([71]) أخرجه البخاري: في الصيام، باب هل يقال رمضان، برقم (1898)، ومسلم: في الصيام برقم (1080).
([72]) زاد المعاد (2/47).
ثانياً: إثبات دخول رمضان باستكمال شعبان ثلاثين يوماً:
وقد تقدم قول ابن عبد البر: "إن الله تعبد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان أو باستكمال شعبان ثلاثين يوماً"([1]).
وتقدم دليله في مبحث إثبات دخول رمضان بالهلال.
([1]) التمهيد (2/39).
حكم صيام رمضان
دليل الكتاب:
فقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
قال ابن جرير: "قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} أي فرض عليكم الصيام"([1]) .
وقال الجصاص: "أوجب علينا فرض الصيام بهذه الآية"([2]).
وقال ابن بطال: "أي: فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم"([3]) .
وقال ابن العربي: "قوله: {كُتِبَ} أي: فرض وألزم"([4]) .(/11)
وقال القرطبي: "... ذكر أيضًا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه"([5]) .
وقال ابن كثير: "يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام... وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعل أولئك"([6]) .
وقال السعدي: "يخبر تعالى بما مَنَّ الله به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرض على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان"([7]) .
وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
قال ابن كثير: "هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي: كان مقيمًا في البلد حين دخل رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة"([8]) .
([1]) جامع البيان (3/409).
([2]) أحكام القرآن (1/ 214).
([3]) شرح البخاري (4/6).
([4]) أحكام القرآن (1/61).
([5]) الجامع لأحكام القرآن (2/272).
([6]) تفسير القرآن العظيم (1/219).
([7]) تيسير الكريم الرحمن (1/220).
([8]) تفسير القرآن العظيم (1/377).
دليل السنة:
فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على وجوب صيام رمضان وفرضيته، ومنها:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) ([1]) .
2. وقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل المشهور: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))([2]).
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر)) قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: ((الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) قال: يا رسول الله, ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك))([3]).
4. وعن أبي هريرة أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دُلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئًا ولا أنقص منه، فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))([4]).
5. وعن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات في اليوم والليلة)). فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وصيام رمضان)) قال: هل علي غيره؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))... قال: فأدبر الرجل فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق))([5]).
6. وعن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن وفد بن عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من القوم؟)) أو ((من الوفد؟)) قالوا: ربيعة، قال: ((مرحبًا بالقوم ـ أو الوفد ـ، غير خزايا ولا ندامى)) فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فَمُرْنا بأمر فصْل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس))([6]).
([1]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس)) (8)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
([2]) أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (8).
([3]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب: قوله: {إن الله عنده علم الساعة} (4777)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (9).
([4]) أخرجه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة (1397)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة (14).
([5]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام (46)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11).(/12)
([6]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان (53)، ومسلم في: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى (17).
الإجماع:
فقال ابن عبد البر: "وأجمع العلماء على أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان"([1]) .
وقال ابن حزم: "اتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان وقد بلغه وجوب صيامه... فرضٌ"([2]) .
كما نقل الإجماع جماعة من أهل العلم، كالكاساني([3])، والنووي([4])، وابن قدامة([5])، وابن تيمية([6]) وغيرهم.
قال أبو العباس ابن تيمية: "صيام رمضان فرض في الجملة، وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع"([7]) .
([1]) التمهيد (2/148).
([2]) مراتب الإجماع (ص 39).
([3]) انظر: بدائع الصنائع (2/75).
([4]) انظر: المجموع (6/252).
([5]) انظر: المغني (4/324).
([6]) انظر: شرح العمدة (1/28 ـ الصيام).
([7]) انظر: شرح العمدة (1/26 ـ الصيام).
أنواع الصوم :
أولاً: الصوم الواجب:
1. صوم رمضان:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:18].
وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
قال الطبري: "{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} فرض عليكم الصيام"([1]).
وقال ابن عبد البر: "... وأجمع العلماء على أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان..." ([2]).
وقال ابن تيميمه: "... صيام رمضان فرض في الجملة، وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف، وقد دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع"([3]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) ([4]).
وجاء في حديث جبريل قوله: ((... الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))([5]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه. فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))([6]).
وعن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقهُ ما يقول، حتى دنا ؛ فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات في اليوم والليلة)) فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا إلا أن تطوّع)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وصيام رمضان)) قال: هل عليّ غيره؟ قال: ((لا إلا أن تطوّع))، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا إلا أن تطوّع)). قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق))([7]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من القوم؟ – أو من الوفد؟)) قالوا: ربيعة، قال: ((مرحباً بالقوم – أو بالوفد – غير خزايا ولا ندامى)). فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفّار مُضر، فَمُرْنا بأمرٍ فصل نُخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)). ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت – وربما قال: النقير – وقال: ((احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم))([8]).
2. قضاء أيام رمضان:
قال تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
قال الطبري: "... ومن كان مريضاً أو على سفر في الشهر فأفطر، فعليه صيام عدة الأيام التي أفطرها، من أيام أخر غير أيام شهر رمضان"([9]).(/13)
عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقالت: (أحرورية أنت؟) قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ([10]).
قال النووي: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة، ولا الصوم في الحال، وأجمعوا على أنه لا يجب عليهما قضاء الصلاة، وأجمعوا على أنه يجب عليهما قضاء الصوم" ([11]).
3. صوم المتمتع والقارن في الحج إذا لم يجدا الهدي:
أما المتمتع فلقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196].
وجاء عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (لم يرخّص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن لم يجد هدياً) ([12]).
وأما القران فقال الشيخ الشنقيطي: "واعلم أن من يعتدّ به من أهل العلم أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي، والصوم عند العجز عن الهدي"([13]).
4. كفارة الحلق في الحج – على التخيير –:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
قال الحافظ ابن كثير: "وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق بفَرْقٍ، وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين صاع، وهو مُدّان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء"([14]).
وعن كعب بن عجرة قال حُملتِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ((ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا أما تجد شاةً ؟!)) قلت: لا، قال: ((صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك))([15]).
قال الخطابي: "قلت: هذا إنما هو حكم من حلق رأسه لعذر مِنْ أذى يكون به، وهو رخصة له، فإذا فعل ذلك كان مخيراً بين الدم والصدقة والصيام"([16]).
5. جزاء قتل الصيد للمحرم – على التخيير –:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95].
قال ابن جرير الطبري: "وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} أن يكون تخييراً، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره – بقتله الصيد وهو محرم – بأيّ هذه الكفارات الثلاث شاء..." ([17]).
وقال في قوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً}: "...أو على قاتل الصيد محرماً عدلُ الصيد المقتول من الصيام، وذلك أن يُقوّم الصيد حياً غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يوماً..." ([18]).
6. كفارة القتل – على الترتيب -:
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92].
قال ابن عطية: "... عند الجمهور: فمن لم يجد العتق ولا اتّسع ماله له فيجزيه صيام شهرين متتابعين في الأيام، لا يتخللّها فطر"([19]).
وقال البغوي: "والقاتل إن كان واجداً للرقبة أو قادراً على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق، ولا يجوز أن ينقل إلى الصوم، فإن عجز عن تحصيلها فعليه صوم شهرين متتابعين، فإن أفطر يوماً متعمداً في خلال الشهرين أو نسي النية ونوى صوماً آخر وجب عليه استئناف الشهرين"([20]).
7. كفارة اليمين – على الترتيب -:(/14)
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].
عن ابن عباس أنه قال: (هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأول فالأول، فإن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات)([21]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمتى كان واجداً فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام..." ([22]).
8. كفارة الظهار – على الترتيب –:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ C فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:3، 4].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحررها، فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر"([23]).
قال القرطبي: "ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة؛ فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً..."([24]).
وعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه، ويقول: ((اتقي الله فإنه ابن عمك)) فما برحمت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. إلى الفرض فقال: ((يعتق رقبه)) قالت: لا يجد، قال: ((فليطعم ستين مسكيناً)) قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قالت: فأتى ساعتئذٍ بعَرَقٍ من تمر، قلت: يا رسول الله، فإني أعينه بعرقٍ آخر، قال: ((أحسنت، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك))([25]).
قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد رقبةً، أن فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقول الله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]، وحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر"([26]).
9. صيام النذر:
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7].
قال قتادة: "كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسمّاهم الله بذلك الأبرار"([27]).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: ((نعم، فدين الله أحق أن يُقضى)) وفي رواية: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أمي ماتت وعليها صوم نذر..))([28]).
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه))([29]).
وعن زيادة بن جبير قال: كنت مع ابن عمر فسأله رجل فقال: نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت، فوافقت هذا اليوم يوم النحر فقال: (أمر الله بوفاء النذر ونهينا أن نصوم يوم النحر)، فأعاد عليه، فقال مثله لا يزيد عليه([30]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويصام النذر عنه – يعني: الميّت – سواء تركه لعذر أو لغير عذر ...، قال في رواية عبد الله – في رجل مرض في رمضان -: إن استمر المرض حتى مات، ليس عليه شيء؛ فإن كان نذر صام عنه وليه! إذا هو مات؛ لأن النذر محلة الذمة، وهو أوجبه على نفسه.
ولهذا قد يجب على الإنسان من الديون بفعل نفسه ما يعجز عنه، ولا يجب عليه بإيجاب الله عليه إلا ما يقدر عليه.
ولهذا لو تكفّل من الدَّيْن بما لا يقدر عليه ؛ لزمه في ذمّته.
وعلى هذا فلا فرق بين أن ينذر وهو مريض فيموت مريضاً، أو ينذر صوم شهر ثم يموت قبل مضي شهر"([31]).
([1]) تفسير الطبري (3/409).
([2]) التمهيد (22/148).
([3]) شرح العمدة (1/26- الصيام).
([4]) رواه البخاري (1/20) كتاب الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم رقم (8)، ومسلم (1/45) كتاب الإيمان باب أركان الإسلام ودعائمه العظام رقم (16).(/15)
([5]) رواه البخاري (1/33) كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم رقم (50)، ومسلم (1/36-38) كتاب الإيمان، باب: الإيمان والإسلام رقم (8).
([6]) رواه البخاري (1/431)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة رقم (1397)، ومسلم (1/44) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة رقم(14).
([7]) رواه البخاري (1/31-32) كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام رقم (46)، ومسلم (1/40-41)، كتاب: الإيمان باب: السؤال عن أركان الإسلام رقم (11).
([8]) رواه البخاري (1/35) كتاب: الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان، رقم (53)، ومسلم (1/46) كتاب: الإيمان باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى رقم (17).
([9]) تفسير الطبري (3/457).
([10]) رواه مسلم (1/265) كتاب: الحيض باب وجوب قضاء الصوم على الحائض رقم (335) وأبو داود (1/262) كتاب: الطهارة، باب: في الحائض لا تقضي الصلاة . وأبو أعوانه (1/270) والبيهقي (1/308).
([11]) شرح صحيح مسلم (4/26).
([12]) تفسير الطبري (4/98).
([13]) منسك الإمام الشنقيطي (3/97).
([14]) تفسير ابن كثير (1/349-350) وانظر: الفروع لابن مفلح (3/258)، ونيل الأوطار (5/77).
([15]) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن باب: ((فمن كان منكم مريضاً)) رقم (4517).
([16]) معالم السنن (2/161) . وانظر: المبدع (3/136)، والفروع (3/258)، والأم (2/186) وبدائع الصنائع (2/178)، وبداية المجتهد (1/276)، وتحفة المحتاج (2/197).
([17]) تفسير الطبري (11/37).
([18]) تفسير الطبري (11/42)، وانظر: أحكام القرآن للطحاوي (2/281-287)،وللجصاص (4/140-141). وأضواء البيان (2/133-134)، والمغني (5/415-518).
([19]) المحرّر الوجيز (4/211).
([20]) تفسير البغوي (2/263).
([21]) أخرجه الطبري في تفسيره (10/561).
([22]) مجموع الفتاوى (35/349).
([23]) تفسير الطبري (23/232).
([24]) تفسير القرطبي (17/285).
([25]) رواه أبو داود كتاب: الطلاق، باب: في الظهار رقم (2214) وابن ماجه كتاب: الطلاق، باب: الظهار رقم (2062)، وأحمد (6/411) وحسنه الألباني كما في صحيح أبي داود (2/416-4117) وانظر: إرواء الغليل (7/176) رقم (2091).
([26]) المغني (11/85) . وانظر: الدر المختار (2/798)، ومغني المحتاج (3/364-365)، وكشاف القناع (5/443-448).
([27]) أخرجه الطبري في تفسيره (29/208).
([28]) رواه البخاري كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم رقم (1953).
([29]) رواه البخاري كتاب الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة رقم (6696).
([30]) رواه البخاري كتاب الأيمان والنذور باب: من نذر أن يصوم أياماً رقم (6706)، ومسلم، كتاب: الصيام باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى رقم (1139).
([31]) شرح العمدة (1/375- الصيام-).
ثالثاً: الصوم المحرّم:
1. صوم الدهر:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر))([1]).
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صام من صام الأبد))([2]).
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن عمرو إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونهكت. لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله))([3]).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام الدهر ضيقت عليه جهنم – هكذا – وقبض كفّه))([4]).
قال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أنها تضيق عليه حصراً له فيها ؛ لتشديده على نفسه وحمله عليها، وغربته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراماً"([5]).
2. صوم العيدين: الفطر والأضحى:
عن أبي سعيد رضي الله عنه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر([6]).
وعنه قال: سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني، قال: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى... الحديث([7]).
قال النووي: "قد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما، قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما. وقال أبو حنيفة: ينعقد، ويلزمه قضاؤهما. قال: فإن صامهما أجزأه. وخالف الناس كلهم في ذلك"([8]).
3. صوم المرأة بغير إذن زوجها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوم المرأة وبعلها شاهدٌ إلا بإذنه))([9]).(/16)
وقال ابن حزم: "لا يحل لذات الزوج أن تصوم تطوعاً بغير إذنه، فإن كان غائباً لا تقدر على استئذانه أو تعذّر، فلتصم بالتطوّع إن شاءت"([10]).
قال الكاساني: "وليس للمرأة التي لها زوج أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، ولأن له حق الاستمتاع بها، ولا يمكنه ذلك في حال الصوم، فله أن يمنعها إن كان يضره. فإن كان صيامها لا يضره بأن كان صائماً أو مريضاً لا يقدر على الجماع، فليس له أن يمنعها؛ لأن المنع كان لاستيفاء حقه، فإذا لم يقدر على الاستمتاع فلا معنى للمنع"([11]).
قال أبو الطيب العظيم آبادي: "لا تصوم امرأة نفلاً وزوجها حاضرٌ معها في بلدها إلا بإذنه تصريحاً أو تلويحاً ؛ لئلا يفوت عليه حقه في الاستمتاع بها"([12]).
4. صوم الحائض والنفساء:
قال النووي: "لا يصح صوم الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما، ويحرم عليهما، ويجب قضاؤه، وهذا كله مجمع عليه، ولو أمسكت لا بنية الصوم لم تأثم، وإنما تأثم إذا نوته، وإن كان لا ينعقد"([13]).
وقال ابن الحاج: "ومنهن من تصوم مدة الحيض وتقضيها بعده، وفاعلة ذلك منهن آثمة في صومها في أيام حيضها، مصيبةٌ في القضاء بعده"([14]).
5. صوم أيام التشريق تطوعاً:
عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب)) وفي رواية: ((وذكر لله))([15]).
عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى: ((أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب))([16]).
قال ابن عبد البر: "وأما صيام أيام التشريق فلا خلاف بين فقهاء الأمصار فيما علمت أنه لا يجوز لأحد صومها تطوعاً، وقد روي عن الزبير وابن عمر والأسود بن يزيد وأبي طلحة ما يدل على أنهم كانوا يصومون أيام التشريق تطوعاً، وفي أسانيد أخبارهم تلك ضعفٌ.
وجمهور العلماء من الفقهاء وأهل الحديث على كراهية ذلك...." ([17]).
قال الحافظ ابن رجب: "إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد المسلمين مع يوم النحر، فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء خلافاً لعطاء في قوله: إن النهي يختص بأهل منى، وإنما نهى عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق، فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدى ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يومٍ منها ويوم عند الأكثرين، إلا عند مالك فإنه قال في اليوم الثالث منها يجوز صيامه عن نذر خاص"([18]).
6. صيام يوم الشك لمن لم يصادفه فيه عادة:
ويوم الشك هو: يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال، وأما إذا كانت السماء صحواً فلا شك([19]).
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال:(من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم)([20]).
وقد ذهب إلى تحريم صيامه جماعة من أهل العلم، ونقله ابن المنذر عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار وحذيفة وأنس وأبي هريرة والأوزاعي، وهو مذهب الشافعية، واختيار ابن المنذر وابن حزم.
ورجحه الشيخ ابن عثيمين([21]).
قال الخطابي: "اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك؛ فقال قومٌ: إنما نهي عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان؛ فأما من نوى به صوم يومٍ من شعبان فهو جائز، وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرضٍ ولا تطوّع للنهي فيه، وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان"([22]).
7. تقدم رمضان بصيام يومٍ أو يومين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلاً يصوم صوماً فليصمه))([23]).
قال النووي: "فيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين لمن لم يصادف عادةً له أو يصله بما قبله، فإن لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام، هذا هو الصحيح من مذهبنا"([24]).
وقال ابن مفلح: "فتقدمه اليوم واليومين أولى عنده – يعني: أحمد – بالتحريم ؛ لصحة النهي فيه، ولا معارض، ووجه تحريم استقباله – فقط – النهي، وفيه زيادة على المشروع"([25]).
([1]) تقدم تخريجه.
([2]) رواه مسلم كتاب: الصيام باب: النهي عن صوم الدهر رقم (1159).
([3]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: صوم داود عليه السلام رقم (1979) ومسلم كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر رقم (1159) واللفظ له.
([4]) رواه أحمد (4/414)، وأبو داود الطيالسي (514)، وابن أبي شيبة (3/78)، وصححه ابن خزيمة (3/313) وابن حبان (8/349).
([5]) الفتح (4/261).
([6]) رواه البخاري كتاب الصوم باب: صوم يوم الفطر رقم (1991).
([7]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: صوم يوم النحر رقم (1995) واللفظ له، ومسلم كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر (827).
([8]) شرح صحيح مسلم (8/15).
([9]) رواه البخاري كتاب: النكاح باب: صوم المرأة بإذن زوجها، رقم (5192) ومسلم كتاب: الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه رقم (1026).
([10]) المحلى (7/30).
([11]) بدائع الصنائع (2/107).(/17)
([12]) عون المعبود (7/128-129) بتصرف.
([13]) المجموع شرح المهذب (6/257) وانظر: المهذب (1/177)، وروضة الطالبين (2/365) وشرح زيد بن رسلان (1/155).
([14]) المدخل لابن الحاج (2/272-273) وانظر: البحر الرائق (2/277) وفتح القدير (2/234).
([15]) رواه مسلم في الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق رقم (1141).
([16]) رواه مسلم في الصيام باب: تحريم صوم أيام التشريق رقم (1142).
([17]) التمهيد (14/127).
([18]) لطائف المعارف (304-305). وانظر: الفروع: (3/128)، والشرح الممتع (6/482-483).
([19]) الشرح الممتع (6/480)، وانظر: المجموع (6/454) للنووي، والفروع (3/125).
([20]) علقه البخاري (2/32) كتاب: الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال... ووصله أبو داود، كتاب الصوم باب: كراهية صوم يوم الشك رقم (2334) والترمذي كتاب الصوم باب: ما جاء في كراهية صوم يوم الشك رقم (686)، وابن ماجه كتاب الصيام باب: ما جاء في صيام يوم الشك رقم (1645) والنسائي كتاب الصيام باب: صيام يوم الشك رقم (2187)، وأورد الحافظ ابن حجر له طرقاً وشواهد في تغليق التعليق (3/141-142) يُحسّن الحديث بها، والله أعلم.
([21]) الشرح الممتع (6/480).
([22]) معالم السنن للخطابي (2/85) باختصار، وانظر: فتح الباري (4/153-154).
([23]) رواه البخاري، كتاب: الصوم، باب: لا يتقدم رمضان بيوم ولا يومين رقم (1914).
([24]) شرح مسلم (7/194).
([25]) الفروع (3/117).
الملف العلمي للبحوث المنبرية لفقه وآداب وأحكام الصيام
...
.
أنواع الصوم: رابعًا: الصوم المكروه: قائمة محتويات هذا الملف
رابعاً الصوم المكروه:
1. صيام يوم النيروز والمهرجان بغير قصد التعظيم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين، فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم، قد لا يكره صوم ذلك اليوم ؛ بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم، وكرههما أكثر الأصحاب. وقد قال أحمد في رواية عبد الله: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن أنس والحسين: كرها صوم يوم النيروز والمهرجان، وقد اختلف الأصحاب هل يدل ذلك على مذهبه؟ على وجهين:
وعللوا ذلك بأنهما يومان تعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقةً لهم في تعظيمهما فكُره، كيوم السبت، قال الإمام أبو محمد المقدسي: وعلى قياس هذا ؛ كل عيدٍ للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم([1]).
وقد يُقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان، ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين، فليس في صومهما مفسدة، فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي، توفيقاً بين الآثار والله أعلم"([2]).
وقال المرداوي: "(يكره صومهما) وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب، واختار المجد أنه لا يكره لأنهم لا يعظمونهما بالصوم"([3]).
2. إفراد يوم الجمعة بالصوم:
عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابر بن عبد الله: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم([4]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم))([5]).
قال الحافظ ابن حجر: "استدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه، وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره، واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال:
أحدهما: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة، ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، رابعها: خوف اعتقاد وجوبه، خامسها: خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك، سادسها: مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم، وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها"([6]).
3. إفراد يوم السبت بالصوم:
اختلف أهل العلم في حكم إفراد يوم السبت بالصيام، هل هو مكروه أم مباح؟على قولين:
القول الأول: يكره إفراد يوم السبت بالصيام، وهو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية ([7])، والمالكية ([8])، والشافعية ([9])، ورواية عن أحمد اعتمدها أتباعه([10]).
القول الثاني: لا يكره إفراده بالصيام، ورجحه جماعة من أهل العلم منهم: الزهري، والأوزاعي، وأبو داود، ورواية عن أحمد اختارها الأثرم([11]). ورجحه الطحاوي ([12])، وشيخ الإسلام ابن تيمية ([13])، وابن القيم([14])، وابن حجر([15]).
حجة أصحاب القول الأول:
احتجوا بحديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمصه))([16]).(/18)
قال النووي: "يكره إفراد يوم السبت بالصوم: فإن صام قبله أو بعده معه لم يكره"([17]).
حجة أصحاب القول الثاني:
احتجوا بحديث أم سلمة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم))([18]) وبإن الأصل الإباحة، ولا دليل صحيح على الكراهة.
قال الطحاوي: "ففي هذه الآثار المروية إباحة صوم يوم السبت، وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها"([19]).
قال ابن حجر في معرض حديثه عن مخالفة أهل الكتاب: "والذي قاله بعضهم من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى من المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه([20]). وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معاً وفرادى امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب"([21]).
4. صوم الوصال:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: ((إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى))([22]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال: ((إني لست كهيأتكم، إني يطعمني ربي ويسقين))([23]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال: ((وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين))، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: ((لو تأخّر لزدتكم))، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا([24]).
قال ابن قدامة: "الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكلٍ ولا شرب . وهو مكروهٌ في قول أكثر أهل العلم – إلى أن قال – وأما النهي فإنما أتى به رحمةً لهم ورفقاً بهم؛ لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل، وعن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث، قالت عائشة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم، وهذا لا يقتضي التحريم، ولهذا لم يفهم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التحريم؛ بدليل أنهم واصلوا بعده، ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا فعله"([25]).
وقال ابن دقيق العيد: "في الحديث دليل على كراهة الوصال، واختلف الناس فيه، ونقل عن بعض المتقدمين فعله، ومن الناس من أجازه إلى السحر لحديث أبي سعيد الخدري([26])، وفي حديث أبي سعيد الخدري دليل على أن النهي عنه نهي كراهة لا نهي تحريم، وقد يُقال: إن الوصال المنهي عنه ما اتصل باليوم الثاني، فلا يتناوله الوصال إلى السحر، إلا أن قوله عليه السلام: ((فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر)) يقتضي تسميته وصالاً، والنهي عن الوصال يمكن تعليله بالتعريض بصوم اليوم الثاني، فإن كان واجباً كان بمثابة الحجامة والفصد وسائر ما يتعرض به الصوم للإبطال، وتكون الكراهة شديدة، وإن كان صوم نفل ففيه التعريض لإبطال ما شرع فيه من العبادة، وإبطالها إما ممنوع على مذهب بعض الفقهاء، وإما مكروه، وكيفما كان فعلّة الكراهة موجودة إلا أنها تختلف رتبتها"([27]).
وقال الحافظ ابن حجر: "... اختلف في المنع المذكور فقيل: على سبيل التحريم، وقيل على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على من شق عليه، ويباح لمن لم يشق عليه، وقد اختلف السلف في ذلك فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً([28])، وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في الحلية([29])، وغيرهم رواه الطبري وغيره، ومن حجتهم أنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرّحت به عائشة في حديثها"([30]).
5. الصوم في السفر لمن يشقّ عليه:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلل عليه فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر))([31]).
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماءٍ فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: ((أولئك العصاة أولئك العصاة))([32]).
قال ابن دقيق العيد: "أخذ من هذا أن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات، ويكون قوله: ((ليس من البر الصيام في السفر)) منزلاً على مثل هذه الحالة"([33]).(/19)
وقال ابن تيمية: "والصحيح أنه إن شق عليه الصوم بأن يكون ماشياً أو لا يجد عشاءً يقوّيه، أو بين يديه عدوّ يخاف الضعف عنه بالصوم، أو يصير كلاًّ على رفقائه، أو يسوء خلقه، ونحو ذلك؛ كره له الصوم، وكذلك إن صام تعمقاً وغلواً، بحيث يعتقد أن الفطر نقص في الديّن ونحو ذلك"([34]).
6. صوم يوم عرفة للحاج:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة([35]).
وهذا الحديث في صحّته نظر، لكن يؤيّده أن الناس شكّوا في صومه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأُرسل إليه بقدح من لبنٍ فشربه ضحى يوم عرفة، والناس ينظرون، حتى يتبيّن أنه لم يصم، ولأن هذا اليوم يوم دعاءٍ وعمل، ولا سيما أن أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم، فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب، لا سيما في أيام الصيف وطول النهار وشدّة الحر، فإنّه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم، والصوم يُدْرك في وقت آخر.
ولهذا نقول: صوم يوم عرفة للحاج مكروه، وأما لغير الحاج فهو سنة مؤكّدة([36]).
([1]) المغني (3/53).
([2]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/579-580)، ويلخص كلامه ابن القيم تلخيصاً حسناً في تهذيب سنن أبي داود (8/52).
([3]) الإنصاف (3/349). وانظر:حاشية ابن عابدين(2/399)، وفتح القدير (2/349) وبدائع الصنائع (2/79).
([4]) رواه البخاري في الصوم باب صوم يوم الجمعة (1984)، ومسلم في الصيام، باب: كراهية صيام يوم الجمعة متفرداً (1143).
([5]) رواه البخاري في الصوم باب: صوم يوم الجمعة (1985)، ومسلم في الصيام، باب: كراهية صيام يوم الجمعة منفرداً (1144).
([6]) فتح الباري (4/235) باختصار.
([7]) بدائع الصنائع للكاساني (2/79).
([8]) القوانين الفقهية لابن جزي (110).
([9]) المجموع للنووي (6/439).
([10]) شرح العمدة (2/653- الصيام -).
([11]) المرجع السابق (5/655).
([12]) شرح معاني الآثار (2/80).
([13]) الفروع لابن مفلح (3/124).
([14]) تهذيب السنين (7/67).
([15]) فتح الباري (10/362).
([16]) رواه الإمام أحمد (4/189)، وأبو داود في الصوم باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم (2421)، والترمذي في الصيام ما جاء في صوم يوم السبت (744)، وابن ماجه في الصوم، باب: ما جاء في صيام يوم السبت (1726) وقد اختلف أهل العلم في حكمهم على هذا الحديث بين مصحح ومضعف، وممن صححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان (8/379)، وممن أعله ورده الزهري (أخرجه الحاكم 1/602) ومالك والأوزاعي (أخرجه أبو داود 1/736)، والقطان (انظر تهذيب السنن 7/67)، والطحاوي (شرح المعاني 2/80)، وحكم أبو داود بنسخه (1/736).
([17]) المجموع (6/439).
([18]) رواه الإمام أحمد (6/324)، وابن خزيمة في صحيحه (3/318)، وابن حبان (الإحسان 8/381).
([19]) شرح المعاني (2/80).
([20]) تقدم ذكره وتخريجه.
([21]) فتح الباري (10/362) بتصرف واختصار.
([22]) رواه البخاري كتاب الصوم باب: الوصال رقم (1962).
([23]) رواه البخاري في الصوم، باب: الوصال رقم (1964).
([24]) رواه البخاري في الصوم باب: التنكيل لمن أكثر الوصال رقم (1965).
([25]) المغني (4/436-437).
([26]) حديث أبي سعيد الخدري هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر)) رواه البخاري (الصوم باب: الوصال إلى السحر).
([27]) إحكام الأحكام (2/233-234).
([28]) مصنف ابن أبي شيبة (2/496).
([29]) حلية الأولياء (3/79-80).
([30]) فتح الباري (4/240-241).
([31]) رواه البخاري في الصوم باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلل واشتد الحر ((ليس من البر الصوم في السفر)) رقم (1946).ومسلم في الصيام باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1115).
([32]) رواه مسلم كتاب الصوم باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1114) والترمذي كتاب الصوم باب: ما جاء في كراهية الصوم في السفر رقم (710).
([33]) إحكام الأحكام (2/225)، وانظر: فتح الباري (4/217-218).
([34]) شرح العمدة (1/237- الصيام).
([35]) أخرجه أحمد (2/304-446) وأبو داود (2440) وابن ماجه (1732) وفي إسناده ضعف، وقال العقيلي في الضعفاء (1/298): "ولا يصح عنه أنه نهى عن صومه".
([36]) الشرح الممتع (6/472-473) لابن عثيمين.
فضائل الصوم
أولاً: فضائل الصيام عموماًَ :
1- أنه وسيلة إلى التقوى :
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
قال البغوي: " {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم ؛ لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات " ([1]).
وقال ابن كثير: " لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان " ([2]).
2- أن الله أعدّ للصائمين مغفرة وأجراً عظيماً :(/20)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35].
فالصيام من كبريات أعمال الخير والبر التي أعد الله لعامليها أمرين عظيمين :
أ- {مَّغْفِرَةً}، وذلك بغفران الذنوب أي بسترها وعدم المحاسبة عليها، ونُكرت المغفرة لتعظيم أمرها، فهي إذا ً مغفرة شاملة.
ب- {وَأَجْراً عَظِيماً}، وذلك في جنات النعيم مع الكرامة في موقف الحساب ([3]).
3- أن الله جعله فدية لبعض محظورات الإحرام([4]) :
قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية [البقرة:196].
عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد – يعني مسجد الكوفة – فسألته عن فدية من صيام، فقال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ((ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد
شاة ؟ )) قلت: لا، قال: ((صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام أو احلق رأسك)) قال: فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ([5]).
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95].
قال ابن جرير: "{أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} يعني تعالى ذكره بذلك أنه على قاتل الصيد محرماً عدل الصيد المقتول من الصيام ، وذلك أن يقوّم الصيد حياً غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم ، ثم يصوم مكان كل مدّ يوماً"([6]).
4- أن الله جعله بدلاً عن الهدي لمن وجب عليه الهدي ولا يستطيع أن يهدي([7]) :
قال تعالى في تتمة الآية السابقة: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196].
قال القرطبي: "{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} يعني الهدي، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده"([8]).
5- أن الله جعله بدلاً عن كفارة اليمين عند العجز عنها ([9]):
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
قال ابن جرير: " يقول تعالى ذكره {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام " ([10]).
6- أن الله جعله بدلاً عن العتق في كفارات القتل والظهار والوقاع في نهار رمضان([11]):(/21)
يقول تعالى في كفارة القتل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
[النساء: 92].
قال ابن كثير: "أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين"([12]).
وقال الله عز وجل بشأن كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3، 4].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحررها فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا"([13]).
وأما في كفارة الوقاع في نهار رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: مالك ؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (( هل تجد رقبة تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعِرْق فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدق به)) فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك)) ([14]).
قال ابن حجر في بيان الحكمة من هذه الخصال في الكفارة: " وأما الصيام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه كالمقاصّة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء فلما أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشهر كله، من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المناقضة لنقيض قصده " ([15]).
7- الصيام جنة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) ([16]).
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((الصيام جُنّة من النار، كجُنّة أحدكم من القتال))([17]).
قال ابن عبد البر: "والجُنّة: الوقاية والستر من النار، وحسبك بهذا فضلاً
للصائم" ([18]).
وقال القاضي عياض: "((جُنّة)) أي سِتْر ومانع من الرفث والآثام أو مانع من النار وساتر منها أو مانع من جميع ذلك " ([19]).
قال ابن العربي: " إنما كان الصوم جنة من النار ؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات " ([20]).
قال ابن حجر: " فالحاصل أنه إذا كفّ نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساتراً له من النار في الآخرة " ([21]).
8- أجر الصائم على الله :
في حديث أبي هريرة السابق: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا
أجزي به)).
وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))([22]).
قال ابن عبد البر: "كفى بقوله: ((الصوم لي)) فضلاً للصيام على سائر العبادات"([23]).
وقال أيضاً: "فإن قال قائل: وما معنى قوله: ((الصوم لي وأنا أجزي به)) وقد علم أن الأعمال التي يراد بها وجه الله كلها له وهو يجزي بها؟(/22)
فمعناه والله أعلم: أن الصوم لا يظهر من ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نيّة ينطوي عليها صاحبها ولا يعلمها إلا الله، وليست مما تظهر فتكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر الأعمال ؛ لأن الصوم في الشريعة ليس بالإمساك عن الطعام والشراب؛ لأن كل ممسك عن الطعام والشراب إذا لم ينو بذلك وجه الله ولم يرد أداء فرضه أو التطوع لله به فليس بصائم في الشريعة، فلهذا قلنا إنه لا تطّلع عليه الحفظة ولا تكتبه، ولكنّ الله يعلمه ويجازي به على ما شاء من التضعيف" ([24]).
9- الصوم كفارة للخطيئات :
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: من يحفظ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا سمعته يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)) قال: ليس أسأل عن هذِهْ، إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر، قال: وإن دون ذلك باباً مغلقاً، قال: فيفتح أو يكسر؟ قال: يكسر، قال: ذاك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة، فقلنا لمسروق: سَلْهُ، أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله فقال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة)([25]).
وقد ترجم البخاري على الحديث بقوله: " باب الصوم كفارة ".
قال القاري: "والمعنى أن الرجل يبتلى ويمتحن في هذه الأشياء، ويسأل عن حقوقها، وقد يحصل له ذنوب من تقصيره فيها، فينبغي أن يكفرها بالحسنات؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ} [هود:144]" ([26]).
10- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك :
في حديث أبي هريرة الماضي: ((والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))([27]).
قال ابن الأثير: "الخِلفة: بالكسر: تغيرّ ريح الفم، وأصلها في النبات: أن ينبت الشيء بعد الشيء؛ لأنها رائحة حدثت بعد الرائحة الأولى، يقال: خلف فمه يخلُف خِلفة وخلوفاً، ومنه الحديث: (( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) " ([28]).
وقال ابن عبد البر: "ومعنى قوله: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)): يريد أزكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك، وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم، ومن أجل هذا الحديث كره جماعة من أهل العلم السواك للصائم في آخر النهار من أجل الخلوف؛ لأنه أكثر ما يعتري الصائم الخلوف في آخر النهار لتأخر الأكل والشرب عنه " ([29]).
11- للصائم فرحتان:
في حديث أبي هريرة الماضي: ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) ([30]).
قال القاضي عياض: " أما فرحته عند لقاء ربه فبيّنة؛ لما يراه من الثواب وحسن الجزاء، وأما عند إفطاره فلتمام عبادته وسلامتها من الفساد وما يرجوه من ثوابها، وقد يكون معناه: لما طبعت النفس عليه من الفرح بإباحة لذة الأكل وما منع منه الصائم وحاجته إلى ذهاب ألم الجوع عنه " ([31]).
12- الصيام لا يعدله شيء :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: ((عليك بالصيام فإنه لا عدل له))([32]).
قال السندي: " ((فإنه لا مثل له)) في كسر الشهوة ودفع النفس الأمّارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب" ([33]).
13- الريان للصائمين :
عن سهل بن سعد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد))([34]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم))([35]).
قال النووي: " قال العلماء: معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك "([36]).
وقال أيضاً: " قال العلماء: سمي باب الريان تنبيهاً على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى وعاقبته إليه وهو مشتق من الري " ([37]).
14- شفاعة الصيام :
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) ([38]).(/23)
قال الطيبي: "والقول من الصيام والقرآن إما أن يُأَوَّل أو يجرى على ما عليه النص، هذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم، فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل عن إدراك العوالم الإلهية ولا سبيل لها إلا الإذعان له والإيمان به " ([39]).
وقال الملا علي قاري: " وهذا دليل على عظمتهما " ([40]).
([1]) معالم التنزيل ( 1 / 196 ).
([2]) تفسير ابن كثير ( 1 / 318 ).
([3]) الصيام ورمضان في السنة والقرآن ( ص: 119 – 120 ).
([4]) الصيام ورمضان ( ص: 120 ).
([5]) أخرجه البخاري - كتاب المحصر - باب الإطعام في الفدية نصف صاع (1816)، ومسلم في الحج (1201).
([6]) تفسير الطبري (5/57).
([7]) الصيام ورمضان ( ص: 120 ).
([8]) الجامع لأحكام القرآن ( 2 / 399 ).
([9]) الصيام ورمضان ( ص: 123 ).
([10]) جامع البيان ( 5 / 30 ).
([11]) الصيام ورمضان ( ص: 124 ).
([12]) تفسير القرآن العظيم ( 1 / 811 ).
([13]) جامع البيان ( 12 / 10 ).
([14]) رواه البخاري في الصيام، باب إذا جامع في رمضان لم يكن له شيء (1936)، ومسلم في الصيام (1111).
([15]) فتح الباري ( 4 / 197 ).
([16]) أخرجه البخاري في الصيام، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ؟ برقم ( 1904 )، ومسلم في الصيام برقم
( 1151 ).
([17]) صحيح: أخرجه النسائي في الصيام، باب فضل الصيام برقم ( 2231 )، وابن ماجه في الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام برقم ( 1639 )، وأحمد في مسنده ( 4 / 22 )، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (982).
([18]) التمهيد ( 19 / 54 ).
([19]) الإكمال ( 4 / 110 ).
([20]) فتح الباري ( 4 / 125 ).
([21]) فتح الباري ( 4 / 125 ).
([22]) رواه مسلم في الصيام برقم ( 1151 ).
([23]) فقه الصوم ( 1 / 29 ).
([24]) التمهيد ( 19 / 60 ).
([25]) أخرجه البخاري في الصيام، باب الصوم كفارة برقم ( 1895 )، ومسلم في الإيمان برقم ( 144 ).
([26]) مرقاة المفاتيح ( 9 / 328 ).
([27]) تقدم تخريجه.
([28]) النهاية ( 2 / 67 ).
([29]) التمهيد ( 19 / 57 ).
([30]) تقدم تخريجه.
([31]) الإكمال ( 4 / 112 ).
([32]) صحيح: أخرجه النسائي في الصيام، باب فضل الصيام برقم ( 2220 )، وابن خزيمة في الصيام، باب فضل الصيام وأنه لا عدل له من الأعمال برقم ( 1893 )، وقال ابن حجر في الفتح (4 / 126): " إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1937 ).
([33]) شرح سنن النسائي ( 4 / 165 ).
([34]) أخرجه البخاري في الصيام، باب الريان للصائمين، برقم ( 1896 )، ومسلم في الصيام برقم ( 1152 ).
([35]) أخرجه البخاري في الصيام، باب الريان للصائمين، برقم ( 1897 )، ومسلم في الزكاة برقم ( 1027 ).
([36]) شرح مسلم للنووي ( 7 / 116 ).
([37]) المرجع السابق.
([38]) رواه أحمد في مسنده ( 2 / 174 – 6626 )، والحاكم في المستدرك ( 1 / 740 )، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 3 / 181 ): " رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال الطبراني رجال الصحيح "، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ( 1 / 483 )، ولم أعثر عليه عند
الطبراني.
([39]) شرح الطيبي على المشكاة ( 4 / 141 ).
([40]) المرقاة شرح المشكاة ( 4 / 454 ).
ثانياً: فضائل صيام رمضان :
1- أنه ركن من أركان الإسلام :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان))([1]).
قال القرطبي: "يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده عليها تبنى وبها تقوم"([2]).
فصيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183- 185].
وأجمع المسلمون على فرضية صوم رمضان إجماعاً قطعياً معلوماً بالضرورة من دين الإسلام([3]).
2- أنه كفارة للخطيئات :(/24)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([4]).
قال النووي: " معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص " ([5]).
وقال المناوي: "وفيه فضل رمضان وصيامه وأن تنال به المغفرة وأن الإيمان وهو التصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صيام رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطوية صافية امتثالاً لأمره تعالى واتكالاً على وعده من غير كراهية وملالة لما يصيبه من أذى الجوع والعطش وكلفة الكف عن قضاء الوطر بل يحتسب النصب والتعب في طول أيامه ولا يتمنى سرعة انصرامه ويستلذ مضاضته " ([6]).
3- أنه من أسباب دخول الجنة :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً أبداً ولا أنقص منه، فلما ولّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))([7]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها))([8]).
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، ءأدخل الجنة؟ قال: ((نعم))، قال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً([9]).
([1]) رواه البخاري في الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم برقم ( 8 )، ومسلم في الإيمان برقم ( 16 ).
([2]) المفهم ( 1 / 168 ).
([3]) مجالس شهر رمضان ( ص: 33 – 34 ).
([4]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان برقم ( 38 )، ومسلم في صلاة المسافرين برقم ( 759 ).
([5]) شرح صحيح مسلم (6/39).
([6]) فيض القدير ( 6 / 207 ).
([7]) رواه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة برقم ( 1397 )، ومسلم في الإيمان برقم ( 14 ).
([8]) أخرجه البخاري في الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله برقم ( 2790 ).
([9]) أخرجه مسلم: الإيمان (15).
حِكم الصيام وأسراره
أولاً: حِكم وأسرار تربوية:
1- تحقيق معنى التقوى:
قال تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 183 ] .
قال الواحديُّ: "إنّ الصيام وصلة إلى التُّقى لأنه يكف الإنسان عن كثيرٍ مما تَطْمع إليه النفس من المعاصي" ([1]) .
وقال أبو المظفر السمعاني في قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: "أي بالصوم؛ لأنّ الصوم وصلة إلى التقوى بما فيه من قهر النفس، وكسر الشهوات"([2]).
وقال السدي: "{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي: من الطعام والشراب والنساء"([3]).
وقال ابن كثير: "الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان"([4]).
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )) ([5]) .
قال ابن حجر: " (( فإنه له وجاء )) بكسر الواو وبجيم ومد، وهو رضُّ الخصيتين، وقيل: رضُّ عروقهما، ومن يفعل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح " ([6]) .
2- الصوم يحفظ الجوارح عن الوقوع في الحرام :
قال ابن القيم: " من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم ؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يُجرِّح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً " ([7]).
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه )) ([8]) .
قال المهلب: " فيه دليل أنَّ حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربِّه، وترك قبوله منه " ([9]) .
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواءً " ([10]) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( إذا صمت فتحفظ ما استطعت ) ([11]).
3- الصيام يربي في النفس حقيقة الإخلاص لله عز وجل:(/25)
قال ابن القيم: " والصيام لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإنّ الصائم لا يفعل شيئاً، وإنّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سرُّ بين العبد وربه، لا يطَّلعُ عليه سواه، والعباد قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات
الظاهرة، وأما كونه تَرَك طعامه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بشرٌ، وذلك حقيقة الصوم " ([12]) .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (( قال الله: كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلاَّ الصِّيام فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ )) ([13]) .
قال مجاهد: " قوله في الحديث: (( الصِّيام لي وأنا أجْزِي بِهِ )) ولا يكون لله خالصاً إلاَّ بانفراده بعلمه دون الناس " ([14]) .
وقال ابن بطال: " فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت الأعمال الظاهرة يُشْرِكُ فيها الشيطان بالرياء وغيره، وكان الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه " ([15]).
وقال القرطبي: " الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يَظْهَر إلاَّ له ؛ فلذلك صار مختصاً به " ([16]) .
4- الصيام والصبر :
قال ابن رجب: " الصيام من الصبر، والصبر ثلاثة أنواع، وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإنّ فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عمَّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصُلُ للصائم فيه من ألم الجوع
والعطش، وضعف النفس والبدن ، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] " ([17]) .
قال ابن عيينة: " الصوم هو الصبر، يُصَبِّرُ الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثم قرأ: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }" ([18]) .
وقال ابن حجر: " والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال " ([19]) .
5- في الصيام تضييق لمجاري الشيطان :
قال ابن رجب: " إنّ الصيام يضيق مجاري الدم، التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم ؛ فإنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصوم وجاءً ([20])، لقطعه عن شهوة النكاح " ([21]) .
6- الصيام يدعو الإنسان لشكر النعم :
قال الشيخ عبد العزيز السلمان: " الصوم يدعو إلى شكر نعمة الله، إذ هو كفُّ النفس عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، ولا يعرف الإنسان قدر هذه النِّعم إلا بعد فقدها، فيبعثه ذلك على القيام بشكرها، وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة: 185 ] " ([22]) .
7- الصيام يثير في النفس مراقبة الله عز وجل والخوف منه :
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: " الصيام موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله، وهذه المراقبة تكسب الإنسان الحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله والاستغراق في تعظيمه وتقديسه ما يجلب الخوف منه عز وجل، إن صاحب هذه المراقبة لا
يسترسل في المعاصي، إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى، وإذا نسي وألم بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة إلى الله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201] " ([23]) .
8- الصيام وخلق الكرم والعطف على الفقراء :
قال ابن رجب: " سئل بعض السلف لم شرع الصيام ؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع " ([24]) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: " إن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتاً فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رؤوف رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمرهم بالتأسي به " ([25]) .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل([26]).
قال الزين بن المنير: " أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم " ([27]) .
9- في الصيام تتجلى وحدة المسلمين، وتعرف الأُمَّةُ أهمية الوقت :
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: " الصيام يُعَلِّمُ الأُمَّة النظام في المعيشة، فجميع المسلمين يفطرون في وقت واحد لا يتقدم أحدٌ على آخر دقيقة واحدة، وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة " ([28]) .
([1]) الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي (1/272).
([2]) تفسير السمعاني (1/179)، وانظر: زاد المسير (1/167)، والبحر المحيط (2/36).
([3]) انظر جامع البيان (3/413)، والدر المنثور (1/323).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/318)، وانظر محاسن التأويل (2/74).(/26)
([5]) أخرجه البخاري: في كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة رقم (1905) واللفظ له، ومسلم: كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح رقم (1400).
([6]) فتح الباري (4/142).
([7]) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص41) بتصرف يسير.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به رقم (1903).
([9]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/23).
([10]) المصنف لابن أبي شيبة (2/422)، كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([11]) المصنف لابن أبي شيبة (2/421)، كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([12]) زاد المعاد (2/29).
([13]) أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم رقم (1904)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الصيام: باب فضل الصيام رقم (1151).
([14]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/9).
([15]) المرجع السابق .
([16]) الجامع لأحكام القرآن (2/274).
([17]) انظر: لطائف المعارف ( ص: 284 ) بتصرف يسير، وموارد الظمآن ( 1 / 357 ) .
([18]) شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 4 / 9 ) .
([19]) فتح الباري ( 4 / 130 ) .
([20]) تقدم تخريج الحديث، والكلام عليه، في الفقرة رقم ( 1 ) .
([21]) لطائف المعارف ( ص: 291 ) .
([22]) انظر: موارد الظمآن ( 1 / 356 ) بتصرف يسير .
([23]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 145 – 146 ) بتصرف يسير، وكتاب الصوم للشيخ عبد الرحمن الدوسري.
([24]) لطائف المعارف لابن رجب ( ص: 314 ) .
([25]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 147 ) بتصرف يسير .
([26]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم ( 1902 )، واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس رقم ( 2308 ) .
([27]) انظر: فتح الباري ( 4 / 139 ) .
([28]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 148 ) بتصرف يسير .
ثانيا: حِكم وأسرار صحية:
1- يقول ابن القيم:
" الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن ؛ مَنافِعُه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب: في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولاسيما: إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعاً، وحاجة البدن إليه طبعاً، ثم إنّ فيه: من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وفيه خاصية تقتضي إيثاره، وهي: تفريجه للقلب عاجلاً وآجلاً، فهو أنفع شيء لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة، وله تأثير عظيم، في حفظ صحتهم .
وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعاً وشرعاً، عظم انتفاع قلبه وبدنه به، وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعِدّ لها، وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه ويحفظ الصائم مما ينبغي أن يتحفظ منه، ويعينه على قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية .
فإنّ القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب، وباعتبار ذلك الأمر، أُختصَّ من بين الأعمال: بأنه للهِ سبحانه، ولمَّا كان وقايةً وجُنةً بين العبد وبين ما يؤذي قلبه وبدنه عاجلاً راجلاً، قال الله تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ } [ البقرة: 183 ]، فأحد مقصودَي الصيام: الجنةُ والوقاية ؛ وهي حِمْية عظيمةُ النفع .
والمقصود الآخر: اجتماعُ القلب والهمِّ على الله تعالى، وتوفيرُ قُوى النفس على محابِّهِ وطاعته " ([1]) .
2- الصيام وصحة الجسم :
" يفيد الصيام صحة النفس والجسم كليهما، فيشحذ الذهن ويقوي الإرادة، ويخفف العبء عن أجهزة الجسم جميعها وبخاصة جهاز الهضم وجهاز الدوران والكلى " ([2]) .
" والصيام ينشط تجدد خلايا الجسم، فمن المعروف أنّ في جسم الإنسان نحو من ( 125 ) ألف مليار خلية، وأنّه يموت ويحيا كل دقيقة نحو من ( 7 ) مليارات خلية، أي أن خلايا الجسم جميعها تتجدد خلال اثني عشر يوماً تقريباً، أما في الصوم فتتجدد جميعها خلال ( 5 – 6 ) أيام فقط " ([3]) .
3- الصيام والجهاز الهضمي :
" إن للصوم الأثر الكبير في راحة الجهاز الهضمي المُتْعَبْ طيلة أيام السنة، وفي الصوم حثٌ على الاستفادة من مخزون الشحوم في الجسم كافة، فتتحول هذه الشحوم وتتفتت وتنتج لنا الطاقة اللازمة لإدامة الحياة بدل الطعام " ([4]) .
" وإن من حكمة الإفطار على التمر أنه يحتوي على المواد السكرية التي سرعان ما تُمتص فتصل إلى الدم بسرعة، ويرتفع مستوى السكر في الدم، ويشعر به الصائم نشاطاً يدب في جسمه، وقوةً في التركيز والرؤية، ويقلل نوعاً ما من شعور الصائم بالحاجة إلى الطعام فتقل شهيته فيأكل ما يكفيه دون إفراط " ([5]) .
" إنَّ شرب الماء عند الإفطار قبل الطعام قد يحرك الأمعاء ويقلل من حالة الإمساك التي يشكو منها كبار السن عادة " ([6]) .
4- الصيام وأمراض الكليتين :(/27)
الصيام يريح الكليتين وجهاز البول، بإقلاله فضلات استقلاب الأغذية المنطرحة عن طريق الجهاز ([7]) .
5- الصيام وعلاج البدانة :
يستفيد السمين من الصيام كثيراً ؛ لأن الصائم بعد حرقه الغذاء الوارد في السحور يستمد 83 % من القدرة الضرورية من استهلاك المدخرات الذهنية وتزيد فائدته إن لم يسرف في الطعام، وقلل من الأغذية الدهنية والنشوية وباقي السكريات([8]) .
6- الصيام يحمي الأسنان من التسوس ويمنع إصابة اللثة بالأمراض :
" يقول أحد الأطباء: إن الامتناع عن الأكل من السحور حتى الفطور يحمي الأسنان من التلف الناتج عن تخمر فضلات الطعام في الأسنان، وبالتالي فإن ذلك يحول دون إصابة الأسنان بالتسوس، ويقلل من الإفرازات اللعابية التي تسبب زيادة ترسب المواد الجيرية والدهنية على الأسنان، وتظل اللثة معرضة للأمراض " ([9]) .
7- أمراض الروماتيزم :
" يؤكد أخصائيو الأمراض الروماتيزمية والأمراض المزمنة أن الصيام يفيد مرضى الروماتيزم، وخاصة السيدات وكبار السن من الجنسين، فهو يخفض الوزن ويتخلص من السموم في الجسم " ([10]) .
8- أمراض الكبد :
" يقول أخصائيو الأمراض الباطنية: إِنَّ حالات كثيرة من أمراض السكر قد أفادت إفادة كبيرة في شهر رمضان؛ لأنّ الصيام يعمل على خفض مستوى السكر في الدم وانخفاضه في البول كما ينصح الأطباء مَرْضَى الكبد أن يستفيدوا من تجربة شهر الصيام طوال العام بعد الإفراط في الأكل وتنظيمه " ([11]) .
9- ترك الدخان :
" والصوم حافز كبير يساعد على التخلص نهائياً من الإدمان في شرب السجائر والمنبهات، والصوم يعطي مناعة وقوة تزيدهم تحملاً للمسؤوليات وأعباء الحياة، وتزيدهم صبراً على تحمل الحرمان، وبذلك يمكن الإقلاع عن التدخين، وتتحسن صحتهم النفسية والجسمية " ([12]) .
10- الصوم ومرض السكر :
" والصوم يحمي الإنسان من مرض السكر: ولتفسير ذلك نقول إن في الصوم تقل كمية السكر في الدم إلى أدنى المعدلات، وهذا يعطي غدة البنكرياس فرصة للراحة، فمن المعروف أن البنكرياس يفرز الأنسولين، وهذه المادة بدورها تؤثر على السكر في الدم، فتحوله إلى مواد نشوية ودهنية تترسب وتخزن في الأنسجة، ولكن إذا زاد الطعام عن قدرة البنكرياس في إفراز الأنسولين، فإن هذه الغدة تصاب بالإرهاق والإعياء، ثم أخيراً تعجز عن القيام بوظيفتها، فيتراكم السكر في الدم، وتزيد معدلاته بالتدريج سنة وراء سنة، حتى يظهر مرض السكر، وخير حماية للبنكرياس من هذا الإرهاب؛ هو الصوم المعتدل"([13]).
11- الصوم والمعدة :
" وما أصدق الحكمة القائلة: قليل من الصوم يصلح المعدة، ففي الصيام تخلو المعدة تماماً من الطعام خلال 12 ساعة في اليوم الواحد، ولمدة شهر كامل، وهذه المدة تكفي لإخلاء المعدة من كل طعام متراكم وتعطيها فرصة للراحة من غير إرهاق، ولذلك نجد أنه أثناء فترة الصيام يتخلص الإنسان من عادة التكرع أو ( التجشوء ) التي يسببها أكل الطعام على الطعام مما ينجم عنه تخمر الأطعمة في المعدة قبل أن تتمكن من هضمها " ([14]) .
12- الصوم والأمعاء :
"والصيام يريح الأمعاء والمصران الغليظ أيضاً من الطعام المتراكم، وبذلك يتخلص الصائم من الغازات والروائح الكريهة التي تنتج عن التخمة وسوء الهضم والتخمر في الأمعاء بسبب عدم قدرتها على امتصاص الطعام أو التخلص منه، وقد كان الناس فيما مضى قبل الأدوية الحديثة يعالجون حالات الإسهال
بالصيام وحده أو باستعمال المسهلات للمساعدة على طرد المواد السامة من المصارين" ([15]) .
([1]) الطب النبوي لابن القيم ( ص: 258 – 259 ) .
([2]) كتاب الحقائق الطبية في الإسلام ( ص: 184 ) بتصرف يسير .
([3]) كتاب الحقائق الطبية في الإسلام ( ص: 184 ) بتصرف يسير .
([4]) الطب الوقائي في الإسلام ( ص: 253 ) بتصرف يسير .
([5]) الطب الوقائي في الإسلام ( ص: 253 ) بتصرف يسير .
([6]) الطب الوقائي في الإسلام ( ص: 253 ) بتصرف يسير .
([7]) الطب النبوي والعلم الحديث ( 1 / 274 ) .
([8]) الطب النبوي والعلم الحديث ( 1 / 274 ) .
([9]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([10]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([11]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([12]) الصيدلية المحمدية ( ص: 42 – 43 ) .
([13]) صوموا تصحوا، دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية ( ص: 32 – 33 ) .
([14]) صوموا تصحوا، دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية ( ص: 32 – 33 ) .
([15]) صوموا تصحوا، دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية ( ص: 32 – 33 ) .
ما قيل من الشعر عن رمضان
1 ـ استقبال رمضان والفرح به
قال بعضهم:
جاء شهر الصيام بالبركات
...
...
فأَكرِمْ به من زائرٍ هُوَ آت([1])
وقال آخر:
أتى رمضانُ مزرعةُ العباد
فأَدِّ حقوقه قولاً وفعلاً
فمن زرع الحبوبَ وما سقاها
...
...
لتطهير القلوب من الفساد
وزادُك فاتخذه للمعاد
تأَوَّه نادمًا يوم الحصاد([2])
وقال آخر:
إذا رمضان أتى مقبلاً
لعلك تخطئه قابلاً
...
...(/28)
فأَقْبِلْ فبالخير يُسْتقْبَل
وتأتي بعذر فلا يُقْبل([3])
وقال آخر:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما
واتْلُ القرآن وسبح فيه مجتهدًا
واحملْ على جسد ترجو النجاة له
كم كنت تعرف ممّن صام في سلف
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم
ومُعجبٌ بثياب العيد يقطعها
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه
...
...
حتى عصى ربَّه في شهر شعبان
فلا تُصيِّره أيضًا شهر عصيان
فإنه شهر تسبيح وقرآن
فسوف تضرم أجساد بنيران
من بين أهل وجيران وإخوان
حيًا فما أقربَ القاصي من الداني
فأصبحت في غد أثواب أكفان
مصير مسكنه قبر لإنسان([4])
ويقول مصطفى الصادق الرافعي أديب الإسلام:
فديتك زائرًا في كل عام
وتُقْبِل كالغمام يفيض حِينًا
وكم في الناس من كَلِف مَشُوقٍ
رمزت له بألحاظ الليالي
فظل يعدّ يومًا بعد يومٍ
ومدّ له رواق الليل ظِلاًّ
فبات وملء عينيه منام
ولم أر قبل حبك من حبيب
فلو تدري العوالم ما درينا
بَنِي الإسلام هذا خير ضيف
يلُمُّكم على خير السجايا
فشدوا فيه أيديكم بعزم
وقوموا في لياليه الغوالي
وكم نفر تغرهم الليالي
وخلوا عادة السفهاء عنكم
يحلون الحرام إذا أرادوا
وما كل الأنام ذوي عقول
ومن روّته مرضعة المعاصي
...
...
تُحَيّا بالسلامة والسلام
ويبقى بعده أثر الغمام
إليك وكم شجيٍّ مستهام
وقد عيّ الزمان عن الكلام
كما اعتادوا لأيام السقام
ترف عليه أجنحة الظلام
لتنفض عنهما كسل المنام
كفى العشاق لوعات الغرام
لحنّت للصلاة وللصيام
إذا غشي الكريم ذرا الكرام
ويجمعكم على الهمم العظام
كما شدَّ الكميّ على الحسام
فما عاجت عليكم للمقام
وما خلقوا ولا هي للدوام
فتلك عوائد القوم اللئام
وقد بان الحلال من الحرام
إذا عَدُّوا البهائمَ في الأنام
فقد جاءته أيام الفطام([5])
وقال أحمد محمد الصديق:
قِفي ها هُنا في رِحابِ الهُدَى
أطلَّ عَلى الناس شهر الصيامِ
هَلُمّي... هَلُمّي.. به نَحْتَفي
أعيذُك من نزغات الهَوى
على عَتَبات الرضا والسلامِ
فإن جاد بالعفو ربُّ السماءِ
وحسبُكِ أنّا عَفرْنا الجبينَ
صيامُك يا نفس فيه الخلاصُ
ومعراجُك الفذُّ تقوى الإلهِ
...
...
ولله يا نفس فاستسلمي
فبُشراك بالوافد المُكْرَمِ
ونعلن عن فرحة المقدم
وفي موسم الخصبِ أن تُحرمي
أطيلي الوُقوفَ.. ولا تَسأمي
فحسبك ذلك من معنم
لديه.. وفي حصنه نحتمي
من الضعف والعجز والمأثَمِ
فركضًا إلى الله.. لا تُحجِمي([6])
وقال الصديق حافظ:
((رمضانُ)) أَقْبَلَ قم بنا يا صاحِ
الكون مِعْطارٌ بطيب قُدُومه!
صفو أتيح فخذ لنفسك قِسطَها
واغنم ثواب صيامِه وقيامِه
كم مؤمن لم تُلْهِهِ الدنيا فلم
قَوّامِ ليلٍ نائمٌ عنه الكَرَى
وحليف شيطانٍ غويٍّ لم يزلْ
في ليلة زُمرُ المعاصي تنتشي
رمضان لا يثنيه عن آثامِه!
الصوم يُعْلي من وَضيعِ غرائز
تلك الغرائز كم لها من صولةٍ
والنفس إن سَقت وهيض جناحها
الصوم يمنحنا مشاعر رحمةٍ
رمضان فيه ليلة خير لنا
فيها تنزّلُ بالسلام ملائِكٌ
قد أنزل القرآن فيها جامعًا
ومصدقًا للرسل فيما بلغوا
هذا كتاب الله زاد مُسَافر
أقبل عليه فإن من نفحاته
يا ليلة القدر امنحي أيامنا
رباه إني في ضلال حائر
هذِي خُطاي على الطريق ضريرةٌ
ثارت بي الشهواتُ فاصرف شرها
يا نُور هذا الكون هب لبصيرتي
إني لما أنزلت من خير فقيرٌ
وامُدد يَديْك إليّ إنّي هَالِك
واجعَلْ صِيَامَي راحةً لمتاعبي
...
...
هذا أوان تبتُّلٍ وصلاح!
روح وريحان ونفح أقاحي
فالصفو ليس على المدى بمتاحِ!
تسعد بخير دائم وفلاح!
يستبدل الأتراح بالأفراح!
الصّوامِ واعٍ صاحِ!
عبدًا لبنت الكَرْمِ والأقداحِ
ونهاره في غفلة ومزاح!
واهي العقيدة في إهَاب وَقاح!
وطبائع سُودِ الوجُوه قِباح
مسعورةِ الأنيَابِ ذاتِ نُبَاح!
فالصوم معراجٌ بغير جَنَاح!
وتعاونٍ، وتعففٍ، وسَمَاح!
من ألفِ شهرٍ في الزمان صِباحِ!
والروحُ حتى مطلع الإصْباحِ!
لمراشِدِ التهذيب والإصْلاحِ!
عن مُنْزِلِ الأسْفَارِ والألوَاحِ!
وبرودُ ماءٍ في الهَجير قَرَاح!
تقوى القلوب، وبهجةَ الأرواح!
فضلَ الكريم المنعمِ الفتَّاح!
عانٍ أنوءُ بحِمْلِيَ الفَدَّاح!
يكبو غُدُوّي باكيًا ورواحي!
عنِّى وكفكف ثورتي وجماحي!
قبسًا من المشكاة والمصباح!
فأغنني واملأ بعفوك سَاحي!
وامنُن عَلَيَّ بتوبة وصلاح!
واجعل قِيَامي بَلْسَمًا لجراحي([7])
وقال محمد حسن فقي:
رمضان.. في قلبي هَماهِمُ نشوةٍ
وعلى فمي طعم أحس بأنه
لا طعم دنيانا، فليس بوسعها
ما ذقت قط ولا شعرت بمثله
قالوا بأنك قادم، فتهللت
وتطلعت نحو السماء نواظر
تهفو إليه، وفي القلوب وفي النُّهى
لم لا نتيه مع الهيام.. ونزدهي
بهما نُحَلِّق في الغمام، ونرتوي
ونشف أرواحًا فننهج منهجًا
ونُصِحُّ أجساداً، فلا نشكو الونى
فنعود كالأسلاف أكرم أمة
...
...
من قبل رؤية وجهك الوضاء
من طعم تلك الجنة الخضراء
تقديم هذا الطعم للخلفاء
أفلا أكون به من السعداء
بالبشر أَوْجُهُنا.. وبالخيلاء
لهلال شهر نضارة ورُواء(/29)
شوق لمقدمه، وحسن رجاء
بجلال أيام.. ووحي سماء؟
من عذبه .. ونصول في الأجواء
نفضي به لمرابع الجوزاء
أبداً ولا نشكو من الأدواء
وأعز في السراء والضراء
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (279).
([2]) المرجع السابق (280).
([3]) المرجع السابق (281).
([4]) المرجع السابق (282).
([5]) ديوان الرافعي (31).
([6]) من ديوان نداء الحق.
([7]) ديوان شعر السيد الصديق حافظ.
2 ـ الحث على الطاعة في رمضان
والحذر من المعصية فيه
قال بعضهم:
من يُرِدْ ملك الجنانِ
وليقم في ظلمة الليل
وَلْيَصِلْ صومًا بصومٍ
إنما العيش جوار الله
...
...
فليدع عنه التواني
إلى نور القُرَانِ
إن هذا العيشَ فاني
في دار الأمانِ([1])
وقال بعضهم:
أَسْتَغْفِرُ الله من صيامي
صيامنا كله خروق
مستيقظ في الدجى ولكن
...
...
طول زماني ومن صلاتي
وصلاته أيما صلاتي
أَحْسَنُ من يقظتي سُباتي([2])
وقال بعضهم:
لا تَجْعَلَنْ رمضان شهر فُكاهةٍ
واعلم بأنك لا تنال قبوله
...
...
تلهيك فيه من القبيح فنونه
حتى تكون تصومه وتصونه([3])
وقال أحمد شوقي:
وصلّ صلاة من يرجو ويخشى
...
...
وقبل الصوم صُمْ علىكل فحشا([4])
وقال محمد بن عبد الرحمن:
في صيام الشهر طِبُّ
فيه أسرار يعيها
فيه غيث من صفاء
فيه للأرواح سبح
صائم في درع تقوى
...
...
ليس يدريه طبيبُ
صائم حقًا أريبُ
ترتوي منه القلوبُ
دونه الكون الرحيب
تنجلي عنه الكروب([5])
وقال أبو زيد إبراهيم:
يا أيها الشهر الكريم ومن به
فالصوم تزكية النفوس وطهرها
والصوم تربية الضمير فمن سما
كم صائم والصوم منه مُبرَّأ
صوم الجوارح أن تكف عن الأذى
...
...
تسمو النفوس ويخشع الوجدان
ولكبح كل زرية ميزان
فيه الضمير تألق الإيمان
وبرجسه يتفاخر الشيطان
لا صومَ في صوم به أضغان([6])
وقال بعضهم:
تنصَّف الشهر والهفاه وانهدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا
من فاته الزرع في وقت البذار فما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
...
...
واختصَّ بالفوز بالجنات من خدما
مثلي فيا ويحَه يا عُظم ما حُرِما!
تراه يحصد إلا الهم والندما
في شهره وبحبل الله معتصما([7])
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (298).
([2]) المرجع السابق (384).
([3]) نفح الطيب للمقّري (2/999).
([4]) الشوقيات (1/32).
([5]) ديوان الشاعر محمد عبد الرحمن.
([6]) ديوان شعر أبي زيد إبراهيم سيد.
([7]) لطائف المعارف (338).
3 ـ وداع شهر رمضان
قال بعضهم:
سلام من الرحمن كل أوان
سلام على شهر الصيام فإنه
لئن فنيت أيامك الغر بغتة
...
...
على خير شهر قد مضى وزمان
أمان من الرحمن أي أمان
فما الحزن من قلبي عليك بفان([1])
وقال أبو جعفر الرامي:
مضى رمضان مرمض الذَّنْب فَقْدُه
فيا لك شهرًا أشهر الله قدره
...
...
وأقبل شوال تشول به قهرًا
لقد شهرت فيه سيوف العدا شهرًا([2])
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (387).
([2]) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (172).
مراحل تشريع الصوم
الحكمة من التدرج في تشريع الصيام:
لم يفرض الصوم جملة واحدة ، وإنما شرع على التدرج ، قال ابن القيم في بيان الحكمة من ذلك : " لما كان ـ أي الصوم ـ غيرَ مألوف لهم ولا معتاد ، والطباع تأباه ، إذ هو هجر مألوفها ومحبوبها ، ولم تذق بعدُ حلاوته وعواقبه المحمودة ، وما في طيه من المصالح والمنافع، فخيرت بينه وبين الإطعام ، وندبت إليه ، فلما عرفت علته – يعني حكمته – وألفته ، وعرفت ما ضمنه من المصالح والفوائد : حتم عليها عيناً ، ولم يقبل منها سواه ، فكان التخيير في وقته مصلحة، وتعيين الصوم في وقته مصلحة ، فاقتضت الحكمة البالغة شرع كل حكم في وقته ؛ لأن المصلحة فيه في ذلك الوقت " ([1]) .
وقال ابن حجر الهيثمي: " وحكمته – أي التدرج – الرفق بالأمة ؛ لأنهم لما لم يألفوا الصوم كان يقينه عليهم ابتداء فيه مشقة ، فخيروا بينه وبين الفدية أولاً ، ثم لما قوي يقينهم ، واطمأنت نفوسهم : حتم عليهم الصوم وحده ، ونظير ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أول ما بعث لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ، ثم استمر على ذلك مدة مديدة ، ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ، ثم نسخ ذلك كله بالصلوات
الخمس،وكان كلما ازداد ظهوراً وتمكناً:ازدادت الفرائض وتتابعت،كل ذلك لما قررته من الرفق والتدرج في المراتب حتى تؤخذ بحقها"([2]) .
([1]) مفتاح دار السعادة ( 2 / 377 ) ، وانظر : ( 2 / 386 ) منه .
([2]) إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام ( ص : 78 ) ، وللتوسع انظر : العبادات وتطور تشريعها في زمن الوحي، لمحمد أنيس عبادة ، والتدرج في التشريع : ( مقال في مجلة الأزهر – السنة 37 ، ص : 146 وما بعدها ) لبدر المتولي عبد الباسط ، ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية( ص :74 – 78 ) ليعقوب الباحسين .
هل فُرِض صيامٌ قبل فرض صيام رمضان؟
قال ابن حجر: " ذهب الجمهور – وهو المشهور عند الشافعية – إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان " ([1]) .(/30)
وقال ابن جرير الطبري : " وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فُرِض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم شهر رمضان ... فمن ادعى أن صوماً كان قد لزم المسلمين فَرْضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه، ثم نسخ ذلك سُئل عن البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة، إذْ كان ذلك لا يُعْلم إلا بخبرٍ يَقْطَع العذر" ([2]) .
واختار جماعة من العلماء أن صياماً قد فُرِض قبل فرض صيام رمضان ، ثم نسخ برمضان ، ثم اختلفوا في تحديد ذلك الصيام على قولين ([3]) :
1- يوم عاشوراء :
وبذلك قال أبو حنيفة ([4]) ، وهو رواية عن أحمد ([5]) ، اختارها الأثرم ([6]) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ([7]) .
ومن أدلتهم : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة ، وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) ([8]) .
قال ابن بطال : " دلّ حديث عائشة على أن صومه كان واجباً قبل أن يُفْرَض
رمضان ، ودل أيضاً أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضاً " ([9]) .
2- ثلاثة أيام من كل شهر :
وإليه ذهب عطاء، مستدلاً بقوله تعالى : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ a أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ} [البقرة: 183، 184].
قال عطاء : "كان عليهم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ولم يسم الشهر أياماً معدودات ، قال : وكان هذا صيام الناس قبل ، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهر رمضان " ([10]) .
([1]) فتح الباري ( 4 / 103 ) ، وانظر : المجموع ( 6 / 433 – 435 ) للنووي .
([2]) جامع البيان ( 3 / 417 ) ، وانظر : تفسير المنار ( 2 / 150 ) .
([3]) انظر : الذخيرة ( 2 / 485 ) للقرافي .
([4]) بدائع الصنائع ( 2 / 262 ) .
([5]) الإنصاف ( 3 / 346 ) .
([6]) ناسخ الحديث ومنسوخه ( ص : 186 – 188 ) .
([7]) مجموع الفتاوى ( 25 / 295 ، 296 ، 311 ) ، شرح العمدة ( 2/ 573 – الصيام ) والاختيارات (164) للبعلي .
([8]) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... } ( 4502 ) ، ومسلم في كتاب الصيام، باب صوم عاشوراء ( 1125 ) .
([9]) شرح ابن بطال على البخاري ( 4 / 141 ) .
([10]) رواه الطبري في تفسيره ( 3 / 414 ) .
مراحل فرض صيام رمضان :
قال ابن القيم : " وكان للصوم رتب ثلاث:
إحداها : إيجابه بوصف التخيير ، والثاني : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالمرتبة الثالثة وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة " ([1]) .
دليل المرتبة الأولى :
قال تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : ( لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ) ([2]) .
دليل المرتبة الثانية والثالثة :
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ( كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى
يمسي ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته ، فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن انطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] ففرحوا بها فرحاً شديداً ، ونزلت : {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187])([3]) .
([1]) زاد المعاد ( 2 / 31 ) .
([2]) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ( 4507 ) .
([3]) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله جل ذكره: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث ... } ( 1915 ) .
متى فُرِض صوم رمضان؟
لم يختلف أهل السِّيَر في أنّ رمضان قد فُرِض في السنة الثانية من الهجرة.
قال الطبري في حوادث السنة الثانية من الهجرة: "وفي هذه السنة فُرِض ـ فيما ذُكِر ـ صومُ رمضان،وقيل: إنه فرض في شعبان منها"([1]).
([1]) التاريخ (2/417)، وانظر: الفصول في سيرة الرسول لابن كثير (ص 127) .
صوم رمضان الحقيقة اللغوية والشرعية
1- تعريف الصوم:(/31)
أ ـ لغة: الأصل في الصوم: الإمساك.
قال الراغب: " الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل مطعماً كان، أو كلاماً، أو مشياً، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف: صائم " ([1]).
قال الشاعر:
خيل صيام وأخرى غير صائمة
...
...
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما([2])
قال أبو عبيد: " الصائم من الخيل القائم الساكت الذي لا يطعم شيئاً " ([3]).
وقال: " ويقال للنهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة: قد صام " ([4]).
قال الليث: " والصوم القيام بلا عمل ".
وقال: " وبكرة صائمة إذا قامت فلم تَدُرْ " ([5]).
والصوم يقال للصمت، ومنه قوله تعالى:{إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً} [ مريم: 26]، قال ابن عباس: " يعني بالصوم: الصّمت " ([6]).
ويقال لركود الرّيح، ولرمضان، وللبيعة ([7]).
وشجر في لغة هذيل ([8]).
ويوصف به فيستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والاثنين والجماعة، تقول: رجل صَوْم، وامرأة صَوْم، ورجلان صَوْم، ورجال صَوْم ([9]).
ويطلق الصائم للواحد والجميع ([10])، ويجمع كذلك على صُوَّام وصُيَّام وصُوَّم وصِيَّم وصِيام وصيامى ([11]).
ويقال للفرد: صائم وصَوْمان وصَوم ([12]).
ب ـ شرعاً: هو: إمساك مخصوص ( وهو الكف عن قضاء شهوتي الفرج والبطن وسائر المفطرات ) من شخص مخصوص ( وهو أن يكون مسلماً طاهراً من الحيض والنفاس ) في وقت مخصوص ( وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ) بصفة مخصوصة ( وهو أن يكون على قصد التقرب ) ([13]).
وقيل: الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهاراً ([14]).
وقيل: الإمساك عن شهوتي الفم والفرج وما يقوم مقامهما، مخالفةً للهوى في طاعة المولى، في جميع أجزاء النهار، بنيَّةٍ، قبل الفجر أو معه إن أمكن، فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد ([15]).
ولو قيل بأنه: هو التعبد لله تعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ([16])، لكان وافياً بالمراد، مع اختصاره.
([1]) المفردات ( صوم: 500 ).
([2]) هو بيت للنابغة الذبياني، كما في " اللسان ": ( علك ) و ( صام )، وغيره.
وليس في قصيدته التي على هذا الرّويّ في ديوانه ( 111 )، وجزم شيخ العربية محمود شاكر بأنه منها في تعليقه على تفسير الطبري ( 3 / 409 ).
([3]) انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 259 ).
([4]) غريب الحديث ( 1 / 327 ) له.
([5]) انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 259 )، والعين ( 7 / 171 )، فكأنّ الأزهري يذهب إلى أنّ العين لليث بن المظفر وليس للخليل، والله أعلم.
([6]) أخرجه ابن جرير ( 18 / 182 )، بسند ضعيف جداً، لكن ثبت عن أنس بن مالك عند ابن جرير ( 18 / 182 )، وعن قتادة عند عبد الرزاق في تفسيره ( 2 / 7 ).
([7]) انظر: الصحاح ( 5 / 1970 )، القاموس المحيط ( صوم ).
([8]) انظر: العين ( 7 / 172 )، والصحاح ( 5 / 1970 ).
([9]) العين ( 7 / 172 ).
([10]) انظر: القاموس المحيط ( صوم )، وقال الزبيدي في تاج العروس (مادة: صوم): هكذا في النسخ، والصّواب: "والصّوم".
([11]) انظر: العين ( 7 / 172 )، القاموس المحيط ( صوم ).
([12]) القاموس ( صوم ).
([13]) انظر: المبسوط ( 3 / 54 )، بدائع الصنائع ( 6 / 248 )، الإنصاف ( 6 / 323 )، حاشية الروض
( 3 / 344 ).
([14]) انظر: البناية شرح الهداية ( 4 / 3 ).
([15]) الذخيرة ( 2 / 485 ).
([16]) الشرح الممتع ( 6 / 310 ).
2- رمضان:
أ- لغة: قال ابن فارس: " الراء والميم والضاد أصلٌ مطرد يدل على حدّةٍ في الشيء من حرٍّ وغيره.
ومنه: سكين رميض – أي حاد -، وكل حاد رميض، وخرج عن الأصل قول القائل: أتيتُ فلاناً فلم أجده، فرمضت عنده ترميضاً: أي انتظرته " ([1]).
قال الليث بن المظفر: " الرمض حرّ الحجارة من شدة حرّ الشمس، والاسم
الرمضاء، ورمض الإنسان رمضاً: إذا مشى على الرمضاء " ([2]).
وقال ابن السكّيت: " الرّمض: مصدر رمض الرجل يرمض رمضاً: احترقت قدماه من شدّة الحرّ، ورمض الفصال: أن تحترق الرمضاء – وهو الرمل – فتبرك الفصال من شدّ حرّها، وإطراقها أخفافها وفراسنها " ([3]).
قال الجوهريُّ: " وأرمضتني الرمضاء: أحرقتني، والترميض: صيد الظبي في
الهاجرة " ([4]).
ب- اشتقاقه:
قال الراغب: " هو من الرّمض، أي: شدة وقع الشمس " ([5]).
وقال السّمين الحلبي: " لموافقة فريضته في الزمان الأول – عند بعضهم – زمن الرمضاء، وهي شدّة الحرّ، وقيل لشدّة احتراق جوف الصائم بالعطش " ([6]).
وقال القاضي أبو يعلى الفرّاء الحنبلي: " قيل: سُمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها ويهلكها " ([7]).
روي في معنى ما قاله القاضي حديثان موضوعان ! أحدهما: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شهر رمضان، فقال: ((أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين فغفرها لهم )) ([8]).
والآخر: عن أنس رضي الله عنه، وفيه: ((وإنما سمي رمضان لأنه يرمض
الذنوب)) ([9]).(/32)
وقد فصّل القول في اشتقاق " رمضان " شيخ الإسلام ابن تيمية وأتى فيه بما لا يوجد عند غيره([10]).
ج- هل يصحّ إطلاق " رمضان " على شهر الصوم بدون لفظ " شهر " ؟
ذهب القاضي أبو يعلى إلى كراهة إطلاقه من غير قرينة تدلّ على أنّ المراد به الشهر؛ لأن الله يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [ البقرة:185] ([11]).
وإلى ذلك ذهب أكثر الشافعية، فلا بأس عندهم أن يقال: صمنا رمضان – مثلاً – لكن يكره أن يقال: جاء رمضان، أو دخل رمضان ([12]).
ونقل النووي عن أصحاب مالك كراهة إطلاق " رمضان " على الشهر مطلقاً، سواء كانت هناك قرينة أم لا، بل لا يقال إلاّ شهر رمضان ([13])، والذي في كتب المالكية على خلاف ما ذكر ([14]).
ومستند الكراهة حديث لا يثبت، هو: (( لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم الله، ولكن قولوا: جاء شهر رمضان )) ([15]).
وقد ثبتت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما في تسمية " رمضان " من غير ذكر شهر كقوله صلى الله عليه وسلم: (( إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة... )). وكقوله: ((من صام رمضان... )).
ولذا فالصواب أنه لا كراهة في قول " رمضان " مطلقاً، لأنّ الكراهة إنّما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت نهي، وإلى هذا ذهب المحققون من أهل العلم ([16]).
([1]) المقاييس ( 2 / 440 ).
([2]) انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 32 ).
([3])انظر: تهذيب اللغة ( 12 / 32 ).
([4]) الصحاح ( 3 / 1081 ).
([5]) المفردات ( رمض: 366 ).
([6]) عمدة الحفاظ ( ر م ض: 2 / 127 ).
([7]) شرح العمدة ( 1 / 35 – الصيام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
([8]) أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب ( 2 / 380 )، وحكم عليه بالوضع العلاّمة المعلّمي في تعليقه على الفوائد المجموعة ( ص: 87 ) للشوكاني.
([9]) أخرجه ابن مردويه كما في الدر المنثور ( 1 / 344 )، ومن طريقه الأصبهاني في الترغيب والترهيب ( 2 / 353 )، وفي إسناده راوٍ كذّاب.
([10]) انظر: شرح العمدة ( 1 / 35 – 36 الصيام ).
([11]) الفروع ( 3 / 4 ) لابن مفلح.
([12]) المجموع ( 6 / 248 ).
([13]) المجموع ( 6 / 248 ).
([14]) انظر: الذخيرة ( 2 / 486 )، المقدّمات والممهّدات ( 1 / 246، 252 ) لابن رشد، منح الجليل ( 1 / 384، 385، وغيرها )، لعليش.
([15]) أخرجه البيهقي في الكبرى ( 4 / 201 )، وابن عدي في الكامل ( 7 / 53 )، وأعلّه أبو حاتم كما في العلل ( 1 / 149 – 150 )، وضعّفه ابن حجر في الفتح ( 4 / 135 )، وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع في الموضوعات ( 2 / 545 )، وقال الجورقاني في الأباطيل والمناكير ( 2 / 88 ): " هذا حديث باطل ".
([16]) انظر: شرح العمدة ( 1 / 31 – 34 الصيام )، بدائع الفوائد ( 2 / 104 )، الأذكار (331) للنووي، الإعلام ( 5 / 140، 159 ) لابن الملقن، معجم المناهي اللفظية ( ص: 644 – 645 ) لبكر أبو زيد، وذكر فيه مصادر أخرى.
3- أسماء شهر رمضان:
أ- شهر الصبر:
قال صلى الله عليه وسلم:((صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر)) ([1]).
ب- شهر المواساة:
قال صلى الله عليه وسلم: ((وهو شهر المواساة )) ([2]).
ج- سيّد الشهور:
في الحديث: (( سيّد الشهور شهر رمضان،... )) ([3]).
د- شهر الصوم:
قال أبو زيد اللغوي: " أقمت بالبصرة صومين، أي: رمضانين " ([4]).
ومن أسماء الصيام السياحة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {السَّائِحُونَ} [ التوبة:112]: "الصائمون " ([5]).
وكذا قال ابن مسعود ([6])، وابن عباس ([7]) رضي الله عنهم أجمعين ([8]).
* * *
([1]) إسناده صحيح: أخرجه أحمد ( 2 / 263 )، والنسائي في الكبرى ( 2 / 134 )، والبيهقي في الكبرى
( 4 / 293 ) وغيرهم.
([2]) إسناده ضعيف: رواه ابن خزيمة ( 1887 )، والبيهقي في الشعب ( 3 / 306 )، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وانظر: السلسلة الضعيفة ( 871 ).
([3]) إسناده ضعيف: رواه البزار ( 1 / 457 كشف الأستار )، وقال: " يزيد فيه لين، وقد روى عنه جماعة "، وقال الألباني في ضعيف الجامع ( ص: 487 ): " ضعيف ".
([4]) لسان العرب ( 7 / 445 – 446 ).
([5]) أخرجه ابن جرير ( 50384 ) بأسانيد صحيحة.
([6]) أخرجه ابن جرير ( 50384 ) بأسانيد صحيحة.
([7]) أخرجه ابن جرير ( 50384 ) بأسانيد صحيحة.
([8]) وانظر: شرح العمدة ( 1 / 25 الصيام ) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
آداب الصوم في رمضان
1. حفظ اللسان، والجوارح عن اللغو والإثم:
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ([1]).
قال المهلب: "فيه دليل على أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه، وتعرض لسخط ربه، وترك قبوله منه". وقال غيره: "وليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور والعمل به ليتم أجر صيامه"([2]).(/33)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصيام جُنَّه، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم...)) الحديث ([3]).
قال النووي: "فيه نهي الصائم عن الرفث وهو السخف وفاحش الكلام، ... واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد"([4]).
وعن عمر رضي الله عنه قال: (ليس الصيام من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو والحلف) ([5]).
وقال جابر رضي الله عنهما: (إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب، والمآثم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم صيامك وفطرك سواء) ([6]).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إذا صمت فتحفظ ما استطعت) ([7]).
وقال عبيدة السلماني: "اتقوا المفطِّرَين: الغيبة، والكذب"([8]).
قال الغزالي مبيناً أدب الصوم: "فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور:
الأول: غض البصر، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهى عن ذكر الله عز وجل.
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان، والكذب، والغيبة، والنميمة، والفحش، والجفاء، والخصومة، والمراء وإلزامه السكوت، وشغله بذكر الله سبحانه، وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان.
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه.
الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام: من اليد، والرجل، وعن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار ([9])، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم مصراً.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش))، فقيل: هو الذي يفطر على الحرام، وقيل: هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، وكيف يستفاد من الصوم قهرُ عدوا الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره ؟! وربما يزيد عليه في ألوان الطعام، حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى، لتقوى النفس على التقوى.
سادساً: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها"([10]).
وقال ابن الجوزي: "وللصوم آداب يجمعها: حفظ الجوارح الظاهرة، وحراسة الخواطر الباطنة، فينبغي أن يتلقى رمضان بتوبة صادقة، وعزيمة موافقة، وينبغي تقديم النية وهي لازمة في كل ليلة، ولا بد من ملازمة الصمت عن الكلام الفاحش والغيبة فإنه ما صام من ظل يأكل لحوم الناس، وكف البصر عن النظر إلى الحرام، ويلزم الحذر من تكرار النظر إلى الحلال"([11]).
وقال ابن القيم: "والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث ؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأَمِن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ... فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم"([12]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) شرح ابن بطال على البخاري (4/23) بتصرف يسير.
([3]) أخرجه البخاري في الصيام، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام، باب حفظ اللسان للصائم (1151).
([4]) شرح مسلم (8/28، 29).
([5]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/272) باب: ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/271)، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام .
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/271)، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام.
([8]) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (ص125-126) رقم (179) بسندٍ لا بأس به.
([9]) قال الزبيدي: "أي عن تناول طعام فيه شبهة"، إتحاف السادة المتقين (4/412).
([10]) إحياء علوم الدين (1/110) وما بعدها، بتصرف.
([11]) التبصرة (2/80).
([12]) الوابل الصيب (ص43).
2 ـ الإكثار من العبادة:(/34)
كان من هدية صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف.
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال([1]).
قال ابن رجب: "وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضاً، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك قبل البعثة"([2]).
وقال أيضاً: "وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه.
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر"([3]).
وقال القسطلاني: "ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات ؛ لأن نعم الله فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان، والصلاة، والذكر، والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضاً، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة"([4]).
وإليك بعض العبادات التي لها مزيّة في رمضان:
· الجود، ومدارسة القرآن:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) ([5]).
قال النووي: "وفي هذا الحديث فوائد منها:
بيان عظم جوده عليه الصلاة والسلام، ومنها: استحباب إكثار الجود في رمضان.
ومنها: زيادة الخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها: استحباب مدارسة القرآن"([6]).
· القيام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) ([7]).
قال أبو الوليد الباجي: "... ثم بين الترغيب بقوله: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له، ما تقدم من ذنبه))، وهذا من أعظم الترغيب وأولى ما يجب أن يسارع إليه إذا كان فيه تكفير السيئات التي تقدمت له"([8]).
وقال النووي: "معنى ((إيماناً)) تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى ((احتساباً)) أن يراد الله تعالى وحده ولا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها"([9]).
· العمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحج معنا)) قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحاً ننضح عليه، قال: ((فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة))([10]).
قال النووي: "أي: تقوم مقامها في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء"([11]).
([1]) زاد المعاد (2/32).
([2]) لطائف المعارف (ص308، 309).
([3]) لطائف المعارف (ص311) بتصرف يسير.
([4]) المواهب اللدنية (4/327).
([5]) أخرجه البخاري في: بدئ الخلق، باب: ذكر الملائكة (3220) واللفظ له، ومسلم في الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس (2308).
([6]) شرح مسلم (15/69).
([7]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان (759).
([8]) المنتقى (1/206).
([9]) شرح مسلم (6/39).
([10]) أخرجه البخاري في الحج، باب عمرة في رمضان (1782)، ومسلم في الحج، باب: فضل العمرة في رمضان (1256) واللفظ له.
([11]) شرح مسلم (9/2).
شروط الفطر بالمفطرات
أولاً: الذكر وعدم النسيان:
أ- تعريف النسيان:
هو الغفلة عن معلوم في غير حالة السَّنة، فلا ينافي الوجوب، أي نفس الوجوب، ولا وجوب الأداء([1]).
وقيل: هو عدم استحضار الشيء وقت حاجته([2]).
ب ـ الأدلة:
1. قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
قال ابن جرير: "قيل إن النسيان على وجهين:
أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر: على وجه عجز الناسي على حفظ ما استحفظ ووكِّل به، وضعف عقله عن احتماله.(/35)
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه، والتفريط، فهو تركٌ منه لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به.
وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكِّل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم"([3]).
وقال أبو بكر الجصاص: "النسيان الذي هو ضد الذكر، فإن حكمه مرفوع فيما بين العبد وبين الله تعالى في استحقاق العقاب، والتكليف في مثله ساقط عنه، والمؤاخذة به في الآخرة غير جائزة"([4]).
وقال القرطبي: "المعنى: أعف عن إثم ما يقع منّا على هذين الوجهين أو أحدهما"([5]).
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) ([6]).
قال المهلب: "معنى قوله: ((فإن الله أطعمه وسقاه))، إثبات عذر الناسي، وعلة لسقوط الكفارة عنه، وأن النسيان لا يرفع نية الصوم التي بيّتها، فأَمَره عليه السلام بإتمام العمل على النية، وأسقط عنه الكفارة ؛ لأنه ليس كالمنتهك العامد"([7]).
وقال ابن تيمية: "أمره بإتمام الصوم تخصيصاً له بهذا الحكم بقوله: ((من أكل أو شرب ناسياً)) فعلم أن هذا إتمام لصوم صحيح" ([8]).
ويقول أيضاً: "فأضاف إطعامه وإسقاءه إلى الله؛ لأنه لم يتعمد ذلك ولم يقصده، وما يكون مضافاً إلى الله لا يُنْهى عنه العبد، فإنما يُنْهى عن فعله، والأفعال التي ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف، ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير؛ ونحو ذلك"([9]).
وقال ابن حجر: "وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة عليهم والحرج عنهم"([10]).
وقال الشيخ ابن عثيمين: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامه دليلٌ على صحته، ونِسْبةُ إطعام الناسي وسقيه إلى الله ؛ دليل على عدم المؤاخذة عليه"([11]).
حكم من أكل أو شرب ناسياً:
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: صومه صحيح، ولا قضاء عليه، وبه قال الجمهور، وأهل الظاهر([12])، وهو قول علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وابن عمر وعطاء وطاووس، وابن أبي ذئب، والأوزاعي والثوري، وإسحاق، ومجاهد وقتادة، والحسن([13]).
القول الثاني: صومه غير صحيح، وعليه القضاء، وبه قال الإمام مالك([14]).
والراجح: قول الجمهور.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))([15]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً فلا قضاء عليه وهو قول طائفة من السلف والخلف"([16]).
حكم من جامع ناسياً:
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس عليه قضاء ولا كفارة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وأهل الظاهر ورواية عن أحمد، وهو قول الحسن، ومجاهد، والثوري([17]).
القول الثاني: عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور عن الإمام أحمد، ورواية عن مالك([18]).
القول الثالث: عليه القضاء دون الكفارة، وهو المشهور عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد([19]).
والراجح: قول الجمهور أنه ليس عليه قضاءٌ ولا كفارة.
لحديث أبي هريرة المتقدم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأول أظهر (أي لا قضاء عليه ولا كفارة) فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل محظوراً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومن لا إثم عليه لم يكن عاصياً، ولا مرتكباً لما نهي عنه، وحينئذٍ فيكون قد فعل ما أمر به، ولم يفعل ما نهى عنه، ومثل هذا لا يعطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به أو فعل ما حظر عليه"([20]).
([1]) التعريفات للجرجاني مادة "النسيان" (ص309).
([2]) البحر الرائق لابن نجيم (2/473).
([3]) جامع البيان (6/133) بتصرف يسير.
([4]) أحكام القرآن (2/278).
([5]) الجامع لأحكام القرآن (3/392).
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً رقم (1933)، ومسلم في كتاب الصيام باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر رقم (1155)، واللفظ له.
([7]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/61).
([8]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/457).
([9]) مجموع الفتاوى (20/571).
([10]) فتح الباري (4/186).
([11]) مجالس شهر رمضان (ص172).
([12]) انظر: البحر الرائق (2/472)، والحاوي (3/284)، والمغني (4/367)، والمحلى (6/327) .
([13]) انظر: المحلى (6/329)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/423-424).
([14]) انظر: التفريع (1/305)، البيان والتحصيل (2/351).
([15]) تقدم تخريجه.
([16]) مجموع الفتاوى (25/228).
([17]) انظر: البحر الرائق (2/472)، والحاوي (3/284)، والإنصاف (3/311)، والمحلى (6/327).
([18]) انظر: المغني (4/374)، والتفريع (1/305).(/36)
([19]) انظر: التفريع (1/305)، والقوانين الفقهية لابن الجزي (ص121)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/443).
([20]) مجموع الفتاوى (25/226، 228)، وانظر: (20/573)، والشرح الممتع (6/416).
ثانياً: العلم وعدم الجهل:
أ - تعريف الجهل:
هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه([1]).
ب -الأدلة:
1. قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
قال ابن جرير: "وكذلك للخطأ وجهان:
أحدهما: من وجه ما نهى عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه.
والآخر منهما: ما كان منه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، أو يؤخِّر صلاةً في يوم غيمٍ وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل . فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربَّه أن لا يؤاخذه به"([2]).
وقال ابن كثير: "أي إنْ تركنا فرضاً على جهة النسيان أو فعلنا حراماً، كذلك أو أخطأنا، أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي"([3]).
فدل على أن الخطأ يطلق وقد يراد به الجهل.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) ([4]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولأن الجهل أشد عذراً من النسيان، فإن الناسي قد كان عَلِمَ ثم ذكر، والجاهل لم يعلم أصلاً ؛ فإذا كان النسيان عذراً في منع الإفطار، فالجهل أولى.
ولأن الصوم من باب الترك، ومن فعل ما نهي عنه جاهلاً بالنهي عنه؛ لم يستحق العقوبة، فيكون وجود الفعل منه كعدمه ؛ فلا يفطر، كالناسي"([5]).
وقال أيضاً: "فإن الإنسان إذا فعل ما نُهي عنه ناسياً أو مخطئاً ؛ كان وجود ذلك الفعل كعدمه في حق الله تعالى"([6]).
وقال الشاطبي: "عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة، فعدُّوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلاً على حكم الناسي"([7]).
ج- أقسام الجهل:
قال الشيخ ابن عثيمين: "وضد العلم الجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين:
1. جهل بالحكم الشرعي: أي لا يدري أن هذا حرام.
2. جهل بالحال: أي لا يدري أنه في حالٍ يحرم عليه الأكل والشراب، وكلاهما عذر"([8]).
فمثال الأول: عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} [البقرة:187] عمدت إلى عقالٍ أسود وإلى عقالٍ أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار))([9]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لأن عدي بن حاتم ورجلاً من المسلمين كانوا يأكلون حتى يتبين لهم العقال الأبيض من العقال الأسود؛ معتقدين أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} [البقرة:187]، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء ؛ لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطر"([10]).
قال الشيخ ابن عثيمين: "فهذا أخطأ في الحكم في فهم الآية، فالحكم أن الخيط الأبيض بياض النهار والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره، قال له: ((إن وسادك لعريض إن وسع الخيط الأبيض والأسود))، ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله، فعذر"([11]).
ومثال الآخر:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء ؟ قال: بُدٌّ من قضاءٍ، وقال معمر: سمعت هشاماً يقول: لا أدري أقضوا أم لا)([12]).
قال ابن حجر: " قال ابن المنير في الحاشية: في هذا الحديث أن المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فأخطئوا فلا حرج عليهم في ذلك"([13]).
د - الجهل بالوقت:
وله صورتان:
الصورة الأولى: إن أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، وهذه الصورة فيها قولان لأهل العلم:
القول الأول: عليه قضاء ذلك اليوم، وبه قال الجمهور([14]).
القول الثاني: لا قضاء عليه، وحُكي عن عروة، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وعطاء، وداود بن علي([15]).
والراجح: أنه لا قضاء عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن قيل: فالمخطئ بفطر، مثل من يأكل يظن بقاء الليل، ثم تبين أنه طلع الفجر، أو يأكل يظن غروب الشمس، ثم تبين له أن الشمس لم تغرب.(/37)
قيل: هذا فيه نزاع بين السلف والخلف، والذين فرقوا بين الناسي والمخطئ قالوا: هذا ممكن الاحتراز منه بخلاف النسيان، وقاسوا ذلك على ما إذا أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من رمضان، ونقل عن بعض السلف أنه يقضي في مسألة الغروب دون الطلوع ؛ كما لو استمر الشك، والذين قالوا: لا يفطر في الجميع قالوا: حجتنا أقوى، ودلالة الكتاب والسنة على قولنا أظهر؛ فإن الله قال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، فجمع بين النسيان والخطأ ؛ ولأن من فعل المحظورات في الحج والصلاة مخطئاً كمن فعلها ناسياً، وقد ثبت في الصحيح([16]) أنهم أفطروا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس، ولم يذكروا في الحديث أنهم أمروا بالقضاء، ولكن هشام بن عروة قال: لا بد من القضاء، وأبوه أعلم منه، وكان يقول: لا قضاء عليهم.
وثبت في الصحيحين([17]) أن طائفة من الصحابة كانوا يأكلون حتى يظهر لأحدهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهم: ((إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل)) ولم ينقل أنه أمرهم بقضاء، وهؤلاء جهلوا الحكم فكانوا مخطئين، وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر، ثم تبين النهار، فقال: (لا نقضي، فإنا لم نتجانف الإثم) ([18])، وروي عنه أنه قال: (نقضي)([19]) ؛ ولكن إسناد الأول أثبت، وصح عنه أنه قال: (الخطب يسير)([20]).
فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء، لكن اللفظ لا يدل على ذلك. وفي الجملة فهذا القول أقوى أثراً ونظراً، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس"([21]).
قال ابن القيم: "فلو قدّر تعارض الآثار عن عمر لكان القياس يقتضي سقوط القضاء؛ لأن الجهل ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم، ولو أكل ناسياً لصومه لم يجب عليه قضاؤه، والشريعة لم تفرق بين الجاهل والناسي، فإن كل واحد منهما قد فعل ما يعتقد جوازه، وأخطأ في فعله، وقد استويا في أكثر الأحكام، وفي رفع الآثام، فما الموجب للفرق بينهما في هذا الموضع؟ وقد جعل أصحاب الشافعي وغيرهم الجاهل والمخطئ أولى بالعذر من الناسي في مواضع متعددة"([22]).
الصورة الثانية: إن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، ولم يتبين الأمر، أو أكل شاكًّا في غروب الشمس، ولم يتبين.
فهاهنا صورتان:
أ- لو أكل شاكًّا في طلوع الفجر ولم يتبين، ففي المسألة قولان:
القول الأول: ليس عليه قضاء، وهو قول الجمهور([23]).
القول الثاني: يجب عليه القضاء، وهو قول الإمام مالك([24]).
والراجح: قول الجمهور.
قال ابن قدامة: "قول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [الفجر:187]، مدّ الأكل إلى غاية التبين، وقد يكون شاكًّا قبل التبُّين، فلو لزمه القضاء لحرّم عليه الأكل .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكلوا، واشربوا، حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم))([25]) وكان رجلاً أعمى، لا يؤذِّن حتى يقال له: أصحيت، أصبحت، ولأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمان الشك منه ما لم يُعلم يقين زواله"([26]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب، حتى يتبين الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع.
والأظهر أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف"([27]).
ب- أما إذا أكل شاكَّا في غروب الشمس، ولم يتبين.
فالجمهور على أن عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار([28]).
قال المرداوي: "قوله: وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء، يعني إذا دام شكه، وهذا إجماع([29]).
([1]) التعريفات للجرجاني مادة "الجهل" (ص108).
([2]) جامع البيان (6/134-135).
([3]) تفسير ابن كثير (1/350).
([4]) تقدم تخريجه.
([5]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/464).
([6]) المرجع السابق (1/461).
([7]) الموافقات (3/50).
([8]) الشرح الممتع (6/401).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب (وكلوا وأشربوا حتى يتبين ...) رقم (1916)، ومسلم في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ...، رقم (1090).
([10]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/464).
([11]) الشرح الممتع (6/402).
([12]) أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس رقم (1959).
([13]) فتح الباري (4/236).
([14]) انظر: البحر الرائق (2/508)، والتلقين (ص187)، الحاوي الكبير (3/266)، المغني (4/389).
([15]) المغني (4/389)، وانظر: الحاوي الكبير (3/266)، والمحلى (6/342).
([16]) تقدم تخريجه.
([17]) تقدم تخريجه.
([18]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/179) رقم (7395)، وابن أبي شيبة (2/287)، والبيهقي في الكبرى (4/217).
([19]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/178) رقم (7394)، وابن أبي شيبة (2/286)، والبيهقي في الكبرى (4/217).(/38)
([20]) أخرجه مالك في الموطأ (1/251) في كتاب الصيام، باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات، وعبد الرزاق في المصنف (4/178) رقم (7392)، والبيهقي في الكبرى (4/217).
([21]) مجموع الفتاوى (20/571-573).
([22]) تهذيب السنن (3/237-238)، وانظر: الشرح الممتع (6/410).
([23]) انظر: البحر الرائق (2/509)، والمجموع (6/306)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/438).
([24]) انظر: البيان والتحصيل (2/351)، والقوانين الفقهية لابن جزى (ص118).
([25]) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره رقم (617)، ومسلم في كتاب الصيام باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... رقم (1092).
([26]) المغني (4/391).
([27]) مجموع الفتاوى (25/216-217).
([28]) انظر: البحر الرائق (2/510)، والبيان والتحصيل (2/351)، والقوانين الفقهية لابن جزي، والحاوي (3/276)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/438).
([29]) الإنصاف (3/310)، وانظر الشرح الممتع (6/409).
ثالثاً: الاختيار وعدم الإكراه:
أ - تعريف الإكراه:
هو حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد، والإلزام والإجبار على ما يكره الإنسان، طبعاً وشرعاً، فيقدّم على عدم الرضا، ليرفع ما هو أضر([1]).
ب - الدليل:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))([2]).
قال أبو جعفر الطحاوي: "فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا أكره على طلاق، أو نكاح، أو يمين، أو إعتاق، أو ما أشبه ذلك حتى فعله مكرهاً، أن ذلك كله باطل؛ لأنه قد دخل فيما تجاوز الله فيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن أمته، احتجوا في ذلك بهذا الحديث"([3]).
ج - صور الإكراه والخلاف فيها:
1. حكم المكره على الأكل والشرب:
في المسألة قولان:
القول الأول: لا قضاء عليه، وهو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية([4]).
القول الثاني: عليه القضاء، وهو قول الحنفية والمالكية([5]).
الراجح: أنه لا قضاء عليه.
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))([6]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن من فعلها مكرهاً لم يفسد صومه أيضاً، وهو نوعان:
أحدهما: أن لا يكون له فعل في الأكل والشراب ونحوهما، مثل أن يُفْتح فوه ويوضع الطعام والشراب فيه، أو يُلْقى في ماء فيدخل إلى أنفه وفمه، أو يُرش عليه ماء فيدخل مسامعه، أو يُحجم كرهاً، أو يداوي مأمومة أو جائفة بغير اختياره، أو يخرج جرحاً نافذاً إلى جوفه بغير اختياره، ونحو ذلك، فهذا لا يفطر في المنصوص عنه الذي عليه أصحابه"([7]).
2. حكم الصائمة إذا أكرهها زوجها على الجماع:
في المسألة قولان:
القول الأول: عليها القضاء، ولا كفارة عليها، وهو قول الجمهور، وعند مالك فعليه كفارتان، عنه، وعنها([8]).
القول الثاني: لا قضاء عليها وصومها صحيح، وهو قول الشافعية، والظاهرية وبه قال الثوري([9]).
3. حكم الصائم إذا أكره على الجماع:
في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا كفارة عليه وهو قول الحنفية والمالكية([10]).
القول الثاني: عليه القضاء، وفي الكفارة روايتان، أحدهما: عليه الكفارة، والأخرى: لا كفارة عليه وهو قول الحنابلة([11]).
القول الثالث: لا قضاء عليه ولا كفارة، وصومه صحيح، وهو قول الشافعية والظاهرية([12]).
قال أبو محمد بن حزم: "وأما من أكره على الفطر، أو وُطئت امرأة نائمة، أو مكرهة أو مجنونة أو مغمى عليها، أو صب في حلقه ماء وهو نائم، فصوم النائم، والنائمة والمكره، والمكرهة، تام صحيح لا داخلة فيه، ولا شيء عليهم، ولا شيء على المجنونة والمغمى عليها، ولا على المجنون والمغمى عليه ؛ لما ذكرنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))([13])". ([14])
وقال الشوكاني: "أما من أُكره على الإفطار، ولم يقدر على الدفع، ولا بقي له فعل فلا وجه للحكم عليه بأنه قد أفطر، بل صومه باق ولا قضاء عليه، وهذا المكره إلى هذا الحد أولى بأن يقال فيه: لا يفطر من الناسي، وأما إذا بقي له قدرة على الدفع حتى لا يفطر فذلك واجب عليه؛ لأن إكراهه على الإفطار منكر يجب إنكاره"([15]).
([1]) التعريفات للجرجاني مادة الإكراه (ص50) وانظر معجم لغة الفقهاء مادة الإكراه (85).
([2]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي رقم (2045)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/95)، وابن حبان (الإحسان 16/202) رقم (7219)، والدارقطني (4/170-171)، والحاكم في المستدرك (2/216) رقم (2801)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والحديث صححه النووي في المجموع (6/309)، والعلامة الألباني في الإرواء رقم (82)، ولمزيد البحث راجع طرقه: في جامع العلوم والحكم، الحديث رقم (39)، وفي تلخيص الحبير. (1/301-302).(/39)
([3]) شرح معاني الآثار (3/95).
([4]) المجموع (6/353)، والكافي (2/244)، والمغني (4/365)، والمحلى (6/334).
([5]) بدائع الصنائع (2/91)، والبحر الرائق (2/474-475)، والبناية (4/37)، والذخيرة (2/514).
([6]) تقدم تخريجه.
([7]) كتاب الصيام من شرح العمدة (1/462).
([8]) انظر: البحر الرائق (2/483)، والتفريع (1/306)، الكافي (2/48)، المغني (4/376). شرح الزركشي على متن الخرقي (2/31)، وحاشية الروض المربع (3/413).
([9]) انظر: المجموع (6/353)، والبجيرمي على الخطيب (2/381)، المحلى (6/34-35).
([10]) البحر الرائق (2/482)، الذخيرة (2/515).
([11]) الكافي (2/248)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/451).
([12]) المجموع (6/351)، ومغني المحتاج (2/178)، والمحلى (6/334).
([13]) تقدم تخريجه.
([14]) المحلى (6/334).
([15]) السيل الجرار (2/124).
شروط وجوب الصوم
1 ـ الإسلام:
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
قال ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين، يا محمد، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك، وفي غير ذلك من السبل، إلا أنهم كفروا بالله ورسوله"([1]).
وقال القرطبي: "وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم"([2]).
وقال ابن كثير: "لأنهم كفروا بالله وبرسوله، أي والأعمال إنما تصح بالإيمان"([3]).
وقال السعدي: "والأعمال كلها، شرط قبولها، الإيمان، فهؤلاء، لا إيمان لهم، ولا عمل صالح"([4]).
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([5]).
([1]) جامع البيان (14/294).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (4/92).
([3]) تفسير ابن كثير (2/565).
([4]) تفسير الكريم الرحمن (3/248).
([5]) انظر: المبسوط (3/54)، الذخيرة (2/494)، المجموع (6/254)، الإنصاف (3/280).
2- البلوغ:
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ)) وفي رواية: ((وعن المجنون))، وفي لفظ: ((المعتوه، حتى يفيق أو يعقل، وعن الصبي حتى يكبر))، وفي رواية: ((حتى يحتلم))، وفي لفظ: ((حتى يعقل))، وآخر: ((حتى يبلغ))([1]).
قال النووي: "فلا يجب صوم رمضان على الصبي، ولا يجب عليه قضاء ما فات قبل البلوغ بلا خلاف"([2]).
قال السبكي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة)): "هو كناية عن عدم التكليف"([3]).
وقال السندي: "قوله: ((رفع القلم)) كناية عن عدم كتابة الآثام عليهم في هذه الأحوال"([4]).
([1]) صحيح أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً رقم (4398) واللفظ له، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم رقم (2041)، والنسائي في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج رقم (3432). والدارمي في كتاب الحدود، باب رفع القلم عن ثلاث رقم (2296)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان رقم (42)و(43)، والحاكم في المستدرك في كتاب البيوع (2/68) رقم (2350). وقال: "هذا حديث صحيح". ووافقه الذهبي، والحديث صححه النووي في المجموع (6/253) والألباني في الإرواء رقم (297).
([2]) المجموع (6/253)، وانظر: الذخيرة (2/494)، كشَّاف القناع (2/308).
([3]) انظر: عون المعبود (12/72).
([4]) حاشية السندي (5/468).
3. العقل:
قال ابن قدامة([1]): "والمجنون غير مكلّف، ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه، إلا أن يُفيق في وقت الصلاة، فيصير كالصبي يبلغ، ولا نعلم في ذلك خلافاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستقيظ، وعن الصبي حتى يَشِبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))([2]).
وقال الشيرازي: "ومن زال عقله بجنون لم يجب عليه الصوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وعن المجنون حتى يفيق))([3]).
وقال النووي: "المجنون لا يلزمه الصوم في الحال بالإجماع، للحديث وللإجماع"([4]).
وقال السامري: "ولا يجب على المجنون، ولا على الأبله، اللَّذيْنِ لا يفيقان"([5]).
([1]) المغتي (2/50).
([2]) تقدم تخريجه والكلام عليه في شرط الإسلام.
([3]) المهذب (2/587).
([4]) المجموع (6/255)، وانظر: مجمع الأنهر (1/253).
([5]) المستوعِب (3/382)، وانظر: بلغة السالك (1/239).
4. القدرة على الصوم:
قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].(/40)
قال ابن جرير الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} من كان منكم مريضاً، ممن كلِّف صومه، أو كان صحيحاً غير مريض وكان على سفر {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره، {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يعني من أيام غير أيام مرضه أو سفره"([1]).
قال ابن العربي: "للمريض ثلاثة أحوال:
أحدها: ألا يُطيق الصوم بحالٍ، فعليه الفطر واجباً.
الثاني: أنّه يقدر على الصوم بضررٍ ومشقةٍ؛ فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل.
الثالث: قال محمد بن إسماعيل البخاري: "اعتللت بنيسابور عِلةً خفيفة ً، وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفرٍ من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله ! فقلت: نعم، فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة، قلت: أنبأنا عَبْدان، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أيِّ المرض أُفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا}"([2]).
وقال الكيا الهراسي: "يقتضي جواز الإفطار على اسم المرض والسفر، إلا أن المريض الذي لا يضره الصوم مخصوصٌ إجماعاً، ولا يعرف له مأخذ أقوى من الإجماع، وأطلق السفر، ولم يذكر له حداً، والمسافة القريبة لا تسمى سفراً في العرف"([3]).
وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، و الأصل فيه قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو تُخشى تباطؤ برئه، قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع، قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرضٍ أشد من الحمى"([4]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمريض له أن يؤخر الصوم باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين، والمسافر له أن يؤخر الصيام باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين"([5]).
وقال ابن كثير: "أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر"([6]).
([1]) جامع البيان (3/418).
([2]) أحكام القرآن لابن العربي (1/77).
([3]) أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/62).
([4]) المغتي (4/403)، وانظر: بدائع الصنائع (2/94)، البناية في شرح الهداية (4/76)،الذخيرة (2/516) التذكرة لابن الملقن (ص78).
([5]) مجموع الفتاوى (22/31).
([6]) تفسير ابن كثير (1/203).
5. أن يكون مقيماً:
قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}([1]) [البقرة:184].
وقد اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر:
فذهب جماهير العلماء إلى جواز الصوم في السفر وينعقد ويجزئه.
1- قال الكاساني: "ولأن جواز الصوم للمسافر في رمضان مجمع عليه"([2]).
2- وقال ابن القاسم: "قال مالك: الصيام في رمضان في السفر أحب إليَّ لمن قوى عليه"([3]).
3- وقال النووي: "ومذهبنا جوازهما (أي جواز الصوم والفطر في السفر)، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم"([4]).
4- وقال ابن قدامة: "وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع؛ وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزاه"([5]).
وخالف أهل الظاهر فقالوا: لا يصح صوم رمضان في السفر، فإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه.
قال أبو محمد بن حزم: "ومن سافر في رمضان فَفَرْضٌ عليه الفطر إذا تجاوز ميلاً أو بلغه أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيامٍ أُخر"([6]).
والراجح: ما عليه جماهير العلماء، أنه يجوز الصوم في السفر، لمن قدر عليه، والفطر لمن لحقه ضررٌ ومشقة.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوةً فصام، فإنَّ ذلك حسنٌ. ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسنٌ)([7]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا تَعِبْ على من صام، ولا على من أفطر، قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، وأفطر)([8]).
قال النووي: "فيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعاً"([9]).
وقول جماهير العلماء، فيه إعمال لجميع الأحاديث، وهذا أولى من الأخذ ببعضها وترك الآخر.
قال النووي: "وأمّا الأحاديث التي احتج بها المخالفون فمحمولة على من يتضرر بالصوم، وفي بعضها التصريح بذلك، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث"([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان، فإنّ الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين"([11]).
([1]) تقدم أقوال العلماء في مسألة القدرة على الصوم.
([2]) بدائع الصنائع (2/95).
([3]) المدونة الكبرى (1/180).
([4]) المجموع (6/269).(/41)
([5]) المغني (4/406).
([6]) المحلى (6/243).
([7]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر رقم (1116).
([8]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر ... رقم (1113).
([9]) صحيح مسلم بشرح النووي (7/328).
([10]) المجموع (6/271).
([11]) مجموع الفتاوى (22/287).
6. الخلو من الموانع: الحيض والنفاس.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى ـ أو في فطر ـ إلى المصلَّى، فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدَّقن، فإني أُريتكُنَّ أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تُكِثْرنَ اللَّعن، وَتَكفُرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهَبَ للبِّ الرجلِ الحازم من إحداكنَّ، قلن: وما نقصانُ دينِنا وعَقْلنِا يا رسول الله ؟ قال: أليس شهادةُ المرأةِ مثلُ نصفِ شهادةِ الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذَلكَ من نقصان عَقْلِها. أليس إذا حاضتْ لم تُصَلِّ ولم تصم؟ قلن: بَلى، قال: فذلكِ من نقصانِ دِينها))([1]).
قال ابن بطال: "قوله عليه السلام: ((أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم)) نص أن الحائض يسقط عنها فرض الصلاة، ولا يجوز لها الصوم في أيام حيضها، والأُمَّةُ على ذلك، وأجمعوا أن عليها قضاء ما تركت من الصيام، ولا قضاء عليها للصلاة، إلاَّ طائفة من الخوارج يرون عليها قضاء الصلاة، وعلماء الأُمَّة من السلف والخلف على خلافهم"([2]).
قال شيخ الإسلام ابن يتيمة: "كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنَّص، والإجماع؛ ومس المصحف عند عامة العلماء"([3]).
وقال أيضاً: "وخروج دم الحيض والنفاس يُفَطِّرُ باتفاق العلماء"([4]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم رقم (304) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات .... رقم (79).
([2]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/419).
([3]) مجموع الفتاوى (26/176).
([4]) مجموع الفتاوى (25/267). وانظر: بدائع الصنائع (2/83)، المدونة الكبرى (1/184)، روضة الطالبين (2/365)، المحلى (5/185).
فروض صحة الصوم
1 ـ الإسلام:
قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
قال الطبري: "ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام ليدين به؛ فلن يقبل الله منه {وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يقول: من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عز وجل"([1]).
قال الدسوقي عند ذكره لباب الصيام: "... وشروط صحته الإسلام والزمان القابل للصوم"([2]) .
قال ابن جُزِي: "الباب الأول في: شروط الصيام. وهي: الإسلام والبلوغ والعقل والطهارة، ووجوبه على الخلاف في مخاطبة الكفار بالفروع وهو شرط في صحة فعله بإجماع. وفي وجوب قضائه أيضًا، فإن أسلم في أثناء الشهر صام بقيته وليس عليه قضاء ما مضى منه، وإن أسلم في أثناء يوم كفّ عن الأكل في بقيته وقضاه استحبابًا"([3]) .
([1]) تفسير الطبري (6/570).
([2]) حاشية الدسوقي (1/509).
([3]) القوانين الفقهية لابن جزيّ (ص 113). وانظر الإنصاف (3/ 292 ـ 293)، والبحر الرائق (2/277).
2 ـ النية:
عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) ([1]) .
قال ابن قدامة: ".. لا يصح صومٌ إلا بنية إجماعًا، فرضًا كان أو تطوّعًا؛ لأنه عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة، ثم إن كان فريضة كصيام رمضان في أدائه أو قضائه، والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا، ومالك والشافعي"([2]) .
وقال النووي: "لا يصحّ الصوم إلا بنية، ومحلها القلب، ولا يشترط النطق بها بلا خلاف"([3]) .
وقال ابن رشد: "أما كون النية شرطًا في صحة الصيام فإنه قول الجمهور"([4]) .
1/ 2 حكم تقديم النية في الصوم:
لم يختلف العلماء في جواز تقديم النية في الصوم كما اختلفوا في الوضوء والصلاة. والسبب في ذلك أمران:
1. النصوص الصريحة الدالة على أن محل النية في الصوم هو الليل.
2. أن اشتراط مقارنة النية لأول الصوم فيه مشقة بالغة، وحرج شديد والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ووجه المشقة والحرج أن أول الصوم يأتى في وقت غفلةٍ من الناس، ولعسر مراقبة أول الصوم وهو الفجر.
قال الكاساني: "فالأفضل في الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة ومن الليل تقارنه تقديرًا..." ([5]) .
2/ 2 حكم تأخير النية في الصوم:
النية في صوم رمضان:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن صوم رمضان يتأدّى بنيةٍ من بعد غروب الشمس إلى منتصف النهار، وقالوا بجواز صومه بنية من النهار، وقال به أبو حنيفة وأصحابه.(/42)
قال الكاساني: "وإن كان عينًا وهو صوم رمضان وصوم التطوع خارج رمضان والمنذور المعين يجوز"([6])، أي عقد النية بعد طلوع الفجر.
وخالف زُفر من الأحناف في المريض والمسافر إذا صاما رمضان. قال: "لا بد لهما من تبييت النية من الليل لأنه في حقهما كالقضاء لعدم تعينه عليهما"([7]) .
القول الثاني: أنه لا يصح صوم رمضان إلا بنية من الليل. وقال به مالك وأحمد وإسحاق والشافعي وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف([8]) .
أدلة الفريق الأول ومناقشتها:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء:((أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل))([9]).
ولا يتم لهم الاستدلال بالحديث إلا على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبًا.
قال النووي: "وأجابوا عن استدلال أبي حنيفة بأن صوم عاشوراء كان تطوعًا متأكداً شديد التأكيد ولم يكن واجبًا. وهذا صحيح مذهب الشافعية"([10]).
واستدلوا على أن صومه لم يكن واجبًا بحديث معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر))([11]).
فقوله: ((ولم يكتب عليكم صيامه))، وقوله: ((من شاء فليصم ومن شاء فليفطر)) ظاهر الدلالة على أنه لم يكن واجبًا قط، بل هو نص في ذلك.
والصواب أن صوم عاشوراء كان واجباً، وأن وجوبه نُسخ عندما فرض الله صوم رمضان؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر) ([12]) .
قال الحافظ ابن حجر: "ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا لثبوت الأمر بصيامه، ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم: (لما فرض رمضان ترك عاشوراء)، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدل على أن المتروك وجوبه"([13]) .
وعلى هذا يتبين أن عاشوراء كان واجبًا ثم نسخ([14]) .
ولا يتم للأحناف الاستدلال أيضًا؛ لأن الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن المتنازع فيه في صوم الفرض المقدور هل يجوز أن ينويه من النهار بلا عذر؟ أما الذي دل عليه الحديث فهو صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم عليه من الليل، كالذي لم يبلغه أن اليوم أول رمضان إلا بعد أن أصبح، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر([15]).
واحتجوا بالقياس ولهم فيه طريقان:
1 ـ قياس الفرض على النفل، فالنفل صح فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينويه من النهار.
وردّ عليهم بأنه قياس لا يصح لأننا عهدنا من الشارع أنه يخفف في النوافل ما لا يخفف في الفرائض.
2 ـ قياس النية المتأخرة على المتقدمة من أول الغروب، والجامع بينهما التيسير ورفع الحرج([16]).
وهذا يلزمهم القول بإجازة الصوم بنية من النهار قبل الزوال وبعده، لا كما يقولون بأن النية بعد الزوال لا تصح، وذلك لأنّ الحرج قد يوجد بعد الزوال. فقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويفيق المجنون، ويصحو المغمى عليه وهم لا يقولون بذلك.
أدلة الفريق الثاني ومناقشتها:
1 ـ حديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)) ([17]) .
وقد رد الأحناف عليهم بأن الحديث ضعيف. والجواب عليهم من وجهين:
أ ـ أن جماعة من الحفاظ حكموا بصحته: كابن خزيمة والحاكم وغيرهما.
ب ـ على التسليم لهم بالضعف فإنه قد روي موقوفًا عن ثلاثة من الصحابة بأسانيد صحيحة؛ إذ جاء عن ابن عمر وأخته حفصة وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم([18]) ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.
2 ـ قال القاضي عبد الوهاب: "ولأنه صوم شرعي فأشبه النذور والقضاء، ولأنها عبادة من شرطها النية، فوجب ألا يتأخر عن بعض زمانها... ولأنها نية ابتدأت بعد مضي جزء من النهار أصله بعد الزوال، ولأن كل ما لا يكون الصائم صائمًا إلا بوجوده فلا يصح الصوم بعد مضي جزء من اليوم... ولأن النية أحد ركني الصيام فاختصت بإحدى جنسي الزمان أصله الإمساك"([19]) .
النية في صوم القضاء والكفارة:
لا يجوز تأخير نية صوم الكفارة وقضاء رمضان، ولا يصح صومهما إلا بنية من الليل عند كافة العلماء. قال النووي: "ولا نعلم أحدًا خالف في ذلك"([20]) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما تبييت النية فإن الصوم الواجب الذي وجب الإمساك فيه من أول النهار لا يصح إلا بنية من الليل، سواء في ذلك ما تعين زمانه كأداء رمضان والنذر المعين، وما لم يتعين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق"([21]) .
النية في صيام التطوع:
اختلف أهل العلم في اشتراط تبييت النية لصيام التطوع على قولين:(/43)
القول الأول: يجوز صوم التطوع بنية من النهار ولا يشترط تبييت النية، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة على خلاف بينهم في آخر وقت لنية التطوع؛ فعند الحنفية آخر وقت نية صوم التطوع الضحوة الكبرى، أي نصف النهار([22])، وعند الشافعية قبل الزوال([23])، وعند الحنابلة يمتدّ وقتها إلى ما بعد الزوال([24]) .
ويشترط عند الجميع لصحة نية النفل في النهار: أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النية، فإن فعل فلا يجزئه الصوم حينئذ اتفاقًا.
القول الثاني: يشترط في نية صوم التطوع التبييت كالفرض، وبه قال المالكية([25]) .
أدلة أصحاب القول الأول:
احتج من لم يشترط تبييت النية في صوم التطوع:
1 ـ بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((يا عائشة، هل عندكم شيء؟)) قالت: فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: ((إني صائم)) ([26]) .
2 ـ أن صيام النفل يخالف الفرض في كونه أخفّ منه، وقد خفف الشارع في ترك القيام واستقبال القبلة في النفل مع القدرة([27]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
واحتج من رأى وجوب تبييت النية في صيام النفل:
1 ـ بحديث حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له))([28]).
وأجاب الجمهور عليه بما قاله ابن قدامة: "وحديثهم نخصّه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم"([29]) .
2 ـ أن النية لا تكفي بعد الفجر لأن حقيقتها: القصد، وقصد الماضي محال عقلاً.
حكم تعيين النية لكل يوم من رمضان:
اختلف أهل العلم، هل يشترط للصائم أن ينوي الصيام قبل كل يوم جديد، أم تكفي نية واحدة وتجزئ عن جميع أيام الشهر، على قولين:
القول الأول: تجب نية مستقلة لكل يوم من أيام رمضان، وقال به الحنفية([30]) والشافعية([31]).
وهو رواية عن الإمام أحمد عليها المذهب عند أتباعه([32]).
القول الثاني: تجزئ نية واحدة عن جميع شهر رمضان، وهو قول المالكية([33]) ورواية عند أحمد([34]).
أدلة أصحاب القول الأول:
قال ابن قدامة: "دلنا: أنه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم من ليله، كالقضاء، ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض، ويتخللها ما ينافيها فأشبهت القضاء، وبهذا فارقت اليوم الأول، وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه، فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان" ([35])، وقد اختار هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء([36]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل من رأى الاجتزاء بنية واحدة عن جميع الشهر بعدة أمور منها:
- أن صوم الشهر عبادة واحدة.
- ما ثبت في الحديث: ((ولكل امرئ ما نوى))، وهذا نوى صيام الشهر فله ما نوى.
- قياسه على الحج، فالحج طوافه وسعيه والوقوف بعرفة ..، تجزئ فيه نية واحدة عن جميعه.
قال ابن عثيمين: "وهذا هو الأصح، لأن المسلمين جميعاً لو سألتهم لقال كل واحد منهم أنا نويت الصوم أول الشهر إلى آخره، فإذا لم تتحقق النية حقيقة فهي محققة حكماً، لأن الأصل عدم القطع، ولهذا قلنا: إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس"([37]).
([1]) رواه أبو داود: كتاب الصوم، باب: النية في الصيام رقم (2454) واللفظ له، والنسائي (4/196) كتاب: الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة. وصححه الألباني كما في: صحيح أبي داود (2/465).
([2]) المغني (4/333).
([3]) روضة الطالبين (2/350).
([4]) بداية المجتهد (1/359).
([5]) بدائع الصنائع (2/85). وانظر حاشية ابن عابدين (2/92).
([6]) بدائع الصنائع (2/85).
([7]) انظر: فتح القدير (2/48) الباب في شرح مختصر القدوري (1/163).
([8]) انظر: المعونة (1/457)، الإنصاف (7/395)، والمجموع (6/300).
([9]) رواه البخاري واللفظ له (2/59) كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء رقم (2007)، ومسلم (2/798) كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء رقم (1135).
([10]) المجموع (6/301) بتصرف يسير.
([11]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2003) ومسلم في الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1129).
([12]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء رقم (2001)، ومسلم كتاب: الصيام باب: صوم يوم عاشوراء رقم (1125).
([13]) فتح الباري (4/247). وانظر: زاد المعاد (2/68 ـ 77).
([14]) انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 69 ـ 72).
([15]) انظر: النيات في العبادات للأشقر (1/174).
([16]) فتح القدير (2/48). وانظر: النيات في العبادات (1/177 ـ 178).(/44)
([17]) رواه النسائي، كتاب: الصيام باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة (2334)، والدارمي كتاب: الصوم باب: من لم يجمع الصيام من الليل (1698)، ورواه بلفظ ((من لم يجمع...)) الإمام أحمد (6/287)، والترمذي كتاب: الصوم، باب: ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل (730)، وأبو داود كتاب: الصوم، باب: النية في الصيام (2454). قال ابن حجر في: فتح الباري (4/142): "واختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في: العلل عن البخاري ترجيح وقفه. وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور: منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم".
([18]) انظر: المحلى (6/161)، والتلخيص الحبير (2/188).
([19]) المعونة (1/457 ـ 458).
([20]) المجموع (6/337).
([21]) شرح العمدة (1/176- الصيام).
([22]) حاشية ابن عابدين (2/85).
([23]) مغني المحتاج (1/424).
([24]) كشاف القناع (2/317).
([25]) حاشية الدسوقي (1/530).
([26]) رواه مسلم في: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله (1154).
([27]) شرح العمدة (1/176- الصيام).
([28]) تقدم تخريجه.
([29]) المغني (4/342).
([30]) حاشية ابن عابدين (2/400).
([31]) المجموع للنووي (6/303).
([32]) شرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/478).
([33]) التفريع لابن الجلاب (1/303).
([34]) الكافي لابن قدامة (1/393).
([35]) المغني (4/337).
3 ـ الإمساك عن الأكل والشرب:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ} [البقرة:187].
قال البغوي: "فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر"([1]).
قال ابن المنذر: "لم يختلف أهل العلم أن الله عز وجل حرم على الصائم في نهار الصوم الرفث وهو الجماع، والأكل والشرب"([2]).
قال الجصاص: "وكذلك النية شرط في صحة الصوم وترك الأكل أيضاً شرطٌ في صحته"([3]).
قال ابن رشد: "وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع لقوله تعالى: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ([4]).
وقال ابن قدامة: "وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب لما يتغذّى به"([5]).
([1]) تفسير البغوي (1/209).
([2]) الإجماع (59).
([3]) أحكام القرآن (4/174).
([4]) بداية المجتهد (1/356).
([5]) المغني (4/350).
4 ـ الإمساك عما هو في حكم الأكل والشرب:
1/4 الامتناع عن الحقن الطبية.
2/4 الامتناع عن تعمد القيء.
3/4 الامتناع عن ابتلاع فضلات الطعام التي بين الأسنان.
4/4 الامتناع عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق.
5/4 الامتناع عن تعمد ابتلاع البلغم بعد وصوله إلى الفم.
قال أبو إسحاق الشيرازي: "ولا فرق بين أن يأكل ما يؤكل أو ما لا يؤكل، فإن استفَّ تراباً أو ابتلع حصاة أو درهما أو ديناراً بطل صومه، لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف وهذا ما أمسك، ولهذا يقال: فلان يأكل الطين، ويأكل الحجر، ولأنه إذا بطل الصوم بما يصل إلى الجوف مما ليس يؤكل كالسُعوط والحقنة وجب أيضاً أن يبطل بما ليس بمأكول.
وإن قلع ما بقي بين أسنانه بلسانه وابتلعه بطل صومه، وإن جمع ريقه في فيه ريقاً كثيراً فابتلعه ففيه وجهان.
أحدهما: أنه يبطل صومه، لأنه ابتلع ما يمكنه الاحتراز منه مما لا حاجة به إليه فأشبه إذا قلع ما بين أسنانه وابتلعه، والثاني لا يبطل، لأنه وصل إلى جوفه من معدنه فأشبه ما يبتلعه من ريقه على عادته.
فإن أخرج البلغم من صدره، ثم ابتلعه، أو جذبه من رأسه ثم ابتلعه، بطل صومه.
وإن استقاء بطل صومه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه)) ([1])، ولأن القيء إذا صعد ثم تردد فرجع بعضه إلى الجوف فيصير كطعام ابتلعه"([2]).
([1]) رواه الترمذي كتاب: الصوم، باب: من استقاء عمداً، وقال: حديث حسن رقم (720)، وأبو داود كتاب: الصيام، باب: الصائم يتقيأ عمداً رقم (2380)، وابن ماجه كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصائم بقيء رقم (1676). وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود (2/452).
([2]) المهذّب في فقه الشافعي (2/605-606). وانظر المجموع (6/312)، وبداية المجتهد (1/326)
5 ـ الإمساك عن شهوة الفرج :
وهو على خمسة أنواع:
1/5 الإمساك عن الجماع:(/45)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله أهلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبة تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر ـ والعرق: المكتل ـ قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدق به))، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله، ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: ((أطعمه أهلك)) ([1]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ما يفطر الصائم وما لا يفطره: "وهذا نوعان: منه ما يفطر بالنص والإجماع وهو الأكل والشرب والجماع"([2]).
وقال العلامة ابن القيم: "والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب، لا يُعرف فيه خلاف"([3]).
2/5 الإمساك عن الاستمناء:
قال أبو إسحاق الشيرازي: "وإن استمنى فأنزل بطل صومه؛ لأنه أنزل عن مباشرة، فهو كالإنزال عن القبلة، ولأن الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية في الإثم والتعزير، فكذلك في الإفطار"([4]).
وقال ابن تيمية: "وإن استمنى بيده فعليه القضاء دون الكفارة"([5]).
3/5 الإمساك عن الإيلاج وتغييب الحشفة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الكفارة تجب بالجماع في الفرج، سواء كان قبلاً أو دبراً، من ذكرٍ أو أنثى وسواء أنزل الماء أو لم ينزل ؛ رواية واحدة.
وكذلك إذا ولج في فرج بهيمة في المشهور عند أصحابنا"([6]).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ووطء المرأة في الدبر واللواط كالوطء في الفرج في جميع ما ذكرناه من إفساد الصوم ووجوب الكفارة والقضاء؛ لأن الجميع وطء، ولأن الجميع في إيجاب الحد واحد، فكذلك في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة.
وأما إتيان البيهمة ففيه وجهان من أصحابنا من قال: يبنى ذلك على وجوب الحد، فإن قلنا: يجب فيه الحد أفسد الصوم، وأوجب الكفارة كالجماع في الفرج، وإن قلنا: يجب فيه التعزير لم يفسد الصوم ولم تجب به الكفارة، لأنه كالوطء فيما دون الفرج في التعزير، فكان مثله في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة.
ومن أصحابنا من قال: يفسد الصوم ويوجب الكفارة قولاً واحداً، لأنه وطء يوجب الغسل فجاز أن يتعلق به إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كوطء المرأة"([7]).
4/5 الإمساك عن الإنزال بشهوة بسبب القبلة أو الضم:
قال ابن قدامة: "إذا قبل فأمنى أو أمذى، ولا يخلو المقبّل من ثلاثة أحوال:
أحدها أن لا يُنزل، فلا يفسد صومه بذلك، لا نعلم فيه خلافاً لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم وكان أملككم لإربه" رواه البخاري ومسلم ([8])، ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم، فقال: ((أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟)) قلت: لا بأس به، قال: ((فمه؟))([9])، شبّه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة، وإن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر، وإن كان معها نزوله أفطر.
الحال الثاني: أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه، لما ذكرناه من إيماء الخبرين، ولأنه إنزال بمباشرة، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج.
الحال الثالث: أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يفطر، ورُوي ذلك عن الحسن والشعبي، والأوزاعي، لأنه خارجٌ لا يوجب الغسل، أشبه البول.
ولنا أنه خارج تخلله الشهوة، خرج بالمباشرة، فأفسد الصوم كالمنيّ، وفارق البول بهذا.
واللمس لشهوة كالقبلة في هذا.
إذا ثبت هذا فإن المقبّل إن كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبّل أنزل لم تحلّ له القبلة؛ لأنها مفسدة لصومه، فحرمت كالأكل.
وإن كان ذا شهوةٍ لكنه لا يغلب على ظنه ذلك، كُره له التقبيل؛ لأنه يعرض صومه للفطر، ولا يأمن الفساد، ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة، كالإحرام، ولا تحرم القبلة في هذه الحال"([10]).
وقال الشوكاني: "إن وقع من الصائم سببٌ من الأسباب التي وقع الإمناء منها بطل صومه"([11]).
هذا وقد تقدم الكلام على هذه المفطرات وغيرها في مبحث مفطرات الصيام بالتفصيل.
([1]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق رقم (1936) واللفظ له، ومسلم كتاب: الصيام، باب: تغليظ الجماع في نهار رمضان رقم (2554).
([2]) مجموع الفتاوى (25/219).
([3]) زاد المعاد (2/60).
([4]) المهذب (2/607).
([5]) شرح العمدة (1/303- الصيام). وانظر: الإنصاف للمرداوي (30/301).
([6]) شرح العمدة (1/300- الصيام).
([7]) المهذب (2/615-616).(/46)
([8]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: المباشرة للصائم رقم (1927)، ومسلم كتاب: الصيام باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة رقم (1106).
([9]) رواه أبو داود كتاب: الصيام، باب: القبلة للصائم رقم (2385)، والدارمي (2/21) باب: الروضة في القبلة للصائم، وابن خزيمة (3/345)، والحاكم في المستدرك (1/596) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
([10]) المغني (4/361-362) باختصار.
([11]) السيل الجرار (2/121). وانظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/580).
6 ـ طهارة المرأة من الحيض والنفاس:
عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!) قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ([1]).
وعن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر إلى المصلى، فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار))، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن))، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة مثلُ نصف شهادة الرجل؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها))([2]).
قال الإمام أبو بكر بن المنذر - تعليقاً على الحديث -: "فأخبر أن لا صلاة عليها، ولا يجوز لها الصوم في حال الحيض، ثم أجمع أهل العلم على أن عليها الصوم بعد الطهر، ونفى الجميع عنها وجوب الصلاة، فثبت قضاء الصوم عليها بإجماعهم، وسقط عنها فرض الصلاة لاتفاقهم"([3]).
وقال ابن جزي: "وأما الطهر من دم الحيض والنفاس فشرط في صحته وفي جواز فعله"([4]).
وقال ابن الملقن - عند ذكره لشروط صحة الصوم -: "الإسلام والعقل، والنقاء عن الحيض والنفاس كل يوم"([5]).
([1])رواه البخاري كتاب: الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة رقم (321)، ومسلم كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) واللفظ له.
([2]) رواه البخاري كتاب: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم برقم (304) واللفظ له، ومسلم كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات رقم (79).
([3]) الأوسط لابن المنذر (2/203).
([4]) القوانين الفقهية لابن جزي (ص114).
([5]) التذكرة في الفقه الشافعي (ص76).
7 ـ الزمن القابل للصوم:
إذ لا يجوز صوم رمضان إلا في شهر رمضان.
قال الإمام الدسوقي رحمه الله - عند ذكره لباب الصيام -: "... وشروط صحته الإسلام والزمان القابل للصوم"([1]).
وعدد القرافي شروط الصوم فقال: "الشرط السادس: الزمن القابل للصوم"([2]).
ولا يعلم فيه خلاف بين أهل العلم.
* * *
([1]) حاشية الدسوقي (1/509).
([2]) الذخيرة للقرافي (2/497). وانظر: المفصل في أحكام المرأة للدكتور عبد الكريم زيدان (2/47).
([36]) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (10/246).
([37]) الشرح الممتع (6/369-370).
مفسدات الصوم
أولاً: المفطرات المجمع عليها:
1. الأكل.
2. الشرب.
3. الجماع.
قال ابن المنذر: "لم يختلف أهل العلم أن الله عز وجل حرَّم على الصائم في نهار الصوم الرفث وهو الجماع والأكل والشرب" ([1]).
وقال ابن قدامة: "يفطر بالأكل والشرب بالإجماع، وبدلالة الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، مدّ الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))([2])، وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب لما يتغذى به"([3]).
وقال أيضاً: "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ من جامع في الفرج فأنزل، أو لم ينزل، أو دون الفرج فأنزل، أنه يفسد صومه"([4]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما يفطر بالنصٍّ والإجماع وهو: الأكل والشرب والجماع، قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، فأذن في المباشرةِ، فعقل من ذلك أنّ المراد الصيام من المباشرة والأكل والشرب، ولما قال أولاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، كان معقولاً عندهم أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع"([5]).
4. الحيض.
5. النفاس.(/47)
قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم، وأنهما يفطران رمضان ويقضيان، وأنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم"([6]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أنّ دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصوم"([7]).
وقال: "وخروج دم الحيض والنفاس يفطر باتفاق العلماء"([8]).
6. الردة:
قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم أنه يفسد صومه، وعليه قضاء ذلك إذا عاد إلى الإسلام، سواءٌ أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به، أو بشكه فيما يكفر بالشك فيه، أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزءاً، أو غير مستهزئ، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ M لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65، 66]، وذلك أنّ الصوم عبادة من شرطها النية، فأبطلتها الردة كالصلاة والحج، ولأنّه عبادة محضة فنافاها الكفر كالصلاة"([9]).
7. الاستقاء عمداً:
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامداً"([10])، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة كما هو مقرر في كتبهم إلا أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل.
فعند الحنفية أنّه إذا استقاء فسد صومه وعليه القضاء، وعند أبي يوسف إذا كان أقل من ملء الفم لا يفسد لعدم الخروج حكماً([11]).
وعند أحمد ثلاث روايات:
الأول: يفطر قليله وكثيره على السواء.
الثانية: لا يفطر إلاّ بملء الفم.
الثالثة: لا يفطر إلاّ إذا كان نصف الفم.
والأُولى هي الأَولى([12])؛ لإطلاق الحديث فيها، وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه قيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقضِ))([13]).
ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها([14]).
([1]) الإجماع (ص59).
([2]) أخرجه البخاري في: الصوم، باب: فضل الصوم رقم (1894) واللفظ له، ومسلم في الصيام ، باب: فضل الصوم رقم (1151).
([3]) المغني (4/349-350).
([4]) المغني (4/372).
([5]) مجموع الفتاوى (25/220).
([6]) المغني (4/397).
([7]) مجموع الفتاوى (25/220).
([8]) مجموع الفتاوى (25/267).
([9]) المغني (4/369-370).
([10]) الإجماع (ص59).
([11]) انظر: الهداية مع فتح القدير (2/260)، والمدونة (1/179)، والأم (2/130)، والمغني (4/368).
([12]) المغني (4/3690).
([13]) أخرجه أبو داود: الصيام، باب الصائم يستقئ عامداً برقم (2380)، والترمذي: الصيام، باب ما جاء فيمن استقاء عمداً برقم (720)، وابن ماجه: الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء برقم (1676)، وأحمد في المسند (2/498) برقم (10468)، والدراقطني في السنن: الصيام، باب القبلة للصائم (2/184)، والحاكم في المستدرك، ك الصوم، وقال الدارقطني: "رواته ثقات كلهم"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وصححه الألباني في الصحيحة (923) والإرواء (923).
([14]) المغني (4/369).
ثانياً: المفطرات المختلف فيها:
1- أكل ما لا يؤكل في العادة كالدرهم والتراب والحصى والحديد والحنوط ونحو ذلك:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه يفطر بذلك. وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة([1]).
القول الثاني: أنه لا يفطر بذلك؛ لأنه ليس طعاماً ولا شراباً.
وهذا القول حكي عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، وعن الحسن بن صالح([2]).
والراجح: هو القول الأول، من وجهين:
الوجه الأول: لأنّ تحريم الأكل والشرب على الصائم على العموم يدخل فيه محل النزاع.
الوجه الثاني: لأنّ الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا لم يمسك، ولهذا يقال: فلان يأكل الطين، ويأكل الحجر([3]).
2- إيصال شيء إلى الجوف من أي منفذٍ كان، ويدخل تحته أشياء:
أ- السعوط([4]):
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يفطر بذلك إن وصل إلى الدماغ. وبه قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة([5]).
القول الثاني: أنه لا يفطر به إلا إذا وصل إلى الحلق. وبه قالت المالكية([6]).
ب- التقطير في الأذن:
والقول فيه كالقول في السعوط([7]).
ج- الاكتحال في العين:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يفطر به سواء وجد طعمه في حلقه أم لا. وبه قالت الحنفية والشافعية([8]).
القول الثاني: أنه يفطر به إذا علم وصوله إلى حلقه، أو وجد طعمه فيه. وبه قالت المالكية والحنابلة([9]).
د- الحقنة في الدبر:
اختلف العلماء فيها إلى قولين:
القول الأول: أن الحقنة في الدبر تفطر مطلقاً أو قُبُل المرأة خاصة لأنه إيصال شيء إلى الجوف فيفطر به. وبه قالت الحنفية والشافعية والحنابلة([10]).
القول الثاني: أنّه لا يفطر إلاّ بالحقنة المائعة، أمّا الجامدة؛فلا يفطر بها.وبه قالت المالكية([11]).(/48)
هـ - التقطير في الإحليل:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يفطر؛ لأنه لا يوجد منفذين باطن الذكر والجوف. وبه قالت الحنفية والمالكية والحنابلة([12]).
القول الثاني: أنه يفطر؛ لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه فتحلق بالواصل إليه كالفم. وبه قالت الشافعية([13]).
و- مداواة المأمومة والجائفة([14]):
اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنّه يفطر بمداواة المأمومة إن وصل الدواء إلى دماغه، ومداواة الجائفة إن وصل الدواء إلى جوفه. وبه قالت الحنفية والشافعية والحنابلة([15]).
القول الثاني: أنّه لا يفطر به؛ لأنه لا يصل إلى محل الطعام والشراب ولو وصل إليه لمات في ساعته([16]).
الراجح في هذه المسائل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلَّغوه الأمة كما بلَّغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً وعلم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك".
وقال أيضاً: "وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها، لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه:
أحدها: أنّ القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في الأصول: إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضاً، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة.
الثاني: أنّ الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا، عُلِمَ أنّ هذا ليس من دينه... – إلى أن قال: – وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبيِّن ذلك، عُلِمَ أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيّدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وادّهانه، وكذلك اكتحاله، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إمّا في الجهاد وإمّا في غيره مأمومة أو جائفة، فلو كان هذا يفطر لبيَّن لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطراً.
الوجه الثالث: إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيجرى بها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتف، وذلك أنّه ليس في الأدلة ما يقتضي أنّ المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً، هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذِ، أو واصلاً إلى الجوف ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله... – إلى أن قال: – وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليلٌ، كان قول القائل: "إنّ الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطراً لهذا" قولاً بلا علم، وكان قوله: "إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا" قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم وهذا لا يجوز"([17]).
3- قضاء الوطر بغير الجماع:
ويدخل تحته أشياء:
أ - القبلة والمباشرة فيما دون الفرج ولها أحوال:
إذا قَبَّل فلم ينزل:
قال ابن قدامة: "فلا يفسد صومه بذلك، لا نعلم فيه خلافاً لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه. رواه البخاري ومسلم([18]). وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت، وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم، فقال: ((أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟!)) قلت: لا بأس به، قال: ((فمه؟)) رواه أبو داود ([19])، شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة، وإنّ المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر، وإن كان معها نزول أفطر"([20]).
إذا قبَّل فأنزل:(/49)
فإنّه يفطر، قال ابن قدامة: "بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين، ولأنه إنزال بمباشرة، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج"([21]).
إذا قبَّل فأمذى:
اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: لا يفطر لأنه خارج لا يوجب الغسل فأشبه البول. وبه قالت الحنفية والشافعية([22]).
القول الثاني: يفطر لأنه خارج تخلله شهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني، وبهذا فارق البول. وبه قالت المالكية والحنابلة([23]).
ب- إذا نظر إلى ما يشتهى فأنزل:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: إذا أنزل بالنظر فإنه لا يفطر ولو كرر النظر لأنه لم يوجد الجماع صورة لعدم وجود المباشرة. وبه قالت الحنفية والشافعية([24]).
القول الثاني: إنه يفطر بذلك لأنه إنزال بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه فأفسد الصوم. وبه قالت المالكية والحنابلة([25]).
أما إذا لم ينزل، فقال ابن قدامة: "فلا يفسد الصوم بغير اختلاف"([26]).
ج- التفكر:
اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنّه إذا فكّر فأنزل فلا يفسد صومه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عفي لأمتي من الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم))([27]).
ولأنه لا نص في الفطر به، ولا إجماع، ولا يقاس على المباشرة، وتكرار النظر؛ لأنه دونهما في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال. ويخالفهما في التحريم إذا تعلّق بأجنبية، أو الكراهة إن كان في زوجة، فيبقى على الأصل. وبه قالت الحنفية والشافعية والحنابلة([28]).
القول الثاني: إذا أنزل بإدامة الفكر فيفسد صيامه، فإن كان من عادته الإنزال به، فعليه القضاء والكفارة، وإذا لم يكن من عادته الإنزال به، فعليه القضاء، واختلفوا في الكفارة. وإن لم يدم النظر والفكر فعليه القضاء فقط دون الكفارة. وبه قالت المالكية([29]).
د- الاستمناء:
اختلف العلماء فيه إلى قولين:
القول الأول: يفطر بالاستمناء باليد أو غيرها وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة([30]).
القول الثاني: أنه لا يفطر بالاستمناء لعدم ورود النص بأنه ينقض الصوم، وبه قال ابن حزم الظاهري([31]).
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الاستمناء في معنى القبلة في إثارة الشهوة([32]).
4- الحجامة:
اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: أن الحجامة لا تفطر. وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية وابن حزم الظاهري([33]).
القول الثاني: أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم على السواء. وهو قول الحنابلة.
قال ابن قدامة: "وبه قال إسحاق وابن المنذر ومحمد بن إسحاق ابن خزيمة، وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي"([34]).
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على عدم الإفطار بالحجامة بما يأتي:
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم([35]).
- عن ثابت البناني قال: سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: (لا، إلا من أجل الضعف)([36]).
- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام))([37]).
أدلة القائلين بالفطر بها:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم))([38]).
- وأجابوا على حديث ابن عباس بأن الصواب فهي بدون ذكر (صائم)، فقد طعن في هذه الزيادة عدد من الحفاظ، ولذا لم يذكرها مسلم في صحيحه([39]).
- وقالوا: حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ناسخ لحديثي ابن عباس وأنس لأنه كان عام الفتح كما في حديث شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدي فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم))([40]).
- أن الإفطار بالحجامة يوافق القياس الصحيح، وهو من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة والاستمناء، وذلك لأنه كما نهي الصائم عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مُكِّن من هذا ضرَّه، وكان متعدياً في عبادته لا عادلاً([41]).
الترجيح:
الذي يظهر والله أعلم، أنّ الحجامة تفسد الصيام، فينهى الصائم عنها.
ويدخل تحت الحجامة الفصاد:
قال شيخ الإسلام: "وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعاً وطبعاً، وحيث حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحجامة، وأمر بها، فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره، لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هرباً من البرد، فإن شبه الشيء منجذب إليه، كما تسخن الأجواف في الشتاء وتبرد في الصيف، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق، كما للبلاد الحارة الحجامة لا فرق بينهما في شرع ولا عقل"([42]).(/50)
ويدخل في ذلك أيضاً: جميع الوسائل المستخدمة في إخراج الدم كعمليات سحب الدم.
قال شيخ الإسلام: "وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاء وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأيّ وجه أراد إخراج الدم أفطر"([43]).
5- النخامة :
ابتلاع النخامة له أحوال:
1. إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر بالاتفاق([44]).
2. إن حصلت في الفم بأنصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم، ولم يقدر على صفها ومجها حتى نزلت إلى الجوف، لم تضر.
3. إن ردها إلى فضاء الفم أو ارتدت إليه ثم ابتلعها أفطر.
وهذا عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، وقول المالكية([45]).
وأما المعتمد عند المالكية، ورواية ثانية للحنابلة، عدم الفطر بالنخامة لأجل المشقة، ولأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج، فأشبه الريق([46]).
6- بلع ما بين الأسنان من الطعام:
وله حالتان:
الأولى: إن كان يسيراً لا يمكن الاحتراز منه فإن ابتلاعه لا يضر الصائم تشبيهاً له بالريق بالإجماع.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا عن أن لا شيء على الصائم فيما يزدرده مما يجري مع الريق مما بين الأسنان، فيما لا يقدر على الامتناع منه"([47]).
الثانية: إذا أمكن الاحتراز منه فابتلعه، اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنه يفطر به، ولو كان يسيراً. وهو قول المالكية والشافعية، والحنابلة ؛ لأنه بلع طعاماً يمكنه لفظه باختياره ذاكراً لصومه فأفطر به، كما لو ابتدأ الأكل، ويخالف ما يجري به الريق، فإنه لا يمكن لفظه([48]).
القول الثاني: أنه لا يفطر إن كان يسيراً ويفطر إن كان كثيراً، وجعلو اليسير مقدار الحمّصة فما دونها، وعللوا عدم الفطر به أنه يشبه الريق فلا يمكن التحرز منه فيكون تابعاً للأسنان بخلاف الكثير. لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان([49]). وهو قول الحنفية.
والظاهر هو ترجيح مذهب الجمهور ؛ للعلة التي ذكروها، والله أعلم.
7- مضغ العلك:
قال ابن قدامة العلك ضربان:
أحدهما: ما يتحلل منه أجزاء، وهو الردئ الذي إذا مضغه يتحلل، فلا يجوز مضغه إلاَّ أن لا يبلع ريقه، فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به، كما لو تعمد أكله.
والثاني: العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه، ولا يحرم لأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش، ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر، وإن وجد طعمه في حلقه، ففيه وجهان:
أحدهما: يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه.
والثاني: لا يفطره لأنه لم ينزل منه شيء، ومجرد الطعم لا يفطر"([50]).
وقال النووي: "ولو نزل طعمه في جوفه أو ريحه دون جرمه، لم يفطر؛ لأن ذلك الطعم بمجاورة الريق له، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور"([51]).
وألزم المالكية الكفارة بوصول شيء من العلك إلى الحلق، إذا كان متعمداً في ذلك، وإن لم يكن متعمداً، فالقضاء فقط([52]).
وعند الحنفية أنه يكره ولا يفطر؛ لأنه لا يصل إلى جوفه، هكذا أطلقه المتقدمون، وقيَّده المتأخرون بما إذا لم يتفتت أو يصل شيء منه إلى الجوف، وإلاّ فإنه يفطر([53]).
8- الإغماء:
اختلف العلماء فيمن نوى الصيام ليلاً، ثم أغمي عليه، فلم يفق إلا بعد غروب الشمس، على قولين:
القول الأول: يصح صومه ولا يؤثر فيه الإغماء. وهو قول الحنفية، لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم([54]).
القول الثاني: لا يصح صومه ويلزمه القضاء. وهذا قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة([55]).
وهذا القول هو الراجح، ويدل عليه ما يأتي:
1. أن الصوم إمساك مع نية، وفي الحديث: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي))([56]).
فأضاف الطعام والشراب إليه، وإذا كان مغمى عليه، فلا يضاف الإمساك إليه، فلم يجزئه.
2. أن النية أحد ركني الصيام، فلا تجزئ وحدها كالإمساك وحده.
3. أما قياس الإغماء على النوم فلا يستقيم، لأن النوم عادة لا يزيل الإحساس بالكلية، ومتى نُبّه انتبه، والإغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون([57]).
9- الدخان:
الدخان بجميع أنواعه وما يحرق في الأنبوب، وما يوضع في النارجيلة من المواد العضوية التي تحتوي على القطران والنيكوتين، ولها جرم يظهر في الفلتر وعلى الرئتين، وتصبغ الطبقة المخاطية التي تغطي جدار البلعوم بلون داكن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن التدخين يلي شهوة المدخن (الكيف والمزاج) فيؤثر على أعصابه تأثيراً لا يقل عن تأثير الخمور والمخدرات، ولهذا نجد المدخن يصبر عن الطعام والشراب، ولكن لا يصبر عن الدخان، فتناول الدخان إذًا يتنافى مع معنى الصوم الذي ذكر في الحديث القدسي: ((يدع طعامه شرابه وشهوته من أجلي))([58])، ولذلك يُعدّ التدخين من مفسدات الصوم. والله أعلم([59]).
حكم بعض العلاجات العصرية:(/51)
نظراً لما توصل إليه الطب من أنواع من العلاجات لم تكن معروفة في الزمان السابق فاحتاج الناس إلى معرفة الحكم فيها بالنسبة لإفسادها للصيام أو عدمه، ونذكر بعض هذه العلاجات:
1. بخاخ الربو:
وهو يحتوي على مستحضرات طبية وماء وأكسجين، وقد استظهرت اللجنة الدائمة للإفتاء أنه لا يفطر، وبه أفتى الشيخ ابن عثيمين، وأكد عدد من الأطباء والصيادلة أن هذا المحتوى يدخل إلى المعدة يقيناً، فهو بذلك يفسد الصوم([60]). والله أعلم.
2. التغذية عن طريق الأنف:
إذا استعمل الأنف طريقاً للتغذية، فإنه يكون منفذاً كالفم تماماً، فما يدخل منه بذلك يكون مفسداً للصيام([61]).
3. الحقنة الشرجية:
ثبت في الطب أنّ الأمعاء الغليظة تمتص الماء وقليلاً من الأملاح والجلوكوز وقد تمتص الأدوية المختلفة كما أنها تستعمل كطريقة في تغذية المريض، ولذا فينصح بتأخير استعمال الحقنة الشرجية إلى ما بعد الإفطار احتياطاً للعبادة، سواء كانت تحمل مواداً غذائية أو وسائل أخرى، كما أن كثيراً من أساتذة الطب ينصحون بعدم إجراء الحقن الشرجية أثناء فترة الصوم، لأنها تسبب ضعفاً في عضلات الأمعاء وغشائها، وتخرش القولون، وتهك المريض، وتستهلك قواه.
وأما استعمال التحاميل أو اللبوس أو أقماع البواسير أو المراهم، ونحو ذلك مما يستعمل لتخفيف آلام البواسير، أو خفض درجة الحرارة، أو التقليل من مضاعفات الزكام والبرد، عن طريق إدخالها في الدبر، وهذه الوسائل تمتص من مكانها بواسطة شبكة كبيرة من الأوردة الدموية للدم مباشرة ولا تستغرق العملية وقتاً طويلاً فهي كامتصاص الجلد الخارجي للماء والدواء والدهون فلذا لا تؤثر على صحة الصوم، والله أعلم([62]).
4. الإبر، وهي على نوعين:
أ- الإبر التي توصل أدوية أو مواد غذائية أو مقوية، وتدخلها إلى بدن الصائم عن غير طريق الأوردة والشرايين (كالاحتقان في العضدين أو الفخذين أو رأس الإليتين أو ما شابه ذلك) لا تفسد الصوم، لأنها تصل إلى البدن عن طريق المسام مثلها مثل الاغتسال بالماء البارد، فلا أثر لها في الصوم.
ب- الإبر التي توصل أدوية أو غذية أو مقويات إلى الدم مباشرة عن طريق الأوردة أو الشرايين، تفسد الصوم لأنها صارت منفذاً – عرفاً – لإمداد الجسم بالجلوكوز والصوديوم، وأنواع الأحماض المختلفة مما يؤدي إلى اكتفاء البدن واستغنائه عن المواد المألوفة من الطعام والشراب([63]).
5. الأشعة:
وهي تستخدم لتصوير بعض الأجهزة الداخلية، أو علاج موضعي كتفتيت حصوة في الكلية، أو الحالب أو المثانة أو المرارة أو الرتق داخلي أو خارجي كشبكة العين، وإدخال هذه الأشعة لا يؤثر على صحة الصوم؛ لأنها في جميع حالاتها عبارة عن تصويب حزمة رفيعة من الضوء موحدة الاتجاه إلى المكان المراد علاجه، كإتمام عملية التحام الشبكية المصابة بالانفصال أو التمزق أو التحام الأوعية الدموية في الجراحة أو غيرها، والله أعلم([64]).
6. التخدير:
وله أنواع في الطب:
أ- التخدير عن طريق الأنف:
وذلك بشم مادة غازية، كالهواء تؤثر على الأعصاب فيحدث التحذير، فإن كان التخدير لا يؤثر على المخ ولا يفقد الصائم وعيه فلا يبطل الصوم، وإن كان يفقد الوعي فيبطل الصوم بسبب فقدان الوعي، وليس بسبب المادة الغازية.
ب- التخدير عن طريق الإبر الصينية:
وهو من العلاج الصيني يعتمد على إدخال إبر مصمته جافة إلى مراكز الإحساس تحت الجلد، فتستحث نوعاً معيناً من الغدد داخل البدن على إفراز المورفين الطبيعي الذي يحتوي عليه الجسم، فيفتقد المريض الإحساس في ذلك الموضع، وهذا لا يؤثر على الصيام لعدم دخول شيء إلى البدن ولعدم التأثير على الوعي.
ج- التخدير بالحقن: بإدخال مادة سائلة مخدرة عن طريق الحقنة في موضع معين من البدن.
فإن كان الحقن في مكان غير الأوردة والشرايين كالعضلة فلا يفسد الصوم كما مر في الإبر؛ ولأنه لا يحدث غياب الوعي منه.
وإن كان الحقن في الأوردة أو الشرايين بالمادة المخدرة فإن الصوم يبطل لدخول المائع إلى البدن من منفذ عرقي؛ ولأنّ الصائم يفقد وعيه، لأن المادة المخدرة التي صبت في الدم قد توزعت على جميع البدن بواسطة الدورة الدموية، واتصلت بالمخ ومراكز الإحساس ففقد الوعي([65]).
والله تعالى أعلم.
([1]) البحر الرائق (2/481)، الشرح الكبير (1/523-524)، المجموع (6/340)، المغني (4/350).
([2]) المغني (4/350).
([3]) المهذب للشيرازي مع المجموع (6/337).
([4]) قال الجوهري في الصحاح: "السعوط: الدواء في الأنف وقد استعطت الرجل فاستعط هو بنفسه" مادة (سعط).
([5]) البحر الرائق (2/467)، والمجموع (6/346)، والمغني (4/353).
([6]) الشرح الكبير (1/524).
([7]) البحر الرائق (2/486-487)، الشرح الكبير (1/524)، والمجموع (6/346)، المغني (4/353).
([8]) البحر الرائق (2/477) والمجموع (6/387).
([9]) الشرح الكبير (1/524)، والمغني (4/353-354).
([10]) البحر الرائق (2/486)، والمجموع (6/335)، والمغني (4/353).(/52)
([11]) الشيء الكبير (1/524).
([12]) البحر الرائق (2/488) والشرح الكبير (1/524) والمغني (4/360).
([13]) المجموع (6/334، 336).
([14]) المأمومة أو الآمة: الجراحة التي تبلغ أم الدماغ؛ وهي: الجلدة التي تحيط بالدماغ انظر: النظم المستعذب في غريب ألفاظ المهذب (1/173).
والجائفة: الجراحة التي تصل إلى الجوف (الصحاح:4/1339).
([15]) انظر: البحر الرائق (2/486)، والمجموع (6/346)، والمغني (4/353).
([16]) انظر: الشرح الكبير (1/533).
([17]) مجموع الفتاوى (25/233-243) بتصرف. وانظر: الشرح الممتع (6/379-384).
([18]) أخرجه البخاري كتاب: الصيام، باب: المباشرة للصائم، برقم (1927)، ومسلم في: الصيام برقم (1106).
([19]) أخرجه أبو داود في: الصيام، باب: القبلة للصائم (2385)، وأحمد في المسند (1/21) برقم (138) والدارمي: الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم (1728)، والحاكم: الصوم (1/596) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصححه النووي وقال: "ولا يقبل قول الحاكم: إنه على شرط البخاري، وإنما هو على شرط مسلم" (المجموع (6/348).
([20]) المغني (4/360-361). وانظر: البحر الرائق (2/476) وتنوير المقالة (3/193) والمجموع (6/349).
([21]) المغني (4/361). وانظر: البحر الرائق (2/476) وتنوير المقالة (3/193)، والمجموع (6/349).
([22]) انظر المجموع (6/350).
([23]) انظر تنوير المقالة (3/193)، والمغني (4/361).
([24]) انظر البحر الرائق (2/475)، والمجموع (6/349).
([25]) انظر: الشرح الكبير (1/29)، والمغني (4/363).
([26]) المغني (4/363).
([27]) أخرجه ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناس (2045)، بلفظ: "إن الله وضع على أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وأخرجه الحاكم كذلك (2/198) وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وأما هذا اللفظ" فقد قال الزيلعي في نصب الراية (2/64): "وهذا لا يوجد بهذا اللفظ". وصححه الألباني في الإرواء (1/123) وقال: "لم أجده بلفظ عفي".
([28]) البحر الرائق (2/293)، نهاية المحتاج (2/173)، المغني (4/364).
([29]) الشرح الكبير (1/529).
([30]) انظر البحر الرائق (2/475) والشرح الكبير (1/529) والمجموع (6/350) والمغني (4/363).
([31]) المحلى (6/203، 205).
([32]) المغني (4/363).
([33]) فتح القدير (2/256)، والذخيرة (2/506)، والمجموع (6/389)، المحلى (6/203-204).
([34]) المغني (4/350).
([35]) أخرجهما البخاري في الصيام: باب الحجامة والقيء للصائم برقم (1938-1939).
([36]) أخرجه البخاري: في الصيام، باب الحجامة والقيء للصائم برقم (1940).
([37]) ضعيف: أخرجه الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، والبيهقي في الكبرى: الصيام، باب: من ذرعه القيء لم يفطر (4/220)، وقال الترمذي: "حديث أبي سعيد غير محفوظ، والصوب أنه مرسل"، وقال البيهقي: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف".
([38]) صحيح: أخرجه الترمذي عن رافع بن خدريج: الصوم، باب: كراهية الحجامة للصائم برقم (774) وقال: "حسن صحيح". وأخرجه أحمد في المسند (5/276) برقم (22425) وأبو داود: في الصيام، باب: في الصائم يحتجم برقم (2367)، وابن ماجه في: الصيام، باب: ما جاء في الحجامة للصائم برقم (1680)، من حديث ثوبان، وأخرجه أحمد في مسنده (4/122) برقم (17153) وأبو داود: الصيام، باب: في الصائم يحتجم برقم (2369)، والدارمي: الصوم، باب: الحجامة تفطر الصائم برقم (1730) من حديث شداد بن أوس، وذكر الترمذي عن أحمد تصحيح حديث رافع، وأعلَّ ابن المديني تصحيح حديث ثوبان بن شداد (الترمذي 3/145) وللحديث طرق أخرى كثيرة.
([39]) انظر: المغني (4/351-352) ومجموع الفتاوى (25/252-254).
([40]) انظر: مجموع الفتاوى (25/255).
([41]) مجموع الفتاوى (25/250).
([42]) مجموع الفتاوى (25/256-257).
([43]) مجموع الفتاوى (25/257).
([44]) المجموع للنووي (6/343).
([45]) المجموع (6/343)، والمغني (4/355)، الشرح الكبير (1/252).
([46]) المغني (4/355)، والشرح الكبير (1/525).
([47]) الإجماع (ص59). وانظر: فتح القدير (2/258)، والذخيرة (2/507)، والمجموع (6/340-341)، والمغني (4/360).
([48]) انظر: النوادر والأصول لابن أبي زيد القيرواني (2/41)، والمجموع (6/340-341) والمغني (4/360).
([49]) فتح القدير (2/258).
([50]) المغني (4/358).
([51]) المجموع (5/394-395).
([52]) الشرح الكبير (517).
([53]) الهداية مع فتح القدير (4/268).
([54]) انظر: البحر الرائق (2/448)، والمغني (4/343).
([55]) انظر: المدونة (1/184)، والمجموع (6/383)، والمغني (4/343).
([56]) أخرجه البخاري: الصيام، باب فضل الصوم (1894) واللفظ له، ومسلم: الصيام باب: فضل الصيام (1151).
([57]) انظر: المجموع (6/383-385)، والمغني (4/343-344)، والصوم والإفطار لأصحاب الأعذار، د. فيحان المطيري (ص136).(/53)
([58]) أخرجه البخاري: الصيام، باب: فضل الصوم (1894) ومسلم: الصيام، باب: فضل الصيام (1151).
([59]) مفطرات الصيام في ضوء المستجدات الطبية – مجلة الحكمة – عدد (14) (ص104).
([60]) مفطرات الصيام في ضوء المستجدات الطبية – مجلة الحكمة – عدد (14) (ص102).
([61]) المصدر السابق (104-106).
([62]) المصدر السابق (111-113).
([63]) المصدر السابق (115/119).
([64]) مجلة الحكمة، عدد (14) (ص121).
([65]) المصدر السابق (ص121-123).
ثالثًا: محلقات عامة:
نظم في مفطرات الصيام:
قال بعضهم:
عشرة مفطرات الصوم فهاكها إغماء كل اليوم
إنزاله مباشراً والردّة والوطء والقيء إذا تعمده
ثم الجنون الحيض مع نفاس وصول عين بطنه مع راسِ([1])
([1]) إعانة الطالبين للبكري (2/225). ويلاحظ: أن في بعض ما ذكره من المفطرات خلاف، وقد تقدم ذكره والراجح فيه
مخالفات في شهر رمضان
أولاً: بدع واقعة في رمضان
1. بدع عند دخول رمضان:
1/1 الاعتماد على حساب الفلكيين في تقاويمهم في بدء الصيام.
قال شيخ الإسلام: "فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى ؛ لا يجوز.
والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يُعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث؛ إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غُمَّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا.
وهذا القول وإن كان مقيَّداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه"([1]).
2/1 رفع الأيدي عند رؤية الهلال والدعاء:
قال الشيخ علي بن محفوظ: "... فمن بدع الصوم ما تفعله العامة من رفع الأيدي إلى الهلال عند رؤيته يستقبلونه بالدعاء قائلين: (هلَّ هلالك، جلَّ جلالك، شهرٌ مبارك)، ونحو ذلك مما لم يعرف عن الشرع"([2]).
وقال الشيخ بكر أبو زيد: "رفع اليدين عند رؤية الهلال، واستقباله للدعاء، وقول بعضهم: (هل هلالك شهر مبارك علينا وعليك يا رب) فهذا القول بدعة، ولفظ: (وعليك يا رب) جهل عظيم، وسوء أدب مع الله تعالى"([3]).
3/1 زيادة الإنارة في رمضان والإكثار من القناديل المذهَّبة والملوَّنة:
قال ابن الحاج: ".... وبعضهم يجعل الماء الذي في القناديل ملوناً، وبعضهم يضم إلى ذلك القناديل المذهبة أو الملونة أو هما معاً، وهذا كله من باب السرف والخيلاء والبدعة وإضاعة المال ومحبة الظهور، والقيل والقال، فكيفما زادت فضيلة الليالي والأيام قابلوها بضدها، أسأل الله تعالى العافية بمنّه"([4]).
ولعل وجه التبديع فيها تخصيصها في رمضان دون سائر الشهور، ولربما احتيج إلى زيادة في الإنارة، لكثرة توافد الناس، فإن كانت زيادة الإنارة لأجل ذلك، فلا حرج بشرط الاعتدال فيها.
4/1 تخصيص قراءة آيات الصيام في صلاة العشاء لأول ليلة من رمضان([5]).
5/1 قراءة سورة القلم عشاء أول ليلةٍ من رمضان:
نُقِلَ عن الإمام أحمد استحباب قراءة سورة القلم في صلاة العشاء من أول ليلة من رمضان.
قال الإمام ابن مفلح: "واستحب أحمد أن يبتدئ التراويح بسورة القلم [اقرأ] لأنها أول ما نزل، وآخر ما نزل"([6]). ووافقه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية([7]).
وقد عقَّب على ذلك الشيخ بكر أبو زيد بقوله: "ولم أر لهذا الاستحباب دليلاً فليحرر"([8]).
2. بدع في أثناء الصيام:
1/2 صوم الحائض اعتقاداً للفضل:
قال ابن الحاج: "والعجب العجيب في صوم بعضهن في أيام حيضتها محافظةً منها على صوم رمضان على زعمهن"([9]).
2/2 تجويع الحائض نفسها وإفطارها على القليل التماساً للفضل:
قال ابن الحاج: "ومنهن من تفطر في أيام الحيض، لكنهن يجوّعن أنفسهن فيه فتفطر إحداهن على التمرة ونحوها، ويزعمن أن لهن في ذلك الثواب، وهذا بدعة، وهي آثمة في التديُّن بذلك"([10]).
3/2 الصمت عن الكلام في الصوم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمّا الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما، فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم"([11]).
4/2 تلاوة القصص في رمضان:
قال أبو بكر الطرطوشي: "نهى مالك أن يقص أحدٌ في رمضان بالدعاء، وحكى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء"([12]).
5/2 قراءة القرآن بالألحان:
قال الطرطوشي: "فصل القراءة بالألحان: فمن ذلك البدع المحدثة في الكتاب العزيز من الألحان والتطريب – إلى أن قال – قال مالك: ولا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبها في رمضان ولا في غيره؛ لأنه يشبه الغناء، ويُضحك بالقرآن، فيقال: فلانٌ أقرأ من فلان"([13]).
3. بدع عند الإفطار:
1/3 تعمد تأخير أذان المغرب بدعوى الاحتياط:(/54)
قال الحافظ ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام، زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجةٍ لتمكين الوقت زعموا، فأخّروا الفطور وعجّلوا السحور وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر، والله المستعان"([14]).
2/3 تأخير الفطر لمن يرى الفضل في تأخيره:
قال الإمام الشافعي: "وأحب تعجيل الفطر وترك تأخيره، وإنما أكره تأخيره إذا عمد ذلك كأنه يرى الفضل فيه"([15]).
وانظر كلام الحافظ ابن حجر في الفقرة السابقة.
3/3 زيادة ((وذكركم الله فيمن عنده)) في دعاء المفطر لمن فطّره:
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: أفطر الرسول صلى الله عليه وسلم عند سعد فقال: ((أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وأكل طعامكم الأبرار))([16]).
هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنّ بعضهم يزيد في آخره: ((وذكركم الله فيمن عنده)) وهي زيادة لا أصل لها، فالواجب الاقتصار على الوارد([17]).
4. بدع السحور:
1/4 إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلاً للسحور:
انظر: قول الحافظ ابن حجر في: (تعمد تأخير أذان المغرب بدعوى الاحتياط)([18]).
2/4 التسحير في رمضان وهو تنبيه الناس على السحور:
قال ابن الحاج: "وينهى المؤذنين عما أحدثوه في شهر رمضان من التسحير ؛ لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، ولم يكن من فعل من مضى، والخير كله في الاتباع لهم"([19]).
وقال محمد جمال الدين القاسمي: "ولا يخفى أنه حيث جرت العادة الآن بتنبيه الناس وإيقاظهم للسحور، أولاً: بطبل المسحر وطرقه الأبواب في الحارات والأزقة في آخر الليل، وثانياً: بضرب مدفعين في الولايات أو بندقيتين في الأقضية، الأول لتناول الطعام، والثاني للتهيؤ للإمساك عن الطعام والشراب، فاللازم ترك هذا الأذان([20]) الأول رأساً اكتفاءً بما مر، والصعود إلى المنارة إذا دخل الفجر الصادق كما رأيت ذلك ببعلبك، فإنه يؤذن المؤذن في فجر رمضان وغيره في وقته على المنارة، وهذا أقرب إلى الحالة السلفية"([21]).
3/4 النشيد بعد الأذان:
قال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي: "ثم هناك بدعة أخرى في رمضان، وهي أنه إذا فرغ المؤذن من أذان الإمساك المتقدم حاله يكون قد بقي لدخول الفجر ربع ساعة، أي خمس عشرة دقيقة، فإذا نزل المؤذن من المنارة يقف في آخر صفوف المصلين على مرتقى أو سدّة، وينشد نثراً ونظماً جملة تسمى "أمة خير الأنام"، لأن ذلك مطلعها، يحضّهم فيها على اغتنام ليالي الصيام، ويذكر فوز من قام بأوقات السحر بنغمةٍ خاصة، وكل هذا من البدع"([22]).
4/4 التلفظ بنية السحور:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "التلفظ بنية السحور بدعة"([23]).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ: "التلفظ بالنية لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، ولا التابعون، ولا أحد من الأئمة الأربعة، ولا السلف فهو محدث وبدعة، والنية محلها القلب، وهي قصد العبادة.
وقد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط إجماع وتبييت الصيام قبل الفجر في الفريضة، ومعنى ذلك: قصد الصيام ونيته بقلبه أنه يصوم غداً"([24]).
5/4 قول المتسحر: ((اللهم بارك لنا في سحورنا))([25]).
6/4 بدعة الإمساك قبل الفجر تعبداً:
قال الشيخ الألباني تعليقاً على حديث: ((إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته))، قال: "وإن من فوائد هذا الحديث إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة، لأنهم إنما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحّرون، ولو علموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة"([26]).
7/4 التعبد بترك السحور:
قال الشيخ محمود شلتوت عندما تكلم عن بعض استحسانات العقل في العبادات، قال: "ومنه الابتداع بقصد الحصول على زيادة المثوبة عند الله، ويُظن أن طريق هذا تحميل النفس مشقة في جنس ما يُتعبد به الله، وهذا تارةً يكون بإلحاق غير المشروع بالمشروع ؛ لأنه يزيد في المقصود من التشريع.
ومن أمثلة ذلك التعبد بترك السحور ؛ لأنه يضاعف قهر النفس المقصود من مشروعية الصوم"([27]).
5. بدع التراويح والوتر:
1/5 قراءة سورة الأنعام في ركعة واحدة:
قال السيوطي: "ومن البدع قراءة سورة الأنعام في ركعة في صلاة التراويح، فقراءتها في ركعة واحدة بدعة من وجوه:
أحدها: تخصيص ذلك بسورة الأنعام دون غيرها، فيوهم أن ذلك سنة فيها، دون غيرها، والأمر بخلاف ذلك.
الثاني: تخصيص ذلك بصلاة التراويح دون غيرها.
الثالث: ما فيه من التطويل على المأمومين، ولا سيما على من يجهل ذلك من عادتهم، فيقلق ويضجر ويسخط ويكره العبادة.(/55)
الرابع: ما فيه من مخالفة السنة من تقليل القراءة في الركعة الثانية عن الأولى، وقد عكس صاحب هذه البدعة قضية ذلك، وخالف الشريعة، ولا قوة إلا بالله"([28]).
2/5 الفصل بين كل ترويحتين بركعتين:
قال الطرطوشي: "جرت عادة الأئمة أن يفصلوا بين كل ترويحتين بركعتين خفيفتين يصلونهما أفذاذاً". وعلّق عليه المحقق بقوله: "وهي عادةٌ لا أصل لها في الشرع ولم يرد دليلٌ من قبل المقتدى بفعالهم"([29]).
3/5 الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه من الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح، ومن رفع أصواتهم بذلك، والمشي على صوتٍ واحد، فإن ذلك كله من البدع"([30]).
4/5 قول المؤذن: (الصلاة يرحمكم الله):
قال ابن الحاج: "وكذلك ينهى عن قول المؤذن بعد ذكرهم بعد التسليمتين من صلاة التراويح: (الصلاة يرحمكم الله) فإنه محدث أيضاً، والحدث في الدين ممنوع، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يذكر عن أحد من السلف فعل ذلك، فيسعنا ما وسعهم"([31]).
5/5 جواب المأموم في مواطن الذكر من قنوت الإمام ببعض الألفاظ:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "جواب المأموم على مواطن الذكر من قنوت الإمام بلفظ (حقاً) أو (صدقت) أو (صدقاً وعدلاً) أو (أشهد) أو (حق) ونحو ذلك، كلها لا أصل لها"([32]).
6/5 مسح الوجه بعد دعاء القنوت:
قال العز بن عبد السلام: "ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل"([33]).
7/5 دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "دعاء ختم القرآن داخل الصلاة في التراويح، عملٌ لا أصل له من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من هدي الصحابة رضي الله عنهم، ولم يرد فيه مرويٌ أصلاً، ومن ادعى فعليه الدليل"([34]).
8/5 تعمد تخفيف الصلاة بعد الختم:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنّب ما أحدثه بعضهم في الختم من أنهم يقومون في ليالي رمضان كلها في الغالب بحزبين فما فوقهما، فإذا كانت ليلة الختم التي ينبغي أن يزاد فيها على القيام المعهود لفضيلتها، فيصلي بعضهم فيها بنصف حزب ليس إلا، هو من سورة (والضحى) إلى آخر الختمة، وكان السلف رضوان الله عليهم يقومون تلك الليلة كلها، فجاء هؤلاء ففعلوا الضد من ذلك كما تقدم"([35]).
9/5 جمع آيات سجدات القرآن في الركعة الأخيرة من التراويح:
قال السيوطي: "وابتدع بعضهم بدعةً أخرى، وجمع آيات سجدات القرآن عقيب ختم القرآن في صلاة التراويح في الركعة الأخيرة، فيسجد بالمأمومين جميعاً"([36]).
10/5 جمع آيات الدعاء ويسمونها آيات الحرس:
قال أبو شامة: "وابتدع آخرون سرد جميع ما في القرآن من آيات الدعاء في آخر ركعة من التراويح بعد قراءة (سورة الناس)، فيطول الركعة الثانية على الأولى نحواً من تطويله بقراءة (الأنعام)([37]) مع اختراعه لهذه البدعة.
وكذلك الذين يجمعون آيات يخصونها بالقراءة ويسمونها آيات الحَرَس، ولا أصل لشيء من ذلك، فيعلم أن جميع ذلك بدعة، وليس شيء منها من الشريعة، بل هو مما يوهم أنه من الشرع وليس منه"([38]).
11/5 التواعد للختم:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنّب ما أحدثوه من البدع في تواعدهم للختم، فيقولون فلان يختم في ليلة كذا، وفلان يختم في ليلة كذا"([39]).
12/5 إحضار الكيزان وشرب الماء منه والتبرك به:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب في نفسه وينهى غيره عما أحدثه بعضهم من إحضارهم الكيزان وغيرها من أواني الماء في المسجد حين الختم، فإذا ختم القارئ شربوا من ذلك الماء، ويرجعون به إلى بيوتهم فيسقونه لأهليهم ومن شاءوا على سبيل التبرك، وهذه بدعة لم تنقل عن أحدٍ من السلف رضي الله عنهم"([40]).
13/5 سير الفقراء الذاكرين بين يدي القارئ إلى أن يصل إلى بيته.
14/5 ضرب الطبل والأبواق والدف أمام القارئ أثناء سيره إلى بيته.
15/5 استعمال الشمع للوقود في أوانٍ من ذهب أو فضة، ولا يخفى تحريمها لعدم الضرورة إليهما.
16/5 تعليق ختمة عند الموضع الذي يختمون فيه، فمنهم من يتخذها من شقق([41]) الحرير الملونة ويعلقون فيها القناديل([42]).
17/5 اعتقاد البعض أن في هذا الاجتماع بما فيه من البدع إظهارًا لشعائر الإسلام([43]).
18/5 انفراد المصلين للوتر عن الاقتداء بالإمام لمخالفته في المذهب:
قال الشيخ القاسمي: "أصل هذا الانفراد والتباين والتقسيم في المصلين هو أن الحنفية يرون صلاة الوتر ثلاث ركعات موصولة بتسليمة واحدة، والشافعية يرون فصل الركعة الأخيرة عما قبلها وأداء الثلاثة بتسليمتين – إلى أن قال -: والقصد أني أرى مصلي التراويح مع إمام المسجد ينبغي لهم إتمام الاقتداء به في صلاته إلى آخرها، وعدم الانفراد عنه"([44]).(/56)
19/5 استحداث صلاة تسمى صلاة القدر بأن يصلوا ركعتين مع الإمام وفي آخر الليل يصلون تمام المائة.
وقد سئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية فأجاب قائلا: "الحمد لله، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها والذي تركها، فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحدٌ من أئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة"([45]).
20/5 قولهُم بعد الركعتين الأوليين وقبل الأُخريين: "الصلاة والسلام عليك..." والترضي عن الصحابة.
قال الشيخ علي محفوظ: "ومن هنا يعلم كراهة ما أحدث في صلاة التراويح من قولهم عقب الركعتين الأوليين منها: (الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله) ونحو ذلك قبل الأخريين، وبعضهم يترضى عن الصحابة، فَعِقَبَ الأولى عن أبي بكر والثانية عن عمر، والثالثة عن عثمان، والرابعة عن علي، وكل ذلك شَرْعٌ لما لم يشرعه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم"([46]).
21/5 صلاة التراويح بعد المغرب:
وهو توقيت أحدثه الرافضة؛ ذلك لأنهم يكرهون صلاة التراويح، ويزعمون أنها بدعةٌ أحدثها عمر بن الخطاب رضي الله عنه([47]).
وقد سئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية، فأطال في الجواب ثم قال: "... فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة"([48]).
22/5 رفع الصوت في الدعاء والزَعْق:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه بعد الختم من الدعاء برفع الأصوات والزعقات، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وبعض هؤلاء يعرضون عن التضرع والخُفْية بالعياط والزعقات، وذلك مخالف للسنة المطهرة"([49]).
6. بدع العشر الأواخر من رمضان:
1/6 تخصيص آخر جمعة من رمضان بصلاةٍ معينة:
نقل الشقيري عن كتاب شرح المواهب فقال: "وأقبح من ذلك ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمس في هذه الجمعة عقب صلاتها، زاعمين أنها تكفر صلوات العام أو العمر المتروكة، وذلك حرام لوجوه لا تخفى"([50]).
2/6 تعظيم آخر خميس من رمضان:
قال الشيخ حسن بن حسين بن علي: "وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره، وظاهر كلام الشيخ([51])، بل صريحهُ: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى"([52]).
3/6 النشيد في وداع رمضان:
قال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي في هذا النشيد: "هذه العادة المستهجنة جارية في أغلب المساجد، ذلك أنه إذا بقي من رمضان خمس ليالٍ أو ثلاث يجتمع المؤذنون والمتطوّعون من أصحابهم فإذا فرغ الإمام من سلام ووتر رمضان تركوا قراءة المأثور من التسبيح، وأخذوا يتناوبون مقاطيع منظومة في التأسّف على انسلاخ رمضان، فمتى فرغ أحدهم من نشيد مقطوعة بصوته الجهوري أخذ رفقاؤه بمقطوعة دورية، باذلين قصارى جهدهم في الصيحة والصراخ بضجيج يصم الآذان، ويسمع الصم، ويساعدهم على ذلك جمهور المصلين بقرار نغمهم"([53]).
4/6 قول الخطيب في آخر جمعة: (لا أوحش الله منك يا شهر رمضان):
قال الشيخ الشقيري: "أما قول الخطباء على المنابر في آخر جمعة من رمضان: (لا أوحش الله منك يا شهر رمضان، لا أوحش الله منك يا شهر القرآن، يا شهر المصابيح، يا شهر التراويح، يا شهر المفاتيح) فلا شك أنه جهل فاضح، وعجيب هذا منهم، ومن مؤلفي الدواوين، حيث يلفظون بهذا الكلام السبهلل على الناس، مع علمهم أنهم محتاجون إلى فهم آية واحدة، وحديث واحد من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم"([54]).
5/6 بدعة حفظية رمضان (حفائظ) في آخر جمعة من رمضان:
وهي كتابة أوراق يسمونها (حفائظ) في آخر جمعة من رمضان، ويسمون هذه الجمعة بالجمعة اليتيمة، فيكتبون هذه الأوراق حال الخطبة، ومما يكتب فيها: (لا آلاء إلا آلاؤك كعسهلون...).
قال الشيخ بكر أبو زيد: "الدعاء في آخر جمعة من رمضان، والخطيب على المنبر بقولهم: "لا آلاء إلا آلاؤك، سمعٌ محيط علمك كعسهلون، وبالحق أنزلناه، وبالحق نزل" بدعة ضلالة، ودعاء مخترع، وطلاسم فاسدة، وتسمى عندهم التحويطة"([55]).
6/6 اجتماع الناس ليلة سبع وعشرين لبيع الحلوى، والاختلاط الحاصل:
قال الإمام الطرطوشي: "ومن البدع اجتماع الناس بأرض الأندلس([56]) على ابتياع الحلوى ليلة سبعٍ وعشرين من رمضان.
وكذلك على إقامة (ينير)([57])، بابتياع الفواكه، كالعجم، وإقامة العنصرة، وخميس إبريل([58]) بشراء المجبنات والإسفنج، وهي من الأطعمة المبتدعة ([59])، وخروج الرجال جميعاً أو أشتاتاً مع النساء مختلطين للتفرّج"([60]).
7/6 تخصيص ليلة العيد بقيام:
ويروى فيه حديث لا يصح: ((من قام ليلة العيدين محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([61]).(/57)
قال الإمام أحمد بن حنبل: "أما قيام ليلة الفطر فما يعجبني، ما سمعنا أحداً فعل ذلك إلا عبد الرحمن وما أراه لأن رمضان قد مضى، وهذه ليست منه، وما أحب أن أفعله، وما بلغنا من سلفنا أنهم فعلوه، وكان أبو عبد الله يصلي ليلة الفطر المكتوبة، ثم ينصرف، ولم يصلها معه قطّ، وكان يكرهه للجماعة"([62]).
8/6 التزام الصمت في الاعتكاف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم"([63]).
قال موفق الدين ابن قدامة عند ذكره ِلمسائل الاعتكاف: "فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام"([64]).
7. بدع متفرقة:
1/7 استئجار القراء في رمضان:
قال الشيخ الشقيري: "أما استئجار القراء للقراءة في ليالي رمضان بالأجرة فبدعة مذممة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا القرآن واعملوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به)) ([65])"([66]).
2/7 الذهاب إلى المقابر:
قال الشيخ الشقيري: "وذهابهم إلى المقابر في يومي العيدين ورجب وشعبان ورمضان".
3/7 تخصيص رمضان بالصلاة والصيام دون سائر الأيام:
قال الشيخ الشقيري: "اعلم أن من الضلال الكبير ترك غالب الناس للصلاة طول السنة، فإذا ما جاء شهر رمضان صلوا وصاموا وطقطقوا بالسبح"([67]).
4/7 الاحتفال بذكرى غزوة بدر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وللنبي صلى الله عليه وسلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، .. وخطب متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً، وإنما يفعل مثل هذا النصارى، الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعياداً، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتُّبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه"([68]).
"ومما أحدث في هذا الشهر المبارك الاحتفال بذكرى غزوة بدر، وذلك أنه إذا كانت ليلة السابع عشر من شهر رمضان، اجتمع الناس في المساجد وأغلبهم من العامة، وفيهم من يدعي العلم، فيبدؤون احتفالهم بقراءة آيات من الكتاب الحكيم، ثم ذكر قصة بدر وما يتعلق بها من الحوادث، وذكر بطولات الصحابة رضوان الله عليهم والغلو فيها، وإنشاء بعض القصائد المتعلقة بهذه المناسبة.
وفي بعض البلدان الإسلامية تحتفل الدولة رسمياً بهذه المناسبة فيحضر الاحتفال أحد المسؤولين فيها، ولا يخفى ما يصاحب هذه الاحتفالات من الأمور المنكرات كالاجتماع في المساجد لغير ما عبادة شرعية، أو ذكر مشروع، وما يصاحب هذه الاجتماعات من اللغط والتشويش ونحو ذلك من الأمور التي تصان بيوت الله عنها.
وكذلك دخول بعض الكفار إلى المسجد كالمختصين منهم في مجال مكبرات الصوت، أو الإضاءة، أو الصحافة والإعلام، وكذلك دخول المصورين للمسجد لتصوير هذه المناسبة بالإضافة إلى اعتبار هذا الاجتماع سنة تقام في مثل هذا اليوم، أو هذه الليلة في كل عام.
فتخصيص هذه الليلة – ليلة السابع عشر من رمضان – بالاجتماع والذكر، وإلقاء القصائد، وجعلها موسماً شرعياً ليس له مستند من الكتاب ولا من السنة، ولم يؤثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، أو التابعين أو السلف الصالح رحمهم الله أنهم احتفلوا بهذه المناسبة في هذه الليلة أو غيرها"([69]).
5/7 الخطبة عقب الختم:
قال ابن الحاج: "والخطب الشرعية معروفة مشهورة ولم يذكر فيها خطبة عند ختم القرآن في رمضان ولا غيره، وإذا لم تذكر فهي بدعة ممن فعلها سيما إن كان الموضع معروفاً مشهوراً، مثل أن يكون المسجد الجامع، أو يكون المسجد منسوباً إلى عالم معروف بالخير والصلاح، أو يكون منسوباً إلى المشيخة إلى غير ذلك، ففعل ذلك فيه أشد كراهة لاقتداء كثير من عامة الناس به، وإن كان ذلك ممنوعاً في حق المساجد كلها لكن يتأكّد المنع في حق من يقتدى به"([70]).
([1]) مجموع الفتاوى (25/132-133) وانظر فتاوى الشيخ ابن باز (2/157، 158) كتاب الدعوة.
([2]) الإبداع في مضار الابتداع (ص303).
([3]) تصحيح الدعاء (ص509).
([4]) المدخل لابن الحاج (2/449-450) وانظر: إصلاح المساجد للقاسمي (ص101).
([5]) انظر: تصحيح الدعاء (ص421) لبكر أبو زيد.
([6]) الفروع لابن مفلح (1/548) وانظر طبقات ابن أبي يعلى (1/96).
([7]) انظر الاختيارات للبعلي (64).
([8]) تصحيح الدعاء (ص421).
([9]) المدخل لابن الحاج (2/273) وانظر: السنن والمبتدعات (ص18،141).
([10]) المدخل (2/273).
([11]) مجموع الفتاوى (25/292) وانظر: المجموع للنووي (6/376).
([12]) كتاب الحوادث والبدع (ص65) وانظر (ص109).
([13]) المصدر السابق (ص83).
([14]) فتح الباري (4/199).
([15]) الأم (2/128).
([16]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/118)، وابن أبي شيبة (3/100)، وعبد الرزاق (4/311)، وصححه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 12/107).
([17]) انظر: تصحيح الدعاء (509)، وصفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم للهلالي والحلبي (69).(/58)
([18]) انظر: فتح الباري (4/199)، وإصلاح المساجد في البدع والعوائد للقاسمي (ص135-136).
([19]) المدخل (2/414).
([20]) يقصد به أذان يؤذّن به للسحور، والذي هو محدث وبدعة في الدين.
([21]) إصلاح المساجد (ص136).
([22]) إصلاح المساجد (ص136).
([23]) تصحيح الدعاء (ص509).
([24]) المنظار في بيان كثير من الأخطاء الشائعة (ص50).
([25]) تصحيح الدعاء (ص509).
([26]) تمام المنة (ص418)، وانظر فتح الباري (4/199).
([27]) البدعة أسبابها ومضارها (ص32).
([28]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص192)، وانظر : الباعث على إنكار البدع (ص139)، وتصحيح الدعاء (421).
([29]) الحوادث والبدع للطرطوشي تحقيق علي حسن عبد الحميد (ص59-60).
([30]) المدخل لابن الحاج (2/443).
([31]) المصدر السابق .
([32]) تصحيح الدعاء (ص423).
([33]) الفتاوى (ص47) للعز بن عبد السلام. وللشيخ العلامة بكر أبو زيد رسالة في مرويّات مسح الوجه باليدين بعد الدعاء.
([34]) تصحيح الدعاء (ص423-424) وله فيه رسالة مفردة.
([35]) المدخل (2/443).
([36]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص192)، وانظر: المدخل (2/446) وتصحيح الدعاء (ص422).
([37]) تقدم الكلام عليها وقول السيوطي فيها.
([38]) الباعث على إنكار البدع (ص140)، وانظر: تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص331-332)، وتصحيح الدعاء (ص422) والبدع الحولية لعبد الله التويجري (ص330).
([39]) المدخل (2/451).
([40]) المصدر السابق.
([41]) نوع من الثياب المعروفة السبيبة المستطيلة انظر: لسان العرب (10/184) مادة: شقق.
([42]) انظر: فيما تقدم المدخل لابن الحاج (2/451) وما بعدها.
([43]) انظر: البدع الحولية (ص331-334).
([44]) إصلاح المساجد (ص86-87).
([45]) مجموع الفتاوى (23/122) وانظر: السنن والمبتدعات للشقيري (ص139).
([46]) الإبداع (ص285).
([47]) انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية للآلوسي (ص255).
([48]) مجموع الفتاوى (23/121) وانظر البدع الحولية (327-329).
([49]) المدخل (2/444)، وانظر: تفسير الطبري (12/485-487).
([50]) السنن والمبتدعات (ص139)، وانظر: المحلى لابن حزم (3/37) والمنظار لصالح آل الشيخ (ص44).
([51]) لعله يقصد الإمام محمد بن عبد الوهاب.
([52]) الدرر السنية في الفتاوى النجدية (5/261).
([53]) إصلاح المساجد (ص146)، وانظر: تصحيح الدعاء (ص510).
([54]) السنن والمبتدعات (ص143)، وانظر: إصلاح المساجد (ص146) وتصحيح الدعاء (ص510).
([55]) تصحيح الدعاء (ص510) وانظر: السنن والمبتدعات (ص140) ونقل عن الحافظ ابن حجر أنه كان ينكره إذا رأى الناس يفعلونه، ويُروى فيه حديث لا يصح، وقد تكلم فيه الإمام العجلوني وأنكره كما في كشف الخفاء (2/348).
([56]) وليس هذا قاصراً على أرض الأندلس ردها الله للمسلمين، بل هو محدث في كل البلدان، والله المستعان.
([57]) وهي ما يسمونه "ليلة عيد الميلاد" انظر الأمر بالاتباع للسيوطي (ص145).
([58]) وهو ما يسمى بخميس البيض وهو تشبه بالكفار، انظر: تشبه الخسيس بأهل الخميس للذهبي (ص3-7) والأمر بالاتباع (ص143).
([59]) لمشابهتها بالكفار.
([60]) كتاب الحوادث والبدع (ص150-151)، وانظر: الصوم في ضوء الكتاب والسنة للدكتور عمر الأشقر (ص47).
([61]) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيام باب فيمن قام في ليلتي العيدين (1782) والبيهقي في الكبرى (3/319)، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/328): "إسناده ضعيف"، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (521): "ضعيف جداً".
([62]) انظر: بدائع الفوائد (4/93) والسنن والمبتدعات (ص153).
([63]) مجموع الفتاوى (25/292).
([64]) الكافي (2/293) وانظر: المجموع شرح المهذب (6/376).
([65]) رواه البيهقي في السنن الصغير (1/337) رقم (950)، وفي الكبرى (2/17)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/168) والطبراني في الأوسط (8/344)، وأحمد بنحوه (3/428)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/95): "رواه أحمد وأبو يعلى باختصار والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات".
([66]) السنن والمبتدعات (ص143).
([67]) المصدر السابق (ص140).
([68]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/614-615).
([69]) البدع الحولية (ص339).
([70]) المدخل لابن الحاج (2/444) وانظر: كتاب الحوادث والبدع (ص64) والباعث على إنكار البدع (ص57).
السحور والفطر أحكام وآداب
أولاً: السحور:
تعريفه: مأخوذ من السحر، والسحر: قُبيل الصبح ([1]).
قال ابن الملقن: "وكأن السحور سمي باسم زمنه؛ لأنه يفعل في السحر قبيل الفجر، ويدخل وقته بنصف بنصف الليل"([2]).
وقال ابن دقيق العيد في ضبط السحور: "بالفتح ما يتسحر به، وبالضم الفعل هذا هو الأشهر"([3]).
حكم السحور:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة))([4]).(/59)
قال البخاري: "باب بركة السحور من غير إيجاب؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا، ولم يذكروا السحور"([5]).
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ السحور مندوب إليه"([6]).
وقال النووي: "فيه الحث على السحور، وأجمع العلماء على استحبابه، وأنه ليس بواجب"([7]) .
وقال ابن الملقن: "أجمع العلماء على استحباب السحور، وأنّه ليس بواجب، وإنما الأمر به أمر إرشاد"([8]) .
فضله:
أ - السحور بركة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة))([9]).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو الغداء المبارك، يعني السحور))([10]).
وعن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فقال: ((إنها بركة أعطاكم الله إياها، فلا تدعوه))([11]).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على استحباب السحور للصائم، وتعليل ذلك بأن فيه بركة، وهذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية، فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية لقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إجحاف به"([12]).
وقال ابن حجر: "والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوِي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام"([13]).
ب ـ السحور من خصائص هذه الأمة:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السحر))([14]).
قال الخطابي: "معنى هذا الكلام: الحث على التسحر، وفيه الإعلام بأنّ هذا الدين يسر لا عسر فيه، وكان أهل الكتاب إذا ناموا بعد الإفطار لم يحل لهم معاودة الأكل والشرب، وعلى مثل ذلك كان الأمر في أول الإسلام، ثم نسخ الله عز وجل ذلك، ورخص في الطعام والشراب إلى وقت الفجر"([15]).
وقال القرطبي: "الفصل: الفرق، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، وهذا الحديث، يدل على أنّ السحور من خصائص هذه الأمة ومما خُفِّف به عنهم"([16]).
ج- صلاة الله عز وجل وملائكته على المتسحرين:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السحور كله بركة؛ فلا تدعوه ولو أن يجْرع أحدكم جرعةً من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين))([17]).
استحباب تأخيره:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)([18]).
قال المهلب: "هذا يدل على تأخير السحور؛ ليتقوى به على الصوم، وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول"([19]).
وقال النووي: "فيه الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر"([20]).
وقال ابن حجر: "في قوله (قدر خمسين آية) أي متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة ولا سريعة ولا بطيئة"([21]).
وقال ابن أبي جمرة: "كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحر من جوف الليل لشق أيضاً على بعضهم ممن يغلب عليه النوم"([22]).
أفضل السحور:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم سحور المؤمن التمر))([23]).
قال الطيبي: "وإنما مدحه في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور بركة، وتخصيصه بالتمر بركة على بركة... ليكون المبدوء به والمنتهى إليه البركة"([24]).
الاقتصاد في طعام السحور:
قال ابن دقيق العيد: "وللمتصوفة وأرباب الباطن كلام تشوفوا فيه إلى اعتبار معنى الصوم وحكمته، وهو كسر شهوة البطن والفرج، وقالوا: إن من لم يتغير عليه عادته من مقدار أكله لا يحصل له المقصود من الصوم، وهو كسر الشهوتين، والصواب ـ إن شاء الله ـ أن ما زاد في المقدار حتى تُعْدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب، كعادة المترفين في التأنّق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد بها. وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق، وقد يختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم، واختلاف مقدار ما يستعملون"([25]).
إذا سمع النداء والإناء في يده:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه))([26]).(/60)
قال الخطابي: "قلت: هذا على قوله: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))، أو يكون معناه: أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح، مثل أن تكون السماء مغيمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع، لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة، ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً.
فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ؛ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشارب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"([27]).
وقال البيهقي: "وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر"([28]).
وقت الإمساك:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187].
قال قتادة في تفسير الخيط الأبيض والأسود: "هما علمان وحدّان بيِّنان، فلا يمنعكم أذان مؤذن مراء أو قليل العقل من سحوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل، وقد يرى بياض ما على السحر يقال له: الصبح الكاذب، كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقة معترضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا"([29]) .
قال الطبري: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فقال بعضهم: يعني بقوله: {الْخَيْطُ الأبْيَضُ} ضوء النهار، وبقوله: {الْخَيْطِ الأسْوَدِ} سواد الليل... وقال آخرون: الخيط الأبيض هو ضوء الشمس، والخيط الأسود هو سواد الليل ـ ثم قال ـ: وأولى التأويلين بالآية، التأويل الذي رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (({الْخَيْطُ الأبْيَضُ} بياض النهار، و{الْخَيْطِ الأسْوَدِ} سواد الليل)). وهو المعروف من كلام العرب"([30]) .
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار))([31]).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أنزلت: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار)([32]).
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير([33])))([34]).
وعن عائشة رضي الله عنها: أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)).
قال القاسم: "ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا"([35]) .
قال ابن عبد البر: "وفي هذا دليل على أنّ السحور لا يكون إلا قبل الفجر؛ لقوله: ((إن بلالاً ينادي بليل)). ثم منعهم من ذلك عند أذان ابن أم مكتوم، وهو إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش فشذ، ولم يعرج على قوله، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع علماء المسلمين، فلا وجه للكلام فيه"([36]) .
وقال أيضًا: "وقد أجمع العلماء على أن من استيقن الصباح لم يجز له الأكل ولا الشرب بعد ذلك"([37]) .
قال النووي: "في هذه الأحاديث بيان الفجر الذي يتعلق به الأحكام. وهو الفجر الثاني الصادق"([38]) .
وقال أيضًا: "هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، قال ابن المنذر: وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار، قال: وبه نقول ... وحكى وأصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه أنهما جوّزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس"([39]).
وقال ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل على من يريد الصيام، زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس"([40]).
([1]) الصحاح (2/678) مادةسحر.
([2]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/187).
([3]) إحكام الأحكام (2/209).
([4]) رواه البخاري كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب (1923).
([5]) صحيح البخاري كتاب: الصوم باب: رقم (20).(/61)
([6]) الإجماع (58).
([7]) شرح صحيح مسلم (7/213).
([8]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/188).
([9]) تقدم تخريجه.
([10]) رواه ابن حبان في صحيحه (الإحسان – كتاب الصوم باب السحور (3464)، والطبراني في الكبير (18/322)، وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (1068).
([11]) رواه الإمام أحمد (5/270)، والنسائي في الكبرى كتاب الصيام، باب فضل السحور (2472)، وفي المجتبى كتاب الصيام باب فضل السحور (2162)، وحسنه المنذري في الترغيب (1/620) وقال الألباني: صحيح. صحيح الترغيب (1096).
([12]) إحكام الأحكام (2/208).
([13]) فتح الباري (4/140).
([14]) رواه مسلم كتاب الصوم، باب الحث على السحور وتأخيره (1095).
([15]) معالم السنن (2/89).
([16]) المفهم (3/156).
([17]) رواه الإمام أحمد (3/12، 44)، وللجملة الأخيرة منه شاهد من حديث ابن عمر: رواه ابن حبان في صحيحه، كتاب الصوم، باب السحور (3467)، والطبراني في الأوسط (1/99)، وأبو نعيم في الحلية (8/320)، وغيرهم، قال المنذري في الترغيب (1/621): "إسناده قوي"، وحسَّنه بمجموع طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة (1654).
([18]) رواه البخاري كتاب الصوم، باب قدركم بين السحور وصلاة الفجر (1921)، ومسلم كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره (1097).
([19]) شرح ابن بطال على البخاري (4/44).
([20]) شرح مسلم (7/208).
([21]) فتح الباري (4/138).
([22]) بهجة النفوس (2/195) بتصرّف.
([23]) رواه أبو داود كتاب: الصيام، باب: من سمى السحور الغداء (2345)، وابن حبان في: صحيحه (الإحسان: كتاب الصوم باب السحور (3475)، والبيهقي في: الكبرى كتاب: الصيام، باب: ما يستحب من السحور (4/237). وصححه الألباني في الصحيحة (562).
([24]) شرح الطيبي على المشكاة (4/157).
([25]) إحكام الأحكام (2/209).
([26]) رواه الإمام أحمد (2/423)، وأبو داود كتاب الصيام، باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده (2333)، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (1/426)، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (1394).
([27]) معالم السنن (2/91).
([28]) السنن الكبرى (4/218).
([29]) رواه الطبري في تفسيره (3/510).
([30]) المرجع السابق (3/509) وما بعدها باختصار.
([31]) رواه البخاري: الصوم، باب {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم...} (1916)، ومسلم: الصيام باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1090).
([32]) رواه البخاري: الصوم، باب {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم..} (1917).
([33]) رواه مسلم: الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1094).
([34]) يستطير: ينتشر ويمتد، انظر الصحاح للجوهري (2/728) مادة (طير).
([35]) رواه البخاري: الصوم، باب: لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال (1919).
([36]) التمهيد (10/62).
([37]) المرجع السابق (10/63).
([38]) شرح صحيح مسلم (8/212).
([39]) المجموع (6/324) باختصار.
([40]) فتح الباري (4/199).
ثانيًا: الفطر:
تعريفه: "الفَطْر للصائم، والاسم الفِطْر، والفِطْرُ: نقيضُ الصوم"([1]).
وقال الجوهري: "الفطور: ما يفطر عليه"([2]).
وقت الإفطار:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187].
قال الطبري: "وأما قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} فإنه تعالى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل. فدل بذلك على أن لا صوم بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم"([3]).
وقال القرطبي في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}: "أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف، وإلى غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ... فَشَرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوّز الأكل حتى يتبين النهار"([4]).
وقال ابن كثير: "يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً"([5]).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم))([6]).
قال الخطابي: "قوله: ((فقد أفطر الصائم)) فمعناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل، وقيل: معناه أنه قد دخل في وقت الفطر، وحان له أن يفطر، كما قيل: أصبح الرجل، إذا دخل في وقت الصبح، وأمس وأظهر، كذلك"([7]).
وقال النووي: "قال العلماء: كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين، ويلازمهما؛ وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في وادٍ ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس، فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء، والله أعلم"([8]).(/62)
قال ابن الملقن: "الإشارة في الأول إلى جهة المشرق وفي الآخر إلى جهة المغرب، وهما متلازمان في الوجود، إذ لا يقبل الليل إلا إذا أدبر النهار"([9]).
وقال أيضا: "يستفاد من الحديث بيان وقت الصوم وتحديده، والرد على أهل الكتاب وغيرهم من الشيعة الذين قالوا: لا يفطر حتى تظهر النجوم، وأن الأمر الشرعي أبلغ من الحسّي، وأن العقل لا يقضي على الشرع، بل هو قاضٍ عليه، حيث جعل دخول الليل فطراً شرعاً"([10]).
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: ((يا فلان، قم فاجْدَح([11]) لنا))، قال: إن عليك نهاراً، قال: ((انزل فاجدْح لنا))، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت، قال: ((انزل فاجْدح لنا))، قال: إن عليك نهاراً، قال: ((انزل فاجْدح لنا))، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم))([12]).
قال النووي: "معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياماً، وكان ذلك في شهر رمضان، كما صرّح به في رواية يحيى بن يحيى فلما غربت الشمس أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجدْح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس، فظن أن الفطر لا يحل إلاّ بعد ذهاب ذلك... وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أنّ ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظراً تاماً، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء"([13]).
وقال ابن حجر: "في الحديث أيضاً استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً، بل متى تحقق غروب الشمس حلّ الفطر"([14]).
وقال ابن عبد البر: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاكٌ، هل غابت الشمس أم لا؟ لأن الفرض إذا لزم بيقين، لم يخرج عنه إلا بيقين، والله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}. وأول الليل مغيب الشمس كلها في الأفق عن أعين الناظرين، ومن شك لزمه التمادي حتى لا يشك في مغيبها"([15]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويستحب التعجيل إذا غاب القرص مع بقاء تلك الحمرة الشديدة، ويستدل على مغيبها باسوداد ناحية المشرق، وإذا تيقن أو غلب على ظنه مغيبها جاز له الفطر، وليس عليه أن يبحث بعد ذلك. قاله أصحابنا، فأما مع الشك فلا يجوز له الفطر، والاختيار أن لا يفطر حتى يتيقن الغروب"([16]).
وقال ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان... زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة... وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلاّ بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، أخروا الفطور وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان"([17]).
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، عن سؤال ورد إليها بشأن المسافر بالطائرة، متى يفطر؟ بقولها: "الأصل أن لكل شخص في إمساكه في الصيام وإفطاره وأوقات صلاته حكم الأرض التي هو عليها أو الجو الذي يسير فيه، فمن غربت عليه الشمس في مطار الظهران مثلاً، أفطر وصلّى المغرب، وأقلعت به الطائرة متجهة إلى الغرب، ورأى الشمس بعدُ باقية فلا يلزمه الإمساك، ولا إعادة صلاة المغرب؛ لأنه وقت الإفطار أو الصلاة له حكم الأرض التي هو عليها، وإن أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس بدقائق واستمر معه النهار فلا يجوز له أن يفطر، ولا أن يصلي المغرب حتى تغرب شمس الجو الذي يسير فيه حتى ولو مرّ بسماء بلد أهلها قد أفطروا وصلوا المغرب وهو في سمائها يرى الشمس... وهذا هو مقتضى الأدلة الشرعية، قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، وقال: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))([18])، ولكن لو نزلوا في مكان قد غربت فيه الشمس صار لهم حكم ذلك المكان في الصوم والصلاة مدة وجودهم فيه([19]).
استحباب تعجيله:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))([20]).
قال ابن عبد البر: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاك هل غابت الشمس أم لا؟ لأن الفرض إذا لزم بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين"([21]).(/63)
وقال المهلب: "إنّما حضّ عليه السلام على تعجيل الفطر؛ لئلا يزاد في النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة في فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام"([22]).
وقال القاضي عياض: "ظاهره أنه عليه السلام أشار أن فساد الأمور يتعلق بتغيُّر هذه السنة التي هي تعجيل الفطر، وأن تأخيره ومخالفة السنة في ذلك كالعلم على فساد الأمور"([23]).
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم))([24]).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على الرد على المتشيعة الذين يؤخرون إلى ظهور النجم، ولعل هذا هو السبب في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر؛ لأنهم إذا أخروه كانوا داخلين في فعل خلاف السنة، ولا يزالون بخير ما فعلوا السنة"([25]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون))([26]).
قال الطيبي: "في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتابين، وأن في موافقتهم ثلماً للدين، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}"([27])[المائدة:51].
قال ابن الملقن: "كون الناس تفعله بخير، وأن الدين لم يزل ظاهراً بتعجيله في الرواية التي ذكرناها لما فيه من إظهار السنة، فإن الخير كله في متابعتها والشر كله في مخالفتها، وكانت الصحابة رضي الله عنهم إذا خُذلوا في أمر فتشوا على ما تركوا من السنة، فإذا وجدوه علموا أن الخذلان إنما وقع بترك تلك السنة، فلا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ما حافظوا على سنة تعجيل الفطر، وإذا أخروه كان علامة على فسادٍ يقعون فيه"([28]).
قال ابن حجر: "ظهور الدين مستلزم لدوام الخير"([29]).
عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله – يعني ابن مسعود – قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية زاد: والآخر أبو موسى([30]).
قال الطيبي: "يعني تَمَسّك ابن مسعود بالعزيمة من السنة، وأبو موسى بالرخصة فيها"([31]).
قال القاري - متعقباً كلام الطيبي -: "وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط، أما إذا كان الخلاف قولياً فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل، وأبو موسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلاّ فالرخصة متفق عليها عند الكل، والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة، وعمل أبي موسى على بيان الجواز"([32]).
قال عمرو بن ميمون: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأ سحوراً"([33]).
الفطر قبل الصلاة:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ([34]).
وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً لم يصل حتى نأتيه برطب وماء ([35]).
قال محمود خطاب السبكي: "وفي الحديث استحباب تعجيل الفطر قبل صلاة المغرب"([36]).
ما يفطر عليه:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ([37]).
قال ابن العربي: "الحكمة ـ والله أعلم ـ في الفطر على التمر ما فيه من البركة، وأنها أفضل المطعومات، فتعقُبُ ليلاً أفضلَ العبادات في النهار، والماء أفضل المشروبات فيكون بدلها"([38]).
وقال الشوكاني: "وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف الصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة، وإذا كانت العلة كونه حلواً، والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه حلاوة فبفحوى الخطاب، وما كان مساوياً له فبلحنه"([39]).
يقول الدكتور قباني في بيان فوائد الفطر على التمر:
"فالصائم يستنفد في نهاره عادة معظم وقود جسده، أي: يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد هو الذي يسبب ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل وزوغان في البصر وعدم قدرة على التفكير والحركة؛ لذا كان من الضروري أن نمدّ أجسامنا بمقدار وافر من السكر ساعة الإفطار، فالصائم المتراخي المتكاسل في أواخر يوم صيامه، تعود إليه قواه سريعاً ويدب النشاط إلى جسمه في أقل من ساعة إذا اقتصر في إفطاره على المواد السكرية ببضع تمرات مع كأس ماء أو كأس حليب، وبعد ساعة يقوم الصائم إلى تناول عشائه المعتاد، ولهذا النمط من الإفطار ثلاث فوائد:(/64)
1- أن المعدة لا ترهق بما يقدم إليها من غذاء دسم وفير، بعد أن كانت هاجعة نائمة طوال ثماني عشرة ساعة تقريباً، بل تبدأ عملها بالتدريج في هضم التمر السهل الامتصاص، ثم بعد نصف ساعة يقدم إليها الإفطار المعتاد.
2- أن تناول التمر أولاً يحد من جشع الصائم، فلا يقبل على المائدة ليلتهم ما عليها بعجلة دون مضغ أو تذوق.
3- أن المعدة تستطيع هضم المواد السكرية من التمر خلال نصف ساعة... فيزول الإحساس بالدوخة والتعب سريعاً"([40]).
هل يقدم الطعام الحلو على الماء عند فقد التمر؟
قال ابن عثيمين: "إذا كان عند الإنسان عسل وماء، فأيهما يقدم الماء أو العسل؟ يقدّم الماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن لم، فعلى ماء فإنه له طهور)) ولكن لا بأس بأن يشرب الماء ثم يأكل العسل، وعلى كلّ يفطر على الماء مقدماً على غيره، فإن لم يجد ماء ولا شراباً آخر ولا طعاماً ينوى الفطر بقلبه، ويكفي"([41]).
ما يسن من الذكر عند الإفطار:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله))([42]).
قال الطيبي: "((ثبت الأجر)) بعد قوله: ((ذهب الظمأ)) استبشار منهم؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد أن يستلذ بما أدركه مزيد استلذاذ ذكر تلك المشقة، ومن ثم حمد أهل السعادة في الجنة بعد ما أفلحوا بقوله: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}"([43])[فاطر:34].
وقال القاري: "((وابتلت العروق)) أي: بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش، وقال: ((ثبت الأجر)) أي زال التعب وحصل الثواب، وهذا حث على العبادات، فإن التعب يسير لذهابه وزواله، والأجر كثير لثباته وبقائه"([44]).
التقليل من الطعام وعدم الإسراف:
قال الله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة) ([45]).
قال ابن العربي: "والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء، فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام، وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق، فيكون ممن قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]. وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر، فذلك محرم أيضاً"([46]).
وقال القرطبي: "قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبّط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه"([47]).
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا، وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة)) ([48]).
قال المناوي: "وهذا الخير جامع لفضائل تدبير المرء نفسه، والإسراف يضر بالجسد والمعيشة، والخيلاء تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس، وبالآخرة حيث تكسب الإثم"([49]).
عن المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))([50]).
قال ابن رجب: "وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها... قال الحارث (الطبيب): الذي قتل البريّة، وأهلك السباع في البرية، إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام.
وأما منافع تقليل الطعام بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى، والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك"([51]).
وقال المباركفوري: "جعل البطن أولاً وعاءً كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شر الأوعية؛ لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوّم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شراً منها"([52]).
وقال محمد بن واسع: "من قلّ طعامه، فهم، وأفهم، وصفا، ورقَّ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد"([53]).
وقال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسِّي القلب"([54]).
وسئل ابن عثيمين عن الإفراط في إعداد الأطعمة للإفطار، هل يقلّل من ثواب الصوم؟
فأجاب: "لا يقلل من ثواب الصيام، والفعل المحرم بعد انتهاء الصوم لا يقلل من ثوابه، ولكن ذلك يدخل في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. فالإسراف نفسه محظور، والاقتصاد نصف المعيشة، وإذا كان لديهم فضل فليتصدقوا به فإنه أفضل"([55]).
تفطير الصائمين:(/65)
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً))([56]).
قال ابن العربي: "إن الله بفضله على الخلق آجرهم على ما ابتلاهم به من الأمر والنهي، لا باستحقاقٍ وجب لهم، ثم زادهم من فضله المضاعفة فيه، ثم زادهم من فضله أنْ جعل للمُعِين عليه لغيره مثل أجره، لا ينقص ذلك من أجره شيئاً... والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"([57]).
وقال القاري: "وهذا الثواب لأنه من باب التعاون على التقوى والدلالة على الخير"([58]).
([1]) لسان العرب (10/288) (فطر).
([2]) الصحاح (2/781) (فطر).
([3]) جامع البيان (3/532).
([4]) الجامع لأحكام القرآن (2/327).
([5]) تفسير القرآن العظيم (1/322).
([6]) رواه البخاري في الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ (1954)، ومسلم في: الصيام، باب: بيان القضاء وقت الصوم (1100).
([7]) معالم السنن (3/234).
([8]) شرح صحيح مسلم (8/217).
([9]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/313).
([10]) المرجع السابق (5/316).
([11]) قال الخطابي: "الجدْح: أن يخاض السويق بالماء، ويحرك حتى يستوي، وكذلك اللبن ونحوه" (معالم السنن 3/235).
([12]) رواه البخاري في الصوم، باب متى يحل فطر الصائم؟ (1955)، ومسلم في الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم (1101).
([13]) شرح صحيح مسلم (8/218).
([14]) فتح الباري (4/197).
([15]) التمهيد (21/98).
([16]) شرح العمدة (1/503- الصيام).
([17]) فتح الباري (4/199).
([18]) تقدم تخريجه.
([19]) فتاوى اللجنة الدائمة (10/294، 295، 296).
([20]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: تعجيل الفطر (1957)، ومسلم كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (2513) .
([21]) التمهيد (21/97-98).
([22]) شرح ابن بطال على البخاري (4/104).
([23]) إكمال المعلم (4/33).
([24]) رواه ابن خزيمة كتاب الصيام باب ذكر استحسان سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ما لم ينتظر بالفطر (2061)، ومن طريقه ابن حبان في صحيحه (الإحسان / كتاب الصوم باب الإفطار وتعجيله (3510) )، وصححه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة.
([25]) إحكام الأحكام (2/232).
([26]) رواه الإمام أحمد (2/450)، وأبو داود في كتاب: الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر (2353)، وابن خزيمة كتاب: الصوم، باب: ذكر ظهور الدين ما عجل الناس فطرهم (2060)، وابن حبان في: صحيحه، الإحسان: كتاب: الصوم، باب: ذكر العلة التي من أجلها يستحب للصوام تعجيل الإفطار (3503)، وحسِّنه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة.
([27]) شرح الطيبي على المشكاة (4/156).
([28]) الإعلام بفوائد عمدة الإحكام (5/310).
([29]) فتح الباري (4/199).
([30]) رواه مسلم كتاب: الصيام، باب: فضل السحور، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر (1099).
([31]) شرح الطيبي على المشكاة (4/156).
([32]) مرقاة المفاتيح (4/490).
([33]) رواه عبد الرزاق في: المصنف كتاب: الصوم، باب: تعجيل الفطر (7591)، والفريابي في: كتاب: الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الإفطار وما روي فيه (56)، وصحح إسناده ابن حجر في: الفتح (4/199).
([34]) رواه الإمام أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم، باب: ما يفطر عليه (2339)، والحاكم في الصوم (1/432) وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وسكت عنه الذهبي، وحسَّنه الألباني في الإرواء (922).
([35]) رواه ابن خزيمة كتاب: الصوم، باب: استحباب الفطر على الرطب إذا وجد (2065)، وأبو يعلى (3792)، وابن حبان في: صحيحه (الإحسان كتاب الصوم باب الإفطار وتعجيله (3504).
([36]) المنهل العذب المورود (10/79).
([37]) تقدم تخريجه.
([38]) عارضة الأحوذي (3/215).
([39]) نيل الأوطار (4/262).
([40]) الغذاء لا الدواء (126).
([41]) الشرح الممتع (6/442).
([42]) رواه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: القول عند الإفطار (2340)، والنسائي في: السنن الكبرى كتاب الصيام، باب: يقول إذا أفطر (3329) والدارقطني في كتاب: الصيام، باب: القبلة للصائم (2/185) وقال: "تفرد به الحسين بن واقد وإسناده حسن"، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (1/422)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا بالحسين بن واقد ومروان بن المقنع"، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب: الصيام، باب ما يقول إذا أفطر (4/239).
([43]) شرح الطيبي على المشكاة (4/155).
([44]) مرقاة المفاتيح (4/488).
([45]) رواه الطبري في جامع البيان (12/394).
([46]) أحكام القرآن (4/207).
([47]) الجامع لأحكام القرآن (7/194).(/66)
([48]) علّقه البخاري في أول كتاب اللباس (5/2181)، ووصله ابن أبي شيبة في "المصنّف"، كتاب اللباس، باب من قال: البس ما شئت ما اخطأه سرف أو مخيلة (5/171)، والإمام أحمد (2/181)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة (2558)، والحاكم في المستدرك كتاب الأطعمة (4/125)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
([49]) فيض القدير (5/46).
([50]) رواه الإمام أحمد (4/132)، والترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380) وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه في كتاب الأطعمة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349)،وابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقائق باب ذكر الأخبار عما يجب على المرء من ترك الفضول في قوته (674)، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (4/331)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
([51]) جامع العلوم والحكم (2/468) بتصرف يسير.
([52]) تحفة الأحوذي (7/51).
([53]) رواه أبو نعيم في الحلية (2/351).
([54]) رواه أبو نعيم في الحلية (7/36).
([55]) فقه العبادات (ص252) جمع عبد الله الطيار.
([56]) رواه الإمام أحمد (4/114) والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً (807) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه كتاب الصوم باب في ثواب من فطر صائماً (1746)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان كتاب الصوم، باب فضل الصوم، ذكر تفضل الله جل وعلا بإعطاء المفطر مسلماً مثل أجره (3429).
([57]) عارضة الأحوذي (4/21).
([58]) مرقاة المفاتيح (4/487).
ليلة القدر
1- سبب تسميتها:
اختلف العلماء في سبب تسميتها بليلة القدر على أقوال:
القول الأول: لأن الله تعالى يقدّر فيها الأرزاق والآجال وما هو كائن.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال، حتى الحُجّاج. يقال: يحج فلان، ويحج فلان".
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: "يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل وعمل وخلق ورزق، وما يكون في تلك السنة"([1]).
القول الثاني: أنها مأخوذة من عِظَم القدر والشرف والشأن كما تقول: فلانٌ له قدرٌ([2]).
القول الثالث: لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ذلك، وتزيده شرفاً عند الله تعالى([3]).
القول الرابع: سميت بذلك لأنّ العمل فيها له قدرٌ عظيمٌ.
عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
قال: "عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف"([4]).
وعن عمرو بن قيس الملائي قال: "عملٌ فيها خيرٌ من عمل ألف شهر"([5]).
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان:3].
وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
القول الخامس: سميت بذلك لأن الله تعالى قدّر فيها إنزال القرآن([6]).
القول السادس: لأنها ليلة الحكم والفصل .
عن مجاهد قال: "ليلة القدر ليلة الحكم"([7]).
وقال النووي: "وسميت ليلة القدر، أي ليلة الحكم والفصل. هذا هو الصحيح المشهور"([8]).
([1]) انظر: تفسير البغوي (7/227-228)، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8/213) وفضائل الأوقات للبيهقي (ص213).
([2]) تفسير البغوي (8/485).
([3]) انظر: المصدر السابق .
([4]) تفسير الطبري (24/533)، وانظر شرح الصدر بذكر ليلة القدر للحافظ العراقي (ص17-18).
([5]) انظر: المصدر السابق.
([6]) تفسير القرآن للعزّ بن عبد السلام (3/473).
([7]) انظر: تفسير الطبري (12/652) ط دار الكتب العلميّة.
([8]) المجموع شرح المهذب (6/447).
2- فضلها:
1/2 أنها خيرٌ من ألف شهر:
قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
قال مجاهد: "عملها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر"([1]).
وقال عمرو بن قيس الملائي: "عملٌ فيها خيرٌ من عمل ألف شهر"([2]).
وعن قتادة قال: "خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر"([3]).
قال الدكتور عبد الرحمن حبنكة: "وألف شهر تعادل ثلاثاً وثمانين سنة وثلث السنة، وهذا عمرٌ قلَّ من الناس من يبلغه، فكيف بمن يعبد الله فيه، وهو لا يعبد إلاّ مميزًا على أقل تقدير"([4]).
2/2 نزول الملائكة والروح فيها:
قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ} [القدر:4].
قال البغوي: "قوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} يعني جبريل عليه السلام معهم {فِيهَا} أي: ليلة القدر {بِإِذْنِ رَبّهِم} أي: بكل أمرٍ من الخير والبركة"([5]).
قال الحافظ ابن كثير: "أي: يكثر تنزّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزّل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَقِ الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له"([6]).
3/2 أنها سلام إلى مطلع الفجر:
قال تعالى: {سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].(/67)
عن مجاهد في قوله: {سَلَامٌ هِىَ} قال: "سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى"([7]).
قال أبو المظفر السمعاني: "وقوله: {سَلَامٌ هِىَ} فيه قولان:
أحدهما: أن المراد منه تسليم الملائكة على من يذكر الله تعالى في تلك الليلة([8]).
والقول الثاني: {سَلَامٌ} أي سلامة، والمعنى أنه لا يعمل فيها داء ولا سحر ولا شيء من عمل الشياطين والكهنة"([9]).
وقال ابن الجوزي: "... وفي معنى السلام قولان:
أحدهما: أنه لا يحدث فيها داء ولا يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.
والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة، وكان بعض العلماء يقول: الوقف على {سَلَامٌ}، على معنى تنزّل الملائكة بالسلام"([10]).
4/2 من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه))([11]).
قال ابن بطال: "ومعنى قوله: ((إيماناً واحتساباً)) يعني مُصدِّقاً بفرض صيامه، ومصدقاً بالثواب على قيامه وصيامه، ومحتسباً مريداً بذلك وجه الله، بريئاً من الرياء والسمعة، راجياً عليه ثوابه"([12]).
قال النووي: "معنى إيماناً: تصديقاً بأنّه حق، مقتصد فضيلته، ومعنى احتساباً: أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بالقيام: صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها"([13]).
5/2 تقدير الأرزاق والآجال والمقادير فيها:
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ C فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3، 4].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الرجل ليمشي في الناس وقد رُفع في الأموات)، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ C فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: (يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة)([14]).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي في الآية: "يُدَبِّر أمر السنة في ليلة القدر"([15]).
وقال مجاهد: "كنا نحدّث أنه يفرق فيها أمر السنة إلى السنة"([16]).
ونقل القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه: "يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق، وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم، وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران ؛ قاله ابن عمر"([17]).
واختُلف في الليلة المراد بها في الآية على قولين:
القول الأول: أنها ليلة القدر. وهو قول ابن عباس([18])، وأبي عبد الرحمن السلمي([19])، وقتادة([20])، ومجاهد([21])، والحسن البصري([22]).
القول الثاني: أنها ليلة النصف من شعبان. وهو مروي عن عائشة([23])، وعكرمة([24]).
الترجيح:
قال ابن جرير الطبري: "وأولى القولين بالصواب قول من قال: ذلك ليلة القدر؛ لما تقدم من بياننا عن أن المعنيّ بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان:3]. ليلة القدر، والهاء في قوله: {فِيهَا} من ذكر الليلة المباركة"([25]).
وقال الحافظ ابن كثير: "... ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان كما رُوي عن عكرمة فقد أبعد النُجعة، فإنّ نص القرآن أنّها في رمضان. والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إنّ الرجل لينكح ويولد له، وقد أخرج اسمه في الموتى))([26])، فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص"([27]).
([1]) انظر تفسير الطبري (24/533).
([2]) المصدر السابق.
([3]) المصدر السابق.
([4]) الصيام ورمضان في السنة والقرآن لعبد الرحمن حسن حبنكه (ص183).
([5]) تفسير البغوي (8/491).
([6]) تفسير ابن كثير (4/568).
([7]) تفسير ابن أبي حاتم (10/3453)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/568).
([8]) تفسير القرآن لأبي المظفّر السمعاني (6/262).
([9]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/1964).
([10]) زاد المسير لابن الجوزي (8/287).
([11]) رواه البخاري (1/28) كتاب الإيمان باب قيام ليلة القدر من الإيمان رقم (35)، ومسلم (1/235)، واللفظ له، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (759).
([12]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/59).
([13]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/39). وانظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (3/112).
([14]) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (22/10) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/407). وانظر الدرّ المنثور (5/739).
([15]) رواه الطبري في تفسيره (22/9).
([16]) المصدر السابق.
([17]) تفسير القرطبي (16/126).
([18]) تفسري ابن أبي حاتم (10/3287) وانظر الدر المنثور (5/738) ومعاني القرآن للنحاس (6/396-397).(/68)
([19]) تفسير الطبري (22/9).
([20]) تفسير الطبري (22/9).
([21]) تفسير الطبري (22/9).
([22]) تفسير الطبري (22/8).
([23]) انظر: الدرّ المنثور (5/740).
([24]) تفسير الطبري (22/10) وابن أبي حاتم (10/3287) والبغوي (7/228).
([25]) تفسير الطبري (22/10-11).
([26]) رواه الطبري في تفسيره (22/10) والبيهقي في شعب الإيمان (7/422-423).
([27]) تفسير ابن كثير (4/138).
3- رفع تعيينها:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا، وقال: ((إنّي رأيت ليلة القدر ثم أُنسيتها ـ أو نسيتها ـ فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإنّي رأيت أنّي أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف معي فليرجع))، فرجعنا، وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابةٌ فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته([1]).
قال بدر الدين العيني عند قوله: ((نسيتها)): "والمعنى أنّه أنسي علم تعيينها في تلك السنة، وقال الكرماني: فإن قلتَ: إذا جاز النسيان في هذه المسألة جاز في غيرها فيفوت منه التبليغ إلى الأمة. قلتُ: نسيان الأحكام التي يجب عليه التبليغ لها لا يجوز، ولو جاز ووقع لذكّره الله تعالى"([2]).
([1]) رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر رقم (2016).
([2]) عمدة القاري (11/133) باختصار.
4- سبب رفع تعيينها:
1/4 تلاحي([1]) اثنين من أصحاب:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فَرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة))([2]).
2/4 إيقاظ أهل النبي صلى الله عليه وسلم له:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أُرِيتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر([3])))([4]).
قال الحافظ ابن حجر: "وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد عند مسلم: ((فجاء رجلان يختصمان، معهما الشيطان))([5]). ـ إلى أن قال ـ وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُرِيتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها)).
وهذا سبب آخر، فإما أن يُحمل على التعدّد بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة مناماً، فيكون سببُ النسيان: الإيقاظ، وأن تكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة، فيكون سبب النسيان: ما ذكر من المخاصمة.
أو يحمل على اتحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين.
ويحتمل أن يكون المعنى: أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرجلين، فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما.
وقد روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيّب أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بليلة القدر؟ قالوا: بلى، فسكت ساعة، ثم قال: لقد قلت لكم وأنا أعلمها، ثم أُنسيتها))([6]). فلم يذكر سبب النسيان، وهو مما يقوّي الحمل على التعدّد"([7]).
([1]) التلاحي: المنازعة والمشاتمة. قال ابن منظور: تلاحى الرجلان تشاتما. انظر: لسان العرب (12/259-مادة لحا).
([2]) رواه البخاري (2/64)كتاب فضل ليلة القدر باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس رقم (2023) مادة: لحا .
([3]) قال ابن الأثير في النهاية (3/337) : "أي البواقي".
([4]) رواه مسلم (2/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1166).
([5]) رواه مسلم (2/827) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1167).
([6]) مصنف عبد الرزاق (4/249).
([7]) فتح الباري (4/315).
5- أقوال العلماء في تعيينها:
اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر على أقوال كثيرة، حتى أوصلها الحافظ في (الفتح) إلى ستةٍ وأربعين قولاً، واحتمالين([1]).
كما أوصلها الحافظ ولُّي الدين العراقي إلى خمسة وعشرين قولاً([2]).
وأوصلها بعض المعاصرين إلى أكثر من ستين قولاً([3]).
قال أبو العباس القرطبي بعدما ذكر بعض هذه الأقوال: "وهذه الأقوال كلها للسلف والعلماء، وسبب اختلافهم اختلاف الأحاديث كما ترى"([4]).
وهذه بعض أقوالهم:
القول الأول: أنّها ممكنة في جميع السنة. وهو قول ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم. وهو قولٌ للحنفية([5]).
ومأخذُ ابن مسعود: لئلا يتكل الناس، كما بيَّن ذلك أُبيّ بن كعب([6]).
القول الثاني: أنها مختصة برمضان، ممكنةٌ في جميع لياليه. وهو قول أبي هريرة([7])، وابن عباس([8])، وأبي ذر([9])، والحسن البصري([10])، وهو قول أبي حنيفة، وابن المنذر، وبعض الشافعية، ورجحه السبكي([11]).
القول الثالث: أنها أول ليلة من رمضان. وهو قول أبي رزين العقيلي لقيط بن عامر([12]).(/69)
القول الرابع: أنها ليلة سبع عشرة. ورُوي ذلك عن زيد بن أرقم أنّه قال: "ما أشك وما أمتري أنها ليلة أنزل القرآن، ويوم التقى الجمعان"([13]). وقد أمر ابن مسعود بتحريها في تلك الليلة([14]).
القول الخامس: أنها أول ليلة من العشر الأخير. وإليه مال الشافعي، وجزم به جماعة من الشافعية([15]).
القول السادس: أنها ليلة ثلاث وعشرين. وهو قول ابن عباس([16])، وبلال([17])، وعائشة وكانت توقظ أهلها([18])، وأنيس الجهني([19])، وابن المسيّب([20]).
القول السابع: أنها ليلة أربع وعشرين. وهو قولٌ لابن عباس([21]).
القول الثامن: أنها ليلة تسع وعشرين. وهو مرويٌ عن أبي هريرة وغيره([22]).
القول التاسع: أنها ليلة سبع وعشرين. وهو قول جمع من الصحابة منهم أبي بن كعب([23])، وأنس بن مالك([24])، وإليه ذهب زر بن حبيش([25]).
قال الحافظ ابن حجر: "القول الحادي والعشرين: أنها ليلة سبع وعشرين. وهو الجادّة من مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وبه جزم أبي كعب، وحلف عليه، كما أخرجه مسلم"([26]).
وعن زر بن حبيش عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال أُبيّ في ليلة القدر: (والله إني لأعلمها، وأكبر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين)([27]).
الترجيح:
ولعل أرجح الأقوال فيها أنها في العشر الأواخر من رمضان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني أُريت ليلة القدر ثم أنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر))([28]).
وقد نُقل إجماع الصحابة على هذا؛ فقد روى عبد الرزاق في مصنّفه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا أنها في العشر الأواخر..." ([29]).
ويستحب تحرّيها في الأوتار من العشر الأواخر، كليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين، والخامس والعشرين، والسابع والعشرين، والتاسع والعشرين ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر))([30])، وقولِه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))([31])، وقولِه: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى))([32])، وقولِه: ((هي في العشر الأواخر، في تسع يمضين أو في سبع يبقين))([33]).
قال ابن بطال: "وإنّما يصح معناه وتُوافِق ليلة القدر وتراً من الليالي على ما ذُكِر في الحديث: إذا كان الشهر ناقصاً، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا في شفع، فتكون التاسعة الباقية: ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية: ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية: ليلة أربع وعشرين على ما ذكره البخاري عن ابن عباس، فلا تصادف واحدة منهن وتراً، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كل سنة في العشر الأواخر من وتر إلى شفع، ومن شفع إلى وتر، لأنّ النبي عليه السلام لم يأمر أمته بالتماسها في شهر كامل دون ناقص، بل أطلق طلبها في جميع شهور رمضان التي قد رتبها الله مرّة على التمام، ومرةً على النقصان، فثبت انتقالها في العشر الأواخر وكلّها على ما قاله أبو قلابة"([34]).
وهي في ليلة السابع والعشرين آكد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة))([35]).
ولحلف أبيّ بن كعب رضي الله عنه على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: "وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين"([36]).
([1]) انظر: فتح الباري (4/309-313).
([2]) انظر :كتاب شرح الصدر بذكر ليلة القدر (ص25-42).
([3]) انظر: كتاب سطوع البدر بفضائل ليلة القدر لإبراهيم الحازمي (ص69-111).
([4]) المفهم للقرطبي (3/251).
([5]) انظر: فتح الباري (4/309).
([6]) رواه مسلم (2/828) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (762).
([7]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/255).
([8]) مصنف عبد الرزاق (4/255).
([9]) مصنف عبد الرزاق (4/255).
([10]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/490).
([11]) انظر: فتح الباري (4/310).
([12]) انظر: فتح الباري (4/310).
([13]) رواه ابن أبي شيبة (2/489). ووقع في "مطبوعة المصنّف" أنها ليلة (تسع عشرة) والتصحيح من فتح الباري (4/310)، كما أنّ معركة بدر كانت في السابع عشر من رمضان، قال الهيثمي في مجمع الزائد (3/170): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه حوط العبدي قال البخاري عنه: حديثه منكر".
([14]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/252).
([15]) انظر: فتح الباري (4/310).
([16]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/488). وكان يرشّ على أهله الماء: (2/490).
([17]) ابن أبي شيبة (2/489).
([18]) ابن أبي شيبة (2/490) وعبد الرزاق (4/251).
([19]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/250-251).
([20]) عبد الرزاق (4/249).(/70)
([21]) رواه البخاري (4/64) كتاب الصوم باب تحري ليلة القدر رقم (2022).
([22]) رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/332) جماع أبواب ذكر الليالي التي كان فيها ليلة القدر باب كثرة الملائكة في الأرض، رقم (2194).
([23]) رواه ابن أبي شيبه مصنفه (2/489) وعبد الرزاق (4/252-253). ومسلم – كما سيأتي -.
([24]) رواه ابن أبي شيبة (2/490).
([25]) رواه عبد الرزاق (4/253).
([26]) فتح الباري (4/311).
([27]) رواه مسلم (2/828) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (762).
([28]) رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2016) ومسلم (2/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة الوتر رقم (1167).
([29]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/246) والمروزي في مختصر قيام رمضان (ص123-124)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/348): "رواه البزار ورجاله ثقات".
([30]) رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2016)، ومسلم (2/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة الوتر رقم (1167).
([31]) رواه البخاري (2/63) كتاب فضل ليلة القدر باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر رقم (2017).
([32]) رواه البخاري (2/64)كتاب فضل ليلة القدر باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر رقم (2021).
([33]) المصدر السابق رقم (2022).
([34]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/156) .
([35]) رواه البخاري (2/64) كتاب فضل ليلة القدر باب رفع ليلة القدر رقم (2023)، ومسلم (2/827) وهذا لفظه كتاب الصيام باب: فضل ليلة القدر رقم (1167).
([36]) فتح الباري (4/413).
6- هل تنتقل من ليلة إلى أخرى باختلاف السنين؟
اختلف العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلة، وسنةً في ليلةٍ أخرى.
وإليه ذهب مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور.
قال الحافظ العراقي: "وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل فتكون سنةً في ليلةٍ وسنة في ليلة أخرى وهكذا، وهذا قول مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهم"([1]).
وبه قالت الحنفية([2])، وهو قولٌ عن للشافعية([3]).
القول الثاني: أنّها في ليلةٍ واحدة بعينها لا تنتقل. وهو مذهب ابن حزم، وبعض الشافعية.
قال أبو محمد بن حزم: "ليلة القدر في شهر رمضان، خاصة في العشر الأواخر، خاصة في ليلةٍ واحدةٍ بعينها لا تنتقل أبداً، إلا أنه لا يدري أحدٌ من الناس أي ليلةٍ هي من العشر المذكورة، إلاّ أنها في وتر منها ولا بدّ"([4]).
مناقشة القولين:
ولعل القول الأول هو الراجح لتضافر الأدلة على انتقالها، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في سجود النبي صلى الله عليه وسلم على الماء والطين، قال أبو سعيد: "مُطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتلٌ طيناً وماءً"([5]).
ولحديث عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأُراني صبحَها أسجد في ماء وطين))، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف، وإنّ أثر الماء والطين على جبهته وأنفه([6]).
قال الحافظ ابن حجر: "وأرجحها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يُفهم من أحاديث هذا الباب"([7]).
([1]) كتاب شرح الصدر (ص41).
([2]) انظر إعانة الطالبين (2/256).
([3]) انظر فتاوى الإمام النووي (ص55)، والمجموع (6/459)، وفتح الباري (4/313).
([4]) المحلى (6/446). وانظر لقول الشافعية: حاشية البجيرمي (2/93) وحاشية الشرواني (2/478).
([5]) رواه مسلم (4/824) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1167).
([6]) رواه مسلم (2/827) كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر رقم (1168).
([7]) فتح الباري (4/413).
7- الحكمة في رفع العلم بها وعدم تعيينها:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم..)) الحديث([1]).
قال البيهقي: "قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها في الابتداء، غير أنه لم يكن مأذوناً له في الإخبار بها؛ لئلا يتكلوا على علمها فيُحْيُوها دون سائر الليالي، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أنسيها؛ لئلا يسأل عن شيء من أمر الدين فلا يخبر به"([2]).
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((فعسى أن يكون خيراً)) فإن وجه الخيرية من جهة أن خفاءها يستدعي قيام كل الشهر، أو العشر، بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها"([3]).(/71)
وقال أيضاً: "قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلةٌ لاقتُصِر عليها، كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مُطَّرِدة عند من يقول: إنها في جميع السنة، وفي جميع رمضان، أو في جميع العشر الأخير، أو في أوتاره خاصة، إلا أنّ الأول ثم الثاني أليق"([4]).
([1]) رواه البخاري (2/64) كتاب فضل ليلة القدر باب رفع معرفة ليلة القدر رقم (2023).
([2]) فضائل الأوقات للبيهقي (ص244).
([3]) فتح الباري (4/314).
([4]) المصدر السابق (4/313).
8- علاماتها:
1- عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقيل له: إنّ عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، ووالله إني لأعلم أي ليلةٍ هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها([1]).
قال القاضي عياض: في تفسير قول أبيّ:
"يحتمل وجهين:
أحدهما: أن هذه الصفة اختصت بعلامةِ صبيحةِ الليلةِ التي أنبأهم النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليلة القدر، وجعلها دليلاً لهم عليها في ذلك الوقت، لا أن تلك الصفة مختصة بصبيحة كل ليلة قدر، كما أعلمهم أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين.
والثاني: أنها صفة خاصة لها، وقيل في ذلك: لما حجبها من أشخاص الملائكة الصاعدة إلى السماء، الذي أخبر الله بتنزيلهم تلك الليلة حتى يطلع الفجر، والله أعلم"([2]).
([1]) رواه مسلم (1/525) كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رقم (761).
([2]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/116).
9 - ما يستحب فيها من أعمال:
1/9 صلاة التراويح([1]):
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)([2]).
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً . فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: ((يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي))([3]).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدةً فأوترت له ما صلّى))([4]).
وأكمل الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عددها وكيفيّتها، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، وغيرهِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبيّ بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات. لأن ذلك أخفّ على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك. وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره"([5]).
2/9 الدعاء بما أرشد صلى الله عليه وسلم إليه: ((اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا)):
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: ((اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعف عني))([6]).
3/9 الاعتكاف:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ([7]).
قال الإمام البخاري: "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها...".
قال الحافظ ابن حجر: "قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحدٍ من العلماء خلافاً أنه مسنون"([8]).
4/9 الاجتهاد في إحيائها بالعبادة، وإيقاظ الأهل لذلك:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله ([9]).(/72)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك قيام الليالي جميعها، كالعشر الأخير من رمضان، أو قيام غيرها أحياناً، فهذا مما جاءت به السنن، وقد كان الصحابة يفعلونه فثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شدّ المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله كله"([10]).
وقال القسطلاني: "وجزم عبد الرزاق بأن شدّ مئزرِه هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري، وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجدّ في العبادة كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شدّ مئزره حقيقة فلم يحلّه، واعتزالَ النساء وتشمّر للعبادة.
وقوله: ((وأحيا ليله)) أي: سهره، فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه ؛ لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعاً، لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يخصّ العشر الأخير بأعمالٍ لا يعملها في بقيّة الشهر، فمنها إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويحتمل أن تريد – يعني عائشة - بإحياء الليل غالبِهُ"([11]).
5/9 الاغتسال والتطيب والتزيّن:
وقد ورد هذا عن بعض السلف.
قال الحافظ ابن رجب: "كان النخعي يغتسل في العشر كله، ومنهم من كان يغتسل ويتطيّب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، وأمر زرّ بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
ورُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حلّة إزاراً ورداءً، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر([12])، ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين.
وعن حماد بن سلمة: كان ثابت البناني، وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيّبون المسجد بالنضوح والدخنة([13]) في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.
فتبيّن بهذا أنه يستحبّ في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظّف والتزيّن، والتطيّب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجُمع والأعياد، وكذلك يُشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، كما قال تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقال ابن عمر: (الله أحق أن يتزيّن له)، ورُوي عنه مرفوعاً ([14]).
ولا يَكْمُل التزيُّنُ الظاهر إلاّ بتزيين الباطن ؛ بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها ؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئاً"([15]).
([1]) قال الحافظ ابن حجر في سبب تسميتها بالتراويح: "لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين" فتح الباري (4/294).
([2]) رواه البخاري (2/62) كتاب فضل ليلة القدر باب فضل ليلة القدر رقم (2014) ومسلم (1/524) كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (760).
([3]) رواه البخاري (2/61) كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان رقم (2013). ومسلم (1/509) كتاب صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعا ت النبي صلى الله عليه وسلم رقم (738).
([4]) رواه البخاري (1/168) كتاب الصلاة باب الحلق والجلوس في المسجد رقم (472) ومسلم (1/516) كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الليل مثنى مثنى رقم (749).
([5]) مجموع الفتاوى (22/272).
([6]) رواه الترمذي (5/534) كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسف بن عيسى رقم (3513). وابن ماجه (2/1265) كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية. وأحمد في المسند (6/171، 182، 183). والحاكم (1/530)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي.
([7]) رواه البخاري (2/65) كتاب الاعتكاف باب الاعتكاف في العشر الأواخر رقم (2025) ومسلم (2/830) كتاب الاعتكاف باب اعتكاف العشر الأواخر رقم (1171).
([8]) فتح الباري (4/320).
([9]) رواه البخاري (2/64) كتاب فضل ليلة القدر باب العمل في العشر الأواخر من رمضان رقم (2024) ومسلم (2/732) كتاب الاعتكاف باب الاجتهاد وفي العشر الأواخر من شهر رمضان رقم (1174).
([10]) مجموع الفتاوى (22/304).
([11]) المواهب اللدنية (4/393-394) باختصار.
([12]) مِن: الجَمْر ، والمراد: يتطيّب بالبخور.
([13]) النضوح: نوع من الطيب تفوح رائحته، والدُّخنة: ما يُتبخّر به من الطيب.
([14]) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ولفظه: "إذا صلى أحدكم فليصل في ثوبين، فإن لم يكن عليه ثوب فليتزر به، ثم ليصل، ولا تشتملوا اشتمال اليهود، فإن الله أحق أن يتزيّن له" (8/29-30) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/51): إسناده حسن.(/73)
([15]) لطائف المعارف (ص346-347).
الحث على قيام رمضان وما يتعلق به من أحكام وآداب
أولاً: قيام الليل عموماً:
أ. الآيات:
1- قال تعالى: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64].
قال سعيد بن جبير: "يعني يصلون بالليل"([1]).
وقال ابن جرير: "والذين يبيتون لربهم يصلون لله، يراوحون بين سجودٍ في صلاتهم وقيام"([2]).
وقال السيوطي: "ينتصبون لله على أقدامهم، ويفترشون وجوههم سجداً لربهم، تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم".
قال الحسن: لأمرٍ ما سهر ليلهم، ولأمر ما خشع نهارهم"([3]).
2- وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
قال الحسن: "يعني قيام الليل"([4]).
وقال مجاهد: "يقومون يصلون من الليل"([5]).
وقال ابن كثير: "يعني بذلك قيام الليل، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة"([6]).
3- وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
قال ابن عباس: "من أحب أن يهوِّن الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه"([7]).
وقال ابن كثير: "قال ابن عباس والحسن والسُدّي وابن زيد آناء الليل جوف الليل"([8]).
4- وقال تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ Q وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17، 18].
قال الحسن: "كابدوا قيام الليل"([9]).
وقال أيضاً: "مدوا في الصلاة ونشطوا حتى كان الاستغفار بسحر"([10]).
وقال القرطبي: "{كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي: ينامون قليلاً من الليل ويصلون أكثره"([11]).
ب. الأحاديث:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل)) ([12]).
قال النووي: "فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار"([13]).
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنَّيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنامُ في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أُناسٌ قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم تُرَع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نِعْم الرجل عبد الله لو كان يُصلي من الليل، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً)) ([14]).
قال ابن حجر: "شاهد الترجمة قوله: ((نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل يوصف بكونه نعم الرجل"([15]).
وقال أيضاً: وفي الحديث تنبيه على أن قيام الليل مما يُتقى به النار"([16]).
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقدٍ، يضرب على مكان كل عقدة: عليك ليلٌ طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدةٌ، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدةٌ، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان))([17]).
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن في صلاة الليل سراً في طيب النفس وإن لم يستحضر المصلى شيئاً مما ذكر، وكذا عكسه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]. وقد استنبط بعضهم منه أن من فعل ذلك مرةً ثم عاد إلى النوم لا يعود إليه الشيطان بالعقد المذكور ثانياً([18]).
4- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلةٍ)) ([19]).
قال النووي: "فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها"([20]).
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقضت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء))([21]).(/74)
قال الطيبي: "وفيه أن من أصاب خيراً ينبغي له أن يتحرى إصابته الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً فعل كذا)) تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء على الوجه لاستيقاظ النائم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نال ما نال بالتهجد من الكرامة والمقام المحمود، أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر من ذلك، فحثهم عليه على سبيل التلطف، حيث عدل من صيغة الأمر إلى صيغة الدعاء لهم"([22]).
6- وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات))([23]).
قال أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي: "وفي الحديث إشارة إلى تفسير الآية الكريمة: {وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ([24]).
ج. آثار عن بعض الصحابة والسلف في فضل قيام الليل:
1- قال ابن عمر رضي الله عنهما حين حضرته الوفاة: (ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ظمأ الهواجر ومكابدة الليل)([25]).
2- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (شرف الرجل قيامه بالليل وغناه استغناؤه عما في أيدي الناس)([26]).
3- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية)([27]).
4- وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (ركعة بالليل أفضل من عشر بالنهار)([28]).
5- وقيل للحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره نوراً"([29]).
6- وقال أيضاً: "ما نعلم عملاً أشد من مكابدة هذا الليل، ونفقة هذا المال"([30]).
7- وعن الأوزاعي: "بلغني أنه من أطال قيام الليل خفف الله عنه يوم القيامة"([31]).
8- وقال يزيد الرقاشي: "بطول التهجد تقر عيون العابدين وبطول الظمأ تفرح قلوبهم"([32]).
9- وقال أيضاً: "قيام الليل نور للمؤمن يوم القيامة، يسعى من بين يديه ومن خلفه، وصيام العبد يُبعده من حرِّ السعير"([33]).
10- وقال شريك: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"([34]).
د. آداب قيام الليل:
1. ذكرُ الله سبحانه وتعالى عند القيام:
إذا استيقظ الإنسان من نومه لصلاة الليل استحبّ له أن يذكر الله تعال تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم! رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات الأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))([35]).
قال النووي: "يسن لكل من استيقظ في الليل أن يمسح النوم عن وجهه وأن يتسوك وأن ينظر في السماء وأن يقرأ الآيات التي في آخر آل عمران: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ} [آل عمران:190] الآيات، ثبت كل ذلك في الصحيحين([36]) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"([37]).
2. التسوك عند القيام للتهجد:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك([38]).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على استحباب السواك في هذه الحالة وهي القيام من النوم. وعلته أن النوم مقتضى لتغير الفم والسواك هو آلة التنظيف للفم فيسن عند مقتضى التغير"([39]).
3. استفتاح القيام بركعتين خفيفتين:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ([40]).
قال النووي: "هذا دليل على استحبابه لينشط بهما لما بعدهما"([41]).
4. ترك القيام عند النعاس:
عن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد، حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه))([42]).
قال النووي: "وفيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس"([43]).
5. طول القيام:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة طول القنوت)) ([44]).
قال النووي: "المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت"([45]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فلم يزل قائماً حتى هممتُ بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم)([46]).(/75)
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما همَّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده"([47]).
6. إيقاظ الأهل لصلاة القيام:
عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً فقال: ((سبحان الله، ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة))([48]).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلةً فقال: ((ألا تصليان؟!))([49]).
قال ابن بطال: "في حديث أم سلمة وحديث علي فضل صلاة الليل وإنباه النائمين من الأهل والقرابة"([50]).
7. الإكثار من الدعاء والاستغفار:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعةً، لا يوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلةٍ))([51]).
8. ترك المشقة على النفس في القيام:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأةٌ فقال: ((من هذه؟))، فقلت: امرأةٌ لا تنام، تصلي، قال: ((عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله، لا يملُّ الله حتى تملوا)) ([52]).
قال القاضي عياض: "ظاهره الإنكار لما تقدم من تكلُّف ما لا يُطاق ويشق من العبادة، وقد جاء المعنى مفسراً في حديث مالك في الموطأ ([53])، قال: (فكره ذلك حتى عرفت الكراهة في وجهه)"([54]).
9. النوم بعد قيام الليل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ألفي رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر الأعلى في بيتي أو عندي إلا نائماً) ([55]).
قال القاضي عياض: "تعني ـ والله أعلم ـ قبل الفجر وبعد قيامه، ثم ينام ليستريح من تعب القيام، وينشط لصلاة الصبح، والنوم بعد القيام آخر الليل مستحسن"([56]).
هـ. الأسباب التي بها يتيسَّر قيام الليل:
قال الغزالي: "اعلم أن قيام الليل عسير على الخلق إلا على من وفق للقيام بشروطه الميسرة له ظاهراً وباطناً.
فأما الظاهرة: فأربعة أمور:
الأول: أن لا يكثر الأكل فيكثر الشرب فيغلبه النوم ويثقل عليه القيام.
الثاني: أن لا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب، فإن ذلك أيضاً مجلبة للنوم.
الثالث: أن لا يترك القيلولة بالنهار.
الرابع: أن لا يحتقب الأوزار بالنهار، فإن ذلك مما يقسي القلب ويحول بينه وبين أسباب الرحمة.
وأما الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول هموم الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار.
الرابع: وهو أشرف البواعث الحب لله وقوة الإيمان"([57]).
و. قصص وأشعار في فضل قيام الليل:
1- كان بعض السلف نائماً فأتاه آت في منامه فقال له: قم فصل، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خزانها.
2- قال عون بن عبد الله: يدخل الله الجنة أقواماً فيعطيهم حتى يملوا وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهم، فقالوا: ربنا إخواننا كنا معهم فيم فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات! إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمئون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون.
3- وكان بعض السلف يحيي الليل بالصلاة ففتر عن ذلك، فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: قد كنت يا فلان تدأب في الخطبة فما الذي قصر بك عن ذلك؟ قال: وما ذلك؟ قال: كنت تقوم مِن الليل، أوَما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة: قد قام الخاطب إلى خطبته؟!.
4- ورأى بعضهم في منامه امرأة لا تشبه نساء الدنيا فقال لها: من أنت؟ قالت: حوراء أمة الله، فقال لها: زوجيني نفسك، قالت: اخطبني إلى سيدي وامهرني، قال: وما مهرك؟ قالت: طول التهجد.
5- نام بعض المتهجدين ذات ليلة، فرأى في منامه حوراء تنشده:
أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام
لأنا خُلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه الصيام
6- وكان لبعض السلف ورد من الليل فنام عنه ليلة، فرأى في منامه جارية كأن وجهها القمر، ومعها رق فيه كتاب مكتوب، فقالت: أتقرأ؟ قال: نعم، فأعطته إياه، ففتحه فإذا فيه مكتوب:
ألهتك اللذائذ والأماني عن الفردوس والظلل الدواني
أتلهو بالكرى عن طيب عيشٍ مع الخيرات في غُرف الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها وتنعم في الجنان مع الحسان
تيقظ من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقُران
فاستيقظ قال: فوالله ما ذكرتها إلا ذهب عني النوم.
7- كان بعض الصالحين له وردٌ فنام عنه، فوقف عليه فتى في منامه، فقال له بصوت محزون:
تيقظ لساعات من الليل يا فتى لعلك تحظى في الجنان بحورها
فتنعم في دارٍ يدوم نعيمها محمد فيها والجليل يزورها(/76)
فقم وتيقظ ساعة بعد ساعة عساك توفي ما بقي من مهورها
8- كان بعض السلف الصالح كثير التهجد، فبكى شوقاً إلى الله عز وجل ستين سنة، فرأى في منامه كأنه على ضفة نهر يجري بالمسك به شجرُ لؤلؤ ونبت من قضبان الذهب، فإذا بحورٍ مزيناتٍ يقلن بصوت واحد: سُبحان المسبّح بكل لسان سبحانه، سبحان الموحد بكل مكان سبحانه، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه، فقال لهن: ما تصنعن هاهنا، فقلن:
ذرانا إله الناس رب محمد لقوم على الأقدام بالليل قوم
يناجون رب العالمين إلههم وتسري هموم القوم والناس نوم
فقال: بخٍ بخٍ لهؤلاء من هم لقد أقر الله أعينهم بكنَّ، فقلن: أوما تعرفهم؟! قال: لا، فقلن: بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.
9- وروي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: ذهب بي النوم ذات ليلة في صلاتي فإذا بها – يعني الحوراء – تنبهني وتقول: يا أبا سليمان! أترقد وأنا أربىّ لك في الخدور منذ خمسمائة سنة؟ وفي رواية عنه أنه نام ليلة في سجوده، قال: فإذا بها قد ركضتني برجلها وقالت: أحبيبي ترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم، بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ، ولقي المحبّون بعضهم بعضاً، فما هذا الرقاد يا حبيبي وقرة عيني؟ أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ فوثب فزعاً، وقد عرق من توبيخها له، قال: وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.
10- وقال أبو سليمان الداراني: إذا جن الليل وخلا كل حبيب بحبيبه، افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم أشرف الجليل جل جلاله، ونادى يا جبريل!: بعيني من تلذذ بكلامي واستروح إلى مناجاتي، ناد فيهم يا جبريل! ما هذا البكاء، هل رأيتم حبيباً يعذب أحباءه أم كيف يجمل بي أن أعذب قوماً إذا جنهم الليل تملقوني؟ فبي حلفت إذا قدموا عليّ يوم القيامة لأكشفن لهم عن وجهي ينظرون إلي، وأنظر إليهم.
11- رأت امرأة من الصالحات في منامها كأن حللاً قد فرقت على أهل مسجد محمد بن جحادة، فلما انتهى الذي يفرقها إليه، دعا بسفط مختوم، فأخرج منه حلة صفراء، قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها، وقال: هذه لك بطول السهر، قالت: فوالله لقد كنت أراه – تعني محمد بن جحادة – بعد ذلك فأتخايلها عليه – تعني تلك الحلة.
12- وقال بعضهم:
يا نفس فاز الصالحون بالتقى وأبصروا الحق وقلبي قد عمي
يا حسنهم والليل قد جنّهم ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنّموا بالذكر في ليلهم فعيشهم قد طاب بالترنّم
قلوبهم للذكر قد تفرّغت دموعهم كاللؤلؤ منتظم
أنوارهم بهم لهم قد أشرقت وخلع الغفران خير القسم
13- قام بعض الصالحين في ليلة باردة، وكان على أخلاق رثة، فضربه البرد، فبكى، فسمع هاتفاً يقول: أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي علينا:
تنبهوا أيا أهيل ودِّي كم ذا الكرى هبّ نسيم نجد
كم بين خالٍ وجوٍ وساهرٍ وراقدٍ وكاتمٍ ومُبدي
14- وقال بعضهم:
الليل لي ولأحبابي أحادثهم قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
لهم قلوب بأسراري لها مُلئت على ودادي وإرشادي لهم طبعوا
قد أثمرت شجرات الفهم عندهم فما جنوا إذ جنوا مما به ارتفعوا
سروا فما وهنوا عجزاً ولا ضعفوا وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا([58])
([1]) الدر المنثور (5/141).
([2]) جامع البيان (19/296).
([3]) الدر المنثور (5/142).
([4]) جامع البيان (20/180).
([5]) جامع البيان (20/180).
([6]) تفسير القرآن العظيم (3/467).
([7]) الجامع لأحكام القرآن (15/239).
([8]) تفسير القرآن العظيم (4/51).
([9]) جامع البيان (22/408).
([10]) جامع البيان (22/409).
([11]) الجامع لأحكام القرآن (17/36).
([12]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل صوم المحرم رقم (1163).
([13]) صحيح مسلم بشرح النووي (8/55).
([14]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل رقم (1121) واللفظ له، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رقم (2479).
([15]) فتح الباري (3/9).
([16]) فتح الباري (3/10).
([17]) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم ُ يُصلِّ بالليل، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روى فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح رقم (776).
([18]) فتح الباري (3/33).
([19]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء رقم (757).
([20]) شرح مسلم للنووي (6/36).
([21]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب قيام الليل، رقم (1308)، والنسائي في كتاب قيام الليل، باب الترغيب في قيام الليل رقم (1610)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل رقم (1336)، وابن خزيمة في صحيحه (2/183)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان(6/306)، والحاكم في المستدرك (1/309) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وحسَّنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب (1/399) رقم (625).(/77)
([22]) شرح الطيبي (3/129).
([23]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الحث على قيام الليل رقم (1451)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، رقم (1339)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (6/307)، والحاكم في المستدرك (1/316) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح الجامع رقم (330).
([24]) عون المعبود (4/325).
([25]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص62)، وابن سعد في الطبقات (4/185)، وسير أعلام النبلاء (3/232).
([26]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص63).
([27]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص63)، والطبراني في الكبير (9/205) رقم (8998) و(8999)، وفي (10/179) رقم (10382)، قال الهيثمي في المجمع (2/251) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، ورجع الشيخ الألباني وقفه وضعف المرفوع في الجامع الصغير رقم (3980).
([28]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص63).
([29]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص58).
([30]) الصلاة والتهجد للخراط (ص298).
([31]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص66).
([32]) قيام الليل للمروزي (ص67).
([33]) الصلاة والتهجد للخراط (298).
([34]) الكامل لابن عدي (2/526).
([35]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (770).
([36]) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب قراءة القرآن بعد الحدث رقم (183)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه رقم (763).
([37]) المجموع شرح المهذب (4/45).
([38]) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب السواك رقم (245) ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك رقم (255).
([39]) إحكام الأحكام (1/67).
([40]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (767).
([41]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/54).
([42]) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب الوضوء من النوم رقم (212) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته... رقم (786).
([43]) شرح صحيح مسلم للنووي ((6/74).
([44]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب أفضل الصلاة طول القنوت رقم (756).
([45]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/35).
([46]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب طول الصلاة في قيام الليل رقم (1135) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل رقم (773).
([47]) فتح الباري (3/24).
([48]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب .. رقم (1126).
([49]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب رقم (1127) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب ما روى فيمن نام الليل حتى أصبح رقم (775).
([50]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/115).
([51]) تقدم تخريج الحديث والكلام عليه في فضل قيام الليل عموماً.
([52]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه رقم (43)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته... رقم (785)، واللفظ له.
([53]) الموطأ في كتاب صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل (1/118).
([54]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/150).
([55]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب من نام عند السحر رقم (1133)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الليل رقم (742) واللفظ له.
([56]) إكمال العلم بفوائد مسلم (3/88) بتصرف.
([57]) إحياء علوم الدين (2/38-40) بتصرف.
([58]) كل ما تقدم من القصص والأشعار من كتاب شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب الحنبلي، (ص57-62) بتصرّف.
ثانياً: فضل قيام رمضان خصوصاً:
أ . فضل قيام ليالي رمضان (صلاة التراويح):
قد وردت أحاديث كثيرة دالة على فضل قيام ليالي رمضان وإحيائه بالصلاة ومن ذلك:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه))([1]) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر على ذلك.
قال النووي: "والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح"([2]).
وقال ابن حجر: "إيماناً أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، واحتساباً أي: طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه"([3]).(/78)
2- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُصلِّ بنا حتى بقى سبعٌ من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل،ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف،كتب له قيام ليلةٍ)).
ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوَّفنا الفلاح، قال جُبير بن نفير الراوي عن أبي ذر: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور([4]).
قال شمس الحق العظيم آبادي: "أي حصل له ثواب قيام ليلةٍ تامة"([5]).
قال الألباني: "والشاهد من الحديث قوله: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف...)) فإنه ظاهر الدلالة على فضيلة صلاة قيام رمضان مع الإمام"([6]).
ب . حكم صلاة التراويح:
قال السرخسي: "التراويح سنة لا يجوز تركها"([7]).
وقال ابن رشد: "وأجمعوا على أن قيام شهر رمضان مرغَّب فيه أكثر من سائر الأشهر"([8]).
وقال النووي: "فصلاة التراويح سنة بإجماع العلماء"([9]).
وقال ابن قدامة: "وهي سنةٌ مؤكدةٌ"([10]).
ج. مشروعية قيام الليل جماعة في رمضان:
قد وردت في هذا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً من جوف الليل فصلَّى في المسجد، وصلَّى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلَّى فصلُّوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى لصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد ثم قال: ((أما بعد فإنه لم يخف عليَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها)) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك([11]).
قال ابن حجر: "فيه ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة ؛ لأن الخشية المذكورة أُمِنت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب"([12]).
2- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، قال: وكنا ندعو السحور الفلاح) ([13]).
قال الحاكم: "وفيه الدليل الواضح أن صلاة التراويح في مساجد المسلمين سنة مسنونة، وقد كان علي بن أبي طالب يحث عمر رضي الله عنهما على إقامة هذه السنة إلى أن أقامها"([14]).
3- حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي تقدم، وفيه: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلةٍ)) ([15]).
قال الترمذي: "واختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق الصلاة مع الإمام في شهر رمضان، واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئاً"([16]).
وقال البغوي: "وقيام شهر رمضان جماعة سنة غير بدعة"([17]).
وقال الألباني: "لا يشك عالم اليوم بالسنة في مشروعية صلاة الليل جماعة في رمضان، هذه الصلاة التي تعرف بصلاة التراويح"([18]).
وقال أيضاً: "وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على مشروعية صلاة التراويح جماعة؛ لاستمراره صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي، ولا ينافيه تركه صلى الله عليه وسلم لها في الليلة الرابعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علَّله بقوله: ((خشيت أن تفرض عليكم)) ولاشك أن هذه الخشية قد زالت بوفاته صلى الله عليه وسلم أن أكمل الله الشريعة، وبذلك يزول المعلول وهو ترك الجماعة ويعود الحكم السابق، وهو مشروعية الجماعة، ولهذا أحياها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعليه جمهور العلماء"([19]).
د. لماذا سميت بصلاة التراويح:
قال ابن منظور: "والترويحة في شهر رمضان: سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات.
وفي الحديث: صلاة التراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، والتراويح: جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها مثل تسليمة من السلام"([20]).
هـ. عدد ركعات صلاة التراويح:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: ((يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي))([21]).
قال الحافظ بن حجر: "وفي الحديث دلالة على أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة"([22]).
وقد اختلف أهل العلم في عدد صلاة التراويح.(/79)
قال ابن رشد: "واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان، فاختار مالك في أحد قوليه، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود القيام بعشرين ركعة سوى الوتر، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستاً وثلاثين ركعة، والوتر ثلاث"([23]).
ولا شك في أن الأكمل والأفضل هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو الاقتصار على إحدى عشرة ركعة؛ لكن هل الزيادة عليها جائزة أم لا؟
قال القاضي عياض: "ولا خلاف أنه ليس في ذلك حدٌّ لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التي كلما زيد فيها زيد في الأجر والفضل، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه"([24]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً؛ بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة.
ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ، فإذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه، كل ذلك سائغ حسن. وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة، إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود، هكذا كان يفعل المكتوبات وقيام الليل، وصلاة الكسوف، وغير ذلك"([25]).
وقال الشوكاني: "فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين، وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة"([26]).
وقال الشيخ العثيمين: "والسنة أن يقتصر على إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين؛ لأن عائشة رضي الله عنها سئلت كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، متفق عليه([27]).
وفي الموطأ عن محمد بن يوسف (وهو ثقة ثبت) عن السائب بن يزيد (وهو صحابي) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة([28]).
وإن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا حرج لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قيام الليل فقال: ((مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)) أخرجاه في الصيحيحين([29]). لكن المحافظة على العدد الذي جاءت به السنة مع التأني والتطويل الذي لا يشق على الناس أفضل وأكمل"([30]).
و. وقت صلاة التراويح:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السنة في التراويح أن تصلى بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة، فما كان الأئمة يصلونها إلا بعد العشاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين وعلى ذلك أئمة الإسلام، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء، فإن هذه تسمى قيام رمضان"([31]).
ز. ما يقال من الذكر بعد الوتر:
قال ابن قدامة: "يستحب أن يقول بعد وتره: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويمدّ صوته بها في الثالثة؛ لما روى أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من الوتر قال: ((سبحان الملك القدوس)) هكذا رواه أبو داود([32]). وروى عبد الرحمن بن أبزى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و{قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاث مرات ثم يرفع صوته بها في الثالثة، أخرجه الإمام أحمد في المسند([33])"([34]).
ح. بدع صلاة التراويح:
1. قراءة سورة الأنعام في رمضان ليلة الجمعة أو في الليلة السابعة:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: "عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة، هل هي بدعة أم لا؟(/80)
فأجاب: نعم بدعة، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره من أن سورة الأنعام نزلت جملة، مشيعة بسبعين ألف ملك فاقرؤوها جملة لأنها نزلت جملة وهذا استدلال ضعيف وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور.
منها: أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلاً فاحشاً. والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله، وهو خلاف السنة فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها والله أعلم"([35]).
وقال النووي: "وليحذر كل الحذر مما اعتاده جهلة أئمة كثير من المساجد من قراءة سورة الأنعام بأكملها في الركعة الأخيرة في الليلة السابعة من شهر رمضان زاعمين أنها نزلت جملةً! وهذه بدعة قبيحة وجهالة ظاهرة مشتملة على مفاسد كثيرة..." ([36]).
2. صلاة القدر:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: "عن قوم يصلون بعد التراويح ركعتين في الجماعة، ثم في آخر الليل يصلون تمام مائة ركعة، ويسمون ذلك صلاة القدر، وقد امتنع بعض الأئمة من فعلها، فهل الصواب مع من يفعلها؟ أو مع من يتركها؟ وهل هي مستحبة عند أحد من الأئمة أو مكروهة. وهل ينبغي فعلها والأمر بها، أو تركها والنهي عنها؟
فأجاب: الحمد لله، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها، والذي تركها، فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من الأئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين والذي ينبغي أن تترك وينهى عنها"([37]).
3. الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح:
قال ابن الحاج: "وينبغي له أن يتجنب ما أحدثوه من الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح، ومن رفع أصواتهم بذلك والمشي على صوت واحد؛ فإن ذلك كله من البدع، وكذلك ينهى عن قول المؤذن بعد ذكرهم بعد التسليمتين من صلاة التراويح: الصلاة يرحمكم الله؛ فإنه محدث أيضاً، والحدث في الدين ممنوع وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يذكر عن أحد من السلف فعل ذلك فيسعنا ما وسعهم"([38]).
وقال الشيخ علي محفوظ: "ومن هنا يعلم كراهة ما أحدث في صلاة التراويح من قولهم عقب الركعتين الأوليين منها: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله، ونحو ذلك قبل الأخريين وبعضهم يترضى عن الصحابة فعقب الأولى عن أبي بكر والثانية عن عمر والثالثة عن عثمان والرابعة عن علي، وكل ذلك شرع لما لم يشرعه الله على لسان نبيه.
ولا يقال: إنه لا بأس به حيث إنه صلاة وتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، ومن حيث إنه ترضٍّ عن أصحابه لانعقاد الإجماع على سنِّ الترضي عنهم والترحم على العلماء والصلحاء؛ لما فيه من التنويه بعلو شأنهم، والتنبيه على عظم مقامهم، ولكن الناس تفعله على أنه شعار لصلاة التراويح ويرون ذلك حسنا، وهو من تلبيس الشيطان عليهم وهو أيضاً بدعة إضافية"([39]).
4. قيام السنة كلها كهيئة التراويح:
قال الباجي في شرح الموطأ: "إن هذا القيام الذي يقوم الناس به في رمضان في المساجد هو مشروع في السنة كلها يوقعونه في بيوتهم، وهو أقل ما يمكن في حق القارئ، وإنما جعل ذلك في المساجد في رمضان لكي يحصل لعامة الناس فضيلة القيام بالقرآن كله وسماع كلام ربهم في أفضل الشهور، انتهى. ولكونه أنزل فيه القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ولكون جبريل عليه السلام كان يدارس القرآن النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ فلأجل هذه الوجوه وما شابهها ناسب محافظة جميع الناس على قيامه، وإن كان القيام في السنة كلها مشروعاً لمن حفظ القرآن ومن لم يحفظه، فمن حفظه؛ قام به في بيته جهراً ولا يقوم به في المسجد - أعني في جماعة كما في رمضان وغير الحافظ يستحب له أن يصلي عدد الركعات بأم القرآن وبما تيسر معها من السور في بيته أيضاً، هذه هي السُنّة الماضية في الأمة؛ خلافاً لما فعله بعض الناس من أنه جعل القيام المعهود في رمضان دائماً في زاويته في جميع السنة، ثم نقلت واشتهرت فصارت تعمل في بعض المواضع المشهورة.
وقد قال ابن حبيب وغيره من العلماء إنهم يمنعون من ذلك في المساجد وفي كل موضع مشهور، وكذلك لو تواعدوا على أنهم يجمعون في موضع مشهور فإنهم يمنعون منه، فإن فعلوا فهي بدعة ممن فعلها. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى عنه فيما تقدم: نعمت البدعة هذه ـ يعني في جمعهم على قارئ واحد في رمضان، على ما تقدم بيانه، فذكره رضي الله تعالى عنه ذلك للتنبيه على أن من فعله على تلك الصفة في غير شهر رمضان فإنه بدعة"([40]).(/81)
([1]) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان رقم (2009)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح رقم (759)، واللفظ له.
([2]) شرح صحيح مسلم للنووي (6/58).
([3]) فتح الباري (4/296).
([4]) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (806)، واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأبو داود في كتاب الصلاة باب في قيام شهر رمضان، رقم (1375)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان رقم (1327)، والنسائي في كتاب السهر، باب ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف رقم (1363).
([5]) عون المعبود (4/174).
([6]) صلاة التراويح (ص17).
([7]) المبسوط (2/145)، والبحر الرائق (2/115).
([8]) بداية المجتهد (1/487)، التفريع (1/269)، المعونة (1/288).
([9]) المجموع (2/526)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي (2/233).
([10]) المغني (2/601) والإنصاف (2/180) .
([11]) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان رقم (2012) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (761).
([12]) فتح الباري (3/18).
([13]) أخرجه المروزي في قيام الليل (ص34)، وأحمد في المسند رقم (18402)، والنسائي في كتاب قيام الليل، باب قيام شهر رمضان رقم (1605)، وابن خزيمة في صحيحه (3/336) رقم (2204)، والحاكم في المستدرك (1/607) رقم (1608)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "معاوية إنما احتج به مسلم، وليس الحديث على شرط واحد منهما بل هو حسن". وصححه العلامة الألباني في صلاة التراويح (ص11).
([14]) المستدرك على الصحيحين (1/607).
([15]) تقدم تخريجه والكلام عليه.
([16]) سنن الترمذي (3/170).
([17]) شرح السنة (4/119).
([18]) صلاة التراويح (ص10).
([19]) صلاة التراويح (ص14) بتصرف.
([20]) لسان العرب مادة "روح"، وانظر فتح الباري (4/294)، وسبل السلام (2/23)، والنهاية لابن الأثير (2/274).
([21]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد،باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره رقم(1147)، واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ... رقم (738).
([22]) فتح الباري (3/40).
([23]) بداية المجتهد (1/487) وانظر: المبسوط (2/144)، والتفريع (1/269)، والمجموع (2/527)، والمغني (2/604).
([24]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/82).
([25]) مجموع الفتاوى (22/272-273)، (23/112، 113، 120)، وانظر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (ص220-222)، السنة للبغوي (4/117-125)، والمغني (2/604). وطرح التثريب (3/97)، والحاوي للفتاوى (1/347-350) وتحفة الأحوذي (3/520-532)، وصلاة التراويح للشيخ الألباني، رحمة الله على الجميع.
([26]) نيل الأوطار (3/66).
([27]) تقدم تخريجه (ص).
([28]) الموطأ في كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان (1/114) رقم (4).
([29]) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1137)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى ... رقم (749).
([30]) كتاب فصول في الصيام والتراويح والزكاة (ص16-17).
([31]) مجموع الفتاوى (23/119-123)، وانظر المجموع للنووي (2/526).
([32]) في كتاب الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، رقم (1430)، وصحّحه الألباني في صحيح أبي داود (1267).
([33]) المسند (3/406) وأخرجه النسائي (3/235، 244-247). كتاب قيام الليل، وغيره.
([34]) المغني (2/601) وانظر: المجموع للنووي (3/511) وقيام رمضان للألباني (ص33).
([35]) مجموع الفتاوى (23/121).
([36]) الأذكار للنووي (ص305).
([37]) مجموع الفتاوى (23/122).
([38]) المدخل لابن الحاج (2/443).
([39]) الإبداع (ص285).
([40]) انظر: المدخل (2/446-447).
تلاوة القرآن في رمضان وآدابها
رمضان شهر القرآن:
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
قال ابن كثير: "يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم"([1]).
قال ابن رجب الحنبلي: "وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}"([2]).(/82)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ([3]).
قال ابن رجب: "دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان"([4]).
([1]) تفسير القرآن العظيم (1/222).
([2]) لطائف المعارف (ص315).
([3]) رواه البخاري: فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم (4997)، ومسلم: الفضائل (2308).
([4]) لطائف المعارف (ص315) بتصرف يسير.
فضائل القرآن من الكتاب والسنة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ c لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29، 30].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله"([1]).
وقال عز وجل: {إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9، 10].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدد من اهتدى به {لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} يقول: للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام، يقول جل ثناؤه: فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به"([2]).
وقال تعالى: {وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، وينجيهم من عذابه فهو لهم رحمة ونعمة من الله أنعم بها عليهم {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} يقول: ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خساراً، يقول: إهلاكاً؛ لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهي عن شيء كفروا به، فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه فزادهم ذلك خساراً إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار رجساً إلى رجسهم قبل"([3]).
وقال عز وجل: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57، 58].
قال ابن كثير: "يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي زاجراً عن الفواحش {وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ} أي من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه وقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا، فإنه أولى ما يفرحون به {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة"([4]).
وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
قال ابن كثير: "هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم"([5]).(/83)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن عُلم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجل المعاني؛ لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه متشابهاً في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم"([6]).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح فيها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح فيها)) ([7]).
قال ابن بطال: "لما كان ما جمع طيب الريح وطيب المطعم أفضل المأكولات، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجه التي جمعت طيب الريح وطيب المطعم، دل ذلك أن القرآن أفضل الكلام"([8]).
وقال النووي: "فيه فضيلة حافظ القرآن"([9]).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)) وأقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذلك الذي أقعدني مقعدي هذا([10]).
قال ابن بطال: "حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تَعلّم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم دلّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جارياً ما دام كل من علمه تالياً"([11]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار))([12]).
قال ابن كثير: "ومضمون الحديث أن صاحب القرآن في غبطة وهي حسن الحال، فينبغي أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك"([13]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران))([14]).
قال القاضي عياض: "يحتمل - والله أعلم - أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة السفرة لاتصافه بوصفهم بحمل كتاب الله، ويحتمل أن يكون المراد أنه عامل لعمل السفرة وسالك مسلكهم"([15]).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطَنَيْن، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ((تلك السكينة تنزلت للقرآن))([16]).
قال النووي: "قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، والمختار منها: أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة، وفي الحديث فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة، وفيه فضيلة استماع القرآن"([17]).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كَوْماويْن([18]) في غير إثم ولا قطع رحم))؟ فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل؟))([19]).
قال أبو العباس القرطبي: "ومقصود الحديث الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه، وخاطبهم على ما تعارفوه، فإنهم أهل إبل، وإلا فأقلّ جزء من ثواب القرآن وتعليمه خير من الدنيا وما فيها"([20]).
([1]) تفسير القرآن العظيم (3/561).
([2]) جامع البيان (8/43).
([3]) جامع البيان (8/139).
([4]) تفسير القرآن العظيم (2/436).
([5]) تفسير القرآن العظيم (4/55).
([6]) تيسير الكريم الرحمن (6/463-464).
([7]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام (5020)، ومسلم: صلاة المسافرين (797).
([8]) شرح البخاري (10/256).
([9]) شرح صحيح مسلم (6/83).
([10]) أخرجه البخار ي: فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027).
([11]) شرح البخاري (10/265).
([12]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، اغتباط صاحب القرآن (5025)، ومسلم: صلاة المسافرين (815).
([13]) فضائل القرآن لابن كثير (ص129).
([14]) أخرجه البخاري: التفسير، سورة عبس (4937)، ومسلم كتاب: صلاة المسافرين باب : نزول السكينة لقراءة القرآن. (798).
([15]) إكمال المعلم (3/166).
([16]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، فضل الكهف (5011)، ومسلم: صلاة المسافرين (795).(/84)
([17]) شرح صحيح مسلم (6/82).
([18]) الكَوْماء من الإبل: مشرفة السنام عاليته (النهاية في غريب الحديث 4/211).
([19]) أخرجه مسلم كتاب: صلاة المسافرين باب: فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803).
([20]) المفهم (2/429).
آداب قراءة القرآن :
1. الإخلاص لله تعالى:
قال النووي: "أول ما ينبغي للمقرئ والقارئ أن يقصدا بذلك رضا الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ} [البينة:5]. أي: الملة المستقيمة، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))([1]) " ([2]).
2. الطهارة:
قال النووي: "يستحب أن يقرأ وهو على طهارة، فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين، والأحاديث فيه كثيرة معروفة"([3]).
3. الاستياك:
قال النووي: "وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره"([4]).
4. حسن الهيئة عند القراءة:
قال الغزالي مبينا آداب التلاوة: "الأول أن يكون على الوضوء واقفاً على هيئة الأدب والسكون، إما قائماً وإما جالساً مستقبل القبلة، مطرقاً رأسه غير متربع ولا متكئ ولا جالس على هيئة التكبر، فإن قرأ على غير وضوء وكان مضطجعاً في الفراش فله أيضاً ولكنه دون ذلك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ} [آل عمران:191]. فأثنى على الكل، ولكن قدّم القيام في الذكر، ثم القعود، ثم الذكر مضطجعاً"([5]).
5. نظافة المكان الذي يقرأ فيه:
قال النووي: "ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة"([6]).
6. الاستعاذة عند بداية القراءة:
والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا محمد قارئاً القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" ([7]).
وصيغة التعوذ أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)([8]).
وله صيغة أخرى وهي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).
وصيغة ثالثة بزيادة هي: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ([9]).
7. الترتيل:
قال تعالى: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه وبيّن القرآن إذا قرأته تبييناً وترسّل فيه ترسلاً"([10]).
وقال ابن كثير: "أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره"([11]).
وعن قتادة قال: سئل أنس، كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت مداً، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم([12]).
قال أبو بكر الآجري: "ثم ينبغي لمن قرأ القرآن أن يرتل كما قال الله عز وجل: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} قيل في التفسير: تبينه تبييناً، واعلم أنه إذا رتله وبينه انتفع به من يسمعه منه، وانتفع هو بذلك؛ لأنه قرأه كما أمر الله عز وجل في قوله تعالى: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، على تؤدة"([13]).
وعن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف، ألفاً تجده أم ياء: من ماء غير آسن أو من ماء غير ياسن، فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصّل في ركعة، فقال عبد الله: هذَّاً كهذِّ الشعر؟ إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ... الحديث([14]).
قال ابن كثير: "وفيه دليل على استحباب ترتيل القراءة والترسل فيها من غير هذرمة ولا بسرعة مفرطة، بل بتأمل وتفكر، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ} [ص:29]" ([15]).
8. تحسين الصوت بالقرآن:
عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) ([16]).
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) ([17]).(/85)
قال أبو بكر الآجري: "ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم، فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا، فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خِفْته أن يكون حُسْن صوته فتنة عليه، وكان مراده أن يستمع منه القرآن لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل، وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته وانتفع به الناس"([18]).
9. الجهر بالقراءة:
قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير الآية: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة فكان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيسمع المشركون قراءتك {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك، أسمعهم القرآن، ولا تجهر ذلك الجهر {وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} يقول بين الجهر والمخافتة"([19]).
قال ابن جرير: "فتأويل الكلام: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك، ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه وذكرك فيها فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقاً إلى أن تسمع أصحابك ولا يسمعه المشركون فيؤذوك"([20]).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة))([21]).
وقال الترمذي: "ومعنى هذا الحديث: أن الذي يُسرُّ بقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية، وإنما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب؛ لأن الذي يُسرُّ العمل لا يُخاف عليه العجب ما يُخاف عليه من علانيته"([22]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) أو قال: ((في الصلاة)) ([23]).
قال الغزالي: "ووجه الجمع أن الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه، فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوّش الوقت على مُصَلِّ آخر فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته أيضاً تتعلق بغيره، فالخير المتعدي أفضل من اللازم، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف إليه سمعه، ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت، ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة ويقلل من كسله"([24]).
10. التدبر:
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ} [ص:29].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد مبارك ليدبروا آياته، يقول: ليتدبروا حجج الله التي فيه وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به"([25]).
قال الآجري: "ثم إن الله عز وجل حثّ خلقه على أن يتدبروا القرآن فقال عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وقال عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء:82].
ألا ترون - رحمكم الله - إلى مولاكم الكريم كيف يحث خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل وعرف عظيم سلطانه وقدرته وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب فحذر مما حذره مولاه الكريم ورغب فيما رغبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاء فاستغنى بلا مال وعزّ بلا عشيرة وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها، متى أتعظ بما أتلوا؟! ولم يكن متى أختم السورة، وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب، متى أزدجر، متى أعتبر؟! لأن تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة والله الموفق"([26]).
11. البكاء :
قال تعالى: {قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109].(/86)
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان إذا يتلى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والصبر خشوعاً، يعني: خضوعاً لأمر الله وطاعته واستكانة له"([27]).
وقال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْراءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].
قال ابن جرير: "يقول: إذا تتلى على هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه {خَرُّواْ} لله {سُجَّداً} استكانة له وتذللاً وخضوعاً لأمره وانقياداً، {وَبُكِيّاً} يقول: خروا سجداً وهم باكون"([28]).
قال الآجري: "فأحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن عند قراءته ويتباكى ويخشع قلبه ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن، ألم تسمع إلى ما نعت الله عز وجل من هو بهذه الصفة وأخبرنا بفضلهم، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر:23].
ثم ذمّ قوماً استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم فقال عز وجل: {أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ G وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59-61]"([29]).
وقال الغزالي: "ووجه احضار الحزن أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب"([30]).
12.مراعاة حق الآيات:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مسترسلاً: إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ... الحديث"([31]).
قال الآجري: "وأحب إذا درس فمرت به آية رحمة سأل مولاه الكريم، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ بالله عز وجل من النار، وإذا مر بآية تنزيه لله عز وجل عما قال أهل الكفر سبح الله وعظمه"([32]).
13.المحافظة على سجود التلاوة:
قال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].
قال ابن كثير: "أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة، حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم"([33]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار)) ([34]).
قال الآجري: "وأحب للقارئ أن يأخذ نفسه بسجود القرآن كلما مر بسجدة سجد فيها، وفي القرآن خمس عشرة سجدة، وقد قيل أربع عشرة سجدة، وقد قيل إحدى عشرة سجدة، والذي أختار له أن يسجد كلما مرت به سجدة، فإنه يرضي ربه عز وجل، ويغيظ عدوه الشيطان"([35]).
14.الاجتماع عند التلاوة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده))([36]).
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)) ([37]).
قال النووي: "اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهرة"، ثم ذكر الحديثين السابقين فقال: "وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين"([38]).
([1]) أخرجه البخاري: بدء الوحي ، باب بدء الوحي (1)، ومسلم في : الإمارة ، باب : قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال...)) (1907).
([2]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص17).
([3]) المصدر السابق (ص38).
([4]) المصدر السابق (ص37).
([5]) إحياء علوم الدين (1/365).
([6]) التبيان (ص40).
([7]) تفسير ابن جرير (7/644).
([8]) التبيان (ص41).(/87)
([9]) أخرجه والذي قبله أبو داود: الصلاة، باب: رأي الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (775)، والترمذي: الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة (242)، والدارمي: الصلاة، باب: ما يقال بعد افتتاح الصلاة (1241) من حديث أبي سعيد الخدري وصححه الألباني في الإرواء برقم (341، 342). وقد فسر ألفاظه عمرو بن مرة عند ابن ماجه (1/265، 807) ومطر الوراق عند الدرامي (ص325) بالرقم السابق فقالا: همزه: الموتة، ونفثه: الشعر، ونفخه: الكبر.
([10]) تفسير ابن جرير (12/280).
([11]) تفسير القرآن العظيم (4/463).
([12]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب مدّ القراءة (5046).
([13]) أخلاق حملة القرآن (220/221).
([14]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب: الترتيل في القراءة (5043)، ومسلم: صلاة المسافرين (722) واللفظ له.
([15]) فضائل القرآن (ص158).
([16]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن (5048)، ومسلم: صلاة المسافرين (793).
([17]) أخرجه البخاري: فضائل القرآن، باب: من لم يتغن بالقرآن (5023)، ومسلم: صلاة المسافرين (792).
([18]) أخلاق حملة القرآن (ص210).
([19]) أخرجه البخاري: التفسير، باب: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها (4722)، ومسلم: الصلاة (446).
([20]) جامع البيان (17/588-589).
([21]) رواه أبو داود: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1333)، والترمذي: فضائل القرآن، والنسائي: الزكاة، باب: المسر بالصدقة (2561)، والحاكم: فضائل القرآن (1/155)، وقال: صحيح على شرط البخاري وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1184) (1/247).
([22]) جامع الترمذي (5/165-166).
([23]) رواه أبو داود: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1332)، والنسائي: في فضائل القرآن، باب: ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن (117)، وابن خزيمة: أبواب صلاة التطوع بالليل، باب: الزجر عن الجهر بالقراءة في الصلاة (1162)، والحاكم في المستدرك: صلاة التطوع (1/311)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1183)، وفي الصحيحة (1597)، (1603).
([24]) إحياء علوم الدين (1/370).
([25]) جامع البيان (21/190).
([26]) أخلاق حملة القرآن (ص111).
([27]) جامع البيان (17/579).
([28]) جامع البيان (18/58).
([29]) أخلاق حملة القرآن (ص220).
([30]) إحياء علوم الدين (1/368).
([31]) رواه مسلم: صلاة المسافرين (272).
([32]) أخلاق حملة القرآن (ص201).
([33]) تفسير القرآن العظيم (3/134) بتصرف يسير.
([34]) أخرجه مسلم: الإيمان (81) ولكن قال (فأبيت) بدل (فعصيت).
([35]) أخلاق حملة القرآن (ص198).
([36]) أخرجه مسلم: الذكر والدعاء باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699).
([37]) أخرجه مسلم: الذكر والدعاء (2700).
([38]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص51).
الاعتكاف
أولاً: تعريف الاعتكاف:
أ- الاعتكاف لغة:
قال ابن فارس: "العين والكاف والفاء أصل صحيح يدل على مقابلة وحبس"([1]).
وهو من عكف على الشيء يعكف عكفاً وعكوفاً، أي: لزم المكان ([2]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والتاء في الاعتكاف تفيد ضرباً من المعالجة والمزاولة؛ لأن فيه كلفة، كما يقال … عمل واعتمل وقطع وانقطع" ([3]).
ويسمى الاعتكاف جِوَاراً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه، وهو مجاور في المسجد، فأرجله، وأنا
حائض([4]).
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أجاور العشر الأواخر))([5]).
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما قالا: (لا جوار إلاّ بصيام)([6]).
قال الحافظ: "ويؤخذ منه أن المجاورة والاعتكاف واحد" ([7]).
ب- والاعتكاف شرعاً:
اتفق الفقهاء رحمهم الله على أنّه في الشرع: لزوم مسجدٍ لطاعة الله، وإن كان بينهم تفاوتٌ في صياغة التعريف من حيث إثبات أو حذف بعض الشروط والأركان، كالنية، والإسلام، والصوم … الخ، تبعاً لاختلافهم في بعض المسائل.
فتعريف الحنفية: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف ([8]).
وتعريف المالكية: هو لزوم مسلمٍ مميِّز مسجداً مباحاً بصوم كافًّا عن الجماع ومقدماته يوماً وليلةً فأكثر للعبادة بنية ([9]).
وتعريف الشافعية: اللبث في المسجد من شخصٍ مخصوصٍ بنية ([10]).
وتعريف الحنابلة: هو لزومُ مسلمٍ لا غُسْل عليه، عاقلٍ ولو مميِّزاً، مسجداً ولو
ساعة، لطاعةٍ على صفةٍ مخصوصة ([11]).
وعرَّفه أبو محمد ابن حزم رحمه الله بأنه: " الإقامة في المسجد بنية التقرب الى الله عز وجل ساعة فما فوقها ليلاً أو نهاراً " ([12]).
والاعتكاف من الشرائع القديمة([13])، كما قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [ البقرة: 125 ].(/88)
([1]) مقاييس اللغة (4/108)، مادة (عكف).
([2]) لسان العرب (9/255)، مادة (عكف).
([3]) شرح العمدة (2/707-الصيام).
([4]) أخرجه البخاري، في الاعتكاف، باب الحائض ترجل رأس المعتكف (2028) و(2029).
([5]) أخرجه البخاري، في فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر (2018)، ومسلم في الصيام، باب: فضل ليلة القدر (1167).
([6]) أخرجه عبد الرزاق (4/353)، والبيهقي في الكبرى (4/318). وصححه الحافظ في الفتح (4/322).
([7]) فتح الباري (4/273).
([8]) الهداية مع فتح القدير (2/390).
([9]) الشرح الكبير للدردير مع حاشيته (1/541).
([10]) مغني المحتاج (1/449).
([11]) منتهى الإرادات (1/167).
([12]) المحلى (5/179).
([13]) انظر: مغني المحتاج (1/449)، الإقناع للشربيني (1/246)، الشرح الممتع (6/506).
ثانيًا: الأدلة على مشروعيته:
دلّ على مشروعيته: دليل الكتاب، والسنة، والإجماع.
أ- أما دليل الكتاب:
فقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [ البقرة: 187 ].
قال السعدي: " دلت الآية على مشروعية الاعتكاف " ([1]).
ب- وأما دليل السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان([2]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده([3]).
عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان...([4]) الحديث.
قال القاضي عياض: "وفي هذه الأحاديث جواز الاعتكاف في رمضان وشوال، ويقاس عليها غيرهما من الشهور، وجواز أول الشهر ووسطه وآخره؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك"([5]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا كله يدل على محافظته صلى الله عليه وسلم"([6]).
قال ابن الملقن: "وفيه استحباب الاعتكاف وتأكده حيث واظب عليه حتى توفي عليه السلام"([7]).
ج- وأمَّا الإجماع:
فقد نقله غير واحد من العلماء رحمهم الله:
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضاً إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذراً فيجب عليه"([8]).
ونقله أيضاً ابن حزم([9])، والنووي([10])، وابن قدامة([11])، وابن تيمية ([12])، والقرطبي ([13])، وابن هبيرة ([14])، والزركشي([15])، وابن رشد ([16]).
([1]) تيسير الكريم الرحمن (1/227).
([2]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (2025)، ومسلم في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (1171).
([3]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر (2026)، ومسلم في الاعتكاف، باب: تحري ليلة القدر (2018).
([4]) أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر، باب: تحري ليلة القدر (2018)، ومسلم في الصيام، باب: فضل ليلة القدر (1167).
([5]) إكمال المعلم (4/151).
([6]) شرح العمدة (2/710-الصيام).
([7]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/428).
([8]) الإجماع (ص: 53 ).
([9]) مراتب الإجماع (ص: 41 ).
([10]) المجموع (6/407 ).
([11]) المغني (4/456 ).
([12]) شرح العمدة (2/711 ـ الصيام).
([13]) الجامع لأحكام القرآن (2/333 ).
([14]) الإفصاح (1/255 ).
([15]) شرح الزركشي (3/4 ).
([16]) بداية المجتهد (1/312 ).
ثالثًا: الحكمة من مشروعيته:
قال ابن القيم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيّته على الله، ولمّ شَعَثِه بإقباله بالكليّة على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمّه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً ويشتّته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيده إلى الله ـ تعالى ـ، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوِّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم"([1]).(/89)
والحكمة من تخصيصه صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان قد بيَّنها عليه السلام، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط... ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه، فقال: ((إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقال: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف))، فاعتكف الناس معه...([2]).
([1]) زاد المعاد (2/86 – 87 )، وانظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام (2/711 ـ الصيام)، والفتاوى الهندية (1/212 )، والشرح الصغير للدردير (1/259 )، وسبل السلام (2/174 ).
([2]) أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر (2018 )، ومسلم في الصيام، باب فضل ليلة القدر (1167) (215 )، واللفظ له.
رابعًا: فضله:
قال أبو داود: قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً؟ قال: لا؛ إلا شيئاً ضعيفاً([1]).
قال ابن تيمية: "وأحاديث الترغيب والترهيب يتسامح في أسانيدها؛ كما قال أحمد: إذا جاء الترغيب والترهيب سهّلنا، وإذا جاء الحلال والحرام شددنا.
وقول أحمد: (إلا شيئاً ضعيفاً) إشارة إلى أنّ إسناده ليس قوياً، وهذا القدر قدر لا يمنع الاحتجاج به في الأحكام، فكيف في الفضائل؟!"([2]).
ومما ورد في ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: ((هو الذي يعكف الذنوب، ويجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها))([3]).
وعن أبي الدرداء مرفوعاً: ((من اعتكف ليلة كان له كأجر عمرة، ومن اعتكف ليلتين كأن له كأجر عمرتين...))([4]).
([1]) مسائل أبي داود (ص96).
([2])شرح العمدة (2/713 ـ الصيام)
([3]) ضعيف، أخرجه ابن ماجه في الاعتكاف، باب في ثواب الاعتكاف (1781)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/523)، من طريق عبيدة العمي عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً. وفرقد قال البخاري عنه في تاريخه (7/131): فرقد أبو يعقوب السبخي، عن سعيد بن جبير، في حديثه مناكير. وضعف الحديث البيهقي في الشعب، والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/45).
([4]) عزاه ابن تيمية في شرح كتاب الصيام من العمدة (2/712) إلى إسحاق بن راهويه، ولم أقف عليه بعد طول بحث.
خامسًا: حكمُه:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكمه للرجال:
الاعتكاف سنة ما لم يوجبه الإنسان على نفسه بالنذر، وقد حكي إجماعاً ([1]).
ولأدلة مشروعيته المتقدمة([2]).
وعن الإمام مالك كراهةُ الاعتكاف، أخذها ابن رشد([3]) من قول الإمام مالك:
"ما رأيت صحابياً اعتكف، وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قُبِضَ، وهم أشد الناس، فلم أزل أفكّر حتى أخذ بنفسي أنه لشدّته، نهارُه وليلُه سواء كالوصال المنهي
عنه".
وقال أيضاً: "ما بلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا ابن المسيب، ولا أحد من سلف هذه الأمة اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن، وذلك – والله أعلم – لشدة الاعتكاف"([4]).
وعلل بعض المالكية ما ظهر عن الإمام مالك من كراهية الاعتكاف؛ أنه من الرهبانية المنهي عنها([5]).
وأخذ منه بعض المالكية استحباب الاعتكاف دون سنيته([6]).
ولا يسلم ما ذكره الإمام مالك رحمه الله؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اعتكفوا معه في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط... فكلم الناس فدنوا منه، فقال: ((إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف)) فاعتكف الناس معه...([7]).
وأيضاً: اعتكف أزواجه رضي الله عنهن من بعده صلى الله عليه وسلم ([8]).
قال الحافظ ابن حجر: "لعله – أي: مالكاً – أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف"([9]) كعلي بن أبي طالب ([10])، ويعلى بن أمية ([11]) رضي الله عنهما.
قال الزهري: "عجباً من الناس كيف تركوا الاعتكاف؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض"([12]).
وقال الإمام أحمد: "لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون"([13]).
المطلب الثاني: حكمه للمرأة:
ذهب جماهير أهل العلم([14]) إلى أن الاعتكاف سنة في حق النساء كما هو سنة في حق الرجال.
ومما استدلوا به: عموم أدلة مشروعية الاعتكاف ([15])، فهي تشمل الرجل والمرأة الشابة.
وحديث عائشة رضي الله عنها، وفيه إذنه صلى الله عليه وسلم لعائشه وحفصة رضي الله عنهما أن يعتكفا معه([16])، وكانتا شابتين.
([1]) انظر: الإجماع لابن المنذر (ص: 53 )، وشرح العمدة لشيخ الإسلام (2/711 ـ الصيام).
([2]) انظر: (ص: 3 – 4 ).
([3]) مقدمات ابن رشد مع المدونة (1/201 ).
([4]) انظر: الاستذكار (10/304 ).
([5]) انظر: إكمال إكمال المعلم للأبي (3/281 ).(/90)
([6]) انظر: بداية المجتهد (1/312 ).
([7]) تقدم تخريجه في (ص:3 ).
([8]) تقدم تخريجه في (ص:5).
([9]) فتح الباري (4/272 ).
([10]) انظر: عارضة الأحوذي (4/3 ).
([11]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/2346 )، وابن أبي شيبة في المصنف (3/89 )، وصححه ابن حزم في المحلى (5/179 ).
([12]) انظر: المبسوط (3/114 )، عمدة القاري (12/140 ).
([13]) مسائل أحمد لأبي داود (ص: 97 ).
([14]) انظر: المبسوط (3/119 )، المدونة مع مقدمات ابن رشد (1/200 )، مغني المحتاج (1/451 )، المبدع (3/65)، المحلى (5/179 ).
([15]) تقدمت الإشارة إليه.
([16]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (2041 )، ومسلم في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1173 ).
سادسًا: أركان الاعتكاف:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في تعداد أركان الاعتكاف، وهذا الاختلاف راجع إلى اختلافهم في اعتبارِ بعض الشروط، والامتناعِ عن بعض المبطلات أركاناً.
فعند الحنفية أن ركن الاعتكاف هو: اللبث في المسجد فقط، والباقي شروط وأطراف لا أركان([1]).
وعند المالكية أركانه خمسة: نية الاعتكاف، المسجد المباح، الصوم، الكف عن الجماع ومقدماته([2]).
وعند الشافعية أركانه أربعة: اللبث في المسجد، النية، المعتكف، والمعتكف فيه([3]).
وعند الحنابلة ركناه: لزوم المسجد، النية ([4]).
([1]) انظر: بدائع الصنائع (2/109 )، حاشية ابن عابدين (2/441 ).
([2]) انظر: الخلاصة الفقهية على مذهب السادة المالكية للقروي (ص: 257 ).
([3]) انظر: روضة الطالبين (2/391 ).
([4]) انظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/751 ـ الصيام).
سابعًا: شروط صحة الاعتكاف:
وللاعتكاف شروط اتفق العلماء على بعضها، واختلفوا في البعض الآخر.
ولنبدأ بما اتفقوا عليه ثم نعقب ذلك بذكر ما اختلفوا فيه مع شيءٍ من البسط في ذكر أدلة كلّ قول.
أ- الإسلام:
فلا يصح الاعتكاف من كافر أصلي أو مرتد؛ لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54].
قال الشيخ ابن سعدي: "والأعمال كلها شرط قبولها الإيمان، فهؤلاء لا إيمان لهم، ولا عمل صالح"([1]).
فإذا كانت النفقات – مع أن نفعها متعدّ – لا تقبل من الكافر لكفره، فالعبادات البدنية المحضة من باب أولى([2]).
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([3]).
ب- العقل:
فلا يصح الاعتكاف من مجنون، ولا سكران، ولا مغمىً عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل))([4]).
ولا يصح منه ذلك "لعدم القصد؛ لأن المجنون لا قصد له، ومن لا قصد له لا
نية له، ومن لا نية له لا عمل له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات))([5])"([6]).
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([7]).
ج- التمييز:
فغير المميز لا يصح منه الاعتكاف؛ لما تقدم من الدليل في الشرط الثاني.
وهذا الشرط باتفاق الأئمة رحمهم الله([8]).
د- النية:
لحديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إنما الأعمال بالنيات)) الحديث ([9]).
قال القاضي عياض: "قوله: ((إنّما الأعمال بالنيات)) دليل أنّ ما عمل بغير نية غير جائز ولا لازم، وإنما يلزم منه ويصح ما قارفته"([10]).
وقال النووي: "وفيه دليل على أن الطهارة وهي: الوضوء والغسل والتيمم لا تصح إلاَّ بالنية، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والاعتكاف وسائر العبادات"([11]).
"ولأنّ اللبث في المسجد قد يقصد به الاعتكاف، وقد يقصد به غيره، فاحتيج إلى نية للتمييز بينهما"([12]).
وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله.
قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أنه لا يصح إلا بنية"([13]).
وقال ابن رشد: "أمّا النية فلا أعلم فيها اختلافاً"([14]).
إلا أن المالكية([15])، والشافعية([16])، وشيخ الإسلام([17])، ذكروا النية في أركان الاعتكاف.
هـ- الطهارة الكبرى: من الحيض والنفاس والجنابة:
اختلف العلماء رحمهم الله في حكم اعتكاف الحائض والنفساء والجنب على قولين:
القول الأول: التحريم وعدم الصحة.
وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله ([18]).
ومما استدلوا به قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} [النساء:43].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: " قال بعض العلماء بالقرآن: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة، وما أشبه ما قال بما قال؛ لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل، إنما السبيل في موضعها وهو المسجد"([19]).
القول الثاني: صحة اعتكافهم في المسجد.
وهو قول الظاهرية ([20]).(/91)
ومما استدلوا به: ما روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ وليدة سوداء كانت لحيٍّ من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خِباء في المسجد أو حفش([21])([22]).
قال أبو محمد بن حزم: "فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي، والمعهود من النساء الحيض، فما منعها عليه السلام من ذلك، ولا نهى عنه، وكل ما لم ينه عنه فمباح"([23]).
أمّا الطهارة من الحدث الأصغر: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، والعاكف فيه لا يشترط له الطهارة، ولا تجب عليه الطهارة من الحدث الأصغر باتفاق المسلمين"([24]).
و- إذن السيد لعبده والزوج لزوجته:
يصح اعتكاف الرقيق والمرأة باتفاق الأئمة رحمهم الله([25]).
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان... قال: فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها... الحديث([26]).
ولعموم أدلة الاعتكاف، فهي شاملة للرقيق وغيره.
لكن ليس للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها، وليس للمملوك أن يعتكف إلا بإذن سيده، كما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه استئذان عائشة رضي الله عنها.
قال ابن المنذر: "في هذا الحديث إباحة اعتكاف النساء؛ لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة في ذلك، وفيه دليل أن المرأة إذا أرادت اعتكافاً لم تعتكف حتى تستأذن زوجها، ويدل على أن الأفضل والأعلى للنساء لزوم منازلهن، وترك الاعتكاف مع إباحته لهن؛ لأن ردَّهُنَّ ومنعهن منه يدل على أنّ لزوم منازلهن أفضل من الاعتكاف"([27]).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) ([28]).
قال القاضي عياض: "هذا في التطوع؛ لأنّ حق زوجها عليها واجب، فلا يترك الواجب للنفل"([29]).
وقال النووي: "وهذا النهي للتحريم صرَّح به أصحابنا؛ وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع"([30]).
وكذا الاعتكاف.
ولأن "منافعهما – أي: الزوجة والرقيق – مملوكة لغيرهما، والاعتكاف يفوتها، ويمنع استيفاءها وليس بواجب عليهما بالشرع، فكان لهما المنع منه"([31]).
قال ابن هبيرة: "وأجمعوا على أن العبد ليس له أن يعتكف إلا بإذن
سيده"([32]).
ز- الصوم في الاعتكاف:
اختلف العلماء رحمهم الله في اشتراط الصوم لصحّة الاعتكاف على أقوال.
والسبب في اختلافهم: "أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقع في رمضان، فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف، وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه، قال: لابد من الصوم مع الاعتكاف، ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقاً لا على أنّ ذلك كان مقصوداً له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف، قال: ليس الصوم من شرطه؛ ولذلك أيضاً سبب آخر، وهو اقترانه مع الصوم في آية واحدة"([33]).
القول الأول: عدم اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف.
قال به علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وعطاء، وطاوس([34]).
وبه قال بعض المالكية([35])، وهو مذهب الشافعية([36])، والحنابلة([37])، وداود، وابن حزم([38]).
ومما استدلوا به ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له:
((أوف بنذرك))([39]).
قال النووي: "وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في صحة الاعتكاف بغير صوم"([40]).
وقال ابن حجر: "استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن الليل ليس ظرفاً للصوم، فلو كان شرطاً لأَمَرَهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم به"([41]).
"ولأنَّهما عبادتان منفصلتان؛ فلا يشترط للواحدة وجوَّد الأخرى"([42]).
واختار هذا القول الشوكاني([43])، ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله([44]).
القول الثاني: أنّ الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب دون التطوع.
وهو مذهب الحنفية([45]).
القول الثالث: أنّه شرط لصحة الاعتكاف مطلقاً.
وهو مذهب بعض المالكية ([46])، وبه قال بعض الشافعية ([47])، ورواية عن أحمد([48]).
ومما استدلوا به قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
ووجه الدلالة: قالوا: دلَّت الآية على أنَّ الصوم شرط لصحة الاعتكاف؛ لأنَّ الله ذكره بعد ذكر الصوم، وعليه فيكون الاعتكاف مشروعاً في كل وقت عدا الأيام التي ينهى فيها عن الصيام ([49]).
وردَّ هذا بالمنع "إذ لا يلزم من ذكر حكمٍ بعد حكمٍ آخر عَقْدُ أحدهما بالآخر، وإلاَّ لزم أن يقال: لا يجزي صيام إلا باعتكاف ولا قائل به"([50]).
واستدلوا أيضاً بما روته عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((لا اعتكاف إلا
بصوم))([51]).
ورد: بأنَّه ضعيف.
وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم([52]).(/92)
ثمرة الخلاف: يترتب على القول باشتراط الصوم لصحة الاعتكاف أمور منها:
1- عدم صحة اعتكاف الأيام المنهي عنها كالعيدين وأيام التشريق ([53]).
2- عدم صحة اعتكاف الليل بمفرده ([54]).
3- أن الاعتكاف لا يكون أقل من يوم ([55]).
حـ - أن يكون الاعتكاف في المسجد:
ودليل ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
[البقرة:187].
قال القرطبي: "أجمع العلماء على أنّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ في
المسجد"([56]).
وقال الحافظ ابن حجر: "فعلم من ذكر المساجد أنَّ المراد أنَّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ فيها"([57]).
وقال السعدي: "ودلت الآية... أنّ الاعتكاف لا يصح إلاَّ في مسجد"([58]).
" فإن قيل: قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} دليل على أنَّه قد يكون عاكفاً في غير المسجد؟ لأنّ التقييد بالصفة بما لولاه لدخل في المطلق.
قلنا: لا ريب أنَّ كل مقيم في مكان ملازم له فهو عاكف، لكن الكلام في النوع الذي شرعه الله تعالى؛ كما أنَّ كل ممسك يسمى صائماً، وكل قاصد يسمى متيمِمًا، ثم لما أمر الله تعالى بتيمم الصعيد وأمر بالإمساك عن المفطرات؛ صار ذلك هو النوع المشروع.
على أنَّ الصفة قد تكون للتبيين والإيضاح، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} [المؤمنون:117]، وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ} [البقرة:61] ونحو ذلك"([59]).
وقال الشوكاني: " ومعلّم الشرائع صلى الله عليه وسلم الذي جاء بمشروعية الاعتكاف لم يفعله إلاَّ في المسجد، ولم يشرعه لأمَّته إلاَّ في المساجد، وهذا القدر يكفي، ومن ادَّعى أنها تُوجَد ماهية الاعتكاف الشرعية في غير مسجد فالدليل عليه"([60]) ولا دليل.
وأما السنة: فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه، وهو في المسجد، فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً([61]).
وغيرها من الأحاديث.
وأما الإجماع فقال ابن بطال: "وأجمع العلماء أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد"([62]).
وقال ابن عبد البر: "فمما أجمع عليه العلماء من ذلك أنّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ في مسجد؛ لقول الله عز وجل: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}"([63]).
وقال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد"([64]).
وقال ابن تيمية: "والاعتكاف يشترط له المسجد، ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق"([65]).
وقال ابن رشد وابن حجر والزرقاني: " وقد اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة فأجازه في كل مكان"([66]).
مسألة: اشتراط الاعتكاف في المساجد الثلاثة:
لم يذهب إلى اشتراط الاعتكاف في المساجد الثلاثة إلا سعيد بن المسيب([67])، ومن المعاصرين الشيخ الألباني ([68]) .
وعن عطاء: لا اعتكاف إلا في مسجد مكة والمدينة([69]).
واستدلوا بحديث حذيفة رضي الله عنه أنّه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الناسُ عكوف بين دارك ودار أبي موسى، لا يضر؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا اعتكاف إلاّ في المساجد الثلاثة)). فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا([70]).
ونوقش هذا الاستدلال من أوجه:
الوجه الأول: أنّه لا يثبت مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه موقوف([71]).
الوجه الثاني: أنّ ابن مسعود رضي الله عنه، وهّنه حين ذكر له حذيفة هذا، فقال له: (لعلهم أصابوا فأخطأت، وذكروا فنسيت) فأوهن هذا حكمًا ورواية([72]).
الوجه الثالث: أنّه لو قيل بموجب هذا الحديث لكانت (أل) في قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، للعهد الذهني، ولا دليل على ذلك في الآية، بل هي للعموم، وهذا هو الأصل([73]).
الوجه الرابع: أنّه لو قيل بموجب هذا الحديث لكان حملاً للآية على النادر، وهذا من معايب الاستدلال([74]).
الوجه الخامس: أنّه على فرض ثبوته فالمراد به: لا اعتكاف تام. أي: أن المساجد الأخرى الاعتكاف فيها دون المساجد الثلاثة، كما أن الصلاة في المساجد فيها دون الصلاة في المساجد الثلاثة([75]).
والذي عليه عامة الصحابة والتابعين أنّه يصح في كل مسجد فيه جماعة.
قال ابن تيمية: "وهو قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه، إلاّ من قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة، أو مسجد نبي"([76]) .
وقال به من السلف: عروة، والزهري، والحسن، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وأبو الأحوص، وأبو قلابة، وغيرهم ([77]) .
مسألة: أفضل المساجد للاعتكاف:
أفضل المساجد للاعتكاف: المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى([78]).(/93)
لكونها أفضل المساجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي
هذا، والمسجد الأقصى))([79]).
وأفضلها: المسجد الحرام، ثم النبوي، ثم الأقصى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))([80]).
ثم بعد المساجد الثلاثة فنصَّ الحنفية على أنَّه يستحب أن يعتكف في المسجد الجامع، ثم المساجد العظام التي كثر أهلها([81]).
ونصَّ الشافعية والحنابلة: أنَّ الأفضل أن يعتكف في الجامع ممن تجب عليه الجمعة، إذا تخلل اعتكافه جمعة لئلا يحوجه ذلك إلى الخروج إليها([82]).
([1]) تيسير الكريم الرحمن (3/248 ).
([2]) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين (2/19) بتصرف يسير.
([3]) انظر: بدائع الصنائع (2/108 )، تبيين الحقائق (1/348 )، جواهر الإكليل (1/156 )، شرح الخرشي (2/267 )، روضة الطالبين (2/396 )، مغني المحتاج (2/454 )، المبدع (3/63 )، غاية المنتهى (1/364 )، منار السبيل (1/232 ).
([4]) صحيح: أخرجه أحمد (6/101 )، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (1/658 رقم 2041 )، وأبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً (5/83 رقم 4398 )، والنسائي في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (6/156 رقم 3432 )، واللفظ لأحمد، وصححه ابن حبان (1/355 )، والحاكم (2/59) وغيرهما.
([5]) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب النية في الأيمان (16689 )، ومسلم في الأمارة، باب قوله عليه السلام: (( إنما الأعمال بالنية )) (1907 ).
([6]) الشرح الممتع لابن عثيمين (1/355 )، وانظر: بدائع الصنائع (2/108 ).
[7]) انظر: المصادر السابقة في (الشرط الأول ).
([8]) انظر: بدائع الصنائع (2/108 )، سراج المسالك (1/203 )، روضة الطالبين (2/396 )، المبدع (3/63 )، مطالب أولي النهى (2/227 ).
([9]) تقدم تخريجه.
([10]) إكمال المعلم (6/332 ).
([11]) شرح مسلم (13/54 ).
([12]) فقه الاعتكاف لخالد المشيقح (ص: 70 ).
([13]) الإفصاح (1/255 ).
([14]) بداية المجتهد (1/315 ).
([15]) انظر: الخلاصة الفقهية لابن القروي (ص: 257 ).
([16]) انظر: روضة الطالبين (2/395 ).
([17]) شرح العمدة (2/751 ـ الصيام).
([18]) انظر: حاشية ابن عابدين (2/442 )، الشرح الصغير للدردير (2/290 )، المجموع (6/519 )، الشرح الكبير مع الإنصاف (7/605 )، مجموع فتاوى شيخ الإسلام (26/123، 215 ).
([19]) الأم (1/54).
([20]) انظر: المحلى (2/250) (5/286 ).
([21]) الحِفْش: بكسر الحاء وإسكان الفاء: البيت الصغير. انظر: النهاية (1/407) مادة (حفش ).
([22]) أخرجه البخاري مطولاً في كتاب الصلاة، باب نوم المرأة في المسجد (439 ).
([23]) المحلى (2/253 ).
([24]) مجموع الفتاوى (26/126 ).
([25]) انظر: المبسوط (3/119 )، مقدمات ابن رشد (1/200 )، الأم (2/108) المغني (4/485 ).
([26]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (2041 )، واللفظ له، ومسلم في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1173 ).
([27]) انظر: شرح ابن بطال على البخاري (4/170 ).
([28]) أخرجه البخاري في النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها (5195 )، واللفظ له، ومسلم في الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026 ).
([29]) إكمال المعلم (3/553 ).
([30]) شرح مسلم (7/115 ).
([31]) المغني (4/485 ).
([32]) الإفصاح (3/205) ط: الفجر.
([33]) بداية المجتهد (1/317 ).
([34]) انظر: المحلى (5/181 )، المغني (4/459 ).
([35]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/334 ).
([36]) انظر: الأم (2/107 ).
([37]) انظر: المستوعب (3/478 )، المغني (4/459 ).
([38]) انظر: المحلى (5/268 ).
([39]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلاً (2032 )، ومسلم في الإيمان، باب نذر الكافر
( 1656 ).
([40]) شرح مسلم (11/124 ).
([41]) فتح الباري (4/322 ).
([42]) الشرح الممتع (6/509 ).
([43]) السيل الجرار (2/134 ).
([44]) الشرح الممتع (6/509 ).
([45]) انظر: المبسوط (3/115 )، بدائع الصنائع (2/109 ).
([46]) انظر: الموطأ (1/27 )، المدونة مع مقدمات ابن رشد (1/195 ).
([47]) انظر: المجموع (6/485 ).
([48]) انظر: الإنصاف (3/360).
([49]) انظر: الموطأ (1/315 ).
([50]) المحلى (5/182) بتصرف يسير.
([51]) أخرجه الدارقطني في كتاب الصيام، باب الاعتكاف (2/199 )، وقال: " تفرد به سويد عن سفيان بن حسين "، والبيهقي في الصيام، باب المعتكف يصوم (4/317 )، وقال: " هذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد، وسويد ضعيف بمرة، لا يقبل منه ما تفرد به ".
([52]) انظر: زاد المعاد (2/88 ).
([53]) انظر: مقدمات ابن رشد مع المدونة (1/200 ).(/94)
([54]) انظر: فقه الاعتكاف (ص: 109 ).
([55]) المرجع السابق.
([56]) الجامع لأحكام القرآن (2/333 ).
([57]) فتح الباري (4/272 ).
([58]) تيسير الكريم الرحمن (1/227 ).
([59]) شرح العمدة لابن تيمية (2/721 ـ الصيام).
([60]) السيل الجرار (2/136 ).
([61]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة (2029 )، ومسلم في الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها (297 ).
([62]) شرحه على البخاري (4/161 ).
([63]) التمهيد (8/325 ).
([64]) الجامع لأحكام القرآن (2/333 ).
([65]) مجموع الفتاوى (26/123 ).
([66]) بداية المجتهد (1/312 )، فتح الباري (4/372 )، شرح الزرقاني للموطأ (2/206 ).
([67]) أخرجه ابن أبي شيبة (3/91)، وابن حزم في (المحلى) (5/194). وإسناده صحيح.
([68]) انظر: قيام رمضان له (37).
([69]) أخرجه عبد الزراق (4/349) بإسناد صحيح.
([70]) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (7/201) والبيهقي في "الكبرى" (4/316) وابن حزم في المحلى (5/192)، وقال ابن حزم: (هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولو أنه عليه السلام قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شك، فصح يقينا أنه عليه السلام لم يقله قط). وانظر لمزيد تخريج هذا الحديث والكلام على طرقه رسالة "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" لجاسم الفهيد الدوسري.
([71]) ولهذا لم يتطرّق من ذكر مذهب حذيفة وابن المسيب إلى الرواية المرفوعة.. انظر: "شرح السنة" (6/394) للبغوي، و"أحكام القرآن" (1/333) للجصاص، و"الجامع لأحكام القرآن" (2/333) للقرطبي، و"التمهيد" (8/325) لابن عبد البر، وانظر: "شرح العمدة" (2/724 ـ 726 الصيام ـ حاشية المحقق).
([72]) الشرح الممتع (6/504).
([73]) الشرح الممتع (6/505).
([74]) من كلام الشيخ ابن عثيمين في تعليقاته على "الكافي". انظر: فقه الاعتكاف (ص 122) للمشيقح.
([75]) الشرح الممتع (6/505 ).
([76]) شرح العمدة (2/734 ـ الصيام).
([77]) انظر: مصنف عبد الزراق (4/346)، مصنف ابن أبي شيبة (3/90).
([78]) انظر: المبسوط( 3/115 )، حاشية العدوي (1/410 )، الأم (1/107 )، المستوعب (3/480 ).
([79]) أخرجه البخاري في فضل الصلاة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189 )، ومسلم في الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1397 ).
([80]) أخرجه البخاري في الموضع السابق (1190)، ومسلم في الحج، باب فضل الصلاة بمسجد مكة (1394).
([81]) انظر: بدائع الصنائع (3/113 ).
([82]) انظر: المجموع (6/481 )، شرح كتاب الصيام من العمدة لابن تيمية (2/749 – 750 ).
ثامنًا: آدابه:
قال ابن القيم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيّته على الله، ولَمِّ شَعَثِه بإقباله بالكلية على الله تعالى = شرع لهم الاعتكاف، الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيّته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه والإقبال عليه في كل هموم القلب وخطراته..."([1]).
قال علي رضي الله عنه: (أيّما رجل اعتكف فلا يسابّ، ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة، ولا يجلس عندهم)([2]).
وقال الإمام أحمد ـ في رواية المرّوذي ـ: "يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه، لا يؤويه إلا سقف المسجد، ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل"([3]).
قال شيخ الإسلام: "إن الذي ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالعبادات المحضة التي بينه وبين الله تعالى؛ مثل القرآن، وذكر الله تعالى، والدعاء، والاستغفار، والصلاة، والتفكر، ونحو ذلك"([4]).
وبعد أن بيّن ابن القيم هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف قال: "..كلُّ هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف ورُوحه، عكس ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشرة، ومجلبةً للزائرين وأَخْذِهم بأطراف الأحاديث بينهم! فهذا لونٌ، والاعتكاف النبوي لونٌ!!"([5]).
وأمَّا الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم أو الاعتكاف أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم([6]).
([1]) زاد المعاد (2/86، 87).
([2]) أخرجه عبد الرزاق (4/356)، وأحمد ـ كما في شرح العمدة (2/792 ـ الصيام) لشيخ الإسلام،، والفروع (3/184) ـ، وابن أبي شيبة (2/334)، وقال ابن مفلح في ((الفروع)): إسناده صحيح.
([3]) انظر: شرح العمدة (2/792 ـ الصيام).
([4]) شرح العمدة (2/787 ـ الصيام).
([5]) زاد المعاد (2/90).
([6]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/292).
تاسعًا: زمن دخول المُعْتَكَفِ والخروج منه:
ا- زمن دخول المعتكَف:
اختلف أهل العلم رحمهم الله في الوقت المستحب لدخول المعتكف على قولين:
القول الأول: أنه من قبل غروب شمس يوم العشرين.
وبه قال الجمهور ([1]).
ومما استدلوا به حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدّم، وفيه: ((فليعتكف العشر الأواخر))([2]).
قالوا: دلّ هذا الحديث على أن زمن دخول المعتكف هو من قبل غروب الشمس(/95)
ليلة إحدى وعشرين؛ إذ "العَشْرُ" بغيرِ هاءٍ عددُ الليالي، وأوَّل هذه الليالي ليلة إحدى وعشرين([3]).
واستدلوا أيضاً: بأنّ ليلة القدر تُرْجَى في أوتار العشر، ومنها ليلة إحدى وعشرين؛ ولهذا اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد – طلباً لها – العشر الأوسط ثم العشر الأواخر، فيستحب أن يدخل معتكفه قبل غروب شمس ليلة إحدى وعشرين([4]).
القول الثاني: أنّ زمن دخول المعتكف يكون من بعد صلاة الصبح من يوم الحادي والعشرين.
وهو رواية عن أحمد([5])، وبه قال الأوزاعي، ورواية عن الليث ([6]).
ومما استدلوا به ما روته عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه([7]).
قالوا: وهذا نصٌّ في محل النزاع.
وَرُدَّ بأن معنى الحديث: أنّه انقطع في معتكفه، وتخلَّى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أنّ ذلك كان وقت ابتداء اعتكافه، بل كان من قبل المغرب لابثاً في جملة المسجد([8]).
وأجيب: بأنّه صرفٌ للّفظ عن ظاهره بلا دليل، وأيضاً فإن عادته صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج من بيته إلا عند الإقامة([9]).
وَرُدَّ: بوجود الدليل، كما تقدم في أدلة الجمهور.
ب- زمن الخروج منه:
استحب كثير من العلماء أن يكون خروجه من مُعْتَكَفه عند خروجه إلى صلاة
العيد ([10])، وإن خرج قبل ذلك جاز.
وهو فعل كثير من السلف([11]).
فعن الإمام مالك: "أنه رأى بعض أهل العلم إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا الفطر مع الناس".
وقال مالك: "وبلغني عن أهل الفضل الذين مضوا، وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك"([12]).
وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يكون غُدوُّه منه إلى العيد"([13]).
ولأجل أن يصل عبادة بعبادة([14]).
وقال الأوزاعي: "يخرج إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام العشر"([15])؛ لأن العشر تزول بزوال الشهر؛ والشهر يزول بغروب الشمس من ليلة الفطر([16]).
([1]) حاشية ابن عابدين (2/452 )، المدوَّنة (2/238)، شرح مسلم للنووي (8/68)، الفروع (3/170).
([2]) تقدم تخريجه.
([3]) الشرح الكبير (2/67) بتصرف يسير.
([4]) الفروع (3/170 ).
([5]) انظر: الفروع (3/170 )، الإنصاف (3/369 ).
([6]) شرح النووي على مسلم (8/68 )، الإعلام لابن الملقن (5/434 ).
([7]) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال (2041 )، ومسلم في الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف (1173 ).
([8]) شرح النووي على مسلم (8/69 )، الإعلام لابن الملقن (5/434 )، نيل الأوطار (4/265 ).
([9]) سبل السلام (2/174 ).
([10]) انظر: الاستذكار (10/296 )، المجموع (6/491 )، الشرح الكبير لابن قدامة (2/67 ).
([11]) انظر: الموطأ (1/351 )، المصنف لابن أبي شيبة (3/92 )، المغني (4/490 ).
([12]) "الموطأ" في الاعتكاف، باب خروج المعتكف للعيد (1/315 ).
([13]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/338) بإسناد صحيح.
([14]) الشرح الكبير للدردير (1/550).
([15]) انظر: الاستذكار (10/297).
([16]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/337).
عاشرًا: أقل الاعتكاف وأكثره:
ا- أقله:
اختلف العلماء رحمهم الله في أقل الاعتكاف على أقوال:
القول الأول: أقله يوم.
وهو رواية عن أبي حنيفة ([1])، وبه قال بعض المالكية ([2])، ووجه عند الشافعية ([3]).
واستدلوا: بأنّ من شرط صحة الاعتكاف الصوم، والصوم لا يصح أن يكون أقل من يوم.
ورُدَّ: بأنّ ذلك بعد تسليم اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف.
وأيضاً: "فإن العبادة لا تكون مقدرة بشرطها"([4]).
القول الثاني: أن أقله يوم وليلة.
وهو مذهب المالكية([5]).
واستدلوا: "بحديث عمر رضي الله عنه، وفيه تقديره بيوم وليلة، فكان ذلك
أقله"([6]).
وردّ: بأنه ليس فيه تحديد أقل الاعتكاف، وكل ما فيه تحديد مدة نذر عمر رضي الله عنه.
القول الثالث: أنّ أقله عشرة أيام.
وهو رواية عن مالك([7]).
واستدلوا: بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله([8]).
ورُدَّ بما قاله ابن حزم: "فإن قيل: لم يعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من عشر ليال. قلنا: ولَمْ يمنع من أقل ذلك، وكذلك أيضاً لم يعتكف قط في غير مسجد المدينة، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير مسجده عليه السلام، ولا اعتكف قط إلاّ في رمضان وشوال، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير هذين الشهرين!! والاعتكاف فعل خير فلا يجوز المنع منه إلا بنص وارد بالمنع"([9]).
القول الرابع: أن أقله لحظة.
وهو قول أكثر العلماء([10]).
واستدلوا: بقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187].(/96)
قال أبو محمد بن حزم: " فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وبالعربية خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف في لغة العرب الإقامة... فكل إقامةٍ في مسجدٍ لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكافٌ... مما قلّ من الأزمان أو كثر؛ إذ لم يخص القرآن والسّنّة عدداً من عدد، ووقتاً من وقت"([11]).
وقال الشوكاني: "لم يأتنا عن الشارع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به، واللبثُ في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه، بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف"([12]).
ب- أكثره:
أما أكثر الاعتكاف فلا حدَّ له([13]) ما لم يتضمن محذوراً شرعياً.
لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
قال ابن الملقن: " وأجمع العلماء على أن لا حد لأكثره " ([14]).
([1]) انظر: الهداية مع فتح القدير (2/391 ).
([2]) انظر: مواهب الجليل (2/454 ).
([3]) انظر: روضة الطالبين (2/391 ).
([4]) أحكام القرآن لابن العربي (1/95 ).
([5]) انظر: المدونة مع مقدمات ابن رشد (1/202 ).
([6]) أحكام القرآن لابن العربي (1/95 ).
وحديث عمر الذي أشار إليه ابن العربي هو: ما رواه عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر:
( أن عمر نذر أن يعتكف (يوماً بليلته). قال الدارقطني في "العلل" (2/30 ): " فإن كان حفظ ـ أي ـ العمري هذا فقد صحت الأقاويل عن نافع، ويكون قول من قال: (يوماً) بليلته، ومن قال: (ليلة) بيومها".
([7]) انظر: المدونة (1/202 )، الاستذكار (10/313 ).
([8]) سبق تخريجه.
([9]) المحلى (5/180 ).
([10]) انظر: الدر المختار (1/445 )، القوانين الفقهية (ص: 125 )، المهذب (1/190 )، الإنصاف مع الشرح الكبير (7/566 )، المحلى (5/179 ).
([11]) المحلى (5/180 ).
([12]) السيل الجرار (2/136 ).
([13]) انظر: بدائع الصنائع (2/115 )، أحكام القرآن لابن العربي (1/92 )، المجموع (6/490 )، كشاف القناع (2/374 )، المحلى (5/180 ).
([14]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/430 ).
حادي عشر: مبطلات الاعتكاف:
1- الجِماع:
قال الشوكاني: "دلّ على هذا الكتاب العزيز... ودلّ عليه إجماع
الأمة"([1]).
أما دليل الكتاب فقول الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
قال ابن العربي: "فحرَّم الله تعالى المباشرة في المسجد، وذلك يحرم خارج المسجد؛ لأن معنى الآية: ولا تباشروهن وأنتم ملتزمون الاعتكاف في المسجد معتقدون له، فهو إذا خرج لحاجة الإنسان وهو ملتزم للاعتكاف في المسجد معتقد له رُخِّص له في حاجة الإنسان للضرورة الداعية إليه، وبقي سائر أفعال الاعتكاف كلها على أصل المنع"([2]).
وقال القرطبي: "بيّن جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف، وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه مفسد
لاعتكافه"([3]).
وقال ابن كثير: "أي: لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد، ولا في غيره"([4]).
وأمّا الإجماع فقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه"([5]).
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن الوطء يفسد الاعتكاف"([6]).
وقال ابن هبيرة: "وأجمعوا على أنَّ الوطء عامداً يبطل الاعتكاف المنذور والمسنون معاً"([7]).
2- الخروج بجميع البدن لغير حاجة:
وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله ([8]).
ودليل ذلك السنة والإجماع.
أما دليل السنة فحديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم، وفيه: وكان - أي النبي صلى الله عليه وسلم – لا يدخل البيت إلا لحاجةٍ إذ كان معتكفاً([9]).
قال الخطابي: "فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لغائط أو بول، فإن دخله لغيرهما من طعام أو شراب فسد اعتكافه"([10]).
وقد قسَّم الشيخ ابن عثيمين خروج المعتكف إلى ثلاثة أقسام فقال: "الأول: الخروج لأمر لابد منه طبعاً وشرعاً: كقضاء حاجة البول والغائط والوضوء الواجب والغسل الواجب لجنابة أو غيرها والأكل والشرب، فهذا جائز إذا لم يمكن فعله في المسجد، فإن أمكن فعله في المسجد فلا، مثل أن يكون في المسجد حمام يمكنه أن يقضي حاجته فيه، وأن يغتسل فيه، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب، فلا يخرج حينئذ لعدم الحاجة إليه.
الثاني: الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه: كعيادة مريض وشهود جنازة ونحو ذلك، فلا يفعله إلا أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه، مثل: أن يكون عنده مريض يجب أن يعوده، أو يخشى من موته، فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لذلك فلا بأس به.
ثالثاً: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف: كالخروج للبيع والشراء وجماع أهله ومباشرتهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرط ولا بغير شرط؛ لأنه يناقض الاعتكاف وينافي المقصود منه"([11]).
وأما الإجماع فقال أبو محمد بن حزم: "واتفقوا على أن من خرج من معتكفه من المسجد لغير حاجة ولا ضرورة ولا برٍّ أُمِر به أو نُدِب إليه فإن اعتكافه قد بطل"([12]).(/97)
([1]) السيل الجرار (2/136 ).
([2]) أحكام القرآن (1/136 ).
([3]) الجامع لأحكام القرآن (2/332 ).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/231 ).
([5]) الإجماع (ص: 54 ).
([6]) مراتب الإجماع (ص: 41 ).
([7]) الإفصاح (1/358 ).
([8]) انظر: فتح القدير (2/396 )، الشرح الكبير للدردير (1/543 )، الأم (2/108 )، كشاف القناع (3/362 )، المحلى (5/188 ).
([9]) انظر: (ص: 1 ).
([10]) معالم السنن (3/341 ).
([11]) مجالس شهر رمضان (ص: 245 – 246 ).
([12]) مراتب الإجماع (ص: 41 ).
مراجع للتوسع:
في المذهب الحنفي:
1. الهداية مع فتح القدير، المجلد الثاني.
2. المبسوط، المجلد الثالث، ط دار المعرفة.
3. بدائع الصنائع، المجلد الثاني، ط دار الكتب العلمية.
4. حاشية ابن عابدين، المجلد الثاني، ط دار الفكر.
في المذهب المالكي:
1. الموطأ للإمام مالك، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
2. بداية المجتهد لابن رشد، المجلد الأول، ط دار القلم.
3. مقدمات ابن رشد مع المدونة، المجلد الأول، ط دار الفكر.
4. الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، المجلد الأول، ط دار الفكر.
في المذهب الشافعي:
1. الأم للشافعي، المجلد الثاني، ط دار الفكر.
2. المجموع للنووي، المجلد السادس.
3. روضة الطالبين، المجلد الثاني، ط المكتب الإسلامي.
4. مغني المحتاج، المجلد الأول، ط البابي الحلبي.
في المذهب الحنبلي:
1. المغني لابن قدامة، المجلد الرابع، ط هجر.
2. المبدع لابن مفلح، المجلد الثالث، ط المكتب الإسلامي.
3. منتهى الإرادات، المجلد الأول، ط عالم الكتب.
4. المستوعب، المجلد الثالث، ط المعارف.
في المذهب الظاهري:
1. المحلى لابن حزم، المجلد الخامس، ط دار التراث.
كتب أخرى:
1. شرح ابن بطال على البخاري، المجلد الرابع، ط مكتبة الرشد.
2. إكمال المعلم للقاضي عياض، المجلد الرابع، ط دار الوفاء.
3. شرح النووي على مسلم، المجلد السابع، ط دار الكتاب العربي.
4. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، المجلد الخامس، ط العاصمة.
5. شرح العمدة لشيخ الإسلام ـ كتاب الصيام، المجلد الثاني، ط الأنصاري.
6. مجموع فتاوى شيخ الإسلام، المجلد السادس والعشرين.
7. فتح الباري لابن حجر، المجلد الرابع، ط السلفية.
8. فقة الاعتكاف، لخالد المشيقح.
الدروس المستفادة من رمضان
1 ـ رمضان شهر الصبر:
الصبر:
قال ابن فارس: "الصاد والباء والراء أصول ثلاثة: الأول الحبس، والثاني أعالي الشيء، والثالث جنس من الحجارة" ([1]).
قال أبو عبيد: "وأصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئاً فقد صبره" ([2]).
قال عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرّة ترسو إذا نفس الجبان تطلّع
يقول: حبست نفساً صابرة ([3]).
قال الراغب: "الصبر الإمساك في ضيق" ([4]).
وقال: "وسمي الصوم صبراً لكونه كالنوع له" ([5]).
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ} [البقرة:45].
قال ابن جرير: "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع: الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا" ([6]).
رمضان والصبر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر))([7]).
قال السيوطي: "شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر: الحبس، فسمي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاحً([8]).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: ((صُمْ شهر الصبر ويوماً من كل شهر))، قال: زدني فإن بي قوة، قال: ((صُمْ يومين))، قال: زدني، قال: ((صُمْ ثلاثة أيام))، قال: زدني، قال: ((صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك))، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها ([9]).
قال الخطابي: "وقوله: ((من الحُرُم)) فإن الحرم أربعة أشهر، وهي التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]. وهي شهر رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم" ([10]).
رمضان مدرسة لتعلم الصبر:
قال ابن رجب الحنبلي: "وأفضل أنواع الصبر: الصيام، فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معاصي الله ؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)) ([11]).
وفيه أيضاً صبرٌ على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر"([12]).
أنواع الصبر:
قال ابن القيم: "الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبرٌ عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها" ([13]).(/98)
([1]) المقاييس (4/329).
([2]) تهذيب اللغة (12/171).
([3]) الصحاح (2/706).
([4]) المفردات (ص474).
([5]) المرجع السابق.
([6]) تفسير الطبري (1/259).
([7]) أخرجه النسائي في الصيام، باب ذكر الاختلاف على أبي عثمان في حديث أبي هريرة (3408).
([8]) شرح سنن النسائي (4/218).
([9]) أبو داود (2428) في الصوم، باب في صوم أشهر الحرم، ابن ماجه (1741) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم، أحمد (19811).
([10]) معالم السنن (3/306).
([11]) رواه البخاري في الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (1805)، ومسلم في الصيام باب فضل الصيام (1151).
([12]) جامع العلوم والحكم (1/26).
([13]) مدارج السالكين (2/165).
2 ـ رمضان شهر الجود والإحسان والبر والصلة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرَسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة([1]).
قال ابن حجر: "فيه أن مدارسة القرآن تجدد العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة. وأيضاً فرمضان موسم الخيرت ؛ لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبِمجْموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود، والعلم عند الله" ([2]).
من مجالات الجود والإحسان والبر والصلة:
1- تفطير الصائم:
عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً))([3]).
قال المباركفوري: "قوله: ((من فطّر صائماً)) قال ابن عبد الملك: التفطير جعل أحد مفطراً، أي: من أطعم صائماً، انتهى. قال القاري: أي عند إفطاره، ((كان له)) أي لمن فطّر ((مثل أجره)) أي الصائم" ([4]).
2- بر الوالدين وصلة الأرحام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك))([5]).
وعن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره فليصل رحمه))([6]).
قال النووي: "ينسأ، مهموز أي: يؤخر، والأثر: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها، وبسط الرزق، توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه" ([7]).
قال عطاء: "لدرهم أضعه في قرابتي أحب إلي من ألفٍ أضعها في فاقة. قال له قائل: يا أبا محمد، وإن كان قرابتي مثلي في الغنى، قال: وإن كان أغني منك"([8]).
3- الصدقة والإنفاق وغير ذلك من أعمال الخير:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))([9]).
قال النووي: "قال العلماء: المراد: صدقة ندب وترغيب، لا إيجاب وإلزام"([10]).
([1]) البخاري (6) في بدء الوحي، باب بدء الوحي، مسلم (2308) في الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
([2]) فتح الباري (1/31).
([3]) الترمذي (807) في الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً، ابن ماجه (1746) في الصيام، باب في ثواب من فطّر صائماً، والدارمي (2/14) في الصوم، باب الفضل لمن فطر صائماً، وعبد الرزاق (4/311)، وابن حبان في صحيحه (10/491) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
([4]) تحفة الأحوذي (3/533).
([5]) البخاري (5971) في الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة ؟، ومسلم (2548) في البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
([6]) البخاري (5985) في الأدب، باب من بُسط له في الرزق بصلة الرحم. مسلم (2557) في البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها.
([7]) شرح مسلم (16/114).
([8]) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (62).
([9]) البخاري (2989) في الجهاد، باب من أخذ بالركاب ونحوه، ومسلم (1009) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل أنواع من المعروف، واللفظ له.
([10]) شرح مسلم (7/95).
3 ـ رمضان شهر الجهاد والانتصارات والفتوح:
1- غزوة بدر الكبرى:
قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41].(/99)
قال عروة بن الزبير في قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}: "يوم فرّق الله بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسع مائة، فهزم الله يومئذ المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم"([1]).
2- فتح مكة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون حتى بلغ الكَدِيد – وهو ماء بين عسْفان وقُدَيْد – أفطَرَ وأفطروا([2]).
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان([3]).
3- عين جالوت:
وقعت معركة عين جالوت بين جيوش التتار بقيادة هولاكو المغولي، وبين جيوش المماليك المصرية، بقيادة الملك المظفر قطز، في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 658هـ، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً([4]).
4- وقعة شقحب:
وقعت هذه الوقعة يوم السبت للأول من رمضان من عام 702هـ، واستمرت إلى اليوم الثاني بين التتار والجيوش الإسلامية، وشارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وكانت الغلبة فيها للمسلمين.
قال ابن كثير: "وحرّض – أي ابن تيمية – السلطان على القتال وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأطلاب([5]) والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل، فيأكل الناس"([6]).
([1]) رواه الطبري في تفسيره (10/9)، وانظر تفصيل الحديث عن الغزوة في سيرة ابن هشام (2/606-633).
([2]) البخاري (4276) في المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان.
([3]) البخاري (4275) في المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان.
([4]) انظر تفاصيل المعركة في البداية والنهاية (17/403) ط التركي.
([5]) الأطلاب جمع طلب، وهو لفظ كردي، معناه الأمير الذي يقود مائتي فارس في ميدان القتال، ويطلق أيضاً على قائد المائة أو السبعين، ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة من الجيش، انظر حاشية البداية والنهاية (18/28).
([6]) انظر تفاصيل الوقعة في البداية والنهاية (18/26) ط التركي.
4 ـ رمضان شهر القرآن والقيام:
القرآن وشهر رمضان:
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
عن ابن عباس قال: (أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزله منه حتى جمعه)([1]).
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ([2]).
قال النووي: "إن مما يؤخذ من الحديث من الأحكام المستفادة: استحباب مدارسة القرآن في هذا الشهر المبارك"([3]).
وقال ابن حجر: "وفي الحديث من الفوائد... تعظيم شهر رمضان؛ لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه، وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى، ويستفاد منه: أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة، وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير، وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم، وإن كان هو لا يخفى عليه لزيادة التذكرة والاتعاظ، وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم ؛ لأن الليل مظنة لذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية"([4]).
صور من اجتهاد السلف في تلاوة القرآن في شهر رمضان:
قال إبراهيم النخعي: "كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، فكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ"([5]).
وقال سلام بن أبي مطيع: "كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة"([6]).
وقال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة"([7]).
وقال موسى بن معاوية: "رحلت من القيروان وما أظن أحداً أخشع من البهلول بن راشد، حتى لقيت وكيعاً، وكان يقرأ في رمضان في الليل ختمه، وثلثاً، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العصر"([8]).
وقال محمد بن زهير بن محمد: "كان أبي يجمعنا في وقت ختمه للقرآن في شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات، يختم تسعين ختمة في رمضان"([9]).(/100)
وقال مسبح بن سعيد: "كان محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة"([10]).
وقال أبو بكر الحداد: "أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قعدت عليه تسعا وخمسين، وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة"([11]).
القيام وشهر رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([12]).
قال ابن حجر: "أي قام لياليه مصلياً، والمراد من قيام الليل: ما يحصل به مطلق القيام"([13]).
وقال النووي: "معنى ((إيماناً)) تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى ((واحتساباً)) أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص، والمراد بقيام رمضان: صلاة التراويح"([14]).
من صور اجتهاد السلف في قيام رمضان:
قال علي ابن المديني: "كان سويد بن غفلة يؤمّنا في شهر رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة"([15]).
([1]) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (2/145) بسند صحيح.
([2]) البخاري (6) في بدء الوحي، باب كيفية بدء الوحي، مسلم (2308) في الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
([3]) شرح مسلم (15/69).
([4]) فتح الباري (9/45).
([5]) سير أعلام النبلاء (4/51).
([6]) سير أعلام النبلاء (5/276).
([7]) سير أعلام النبلاء (10/36).
([8]) سير أعلام النبلاء (12/109).
([9]) سير أعلام النبلاء (12/361).
([10]) سير أعلام النبلاء (12/439).
([11]) سير أعلام النبلاء (15/447).
([12]) البخاري (37) في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، ومسلم (759) في الصيام، باب الترغيب في قيام رمضان.
([13]) فتح الباري (4/251).
([14]) شرح مسلم (6/39).
([15]) سير أعلام النبلاء (4/72).
5 ـ رمضان شهر التآخي والمحبة:
النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وتتجلى مظاهر التآخي والمحبة، في تفطير الصائمين، وهي إحدى حِكم حث الشارع عليها:
عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينتقص من أجر الصائم شيئاً))([1]).
وفي إخراج زكاة الفطر مظهر من مظاهر ذلك:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة([2]).
([1]) تقدم تخريجه.
([2]) البخاري (1503) في الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، مسلم (986) في الزكاة، باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة
6 ـ رمضان شهر المغفرة والعتق من النيران:
ويتجلى ذلك في أعمالٍ ثلاثة:
1- صوم شهر رمضان إيماناً واحتساباً.
2- قيام شهر رمضان إيماناً واحتساباً.
3- قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([1]).
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه)) ([2]).
إيماناً: أي بدافع الإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر، وأنه حق، لا عن عادة أو تقليد.
احتساباً: أي خالصاً لوجه الله عز وجل([3]).
وغاية المغفرة العتق من النار.
([1]) البخاري (1901) في الصوم، باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، واللفظ له.
([2]) البخاري (37) في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان عن الإيمان، ومسلم (759) في الصيام، باب الترغيب في قيام رمضان.
([3]) انظر شرح النووي على مسلم (6/39).
7 ـ رمضان شهر التوبة والتقوى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار، وصفدت الشياطين))([1]).
قال القاضي عياض: "ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما كالصيام والقيام، وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات"([2]).
رمضان فرصة لأرباب الذنوب للتوبة:
يا من ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى الله في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيّره أيضاً شهر عصيان([3])
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجلٍ أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة))([4]).
رمضان موسم لتكفير الذنوب والخطايا:(/101)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر))([5]).
رمضان مدرسة للتربية على التقوى، وهي حِكمة من حكم تشريع صومه:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
قال القرطبي: "قيل: معناه هنا: تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلّت المعاصي، وهذا وجد مجازي حسن، وقيل: لتتقوا المعاصي، وقيل: هو على العموم، ولأن الصيام كما قال عليه السلام: ((الصيام جُنّة ووجاء)) وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات"([6]).
وقال ابن كثير: "{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، لهذا ثبت في الصحيحين: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء))([7])"([8]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))([9]).
قال ابن المنير: "هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئاً طلبه عنه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا، فالمراد: رد الصوم المتلبس بالزور، وقبول السالم منه"([10]).
([1]) مسلم (1079) في الصيام، باب فضل شهر رمضان.
([2]) نقلاً عن شرح مسلم للنووي (7/188).
([3]) لطائف المعارف (ص282).
([4]) الترمذي (3545) في الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجلٍ، أحمد (7402) ونحوه عند ابن خزيمة (1888) في الصيام، باب استحباب الاجتهاد في رمضان.
([5]) صحيح مسلم (333) في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان.
([6]) تفسير القرطبي (2/275-276).
([7]) البخاري (5065) في النكاح، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع ، ومسلم (1400) في النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
([8]) تفسير ابن كثير (1/219).
([9]) البخاري (1903) في الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم.
([10]) نقلاً عن فتح الباري (4/117).
8 ـ رمضان شهر الإخلاص والصدق:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عندلقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))([1]).
قال القرطبي: "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في هذا الحديث: ((يدع شهوته من أجلي))"([2]).
وقال ابن الجوزي: "جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم"([3]).
صور من إخلاص السلف وصدقهم:
قال الفلاس: "سمعت ابن أبي عدي يقول: "صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل غداءه فيتصدق به في الطريق"([4]).
([1]) البخاري (5927) في اللباس، باب ما يذكر في المسك، مسلم (1151) في الصيام، باب فضل الصيام، اللفظ لمسلم.
([2]) نقله في فتح الباري (4/107).
([3]) نقله في فتح الباري (4/107).
([4]) سير أعلام النبلاء (6/378).
أحوال السلف في رمضان
أولاً: حالهم مع قراءة القرآن:
قال ابن رجب: "وفي حديث فاطمة رضي الله عنها، عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أنّ جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرةً، وأنّه عارضه في عام وفاته مرتين([1]).
وفي حديث ابن عباس أنّ المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً ([2])، فدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً؛ فإنّ الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر.
كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]، وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]"([3]).
ولهذا حرص السلف رحمهم الله على الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان:
1- عن إبراهيم قال: كان الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ([4]).
2- وعن وِقا بن إياس قال: كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان، وكانوا يؤخرون العشاء([5])
3- وعن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنّه كان يختم القرآن في كل ليلتين([6])(/102)
4- وقيل: كان الوليد بن عبد الملك يختم في كل ثلاثٍ، وختم في رمضان سبع عشرة ختمه وكان يقول: "لولا أنّ الله ذكر قوم لوطٍ ما شعرت أن أحداً يفعل ذلك"([7])
5- وعن أبي عوانة قال: شهدت قتادة يدرس القرآن في رمضان([8])
6- وقال سلام بن أبي مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلةٍ([9])
7- وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة([10])
8- وقال موسى بن معاوية: كان وكيع بن الجراح يقرأ في رمضان في الليل ختمةً وثلثاً، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العص([11])
9- وقال محمد بن زهير بن محمد بن قمير: كان أبي يجمعنا في وقت ختمه للقرآن في شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات، يختم تسعين ختمة في رمضان([12])
10- وقال مسبِّح بن سعيد: كان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة([13])
11- قال محمد بن علي بن حبيش: كان لأحمد بن عطاء البغدادي في كل يوم ختمة، وفي رمضان تسعون ختمة، وبقي في ختمةٍ مفردةٍ بضع عشرة سنة يتفهَّم ويتدبر([14])
12- وقال القاسم بن علي يصف أباه ابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق): وكان مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة أو يختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية([15])
13- قال الذهبي في ترجمة أبي البركات هبة الله بن محفوظ: "تفقَّه، وقرأ القرآن، وله صدقة وبرٌّ، كان يختم في رمضان ثلاثين ختمة ([16])
14- قال الذهبي: "سمعت الشيخ عبد الله بن حسن بن محمد الكردي بحرَّان يقول: قرأتُ في رمضان ثلاثين ختمة"([17])
([1]) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام رقم (3624)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة رضي الله عنها رقم (2449).
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم (1902)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة رقم (2308).
([3]) لطائف المعارف (ص315).
([4]) سير أعلام النبلاء (4/51).
([5]) حلية الأولياء (6/273)، وسير أعلام النبلاء (4/324).
([6]) طبقات ابن سعد (6/275)، حلية الأولياء (4/273)، سير أعلام النبلاء (4/325).
([7]) سير أعلام النبلاء (4/347).
([8]) سير أعلام النبلاء (5/273).
([9]) سير أعلام النبلاء (5/276).
([10]) سير أعلام النبلاء (10/36، 83).
([11]) سير أعلام النبلاء (12/109).
([12]) سير أعلام النبلاء (12/361).
([13]) سير أعلام النبلاء (12/439).
([14]) سير أعلام النبلاء (14/255).
([15]) سير أعلام النبلاء (20/562).
([16]) سير أعلام النبلاء (21/266).
([17]) سير أعلام النبلاء (21/470).
ثانياً: حالهم في قيام الليل:
1- عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبَي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان، فكان القاريء يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر"([1]).
2- وعن مالك عن عبد الله بن أبي بكر قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام، فيستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر"([2]).
3- وعن أبي عثمان النهدي قال: "أمر عمر بثلاثة قراء يقرؤون في رمضان، فأمر أسرعهم أن يقرأ بثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ بخمس وعشرين، وأمر أدناهم أن يقرأ بعشرين"([3]).
4- وعن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن هُرْمز قال: "سمعته يقول: ما أدركت الناس إلاّ وهم يلعنون الكفرة في شهر رمضان، قال: فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم"([4]).
5- وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم في بيته في شهر رمضان، فإذا انصرف الناس من المسجد أخذ إداوةً من ماءٍ ثم يخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يخرج منه حتى يصلي فيه الصبح([5]).
6- وعن نافع بن عمر بن عبد الله قال: سمعت ابن أبي ملكية يقول: "كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أنّ أحداً يسثقل ذلك"([6]).
7- وعن عمران بن حُدير قال: "كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كل سبع"([7]).
8- وعن سعيد بن عامر عن أسماء بن عبيد قال: "دخلنا على أبي رجاء العطاردي، قال سعيد: زعموا أنّه كان بلغ ثلاثين ومائة، فقال: يأتوني فيحملوني كأني قُفَّةٌ حتى يضعوني في مقام الإمام فأقرأ بهم الثلاثين آية وأحسبه قد قال: أربعين آية في كل ركعة يعني في رمضان"([8]).
وعن عبد الصمد قال حدثنا أبو الأشهب قال: " كان أبو رجاء يختم بنا في قيام رمضان لكل عشرة أيام"([9]).(/103)
9- وعن محمد بن عماره قال: أخبرني أبو أمية الثقفي عن عرفجة أن علياً كان يأمر الناس بالقيام في رمضان، فيجعل للرجال إماماً، وللنساء إماماً، قال: فأمرني فأممت النساء([10]).
10- وعن يزيد بن خصفة عن السائب بن يزيد، قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال: وكانوا يقرؤون بالمائتين، وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان من شدة القيام"([11]).
([1]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (7730)، وابن أبي شيبة، في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284)، والمروزي في مختصر قيام الليل (ص51)، واللفظ له، والبيهقي في الكبرى (2/496).
([2]) أخرجه مالك في الموطأ (1/116)، والمروزي في مختصر قيام الليل (ص51)، والبيهقي في الكبرى (2/497).
([3]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (7732)، واللفظ له، وابن أبي شيبة في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284)، والبيهقي في الكبرى (2/497).
([4]) أخرجه عبد الرزاق في الصنف رقم (7734)، واللفظ له، والبيهقي في الكبرى (2/497).
([5]) أخرجه البيهقي في الكبرى (2/494).
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284).
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب صلاة التطوع والإقامة، باب صلاة رمضان (2/284).
([8]) مختصر قيام الليل للمروزي (ص52).
([9]) حلية الأولياء (2/306)، سير أعلام النبلاء (4/257).
([10]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (7722)، والبيهقي في الكبرى (2/926).
([11]) أخرجه البيهقي في الكبرى (2/496)، وتقدم تخريجه في صلاة التراويح.
ثالثاً: حالهم في الجود والكرم إذا أقبل شهر رمضان:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. إنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة([1]).
قال المهلب: "وفيه بركة أعمال الخير، وأن بعضها يفتح بعضاً، ويعين على بعض ؛ ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد في جود النبي صلى الله عليه وسلم وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسلة"([2]).
وقال الزين بن المنير: "أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم"([3]).
وقال ابن رجب: "قال الشافعي رضي الله عنه: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصلاة عن مكاسبهم"([4]).
2- كان ابن عمر رضي لله عنهما يصوم، ولا يفطر إلاَّ مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه، لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام وقام، فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجِفْنَةِ، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً([5]).
3- يقول يونس بن يزيد: "كان ابن شهاب إذا دخل رمضان، فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام"([6]).
4- كان حماد بن أبي سليمان يفطِّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان، وإنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم([7]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم (1902)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس رقم (2308)، واللفظ له.
([2]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/22-23).
([3]) فتح الباري (4/139).
([4]) لطائف المعارف (ص315).
([5]) لطائف المعارف (314).
([6]) التمهيد (6/111).
([7]) سير أعلام النبلاء (5/234).
رابعاً: التقليل من الطعام:
1- قال إبراهيم بن أبي أيوب: كان محمد بن عمرو الغزي يأكل في شهر رمضان أكلتين([1]).
2- وقال أبو العباس هاشم بن القاسم: كنت عند المهتدي عشيَّةً في رمضان، فقمت لأنصرف، فقال: اجلس، فجلست، فصلى بنا، ودعا بالطعام، فأحضر طبقَ خِلافٍ، عليه أرغفةٌ، وآنية فيها ملحٌ وزيتٌ وخلٌّ. فدعاني إلى الأكل، فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ، فقال: ألم تكن صائماًً؟ قلت: بلى، قال: فكل واستوفِ، فليس هنا غير ما ترى!([2]).
([1]) سير أعلام النبلاء (11/464).
([2]) سير أعلام النبلاء (12/536).
خامساً: حفظ اللسان، وقلة الكلام وتوقي الكذب:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه))([1]).
قال المهلب: "وفيه دليل أن حُكم الصيام الإمساك عن الرفث، وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقَّص صيامه، وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه"([2]).(/104)
2- وفي رواية مسلم: ((إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائمٌ إني صائمٌ))([3]).
قال المازري في قوله: ((إني صائمٌ)): "يحتمل أن يكون المراد بذلك أن يخاطب نفسه على جهة الزجر لها عن السباب والمشاتمة"([4]).
3- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف)([5]).
4- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو)([6]).
5- وعن طلق بن قيس قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: "إذا صمت فتحفظ ما استطعت"، وكان طلق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاّ لصلاة([7]).
6- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء)([8]).
7- وعن أبي متوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه وأصحابه كانوا إذا صاموا جلسوا في المسجد([9]).
8- وعن عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: (إذا كنت صائماً فلا تجهل، ولا تساب، وإن جُهِل عليك فقل: إني صائم)([10]).
9- وعن مجاهد قال: "خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب"([11]).
10- وعن أبي العالية قال: "الصائم في عبادة ما لم يغتب"([12]).
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، رقم (1903).
([2]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/23).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب حفظ اللسان للصائم رقم (1151).
([4]) المعلم بفوائد مسلم (2/41).
([5]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/421).
([8]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([9]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([10]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (7456).
([11]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/422).
([12]) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب (2/423).
أحاديث شهر القرآن
أولاً: أحاديث في فضل الصيام:
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صام يوما في سبيل الله بعَّد الله وجهَه عن النار سبعين خريفا([1]))) متفق عليه([2]).
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة([3])، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث يومئذ([4]) ولا يصخب([5])، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم([6]) أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه)) متفق عليه واللفظ لمسلم([7]).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين([8]) في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة))، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) متفق عليه([9]).
4- عن سهل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) متفق عليه واللفظ للبخاري([10]).
5- عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشفَّعان)) رواه أحمد([11]).
([1]) أي: سبعين عاما. قال الحافظ في الفتح: "تخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يُجنى فيه الثمار".
([2]) أخرجه البخاري في الجهاد (2840)، ومسلم في الصيام (1153).(/105)
([3]) بضم الجيم، أي: وقاية وستر يقيه من النار ومن شهوات نفسه.
([4]) بضم الفاء، أي: لا يتكلم بالكلام الفاحش البذيء.
([5]) الصخب الخصام والصياح.
([6]) أي: الرائحة التي تنبعث من فمه من أثر الصوم.
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151).
([8]) المراد بالزوجين إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد، فرسان أو عبدان أو بعيران..
([9]) أخرجه البخاري في الصوم (1897)، ومسلم في الزكاة (1027).
([10]) أخرجه البخاري في الصوم (1896)، ومسلم في الصيام (1152).
([11]) أخرجه أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
ثانياً: أحاديث في فضل رمضان والعمل فيه:
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كلَّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ([1])، يعرض عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة([2]). متفق عليه([3]).
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه([4]).
8- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه([5]).
9- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: ((قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)) وذلك في رمضان. متفق عليه([6]).
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل شهر رمضان فتِّحت أبواب السماء، وغلِّقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين)) متفق عليه واللفظ للبخاري([7]).
11- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)) رواه مسلم([8]).
([1]) أي: حتى ينقضي.
([2]) المراد: هو في الإنفاق كالريح في إسراعها وعمومها.
([3]) أخرجه البخاري في الصوم (1902)، ومسلم في الفضائل (2308).
([4]) أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
([5]) أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759).
([6]) أخرجه البخاري في الجمعة (1129)، ومسلم في صلاة المسافرين (761).
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (1899)، ومسلم في الصيام (1079).
([8]) أخرجه مسلم في الطهارة (233).
ثالثاً: أحاديث في فضل العشر الأواخر وليلة القدر:
12- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه([1]).
13- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدَّ مئزره([2])، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. متفق عليه واللفظ للبخاري([3]).
14- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم([4]).
15- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قُبَّة تركية على سُدَّتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبَّة، ثم أطلع رأسه فكلَّم الناس، فدنوا منه فقال: ((إني اعتكفتُ العشرَ الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفتُ العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحبَّ منكم أن يعتكف فليعتكف))، فاعتكف الناس معه، قال: ((وإني أُريتها ليلةَ وتر، وإني أسجد صبيحتها في طين وماء))، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء فوكف المسجد([5])، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه([6]) فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر. متفق عليه واللفظ لمسلم([7]).(/106)
16- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرِّيَها فليتحرَّها في السبع الأواخر)) متفق عليه([8]).
17- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) متفق عليه واللفظ للبخاري([9]).
18- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو كريم، تحب العفو، فاعف عني)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([10]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
([2]) أي: اعتزل نساءه، وقال: المراد الجد والاجتهاد في العبادة.
([3]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174).
([4]) أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175).
([5]) أي: سال من سقفه المطر.
([6]) أي: طرفه، ويقال لها أيضا: أرنبة.
([7]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2027)، ومسلم في الاعتكاف (1167).
([8]) أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2015)، ومسلم في الصيام (1165).
([9]) أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2017)، ومسلم في الصيام (1169).
([10]) أخرجه أحمد (6/182)، والترمذي في الدعوات (3580)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الدعاء (3850)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2789).
رابعاً: أحاديث في أحكام الصيام وآدابه:
19- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غَبِي عليكم([1]) فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) متفق عليه واللفظ للبخاري([2]).
20- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه. رواه الدارمي وأبو داود([3]).
21- عن حفصة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيِّت الصيامَ قبل الفجر([4]) فلا صيام له)) رواه أحمد وأصحاب السنن([5]).
22- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟)) فقلنا: لا، قال: ((فإني إذن صائم))، ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله، أُهدي لنا حَيس([6])، فقال: ((أرِينيه، فلقد أصبحت صائما))، فأكل. رواه مسلم([7]).
23- عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر)) متفق عليه([8]).
24- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحَّروا فإن في السحور بركة)) متفق عليه([9]).
25- عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السحر)) رواه مسلم([10]).
26- عن أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحَّرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية. متفق عليه([11]).
27- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بلالا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم))، قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا. متفق عليه واللفظ لمسلم([12]).
28- عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. متفق عليه واللفظ للبخاري([13]).
29- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم([14]))) متفق عليه([15]).
30- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رُطَبات، فإن لم تكن رُطَبات فتُميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء([16]). رواه أحمد وأبو داود والترمذي([17]).
31- عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فمن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([18]).(/107)
32- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم([19])، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله!! قال: ((وأيكم مثلي؟! إني أبيت يطعمني ربي ويسقين))، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: ((لو تأخَّر لزدتكم)) كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا. متفق عليه واللفظ للبخاري([20]).
33- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعملَ به([21]) فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامه وشرابَه)) رواه البخاري([22]).
34- عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّر صائما كان له مثلُ أجرِه غيرَ أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([23]).
35- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم([24])، ولكنه أملكُكُم لأَرَبه([25]). متفق عليه واللفظ لمسلم([26]).
36- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. رواه البخاري، وروى مسلم شطره الأول([27]).
37- عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه مرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنَ الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرةَ خلت من رمضان وهو آخذ بيدي فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) رواه أحمد واللفظ له، وأصحاب السنن([28]).
38- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتمَّ صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)) متفق عليه واللفظ لمسلم([29]).
39- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ذَرَعه القيء([30]) فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقضِ)) رواه أحمد وأصحاب السنن واللفظ للترمذي([31]).
40- عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال: ((أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) رواه أحمد وأصحاب السنن([32]).
41- عن جابر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال: ((ما له؟)) قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر أن تصوموا في السفر)) متفق عليه واللفظ لمسلم([33]).
42- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوةً على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه)) متفق عليه واللفظ لمسلم([34]).
43- عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم، ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض. رواه مسلم([35]).
44- عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حارٍّ، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّام، وقام المفطرون فضربوا الأبنيةَ وسقوا الرِّكاب([36])، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) متفق عليه واللفظ لمسلم([37]).
45- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجد رقبةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟)) قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيها تمر([38])، والعرق المِكتل، قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، قال: ((خذها فتصدق به))، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها([39]) ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك)) متفق عليه واللفظ للبخاري([40]).
46- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون عليَّ الصومُ من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان. متفق عليه([41]).
47- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) متفق عليه([42]).
([1]) غبِيَ عليكم بالتخفيف أي: خفِي عليكم.
([2]) أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081) ولفظه عنده: ((فإن غُمِي عليكم فأكملوا العدد)).(/108)
([3]) أخرجه الدارمي في الصوم (1691)، وأبو داود في الصوم (2342)، والدارقطني (2/156) وقال: "تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب، وهو ثقة"، وصححه ابن حبان (3447)، والحاكم (1/423)، وابن حزم في المحلى (6/236)، والألباني في الإرواء (908).
([4]) أي: من لم ينو الصوم بالليل قبل طلوع الفجر.
([5]) أخرجه أحمد (6/287)، وأبو داود في الصوم (2454)، والترمذي في الصوم (730)، والنسائي في الصيام (2331)، وابن ماجه في الصيام (1700)، واختلف في رفعه ووقفه، فقال الترمذي: "حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح، وهكذا أيضا روي هذا الحديث عن الزهري موقوفا، ولا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى بن أيوب"، ونقل في العلل (202) عن البخاري أنه قال: "عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف"، وقال النسائي في الكبرى (2649): "والصواب عندنا موقوف، ولم يصح رفعه والله أعلم"، وقال أبو حاتم في العلل كما في التلخيص الحبير (2/188): "لا أدري أيهما أصح، لكن الوقف أشبه"، وصححه ابن خزيمة (1933)، وابن حزم في المحلى (6/162)، وقال الدارقطني (2/172): "رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري، وهو من الثقات الرفعاء"، وقال البيهقي (4/202): "قد اختُلف على الزهري في إسناده وفي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات"، وصححه الألباني في الإرواء (914).
([6]) الحَيْس بفتح الحاء المهملة هو التمر مع السمن والقط.
([7]) أخرجه مسلم في الصيام (1154).
([8]) أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098).
([9]) أخرجه البخاري في الصوم (1922)، ومسلم في الصيام (1095).
([10]) أخرجه مسلم في الصيام (1096).
([11]) أخرجه البخاري في الصوم (1921)، ومسلم في الصيام (1097).
([12]) أخرجه البخاري في الصوم (1919)، ومسلم في الصيام (1092).
([13]) أخرجه البخاري في الصوم (1926)، ومسلم في الصيام (1109).
([14]) أي: دخل في وقت الإفطار، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: فليفطر.
([15]) أخرجه البخاري في الصوم (1954)، ومسلم في الصيام (1100).
([16]) أي: شرب جرعات من ماء.
([17]) أخرجه أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الدارقطني (2/185)، والحاكم (1575)، وحسنه الألباني في الإرواء (932).
([18]) أخرجه أحمد (4/17)، وأبو داود في الصوم (2355)، والترمذي في الصوم (691)، والنسائي في الكبرى (3315)، وابن ماجه في الصيام (1699)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، لكن في السند الرباب بنت صليع الضبية الراوية عن سلمان، قال الذهبي في الميزان (7/468): "لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها"، وقال ابن حجر في التقريب (8582): "مقبولة"، وضعف الحديث الألباني في ضعيف الترمذي (110).
([19]) الوصال هو قصد الترك في ليالي الصيام لما يفطِر بالنهار.
([20]) أخرجه البخاري في الصوم (1965)، ومسلم في الصيام (1103).
([21]) المراد بقول الزور الكذب بجميع أنواعه، والمراد بالعمل به العمل بمقتضاه.
([22]) أخرجه البخاري في الصوم (1903).
([23]) أخرجه أحمد (4/114-115)، والترمذي في الصوم (804)، والنسائي في الكبرى (3330)، وابن ماجه في الصيام (1746)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3429)، وهو في صحيح الترمذي (647).
([24]) معنى المباشرة هنا اللمس باليد، وهو من التقاء البشرتين.
([25]) قال الحافظ في الفتح: "بفتح الهمزة والراء وبالموحَّدة، أي: حاجته، ويُروى بكسر الهمزة وسكون الراء، أي: عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير".أ
([26]) أخرجه البخاري في الصوم (1927)، ومسلم في الصيام (1106).
([27]) أخرجه البخاري في الصوم (1938)، ومسلم في الحج (1202).
([28]) أخرجه أحمد (4/123)، وأبو داود في الصوم (2369)، والنسائي في الكبرى (3138)، وابن ماجه في الصيام (1681)، قال ابن خزيمة عقب الحديث (1965): "ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم))"، وصححه ابن حبان (3533)، والحاكم (1/428)، ووافقه الذهبي، ونقل البيهقي في الكبرى (4/267) تصحيح أحمد وابن راهويه وابن المديني والدارمي لهذا الحديث، وهو في صحيح أبي داود (2076).
([29]) أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155).
([30]) ذرعه القيء أي: غلبه وسبقه.(/109)
([31]) أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1176)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس، و قال محمد ـ يعني البخاري ـ: لا أراه محفوظا"، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426-427)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (930).
([32]) أخرجه أحمد (4/33)، وأبو داود في الصوم (2366)، والترمذي في الصوم (788)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150)، وابن حبان (1087)، والحاكم (522)، وصححه الألباني في صحيح الإرواء (935).
([33]) أخرجه البخاري في الصوم (1946)، ومسلم في الصيام (1115).
([34]) أخرجه البخاري في الصوم (1943)، ومسلم في الصيام (1121).
([35]) أخرجه مسلم في الصيام (1117).
([36]) أي: سقوا الإبل.
([37]) أخرجه البخاري في الجهاد (2890)، ومسلم في الصيام (1119).
([38]) العرق بفتح أوله وثانيه، هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة، ويقال له أيضا: الزَّبيل والزِّنبيل والقُفَّة والسفيفة والمِكتل بكسر الميم.
([39]) اللابتان واحدها لابة، وهي الحرة وهي الحجارة السود.
([40]) أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111).
([41]) أخرجه البخاري في الصوم (1950)، ومسلم في الصيام (1146).
([42]) أخرجه البخاري في الصوم (1952)، ومسلم في الصيام (1147).
خامساً: أحاديث في فضل القيام:
48- عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه([1])، فقالت عائشة: لِم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: ((أفلا أحبُّ أن أكون عبدا شكورا؟!)) فلما كثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع. متفق عليه واللفظ للبخاري([2]).
49- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كلَّ عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيبَ النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) متفق عليه([3]).
50- عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل([4]) الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُّ وجهَ([5]) رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه([6]).
51- عن جابر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم([7]).
52- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء([8])، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) رواه أحمد وأصحاب السنن([9]).
53- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أيقظ الرجل أهلَه من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا كُتبا في الذاكرين والذاكرات)) رواه أبو داود وابن ماجه([10]).
([1]) أي: تتشقق.
([2]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820).
([3]) أخرجه البخاري في الجمعة (1142)، ومسلم في صلاة المسافرين (776).
([4]) انجفل الناس بالجيم أي: أسرعوا ومضوا كلهم.
([5]) استثبته أي: تحققته وتبينته.
([6]) أخرجه أحمد، والترمذي في الجمعة (1142)، وابن ماجه في صلاة المسافرين (776)، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه الحاكم (4283)، وهو في السلسلة الصحيحة (569).
([7]) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (757).
([8]) أي: رشَّ وجهها بالماء.
([9]) أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في الصلاة (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1326)، وصححه ابن خزيمة (1148)، وابن حبان (2567)، والحاكم (1164)، والنووي في الرياض (1181)، وهو في صحيح أبي داود (1160).(/110)
([10]) أخرجه أبو داود في الصلاة (1309)، والنسائي في الكبرى (1310)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1335)، وصححه ابن حبان (2569)، والحاكم (3561)، والنووي في الرياض (1182)، وهو في صحيح أبي داود (1161).
سادساً: أحاديث في فضل قراءة القرآن:
54- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ أو ـ كأنهما غيايتان([1]) ـ أو ـ كأنهما فرقان من طير([2]) صوافّ تحاجَّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة([3]))) رواه مسلم([4]).
55- عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري([5]).
56- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن([6]) مع السفرة([7]) الكرام البررة([8])، والذي يقرأ القرآن ويتَتَعْتع فيه([9]) وهو عليه شاقٌّ له أجران)) متفق عليه واللفظ لمسلم([10]).
57- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجَّة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة([11]) ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة([12]) ليس لها ريح وطعمها مر)) متفق عليه([13]).
58- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين([14]): رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) متفق عليه([15]).
59- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين([16])، فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ((تلك السكينة تنزَّلت للقرآن)) متفق عليه([17]).
60- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ([18])، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي([19]).
61- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي([20]).
62- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ عليَّ))، قلت: ءأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَاْ جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}، قال: ((أمسك))، فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه واللفظ للبخاري([21]).
([1]) الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما.
([2]) أي: قطيعان وجماعتان.
([3]) قال معاوية بن سلام أحد رواة الحديث: "بلغني أن البطلة السحرة".
([4]) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (804).
([5]) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5027).
([6]) الماهر هو الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه.
([7]) السفرة جمع سافر وهم الرسل، وقيل: هم الكتبة.
([8]) البررة المطيعون، من البر وهو الطاعة.
([9]) الذي يتتعتع هو الذي يتردَّد في تلاوته لضعف حفظه.
([10]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4937)، ومسلم في صلاة المسافرين (798).
([11]) هي كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم.
([12]) الحنظلة نبات يمتد على الأرض كالبطيخ، وثمره يشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جدا، ويضرب المثل بمرارته.
([13]) أخرجه البخاري في الأطعمة (5427)، ومسلم في صلاة المسافرين (797).
([14]) المراد: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما.
([15]) أخرجه البخاري في التوحيد (7529)، ومسلم في صلاة المسافرين (815).
([16]) أي: حبلين.
([17]) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5011)، ومسلم في صلاة المسافرين (795).
([18]) أي: اعلُ وارتفع.
([19]) أخرجه أحمد (2/192)، وأبو داود في الصلاة (1464)، الترمذي في فضائل القرآن (2914) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (766)، والحاكم (2030)، وهو في صحيح أبي داود (1300).
([20]) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2910) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وهو في صحيح الترمذي (2327).(/111)
([21]) أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4582)، ومسلم في صلاة المسافرين (800).
سابعاً: أحاديث في الاعتكاف:
63- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه([1]).
64- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوما. رواه البخاري([2]).
65- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه. متفق عليه واللفظ لمسلم([3]).
66- عن عائشة رضي الله عنها قالت: وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجِّله([4])، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا. متفق عليه([5]).
67- عن عائشة رضي الله عنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. رواه أبو داود([6]).
68- عن صفية بنت حيي رضي الله عنها أنها جاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الغوابر من رمضان، فتحدثتْ عنده ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يقلِبها، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بهما رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا([7])، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على رِسلكما([8])، إنما هي صفية بنت حيي))، قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبُر عليهما ما قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما)) متفق عليه واللفظ للبخاري([9]).
([1]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2026)، ومسلم في الاعتكاف (1172).
([2]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2044).
([3]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2041)، ومسلم في الاعتكاف (1173).
([4]) أي: أمشطه وأسرِّحه.
([5]) أخرجه البخاري في الاعتكاف (2029)، ومسلم في الحيض (297).
([6]) أخرجه أبو داود في الصوم (2473) وقال: "غير عبد الرحمن بن إسحق لا يقول فيه: (قالت: السنة)، جعله قولَ عائشة"، وأخرجه أيضا الدارقطني (2/201)، والبيهقي (4/320) وقال: "قد ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام من قول من دون عائشة، وأن من أدرجه في الحديث وهم فيه"، وأورده الألباني في صحيح السنن (2160).
([7]) أي: مضيا وخلفاه.
([8]) بكسر الراء ويجوز فتحها، أي: تمهَّلا أو قفا.
([9]) أخرجه البخاري في الأدب (6219)، ومسلم في السلام (2175).
ثامناً: أحاديث في فضل الصدقة:
69- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظلُّه: إمامٌ عدْلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) متفق عليه([1]).
70- عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول([2])، وخير الصدقة عن ظهر غِنًى([3])، ومن يستعففْ([4]) يعِفه الله، ومن يستغنِ يغنِه الله)) رواه البخاري واللفظ له، وروى مسلم أكثره([5]).
71- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غيرَ مفسدةٍ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن([6]) مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجرَ بعض شيئا)) متفق عليه([7]).
72- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: ((أيها الناس، تصدقوا))، فمرَّ على النساء فقال: ((يا معشر النساء، تصدَّقن فإني رأيتكن أكثرَ أهلِ النار))، فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم([8]) من إحداكن يا معشر النساء))، ثم انصرف، فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله، هذه زينب، فقال: ((أيُّ الزيانب؟)) فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: ((نعم ائذنوا لها))، فأذن لها قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حُليٌّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولدَه أحقُّ من تصدقتُ به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق ابن مسعود، زوجُك وولدُك أحقُّ من تصدقتِ به عليهم)) رواه البخاري واللفظ له، وروى مسلم بعضه([9]).(/112)
73- عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم([10]).
74- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا)) متفق عليه([11]).
75- عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل امرئ في ظلِّ صدقته حتى يفصل بين الناس ـ أو قال: ـ يحكم بين الناس)) قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا. رواه أحمد([12]).
([1]) أخرجه البخاري في الزكاة (1423)، ومسلم في الزكاة (1031).
([2]) أي: من تلزمك نفقته من العيال والقرابة.
([3]) أي: أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله، ولذا قال أولا: ((وابدأ بمن تعول)).
([4]) أي: كفَّ عن الحرام وعن سؤال الناس.
([5]) أخرجه البخاري في الزكاة (1428)، ومسلم في الزكاة (1034).
([6]) الخازن هو الذي يكون بيده حفظ الطعام ونحوه.
([7]) أخرجه البخاري في الزكاة (1425)، ومسلم في الزكاة (1024).
([8]) اللبُّ هو الخالص من العقل، والرجل الحازم هو الضابط لأمره.
([9]) أخرجه البخاري في الزكاة (1462)، ومسلم في العيدين (889).
([10]) أخرجه مسلم في الزكاة (994).
([11]) أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010).
([12]) أخرجه أحمد (4/147)، وأبو يعلى (1766)، والطبراني (17/280)، وصححه ابن خزيمة (2431)، وابن حبان (3310)، والحاكم (1/416)، وقال الهيثمي في المجمع (3/110): "رجال أحمد ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (872).
تاسعاً: أحاديث زكاة الفطر:
76- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر صاعا([1]) من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه واللفظ للبخاري([2]).
77- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقِط([3]) أو صاعا من زبيب. متفق عليه([4]).
78- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن ماجه([5]).
([1]) الصاع هو ما يسع كيلويَون وعشرين غراما (2020 غرام) من البر الجيد.
([2]) أخرجه البخاري في الزكاة (1503)، ومسلم في الزكاة (984).
([3]) الأقط لبن مجفف يابس مستحجر يُطبخ به.
([4]) أخرجه البخاري في الزكاة (1506)، ومسلم في الزكاة (985).
([5]) أخرجه أبو داود في الزكاة (1609)، وابن ماجه في الزكاة (1827)، والدارقطي (2/138) وقال: "رواة هذا الحديث ليس فيهم مجروح"، وصححه الحاكم على شرط البخاري (1/409) ولكن تعقبه ابن عبد الهادي في المحرر (584) ونقل عن أبي محمد المقدسي أنه قال: "هذا إسناد حسن"، وحسنه أيضا الألباني في صحيح أبي داود (1420).
عاشراً: أحاديث في صيام التطوع: الصفحة السابقة الصفحة التالية
عاشراً: أحاديث في صيام التطوع:
79- عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وببيعتنا بيعةً. قال: فسئل عن صيام الدهر، فقال: ((لا صام ولا أفطر)) أو ((ما صام وما أفطر)). قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم، قال: ((ومن يطيق ذلك؟!)). قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين، قال: ((ليت أن الله قوَّانا لذلك)). قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم، قال: ((ذاك صوم أخي داود عليه السلام)). قال: وسئل عن صوم يوم الاثنين، قال: ((ذاك يوم وُلدت فيه، ويوم بُعثت أو أنزل علي فيه)). قال: فقال: ((صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر)). قال: وسئل عن صوم يوم عرفة، فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)). قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: ((يكفر السنة الماضية)) رواه مسلم([1]).
80- عن ابن عباس رضي الله عنهما وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان. متفق عليه واللفظ لمسلم([2]).(/113)
81- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) قال: يعني يوم عاشوراء. رواه مسلم([3]).
82- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم)) رواه الترمذي([4]).
83- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحَبُّ الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)) متفق عليه واللفظ للبخاري([5]).
84- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم([6]).
85- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم([7]).
86- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر. متفق عليه واللفظ للبخاري([8]).
87- عن معاذة العدوية أنها سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم([9]).
88- عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)) رواه النسائي([10]).
89- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله، ألم أخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟!)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإنَّ لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله))، فشدَّدتُ فشدّد عليَّ، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: ((فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه))، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: ((نصف الدهر))، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه واللفظ للبخاري([11]).
90- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. متفق عليه([12]).
([1]) أخرجه مسلم في الصيام (1162).
([2]) أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132).
([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([4]) أخرجه الترمذي في في الصوم (747) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1041).
([5]) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3420)، ومسلم في الصيام (1159).
([6]) أخرجه مسلم في الصيام (1164).
([7]) أخرجه مسلم في الصيام (1163).
([8]) أخرجه البخاري في الجمعة (1178)، ومسلم في صلاة المسافرين (721).
([9]) أخرجه مسلم في الصيام (1160).
([10]) أخرجه النسائي في الصيام (2420)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (4/227)، وحسنه الألباني في صحيح السنن (2276).
([11]) أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159).
([12]) أخرجه البخاري في الصوم (1969)، ومسلم في الصيام (1156).
حادي عشر: أحاديث في الصوم المنهي عنه:
91- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتقدَّمنَّ أحدُكم رمضانَ بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صومَه، فليصم ذلك اليوم)) متفق عليه واللفظ للبخاري([1]).
92- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر. متفق عليه واللفظ لمسلم([2]).
93- عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)) رواه مسلم([3]).
94- عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري([4]).
95- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تخْتصُّوا ليلةَ الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخُصُّوا يومَ الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) رواه مسلم([5]).(/114)
96- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده)) متفق عليه واللفظ لمسلم([6]).
97- عن صِلَة بن زُفَر قال: كنا عند عمار بن ياسر، فأتي بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشُكُّ فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه أصحاب السنن واللفظ للترمذي([7]).
98- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدَّى إليه شطره)) متفق عليه واللفظ للبخاري([8]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم (1914)، ومسلم في الصيام (1082).
([2]) أخرجه البخاري في الصوم (1991)، ومسلم في الصيام (1138).
([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1141).
([4]) أخرجه البخاري في الصوم (1998).
([5]) أخرجه مسلم في الصيام (1144).
([6]) أخرجه البخاري في الصوم (1985)، ومسلم في الصيام (1144).
([7]) علقه البخاري بصيغة الجزم في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا..))، ووصله أبو داود في الصوم (2334)، والترمذي في الصوم (681)، والنسائي في الصيام (2188)، وابن ماجه في الصيام (1645)، قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس. وحديث عمار حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1914)، وابن حبان (3585، 3595)، والدارقطني (2/157)، والحاكم (1542)، وصححه الحافظ في تغليق التعليق (3/140-141)، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (553).
([8]) أخرجه البخاري في النكاح (5195)، ومسلم في الزكاة (1026).
ثاني عشر: أحاديث لا تثبت:
99- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الأعمال عند الله عز وجل سبع: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعمل بعشر أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل. فأما الموجبان فمن لقي الله يعبده مخلصا لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار، ومن عمل سيئة جزي بها، ومن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها جزي مثلها، ومن عمل حسنة جزي عشرا، ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته، الدرهم سبعمائة، والدينار سبعمائة، والصيام لله عز وجل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل)) رواه الطبراني والبيهقي([1]).
100- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا)) رواه الطبراني([2]).
101- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعَّده الله عز وجل من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما)) رواه أحمد([3]).
102- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم، والصيام نصف الصبر)) رواه ابن ماجه([4]).
103- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي له أن يتحفظ فيه كفَّر ما كان قبله)) رواه أحمد([5]).
104- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله، وفي كل يوم حسنة، وفي كل ليلة حسنة)) رواه ابن ماجه([6]).
105- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزيِّن الله عز وجل كلَّ يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصيروا إليك، ويصفَّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة))، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوَفى أجرَه إذا قضى عمله)) رواه أحمد([7]).(/115)
106- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يكون آخر ليلة من رمضان، وليس عبد مؤمن يصلي في ليلة فيها إلا كتب الله له ألفا وخمسمائة حسنة بكل سجدة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء لها ستون ألف باب، لكل منها قصر من ذهب موشح بياقوتة حمراء، فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى ذلك اليوم من شهر رمضان، واستغفر له كل يوم سبعون ألف ملك من صلاة الغداة إلى أن توارى بالحجاب، وكان له بكل سجدة يسجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمسمائة عام)) رواه البيهقي([8]).
107- عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: ((يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، ومن فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء))، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال رسول الله: ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفَّف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنها، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)) رواه ابن أبي أسامة وابن خزيمة([9]).
108- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمسلمين شهر قط خير لهم منه، وما مر بالمنافقين شهر قط أشر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله، وذاك لأن المؤمن يعِد فيه القوةَ من النفقة للعبادة، ويعِد فيه المنافق ابتغاء غفلات المؤمنين وعوراتهم، فهو غُنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)) رواه أحمد([10]).
109- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل)) رواه الطبراني([11]).
110- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاكر الله في رمضان مغفور له، وسائل الله فيه لا يخيب)) رواه الطبراني([12]).
111- عن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: ((شعبان لتعظيم رمضان))، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((صدقة في رمضان)) رواه الترمذي([13]).
112- عن علي بن حسين رضي الله عنهم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين)) رواه الطبراني والبيهقي([14]).
([1]) أخرجه الطبراني في الأوسط (865)، والبيهقي في الشعب (3589)، قال الهيثمي في المجمع (3/182): "فيه يحيى بن المتوكل وقد ضعفه جمهور الأئمة، ووثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (572): "ضعيف جدا".
([2]) أخرجه الطبراني في الأوسط (8312)، وقال المنذري في الترغيب (2/83): "رواته ثقات"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (3/179)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (573).
([3]) أخرجه أحمد (2/526) وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ورجل لم يسمَّ، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1330).
([4]) أخرجه ابن ماجه في الصيام (1745) من طريقين، وأشار المنذري إلى ضعفه (2/85)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/79): "هذا إسناد ضعيف من الطريقين معا، فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو متفق على تضعيفه، ومدار الإسنادين عليه"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1329).
([5]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98)، ومن طريقه أحمد (3/55)، وأبو يعلى (1058)، والبيهقي في الكبرى (4/304)، وصححه ابن حبان (3433)، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، وأورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال: "مجهول"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).(/116)
([6]) أخرجه ابن ماجه في المناسك (3117)، والبيهقي في الشعب (3729، 4149) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال البيهقي: "تفرد به عبد الرحيم بن زيد وليس بالقوي"، وقال في الموضع الثاني: "عبد الرحيم بن زيد العمي ضعيف يأتي بما لا يتابعه الثقات عليه"، وقال عنه الحافظ في التقريب: "متروك كذبه ابن معين"، وأبوه زيد ضعيف، وقد حكم الألباني على الحديث بالوضع ضعيف الترغيب (585).
([7]) أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458- كشف الأستار)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (586): "ضعيف جداً".
([8]) أخرجه البيهقي في الشعب (3635) وقال: "قد روينا في الأحاديث المشهورة ما يدل على هذا أو بعض معناه"، وفي سنده محمد بن مروان السدي متهم بالكذب، ولذا قال الألباني في ضعيف الترغيب (588): "موضوع".
([9]) أخرجه الحارث في مسنده (318- بغية الباحث)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (871).
([10]) أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21)، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضاً عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260): "لا يتابع عليه"، وهو في ضعيف الترغيب (590).
([11]) عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وحكم عليه الألباني بالوضع في ضعيف الترغيب (592).
([12]) أخرجه الطبراني في الأوسط (6170)، وأشار المنذري إلى ضعفه في الترغيب (2/104)، وقال الهيثمي في المجمع (3/143): "فيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (600).
([13]) أخرجه الترمذي في الزكاة (663) وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (618).
([14]) أخرجه الطبراني في الكبير (3/128)، والبيهقي في الشغب (3966)، وأشار المنذري إلى ضعفه في الترغيب (2/149)، وقال الهيثمي في المجمع (3/143): "فيه عيينة بن عبد الرحمن القرشي وهو متروك"، وحكم عليه الألباني بالوضع في السلسلة الضعيفة (518).
أحاديث لا تثبت في شهر رمضان وصيامه
1 ـ ما جاء في النهي عن قول رمضان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم الله، ولكن قولوا: شهر رمضان)) ([1]).
([1]) رواه ابن عدي في الكامل (7/2517)، والجورقاني في الأباطيل (2/88) وقال: "هذا حديث باطل مداره على أبي معشر واسمه نجيح السندي عن سعيد"، وابن الجوزي في الموضوعات كتاب الصوم باب النهي أن يقال رمضان (1117) وقال: "هذا حديث موضوع لا أصل له"
2 ـ أحاديث في فضل شهر رمضان وصيامه وعظيم منزلته:
عن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلمت الجمعة سَلِمت الأيام، وإذا سلم رمضان سلمت السنة))([1]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى ليس بتاركٍ أحدًا من المسلمين صبيحة أول يوم من رمضان إلا غفر له))([2]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول إله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الله عز وجل أذن للسموات والأرض أن تتكلم لبشرت الذي يصوم رمضان بالجنة))([3]).(/117)
وعن عبد الله مسعود رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ـ وقد أهل رمضان -: ((لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها)) فقال رجل من خزاعة: حدثنا به، قال: ((إن الجنة تزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول، حتى إذا كان أول يوم من رمضان، هبَّت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة، فينظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقر أعيننا بِهم، قال: فما من عبد يصوم رمضان إلا زُوِّج زوجة من الحور العين في خيمة من در مجوفة مما نعت الله عز وجل: {حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، على كل امرأة سبعون حلة، ليس فيها حلة على لون الأخرى، ويعطى سبعين لونًا من الطيب ليس منها لون على ريح الآخر، لكل امرأة منهن سبعون سريرًا من ياقوتة حمراء موشحة بالدر، على كل سرير سبعون فراشًا بطائنها من إستبرق، وفوق السبعين فراشًا سبعون أريكة، لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجاتها، وسبعون ألف وصيف، مع كلّ وصيف صحفة من ذهب فيها لون طعام يجد لآخر لقمة لذة لا يجدها لأوله، يعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر، هذا لكل يوم صامه من رمضان، سوى ما عمل من الحسنات))([4]).
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه، ومن أدَّى فيه فريضة، كان كمن أدَّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء))، قالوا: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال: ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، واستكثروا فيه أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن أشبع فيه صائمًا سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)) ([5]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال، لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويصفَّد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، ويزيِّن الله عز وجل في كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يُوفَّى أجره إذا قضى عمله)) ([6]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا تصحوا)) ([7]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفطر يومًا من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه)) ([8]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صَمْتُ الصائمِ تسبيحٌ، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف)) ([9]).
([1]) رواه ابن حبان في المجروحين ( 2/140)، وابن عدي في الكامل (5/288) وقال: حديث باطل لا أصل له، وأبو نعيم في الحلية (7/140)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/557)، وقال: تفرد به عبد العزيز، قال يحيى: ليس هو بشيء، هو كذاب خبيث يضع الحديث، وقال محمد بن عبد الله بن نُمير: "هو كذاب".
([2]) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (5/91)، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/551) وقال: هذا حديث لا يصح، وقال الألباني: موضوع السلسلة الضعيفة (296).
([3]) رواه ابن الشجري في أماليه (2/41)، وابن أبي الصقر في مشيخته (106)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/553) وقال: هذا حديث لا يصح، وأقره على الحكم بالوضع السيوطي في اللآلئ (2/103)، وابن عراق في تنْزيه الشريعة (2/147)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (258).(/118)
([4]) رواه أبو يعلى في مسنده (9/180/5273)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصيام، باب ذكر تزيين الجنة لشهر رمضان (1886)، وقال: "إن صح الخبر فإن في القلب من جرير بن أيوب البجلي"، والشاشي في مسنده (2/77)، والطبراني في الكبير (22/388)، وابن شاهين في فضائل شهر رمضان (38)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/313)، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات كتاب الصوم، باب تزين الجنة لصوام رمضان (1119) وقال: "هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به: جرير بن أيوب"، وقال: "وقد رويت في هذا المعنى أحاديث لا تثبت قد ذكرتها في «الأحاديث الواهية»".
([5]) رواه الحارث في مسنده (بغية الباحث للهيثمي رقم (318) ) وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصوم باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر (1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، والمحاملي في الأمالي (1/287)، وابن عدي في الكامل (5/293)، وابن شاهين في فضائل شهر رمضان (38)، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر اهـ، وللتوسع في تخريجه انظر (حاشية تحقيق مشيخة أبي طاهر ص113).
([6]) رواه الإمام أحمد (2/292)، والحارث في مسنده (بغية الباحث للهيثمي 316)، والبزار (كشف الأستار 1/458) وقال: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/12/3013)، وابن شاهين في فضائل شهر رمضان (48)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/304)، وقال الألباني: "ضعيف جدًا " ضعيف الترغيب والترهيب (1/294).
([7]) رواه العقيلي في الضعفاء (2/92) في ترجمة زهير بن محمد، وقال: "لا يتابع عليه إلا من وجه فيه لين"، والطبراني في الأوسط (8/147)، وابن عدي في الكامل (7/57)، قال العراقي في تخريج الإحياء (3/75): "رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف"، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (253).
([8]) رواه البخاري تعليقًا غير مجزوم به كتاب الصيام باب إذا جامع في رمضان (2/683)، ووصله الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في الإفطار متعمدًا (723) وقال: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسمعت محمدًا يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث"، وأبو داود كتاب الصيام، باب التغليظ في من أفطر عمدًا (2396)، وابن ماجه كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان (1672)، والنسائي في الكبرى: كتاب الصوم (2/24/3279)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصوم باب التغليظ في إفطار يوم من رمضان متعمدًا من غير رخصة إن صح الخبر فإني لا أعرف ابن المطوس ولا أباه غير أن حبيب ابن أبي ثابت قد ذكر أنه لقي أبا المطوس (1987)، قال الحافظ في الفتح (4/161): "واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيرًا، فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة".
([9]) رواه ابن أبي الصقر في مشيخته (46)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3493). ورواه بلفظ: ((نوم الصائم عبادة، وسكوته تسبيح، ودعاؤه مستجاب)) من حديث ابن أبي أوفى: ابن صاعد في مسند ابن أبي أوفى (43)، والبيهقي في الشعب (3/415)، ومن حديث ابن مسعود: أبو نعيم في الحلية (5/83)، ورواه معضلاً من حديث محمد بن علي بن الحسين الجرجاني في تاريخ جرجان (1/370)، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/182): "رويناه في أمالي ابن منده من رواية ابن المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر بسند ضعيف، ولعله عبد الله بن عمرو، فإنهم لم يذكروا لابن المغيرة رواية عنه، ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وفيه سليمان بن عمر النخعي أحد الكذابين".
3 ـ ما جاء في فضل السحور:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى رجلاً طليحًا (يعني ذابلاً) فقال: ((ما له؟)) فقالوا: صائم يا رسول الله، قال: ((من أحب أن يقوى على الصوم فليتسحر، وليَقِلْ، وليشمَّ طيبًا، ولا يفطر على ماء))([1]).
([1]) رواه ابن حبان في المجروحين (1/363)، والبيهقي في شعب الإيمان (3911)، ومن طريق آخر ابن عدي في الكامل (6/282)، وسئل عنه الدراقطني فقال:"يرويه أبو عبيدة الحداد عن هشام عن قتادة عن أنس مرفوعًا، والصواب عن أنس أنه من قوله"، (العلل 4/31/أ)، نقلاً عن حاشية تحقيق مشيخة أبي طاهر (138).
4 ـ ما جاء في المفطرات:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء: الكذب والنميمة والغيبة والنظرة بشهوة واليمين الكاذبة)) ([1]).(/119)
وعن عبيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم: أن امرأتين صامتا، وإن رجلاً قال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين قد صامتا، وإنّهما كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد ـ وأراه قال: بالهاجرة – قال: يا نبي الله، إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال: ((ادعهما))، فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عُسٍّ، فقال لإحداهما: ((قيئي))، فقاءت قيحًا ودمًا وصديدًا ولحمًا حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: ((قيئي)) فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال: ((إنّ هاتين صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس))([2]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((من تأمل خَلْق امرأة؛ حتى حجم عظامها، ورأى ثيابَها، وهو صائمٌ، فقد أفطر))([3]).
([1]) رواه الجورقاني في الأباطيل (1/351) وقال: "هذا حديث باطل وفي إسناده ظلمات" وسردها، وابن الجوزي في الموضوعات كتاب الصوم، باب ما يبطل الصوم (1131) وقال: "هذا مضوع، ومن سعيد إلى أنس كلهم مطعون فيه"، قال ابن أبي حاتم في العلل (1/258): سألت أبي عن هذا الحديث فقال: "هذا حديث كذب"، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1708).
([2]) رواه الإمام أحمد (5/431)، وابن أبي الدنيا في الصمت (1/123)، وأبو يعلى في مسنده (3/147)، وفي المفاريد (87)، والروياني في مسنده (1/481) وابن حزم في المحلى (6/178)، ورواه من حديث سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن قانع في معجم الصحابة (1/257)، ومن حديث أنس ابن أبي الدنيا في الصمت (1/122)، قال العراقي: "رواه أحمد عن عبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه رجل لم يسمّ "ا هـ، تخريج الإحياء (3/123)، ومدار الأسانيد عليه، انظر: السلسلة الضعيفة للألباني (519).
([3]) رواه ابن عدي في الكامل (2/343)، (3/76)، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/559)، وقال: "هذا حديثٌ موضوع، وفي إسناده كذابان"، وأقره السيوطيّ في اللآلئ (2/105)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/147)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (94).
5 ـ الفطر في السفر:
عن كعب بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من امبر امصيام في امسفر)) ([1]).
([1]) رواه بهذا اللفظ الشافعي (مسند الشافعي 1/157)، والحميدي (2/381)، وأحمد (5/434)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/63)، والطبراني في الكبير (19/172). وتفرد بهذا اللفظ معمر عن الزهري، وباقي الرواة عن الزهري: سفيان وابن جريج ومحمد بن أبي حفص والزبيدي كلهم رووه بلفظ: ((ليس من البر الصيام في السفر)). لذا حكم الألباني بالشذوذ على اللفظ الأول، انظر الضعيفة (1130).
6 ـ ما يقال عند الإفطار:
عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا، إنك أنت السميع العليم))([1]).
([1]) رواه من حديث ابن عباس: الدراقطني في السنن (240) وابن السني في عمل اليوم والليلة (474)، والطبراني في الكبير (3/174)، ومن حديث أنس: الطبراني في الأوسط (7/298)، وفي الصغير (189). ويرويه من طريق آخر مرسلاً: ابن المبارك في الزهد (1410)، وأبو داود في كتاب الصيام، باب: القول عند الإفطار (2358) وفي المراسيل (1/124)، قال ابن القيم في الزاد (2/51): "لا يثبت"، وضعفه ابن حجر في التلخيص (2/444)، والألباني في الإرواء (4/36).
7 ـ الترغيب في الاعتكاف:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها، كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى، جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق، كل خندق أبعد مما بين الخافقين))([1]).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اعتكف عشرًا في رمضان، كان كحجتين وعمرتين)) ([2]).
([1]) رواه الطبراني في الأوسط (7/221)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/126)، وقال: "غريب لا أعلم رواه عن عطاء غير أبي رواد"،والبيهقي في شعب الإيمان (3/425)،وضعَّفه، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/517)، ونقل كلام الخطيب البغدادي السابق، وضعَّفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (662).
([2]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (3/128)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/425)، وضعَّف إسناده. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/173): "رواه الطبراني في الكبير وفيه عيينة بن عبد الرحمن القرشي، وهو متروك"، وحكم عليه الألباني بالوضع في الضعيفة (518).
8 ـ الترغيب في زكاة الفطر وعظم شأنها:
عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، لا يرفع إلى الله إلاّ بزكاة الفطر))([1]).(/120)
([1]) رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية من حديث جرير وأنس (2/498-499) وقال: "هذان حديثان لا يصحان، أما الأول: ففيه عبد الرحمن بن عثمان، قال أحمد بن حنبل: طرح الناس حديثه. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وأما الثاني فإن فيه محمد بن عبيد مجهول". ورواه أحمد بن عيسى المقدسي في فضائل جرير (2/24/2) كما في السلسلة الضعيفة للألباني (43)، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/121) من حديث أنس.
9 ـ أحاديث متفرقة:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افترض الله على أمتي الصوم ثلاثين يومًا، وافترض على سائر الأمم أقل وأكثر، وذلك لأن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين يومًا، فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يومًا بلياليهن، فافترض عليَّ وعلى أمتي بالنهار، وما نأكل بالليل ففضل من الله عز وجل))([1]).
وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان))([2]).
وعن عاصم الأحول قال: (سألت أنس بن مالك، أيستاك الصائم؟ قال: نعم، قلت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم، قلت: في أول النهار وآخره؟ قال: نعم، قلت له: عن من؟ قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)([3]).
([1]) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/35)، وقال: "موسى بن نصر هو أبو عمران الثقفي سكن سمرقند وكان غير ثقة"اهـ، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2/543)، ونقل كلام الخطيب المتقدم، وأقره على حكمه عليه بالوضع السيوطي في اللآلئ (2/97)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/145)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (87).
([2]) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند في مسند ابن عباس (1/259)، والبزار في مسنده (كشف الأستار: 616)، والطبراني في الأوسط (4/189)، وأبو نعيم في الحلية (6/169)،والبيهقي في شعب الإيمان (3/375) وقال: "قال البخاري: زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري منكر الحديث". والحديث قد ضعفه النووي في الأذكار (572)، وابن حجر في تبيين العجب (18)، والهيثمي في المجمع (2/165).?
([3]) رواه ابن حبان في المجروحين (1/102) وقال (1/241): "لا أصل لهذا الحديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من حديث أنس، وإبراهيم يروي عن عاصم المناكير التي لا يجوز الاحتجاج بها"، والبيهقي في السنن الكبرى (4/272)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/558) ونقل كلام ابن حبان السابق ولم يتعقبه
ما يخص المسافر من أحكام الصيام
الفصل الأول: بيان حكم الفطر والصوم للمسافر:
المسألة الأولى: مشروعية الفطر للمسافر.
يجوز للمسافر سفرا يباح فيه قصر الصلاة، وكان غيرَ عاص بسفره هذا أن يفطر في رمضان حالَ سفره، وعليه قضاء المدة التي أفطر فيها. ودليل ذلك: الكتاب، والسنّة، والإجماع.
أما دليل الكتاب:
فقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة:185].
قال الطبري رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً}: من كان منكم مريضا، ممن كلِّف صومه، أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر {فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَرَ}. يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره {فَعِدةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَرَ}. يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره"([1]).
وقال ابن كثير رحمه الله: "معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه، أو كان على سفر أي: في حال السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام"([2]).
وأما دليل السنّة: فقد دل على ذلك السنة القولية والفعلية:
فعن أنس بن مالك رجلٍ من بني عبد الله بن كعب رضي الله عنه قال: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ((ادن فكل))، فقلت: إني صائم، فقال: ((ادن أحدثك عن الصوم ـ أو الصيام ـ، إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم ـ أو الصيام ـ))([3]).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([4]).
وأما الإجماع: فقال ابن عبد البر رحمه الله: "وأجمع الفقهاء على أن المسافر بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر"([5])، وقال ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر بالجملة"([6])، وقال ابن تيمية رحمه الله: "واتفق المسلمون على أن الفطر في السفر جائز"([7]).
فرع: إذا كان سفره سفر معصية، هل له الأخذ برخصة الفطر أم لا؟(/121)
اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز له الفطر في سفر المعصية، وبه قالت المالكية والشافعية والحنابلة([8]).
واستدلوا بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145].
قالوا: وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله، والعادي هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق، فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذه حجج ضعيفة؛ أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام والنحل، وفي المدينة: ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على إمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم، فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه"([9]).
القول الثاني: أنه يجوز له الفطر في أي سفر كان، وهو قول الحنفية، واختاره ابن حزم وابن تيمية([10]).
واستدلوا: بعموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].
قالوا: فعم تعالى الأسفار كلها، ولم يخص سفرا من سفر، وما كان ربك نسيا.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعا في جنس السفر، ولم يخص سفرا من سفر وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر، قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، كما قال في آية التيمم: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] الآية، وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد عن النبي أنه خص سفرا من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراما ومباحا، ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات، ولو بيَّن ذلك لنقلته الأمة، وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئا، وقد علق الله ورسوله أحكاما بالسفر كقوله تعالى في التيمم: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، وقوله في الصوم: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101]، وقول النبي: ((يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن))، وقوله: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم))، وقوله: ((إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة))، ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟!"([11]).
فرع: إذا سافر من أجل الفطر، هل يجوز له الأخذ برخصة الفطر أم لا؟
قال ابن القيم رحمه الله: "وإن كانت الحيلة فعلا تفضي إلى غرض له، مثل: أن يسافر في الصيف ليتأخَّر عنه الصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه، بل يجب عليه الصوم في هذا السفر"([12]).
المسألة الثانية: حكم من صام في رمضان وهو متلبس بالسفر؟
اختلف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز له الصوم بنية رمضان، ولو صام وجب عليه القضاء في الحضر. حكي ذلك عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر، والزهري وأبي سلمة وإبراهيم النخعي، وغيرهم([13])، وبه قال ابن حزم([14]).
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وهو قول شاذ، هجره الفقهاء كلهم"([15]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة:184].
قالوا: ظاهره فعليه عدة، أو فالواجب عدة.(/122)
ورُدَّ عليهم بأنه استدلالٌ باطلٌ قطعا، فإن الذي أنزلت عليه هذه الآية ـ وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها ـ قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر, ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم, ولا يعتقده مسلم, فعُلم أن المراد بها غير ما ذكرتم، فإما أن يكون المعنى: فأفطرَ فعدةٌ من أيام أخر, كما قال الأكثرون, أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزي عنه, وتقبل منه, ونحو ذلك. فما الذي أوجب تعيينَ التقدير بأن عليه عدة من أيام أخر, أو ففرضُه, ونحو ذلك؟ وبالجملة: ففِعلُ من أُنزلت عليه تفسيرُها, وتبيينُ المراد منها, وبالله التوفيق. وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم, يحتجون بعموم نص على حكم, ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده, ومن تدبَّر هذا علم به مراد النصوص, وفهم معانيها([16]).
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([17]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولئك العصاة)) فذاك في واقعة معينة, أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم، فقال هذا"([18]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا))، فكانت رخصة، فمنَّا من صام، ومنا من أفطر، فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا))، فكانت عزيمة فافطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر. وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو"([19]).
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر))([20]).
قالوا: ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه.
ورد عليهم بأنه ليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر، فإنه نفى أن يكون من البر ولم ينف أن يكون جائزا مباحا، والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتى المأمور به، والمراد به كونه في السفر ليس من البر كما لو صام وعطش نفسه بأكل المالح، أو صام وأضحى للشمس، فإنه يقال: ليس من البر الصيام في الشمس. ولهذا قال سفيان بن عيينة: معناه: ليس من صام بأبر ممن لم يصم. ففي هذا دليل على أن الفطر أفضل، فإنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صام أولا في السفر ثم أفطر فيه، ومن كان يظن أن الصوم في السفر نقص في الدين فهذا مبتدع ضال"([21]).
ورد عليهم أيضاً بأن هذا خرج على شخص معين, رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظلل عليه, وجهده الصوم, فقال هذا القول, أي: ليس البر أن يجهد الإنسان نفسه حتى يبلغ بها هذا المبلغ, وقد فسح الله له في الفطر. فالأخذ إنما يكون بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر. وأيضا فقوله: ((ليس من البر)) أي: ليس هو أبر البر؛ لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوَّى عليه، وقد يكون الفطر في السفر المباح برًّا, لأن الله تعالى أباحه ورخص فيه, وهو سبحانه يحب أن يؤخذ برخصه, وما يحبه الله فهو بر, فلم ينحصر البر في الصيام في السفر، وتكون "من" على هذا زائدةٌ, ويكون كقوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ...} [البقرة:177] الآية، وكقولك: ما جاءني من أحد, وفي هذا نظرٌ. وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة, بل هي على حالها، والمعنى: إن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه وتتنافسون عليه، فإنهم ظنوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه, وأنه وحده البر الذي لا أبر منه, فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه, فإنه قد يكون الفطر أحب إلى الله منه, فيكون هو البر([22]).
4- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر))([23]).
قال ابن حجر رحمه الله: "وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أولاً حيث يكون الفطر أولى من الصوم. والله أعلم"([24]).(/123)
5- واحتجوا: بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به واقعةٌ معينةٌ, وهي غزاة الفتح, فإنه صام حتى بلغ الكديد, ثم أفطر, فكان فطره آخر أمريه, لا أنه حرَّم الصوم, ونظير هذا قول جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار، إنما هو في واقعة معينة دعي لطعام فأكل منه, ثم توضأ وقام إلى الصلاة, ثم أكل منه وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار. وجابر هو الذي روى هذا وهذا, فاختصره بعض الرواة, واقتصر منه على آخره، ولم يذكر جابر لفظا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا آخر الأمرين مني, وكذلك قصة الصيام, وإنما حكوا ما شاهده أنه فعل هذا وهذا, وآخرهما منه الفطر وترك الوضوء, وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها"([25]).
القول الثاني: صحة الصيام، ولا قضاء عليه، وهو مذهب جمهور الصحابة، والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة([26]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))([27]).
2- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة([28]).
3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن([29]).
القول الثالث: من سافر بعد دخول رمضان فعليه صومه كله. حكي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس، وأبي مخلد وعبيدة السلماني وأبي مجلز وسويد بن غفلة([30]).
ومما استدلوا به:
1- قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} [البقرة:185]. قالوا: وهذا قد شهده، ولأنه لما استهل في الحضر لزمه صوم الإقامة، وهو صوم الشهر حتما، فهو بالسفر يريد إسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا صام على هذا الوجه معتقدا وجوب الصوم عليه وتحريم الفطر فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة"([31]).
والراجح في هذه المسألة قول الجمهور، القاضي بجواز الصوم وجواز الفطر في رمضان لمن كان مسافراً، وأن من صام فصيامه صحيح.
قال الطبري رحمه الله: "وهذا القول عندنا أولى بالصواب؛ لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان ـ وهو ممن له الإفطار لمرضه ـ أن صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره؛ لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها، وذلك قول الله تعالى ذكره: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر، وقد تكلَّف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأداه. فإن ظن ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب، فإن في قول الله تعالى ذكره: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} [البقرة:183]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ما ينبئ أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما؛ لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ}، {شَهْرُ رَمَضَانَ}، وأن قوله: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} معناه: ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه. ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذ سئل عن الصوم في السفر: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره"([32]).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الأمرين"([33]).
فرع: إذا علم أن الصوم في السفر مباح، فهل الصوم لمن قوي عليه ولم يُلحِق به ضررًا أفضل أم الفطر؟
اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك إلى أقوال:(/124)
القول الأول: إن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يُلحق به ضررا، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية([34]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة([35]).
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن([36]).
القول الثاني: أن الفطر أفضل عملا بالرخصة، وبه قالت الحنابلة([37]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلِّل عليه، فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر))([38]).
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([39]).
3- عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))([40]).
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))([41]).
القول الثالث: أفضلهما أيسرُهما، وهو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة، واختاره ابن المنذر([42]).
واستدلوا بما يلي:
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
قالوا: فإن كان الفطر أيسرَ عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسرَ كمن يسهل عليه حينئذ ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قد ثبت في الصحيح عن النبي أن حمزة بن عمرو سأله فقال: إنني رجل أكثر الصوم أفأصوم في السفر؟ فقال: ((إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس)). فإذا فعل الرجل في السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره فقد أحسن، فإن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، أما إذا كان الصوم في السفر أشقَّ عليه من تأخيره فالتأخير أفضل، فإن في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))"([43]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخيَّر بين الصوم والفطر"([44]).
القول الرابع: أنه مخيَّر مطلقاً([45]).
والراجح في هذه المسألة القول الثالث القاضي بالتفصيل.
قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظنَّ به الإعراض عن قبول الرخصة، كما تقدم في المسح على الخفين وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار، وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: (من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة)، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)). وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر فروى الطبري من طريق مجاهد قال: (إذا سافرت فلا تصم؛ فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك)"([46]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "والصواب: أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: أن لا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحالة يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:
أولاً: أن هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر ،حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، ولا فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.
ثانياً: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر، والأداء وهو صيام رمضان يقدَّم.
ثالثاً: أنه أسهل على المكلف غالباً؛ لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعد كما هو مجرب ومعروف.
رابعاً: أنه يدرك الزمن الفاضل، وهو رمضان، فإن رمضان أفضل من غيره؛ لأنه محل الوجوب.(/125)
فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحالة الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل.
الحالة الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة، فهنا يكون الصوم في حقه حراماً.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وينتظرون ما سيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم دعا بإناء به ماء بعد العصر، وهو على بعير فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))، فوصفهم بالعصاة، فهذا ما يظهر لنا من الأدلة في صوم المسافر"([47]).
([1]) جامع البيان (2/137).
([2]) تفسير القرآن العظيم (1/222).
([3]) أخرجه أحمد (4/347)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)، والنسائي في الصيام (2274)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (1667). قال الترمذي :"حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن، ولا نعرف لأنس بن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد. والعمل على هذا عند أهل العلم". وأورده الألباني في صحيح الترمذي (575).
([4]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).
([5]) التمهيد (9/67).
([6]) المغني (4/345).
([7]) مجموع الفتاوى (26/93).
([8]) ينظر: حاشية العدوي (1/569)، والمجموع (6/260)، وكشاف القناع (1/505).
([9]) مجموع الفتاوى (24/109) وما بعدها.
([10]) ينظر: تبين الحقائق (1/216)، والمحلى (6/243)، ومجموع الفتاوى (24/109).
([11]) ينظر: مجموع الفتاوى (24/109-110).
([12]) إغاثة اللهفان (1/372).
([13]) ينظر: فتح الباري (4/183).
([14]) المحلى (6/243).
([15]) التمهيد (22/49).
([16]) تهذيب السنن (3/287-288).
([17]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).
([18]) تهذيب السنن (3/287).
([19]) فتح الباري (4/184).
([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر... (1946) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1115).
([21]) مجموع الفتاوى (22/287).
([22]) تهذيب السنن (3/286).
([23]) أخرجه ابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الإفطار في السفر (1666)، والضياء في المختارة (912) من طريق أسامه بن زيد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف. قال البيهقي في الكبرى (4/244): "وإسناده ضعيف"، وقال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف ومنقطع، رواه أسامة بن زيد ـ هو ابن أسامة ـ ضعيف، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئا. قاله ابن معين والبخاري". وضعفه ابن جحر في الفتح (4/184)، وقال الألباني في الضعيفة (498) "منكر". وروي موقوفا عند النسائي في الصيام، باب: ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر (2284)، والبيهقي في الكبرى (4/244). قال ابن أبي حاتم في العلل (1/239): "قال أبو زرعة: الصحيح عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه، موقوف". وقال الدارقطني في العلل (4/282): "والصحيح عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا". وقال ابن حجر في الفتح(4/148): "ومع وقفه فهو منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه".
([24]) فتح الباري (4/184).
([25]) تهذيب السنن (3/286).
([26]) ينظر: تبيين الحقائق (1/216)، والدر المختار (1/527)، والقوانين الفقهية (ص59)، وحاشية البيجوري على ابن قاسم (1/210)، والمغني (4/406)، والروض المربع (1/89).
([27]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار (1943)، ومسلم في الصوم (1121) واللفظ له.
([28]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1945)، ومسلم في الصيام (1122).
([29]) أخرجه مسلم في الصيام (1116).
([30]) ينظر: بدائع الصنائع (2/94-95)، والمجموع (6/261)، المغني (3/117).
([31]) مجموع الفتاوى (22/287).
([32]) جامع البيان (2/160-161).
([33]) مجموع الفتاوى (22/3336).
([34]) ينظر: فتح القدير (2/273)، والدر المختار (2/117)، ومراقي الفلاح (ص375)، والمدونة الكبرى (1/180)، والقوانين الفقهية (81)، والمجموع (6/265- 266)، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج (2/64)، والوجيز (1/103).
([35]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1945)، ومسلم في الصيام (1122).
([36]) أخرجه مسلم في الصيام (1116).
([37]) ينظر: الإنصاف (3/287)، كشاف القناع (2/311)، والمغني مع الشرح الكبير (3/18).
([38]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر... (1946) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1115).
([39]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).(/126)
([40]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار (1943)، ومسلم في الصوم (1121) واللفظ له.
([41]) أخرجه أحمد (1/108) واللفظ له، والروياني في مسنده (1433)، والبيهقي في الكبرى (3/140)، وصححه ابن خريمة (950)، وابن حبان (2742)، والألباني في الإرواء (564) . وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن حبان (354)، وآخر من حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان في الثقات (2/200)، والطبراني في الأوسط (8032)، وابن عدي في الكامل (5/1718) بسند ضعيف.
([42]) ينظر: فتح الباري (4/183).
([43])مجموع الفتاوى (22/287).
([44]) فتح الباري (4/183).
([45]) ينظر: فتح الباري (4/183).
([46]) فتح الباري (4/183).
([47]) الشرح الممتع (6/355-356).
الفصل الثاني: فيمن نوى الصوم ثم أفطر:
المسألة الأولى: حكم من أفطر في رمضان وقد نواه من الليل، وتحته صور:
الصورة الأولى: فيمن نوى الصوم وهو مسافر، ثم أراد أن يفطر في نهاره، فهل له الفطر؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول :الجواز، وإليه ذهبت الشافعية والحنابلة([1]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس([2]).
قال البخاري: "والكديد ماء بين عسفان وقديد".
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([3]).
قال ابن قدامة رحمه الله: "وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه، إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما"([4]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه"([5]).
القول الثاني: أنه لا يحل له الفطر ذلك اليوم، ولو أفطر لا كفارة عليه، وهو قول الحنفية([6]).
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
القول الثالث: أنه لا يحل له الفطر، وعليه القضاء والكفارة إن أفطر متعمدا من غير عذر، وهو رواية عن مالك([7]).
قالوا: لأنه كانت له سعة في أن يفطر أو يصوم، فإذا صام ليس له أن يخرج منه إلا بعذر من الله، فإن أفطر كانت عليه الكفارة مع القضاء.
الصورة الثانية: إذا سافر المقيم وقد نوى الصوم في حالة إقامته، فهل له الفطر في ذلك اليوم؟ لهذه الصورة أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يبدأ السفر بالليل ويفارق عمران البلد قبل الفجر، فله الفطر بلا خلاف بين العلماء رحمهم الله([8]).
الحالة الثانية: ألا يفارق العمران إلا بعد الفجر، فهنا اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز له الفطر، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية([9]).
قالوا: لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة.
القول الثاني: أنه يجوز له الفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر، وأصح الروايتين عند أحمد([10]).
واستدلوا بما يلي:
عن عبيد بن جبر قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع ثم قرب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألسنا نرى البيوت؟! فقال أبو بصرة: أرغبتَ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!([11]).
وقالوا: ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر.
الحالة الثالثة: أن ينوي الصيام في الليل ثم يسافر، ولا يعلم هل سافر قبل الفجر أو بعده: الذي يظهر أن من منع الفطر بعد الفجر يمنع الفطر في هذه الحالة؛ لأنه يشك في مبيح الفطر، ولا يباح الفطر إلا بالتعيين الموجب لإباحة الفطر([12]).
الحالة الرابعة: أن يسافر بعد الفجر ولم يكن نوى الصيام، قال النووي رحمه الله: "فهذا ليس بصائم لإخلاله بالنية من الليل، فعليه قضاؤه، ويلزمه الإمساك هذا اليوم؛ لأن حرمته قد ثبتت بطلوع الفجر وهو حاضر"([13]).
ويؤيده قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وهذا شاهد تعمَّد الفطر، فلا يجوز له أن يتلبس برخصة السفر([14]).
فرع: ثم إن القائلين بجواز الفطر اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه الفطر على قولين، هما:
القول الأول: أنه لا يفطر حتى يفارق العمران، وهو مذهب أحمد([15]).
واستدلوا بما يلي:
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
قالوا: وهذا شاهد، ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة.(/127)
القول الثاني: له أن يفطر في بيته إن أراد السفر، وهو مروي عن عطاء والحسن، وغيرهم.
واستدلوا بما يلي:
1- عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له
راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة. ثم ركب ([16]).
قال الترمذي رحمه الله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحق بن إبراهيم الحنظلي"([17]).
وقال ابن القيم رحمه الله: "وكان الصحابة حين ينشؤون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهدية"([18]).
المسألة الثانية: المسافر يقدم بلداً نهار رمضان وهو مفطر، وفيها صورتان:
الصورة الأولى: أن يقدم بلده في أثناء اليوم، أو بلداً نوى الإقامة فيه:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجب عليه الإمساك بقية ذلك اليوم، وهو قول الحنفية([19]).
واستدلوا بما يلي:
عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم))([20]).
قالوا: وصوم عاشوراء كان فرضا يومئذ؛ ولأن زمان رمضان وقتٌ شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن، فإذا عجز عن تعظيمه بتحقيق الصوم فيه يجب تعظيمه بالتشبه بالصائمين قضاءً لحقه بالقدر الممكن إذا كان أهلا للتشبه، ونفيا لتعريض نفسه للتهمة.
القول الثاني: أنه لا يجب عليه الإمساك بقية يومه، بل يستحب له، وهو مذهب المالكية والشافعية([21]).
قالوا: لأنه أفطر بعذر، ولا يأكل عند من لا يعرف عذره؛ لخوف التهمة والعقوبة.
الصورة الثانية: إذا دخل بلداً لم ينو الإقامة بها، وإنما كانت له حاجة: فالذي يظهر ـ والعلم عند الله ـ أنه لا يجب عليه الإمساك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة عام الفتح أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر([22])، ولأنه لا يزال متلبسا بالسفر، والرخصة في حقه باقية.
فرع: إذا قدم المسافر في أثناء نهار رمضان وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت في أثناء ذلك النهار من حيض أو نفاس، أو برأت من مرض وهي مفطرة، فهل له وطؤها أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: له وطؤها، ولا كفارة عليه، وهو مذهب الحنفية والشافعية([23]).
قالوا: إنهما مفطران فأشبها المسافر والمريض.
القول الثاني: لا يجوز وطؤها، وهو قول الأوزاعي([24]).
المسألة الثالثة: إذا قدم المسافر في أثناء النهار وهو صائم، فهل له أن يفطر باعتبار كونه مسافرا في أول النهار؟
مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز له الفطر، وعللوا ذلك بأن سبب الرخصة قد زال قبل الترخص بالفطر في حالة السفر، فلم يجز له الترخص بعد زوالها كما لو قدم المسافر وقت الصلاة فإنه لا يجوز له القصر([25]).
فرع: لو قدم المسافر بلده ولم يكن نوى من الليل صوما ولا أكل في نهاره، هل له أن يفطر أم لا بد أن يمسك بقية يومه؟
مذهب الحنفية: أنه يجب عليه أن ينوي الصوم إذا كان وقت للنية، وهو قبل الزوال، وإلا وجب عليه الإمساك لزوال المرخص([26]).
وقال مالك رحمه الله: "إذا علم أنه يدخل بيته من سفره في أول النهار فليصبح صائما، وإن لم يصبح صائما وأصبح ينوي الإفطار ثم دخل بيته وهو مفطر فلا يجزئه الصوم وإن نواه، وعليه قضاء هذا اليوم"([27]).
وبه قال الشافعي رحمه الله([28]).
المسألة الرابعة: هل للمترخص بالفطر في رمضان بسبب السفر أن يصوم غيره من النفل أو النذر أو القضاء؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: قول أبي حنيفة: أنه يقع عما نوى في الواجب من نذر أو قضاء، وإن كان عن نفل فعنه روايتان:
الأولى: وقوعه عما نوى عنه.
الثانية: أنه يقع عن رمضان، وهي الراجحة([29]).
ووجه قوله في الواجب، قالوا: إنه يقع عنه لا عن رمضان؛ لأن المسافر له ألا يصوم، فله أن يصرفه إلى واجب آخر؛ لأن الرخصة متعلقة بمظنة العجز وهو السفر، وذلك موجود، بخلاف المريض فإنها متعلقة بحقيقة العجز، فإذا صام تبين أنه غير عاجز.
وأما وقوعه في نية النفل عن رمضان، فقالوا: لأن فائدة النفل الثواب، وهو في فرض الوقت أكثر.
القول الثاني: ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة([30]): إلى عدم جواز الصيام في رمضان عن غيره، فإن نوى صيام غير رمضان لم يصح ذلك.
ووجه قولهم: أن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل.
([1]) ينظر: المجموع (6/286)، والمغني (4/347).
([2]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1944)، ومسلم في الصيام (1113).
([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).
([4]) المغني (4/348).
([5]) زاد المعاد (2/57).
([6]) حاشية ابن عابدين (2/431).
([7]) ينظر: المدونة الكبرى (1/180)، والتمهيد (22/51).
([8]) ينظر: المجموع (6/266).(/128)
([9]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/431)، والمدونة (1/180)، والمجموع (6/287).
([10]) ينظر: المغني (4/346).
([11]) أخرجه أحمد (6/398) واللفظ له، وأبو داود في الصوم، باب: متى يفطر المسافر إذا خرج؟ (2412)، والدارمي في الصوم، باب: متى يفطر الرجل إذا خرج من بيته يريد السفر (1713)، والبيهقي في الكبرى (4/246). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2109).
([12]) ينظر: المجموع (6/266)، وكتاب: المسافر وما يختص به من أحكام، للدكتور: أحمد الكبيسي (ص154).
([13]) ينظر: المجموع (6/266-267).
([14]) ينظر: المسافر وما يختص به من أحكام، للدكتور: أحمد الكبيسي (ص154).
([15]) ينظر: المغني (4/346).
([16]) أخرجه الترمذي في الصوم، باب: من أكل ثم خرج يريد السفر (799) واللفظ له، والدراقطني في السنن (2/187)، والبيهقي في الكبرى (4/247). قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه الضياء في المختارة (7/172)، والألباني في رسالته: تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر، والردعلى من ضعفه (ص13-28).
([17]) السنن (799).
([18]) زاد المعاد (2/56).
([19]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103).
([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صوم الصبيان (1960)، ومسلم في الصيام (1960).
([21]) ينظر: المدونة الكبرى (1/202)، والأم (2/88)، والمجموع (6/261).
([22]) أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان (4275) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1113).
([23]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والمجموع (6/289).
([24]) ينظر: المجموع (6/289).
([25]) ينظر: الدر المختار ورد المحتار عليه (2/106)، والمدونة الكبرى (1/202)، والمجموع (6/267).
([26]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/431).
([27]) ينظر: المدونة الكبرى (1/202).
([28]) ينظر: الأم (2/87).
([29]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/378- 379).
([30]) ينظر: المجموع (6/268)، والمغني (4/349).
الفصل الثالث: مسائل تتعلق بقضاء المسافر للصوم:
تمهيد:
من أفطر أياما من رمضان ـ كالمسافر ـ قضى بعدة ما فاته؛ لأن القضاء يجب أن يكون بعدة ما فاته، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
ومن فاته صوم رمضان كله قضى الشهر كله، سواء ابتدأه من أول الشهر أو من أثنائه، ويجوز أن يقضي يوم شتاء عن صيف، ويجوز عكسه، بأن يقضي يوم صيف عن يوم شتاء؛ وهذا لعموم الآية المذكورة وإطلاقها([1]).
المسألة الأولى: هل يقضي ما عليه متتابعا أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يجوز له أن يقضي متفرقا، وقيدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه، بأن يهل رمضان آخر. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإليه ذهب الحسن وسعيد بن المسيب والثوري والأوزاعي([2]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
قالوا: فهذا إطلاق غير مقيد بالتتابع.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان([3]).
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر"([4]).
القول الثاني: أنه يجب في قضاء رمضان التتابع، حكي عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وداود([5]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
قالوا: والشهر متتابع لتتابع أيامه، فيكون صومه متتابعا ضرورة.
2- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء رمضان: ((يسرده ولا يفرقه))([6]).
قال ابن قدامة رحمه الله: "ولو صح حملناه على الاستحباب؛ فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر، والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء. والله أعلم"([7]).
المسألة الثانية: ماذا عليه إذا أخَّر القضاء إلى أن يدخل رمضان آخر؟
لهذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: إذا أخر القضاء بعذر، فلا شيء عليه؛ لأنه ما زال متلبسا برخصة الله. والله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. والواجب عليه أن يقضي ما علية في أقرب وقت يتمكن منه.
الصورة الثانية: إذا أخر القضاء بغير عذر، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن عليه القضاء، وإطعام مسكين لكل يوم، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة([8]).
قالوا: وأما وجوب القضاء فلأنه دين في ذمته لم يقضه فلزمه قضاؤه.(/129)
وأما وجوب الإطعام فجبراً لما أخل به من تفويت الوقت المحدد، فيطعم عن كل يوم مسكينا؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض، ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: ((يصوم الذي أدركه، ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه، ويطعم مكان كل يوم مسكينا))([9]).
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه يلزمه الإطعام([10]).
القول الثاني: أنه يلزمه القضاء، وليس عليه أكثر من ذلك، وهو مذهب الحنفية، واختاره ابن عثيمين([11]).
قالوا: إيجاب الطعام مخالف لظاهر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [لبقرة:184]، فإن الله لم يوجب إلا عدة من أيام أخر.
وأما الحديث فإنه ضعيف لا تقوم به حجة، وأما ما روي عن الصحابة في ذلك: فيحمل على الاستحباب.
المسألة الثالثة: إذا مات ولم يقض هل يصوم عنه وليُّه أو لا؟ للمسألة صورتان:
الصورة الأولى: إن أخر قضاء رمضان لعذر، بأن استمر سفره إلى موته، ولم يتمكن من القضاء حتى مات، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا شيء عليه، ولا إثم يلحقه، ولا يصام عنه ولا يطعم؛ وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة([12]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))([13]).
3- قالوا: ولأنه حق لله تعالى وجب بالشرع، ومات من يجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج.
القول الثاني: يجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين، وهو قول طاووس وقتادة.
قالوا: لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه، كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام لعجزه عنه.
الصورة الثانية: إن مات بعد تمكنه من القضاء ولم يقض، وللعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه لا يصام عنه، بل يطعم عنه لكل يوم مسكين، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة وأشهر القولين عند الشافعية([14]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا))([15]).
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه)([16]).
3- عن عمرة أن أمها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: (لا، بل تصدَّقي عنها مكان كلِّ يوم نصفَ صاع على كل مسكين)([17]).
4- وقالوا: الصوم واجب بأصل الشرع لا يقضى عنه؛ لأنه لا تدخله النيابة في الحياة فكذلك بعد الممات كالصلاة.
القول الثاني: أنه يصام عنه، وهو قول طاووس والحسن والزهري وقتادة وأبي ثور وداود وأصح القولين عند الشافعية ـ كما قال النووي ـ واختاره ابن عثيمين([18]).
واستدلوا بما يلي:
1- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه))([19]). قالوا: ((صيام)) نكرة في سياق الشرط فتعم كل أنواع الصوم.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: ((أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟!)). قالت: نعم. قال: ((فصومي عن أمك))([20]).
وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه،،،
([1]) ينظر: الإنصاف (3/333)، وكشاف القناع (2/333).
([2]) ينظر: الفتاوى الهندية (1/208)، الشرح الكبير للدردير (1/537)، القوانين الفقهية (ص84)، والإقناع (2/343)، شرح المحلى على المنهاج (2/68-69)، والمهذب (6/363)، والمغني (4/408).
([3]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: متى يقضى قضاء رمضان؟ (1950)، ومسلم في الصيام (1146).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/281).
([5]) ينظر: المغني (4/409).
([6]) أخرجه الدارقطني في السنن (2/192)، والبيهقي في الكبرى (4/259). قال الدارقطني: "عبد الرحمن بن إبراهيم ضعيف". وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (2/206) .
([7]) المغني (4/410).
([8]) ينظر: المدونه الكبرى (1/219)، والمهذب (1/252)، وكشاف القناع (2/334).
([9]) أخرجه الدارقطني في السنن (2/197)، والبيهقي في الكبرى (4/253). قال الدارقطني: "إبراهيم وابن وجيه ضعيفان". وقال البيهقي: "وليس بشيء، إبراهيم وعمر متروكان".
([10]) أما أثر ابن عباس فأخرجه البيهقي (4/253)، قال النووي في المجموع (6/364):" إسناده صحيح". وأما أثر أبي هريرة فأخرجه الدارقطني في السنن (2/196)، وقال:" هذا إسناد صحيح موقوف".
([11]) ينظر: الهداية (2/354)، والدر المختار (2/423)، والشرح الممتع (6/451).
([12]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والقوانين الفقهية (ص110)، والمجموع (6/372)، ومغني المحتاج (1/438)، والمغني().(/130)
([13]) جزء من حديث أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7288)، ومسلم في الحج (1337).
([14]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والقوانين الفقهية (ص110)، والمجموع (6/372)، ومغني المحتاج (1/438)، والمغني().
([15]) أخرجه الترمذي في الصوم، باب: ما جاء في الكفارة (718)، وابن ماجه في الصيام، باب: من مات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه (1757)، وابن عدي في الكامل (1/373). وفيه أشعث بن سوار متكلم فيه. قال الترمذي: "حديث ابن عمر لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر موقوف". وقال الذهبي في الميزان (1/429): "الصحيح موقوف". وضعفه الألباني في ضغيف الترمذي(113).
([16]) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: من مات وعليه صوم (2401)، والطحاوي في المشكل (3/142)، وابن حزم في المحلى (7/7) وصحح إسناده. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2101).
([17]) أخرجه الطحاوي في المشكل (3/142)، وابن حزم في المحلى (7/7).
([18]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والقوانين الفقهية (ص110)، والمجموع (6/372)، ومغني المحتاج (1/438)، والمغني ()، والشرح الممتع (6/455-456).
([19]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: من مات وعليه صوم (1952)، ومسلم في الصيام (1147).
([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: من مات وعليه صوم (1953)، ومسلم في الصيام(1148) واللفظ له.
تفسير آيات الصوم
أولاً: آيات الصوم من سورة البقرة:
1- الآيات (183-184).
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183 ـ 184].
أسباب النزول:
1ـ قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ...} [البقرة:183].
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إلى قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا أجزأه ذلك([1]) .
القراءات:
أ ـ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}.
1 ـ (يُطوَّقونه): وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما([2]) .
2 ـ (يُطيّقونه): بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية، وهي قراءة سعيد بن المسيب([3]).
2 ـ (يطّيّقونه): بتشديد الطاء والياء الثانية، وهي قراءة مجاهد وعكرمة([4]) .
4 ـ (يُطيقونه): وهي قراءة الجمهور([5]) .
ب ـ قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
1 ـ (فديةُ طعامِ) بالإضافة، وهي قراءة أهل المدينة والشام([6]) .
2 ـ (طعام مساكين) وهي قراءة أهل المدينة والشام أيضًا([7]) .
ج ـ قوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا}.
قرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (يطّوع) مشددًا مع جزم الفعل على معنى يتطوّع([8]).
المفردات:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ}: فرض عليكم الصيام([9]).
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: أي بالمحافظة عليها، وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي([10]).
{أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ}: أي قليلة في غاية السهولة([11]) والمراد بها: شهر رمضان([12]).
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}: أي يطيقون الصيام.
وقيل: أي يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة، كالشيخ الكبير([13]).
{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} قيل: معناه: من أراد الإطعام مع الصوم، وقيل: من زاد في الإطعام على المدّ، وقيل: من أطعم مع المسكين مسكينًا آخر([14]).
قال الطبري: "أي هذه المعاني تطوع به المفتدي من صومه، فهو خير له؛ لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل"([15]).
المعنى الإجمالي:
يخبر تعالى بما من به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي فيها من المصالح العظيمة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة المحمدية بأن تنافس غيرها من الأمم، وتسارع إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصت بها هذه الأمة عن غيرها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إذ الصيام من أعظم الأسباب الجالبة للتقوى؛ إذ إنه يضيق مجاري الشيطان، ويقوي النفس على طاعة الرحمن حقيقة مجربة.
ولما ذكر سبحانه فرض الصوم أخبر أنه أيام معدودات، أي: قليلة في غاية السهولة يستطيع أن يؤديها المكلف العادي.(/131)
ثم سهل تسهيلاً آخر فقال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك فيما إذا حصلت المشقة، فإن الله قد أباح لهما الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة.
أما الذين يشق عليهم الصيام كالكبير والمريض مرضًا مزمنًا فدية عن كل يوم طعام مسكين عوضًا عن فوات الصوم في وقته، وامتثالاً لأمر الله تعالى، وتحقيقًا لمبدأ العبودية لله تعالى([16]).
نصوص ذات صلة:
1 ـ عن أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدّى، فقال: ((ادن فكل)) فقلت: إني صائم، فقال: ((ادن أحدثك عن الصوم إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم))([17]).
2 ـ عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))([18]).
3 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))([19]).
4 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم))([20]).
الفوائد:
1 ـ من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فصومه عليه واجب([21]) .
2 ـ الصيام من أعظم أسباب التقوى.
3 ـ الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه.
4 ـ الصيام يضيق مجاري الشيطان؛ فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل المعاصي.
5 ـ الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.
6 ـ الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.
7 ـ المريض والمسافر رخص الله لهما في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض وانقضى السفر وحصلت الراحة([22]) .
8 ـ الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
9 ـ الصوم سرٌ بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصًا به، وما سواه من العبادات ظاهر([23]) .
* * *
2- الآية (185).
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
القراءات:
أ ـ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}
قرأ مجاهد وشهر بن حوشب بنصب (شهرَ)([24]).
ب ـ قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
قرأ الحسن والأعرج بكسر اللام (فلِيصمه) ([25]) .
ج ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
قرأ جماعة (اليُسُر) بضم السين، وكذلك (العُسُر) ([26]) .
د ـ قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
قرأ الحسن وقتادة والأعرج ورواية عن عاصم وأبي عمر (ولتكمّلوا العدّة) بالتشديد([27]).
المفردات:
{هُدًى لّلنَّاسِ}: يعني رشادًا للناس إلى سبيل الحق وقصد المنهج([28]).
{وَبَيِّنَاتٍ}: أي دلائل وحجج بسنة واضحة جلية لمن فهمها وتدبّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي([29]).
{وَالْفُرْقَانِ}: ما فرق بين الحق والباطل([30]).
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: أي فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله([31]).
{فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: أيام معدودة سوى هذه الأيام([32]) .
{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ}: أي عدّة ما أفطرتم من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاء عدة من أيام أخرى بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم([33]).
المعنى الإجمالي:
لمّا ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة، وأنه أيام معدودات، بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك، والله سبحانه وتعالى قد مدح هذا الشهر العظيم لاختصاصه بالصيام، ونزول القرآن إذ كان ـ أي القرآن ـ هاديًا وموضحًا طرق الهداية، وفارقًا بين الحق والباطل.(/132)