4. سؤال الله الهداية والتوفيق إلى الطاعة والثبات عليها؛ فعن النواس ابن سمعان الكلابي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ((ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه)) وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (( يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، قال: والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة )) رواه ابن ماجه وغيره وصححه الألباني .
5. بيان معنى: (أنعمت عليهم) فقد بينتها الآية في سورة النساء.
6. الحذر من أفعال اليهود في العلم بلا عمل، والحذر من فعل النصارى، العبادة بدون علم..
7. ثبت استحباب قول (آمين) بعد الفاتحة، وقد ثبتت بذلك أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحاح والمسانيد والسنن ذكرها ابن كثير.9
هذا والحمد لله رب العالمين...
________________________________________
1- تفسير ابن كثير (1/12). ط/ دار المعرفة/ السادسة 1413هـ.
2 - يشكل على هذا القول حديث رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. وهو حديث وارد عن عدة من الصحابة، وقد صححه الحاكم وجوده المنذري، وقواه البيهقي وحسنه الألباني.
3- أضواء البيان (1/33). ط/ مكتبة ابن تيمية.
4- المصدر نفسه.. بتصرف
5- ذكره ابن كثير (1/28).
6- أضواء البيان (1/35).
7- ابن كثير (1/30).
8- أضواء البيان (1/37).
9- التفسير (1/33).(/5)
سورة القيامة
د. عبد العظيم بدوي
الحلقة الثانية
يقول تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الآخرة (21) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25) كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى (35) أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى «القيامة».
تفسير الآيات
هذا تعليمٌ من اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقّي الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريلُ يخافُ أن ينسى شيئًا مما قرأه عليه، فكان يحرك شفتيه بالقراءة قبل أن يَفْرُغَ جبريل عليه السلام، فنهاه اللَّه عن ذلك، فقال: لا تحرك به لسانك لتعجل به كما قال تعالى: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [طه: 114]، ثم وعده اللَّه تعالى ثلاثة وعود فقال: إن علينا جمعه أي في صدرك، فلا تنسى منه شيئًا، وقرآنه أي: وعلينا أن نجعلك تقرؤه كما سمعته من جبريل من غير تحريف ولا تبديل، وذلك فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أي: ما دمنا قد وعدْناك بحفظه وتلاوته كما سمعته فإذا قرأ عليك جبريلُ فلا تعجل به، بل استمع إليه حتى يفرغ، ثم إن علينا بيانه أي بعد حفظه وتلاوته فإن وعدًا لك علينا أن نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا، حتى تبينه للناس.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل عليه بالوحي، وكان يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل اللَّه الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة: لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه: فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فإذا أنزلناه فاستمع، ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده اللَّه. [متفق عليه]
وقوله تعالى: كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الآخرة كقوله في أول السورة: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة، تعليلٌ لتكذيبهم بيوم القيامة، وبيان أن العلة هي حبهم الدنيا العاجلة، وإيثارها على الآخرة الباقية، كما قال تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى [الأعلى: 16، 17]، فيا عبد اللَّه، لا تجعل الدنيا أكبر همك، واجعل الهموم همًا واحدًا همّ الآخرة، فـ إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [غافر: 39، 40].
وقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة أي حسنة بهية، مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة [عبس: 38، 39]، ونَضرةُ الوجه من نعيم القلب وسروره، فالوجه مرآة القلب، فإذا رأيت وجه صاحبك ضاحكًا، قلت له: أراك اليوم مسرورًا.
وقوله تعالى: إلى ربها ناظرة أي تنظر إليه، وتراه، والإيمانُ بالرؤية من عقيدة أهل السنة، فمن أنكرها فهو حريّ أن يحرمها، «فإنّ إضافة النظر إلى الوجه، الذي هو محله، في هذه الآية، وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدلّ على خلافه، حقيقة موضوعةٌ صريحةٌ في أنّ اللَّه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الربّ جل جلاله». [شرح الطحاوي: ابن أبي العز ص205]. والأحاديثُ في الرؤية متواترةٌ، رواها أصحابُ الصحاح والمسانيد والسنن.
منها: حديث جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: «إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإذا استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
ومنها: حديث صُهيبٍ الروميّ رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى، ثم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة. [رواه البخاري].(/1)
ومنها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة، أنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». [رواه مسلم]
اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تمتعني بالنظر إلى وجهك الكريم. آمين.
وقوله تعالى: ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة أي كالحة سوداء، عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة الفجرة [عبس: 40- 42] يظنون ظن اليقين أن تنزل بهم داهيةٌ عظيمةٌ فتهلكهم.
وهذه الآيات لها نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: وجوه يومئذ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين آنية (5) ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغني من جوع (7) وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية [الغاشية: 2- 9]، ومنها قوله تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [آل عمران: 106]، وقوله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [يونس: 26- 27].
يقول تعالى: كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى: هذه الآيات تصف حالة الاحتضار، وما يكون عندها من أهوال، نسأل اللَّه أن يعافينا منها، وأن يثبتنا هنالك بالقول الثابت، وقد وصف اللَّه تعالى هذه الحالة في موضع آخر، فقال سبحانه: فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين [الواقعة: 83- 87].
وهذا الوصفَ المجملُ قد فسرّه النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرًا رائعًا، في حديث طويل رواه البراء بن عازب، وقد سبق بطوله في تفسير سورة (ق) عند قوله تعالى: وجاءت سكرة الموت بالحق.
وقوله تعالى هنا: كلا إذا بلغت التراقي أي إذا بلغت الروح التراقي وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق، وقيل من راق من كلام أهل الميت، لما أيسوا من الطبيب والدواء، سألوا عمن يرقي لهم، لعل الرقية تفعل ما لا يفعله الطبّ، والمعنى: هل من راق فيرقيه ؟ وظن أنه الفراق أي اعتقد المحتضر أنه قد حان فراقُه للأهل والأحبّة، وذلك حين عاين الملائكة، فأهلُه يسألون من راق وهو حين عاين وظن أنه الفراق ولا فائدة من الرقية، كما عُدِمَتِ فائدة الدواء، ونزلت الملائكة ولكن لا تبصرون فقبضت، والتفت الساق بالساق أي اجتمعت عليه شدة الموت وشدة الآخرة، أو التفت ساقاه في الكفن، إلى ربك يومئذ المساق كما قال تعالى: وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام: 61، 62]. ويا خَيْبَة الكافر فلا صدق بالحق إذ جاءه ولا صلى كما أمره اللَّه، فاتقى عذابه، ولكن كذب بالحق إذ جاءه وتولى عن الهدى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي جذلانًا أَشِرًا بَطِرًا كسلانًا لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى: وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين [المطففين: 31]، ولكن اللَّه يهددهم بما يكدر صفوهم وينغِّص عيشهم، فيقول: أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى، وكلمة أولى لك كلمةٌ موضوعةٌ للتهديد والوعيد، وقد كُررت هاهنا لتأكيد الوعيد.
يقول تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى.
قوله تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي يُهْمل في الدنيا فلا يُؤمر ولا يُنهى، أو يُهمل بعد الموت فلا يُبعث، كلا، بل لا بد أن يُؤمر ويُنهى، ولا بدّ أن يبعث بعد الموت ليجزي الله كل نفس ما كسبت [إبراهيم: 51]، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7، 8]، وإن ارتاب الإنسان في البعث فلينظر ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟ سبحانك بلى، فالنشأة الأولى دليل النشأة الثانية، والآيات في ذلك كثيرة.
قال تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [الروم: 27]، وقال تعالى: ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [مريم: 66، 67].(/2)
وقال تعالى: أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [يس: 77- 79]، وقال تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [الحج: 5- 7].
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ سبحانك بلى.
والحمد لله رب العالمين.(/3)
سورة المدثر
إعداد/ د. عبد العظيم بدوي
الحلقة الثانية
قال تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25) سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقي ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر [المدثر: 11- 30]
جاء في سبب نزول هذه الآيات: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِمَ ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما فِبَلَه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغُ قومك أنك منكرٌ له، أو أنك كارهٌ له. قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزٍ ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبهُ الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقولُ حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مُغْدِقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه يحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فَدَعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحرٌ يؤثر، يأثرُه عن غيره، فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدا.
[صحيح: رواه الحاكم 2/507، والبيهقي 1/556]
أي: خلَ بيني يا محمد وبين هذا المخلوق الضعيف، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدًا، ليس معه شيءٌ مما يعتز به الآن، وجعلت له مالا ممدودا أي: واسعًا كثيرًا، وبنين شهودا قال المفسرون: أعطاه عشرة من الذكور، ولم يكن بحاجة إلى عملهم لكثرة ماله، فأقعدهم عنده يستأنس بهم، وضارب العمال بماله، فكان العمال يعملون له، ويأتون بكسبه، وأولاده عند رأسه لا يفارقونه، وهذه نعمٌ عظيمة، إلا أنه كفرها.
وقوله تعالى: ومهدت له تمهيدا أي يسرت له الحياة، ومكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، ثم يطمع أن أزيد وهو لَمْ يعمل بموجب الزيادة، إن اللَّه تعالى أنعم على عباده نعمًا لا تعدّ ولا تُحصى، وأرشدهم إلى سبيل الزيادة من هذه النعم، فقال سبحانه: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم [إبراهيم:7].
وهذا الملعون كفر بأنعم اللَّه، ثم يطمع أن يزيده اللَّه، قال تعالى: «كلاّ» وهي كلمةُ زجرٍ وردعٍ، «كلاّ» لن أزيده، وكيف أزيده مع إنه كان لآياتنا عنيدا، فقد كفر بآيات اللَّه بعد إذ جاءته، وكذب بما علم أنه الحق فعاند دلائل الحقّ وموجبات الإيمان، ووقف في وجه الدعوة وحارب رسولها، وصدّ عنها نفسه وغيره، وأطلق حواليها الأضاليل.
وهكذا الكفار دائمًا، لا يحملهم على الكفر إلا البغي والحسد والعناد، كما قال تعالى عن فرعون وملئه فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل: 13، 14].
ولذا قال موسى عليه السلام لفرعون: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [الإسراء:102].
وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [الأنعام: 33].
وبعد هذا الردع يأتي الوعيد الشديد، الذي يبدل اليسر عسرًا، والتمهيد مشقة: سأرهقه صعودا أي سأتعبه بما أكلفه به من صعود جبل في جهنم، والصعود في طرقات الدنيا شاقّ، فكيف بصعود جبلٍ في جهنم، لا خبرة للإنسان في صعوده، وإنما يُدفع إليه دفعًا؟(/1)
ولم هذا الوعيد ؟ إنه فكر وقدر أي: إنما أرهقناه صعودًا لأنه حين طُلب منه أن يقول في القرآن «فكّر» ماذا يقول، «وقدّر» أي تروى في التفكير، ومِن ثمّ دعا اللهُ عليه بالهلاك، ودعاءُ اللَّه قضاءٌ محكمٌ: فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر، ثم نظر أي أعاد النظرة والتروي، ثم عبس وبسر أي قبض بين عينيه وقطب جبينه كالمفكر في أمر يهمه، ثم أدبر واستكبر أي صُرِفَ عن الحق، ورجع القهقري مستكبرًا عن الانقياد للقرآن، «فقال» بعد هذا التفكير الطويل: إن هذا إلا سحر يؤثر أي: إن هذا إلا سحرٌ ينقله محمدٌ عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم: إن هذا إلا قول البشر وما هو من عند اللَّه، قال تعالى: سأصليه سقر أي سأغمره فيها من جميع جهاته، كما قال تعالى عن أهل النار: لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غوا [الزمر: 16].
وقال تعالى: لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، وقال تعالى: إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها [الكهف:29]، وما أدراك ما سقر؟ هذا سؤالٌ لتهويل أمرها وتفخيم شأنها: لا تبقي ولا وتذر أي لا تُبقي ممن يدخلها لحمًا ولا عظمًا، ولا تذر منهم شيئًا أبدًا، إنما تنسفهم نسفا، وتبلعهم بلعًا، ثم يعيدهم اللَّه كما كانوا، كما قال تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [النساء:56]، لواحة للبشر أي تلفح وجوههم لفحًا فتتركها أسود من الليل البهيم، كما قال تعالى: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [المؤمنون:104]، عليها تسعة عشر أي من الزبانية الموصوفين في آية أخرى بأنهم غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
قال ابن القيم رحمه اللَّه في «إغاثة اللهفان» (14/1): «أخبر اللَّه سبحانه عن الحكمة التي جعل لأجلها عدّة الملائكة الموكّلين بالنار تسعة عشر، فذكر سبحانه خمس حكم: فتنة الكافرين، فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم، وقوة يقين أهل الكتاب، فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلقّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فتقوم الحجةُ على معاندهم، وينقادُ للإيمان من يرد اللَّه أن يهديه، وزيادة إيمان الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به».
فهذه أربع حكم: فتنةُ الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادةُ إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب.
والخامسة: حيرةُ الكافرين ومَنْ في قلبه مرضٌ، وعَمى قلبه عن المراد بذلك، فيقول: ماذا أراد الله بهذا مثلا.
وهذا حالُ القلوب عند ورود الحق المنزّل عليها: قلبٌ يفتتن به كفرًا وجحودًا، وقلبٌ يزداد به إيمانًا وتصديقًا، وقلبٌ يتيقنه، فتقوم عليه به الحجة، وقلبٌ يوجب له حيرةً وعمًى، فلا يدري ما يراد به. اهـ.
والمراد بمرض القلب هنا مرض الشبهات التي تجعل القلب مرتابًا شاكًا حائرًا، كما قال تعالى عن المنافقين: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [البقرة 10]، وقال تعالى: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [التوبة: 124، 125].
وهناك نوعُ ثانٍ من أمراض القلوب وهو مرض الشهوات التي تجعل القلب يعشق الحرام ويرغب فيه ويحرص عليه ويبحث عن أسبابه، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا [الأحزاب: 32].
وقوله تعالى: كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء أي: كما أضلّ اللَّه من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدّق كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [البقرة: 26، 27].
وقوله تعالى: وما هي إلا ذكرى للبشر يعني النار تذكرةٌ وعظةٌ للبشر.(/2)
سورة المدثر
د. عبد العظيم بدوي
الحلقة الأخيرة
يقول اللَّه تعالى:
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
[المدثر/32-56] تفسير الآيات
يقسم الربّ سبحانه على أنّ النار من الأمور العظام التي لا يجوز أن يُستهان بها، فيقول سبحانه: كلا والقمر (32) والليل إذ أدبر أي ولى، والصبح إذا أسفر أي أشرف إنها لإحدى الكبر أي النار إحدى الأمور العظام، نذيرا للبشر (36) لمن شاء منكم أن يتقدم نحو طاعة غير اللَّه هربًا من هذه النار، أو يتأخر عن الطاعة إلى المعصية، فتخطفه كلاليب جهنم.
ويخبر اللَّه تعالى أن كل نفس بما كسبت رهينة أي محبوسة مقيدة، كما قال تعالى: كل امرئ
بما كسب رهين [الطور: 21]، ثم استثنى فقال: إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون، فإنهم أحرار طلقاء، لم يكتسبوا ما يحبسهم، فتغمدهم اللَّه برحمته، وأَذِنَ لهم في دخول الجنة، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [الصافات:50]، عن المجرمين (41) ما سلككم في سقر؟ ما هي أسباب دخولكم النار ؟ قالوا لم نك من المصلين أي: أجاب المجرمون من أهل النار مبينين أسباب دخولهم النار بقولهم: لم نك من المصلين، أي لم نتبع هذا الدين ولم نُصَلِّ كما يصلي المسلمون، وفي هذا بيان لأهمية الصلاة كركن أعظم في هذا الدين.
ولم نك نطعم المسكين أي: ما عبدنا ربنا، ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا، وقد تقدّم أن الإحسان هو سبب دخول الجنة، وهؤلاء لم يحسنوا فيما بينهم وبين اللَّه، ولم يحسنُوا فيما بينهم وبين عباد اللَّه، فذاقوا مسّ سقر، وكنا نخوض مع الخائضين في أيّ أمرٍ، وفي أيّ مسألةٍ، لا نبالي بالحرام، ولا نتقي الكفر، بل كلّما غَوَى غاوٍ غوينا، وكنا نكذب بيوم الدين، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون (47) أو آباؤنا الأولون [الواقعة: 47، 48]، فما زلنا على هذه الحال حتى أتانا اليقين يعني الموت، الذي يقطع كل شيء، ويُنهي كل زينة، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يعبده حتى يأتيه الموت، فقال: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر: 99]، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي الله عنه وقد مات فقال صلى الله عليه وسلم : «أما هو فقد جاءه والله اليقين».
وقد ضلّ قوم جعلوا اليقين درجةً من درجات الدين، بل أعلى درجات الدين، وزعموا أن من وصلها سقط عنه التكليف، فليفعل ما يشاء، واستدلوا على ذلك بقول اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، قالوا: فمن بلغ اليقين ترك العبادة: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [الكهف: 5]، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [التوبة: 74]، لقد قال اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، ورأيناه صلى الله عليه وسلم ظلّ يعبد ربه حتى مات، فهل مات صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغ اليقين الذي يبلغه القوم ؟!
الجواب - منهم -: نعم؛ لأن الوليّ عندهم أفضل من النبي، حتى قال قائلهم: لقد خُضُنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله ! وقال الآخر:
مقام النبوة في برزخ فُويق الرسول ودون الولي!
أما نحن فنقول: نبيّ واحدٌ أفضلُ من جميع الأولياء، وأنّ القوم الشيطان سول لهم [محمد:25]، حتى قالوا ما قالوا، ولو كانوا يتدبرون القرآن لرجعوا عن قولهم بل عَنْ كفرهم، وإلا فليجعلوا أنفسهم مع أهل سقر الذين قالوا: وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى أتانا اليقين، قال تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين؛ لأن الشفاعة لأهل الكبائر من أهل لا إله إلا اللَّه، وأما من مات على غير لا إله إلا اللَّه فما تنفعهم شفاعة الشافعين.
ثم أنكر تعالى على المكذبين بيوم الدين إعراضهم عن التذكرة والهدى، فقال: فما لهم عن(/1)
التذكرة معرضين (49) كأنهم في إعراضهم عن الحق حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة، شبه اللَّه تعالى الكفار في فرارهم من الرسول وإعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ بحمر وحشية جرت في نفارها ممن طاردها من أسدٍ أو روعها من قانص أو أفزعها من صائد، وفي تشبيههم هذا بالحمر مذمة ظاهرة، وتسفيه، وشهادة عليهم بخفة العقل والبله ثم كشف اللَّهُ عما في صدور القوم مما يمنعهم من الإيمان فقال: بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، فهو الحسد الذي أكل قلوب القوم ! لِمَ يختصُّ محمدٌ بالوحي دونهم ! لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [الزخرف:31]، أو يُؤتَى كلُّ واحد
منهم كتابًا كما أُوتي محمدٌ ! كما قال تعالى: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [الأنعام:124]، وقال تعالى: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى أن قالوا: أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه
[الإسراء:90-93]. فهذا بعض ما في نفوسهم، وآخرُ يذكره اللهُ تعالى في قوله: كلا بل لا يخافون الآخرة، فهم ينفرون من الدعوة، وينأون عن التذكرة لأنهم لا يخافون عذاب الآخرة، لأنهم به مكذبون، ولو استشعرتْ قلوبهم حقيقة الآخرة لكان لهم شأنٌ غير هذا الشأن المريب، ثم يقول تعالى: كلا إنه تذكرة أي حقًّا إن القرآن تذكرة أي موعظة، فمن شاء
ذكره أي اتّعظ به، ولكنّ مشيئته مرتبطة بمشيئة اللَّه، ولذا قال تعالى: وما يذكرون إلا أن يشاء الله، والعبد لا يعرف ماذا يشاء اللَّهُ به، فهذا من الغيب المحجوب عنه، ولكنّه يعرفُ ماذا يريدُ اللَّه منه، فهذا مما بينه له، فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلّف أعانه اللَّه ووفقه إلى
ما يرضي اللَّه عنه، فالعبد لا يتحرك ولا يسكن إلا بمشيئة اللَّه تعالى وحسب مراده.
والله سبحانه هو أهل التقوى أي هو أهلٌ أن يُخشى، لأنّه العزيزُ الجبار المتكبر، وهو سبحانه أهل المغفرة لمن يخشاه، كما قال تعالى: إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [الملك: 12]، اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلانية، واغفر لنا ذنوبنا كلها، دِقّها وجلّها، وأوّلها وآخرها.
والحمد لله رب العالمين.(/2)
سورة المدثر
إعداد/ د. عبد العظيم بدوي
بين يدي السورة
سورةٌ مكية، وهي من أول ما نزل من القرآن، بل هي ثاني سورة بعد العلق، فعن جابر بن عبد الله أنّه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدّثُ عن فترةِ الوحْي: «فبينا أنا أمشي إذْ سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعتُ بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعدٌ على كرسيٍّ بين السماء والأرض، فجثيت منه حتى هويتُ إلى الأرض، فجئت أهلي فقلتُ: زَملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر. [البخاري: 4925، ومسلم: 161].
وقد استفتحت بأمر النبيّ بترك النوم والفراش، وأن يُنذر قومه من قبل أن يأتيهم عذاب أليم، بما وقعوا فيه من الشرك، ثم وجهته صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأمور التي يستعين بها على ما كُلف به. وذكرت بعض أهوالِ يوم القيامة، وما يلقاه الكافرون عمومًا، والوليد بن المغيرة خصوصًا، من العذاب الأليم في سقر، التي جعل الله عليها تسعة عشر من الملائكة لحكمةٍ بينتها الآيات.
ثم ذكرتِ السورة ما يكون من أهل الجنة من سؤالِ أهلِ النار: ما سلككم في سقر، وجواب أهل النار على هذا السؤال.
وخُتمت بالإنكار على المشركين إعراضهم عن التذكرة، لا لشيءٍ، إلا أنهم يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، وليس للإنسان ما تمنى، فـ الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام: 124]، وقد أنزل الذكر على محمد صلى الله عليه وسلم : فمن شاء ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
تفسير الآيات
قال تعالى: يا أيها المدثر أي المتغطّي بثيابه «قم» فقد جاء وقت الجهد والمشقة، قم فأنذر قومك، من قبل أن يأتيهم عذاب أليم، فقد صاروا على شفا حفرة من النار، بما هم مقيمون عليه من الشرك، واستعن على هذه المهمة الثقيلة الشاقة بهذه الأمور:
الأمر الأول: وربك فكبر، فإن الله هو العلي الكبير، وكل شيءٍ سواه حقير، وهذه حقيقة من أعظم الحقائق التي يجب أن يستشعرها الداعية، يجبُ على كلّ داعية أن يستشعر دائمًا جلال الله، وعظمته، وكبرياءَه، حتى يشعر بحقارة كل شيء دونه، فلا يهتمّ به، ولا يكترثُ له، ولا يخشاه، إنما يخشى الله وحده، ومتى استشعر الداعيةُ هذه الحقيقة مضى في طريقه يبلغ دعوة ربه، لا يخافُ لومة لائم، لأنه يعلم أنّ ربه وحده هو الكبير الذي يستحق أن يكبّره ويعظمه ويمجّده، وأنّ ما سوى الله فشيءٌ صغيرٌ صغيرٌ صغيرٌ، لا يملكُ لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام، فهذا نوحٌ عليه السلام يقولُ لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون [يونس:71].
وهذا هودٌ عليه السلام لما قال له قومه: يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [هود:53-56] ونبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجرًا مع صاحبه أبي بكر دخلا الغار، وجاء القوم في طلبهما حتى انتهوا إلى الغار، حتى قال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال لأبي بكرٍ مُطمئنًا: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا».
ولما قيل له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه يوم حمراء الأسد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لم يزدْهم ذلك القولُ إلا إيمانًا، كما قال تعالى: فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [آل عمران: 173].
الأمر الثاني: وثيابك فطهر، قال المفسرون: العرب تريد بطهارة الثوب النزاهة والعفة، فتقول: فلان ذيله طاهرٌ، يعنون أنه رجلٌ عفيف وفلان ذَيله نجسٌ، يعني أنه ملطّخٌ بالقاذورات والفواحش. وعلى هذا فالطهارةُ هنا معنوية، والمقصود: طهّر قلبك، وطهّر نيتك، وطهّر صدرك، وطهر أعمالك، ولا يمنع مِن أن يكونَ المراد بالآية الطهارةَ الحسّيّة، فيكون المراد طهارة الثياب حتى تصحّ الصلاة فيها. والله أعلم.(/1)
الثالث: والرجز فاهجر المراد بالرجز الأصنام والأوثان، كما قال تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [الحج:30]، والمعنى: اهجر الأصنام ولا تقع في عبادتها كما وقع فيها قومُك، وهو صلى الله عليه وسلم كان هاجرًا للأصنام من صغره، ولم يكره شيئًا في حياته كراهيته إياها. فالأمرُ بهجرها أمرٌ باستمرار هجرها، ولا يلزم من أمره بهجرها أن يكون غير هاجرها، وإنما هذه الآيةُ كقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي اتق الله [الأحزاب: 1]، مع أنّه صلى الله عليه وسلم كان أتقى الناس لله وأخشاهم له، وكقول المؤمنين في صلاتهم: اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة: 6]، مع أنهم مهتدون.
الرابع: ولا تمنن تستكثر لا تعط: العطاءَ تستكثره، سواء ما تعطيه لله أو ما تعطيه لعباد الله، لا تستكثر جهدًا تقدّمه من أجل الله في الدّعوة إليه، ولا تستكثر تضحية تضحّي بها لمصلحة الدعوة، فكلّ ما تقدّمه صغيرٌ وصغيرٌ وصغيرٌ، فعليك وعلى الدعاةِ مِن بعدِك أن تعلموا أنّ كلّ جُهْدِ تقدّمونه، وكل تضحية تبذلونها، فبتوفيق الله، ولولا اللَّهُ ما قدّمتم شيئًا، فلا تمنوا بما تقدمون، بل اشكروا الله أن هداكم لما تقدِّمون، فهو الذي وفقكم، وهو الذي أعانكم، وهو الذي اجتباكم واصطفاكم لهذه الوظيفة، فاشكروا الله سبحانه وغُضوا أبصاركم عما تقدّمون، فإنّ الإنسان إذا نظر إلى ما يقدّم استكثره، وإذا استكثره ترك العطاء وبخل به، والدعوة بحاجة إلى عطاء مستمر، وإذا أعطيت أحدًا شيئًا من مالك، أو شيئًا من عملك، أو شيئًا من وقتك، فلا تستكثره، ولا تمنّ به عليه، ولا تعطِ رجاءَ أن تأخذَ أكثر مما أعطيت، وليكنْ عطاؤُك للَّه، لا لشيء سواه.
الأمر الخامس: ولربك فاصبر اصبر على مشاقّ الدعوة، فإنها ثقيلةٌ وشاقةٌ جدًا، واصبر على ما يعترضك من عقبات وصعابٍ، واصبر على أذى المدعوين وتكذيبهم لك، وليكنْ صبرُك لله، لا لشيءٍ آخر، وهذه الآية كقوله تعالى: والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم [الرعد: 1].
قوله تعالى: فإذا نقر في الناقور كقوله تعالى: فإذا نفخ في الصور [المؤمنون: 101]، فالنّاقور هو الصور، والنقرُ هو النفخُ، إلاّ أنّ هذه الألفاظ في هذه الآية تعطي دلالةً لا تعطيها ألفاظُ الآية الثانية، فالنَّقْرُ صوتٌ شديدٌ يَدوِّي، فكأنه ينقرُ الآذان نقرًا، ومِنْ ثَمَّ وُصِفَ يومُ النَّقرِ بالعُسْرِ، فقال تعالى: فذلك يومئذ يوم عسير لا يُسْرَ فيه، إلا أنّ عُسرهَ مقيد بالكافرين كما قال تعالى: على الكافرين غير يسير فَفُهِمَ مِن ذلك أنّه يكون يسيرًا على المؤمنين إن شاء الله، وهذه الآية كقوله تعالى: يوم يدع الداع إلى شيء نكر (6) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر [القمر: 6- 8]. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/2)
سورة المزمل
إعداد/ د. عبد العظيم بدوي
قال تعالى: يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا (6) إن لك في النهار سبحا طويلا (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا (11) إن لدينا أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14) إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16) فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا (18) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا (19) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [المزمل].
سورة مكية، من أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ذَكَرَ اللهُ تعالى فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم وللدعاةِ بعده وسائل الإعداد الجسدي والروحي للدعاة إلى الله، فالدعوةُ إلى الله صعبةٌ وشاقة، ولابد لكل من أراد القيام بها أن يهييء نفسه لها، جسديًا وروحيًا قبل أن يخوض غمارها.
والوسائل التي ذكرتها السورة الكريمة هي:
1- قيام الليل.
2- ترتيل القرآن.
3- الذكر الخاشع المتبتل.
4- الاتكال على الله وحده.
5- الصبر على الأذى والتكذيب.
استفتح الله سبحانه السورة بهذا النداء اللطيف الذي يفيض محبة ومودة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: يا أيها المزمل، يا أيها الملفوفُ بثيابه، المتغطي بها «قم» فليس الوقت وقت نوم، وليس الوقت وقت راحة، وليس الوقت وقت كسلٍ وخلودٍ إلى الفراش، «قم» فإن أمامك طريقًا شاقًا ستركبه ابتغاء وجه الله، فقم وهيء نفسك له بما نأمرك به: قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، وهكذا يأمر الله نبيه بقيام الليل، ويحدد له الوقت، قم الليل كله «إلا قليلا» فإن لم تفعل فـ «نصفه» أو «انقص منه» أي من النصف «قليلا» فيكون المراد الثلثَ، «أو زد عليه» على النصف قليلا، فيكون المراد الثلثين، فلا حرج عليك بأن تنقص من النصف قليلا، أو تزيد عليه قليلا، ولقد استجاب صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، فقام الليل كما أمره، وحافظ عليه حتى بعد نسخ هذا الأمر، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا». [رواه البخاري]
فعلى الدعاة أن يحافظوا على قيام الليل فإنه عُنوانُ التقوى، قال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات: 15- 19]، وهو عُنوان الإيمان بآيات الله، قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 15- 17]، وقد فرق الله سبحانه بين من يقوم الليل ومن لا يقومه، ونفى التسوية بينهما، فقال تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب [الزمر: 9].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام الليل ويحث عليه، فكان يقول: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم». [رواه الترمذي]
وقال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئتَ فإنك مفارقُه، واعمل ما شئتَ فإنك مجزيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس».
[رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في الصحيحة]
وقال عن عبد الله بن عمر بن الخطاب: «نِعْمَ الرجل عبد الله، لو كان يقوم من الليل». [متفق عليه].(/1)
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل».
[متفق عليه]
وقوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا أي اقرأه على تمهّل، فإنه يكون عونًا على فهم القرآن وتدبره، وهكذا كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان يقرأُ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها، كما قالت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها. [رواه مسلم]
وعن أنس أنه سُئل عن قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدًا، ثم قرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم» يمدّ بسم اللهُ، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.
[رواه البخاري]
وقال صلى الله عليه وسلم: «يُقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارْق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها». [رواه الترمذي وأبو داود]
فعلى الدعاة أن يحرصوا على تلاوة القرآن وترتيله، في القيام وغيره، فإنّ قراءة القرآن قربة من أعظم القرب، وعبادةٌ من أجل العبادات، يُعْطِي الله عليها ما لا يعطي على غيرها، من الأجر والثواب، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عظم هذا الأجر بقوله: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف». [رواه الترمذي]
والداعية الأحفظ للقرآن، والأحسن ترتيلاً له، هو الأملك لقلوبِ السامعين، والأكثر تأثيرًا فيهم، فعلى الدعاة أن يكون القرآن في صدر أحدهم كالمصحف في يديه، فإنّ القرآن هو سلاح الداعية، وزاده الذي لا ينفد.
ثم كشف الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عما بعد هذا الجهاد من الحكمة فقال: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا يحتاج إلى استعداد طويل، وهو هذا القرآن: إنه ثقيلٌ في تكاليفه، ثقيل في أوامره، ثقيل في نواهيه، وكان ثقيلاً عليه صلى الله عليه وسلم ساعة نزوله، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصمُ عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا». [متفق عليه]
وقال زيد بن ثابت:: «أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن تَرَضَّ فخذي». [البخاري]
فإن قيل: فهلا اكتفى في استعداده لهذا الأمر بالصلاة وقراءة القرآن في النهار بدلاً من الليل؟ فالجواب: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا، فرق كبيرٌ جدًا بين العبادة في الليل والعبادة في النهار، فالعبادة في الليل أقرب ما تكونُ إلى الخشوع، حيث يقوم لها الإنسان بعد نوم، فيكون قد استراح من تعب النهار وكدحه فيه، وأيضًا سكون الليل يُعين على الخشوع، فيستطيع أن يجمع قلبه، ويقبل بكليته على الله تعالى، وهذا شيءٌ ملموسٌ ومحسوسٌ، لا يحتاج إلى برهان، وقوله تعالى: إن لك في النهار سبحا طويلا أي: ترددًا في حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال قلبك، وعدم تفرغه التفرغ التام، فلينقض النهار في هذا السبح والنشاط، ولتنصب لعبادة ربك في الليل، وقوله تعالى: واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا أي أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك، وذِكْرُ اسم الله، ليس هو مجرد ترديد هذا الاسم الكريم باللسان، على عدة المسبحة المئوية أو الألفية، إنما هو ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر، أو هو الصلاة ذاتها وقراءة القرآن فيها، والتبتل هو الانقطاع الكليّ عما عدا الله والاتجاه الكلي إليه بالعبادة والذكر، والخلوص من كل شاغل ومن كل خاطر، والحضور مع الله بكل الحس والمشاعر.
فعلى الداعية أن يذكر الله ذكرًا كثيرًا، وأن لا يغفل عن ذكر الله أبدًا، وعليه أن يكون لسانه رطبًا من ذكر الله، عليه أن يذكر الله في سره، وأن يذكره في علانيته، عليه أن يذكر الله في خلوته وفي اختلاطه، فإن القلوب إنما تطمئن بذكر الله، كما قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد:28].
وعلى الداعية أن يتبتل إلى الله، وأن ينقطع إليه عما سواه، فإنه سبحانه رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو، وما دام كذلك فاتخذه وكيلا أي كما عبدته وحده، فتوكل عليه وحده، كما قال تعالى: فاعبده وتوكل عليه [هود: 123]، وكما قال تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين، والداعية هو أحوج الناس إلى التوكل على الله، والاعتماد عليه دون سواه، فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.(/2)
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل على أذى قومه، وتكذيبهم له، وصدهم الناس عنه، فقال: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا، فلابد للداعية من الصبر: الصبر على الأذى، والصبر على التكذيب، والصبر على صد الناس الناس عنه، والصبر على طول الطريق، والصبر على ثقل العبء، والصبر على تأخر النتائج، ولذا كثر الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، كما سبق مرارًا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وهو الهجر الذي لا عتاب معه، ولا غضب، ولا مشادة، وكان ذلك في مكة قبل الهجرة، وقبل أن يأذن الله لرسوله في قتال المشركين.
ثم قال تعالى مهددًا للكافرين ومتوعدًا لهم، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء وذرني والمكذبين أي خل بيني وبينهم، واتركهم لي، فأنا القادر على الانتقام منهم، ولقد كانوا أولى الناس بالإسلام، واتباع النبي عليه الصلاة والسلام، شكرًا لله على ما حباهم من نعمة، ولكن القوم بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [إبراهيم:28]، ولذا قال تعالى: وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا، ولو مهلهم الحياة الدنيا كلها ما كانت إلا قليلاً، فما الدنيا في حساب الله إلا يومٌ أو بعض يوم، وما هي في حسابهم هم أنفسهم حين تُطوى إلا كذلك، كما قال تعالى: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين (113) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون [البقرة:24]، ثم ذكر ما لهم عنده من العذاب، فقال تعالى: إن لدينا أنكالا أي قيودًا، «وجحيمًا»، وقودها الناس والحجارة [البقرة:24]، وطعاما ذا غصة)) ينشب في الحلق في الحلق فلا يدخل ولا يخرج، وعذابا أليما يتحقق لهم يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا، أي تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تُنسف نسفًا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض قاعًا صفصفًا، لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، ثم وجه الله الخطاب إلى الذين كذبوا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فذكرهم بمن كذب رسله من قبلهم، وكيف كان أخذه لهم، فقال: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فاحذروا معشر الناس أن تعصوا رسولكم كما عصى فرعون الرسول، فيأخذكم الله كما أخذ فرعون، إن أخذه أليم شديد [هود:102]، ثم قال تعالى: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا، وإنه ليوم عظيم هوله، حيث تشيب من هوله الولدان، وتنفطر السماء، وتنشق الارض، وتسير الجبال سَيرا، ومعناه أنكم إن كفرتم فلن يحصل لكم أمانٌ من هول هذا اليوم العظيم، وهو كائن لا محالة، لأنه وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.
ثم يلمس قلوبهم لتتذكر وتختار طريق السلامة، طريق الله، فيقول: إن هذه تذكرة أي هذه السورة وما جاء فيها تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا أي طريقًا ومسلكًا، فإنه لا نجاة من هذه الأهوال التي ذكرتها السورة عن اليوم الآخر إلا بسلوك سبيل الله.
وقوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن، هذه هي آية التخفيف، فلقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم الليل، فقام هو والذين آمنوا معه سنةً كاملةً حتى تفطرت أقدامهم، ثم خفف الله عنهم بهذه الآية، فجعل القيام مندوبًا بعد ما كان واجبًا، وأمرهم أن يقرءُوا ما تيسر من القرآن من غير تحديد، وعبر عن الصلاة بالقراءة لأنها الركن الأعظم فيها.
ثم ذكر سبحانه أسباب التخفيف، فقال: علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فـ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فمنكم من يكون مريضًا لا يستطيع القيام، ومنكم من يكونُ مسافرًا في طلب رزق الله، ومنكم من يكون مشغولاً بقتال أعداء الله، فلذلك خفف عنكم، وفي هذه الآية أكبر دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن القتال شُرع بعد، وأخبرهم بأن سيكون منهم من يقاتلون في سبيل الله، وهذا إخبارٌ بالغيب، لا يمكن أن يكون إلا من عند علام الغيب سبحانه.
ومرةً ثانيةً يكرر عليهم التخفيف: فاقرءوا ما تيسر منه بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد، وأقيموا الصلاة أي الواجبة، وآتوا الزكاة المفروضة، وأقرضوا الله قرضا حسنا يعني من الصدقات، واعلموا أنه وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا، واعلموا دائمًا أنكم دائمًا مقصرون في حق الله، مهما تحريتم الصواب والاجتهاد، فلا تمنوا بما تقدمون من خير واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.(/3)
وهكذا يجب على الداعية دائمًا أن لا يرى عمله، وأن لا يعجب بجهده، وأن يتهم نفسه دائمًا بالتقصير، وليكثرن من الاستغفار رجاء أن يعفو الله عن تقصيره، وليحذر دائمًا من العُجب بنفسه، وليحذر الاغترار بجهده أو بكثرة أتباعه، وليعلم أن ما به من نعمةٍ فمن الله، فليجتهد في عبادة الله شكرًا لله.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.(/4)
سياسة عض الأصابع
د. يوسف بن صالح الصغير
لا تزال أحداث فلسطين المتلاحقة تطغى إعلامياً على أحداث مهمة في المنطقة مثل تسلُّم إيران الملف العراقي، وعقد مؤتمر دول الجوار في طهران الذي من أهم أهدافه المعلنة تسهيل الانسحاب الأمريكي والمساهمة الجماعية في سد الفراغ؛ بالإضافة إلى تصاعد وتيرة العمليات في أفغانستان وبداية تحوله إلى مستنقع قاتل للإنجليز الذين أجبرهم الأمريكان على دفع ثمن تحالفهم؛ بحيث تركز أمريكا على العراق، وتتولى بريطانيا مسؤولية قيادة قوات التحالف في أفغانستان التي يتوقع سريعاً أن تنسحب منها قوات حلف الأطلسي الأوروبية وتبقى فقط قوات الأنجلوساكسون. إنها مواضيع مهمة جداً ولكنها تحتمل التأجيل على عكس الملف الفلسطيني الذي يشهد تفاعلات متلاحقة يزيد من أهميتها كونها مؤثرة بشكل مباشر على تفاعل الأحداث في العالم الإسلامي؛ حيث تمثل سياسة الغرب حول فلسطين والقائمة على تبنِّيها لإسرائيل نقطة ضعف مميتة تزيد من التهاب الأحداث المضادة للغرب في العالم الإسلامي؛ ولم يعد سراً إحساس الغرب أن إسرائيل بدأت تمثل عبئاً ثقيلاً عليه، وأنقل هنا تصريحاً لأحد مسؤولي المخابرات المركزية الأمريكية السابقين (مايك شوار) الذي رأس الوحدة الخاصة بالسعي للقبض على (بن لادن) في أواخر التسعينيات من القرن الماضي؛ فقد قال في مقابلة خاصة لبرنامج (إنترفيو) التابع للبي بي سي «الخدمة الدولية»: «إنه يتعين على السياسة الخارجية الأمريكية أن تتغير، إننا ندعم إسرائيل دون تحفُّظ، وهو وضع كارثي بالنسبة لأمريكا، كما ندعم بلداناً معروفة تماماً بقمعها للمسلمين في أنحاء العالم». وأضاف: «هذه السياسة يمقتها المجتمع الإسلامي بكل مستوياته، وطالما ظل هذا هو الوضع فسنظل في هذه الحرب». وأخيراً فإنه يحدد شروط دعم إسرائيل بتقييد حريتها في التعامل مع الفلسطينيين، ومنعها من اتباع سياسات تدفع أمريكا ثمنها غالياً في أماكن أخرى؛ وذلك بقوله: «أعتقد أننا لو أردنا أن نكون حلفاء لإسرائيل، فإننا ينبغي أن نكون من نعطي الأمر ونأخذ القرار، وليس من يتم جره من أنفه». نعم! إنها محاولة متأخرة للثور الأمريكي للتخلص من حلقة الأنف، ولكنها تساعدنا في فهم ثقل القيود الحالية المفروضة على القيادة الإسرائيلية في التعامل مع الملف الفلسطيني.
ذكرت في مقالة سابقة أن انتخاب حماس وتشكيلها الحكومة قد ألغى عملياً الاعتراف الفلسطيني بشرعية وجود إسرائيل؛ ولذا نلاحظ أن السياسة الإسرائيلية تركز على الاستفادة القصوى من بقايا السلطة المتمثلة في الرئاسة الفلسطينية؛ وذلك عن طريق دفع الجميع إلى تجاهل الحكومة المنتخبة والتعامل فقط مع الرئاسة، بل وصل الأمر إلى محاولة تضخيم الحرس الرئاسي وتزويده بالأسلحة الحديثة تمهيداً لتنفيذ مخطط إشعال الصراع الداخلي عسكرياً والذي بدأت ملامحه بما يسمى (وثيقة الأسرى) التي تعترف بإسرائيل، وما تبعها من جعلها أساساً للحوار الوطني، وقرار الرئيس محمود عباس عرضها في استفتاء شعبي على أنها خطة محكمة تخيِّر الشعب بين الموت جوعاً أو الاعتراف بإسرائيل، وتضع أيضاً حماس ومن يتبنى المقاومة بين خيارين اثنين هما الاعتراف بالكيان الصهيوني أو مواجهة الحرب مع قوات الرئاسة بدعوى تنفيذ خيار الشعب والحفاظ على مصالحه العليا، ولكن هذا الوهم تبدد بعملية نوعية قادتها حماس وشاركت فيها فصائل أخرى، إنها عملية محسوبة همَّشت الرئاسة من جديد، ولم يعد أمام إسرائيل سوى إعادة احتلال القطاع مما يعني قيام حرب عصابات وهو أمر لا تستطيع إسرائيل تحمل نتائجه أو القبول بالوضع الجديد؛ أي القبول بهدنة مع سلطة لا تعترف بشرعية وجودها(/1)
سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه
عبدالحميد التركستاني
... ... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ... ...
1- لماذا نتحدث عن سيرةمصعب أو غيره. 2- حال مصعب قبل الإسلام. 3- التغير التام لحياة مصعب بعد الإسلام. 4- هجرة مصعب إلى الحبشة. 5- مصعب في المدينة يدعو إلى الإسلام وينجو فيها. 6- إسلام سعد بن معاذ على يديه. 7- ولاء وبراء في قصة لمصعب يوم بدر. 8- شهادته يوم أحد. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ... ...
وبعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله واقتدوا بسلف هذه الأمة من صحابة رسول الله فهم القدوة الصالحة لشبابنا التائهين المقتدين بفساق اليوم من مطربين وممثلين وغيرهم ممن لا يصلحون لأن يكونوا قدوة للأنعام فضلا عن بني الإنسان.
أيها الإخوة: إنني سأتكلم في هذه الخطبة عن سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله كان شابا غنيا مترفا منعما حسن الوجه لطيف المعاملة والمعاشرة، وكلما تعمق القاريء في ترجمته ازداد له هيبة وامتلأ إعجابا وإكبارا له، فهو ممن وضعوا البُني الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته ورفعته في مدينة رسول الله بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، ولا أقصد بكلامي عن هذه الشخصية الكريمة مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد الأولى، فهذا لا يفيدنا شيئا في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتنا التائهة.
وإنما أقصد بحديثي استلهام روح البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح ليصبح الحديث عنهم عنوانا طيبا صالحا لبعث الحياة فيهم من جديد، وتجديد الأمل، واستعذاب المنى وتفجير الطاقات والقوى، وإحداث التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد مشرق ومستقبل باسم مليء بالأمجاد لا مجال فيه لمتخاذل أو مستضعف أو متردد أو مبتدع مارق، فليس الكلام الشيق المفصل عن حياة أي صحابي مجرد قصة أو ترجمة عابرة للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة وإنما لتبيين موطن العبرة وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور.
لهذا قال مؤرخو السير والتراجم: القصد من ذكر أخبار الأخيار شرح أحوالهم وأخلاقهم ليقتدي بهم السالك أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده .
هذا الصحابي هو السيد الشهيد السابق البدري القرشي العبدري: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي أحد السابقين إلى الإسلام أسلم قديما والنبي في دار الأرقم وكان محببا إلى والديه يغدقان عليه بما يشاء من أسباب الراحة والترف والنعيم ولهذا كان من أنعم فتيان مكة وكان فتى مكة شبابا وجمالا وتيها، وكانت أمه غنية كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، وكان رسول الله يذكره ويقول: ما رأيت بمكة أحسن لِمّة ولا أرق حُلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير، ولكن هل منع مصعب ما كان فيه من الراحة والنعمة ألا يدخل في الإسلام بعد أن سمع به؟ كلا لم يحدث شيء من هذا بل لما سمع بالإسلام دخل فيه مباشرة وكان يعلم أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه وسوف يتبدل حاله من العز إلى الذل ومن السعة إلى الضيق، ومن النعيم إلى الجحيم ومن الراحة إلى التعب، ومن الغنى إلى الفقر، ولكنه آثر الآخرة على الدنيا، نعم لم يفعل كما يفعل المترفون اليوم من عدائهم للمتمسكين بهذا الدين والاستهزاء بهم، ولم يقل: إن هذا الدين كبت وجرح للمشاعر ولم يجمع حوله الشباب الضائع المائع المتكسّر البعيد عن الرجولة لينشغل بمغازلة النساء، ولم يقل: أنا شاب الآن عندما أكبر أتوب وأرجع إلى الله كلا لم يفعل ولم يقل شيئا من ذلك الهراء كما يفعله شباب اليوم.
بل دخل في دين الله متحديا بذلك قريشا بعتادها وقوتها لما كان يرى من تعذيبهم للمستضعفين في رمضاء مكة.(/1)
أسلم مصعب فعلمت به أمه وكانت تحبه حبا شديدا فحاولت أن تثنيه عن الإسلام ولسان حالها ومقالها: لا تتشدد يا بني ماذا تريد من هذا الدين أتريد أن تمنع نفسك من الغناء ومن النساء ومن الشهوات إن الدين يبعد عنها ويمنعك منها وأنت تعلم أن الحياة لا تصفوا إلا بهذه الأمور، ولكن مصعبا يعلم أن ما حرمه الله عليه في الدنيا سوف يجده عند الله في الجنة أما الغناء فسوف يسمع الحور العين يغنين له في الجنة أما النساء ففي الجنة ما يروي عطش الظمآن ويطفئ سعار شهوة اللهفان من حور عين لو اطلعت إحداهن على أهل الدنيا لأضاءت لها الأرض ولافتتن أهل الدنيا بها ولخمارها خير من الدنيا وما فيها، وأما الخمر ففي الجنة، فهو من خمر لذة للشاربين لا تزيل العقل ولا تضعف البدن، فليست هناك مقارنة في الأصل بين الدنيا والآخرة ومع هذا كله فللمؤمن مغفرة من الله وله من كل الثمرات ومن كل ما تشتهي نفسه وتلذّ عينه مع خلود أبدي لا موت ولا فوت هل هذا كمن هو خالد في النار وسقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم؟ كلا ليست هناك مقارنة وليس هناك أي تنازل عند مصعب أمام والدته وليس لديه خيار آخر غير الإسلام فضيقت عليه ومنعته من كل نعيم كان فيه ووصل الحال إلى سجنه وهو مع هذا كله لم يزدَدْ إلا ثباتا ورسوخا ولسان حاله، ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي فلن أترك ديني مهما حل بي من ضيق وشدة، ولقد عانى معاناة شديدة وهو يعذب والسبب في ذلك أنه عاش حياة الرفاهية تصوروا عندما تغير به الحال وهو الشاب الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والترف لم يثنه شيء من ذلك عن دينه يقول عنه سعد بن أبي وقاص : (وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسيّ ثم نحمله على عواتقنا) أ.هـ.
ومع هذا الألم صبر وصابر محتسبا الأجر عند الله سبحانه، كيف لو حدث مثل هذا لبعض شبابنا اليوم هل تظنون أنه سوف يثبت على دينه أو يتركه بالكلية؟ إننا نرى في بعض من لم يلتزم بهذا الدين يخاف من كل شيء من الوهم من الخيال، فهو يظن الهمس وعده، فينبغي للمؤمن ألا يخاف إلا من ربه وأن يعلم أن الحياة فانية وأنها دار اختبار تحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ولنجتهد حتى ينجح الواحد منا في الدار الآخرة حيث يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه يفرح ويفتخر بشهادة الله له بالفوز في دار النعيم المقيم والخلود الأبدي، وما قيمة شهادات الدنيا أمام الشهادة الأخروية.
ولما اشتد أذى المشركين بمصعب وإخوته من صحابة رسول الله وضاقت بهم مكة ذرعا أذن لهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الأولى وقال لهم: ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحدا)) فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر وكان عددهم اثني عشر رجلا وأربع نسوة وأمروا عليهم عثمان بن مظعون.
ولكن مصعبا لم يستمر طويلا في الحبشة إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشا قد أسلمت وكان الأمر غير ذلك. وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ويأتي عام الحزن وينتهي وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة من النبوة وأسلم منهم ستة نفر وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته الى قومهم وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلا اجتمع هؤلاء مع النبي عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّم المسلمين هناك شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه المهمة الشاقة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين ألا وهو مصعب بن عمير .
قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.
كان مصعب يقدر المسؤولية التي أنيطت به ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامّه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام فعليه إذا أن يجتهد في الدعوة وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجا، نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة ولعلنا لا نجد لهذا الصحابي ذكرا كثيرا في كتب السيرة والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة الرسول بقليل، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يبثان الإسلام في أهل يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبا بالقاري والمقري.(/2)
ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيرا من أهل يثرب على الإسلام حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ .
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجالا من المسلمين – وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك – فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما عن أن يأتيا ديارنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما: فلما رآه أسعد قال لمصعب، هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، وجاء أسيد فوقف عليهما متشمتا، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفها ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته نكفّ عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس فكلمه مصعب عن الإسلام، وتلا عليه القرآن قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا له: كيف يفعل فاغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلا إن أسلم لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن، ثم ذهب إلى سعد بن معاذ فلما رآه سعد قال لقومه: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف أسيد على النادي قال لسعد: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، ثم حث سعدا على الذهاب فلما ذهب سعد ورآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: جاءك والله من وراءه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد وجاء سعد فوقف عليهما متشمتا، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته فجلس، ولي وقفة هنا وأقول يا إخوة ألا ليت الذين يعادون الدين وأهله يسمعون كلام دعاته فإن هم رضوا انضموا إلى ركب الدعاة إلى الله والسائرين إليه وإن لم يرضوا وحاشاهم كانوا من المنافقين أعداء الدين كأمثال أبي بن سلول وأبي عامر الفاسق وأبي جهل وأبي لهب الذين عادوا الإسلام وحاربوه، الشاهد أن مصعبا عرض الإسلام على سعد وقرأ عليه القرآن فانشرح صدره لأنه صاحب ضالة وجدها في هذا الدين، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم فقال: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك، ثم أخذ حربته فأفقبل إلى نادي قومه فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به.
ثم بدأ هنا سعد بن معاذ يدعوا إلى دين الله الذي اعتنقه وصدّق به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمنُنا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة إلا رجلا واحدا، الأصيرم وتأخر إسلامه إلى يوم أحد.
وأقام مصعب يدعو إلى الله حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون منها. هذا هو مصعب قد قام بمهمته خير قيام وقبل حلول موسم الحج عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر النصر والفوز ويقصّ عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير وما لها من قوة ومنعة لنصرة هذا الدين، فسر النبي وبايع الأنصار في هذا الموسم في السنة الثالثة عشرة من النبوة وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى نصرة رسول الله النصرة التامة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال قائل منهم: فما لنا يا رسول الله، قال: ((لكم الجنة))، قالوا: رضينا، ثم انتهت البيعة وأذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى يثرب وسماها بعد ذلك المدينة النبوية. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ... ...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:(/3)
أيها الأحبة: وبعد بيعة العقبة الثانية هاجر الصحابة إلى المدينة وهاجر رسول الله مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق وهنا بدأ العمل الجاد لنشر الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية وكانت معركة بدر حمل فيها راية المسلمين مصعب بن عمير ودافع عنها وقاتل قتال الأبطال حتى انتصر المسلمون انتصارا ساحقا كما هو معروف، وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين وهو أسير لدى أحد الأنصار فقال له: أشدد عليه وثاقه فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك؟ فقال أبو عزيز لمصعب: أهذه وصاتك بأخيك؟ قال مصعب: إن هذا الأنصاري هو أخي دونك.
نعم إن أخوة الدين أقوى وأسمى من أخوة النسب، ثم كانت بعد غزوة أحد وكانت راية المسلمين أيضا بيد مصعب بن عمير فقاتل قتال الأبطال حتى قتل قتله ابن قمئة الليثي يظنه رسول الله، وفي مصعب وإخوانه الذين قتلوا في أحد نزل قوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .
لك الله يا مصعب يا من ذكرك عطر للحياة تلك هي الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين الصادقين الذين قدموا كل ما يملكون من راحة نفس ونعمة ومال وغال ونفيس في سبيل هذا الدين ولم يعقهم أي عائق فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان لهم من الله الرضا والمغفرة والفوز بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وهكذا مضى مصعب الصحابي الشاب الأسد كما يمضي كل الناس ولكنه مضى عزيزا وكبيرا قد أعذر إلى الله بعمله الدؤوب وجهده المضيء فكانت فرحته عند ربه حينما قال فيه وفي من قتل معه ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون نعم أحياء ولكن ليس كحياتنا ينعمون في الجنة ويسرحون فيها حيث شاءوا، مضى مصعب ذلك الشاب الغني المترف الذي كان يلبس أحسن الثياب وينتعل أفضل النعال مضى من الدنيا ولا يملك شيئا سوى ثوبه الذي عليه إن غطوا رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه.
يقول خباب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئا منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله : ((غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر))، وهو نبات معروف طيب الريح، متفق عليه.
قتل مصعب ولم يطلب في يوم من الأيام نعمة ولا ثراء، ولا سلطة ولا وجاهة ولم يكن يفكر يوما بمنصب أو رئاسة ولم يكن له هم سوى انتصار دين الله على الكفر وأهله فآتاه الله أجره وأعطاه هو وإخوانه من كل شيء، أعطاه من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاه هو وإخوانه كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وشهد لهم سبحانه بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب فقال: والله يحب المحسنين تلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثله على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟ وهل لشبابنا أن يتغنّوا ببطولات هؤلاء الرجال من صحابة رسول الله بدل بطولات لاعبي الكرة ومغامرات الزناة ومدمني المخدرات؟
إلى متى يظل مستوى شبابنا يتدنى إلى الحضيض والسفالة؟ إلى متى؟
أيها الإخوة: إذا أردنا أن ننهض بشباب الأمة فيجب علينا أن نربيهم على سيرة رسول الله وعلى سيرة الرعيل الأول كأمثال حمزة ومصعب وجعفر وابن رواحة وابن عمر وابن عباس وأسامة بن يزيد وغيرهم وهم كثير ولله الحمد ونغرس فيهم التفاني من أجل الدين ونرتفع بهم من ثقلة الأرض إلى علو السماء ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة وأن نؤدبهم على ذلك من الصغر حتى تصبح عزة أحدهم بدينه طابعا لا تطبعا وخلقا لا تخلقا، فحينئذ نجني الثمرة المرجوة من شبابنا اللهم إنا أحببنا صحابة نبيك محمد أصدق الحب وأعمقه، فهبنا يوم الفزع الأكبر لأي منهم فإنك تعلم أننا ما أحببناهم إلا فيك يا أرحم الراحمين. ... ... ... ...(/4)
شؤم المعاصي
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عرض لبعض آثار الذنوب على العبد في الدنيا ومنها: حرمان العلم – حرمان الرزق – حرمان الطاعة – الهوان على الله – موت القلب – حرمان الخير – الذل – طبع القلب بالران – زوال النعم – بغض الخلق – سوء الخاتمة .
الخطبة الأولى
هذه هي الذنوب، سمٌّ يسري في الأبدان فيهلكها، وفي البلدان فيفسدها، وإن لها أضرارًا عظيمة، وعواقب وخيمة، حريٌّ بعاقلٍ تدبرها أن يفر منها فراره من الأسد .. ومنها:
حرمان العلم:-
فالعلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، فكم هي المعارف التي تعلمناها ثم تاهت في سراديب النسيان، كان سبب ذلك معاصٍ ومعاصي ..
وهنا همسة في أُذن كل طالب خاض غمار العلم الخضم، أو لم يزل على شاطئه .. اتقوا المعاصي فإنها لصوص العلوم، فكم من حافظ لكتاب الله أنسيه حين تعلق قلبه بمعصية، وكم من مجدّ في البحث والتدقيق حُرم بركة العلم والوقت بسبب هنة أو زلة ..
وتذكر أن العلم الحق ما أورث خشية وذلاً .. وأعقب تعبدًا وقربًا ..
ومن أضرار المعاصي والذنوب حرمان الرزق، فكما أن الطاعة مجلبة للرزق، فالمعصية مجلبة للفقر، وقد يخالط النفوس شك من هذا، إذا نظر الناس في واقع الكثير ..
فكم من العصاة بل من الكفار من بُسط له في رزقه، ونُعّم في حياته؟! وكم من العباد والعلماء من عاش حياته بين الفقر والعوز؟!..
فيقال: إنما الرزق في بركته لا كثرته.
فالمتأمل في حياة الفريقين على مر العصور، يجد السعادة مع البركة، وإن كان الرزق يسيرًا، والشقاء محقها، وإن بلغ في الغنى ما بلغ ..
ومنها حرمان الطاعة ..
ومن المعلوم أن الطاعة تتبع أختها، والمعصية كذلك، وكلما ازداد العبد طاعة وقربًا كلما يُسر له في عمل الصالحات، وأضحت أهون عليه من كل شيء، وأحب إليه من أي شيء.
وكلما ازداد العبد معصية وبُعدًا، كلما تثاقل عن الطاعة وحرمها، وألف المعصية وأحبها، ولو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن الطاعة لكان في ذلك كفاية لما فيه من الحرمان ..
قال ابن القيم رحمه الله: "مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها، فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال". أهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ [الحجرات:7].
ومنها أنها سبب لهوان العبد على ربه، عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ((ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى)).
قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، ويكفي قول أحكم الحاكمين وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]. هذا وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.
ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة، حتى يغدو الحديث عن المعاصي والآثام محل الافتخار والتزين -نعوذ بالله من الخذلان ..
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من الإجهار أن يستر على العبد ثم يصبح يفضح نفسه، ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا وكذا فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه)).
ومنها أن غيره من الناس والدواب يحرمون الخير بشؤم ذنبه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحيارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) [روى الترمذي وقال: حسن صحيح].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم)).
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
وقال عكرمة رحمه الله: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم".
فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له.
قال كعب رحمه الله: "إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فَتَرعد فرقًا من الرب جل جلاله أن يطّلع عليها".
ومنها: أن المعصية تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].(/1)
قال ابن القيم رحمه الله: أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك .
قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
ومنها: وهي من أعظمها، أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. قال بعض السلف: هو الذنب بعد الذنب.
قال ابن القيم رحمه الله: وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومنها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، ولقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك)).
قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19]. أي أنساه مصالح نفسه وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها، وسرورها ونعيمها ..
فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه، والقيام بأمره ..
فترى العاصي مهملاً مصالح نفسه مضيعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا، قد فرط في سعادته الأبدية وحياته السرمدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة..
أحلام نوم، أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فالله سبحانه يعوض من كل شيء سواه، ولا يعوض منه شيء، ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء، ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء ..
وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين، وكيف ينسى ذكره، ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه، فيخسرها ويظلمها أعظم ظلم، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه، ولكن هو الذي ظلم نفسه ..
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة).
قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وما منع قطر السماء، ولا غابت بركة الأرض إلا لسبب ذنوب العباد، وما حلت الهموم والغموم، والأكدار والأحزان إلا بذنوب العباد، فالذنوب هي أساس البلاء وأصل الوباء.
ومنها: بغض الخلق له وخاصة أهل الصلاح والديانة ..
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيجبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، إن العبد يخلو بمعاصي الله فيُلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر).
ومن عقوباتها: أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتغرير حتى تؤزه إلى المعصية أزًّا، وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر من الأذى في غيبته وحضوره، وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم ..
قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
الخطبة الثانية
ومن أعظم آثار الذنوب وأضرارها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له..
فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله والإنابة إليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فإن دعا أو ذكر فبقلب غافل ساهٍ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة لم تنقد له ولم تطاوعه، كمن له جند تدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أقواتهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.
والأعظم من هذا والأنكى، والأمرّ والأدهى، أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تبارك وتعالى، فيتلعثم لسانه، ويعجم بيانه عن أن ينطق بكلمة التوحيد وشهادة الحق ..(/2)
ولا غرابة في ذلك .. ألم يكن في حال حضور ذهنه قوته، وكمال إدراكه قد أسلم الزمام لشيطانه فاستعمله بما يريد، وقاده إلى حيث شاء، فأنّى للخلاص من سبيل حينئذٍ ..
ومنتهى الحسرة حين يخذل المرء في عرصات القيامة وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى))، قيل: يا رسول الله .. ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
أضرار المعاصي:
قال ابن القيم -رحمه الله- في الجواب الكافي: مما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بدّ أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداءٌ إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعمة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح صورة وأشنع، وبُدل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظى، وبالإيمان كفرًا؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟.
وما الذي سلّط الريح على قوم عادٍ حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودّمرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟.
وما الذي رفع اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم أجمعين؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنّم، والأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمّرها تدميرًا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب قصة سورة يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديد، فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الدّيار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبَّروا ما علو تتبيرًا؟.(/3)
... ... ...
شؤم المعاصي ... ... ...
مازن التويجري ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- عرض لبعض آثار الذنوب على العبد في الدنيا ومنها: حرمان العلم – حرمان الرزق – حرمان الطاعة – الهوان على الله – موت القلب – حرمان الخير – الذل – طبع القلب بالران – زوال النعم – بغض الخلق – سوء الخاتمة . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
هذه هي الذنوب، سمٌّ يسري في الأبدان فيهلكها، وفي البلدان فيفسدها، وإن لها أضرارًا عظيمة، وعواقب وخيمة، حريٌّ بعاقلٍ تدبرها أن يفر منها فراره من الأسد .. ومنها:
حرمان العلم:-
فالعلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، فكم هي المعارف التي تعلمناها ثم تاهت في سراديب النسيان، كان سبب ذلك معاصٍ ومعاصي ..
وهنا همسة في أُذن كل طالب خاض غمار العلم الخضم، أو لم يزل على شاطئه .. اتقوا المعاصي فإنها لصوص العلوم، فكم من حافظ لكتاب الله أنسيه حين تعلق قلبه بمعصية، وكم من مجدّ في البحث والتدقيق حُرم بركة العلم والوقت بسبب هنة أو زلة ..
وتذكر أن العلم الحق ما أورث خشية وذلاً .. وأعقب تعبدًا وقربًا ..
ومن أضرار المعاصي والذنوب حرمان الرزق، فكما أن الطاعة مجلبة للرزق، فالمعصية مجلبة للفقر، وقد يخالط النفوس شك من هذا، إذا نظر الناس في واقع الكثير ..
فكم من العصاة بل من الكفار من بُسط له في رزقه، ونُعّم في حياته؟! وكم من العباد والعلماء من عاش حياته بين الفقر والعوز؟!..
فيقال: إنما الرزق في بركته لا كثرته.
فالمتأمل في حياة الفريقين على مر العصور، يجد السعادة مع البركة، وإن كان الرزق يسيرًا، والشقاء محقها، وإن بلغ في الغنى ما بلغ ..
ومنها حرمان الطاعة ..
ومن المعلوم أن الطاعة تتبع أختها، والمعصية كذلك، وكلما ازداد العبد طاعة وقربًا كلما يُسر له في عمل الصالحات، وأضحت أهون عليه من كل شيء، وأحب إليه من أي شيء.
وكلما ازداد العبد معصية وبُعدًا، كلما تثاقل عن الطاعة وحرمها، وألف المعصية وأحبها، ولو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن الطاعة لكان في ذلك كفاية لما فيه من الحرمان ..
قال ابن القيم رحمه الله: "مثال تولد الطاعة ونموها وتزايدها كمثل نواة غرستها فصارت شجرة ثم أثمرت فأكلت ثمرها وغرست نواها، فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره وغرست نواه وكذلك تداعي المعاصي، فليتدبر اللبيب هذا المثال". أهـ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ [الحجرات:7].
ومنها أنها سبب لهوان العبد على ربه، عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ((ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى)).
قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، ويكفي قول أحكم الحاكمين وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]. هذا وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.
ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة، حتى يغدو الحديث عن المعاصي والآثام محل الافتخار والتزين -نعوذ بالله من الخذلان ..
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من الإجهار أن يستر على العبد ثم يصبح يفضح نفسه، ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا وكذا فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه)).
ومنها أن غيره من الناس والدواب يحرمون الخير بشؤم ذنبه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحيارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) [روى الترمذي وقال: حسن صحيح].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم)).
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".
وقال عكرمة رحمه الله: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم".
فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له.
قال كعب رحمه الله: "إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فَتَرعد فرقًا من الرب جل جلاله أن يطّلع عليها".(/1)
ومنها: أن المعصية تورث الذل، فإن العز كل العز في طاعة الله مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
قال ابن القيم رحمه الله: أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك .
قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
ومنها: وهي من أعظمها، أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. قال بعض السلف: هو الذنب بعد الذنب.
قال ابن القيم رحمه الله: وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومنها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، ولقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك)).
قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19]. أي أنساه مصالح نفسه وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها، وسرورها ونعيمها ..
فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه، والقيام بأمره ..
فترى العاصي مهملاً مصالح نفسه مضيعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا، قد فرط في سعادته الأبدية وحياته السرمدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة..
أحلام نوم، أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فالله سبحانه يعوض من كل شيء سواه، ولا يعوض منه شيء، ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء، ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء ..
وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين، وكيف ينسى ذكره، ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه، فيخسرها ويظلمها أعظم ظلم، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه، ولكن هو الذي ظلم نفسه ..
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة).
قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وما منع قطر السماء، ولا غابت بركة الأرض إلا لسبب ذنوب العباد، وما حلت الهموم والغموم، والأكدار والأحزان إلا بذنوب العباد، فالذنوب هي أساس البلاء وأصل الوباء.
ومنها: بغض الخلق له وخاصة أهل الصلاح والديانة ..
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيجبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، إن العبد يخلو بمعاصي الله فيُلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر).
ومن عقوباتها: أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتغرير حتى تؤزه إلى المعصية أزًّا، وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر من الأذى في غيبته وحضوره، وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم ..
قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
ومن أعظم آثار الذنوب وأضرارها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له..
فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله والإنابة إليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فإن دعا أو ذكر فبقلب غافل ساهٍ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة لم تنقد له ولم تطاوعه، كمن له جند تدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أقواتهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.(/2)
والأعظم من هذا والأنكى، والأمرّ والأدهى، أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تبارك وتعالى، فيتلعثم لسانه، ويعجم بيانه عن أن ينطق بكلمة التوحيد وشهادة الحق ..
ولا غرابة في ذلك .. ألم يكن في حال حضور ذهنه قوته، وكمال إدراكه قد أسلم الزمام لشيطانه فاستعمله بما يريد، وقاده إلى حيث شاء، فأنّى للخلاص من سبيل حينئذٍ ..
ومنتهى الحسرة حين يخذل المرء في عرصات القيامة وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى))، قيل: يا رسول الله .. ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
أضرار المعاصي:
قال ابن القيم -رحمه الله- في الجواب الكافي: مما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بدّ أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداءٌ إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة، دار اللذة والنعمة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح صورة وأشنع، وبُدل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظى، وبالإيمان كفرًا؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟.
وما الذي سلّط الريح على قوم عادٍ حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودّمرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟.
وما الذي رفع اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم أجمعين؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنّم، والأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمّرها تدميرًا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب قصة سورة يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديد، فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الدّيار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبَّروا ما علو تتبيرًا؟. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
شؤم المعصية
3476
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
ملخص الخطبة
1- الذنوب سبب ما أصاب البشرية من شقاء وكوارث. 2- قصة في فتح قبرص. 3- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد المسلم. 4- المجاهرة بالمعاصي. 5- التحذير من فشو المنكرات وكثرة المعاصي. 6- أثر الطاعة في وجه المؤمن حال الكبر والوفاة.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، اتقوا الله تعالى، واحذروا شؤم المعاصي، فإنه ما من شر ولا بلاء ينزل بالناس أفراداً كانوا أو جماعات، إلا وسببه الذنوب والمعاصي.
فما الذي سبب إخراج الأبوين عليهما الصلاة والسلام من الجنة، دار اللذة والنعيم إلى هذه الدنيا دار الآلام والأحزان، وما الذي سبب إخراج إبليس من ملكوت السماء، وصيره طريداً لعيناً مصدراً لكل بلاء في الإنسانية، إنه المعصية، لماذا عم الغرق قوم نوح حتى علا الماء رؤوس الجبال، ولماذا سُلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم كأنهم أعجاز نخل خاوية، وما السبب في إرسال الصيحة على ثمود حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، ولماذا قلبت قرى قوم لوط بهم فجُعل عاليها سافلها وأتبعوا بحجارة من سجيل.
وما الذي أغرق فرعون وقومه، وخسف بقارون الأرض، وما الذي هد عروشاً في ماضي هذه الأمة وحاضرها طالما حُميت. إنه الذنوب والمعاصي. فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واحذروا الذنوب والمخالفات، فإن ضررها على الأفراد والمجتمعات لأشد وأنكى من ضرر السموم على الأجسام، إنها لتخلق في نفوس أهلها التباغض والعداء، وتنزل في قلوبهم وحشة وتلفاً، لا يجتمع معهما أنس أو راحة. قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها.
إن للمعاصي شؤمها ولها عواقبها في النفس والأهل في البر والبحر: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. المعاصي، تهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]. روى الإمام أحمد رحمه الله بسنده، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
إنه مخالفة أمر الله، إنها مخالفة شريعة الله، إنها الذنوب والمعاصي، التي أذلت أعناقاً طالما ارتفعت، وأخرست ألسناً طالما نطقت وأصمت آذاناً طالما استمعت، وفرقت أسراً وفرقت جموعاً طالما اجتمعت.
بسبب الذنوب والآثام، والمنكرات والإجرام يكون الهم والحزن، إنها مصدر العجز والكسل وفشو البطالة، ومن ثم يكون الجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال.
بها تزول النعم وتحلُ النقم وتتحول العافية ويُستجلب سخط الله.
إذا ابتلى العبد بالمعاصي، استوحش قلبه، وضعفت همته وعزمه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، وقسا قلبه، ووهن بدنه، وضعف حفظه واستيعابه، وذهب حياؤه وغيرته، وضعف في قلبه تعظيم ووقار الرب.
وربما تنكس القلب، وزاغ عن الحق، وأدى إلى حرمان العلم النافع، وأورث ضيق الصدر، هل تعلم يا عبد الله بأن المعاصي، تعد خيانة للجوارح التي خلقها الله، لتستعمل في طاعته. وأخص بهذا الكلام، الدعاة إلى الله عز وجل، أولئك الذين حملوا على أنفسهم هداية الناس، والتأثير في الخلق. كيف يريد الداعية أن يؤثر في الناس، وقلوب الناس تبغضه.وكيف يريد أن يتقبل الناس كلامه وقلوبهم تنكره، بسبب المعاصي.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
فترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها(/1)
فياليت الدعاة، وذو الصدارة، والوجاهة والولاية يدركون بأن للمعاصي خطراً كبيراً على قلوبهم وعلى علمهم، وعلى طلاقة لسانهم، وأنها من أقوى الأسباب في نفرة الناس من صاحبها، بل وانتزاع حبه من نفوسهم، وصدق الله العظيم: وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]، وقال جل وعز: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الناس. وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الناس).
أيها المسلمون، من قارف المعاصي ولازمها تولد في قلبه الاستئناس بها وقبولها، ولا يزال كذلك حتى يذهب عنه استقباحها، ثم يبدأ بالمجاهرة بها وإعلانها وغالب هؤلاء لا يعافون، كما جاء في الحديث: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيصبح يكشف ستر الله عليه)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
وهذه المجاهرة موجودة بيننا ولها صور وأشكال. فمن المجاهرة، أن يتحدث التاجر إلى رفاقه بغشه في السلع ويعد ذلك مهارة وكياسة.
ومن المجاهرة، أن يتحدث المقاول عن أساليبه في حيله بالنسبة للمواد وغيرها، ومن المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه وينشر الفاسق فسوقه. ومن المجاهرة، تلك الصور الفاضحة وتلك الكلمات الخادشة للشرف والفضيلة، وهذا باب من البلاء عريض ولكثير من وسائل الإعلام فيه نصيب كبير. فإن غالب وسائل الإعلام تمارس المجاهرة، بمفهومها الواسع العريض.
أيها المسلمون، لقد فشا الربا، وكثر الزنا، وشربت الخمور والمسكرات وأدمنت المخدرات، وكثر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، ودخل الغناء أغلب البيوت، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام، وتساهل الناس في شأن صحون استقبال القنوات الفضائية، وفشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكعت النساء في الشوارع والأسواق وكثرت المغازلات والمعاكسات، وتساهل البعض حتى في شأن الصلوات حتى في الجمع، إلى غير ذلك من المنكرات والمخالفات، التي لا عد لها ولا حصر. فإلى متى الغفلة عن سنن الله، ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله، ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
إن المجتمع حين يغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضل طريقها، وتتنكب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، إنها سنة الله، حين تفشو المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام، إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة، وسلوك مسالك اللهو والترف، طريق إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات. فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة، وتسترخي وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.
نعم، إن الاستمرار في محادة أمر الله وشرعه، والاستمرار على الذنوب والخطايا وعدم الإقلاع، ليهدم الأركان، ويقوض الأساس ويزيل النعم، وينقص المال، ويرتفع الأسعار وتحل الهزائم الحربية، وقبلها الهزائم المعنوية.
ولقد أصابنا ـ أيها الأحبة ـ من ذلك الشيء الكثير فاتقوا الله تعالى، اتقوا الله، أفراداً وجماعات بيوتاً ومؤسسات، صغاراً وكباراً، حكاماً ومحكومين، فإن الحق أبلج، والدين واضح، وسنن الله لن تتغير ولن تتبدل. قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:94-99].
بارك الله لي...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واحذروا السيئات واستكثروا من الحسنات، فإن عاقبة المعاصي كما سمعتم وخيمة، في الدنيا وفي الآخرة.(/2)
ثم إن الأعمال الصالحة، وهذا من غرائب الأمور، وقد يستغربه بعضكم، أقول: أن الأعمال الصالحة، يسري قوتها فيظهر ذلك في الوجه، وكذلك المعاصي، يسري قوتها ويظهر ذلك في الوجه أيضاً، حسناً وقبحاً. وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة عن هذه القضية فقال رحمه الله: "فكلما كثر البر والتقوى، قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإثم والعدوان، قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح".
ثم قال رحمه الله: "فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك في صورته".
ثم قال: "ولهذا يظهر ذلك ظهوراً بيناً عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت، فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية، كلما كبروا عظم قبحها وشينها حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهراً بها في حال الصغر لجمال صورتها.وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره".
ثم ضرب رحمه الله مثالاً واقعياً على قاعدته هذه التي ذكرها، ووالله لقد صدق شيخ الإسلام، فإن مثاله نراه بأعيننا في وقتنا هذا.
قال رحمه الله: "وهذا ظاهر لكل أحد فيمن يعظم بدعته وفجوره، مثل:الرافضة وأهل المظالم والفواحش فإن هؤلاء كلما كبر قبح وجهه وعظم شينه حتى يقوى شبهه بالخنزير".
ثم قال شيخ الإسلام: "بأنه قد تواتر عن هؤلاء أنهم ربما مسخوا قردة وخنازير فسبحان الله، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً".
أيها الأحبة، نخلص من هذا الكلام بأن التقوى والإيمان والورع والصدق، يؤثر ذلك في الظاهر، فيحسن الوجه، ويزداد البهاء والجمال. وأن أولئك الذين يتظاهرون بالصلاح، ويتظاهرون بالاستقامة، وبالتقوى، وربما أطلقوا لحاهم، ثم يندسون في صفوف المسلمين، فيحضرون جمعة أو جماعة. نقول لهؤلاء وننصحهم، ونحن مشفقون عليهم، بأن أمركم واضح لغيركم، فإن الناس يميزون، وإن المعصية لها آثارها، كما أن للصدق القلبي أثره.
فالوجه وإن كان به لحية، لكن ذلك النور لا تجده، وذلك البهاء تفقده، ثم نحن مشفقون عليهم من جهة أخرى، وهو أنه قد يقع أحدهم في الشرك، وذلك بأن يدخل المسجد، ويصف مع المسلمين، ويكبر ويركع ويسجد معهم، وما أدخلته الصلاة.
لكن لأمر كان يطلبه فلما قضي الأمر لا صلى ولا صاما
صن الحسن بالتقوى وإلا فيذهب فنور التقى يكسو جمالاً ويكسبُ
وما ينفع الوجه الجميل جماله وليس له فعلٌ جميلٌ مهذبُ
فيا حسن الوجه اتق الله إن تُرد دوام جمال ليس يفنى ويذهب
يزيد التقى ذا الحسن حسناً وبهجة وأما المعاصي فهي للحسن تسلب
وتكسف نور الوجه بعد بهائه وتكسوه قبحاً ثم للقلب تقلب
فسارع إلى التقوى هنا تجد الهنا غداً في صفا عيش يدوم ويعذب
فما بعد ذي الدنيا سوى جنةٍ بها نعيم مقيمٌ أو لظىً تتلهب
اللهم اغفر لنا ما قدمنا...
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها صغيرها.. دقها.. باطنها..
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا(/3)
شاب طائع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فإنّ فضل الله واسع، ورحمته سبقت غضبه، وهو الغني المغني، صاحب الجود والكرم، وإليه الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكم وإليه ترجعون، امتن على المؤمنين من عباده بأن وفقهم لطاعته، واجتناب معصيته، ثم أثابهم على الطاعة بدخول جنته، والفوز برضوانه، والاستظلال تحت ظل عرشه، في يوم لا ظل فيه إلا ظله، كما جاء في حديث - الذي لنا وقفة معه - وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله - تعالى- في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخافها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " 1.
الشرح:
قوله: " سبعة " ظاهره اختصاص هؤلاء السبعة بالثواب المذكور، وهو الاستظلال تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وقد وجهه الكرماني بأن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب، أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان، وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشئ في العبادة.. والثاني عام وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة2.
وذلك لأنه قد جاء في أحاديث أخرى ذكر أكثر من هذه السبعة؛ من هذه الأحاديث ما هو صحيح ومنها ما هو غير ذلك.. وقد أفرد الإمام ابن حجر ذكر الخصال المذكورة في حديث السبعة، وذكر غيرها من الخصال في جزء سماه " معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال "3.
قال ابن حجر- رحمه الله - : وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذناً عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعاً من لفظه قال:
وقال النبي المصطفى إن سبعة ... يظلهم الله الكريم بظله
محب عفيف ناشئ متصدق ... وباكٍ مصلٍ والإمام بعدله
يقول ابن حجر معقباً على البيتين السابقين لأبي شامة:
وزد سبعة إظلال غاز وعونه ... وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب ... وتاجر صدق في المقال وفعلة 4
ثم ذكر أنه قد جاءت أحاديث أخرى تذكر غير هؤلاء المذكورين، ولكنها ضعيفة.
وقد يقال أن ذكر السبعة هنا مفهوم عدد، ومفهوم العدد لا يدل على الحصر.
وهؤلاء السبعة غير مختصين بالرجال فحسب، بل أنه يشمل النساء في جميع ما ذكر من ثواب السبعة الأصناف المذكورة في الحديث، ولكن النساء يستثنين من خصلة واحدة وهي الإمامة العظمى، فإنه من غير المباح للنساء شرعاً أن يتولين الولاية العامة على المسلمين.
ومن النكات العدد سبعة وملحه العجيبة، أن الله خلق سبع سموات طباقاً، وذكر ذلك سبع مرات في آيات مختلفة، ومدار الزمن على سبعة أيام، وأكرم نبيه بالسبع المثاني، وهي سورة الفاتحة، وقد ورد العدد سبعة في كثير من العبادات، فالطواف حول الكعبة سبع مرات، والسعي بين الصفا والمروة سبع مرات، ورمي الجمرات بسبع حصيات، وقد نزل القرآن على سبعة أحرف كما ورد في الحديث، وشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله عدد كلماتها سبع، ومن تصبح سبعاً من عجوة المدينة لم يضره سحر ولا سم، وغيرها من النكات والملح العجيبة.
قوله: " يظلهم الله في ظله " يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك أصناف من الناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وإضافة الظل إلى الله إضافة تشريف، ليحصل امتياز هذا على غيره؛ كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه 5.
ففي ذلك اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وتدنو الشمس منهم حتى تكون على قدر ميل، ويلجمهم العرق إلجاماً، ويشتد كربهم، ويزداد خوفهم وفزعهم. في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، تظلل ثلة من المؤمنين الموحدين الصادقين بظل عرشه سبحانه يوم لا ظل إلا ظله، وتؤمن مما يخاف الناس منه!
ولعلّك أخي تقول: من هم هؤلاء الأصناف السبعة لعلي أن أعمل بما يعملون فأكون ممن يستظلون تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ فأقول لك أسوقهم على ترتيبهم كما جاء ذكرهم في الحديث.
الصنف الأول: قوله: " إمام عادل " عادل اسم فاعل من العدل، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه رفعه: " أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " 6.
وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط 7.(/1)
هذا الإمام العادل هو الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يظلم عنده أحد، ولا يحابي أو يجامل في الحق أحداً، ولو كان من أعز الخلق عليه، وأحبهم إليه، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له، لا فرق عنده بين قريب وبعيد، وسيد ومسود، في معاملتهم بالحسنى، والرفق بهم، والإحسان إليهم، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في إحدى خطبه المنبرية: أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقدّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله - تعالى-، لا يدع منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. والإمام العادل هو الذي يعتبر رعيته كأبنائه فيما لهم من العطف والحنان، والتربية الصالحة، فيعلم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويربي صغيرهم، ويعالج مريضهم، ويكرم حاضرهم، ويحفظ غائبهم في أهله وماله، لأن ذلك من أداء الأمانة كما قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } 8.
وقال علي رضي الله عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك، فحق الناس أن يسمعوا له، وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا 9.
ما من رجل ولي عشرة إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يقضى بينه وبينهم10، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويعلنونكم " قالوا: يا رسول الله: أفلا ننباذهم؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " 11.
ولن يظل الله يوم القيامة بظل عرشه إماماً مستبداً، أو ملكاً جباراً، أو أميراً جائراً، يتسلط بجبروته على المسلمين، فيذل من أعزه الله، أو يعز من أذله الله 12.
الصنف الثاني : قوله: " وشاب نشأ في عبادة الله " خص الشاب بالذكر؛ لأن الشباب يغلب عليه الشهوة، ولما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى.
فهو شاب في رعيان شبابه، ولكنه تفرد وتميز عن بقية الشباب الذين نشأوا وتربوا وترعرعوا وشابوا وهرموا في عبادة الشيطان، ومتابعة الأغاني والألحان، والتسكع في الأسواق والطرقات، ومعاكسة الفتيات، وهجر القرآن ومشاهدة البرامج والمسلسلات وسماع الغناء والألحان!
هذا الشاب المستظل في ظل عرشه تعالى يوم لا ظل إلا ظله تفرد وتميز في الدنيا بأنه " القوي المالك أمر نفسه في طاعة الله، واستعمل جسمه وروحه وماله وما أنعم الله به عليه في مرضاته، فقد استحق من الله خير الجزاء، وكان محبوباً في أهله وقومه ومواطنيه؛ لأنه يريد الخير ويفعله، وإن عجز عنه دعا إليه، ورغب فيه، وأثنى على فاعله، وإن عرضت له المعصية، وزينها له الشيطان لم يمنعها منها إلا دينه وخوفه من الله، وما جبل عليه من طاعة الله والاشتغال بعبادته.. وهو الذي يستطيع الجهاد في سبيل الله، وكسب المال من حله، وبر والديه، وتربيته أبنائه، وصغار إخوانه، وخدمة بلاده، ونفع أمته، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والفلاح في المزرعة، والطبيب في المستشفى، والعامل في المصنع، والعضو الصحيح في الجمعيات والأندية، إذا دعي إلى الخير لبّى، وإذا رأى الشر أو سمع به أزاله وحارب أهله، وإن فقد النصير ابتعد عنه وأنكره بقلبه ولسانه، وما ظهر الدين وعرف الناس شرائع النبيين إلا بفضل الشباب الصالحين.. فهم النقباء والحواريون، والأنصار والمهاجرون، وهم العلماء والمعلمون، والشعراء المبدعون، والخطباء المصقعون، والتاريخ أصدق شاهد بفضل الشباب الناشئين في طاعة الله، والله – تعالى - يقول في أصحاب الكهف: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } 13. فهنيئاً لشاب تقي تعلق قلبه بالمساجد، ومجالس الخير، وعمل الصالحات، واغتنم شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وغناه قبل فقره، وفراغه قبل شغله، وحياه قبل موته.. وأكرم الناس نفساً، وأنداهم كفاً، وأطيبهم قلباً، وأرقهم عاطفة، وأصدقهم عزماً، هو الشاب المؤمن التقي، الذي يجل الكبير ويحترمه، ويحن إلى الصغير ويرحمه، لا تسمعه إلا مهنئاً أو معزياً أو مشجعاً أو مسلياً أو مسلّماً، ولا تراه إلا هاشاً باشاً، طلق الوجه مبتسماً، يحليه إيمانه بمكارم الأخلاق، ويبعده دينه عن طيش الصغر، وإصرار الكبر، وجدير الشباب هذا شأنه بأن يظله الله بظل عرشه، وأن يكون آمناً إذا فزع الناس أجمعون "14. فهنيئاً له تلك المنزلة.(/2)
ولذلك نهمس في أذن كل شاب مؤمن تقي نشأ في عبادة الله بأن يواصل طريقه ومسيره إلى الله، ولا يغتر بكثرة الهالكين، وأولئك الشباب التائهين في بحور الشهوات، فإنها والله عما قريب ستزول وتفنى، ولن يبق إلا ما قدمه الإنسان من البر والتقوى. وكذلك لا ننسى أن نهمس في أذن ذلك الشاب البعيد عن الله، والذي قد نصَّب العداوة بينه وبين بيوت الله، نقول له عد إلى الله، وأب إليه فإنه والله أفرح بك وبتوتك من ذاك الذي كان في فلاة وضاعت منه راحلته وأيس من الحياة، ثم وجدها فقال عندها من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه أجمعين. وإلى الحلقة القادمة - إن شاء الله- لاستكمال بقية الأصناف السبعة.
________________________________________
1 - رواه البخاري- الفتح - كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، رقم (1423) ط: دار الريان. وفي غيرها من المواضع. ورواه مسلم مع شرح النووي، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (7 / 120). ط: دار الريان.
2- فتح الباري لابن حجر ( 2/168) ط: دار الريان.
3- فتح الباري لابن حجر (2/169).
4- المصدر السابق (2/168-169).
5 - انظر الفتح (2/169) .
6 - رواه مسلم كتاب الإمارة، باب فضل الإمام العادل وعقوبة الإمام الجائر، رقم (3406).
7- الفتح (2/170).
8 - النساء(58).
9 - إصلاح المجتمع صـ (47) طباعة المطبعة العصرية – الكويت (1392هـ).
10 - رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات وصححه الألباني في الترغيب:2201
11 - انظر الحديث رواه مسلم كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، رقم (3447).
12 - إصلاح المجتمع صـ ( 48- 49) بتصرف.
13 - الكهف(13) .
14 - إصلاح المجتمع صـ (50 – 51).(/3)
شبهات حول المرأة
أولاً: الحجاب:
الشبهة الأولى: الحجاب تزمّت والدين يسر:
يدّعي بعض دعاة التبرج والسفور بأنّ الحجاب تزمّت في الدين، والدين يسر لا تزمّتَ فيه ولا تشدّد، وإباحة السفور مصلحةٌ تقتضيها مشقّة التزام الحجاب في عصرنا[1].
الجواب:
1- إن تعاليم الدين الإسلامي وتكاليفَه الشرعية جميعها يسر لا عسرَ فيها، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:232]. فهذه الآيات صريحة في التزام مبدأ التخفيف والتيسير على الناس في أحكام الشرع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا))[2]، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: ((بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا))[3].
فالشارع لا يقصد أبدًا إعنات المكلَّفين أو تكليفهم بما لا تطيقه أنفسهم، فكلّ ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخلٌ في مقدورهم وطاقتهم[4].
2- ثم لا بد من معرفة أن للمصلحة الشرعية ضوابط يجب مراعاتها وهي:
أ- أن تكون هذه المصلحة مندرجة في مقاصد الشرع، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فكلّ ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوّت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ولا شك أن الحجاب مما يحفظ هذه الكليات وأن التبرج والسفور يؤدي بها إلى الفساد.
ب- أن لا تعارض هذه المصلحة النقل الصحيح، فلا تعارض القرآن الكريم؛ لأن معرفة المقاصد الشرعية إنما تمّ استنادًا إلى الأحكام الشرعية المنبثقة من أدلتها التفصيلية، والأدلة كلّها راجعة إلى الكتاب، فلو عارضت المصلحة كتابَ الله لاستلزم ذلك أن يعارض المدلولُ دليله، وهو باطل. وكذلك بالنسبة للسنة، فإن المصلحة المزعومة إذا عارضتها اعتُبرت رأيًا مذمومًا. ولا يخفى مناقضة هذه المصلحة المزعومة لنصوص الكتاب والسنة.
ج- أن لا تعارض هذه المصلحة القياس الصحيح.
د- أن لا تفوِّت هذه المصلحة مصلحة أهمّ منها أو مساوية لها.
3- قاعدة: "المشقّة تجلب التيسير" معناها: أنّ المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب شرعي صحيح للتخفيف فيه بوجه ما.
لكن ينبغي أن لا تفهم هذه القاعدة على وجهٍ يتناقض مع الضوابط السابقة للمصلحة، فلا بد للتخفيف أن لا يكون مخالفًا لكتابٍ ولا سنّة ولا قياس صحيح ولا مصلحة راجحة.
ومن المصالح ما نصّ على حُكمة الكتاب والسنة كالعبادات والعقود والمعاملات، وهذا القسم لم يقتصر نصّ الشارع فيه على العزائم فقط، بل ما من حكم من أحكام العبادات والمعاملات إلا وقد شرع إلى جانبه سبل التيسير فيه. فالصلاة مثلا شرِعت أركانها وأحكامها الأساسية، وشرع إلى جانبها أحكام ميسّرة لأدائها عند لحوق المشقة كالجمع والقصر والصلاة من جلوس. والصوم أيضا شرع إلى جانب أحكامه الأساسية رخصةُ الفطر بالسفر والمرض. والطهارة من النجاسات في الصلاة شرع معها رخصة العفو عما يشقّ الاحتراز منه. وأوجب الله سبحانه وتعالى الحجابَ على المرأة، ثم نهى عن النظر إلى الأجنبية، ورخّص في كشف الوجه والنظر إليه عند الخِطبة والعلاج، والتقاضي والإشهاد.
إذًا فليس في التيسير الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في مقابلة عزائم أحكامه ما يخلّ بالوفاق مع ضوابط المصلحة، ومعلومٌ أنه لا يجوز الاستزادة في التخفيف على ما ورد به النص، كأن يقال: إنّ مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضعَ الصلاة عنهم، أو يقال: إن مشقة التحرّز عن الربا في هذا العصر تقتضي جوازَ التعامل به، أو يقال: إنّ مشقة التزام الحجاب في بعض المجتمعات تقتضي أن يباحَ للمرأة التبرّج بدعوى عموم البلوى به[5].
الشبهة الثانية: الحجاب من عادات الجاهلية فهو تخلف ورجعية:
قالوا: إن الحجاب كان من عادات العرب في الجاهلية، لأنّ العرب طبِعوا على حماية الشّرف، ووأدوا البنات خوفًا من العار، فألزموا النساء بالحجاب تعصبًا لعاداتهم القبلية التي جاء الإسلام بذمّها وإبطالها، حتى إنّه أبطل الحجاب[6]، فالالتزام بالحجاب رجعية وتخلّف عن ركب الحضارة والتقدم.
الجواب:
1- إن الحجاب الذي فرضه الإسلام على المرأة لم يعرفه العرب قبل الإسلام، بل لقد ذمّ الله تعالى تبرّج نساء الجاهلية، فوجه نساء المسلمين إلى عدم التبرج حتى لا يتشبهن بنساء الجاهلية، فقال جلّ شأنه: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33].
كما أن الأحاديث الحافلة بذمّ تغيير خلق الله أوضحت أنّ وصلَ الشعر والتنمّص كان شائعًا في نساء اليهود قبل الإسلام، ومن المعروف أنه مما تستخدمه المتبرّجات.(/1)
صحيح أن الإسلام أتى فأبطل عادات ذميمة للعرب، ولكن بالإضافة إلى ذلك كانت لهم عادات جميلة أقرّها الإسلام فلم يبطلها، كإكرام الضيف والجود والشجاعة وغير ذلك.
وكان من ضمن عاداتهم الذميمة خروج النساء متبرّجات كاشفات الوجوه والأعناق، باديات الزينة، ففرض الله الحجاب على المرأة بعد الإسلام ليرتقي بها ويصونَ كرامتها، ويمنع عنها أذى الفسّاق والمغرضين[7].
2- إذا كانت النساء المسلمات راضياتٍ بلباسهن الذي لا يجعلهن في زمرة الرجيعات والمتخلفات فما الذي يضير التقدميين في ذلك؟! وإذا كنّ يلبسن الحجاب ولا يتأفّفن منه فما الذي حشر التقدميين في قضية فردية شخصية كهذه؟! ومن العجب أن تسمع منهم الدعوةَ إلى الحرية الشخصية وتقديسها، فلا يجوز أن يمسّها أحد، ثم هم يتدخّلون في حرية غيرهم في ارتداء ما شاؤوا من الثياب[8].
3- إنّ التخلف له أسبابه، والتقدم له أسبابه، وإقحام شريعة الستر والأخلاق في هذا الأمر خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على متخلّف عن مستوى الفكر والنظر، ومنذ متى كان التقدّم والحضارة متعلّقَين بلباس الإنسان؟! إنّ الحضارة والتقدم والتطور كان نتيجةَ أبحاث توصَّل إليها الإنسان بعقله وإعمال فكره، ولم تكن بثوبه ومظهره[9].
الشبهة الثالثة: الحجاب وسيلة لإخفاء الشخصية:
يقول بعضهم: إنّ الحجابَ يسهّل عملية إخفاء الشخصية، فقد يتستّر وراءه بعض النساء اللواتي يقترفن الفواحش[10].
الجواب:
1- يشرع للمرأة في الإسلام أن تستر وجهها لأن ذلك أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات. وكل عاقل يفهم من سلوك المرأة التي تبالغ في ستر نفسها حتى أنها لا تبدي وجهًا ولا كفا ـ فضلاً عن سائر بدنها ـ أن هذا دليل الاستعفاف والصيانة، وكل عاقل يعلم أيضًا أن تبرج المرأة وإظهارها زينتها يشعر بوقاحتها وقلة حيائها وهوانها على نفسها، ومن ثم فهي الأَولى أن يُساء بها الظن بقرينة مسلكها الوخيم حيث تعرِض زينتها كالسلعة، فتجرّ على نفسها وصمة خُبث النية وفساد الطوية وطمع الذئاب البشرية[11].
2- إنّ من المتواتر لدى الكافة أن المسلمة التي تتحجب في هذا الزمان تذوق الويلات من الأجهزة الحكومية والإدارات الجامعية والحملات الإعلامية والسفاهات من المنافقين في كل مكان، ثم هي تصبر على هذا كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يفعل هذا إلا مؤمنة صادقة رباها القرآن والسنة، فإذا حاولت فاسقة مستهترة ساقطة أن تتجلبب بجلباب الحياء وتواري عن الأعين بارتداء شعار العفاف ورمز الصيانة وتستر عن الناس آفاتها وفجورها بمظهر الحصان الرزان فما ذنب الحجاب إذًا؟!
إن الاستثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها كما هو معلوم لكلّ ذي عقل، مع أنّ نفس هذه المجتمعات التي يروَّج فيها هذه الأراجيف قد بلغت من الانحدار والتردّي في مهاوي التبرّج والفسوق والعصيان ما يغني الفاسقات عن التستّر، ولا يحوِجهنّ إلى التواري عن الأعين.
وإذا كان بعض المنافقين يتشدّقون بأنّ في هذا خطرًا على ما يسمّونه الأمن فليبينوا كيف يهتزّ الأمن ويختلّ بسبب المتحجبات المتسترات، مع أنه لم يتزلزل مرة واحدة بسبب السافرات والمتبرجات!![12].
3- لو أن رجلاً انتحل شخصية قائد عسكري كبير، وارتدى بزته، وتحايل بذلك واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته؟! وهل يصلح سلوكه مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميّز للعسكريين مثلاً خشية أن يسيء أحد استعماله؟!
وما يقال عن البزة العسكرية يقال عن لباس الفتوّ، وزيّ الرياضة، فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون والفتى الذي يسيء والرياضي الذي يذنب هل يقول عاقل: إنّ على الأمة أن تحارب شعارَ العسكر ولباس الفتوّة وزيّ الرياضة لخيانات ظهرت وإساءات تكررت؟! فإذا كان الجواب: "لا" فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي؟! ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة؟![13].
4- إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب يأمرها أن تكون ذات خلق ودين، إنه يربي من تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب، ويقول لها: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب، فإذا اقتصرت امرأة على أحدهما دون الآخر تكون كمن يمشي على رجل واحدة أو يطير بجناح واحد.
إن التصدي لهؤلاء المستهترات ـ إذا وجدن ـ أن تصدر قوانين صارمة بتشديد العقوبة على كل من تسوّل له نفسه استغلال الحجاب لتسهيل الجرائم وإشباع الأهواء، فمثل هذا التشديد جائز شرعًا في شريعة الله الغراء التي حرصت على صيانة النفس ووقاية العرض، وجعلتهما فوق كل اعتبار، وإذا كان التخوف من سوء استغلال الحجاب مخطرة محتملة إلا أن المخطرة في التبرج والسفور بنشر الفاحشة وفتح ذرائعها مقطوع بها لدى كل عاقل[14].
الشبهة الرابعة: عفة المرأة في ذاتها لا في حجابها:(/2)
يقول البعض: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء يلقى ويسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهرها وهي فاجرة في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس كاشفة المفاتن لا يعرف السوء سبيلاً إلى نفسها ولا إلى سلوكها[15].
الجواب:
إن هذا صحيح، فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفّة مفقودة، ولا أن تمنحه استقامة معدومة، وربَّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها.
ولكن من هذا الذي زعم أن الله إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة في نفسها أو العفة في أخلاقها؟! ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلانًا بأن كل من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية مع الرجال؟!
إن الله عز وجل فرض الحجاب على المرأة محافظة على عفة الرجال الذين قد تقع أبصارهم عليها، وليس حفاظًا على عفتها من الأعين التي تراها فقط، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان إلا أن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا فهل يقول عاقل تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة: إن للفتاة أن تبرز عارية أمام الرجال كلهم ما دامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟!
إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من مغرياتِ النساء وفتنتهن هو المشكلة التي أحوجت المجتمعَ إلى حلّ، فكان في شرع الله ما تكفّل به على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحلّ الإلهي ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المرأة المتبرجة عندئذ باستقامةٍ في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوس الرجال ما قد يتغلّب على كل استقامة أو عفة تتمتّع بها المرأة إذ تعرض من فنون إثارتها وفتنتها أمامهم[16].
الشبهة الخامسة: دعوى أن الحجاب من وضع الإسلام:
زعم آخرون أن حجاب النساء نظام وضعه الإسلام فلم يكن له وجود في الجزيرة العربية ولا في غيرها قبل الدعوة المحمدية[17].
الجواب:
1- إن من يقرأ كتب العهد القديم وكتب الأناجيل يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفًا بين العبرانيين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعًا، إلى ما بعد ظهور المسيحية، وتكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد.
ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن (رفقة) أنها رفعت عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي، فقال العبد: هو سيدي، فأخذت البرقع وتغطت.
وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة: أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟
وفي الإصحاح الثالث من سفر أشعيا: إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب.
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين أيضًا أن تامار مضت وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمان خلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت.
ويقول بولس الرسول في رسالته كورنثوس الأولى: "إن النقاب شرف للمرأة، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد[18].
فالكتب الدينية التي يقرؤها غير المسلمين قد ذكرت عن البراقع والعصائب مالم يذكره القرآن الكريم.
2- وكان الرومان يسنون القوانين التي تحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة، ومنها قانون عرف باسم "قانون أوبيا" يحرم عليها المغالاة بالزينة حتى في البيوت[19].
3- وأما في الجاهلية فنجد أن الأخبار الواردة في تستّر المرأة العربية موفورة كوفرة أخبار سفورها، وانتهاكُ سترها كان سببًا في اليوم الثاني من أيام حروب الفجار الأول؛ إذ إن شبابًا من قريش وبني كنانة رأوا امرأة جميلة وسيمة من بني عامر في سوق عكاظ، وسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت، فامتهنها أحدهم فاستغاثت بقومها.
وفي الشعر الجاهلي أشعار كثيرة تشير إلى حجاب المرأة العربية، يقول الربيع بن زياد العبسي بعد مقتل مالك بن زهير:
من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرًا يندبنه يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترًا فاليوم حين برزن للنظار
فالحالة العامّة لديهم أن النساء كن محجبات إلا في مثل هذه الحالة حيث فقدن صوابهن فكشفن الوجوه يلطمنها، لأن الفجيعة قد تنحرف بالمرأة عما اعتادت من تستر وقناع.
وقد ذكر الأصمعي أن المرأة كانت تلقي خمارها لحسنها وهي على عفة[20].
وكانت أغطية رؤوس النساء في الجاهلية متنوعة ولها أسماء شتى، منها:
الخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، يوضع على الرأس، ويلفّ على جزء من الوجه.
وقد ورد في شعر صخر يتحدث عن أخته الخنساء:
والله لا أمنحها شرارها ولو هلكت مزقت خمارها(/3)
وجعلت من شعر صدارها
ولم يكن الخمار مقصورًا على العرب، وإنما كان شائعًا لدى الأمم القديمة في بابل وأشور وفارس والروم والهند[21].
النقاب: قال أبو عبيد: "النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين، ومعناه أن إبداءهن المحاجر محدث، إنما كان النقاب لاصقًا بالعين، وكانت تبدو إحدى العينين والأخرى مستوره"[22].
الوصواص: وهو النقاب على مارِن الأنف لا تظهر منه إلا العينان، وهو البرقع الصغير، ويسمّى الخنق، قال الشاعر:
يا ليتها قد لبست وصواصًا
البرقع: فيه خرقان للعين، وهو لنساء العرب، قال الشاعر:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت فقد رابني منها الغداة سفورها[23]
الشبهة السادسة: الاحتجاج بقاعدة: "تبدل الأحكام بتبدّل الزمان":
فهم أعداء الحجاب من قاعدة: "تبدل الأحكام بتبدل الزمان" وقاعدة: "العادة محكّمة" أنه ما دامت أعرافهم متطوّرة بتطوّر الأزمان فلا بدّ أن تكون الأحكام الشرعية كذلك[24].
الجواب:
لا ريب أن هذا الكلام لو كان مقبولاً على ظاهره لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة أن ما تعارف عليه الناس وأصبح عرفًا لهم لا يخلو من حالات:
1- إما أن يكون هو بعينه حكمًا شرعيًا أيضًا بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكّده، مثال ذلك: الطهارة من النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص والحدود وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعدّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب وتركها العقاب، سواء منها ما كان متعارفًا عليه قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيّدًا ومحسّنًا له كحكم القسامة والديه والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك، وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها.
فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة وتطورت العادات والأحوال؛ لأنها بحدّ ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء: "العادة محكَّمة".
2- وإما أن لا يكون حكمًا شرعيًا، ولكن تعلّق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلّة بالمروءة والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ وفترة الحيض والنفاس إلى غير ذلك.
فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية ولكنها متعلَّق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء: "العادة محكمة"، فالأحكام المبنيّة على العرف والعادة هي التي تتغيّر بتغيّر العادة، وهنا فقط يصحّ أن يقال: "لا ينكر تبدّل الأحكام بتبدل الزمان"، وهذا لا يعدّ نسخًا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق فطبِّق غيره. يوضّحه أنّ العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو أن الحكم الأصلي باق، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لطبيقه[25].
الشبهة السابعة: نساء خيِّرات كنّ سافرات:
احتجّ أعداء الحجاب بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يرتدين الحجاب ولم يتجنّبن الاختلاط بالرجال.
وعمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها وينقبون فيها بحثًا عن مثل هؤلاء النساء حتى ظفروا بضالتهم المنشودة ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكن يبالين ـ فيما نقلته الأخبار عنهن ـ أن يظهرن سافرات أمام الرجال، وأن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج[26].
الجواب:
1- من المعلوم والمتقرر شرعا أن الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فضمن أيّ مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأنّ أغلبها وقع بعد من التشريع وانقطاع الوحي؟![27].
2- وإذا علِم أن أحكام الإسلام إنما تؤخذ من نص ثابت في كتاب الله تعالى أو حديث صحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قياس صحيح عليهما أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم لم يصحّ حينئذ الاستدلال بالتصرّفات الفردية من آحاد الناس أو ما يسمّيه الأصوليون بـ"وقائع الأحوال"، فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلاً شرعيًا لأيّ حكم شرعيّ حتى لو كان أصحابها من الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم فكيف بمن دونهم؟!(/4)
بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن ـ صحة وبطلانًا ـ بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم ووقائع أحوالهم، وصدق القائل: لا تعرف الحقّ بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله[28].
3- ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلاً قوة الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر لبطل أن يكونوا معرّضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحقَّ عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء))، وإلاّ فما بالنا لا نقول مثلاً: يحل شرب الخمر فقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيِّرة من شربها؟![29].
4- وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم وجمع غفير من النساء المتحجّبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟! فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة ولم يجعلها حجة بدلاً من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟!
يقول الغزالي: "لم تزل الرجال على مر الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات أو يمنعن من الخروج"[30]، ويقول ابن رسلان: "اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات"[31].
ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل واعتباره أصلاً راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟![32].
الشبهة الثامنة: الحجاب كبت للطاقة الجنسية:
قالوا: إنّ الطاقة الجنسية في الإنسان طاقة كبيرة وخطيرة، وخطورتها تكمن في كبتها، وزيادة الضغط يولّد الانفجار، وحجاب المرأة يغطّي جمالها، وبالتالي فإنّ الشباب يظلون في كتب جنسيّ يكاد أن ينفجر أو ينفجر أحيانًا على شكل حوادث الاغتصاب وغيرها، والعلاج لهذه المشكلة إنما يكمن في تحرير المرأة من هذا الحجاب لكي ينفس الشباب الكبت الذي فيهم، وبالتالي يحدث التشبع لهذه الحاجة، فيقلّ طبقًا لذلك خطورة الانفجار بسبب الكبت والاختناق[33].
الجواب:
1- لو كان هذا الكلام صحيحًا لكانت أمريكا والدول الأوربية وما شاكلها هي أقلّ الدول في العالم في حوادث الاغتصاب والتحرّش في النساء وما شاكلها من الجرائم الأخلاقية، ذلك لأن أمريكا والدول الأوربية قد أعطت هذا الجانب عناية كبيرة جدًا بحجة الحرية الشخصية، فماذا كانت النتائج التي ترتبت على الانفلات والإباحية؟ هل قلّت حوادث الاغتصاب؟ هل حدث التشبّع الذي يتحدّثون عنه؟ وهل حُميت المرأة من هذه الخطورة؟
جاء في كتاب "الجريمة في أمريكا": إنه تتم جريمة اغتصاب بالقوة كل ستة دقائق في أمريكا[34]. ويعني بالقوة: أي تحت تأثير السلاح.
وقد بلغ عدد حالات الاغتصاب في أمريكا عام 1978م إلى مائة وسبعة وأربعين ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين حالة، لتصل في عام 1987م إلى مائتين وواحد وعشرين ألف وسبعمائة وأربع وستين حالة. فهذه الإحصائيات تكذّب هذه الدعوى[35].
2- إن الغريزة الجنسية موجودة في الرجال والنساء، وهي سرّ أودعه الله تعالى في الرجل والمرأة لحِكَم كثيرة، منها استمرار النسل. ولا يمكن لأحد أن ينكر وجود هذه الغريزة، ثم يطلب من الرجال أن يتصرفوا طبيعيًا أمام مناظر التكشف والتعرّي دونما اعتبار لوجود تلك الغريزة[36].
3- إن الذي يدّعي أنه يمكن معالجة الكبت الجنسي بإشاعة مناظر التبرّج والتعري ليحدث التشبع فإنه بذلك يصل إلى نتيجتين:
الأولى: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم الشهوات والعورات البادية من فئة المخصيّين، فانقطعت شهوتهم، فما عادوا يشعرون بشيء من ذلك الأمر.
الثانية: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم العورات الظاهرة من الذين أصابهم مرض البرود الجنسي.
فهل الذين يدعون صدقَ تلك الشبهة يريدون من رجال أمتنا أن يكونوا ضمن إحدى هاتين الطائفتين من الرجال؟![37].
الشبهة التاسعة: الحجاب يعطل نصف المجتمع:
قالوا: إن حجاب المرأة يعطل نصف المجتمع، إذ إن الإسلام يأمرها أن تبقى في بيتها[38].
الجواب:
1- إن الأصل في المرأة أن تبقى في بيتها، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33]. ولا يعني هذا الأمر إهانة المرأة وتعطيل طاقاتها، بل هو التوظيف الأمثل لطاقاتها[39].
2- وليس في حجاب المرأة ما يمنعها من القيام بما يتعلق بها من الواجبات، وما يُسمح لها به من الأعمال، ولا يحول بينها وبين اكتساب المعارف والعلوم، بل إنها تستطيع أن تقوم بكل ذلك مع المحافظة على حجابها وتجنبها الاختلاط المشين.
وكثير من طالبات الجامعات اللاتي ارتدين الثوب الساتر وابتعدن عن مخالطة الطلاب قد أحرزن قصب السبق في مضمار الامتحان، وكن في موضع تقدير واحترام من جميع المدرسين والطلاب[40].(/5)
3- بل إن خروج المرأة ومزاحمتها الرجل في أعماله وتركها الأعمال التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها هو الذي يعطل نصف المجتمع، بل هو السبب في انهيار المجتمعات وفشو الفساد وانتشار الجرائم وانفكاك الأسَر، لأن مهمة رعاية النشء وتربيتهم والعناية بهم ـ وهي من أشرف المهام وأعظمها وأخطرها ـ أضحت بلا عائل ولا رقيب.
الشبهة العاشرة: التبرج أمر عادي لا يلفت النظر:
يدّعي أعداء الحجاب أن التبرج الذي تبدو به المرأة كاسية عارية لا يثير انتباه الرجال، بينما ينتبه الرجال عندما يرون امرأة متحجبة حجابًا كاملاً يستر جسدها كله، فيريدون التعرّف على شخصيتها ومتابعتها؛ لأنّ كلَّ ممنوع مرغوب[41].
الجواب:
1- ما دام التبرج أمر عادي لا يلفت الأنظار ولا يستهوي القلوب فلماذا تبرّجت؟! ولمن تبرجت؟! ولماذا تحمّلت أدوات التجميل وأجرة الكوافير ومتابعة الموضات؟![42].
2- وكيف يكون التبرج أمرًا عاديًا ونرى أن الأزواج ـ مثلاً ـ تزداد رغبتهم في زوجاتهم كلما تزينّ وتجمّلن، كما تزداد الشهوة إلى الطعام كلما كان منسقًا متنوعًا جميلاً في ترتيبه ولو لم يكن لذيذ الطعم؟![43].
3- إن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي الجاذبية الفطرية، لا تتغير مدى الدهر، وهي شيء يجري في عروقهما، وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية، فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصماء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب وعلى غيرها، بل إن كل جزء من كل جسم يتميز عما يشبهه في الجنس الآخر؛ ولذلك تظهر صفات الأنوثة في المرأة في تركيب جسمها كله وفي شكلها وفي أخلاقها وأفكارها وميولها، كما تظهر مميزات الذكورة في الرجل في بدنه وهيئته وصوته وأعماله وميوله. وهذه قاعدة فطرية طبيعية لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان، ولن تتغير حتى تقوم الساعة[44].
4- أودع الله الشبق الجنسي في النفس البشرية سرًّا من أسراره، وحكمة من روائع حكمه جلّ شأنه، وجعل الممارسة الجنسية من أعظم ما ينزع إليه العقل والنفس والروح، وهي مطلب روحي وحسي وبدني، ولو أن رجلاً مرت عليه امرأة حاسرة سافرة على جمال باهر وحسن ظاهر واستهواء بالغ ولم يلتفت إليها وينزع إلى جمالها يحكم عليه الطب بأنه غير سوي وتنقصه الرغبة الجنسية، ونقصان الرغبة الجنسية ـ في عرف الطب ـ مرض يستوجب العلاج والتداوي[45].
5- إن أعلى نسبة من الفجور والإباحية والشذوذ الجنسي وضياع الأعراض واختلاط الأنساب قد صاحبت خروج النساء مترجات كاسيات عاريات، وتتناسب هذه النسبة تناسبًا طرديًا مع خروج النساء على تلك الصورة المتحللة من كل شرف وفضيلة، بل إن أعلى نسبة من الأمراض الجنسية ـ كالأيدز وغيره ـ في الدول الإباحية التي تزداد فيها حرية المرأة تفلّتًا، وتتجاوز ذلك إلى أن تصبح همجية وفوضى، بالإضافة إلى الأمراض والعقد النفسية التي تلجئ الشباب والفتيات للانتحار بأعلى النسب في أكثر بلاد العالم تحللاً من الأخلاق[46].
6- أما أن العيون تتابع المتحجبة الساترة لوجهها ولا تتابع المتبرجة فإن المتحجبة تشبه كتابًا مغلقًا، لا تعلم محتوياته وعدد صفحات وما يحمله من أفكار، فطالما كان الأمر كذلك، فإنه مهما نظرنا إلى غلاف الكتاب ودققنا النظر فإننا لن نفهم محتوياته، ولن نعرفها، بل ولن نتأثر بها، وبما تحمله من أفكار، وهكذا المتحجبة غلافها حجابها، ومحتوياتها مجهولة بداخله، وإن الأنظار التي ترتفع إلى نورها لترتد حسيرة خاسئة، لم تظفر بِشَروَى[47] نقير ولا بأقلّ القليل.
أما تلك المتبرجة فتشبه كتابًا مفتوحًا تتصفّحه الأيدي، وتتداوله الأعين سطرًا سطرًا، وصفحة صفحة، وتتأثّر بمحتوياته العقول، فلا يترك حتى يكون قد فقد رونق أوراقه، فتثنت بل تمزق بعضها، إنه يصبح كتابًا قديمًا لا يستحق أن يوضع في واجهة مكتبة بيت متواضعة، فما بالنا بواجهة مكتبة عظيمة؟![48].
الشبهة الحادية عشرة: السفور حقّ للمرأة والحجاب ظلم:
زعموا أن السفور حقّ للمرأة، سلبها إياه المجتمع، أو سلبها إياه الرجل الأناني المتحجر المتزمت، ويرون أن الحجاب ظلم لها وسلب لحقها[49].
الجواب:
1- لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضدّه لتتخلّص من الظلم الذي أوقعه عليها، كما كان وَضعُ القضية في أوربا بين المرأة والرجل، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك ـ إن كانت مؤمنة ـ أن تجادله سبحانه فيما أمر به أو يكون لها الخيرة في الأمر، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا} [الأحزاب:36][50].(/6)
2- إن الحجابَ في ذاته لا يشكل قضية، فقد فرض الحجاب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفذ في عهد، واستمر بعد ذلك ثلاثة عشر قرنًا متوالية وما من مسلم يؤمن بالله ورسوله يقول: إن المرأة كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مظلومة.
فإذا وقع عليها الظلم بعد ذلك حين تخلّف المسلمون عن عقيدتهم الصحيحة ومقتضياتها فلم يكن الحجاب ـ بداهة ـ هو منبع الظلم ولا سببه ولا قرينه، لأنه كان قائمًا في خير القرون على الإطلاق، وكان قرين النظافة الخلقية والروحية، وقرين الرفعة الإنسانية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله[51].
الشبهة الثانية عشرة: الحجاب رمز للغلو والتعصب الطائفي والتطرف الديني:
زعم أعداء الحجاب أن حجاب المرأة رمز من رموز التطرف والغلو، وعلامة من علامات التنطع والتشدد، مما يسبب تنافرا في المجتمع وتصادما بين الفئتين، وهذا قد يؤول إلى الإخلال بالأمن والاستقرار.
الجواب:
1- هذه الدعوى مرفوضة من أساسها، فالحجاب ليس رمزا لتلك الأمور، بل ولا رمزا من الرموز بحال، لأن الرمز ما ليس له وظيفة إلا التعبير عن الانتماء الديني لصاحبه، مثل الصليب على صدر المسيحي أو المسيحية، والقلنسوة الصغيرة على رأس اليهودي، فلا وظيفة لهما إلا الإعلان عن الهوية. أما الحجاب فإن له وظيفة معروفة وحِكَما نبيلة، هي الستر والحشمة والطهر والعفاف، ولا يخطر ببال من تلبسه من المسلمات أنها تعلن عن نفسها وعن دينها، لكنها تطيع أمر ربها، فهو شعيرة دينية، وليس رمزا للتطرف والتنطع.
ثم إن هذه الفرية التي أطلقوها على حجاب المرأة المسلمة لماذا لم يطلقوها على حجاب الراهبات؟! لماذا لم يقولوا: إن حجابَ اليهوديات والنصرانيات رمز للتعصب الديني والتميز الطائفي؟! لماذا لم يقولوا: إن تعليق الصليب رمز من رموز التطرف الديني وهو الذي جرّ ويلات الحروب الصليبية؟! لماذا لم يقولوا: إن وضع اليهودي القلنسوة الصغيرة على رأسه رمز من رموز التطرف الديني وبسببه يحصل ما يحصل من المجازر والإرهاب في فلسطين المحتلة؟!
2- إن هذه الفرية يكذّبها التاريخ والواقع، فأين هذه المفاسد المزعومة والحجاب ترتديه المرأة المسلمة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا؟!
3- إن ارتداء المرأة للحجاب تم من منطلق عقدي وقناعة روحية، فهي لم تلزَم بالحجاب بقوة الحديد والنار، ولم تدعُ غيرها إلى الحجاب إلا بالحكمة والحجج الشرعية والعقلية، بل عكس القضية هو الصحيح، وبيان ذلك أن إلزام المرأة بخلع حجابها وجعل ذلك قانونا وشريعة لازمة هو رمز التعصب والتطرف اللاديني، وهذا هو الذي يسبب التصادم وردود الأفعال السيئة، لأنه اعتداء على الحرية الدينية والحرية الشخصية.
[1] عودة الحجاب: محمد أحمد إسماعيل المقدم (3/391).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر (39).
[3] أخرجه مسلم في الجهاد (1732).
[4] عودة الحجاب (3/393).
[5] انظر: عودة الحجاب (3/395-396).
[6] المتبرجات للزهراء فاطمة بنت عبد الله (122).
[7] انظر: المتبرجات (122).
[8] المتبرجات (124) بتصرف.
[9] المترجات (124-125).
[10] عودة الحجاب (3/412).
[11] عودة الحجاب (3/412-413) باختصار.
[12] عودة الحجاب (3/412-413).
[13] إلى كل أب غيور يؤمن بالله لعبد الله ناصح علوان (44)، انظر: عودة الحجاب (3/414).
[14] عودة الحجاب (3/415).
[15] إلى كل فتاة تؤمن بالله. د.محمد سعيد البوطي (97).
[16] إلى كل فتاة تؤمن بالله (97-99).
[17] يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي للشيخ صالح البليهي (124).
[18] يا فتاة الإسلام (128-126) باختصار.
[19] يا فتاة الإسلام (126).
[20] المرأة بين الجاهلية والإسلام، محمد الناصر وخولة درويش (169، 170).
[21] المرأة بين الجاهلية والإسلام (171).
[22] غريب الحديث (2/440-441)، عند شرح قول ابن سيرين: "النقاب محدث".
[23] انظر: المرأة بين الجاهلية والإسلام (171-172)..
[24] عودة الحجاب (3/403).
[25] عودة الحجاب (3/403-404).
[26] عودة الحجاب (3/409).
[27] عودة الحجاب (3/409).
[28] عودة الحجاب (3/409-410).
[29] عودة الحجاب (3/410).
[30] إحياء علوم الدين (2/74).
[31] انظر: عون المعبود (4/106).
[32] عودة الحجاب (3/410-411).
[33] أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب؟ لعبد الحميد البلالي (7).
[34] هذا بالنسبة لعام (1988م) على ما في الكتاب.
[35] أختي غير المحجبة (8، 10) بتصرف.
[36] أختي غير المحجبة (12).
[37] أختي غير المحجبة (12-13).
[38] أختي غير المحجبة (64).
[39] أختي غير المحجبة (64).
[40] يا فتاة الإسلام اقرئي (39-40).
[41] المتبرجات (117).
[42] المتبرجات (117).
[43] المتبرجات (117).
[44] التبرج لنعمت صافي (23-24).
[45] الفتاوى للشيخ محمد متولي الشعراوي بمشاركة: د.السيد الجميلي. انظر: المتبرحات (119-120)(/7)
[46] المتبرجات (120) وللمزيد من ذلك انظر: المرأة المتبرجة وأثرها السيئ في الأمة لعبد الله التليدي (12-25).
[47] الشَّروى كجدوى: المثل. (القاموس المحيط، مادة: شرى).
[48] المتبرجات (118).
[49] قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (21).
[50] قضية تحرير المرأة (19).
[51] قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (19-20). ...(/8)
شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من البدع المحدثة في الدين، شد الرحال إلى مساجد غير المساجد التي نصت الشريعة على جواز شد الرحال إليها، ويكون المنكر أعظم إذا كانت فيها أضرحة وقبور، ويعتقد أن الصلاة في هذه المساجد أفضل؛ بسبب بركة صاحب الضريح أو القبر.
فشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة التي هي المسجد الحرام ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى لا يجوز والدليل على ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومسجد الأقصى)(1).
فالمساجد بعد المساجد الثلاثة متماثلة، فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر.
قال الشيخ علي محفوظ: ("لا تُشَدُّ الرحالُ"؛ على صيغة المجهول، نفي بمعنى النهي، أي لا تشدوا الرحال، وهو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم شرعاً أن يقصد بالسفر إلا هذه البقاع؛ لما اختصت به من المزايا التي شرفها الله تعالى بها).
وقال: (ومن الحديث يستفاد فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ لأن المسجد الحرام قبلة الناس، وإليه حجهم، ومسجد الرسول أسس على التقوى، والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السالفة).
وقال: (وصفوة القول: أن السفر إلى أي مسجد غير هذه الثلاثة للصلاة فيه منهي عنه، أما هذه الثلاثة فلا؛ لما لها من المزايا، وإن من نذر إتيان المساجد الثلاثة؛ لزمه...، أما إن نذر إتيان غيرها لصلاة أو اعتكاف لم يلزمه؛ لأنه لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته مثلاً في أي مسجد كان، وهو كالمجمع عليه على ما قال الإمام النووي)(2).
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في "حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-"(صـ 113): (ومن البدع قصد المساجد التي بمكة وما حولها غير المسجد الحرام؛ كالمسجد الذي تحت "الصفا"، وما في سفح "أبي قبيس"، ومسجد المولد، ونحو ذلك من المساجد التي بُنيت على آثار النبي(3) -صلى الله عليه وسلم-).
وقال: (ومن البدع قصد قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسفر، والسنة قصد المسجد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد..." الحديث. فإذا وصل إليه، وصلى التحية؛ زار قبره -صلى الله عليه وسلم-)(4).
وقال: (والمستثنى منه في هذا الحديث ليس هو المساجد فقط -كما يظن كثيرون- بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه، سواء كان مسجداً، أو قبراً، أو غير ذلك، بدليل ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال في حديث له: فلقيتُ بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين أقبلت؟ فقلتُ: من الطور. فقال: لو أدركتُك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تُعمَلُ المطيُّ إلا إلى ثلاثة مساجد..." الحديث(5). فهذا دليل صريح على أن الصحابة فهموا الحديث على عمومه، ويؤيده أنه لم يُنقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لزيارة قبر ما)(6).
ولا يدخل في النهي شد الرحال للسفر المباح، ولو كان في هذا السفر المباح أعمال يتقرب بها إلى الله؛ كصلة الرحم في بلدة معينة، أو طلب علم.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويلهمنا رشدنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - متفق عليه.
2 - راجع: الإبداع (صـ 204).
3 - راجع: مجموع الرسائل الكبرى (2/388-389)، وتفسير سورة الإخلاص لابن تيمية (صـ 179).
4 - حجة النبي صلى الله عليه وسلم (صـ 137).
5 - رواه النسائي، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7371).
6 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1/59).(/1)
شرح حديث كيف أنت يا عبد الله
3407
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/10/1415
النور
ملخص الخطبة
1- نص الحديث. 2- كثرة الحثالة في آخر الزمان. 3- ماذا يصنع المسلم إذا فشت المنكرات وكثرت الحثالة.
الخطبة الأولى
أما بعد: بين فترة وأخرى، نختار حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونقف عنده، وسبق أن ذكرنا، بأن كل حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يناسب أن يكون موضوع خطبة أو محاضرة أو درس يقدم للناس. فمن كلامه يمكن أن يتعرف الناس على واقعهم، ومقدار القرب والبعد عما يريده الله منهم.
حديثنا، هذا اليوم، هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد وبسند صحيح، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة الناس؟)) قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: ((إذا مَرِجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه))، قال قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)).
ومن عجيب فقه الإمام البخاري رحمه الله تعالى أنه أورد هذا الحديث تعليقاً في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
ورواية الإمام أبي داود في كتاب الملاحم.
قال: ((كيف بكم وبزمان، أو يوشك أن يأتي زمان، يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه))، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله، فقال: ((تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم)).
وفي رواية: قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا))، وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فِداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)).
أول نقطة في هذا الحديث العظيم، ينبغي الوقوف عنده: قوله: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)).
الحثالة: هي التي في آخر الإناء.
والحثالة: هو الرديء من كل شيء، فحثالة التمر هو أردؤه، وما لا خير فيه. وكذلك الحثالة من الناس، هم أراذل الناس وشرارهم وسفلتهم، وهم الذين لا خير فيهم.
نعم أيها الأحبة، إن فئة من الناس قد يصلون، إلى هذا الأمر، الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، حثالة من الناس. ولا أظنك أخي المسلم، محتاج إلى كبير جهد، لكي تجد بعض أفراد هذا الصنف من الناس، ومع كل أسف، فإن هذه الحثالة بدأت تنمو، وتزداد، وتتكاثر، حثالة في كل طبقة.وحثالة في كل ناحية، هذه الحثالة لا يهمها أمر الناس، لا يهمها إصلاح وضع، ولا يهمها إزالة خطأ، ولا يهمها نشر وعي وخير بين الناس، لأنهم حثالة، يعيشون لبطونهم، ويعيشون لشهواتهم ولا يهمهم إلا أنفسهم، المهم أن يبقى ويأكل ويشبع ويجمع وما سوى ذلك، فليس في تفكيره، كم أيها الأحبة ممن نعرف وممن لا نعرف بهذه الصفة. لا تهتم الواقع، ولا يؤلمها آلام الغير، ولا تكترث لأحد، ينام ملء عينه، ويأكل ملء بطنه، ويضحك ملء فمه، وبعد ذلك فليحصل ما يحصل إذا كثر هذا الصنف من الناس في مجتمع أو بلد أو أمة، فإن هذا مؤذن بخطر المسلم، لا ينبغي له أن يعيش لنفسه فحسب، فهذه عيشة الحيوانات والبهائم.
الأصل في المسلم، أن يعيش لغيره، لأنه لا ينظر فقط إلا عمر هذه الحياة الدنيا بل هو يعتقد بأمور وقضايا وراء هذا العالم المحسوس.الحثالة من الناس هم الذين يعيشون لأنفسهم ولا يفكرون إلا في ذواتهم لا يهمهم لو زاد المنكر، ولا يهمهم كذلك لو نقص الخير، لا يحزنون لو مات عالم، ولا يفرحون لو ولد عالم، الحثالة من الناس لا يتفاعلون مع أحداث الأمة، لا يقلقون لتغريب، ولا ينزعجون بتطبيع، فاحذر أخي المسلم أن تكون من هذه الحثالة، فإنك ما خلقت لتكون حثالة، وما أصبحت مسلماً وانتسبت إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون من حثالة الناس، بل الذي يطلبه منك الإسلام، أن تنظف المجتمع من الحثالة، لا أن تبقى معها، وتسير في ركابها.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من حال هذه الحثالة فقال: ((قد مرجت عهودهم وأماناتهم ـ أي اختلفت وفسدت ـ، لا عهد لهم ولا أمانة)).(/1)
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحال الذي يصل إليه الناس إذا فسد العهد، وفسدت الأمانة، بالاضطراب والتشابك وتعقد الأمور، فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه لكي يعطي تصوراً للواقع الذي تصل إليه الأمة، وأي سوء لواقع ولوضع لا يعرف فيه الأمين من الخائن، ولا يعرف البر من الفاجر، ولا الصالح من الكالح، أي مصيبة لوضع، تكثير فيه الخيانات، وتضعف فيه العهود على مختلف الطبقات والمستويات ويكثر فيه القيل والقال، يصل الحال إلى حد التشابك، التشابك في التصورات، والتشابك في الرؤية، والتشابك في معرفة العلاج لكثير من صور الخيانات ونقض العهود كيف يكون حال الأمة إذا أصبحت الخيانة هي السلعة الرائجة، وكيف حال مجتمع، يقدم فيه الخائن، ويؤخر الأمين.
حقاً: إنها لمأساة، ما أسوأه من حال، وما أفسده من وضع، ولهذا خاف الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يدرك ذلك الوضع، وحُق له أن يخاف، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المخرج والحل، وماذا يصنع عند ذاك. وفي رواية قال: فقمت إليه فقلت: (كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟) وهذا هو المطلوب من المسلم، أن يسأل أهل العلم، وأن يأخذ بآراء أهل الخبرة والفقه في الأمور، وأن يلجأ إلى العلماء في حال الفتن، واشتباك الأمور، ولا ينفرد هو برأيه وعقله.فماذا كان العلاج النبوي لذلك الصحابي الجليل حول مرج العهود والأمانات والتشابك والاضطراب في حال الناس.
قال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم))، إن هذه الوصفة النبوية، اشتملت على خمس فقرات، كل فقرة، تحتاج إلى خطبة مستقلة.
فأولاً: قال: اتق الله عز وجل.
والتقوى في مثل هذه الحالات هي العاصم بأمر الله عز وجل، التقوى: وصية الله للأولين والآخرين، وهل تظن أخي المسلم، أن من يحمل التقوى، تختلط عهودهم، هل من يحمل التقوى تحصل منه خيانة، لنفسه أو لدينه، أو لبلده، التقوى ليست كلمات تردد، ولا تسابيح تعد. التقوى أخي المسلم أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
التقوى هي العاصم إذا تداعت الخطوب وادلهمت الأمور، وضاقت المسالك: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، إذا اشتبكت الأمور بالتقوى هي الفرقان يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أكد على مسألة التقوى قال: خذ ما تعرف ودع ما تنكر. نعم خذ ما تعرف، والذي لا تعرف أو فيه شك فهذا دعه.
ما هي مشكلة الأمة الآن من حثالة الناس، المشكلة أن هذه الحثالة لا تتورع فيما تأخذ، ولا تتقي الله فيما تأخذ، هدفها الأخذ، شيء من الحلال، والباقي والغالب نسأل الله العافية من الحرام.
وهذا أخي المسلم، أحد النتائج المترتبة على المجتمع الذي قد اختلط وفسد فيه عهود الناس وأماناتهم، إذا قَلّت الأمانة عند الناس، أو انعدمت عند البعض الآخر، فإنه لا يتورع حينئذٍ فيما تأخذ وفيما تدع، كم في المجتمعات من أبرياء ومساكين، يشتكون أنهم قد سلبت حقوقهم، وأخذت أموالهم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى خذوا ما تعرفون، ودعوا ما تنكرون، وإياكم ثم إياكم من مواطن الشبهات، والقضايا المشكوك فيها، وما أكثرها في هذا الزمان، فكل لحم من السحت فالنار أولى به.
وأغلب الناس إنما يؤتون من باب المشتبهات وهي القضايا والأمور التي لا يتضح فيها الحلال من الحرام.ولهذا جاء التحذير النبوي من الخوض في مثل هذه الأمور ففيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)).
اعلم كذلك أخي المسلم، بأن ما تأخذ وما تدع لا ينحصر في الأمور المادية، فحسب، بل كن على حذر حتى في القضايا والأمور المعنوية فلا تأخذ إلا ما تعرف ودع ما تنكر، بل ينبغي الحذر فيها أكثر من الحذر في الماديات في بعض الأحيان.
فلا تأخذ من الأخلاق والأفكار والتصورات والمعاني إلا ما تعرف أنه من شريعة رب العالمين، وما سواه فدعه لأنه منكر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(/2)
أما بعد: ختم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصف العلاج لعبد الله بن عمرو بن العاص حال تشابك الأوضاع، واضطراب الأمور، وكثرة الفتن بقوله: ((وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) وفي رواية: ((وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة)). وهذا كلام بليغ شامل دقيق من المصطفى صلى الله عليه وسلم يمكنك أخي المسلم أن تلحظ من خلاله عدة إشارات:
الإشارة الأولى: إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن الأمة كلها أو أن المجتمع بأسره، يحصل له التشابك والاضطراب، وأن وصف الحثالة ينسحب على الجميع، هذا لا يمكن أبداً، هذا يفهم من قوله: ((وعليك بخاصتك)).
إذاً هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول الذي كان عليه عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذه الثلة، هم الذين يقاومون الحثالة في كل مجتمع وينهون عن الفساد في الأرض، وفي مثل هؤلاء، جاء التوجيه النبوي لذلك الصحابي ولنا أيضاً، أن نقبل على هؤلاء الخاصة ونذر أمر العامة حال التشابك وحال الفتن، وحال اضطراب الأمور والأوضاع ثم من الذين يحددون لنا ما نأخذ وما ندع، هم هؤلاء الخاصة، الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم راوي الحديث بأن يقبل عليهم، وأن يكون معهم، ويلتفت حولهم، ويسير في ركابهم بقوله: ((وعليك بخاصتك)).
الإشارة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأن هناك خاصة، فهناك خاصة للمؤمنين، وهناك خاصة لطلبة العلم، وهناك خاصة للدعاة، وهناك خاصة لأهل الخير والاستقامة كما أن هناك خاصة لأهل الشر والفساد، وهناك خاصة للمجرمين وهكذا، لكن كما تلاحظ في الحديث بأن توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون قريباً من الصنف الأول، وهم الخاصة من المؤمنين، والخاصة من أهل الدين والعلم والدعوة والخير والهدى، لكي ينتفع بعلمهم، ولكي يزداد إيماناً بالجلوس معهم، ولكي يعينوه على نفسه حال تشابك الأمور، واضطراب الأوضاع وكثرة الفتن.
إن هؤلاء الخاصة هم الذين يقيمون الحجة على العالمين.
إن هؤلاء الخاصة، يجدون من الروح والسعادة والإيمان مالا يجده غيرهم.
إن هؤلاء الخاصة الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يقبل عليهم هم زبدة أهل الأرض، وهم طيبها، وهم مصدر الخير والبركة والأمن، وأما العوام فهم تبع لهم.
ثم إن هؤلاء الخاصة وإن كانوا قلة في عددهم لكنهم كثرة بإيمانهم وبإخلاصهم وصدقهم ودعوهم قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
الإشارة الثالثة: ((ودع عنك أمر العامة)). فليس كل ما عند العامة صحيح وصواب ولا تنخدع بالكثرة، فإن الصواب يعرف من الكتاب والسنة، لا مما عليه العامة، وبهذا تعلم فساد بعض الاصطلاحات الشائعة عند الناس كقولهم: الموت مع الجماعة رحمة، أو إذا كان كل الناس وكل المجتمع وكل البلد أو كل الأهل يفعلون كذا فأنا واحد منهم، هذا ليس بصواب، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ودع عنك أمر العامة)).
وفي المقابل جاء التوجيه بالإقبال على الخاصة.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا...(/3)
شرح حديث كيف أنت يا عبد الله
ملخص الخطبة
1- نص الحديث. 2- كثرة الحثالة في آخر الزمان. 3- ماذا يصنع المسلم إذا فشت المنكرات وكثرت الحثالة.
الخطبة الأولى
أما بعد: بين فترة وأخرى، نختار حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونقف عنده، وسبق أن ذكرنا، بأن كل حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يناسب أن يكون موضوع خطبة أو محاضرة أو درس يقدم للناس. فمن كلامه يمكن أن يتعرف الناس على واقعهم، ومقدار القرب والبعد عما يريده الله منهم.
حديثنا، هذا اليوم، هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد وبسند صحيح، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة الناس؟)) قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: ((إذا مَرِجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه))، قال قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)).
ومن عجيب فقه الإمام البخاري رحمه الله تعالى أنه أورد هذا الحديث تعليقاً في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
ورواية الإمام أبي داود في كتاب الملاحم.
قال: ((كيف بكم وبزمان، أو يوشك أن يأتي زمان، يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه))، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله، فقال: ((تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم)).
وفي رواية: قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا))، وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فِداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)).
أول نقطة في هذا الحديث العظيم، ينبغي الوقوف عنده: قوله: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)).
الحثالة: هي التي في آخر الإناء.
والحثالة: هو الرديء من كل شيء، فحثالة التمر هو أردؤه، وما لا خير فيه. وكذلك الحثالة من الناس، هم أراذل الناس وشرارهم وسفلتهم، وهم الذين لا خير فيهم.
نعم أيها الأحبة، إن فئة من الناس قد يصلون، إلى هذا الأمر، الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، حثالة من الناس. ولا أظنك أخي المسلم، محتاج إلى كبير جهد، لكي تجد بعض أفراد هذا الصنف من الناس، ومع كل أسف، فإن هذه الحثالة بدأت تنمو، وتزداد، وتتكاثر، حثالة في كل طبقة.وحثالة في كل ناحية، هذه الحثالة لا يهمها أمر الناس، لا يهمها إصلاح وضع، ولا يهمها إزالة خطأ، ولا يهمها نشر وعي وخير بين الناس، لأنهم حثالة، يعيشون لبطونهم، ويعيشون لشهواتهم ولا يهمهم إلا أنفسهم، المهم أن يبقى ويأكل ويشبع ويجمع وما سوى ذلك، فليس في تفكيره، كم أيها الأحبة ممن نعرف وممن لا نعرف بهذه الصفة. لا تهتم الواقع، ولا يؤلمها آلام الغير، ولا تكترث لأحد، ينام ملء عينه، ويأكل ملء بطنه، ويضحك ملء فمه، وبعد ذلك فليحصل ما يحصل إذا كثر هذا الصنف من الناس في مجتمع أو بلد أو أمة، فإن هذا مؤذن بخطر المسلم، لا ينبغي له أن يعيش لنفسه فحسب، فهذه عيشة الحيوانات والبهائم.
الأصل في المسلم، أن يعيش لغيره، لأنه لا ينظر فقط إلا عمر هذه الحياة الدنيا بل هو يعتقد بأمور وقضايا وراء هذا العالم المحسوس.الحثالة من الناس هم الذين يعيشون لأنفسهم ولا يفكرون إلا في ذواتهم لا يهمهم لو زاد المنكر، ولا يهمهم كذلك لو نقص الخير، لا يحزنون لو مات عالم، ولا يفرحون لو ولد عالم، الحثالة من الناس لا يتفاعلون مع أحداث الأمة، لا يقلقون لتغريب، ولا ينزعجون بتطبيع، فاحذر أخي المسلم أن تكون من هذه الحثالة، فإنك ما خلقت لتكون حثالة، وما أصبحت مسلماً وانتسبت إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون من حثالة الناس، بل الذي يطلبه منك الإسلام، أن تنظف المجتمع من الحثالة، لا أن تبقى معها، وتسير في ركابها.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من حال هذه الحثالة فقال: ((قد مرجت عهودهم وأماناتهم ـ أي اختلفت وفسدت ـ، لا عهد لهم ولا أمانة)).(/1)
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحال الذي يصل إليه الناس إذا فسد العهد، وفسدت الأمانة، بالاضطراب والتشابك وتعقد الأمور، فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه لكي يعطي تصوراً للواقع الذي تصل إليه الأمة، وأي سوء لواقع ولوضع لا يعرف فيه الأمين من الخائن، ولا يعرف البر من الفاجر، ولا الصالح من الكالح، أي مصيبة لوضع، تكثير فيه الخيانات، وتضعف فيه العهود على مختلف الطبقات والمستويات ويكثر فيه القيل والقال، يصل الحال إلى حد التشابك، التشابك في التصورات، والتشابك في الرؤية، والتشابك في معرفة العلاج لكثير من صور الخيانات ونقض العهود كيف يكون حال الأمة إذا أصبحت الخيانة هي السلعة الرائجة، وكيف حال مجتمع، يقدم فيه الخائن، ويؤخر الأمين.
حقاً: إنها لمأساة، ما أسوأه من حال، وما أفسده من وضع، ولهذا خاف الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يدرك ذلك الوضع، وحُق له أن يخاف، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المخرج والحل، وماذا يصنع عند ذاك. وفي رواية قال: فقمت إليه فقلت: (كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟) وهذا هو المطلوب من المسلم، أن يسأل أهل العلم، وأن يأخذ بآراء أهل الخبرة والفقه في الأمور، وأن يلجأ إلى العلماء في حال الفتن، واشتباك الأمور، ولا ينفرد هو برأيه وعقله.فماذا كان العلاج النبوي لذلك الصحابي الجليل حول مرج العهود والأمانات والتشابك والاضطراب في حال الناس.
قال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم))، إن هذه الوصفة النبوية، اشتملت على خمس فقرات، كل فقرة، تحتاج إلى خطبة مستقلة.
فأولاً: قال: اتق الله عز وجل.
والتقوى في مثل هذه الحالات هي العاصم بأمر الله عز وجل، التقوى: وصية الله للأولين والآخرين، وهل تظن أخي المسلم، أن من يحمل التقوى، تختلط عهودهم، هل من يحمل التقوى تحصل منه خيانة، لنفسه أو لدينه، أو لبلده، التقوى ليست كلمات تردد، ولا تسابيح تعد. التقوى أخي المسلم أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
التقوى هي العاصم إذا تداعت الخطوب وادلهمت الأمور، وضاقت المسالك: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، إذا اشتبكت الأمور بالتقوى هي الفرقان يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أكد على مسألة التقوى قال: خذ ما تعرف ودع ما تنكر. نعم خذ ما تعرف، والذي لا تعرف أو فيه شك فهذا دعه.
ما هي مشكلة الأمة الآن من حثالة الناس، المشكلة أن هذه الحثالة لا تتورع فيما تأخذ، ولا تتقي الله فيما تأخذ، هدفها الأخذ، شيء من الحلال، والباقي والغالب نسأل الله العافية من الحرام.
وهذا أخي المسلم، أحد النتائج المترتبة على المجتمع الذي قد اختلط وفسد فيه عهود الناس وأماناتهم، إذا قَلّت الأمانة عند الناس، أو انعدمت عند البعض الآخر، فإنه لا يتورع حينئذٍ فيما تأخذ وفيما تدع، كم في المجتمعات من أبرياء ومساكين، يشتكون أنهم قد سلبت حقوقهم، وأخذت أموالهم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى خذوا ما تعرفون، ودعوا ما تنكرون، وإياكم ثم إياكم من مواطن الشبهات، والقضايا المشكوك فيها، وما أكثرها في هذا الزمان، فكل لحم من السحت فالنار أولى به.
وأغلب الناس إنما يؤتون من باب المشتبهات وهي القضايا والأمور التي لا يتضح فيها الحلال من الحرام.ولهذا جاء التحذير النبوي من الخوض في مثل هذه الأمور ففيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)).
اعلم كذلك أخي المسلم، بأن ما تأخذ وما تدع لا ينحصر في الأمور المادية، فحسب، بل كن على حذر حتى في القضايا والأمور المعنوية فلا تأخذ إلا ما تعرف ودع ما تنكر، بل ينبغي الحذر فيها أكثر من الحذر في الماديات في بعض الأحيان.
فلا تأخذ من الأخلاق والأفكار والتصورات والمعاني إلا ما تعرف أنه من شريعة رب العالمين، وما سواه فدعه لأنه منكر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(/2)
أما بعد: ختم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصف العلاج لعبد الله بن عمرو بن العاص حال تشابك الأوضاع، واضطراب الأمور، وكثرة الفتن بقوله: ((وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) وفي رواية: ((وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة)). وهذا كلام بليغ شامل دقيق من المصطفى صلى الله عليه وسلم يمكنك أخي المسلم أن تلحظ من خلاله عدة إشارات:
الإشارة الأولى: إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن الأمة كلها أو أن المجتمع بأسره، يحصل له التشابك والاضطراب، وأن وصف الحثالة ينسحب على الجميع، هذا لا يمكن أبداً، هذا يفهم من قوله: ((وعليك بخاصتك)).
إذاً هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول الذي كان عليه عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذه الثلة، هم الذين يقاومون الحثالة في كل مجتمع وينهون عن الفساد في الأرض، وفي مثل هؤلاء، جاء التوجيه النبوي لذلك الصحابي ولنا أيضاً، أن نقبل على هؤلاء الخاصة ونذر أمر العامة حال التشابك وحال الفتن، وحال اضطراب الأمور والأوضاع ثم من الذين يحددون لنا ما نأخذ وما ندع، هم هؤلاء الخاصة، الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم راوي الحديث بأن يقبل عليهم، وأن يكون معهم، ويلتفت حولهم، ويسير في ركابهم بقوله: ((وعليك بخاصتك)).
الإشارة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأن هناك خاصة، فهناك خاصة للمؤمنين، وهناك خاصة لطلبة العلم، وهناك خاصة للدعاة، وهناك خاصة لأهل الخير والاستقامة كما أن هناك خاصة لأهل الشر والفساد، وهناك خاصة للمجرمين وهكذا، لكن كما تلاحظ في الحديث بأن توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون قريباً من الصنف الأول، وهم الخاصة من المؤمنين، والخاصة من أهل الدين والعلم والدعوة والخير والهدى، لكي ينتفع بعلمهم، ولكي يزداد إيماناً بالجلوس معهم، ولكي يعينوه على نفسه حال تشابك الأمور، واضطراب الأوضاع وكثرة الفتن.
إن هؤلاء الخاصة هم الذين يقيمون الحجة على العالمين.
إن هؤلاء الخاصة، يجدون من الروح والسعادة والإيمان مالا يجده غيرهم.
إن هؤلاء الخاصة الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يقبل عليهم هم زبدة أهل الأرض، وهم طيبها، وهم مصدر الخير والبركة والأمن، وأما العوام فهم تبع لهم.
ثم إن هؤلاء الخاصة وإن كانوا قلة في عددهم لكنهم كثرة بإيمانهم وبإخلاصهم وصدقهم ودعوهم قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
الإشارة الثالثة: ((ودع عنك أمر العامة)). فليس كل ما عند العامة صحيح وصواب ولا تنخدع بالكثرة، فإن الصواب يعرف من الكتاب والسنة، لا مما عليه العامة، وبهذا تعلم فساد بعض الاصطلاحات الشائعة عند الناس كقولهم: الموت مع الجماعة رحمة، أو إذا كان كل الناس وكل المجتمع وكل البلد أو كل الأهل يفعلون كذا فأنا واحد منهم، هذا ليس بصواب، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ودع عنك أمر العامة)).
وفي المقابل جاء التوجيه بالإقبال على الخاصة.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا...(/3)
شكاوى وحلول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )
أما بعد :
فقد وردت إليّ أسئلة من بعض الإخوان في بعض الدروس والمحاضرات تتضمن أموراً مما يُعانون ومشكلات مما يواجهون من أمراض قلبية ومصاعب نفسية وعقبات واقعية .
وكانت الإجابات عن تلك الأسئلة المكتوبة والمشكلات المعروضة في سلسلة دروس بعنوان شكاوى وحلول .
وقد أعدت النظر فيها بعد إعدادها للكتابة وأقدمها اليوم إلى إخواني رجاء الدخول في حديثه صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ) صحيح مسلم والله أسأل أن يوفقني وإخواني المسلمين لفعل الخيرات واجتناب السيئات والنجاة يوم الحسرات إنه خير مسؤول وهو كل شيء قدير .
النوم عن صلاة الفجر
أخ يشتكي ويقول : إن صلاة الفجر تفوتني في كثير من الأيام ، فلا أصليها في وقتها إلا نادراً ، والغالب ألا أستيقظ إلا بعد طلوع الشمس ، أو بعد فوات صلاة الجماعة في أحسن الأحوال ، وقد حاولت الاستيقاظ بدون جدوى ، فما حل هذه المشكلة ؟ .
الجواب : الحمد لله حمداً كثيراً وبعد : فإن حل هذه المشكلة – كغيرها – له جانبان : جانب علمي ، وجانب عملي .
أما الجانب العلمي فيأتي من ناحيتين :
الناحية الأولى : أن يعلم المسلم عظمة مكانة صلاة الفجر عند الله عز وجل ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله ) مسلم ص 454 رقم 656 ، الترمذي 221 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ) رواه الإمام أحمد المسند 2/424 ، وهو في صحيح الجامع 133 ، وقال : ( من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته ) ومعنى في ذمة الله : أي في حفظه وكلاءته سبحانه ، " من كتاب النهاية 2/168" والحديث رواه الطبراني 7/267 ، وهو في صحيح الجامع رقم 6344 . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون ) رواه البخاري الفتح 2/33 .
وفي الحديث الآخر : ( أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة ، في جماعة ) رواه أبو نعيم في الحلية 7/207 ، وفي السلسلة الصحيحة 1566 . وفي الحديث الصحيح : ( من صلّى البردين دخل الجنة ) رواه البخاري الفتح 2/52 . والبردان الفجر والعصر .
الناحية الثانية : أن يعلم المسلم خطورة تفويت صلاة الفجر ومما يبين هذه الخطورة الحديث المتقدم :
( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ) وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن ) رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/271 ، قال الهيثمي رجال الطبراني موثقون المجمع 2/40 . وإنما تكون إساءة الظن بذلك المتخلف عن هاتين الصلاتين لأن المحافظة عليهما معيار صدق الرجل وإيمانه ، ومعيار يقاس به إخلاصه ، ذلك أن سواهما من الصلوات قد يستطيعها المرء لمناسبتها لظروف العمل ووقت الاستيقاظ ، في حين لا يستطيع المحافظة على الفجر والعشاء مع الجماعة إلا الحازم الصادق الذي يُرجى له الخير .
ومن الأحاديث الدالة على خطورة فوات صلاة الفجر قوله صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء ، فإن من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم ) رواه مسلم ص 454 ، ومعنى من يطلبه من ذمته بشيء يدركه أي من يطلبه الله للمؤاخذة بما فرط في حقه والقيام بعهده يدركه الله إذ لا يفوت منه هارب ، حاشية صحيح مسلم ترتيب عبد الباقي 455 .
هاتان الناحيتان كفيلتان بإلهاب قلب المسلم غيرة ، أن تضيع منه صلاة الفجر فالأولى منهما تدفع للمسارعة في الحصول على ثواب صلاة الفجر ، والثانية هي واعظ وزاجر يمنعه من إيقاع نفسه في إثم التهاون بها .(/1)
وأما الجانب العملي في علاج هذه الشكاية فإن هناك عدة خطوات يمكن للمسلم إذا اتبعها أن يزداد اعتياداً ومواظبة على صلاة الفجر مع الجماعة ، فمن ذلك :
1-التبكير في النوم : ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها ، فلا ينبغي للمسلم أن ينام قبل صلاة العشاء والمُشاهد أن غالب الذين ينامون قبل العشاء يمضون بقية ليلتهم في خمول وكدر وحال تشبه المرضى .
ولا ينبغي كذلك أن يتحدث بعد صلاة العشاء ، وقد بين أهل العلم سبب كراهية الحديث بعدها فقالوا : لأنه يؤدي إلى السهر ، ويُخاف من غلبة النوم عن قيام الليل ، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو المختار أو الفاضل .
والمكروه من الحديث بعد صلاة العشاء كما قال الشراح : هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة راجحة فيها ، أما ما كان فيه مصلحة وخير فلا يكره ، كمدارسة العلم ، ومعرفة سير الصالحين وحكايتهم ، ومحادثة الضيف ، ومؤانسة الزوجة والأولاد وملاطفتهم ، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم وأنفسهم ، إلى آخر ذلك من الأسباب المباحة . فما الحال إذا تفكرنا فيما يسهر من أجله كثير من الناس اليوم من المعاصي والآثام إذن فعلى المسلم أن ينام مبكراً ، ليستيقظ نشيطاً لصلاة الفجر ، وأن يحذر السهر الذي يكون سبباً في تثاقله عن صلاة الفجر مع الجماعة .
حقاً إن الناس يتفاوتون في الحاجة إلى النوم ، وفي المقدار الذي يكفيهم منه ، فلا يمكن تحديد ساعات معينة يُفرض على الناس أن يناموا فيها ، لكن على كل واحد أن يلتزم بالوقت الكافي لنوم يستيقظ بعده لصلاة الفجر نشيطاً ، فلو علم بالتجربة والعادة أنه لو نام بعد الحادية عشر ليلاً مثلاً لم يستيقظ للصلاة ، فإنه لا يجوز له شرعاً أن ينام بعد هذه الساعة .. وهكذا .
2- الحرص على الطهارة وقراءة الأذكار التي قبل النوم ، فإنها تعين على القيام لصلاة الفجر .
3- صدق النية والعزيمة عند النوم على القيام لصلاة الفجر ، أما الذي ينام وهو يتمنى ألا تدق الساعة المنبهة ، ويرجو ألا يأتي أحد لإيقاظه ، فإنه لن يستطيع بهذه النية الفاسدة أن يصلي الفجر ، ولن يفلح في الاستيقاظ لصلاة الفجر وهو على هذه الحال من فساد القلب وسوء الطوية .
4- ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ مباشرة ، فإن بعض الناس قد يستيقظ في أول الأمر ، ثم يعاود النوم مرة أخرى ، أما إذا بادر بذكر الله أول استيقاظه انحلت عقدة من عُقد الشيطان ، وصار ذلك دافعاً له للقيام ، فإذا توضأ اكتملت العزيمة وتباعد الشيطان ، فإذا صلّى أخزى شيطانه وثقل ميزانه وأصبح طيب النفس نشيطاً .
5- لا بد من الاستعانة على القيام للصلاة بالأهل والصالحين ، والتواصي في ذلك ، وهذا داخل بلا ريب في قوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وفي قوله ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )
فعلى المسلم : أن يوصي زوجته مثلاً بأن توقظه لصلاة الفجر ، وأن تشدد عليه في ذلك ، مهما كان متعباً أو مُرهقاً ، وعلى الأولاد أن يستعينوا بأبيهم مثلاً في الاستيقاظ ، فينبههم من نومهم للصلاة في وقتها ، ولا يقولن أب إن عندهم اختبارات ، وهم متعبون ، فلأدعهم في نومهم ، إنهم مساكين ، لا يصح أن يقول ذلك ولا أن يعتبره من رحمة الأب وشفقته ، فإن الرحمة بهم والحدَبَ عليهم هو في إيقاظهم لطاعة الله : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها )
وكما يكون التواصي والتعاون على صلاة الفجر بين الأهل ، كذلك يجب أن يكون بين الإخوان في الله ، فيعين بعضهم بعضاً ، مثل طلبة الجامعات الذين يعيشون في سكن متقارب ومثل الجيران في الأحياء ، يطرق الجار باب جاره ليوقظه للصلاة ، ويعينه على طاعة الله .
6- أن يدعو العبد ربه أن يوفقه للاستيقاظ لأداء صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإن الدعاء من أكبر وأعظم أسباب النجاح والتوفيق في كل شيء .
7- استخدام وسائل التنبيه ، ومنها الساعة المنبهة ، ووضعها في موضع مناسب ، فبعض الناس يضعها قريباً من رأسه فإذا دقت أسكتها فوراً وواصل النوم ، فمثل هذا يجب عليه أن يضعها في مكان بعيد عنه قليلاً ، لكي يشعر بها فيستيقظ .
ومن المنبهات ما يكون عن طريق الهاتف ، ولا ينبغي للمسلم أن يستكثر ما يدفعه مقابل هذا التنبيه ، فإن هذه نفقة في سبيل الله ، وأن الاستيقاظ لإجابة أمر الله لا تعدله أموال الدنيا .
8- نضح الماء في وجه النائم ، كما جاء في الحديث من مدح الرجل الذي يقوم من الليل ليصلي ، ويوقظ زوجته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ومدح المرأة التي تقوم من الليل وتوقظ زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء رواه الإمام أحمد في المسند 2/250 وهو في صحيح الجامع 3494 .(/2)
فنضح الماء من الوسائل الشرعية للإيقاظ ، وهو في الواقع منشط ، وبعض الناس قد يثور ويغضب عندما يوقظ بهذه الطريقة ، وربما يشتم ويسب ويتهدد ويتوعد ، ولهذا فلا بد أن يكون الموقظ متحلياً بالحكمة والصبر ، وأن يتذكر أن القلم مرفوع عن النائم ، فليتحمل منه الإساءة ، ولا يكن ذلك سبباً في توانيه عن إيقاظ النائمين للصلاة .
9- عدم الانفراد في النوم ، فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت الرجل وحده رواه الإمام أحمد في المسند 2/91 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 60 . ولعل من حِكم هذا النهي أنه قد يغلبه النوم فلا يكون عنده من يوقظه للصلاة .
10- عدم النوم في الأماكن البعيدة التي لا يخطر على بال الناس أن فلاناً نائماً فيها ، كمن ينام في سطح المنزل دون أن يخبر أهله أنه هناك ، وكمن ينام في غرفة نائية في المنزل أو الإسكان الجماعي فلا يعلم به أحد ليوقظه للصلاة ، بل يظن أهله وأصحابه أنه في المسجد ، وهو في الحقيقة يغّط في نومه .
فعلى من احتاج للنوم في مكان بعيد أن يخبر من حوله بمكانه ليوقظوه .
11- الهمة عند الاستيقاظ ، بحيث يهب من أول مرة ، ولا يجعل القيام على مراحل ، كما يفعل بعض الناس الذين قد يتردد الموقظ على أحدهم مرات عديدة ، وهو في كل مرة يقوم فإذا ذهب صاحبه عاد إلى الفراش ، وهذا الاستيقاظ المرحلي فاشل في الغالب ، فلا مناص من القفزة التي تحجب عن معاودة النوم .
12- ألا يضبط المنبه على وقت متقدم عن وقت الصلاة كثيراً ، إذا علم من نفسه أنه إذا قام في هذا الوقت قال لنفسه : لا يزال معي وقت طويل ، فلأرقد قليلاً ، وكل أعلم بسياسة نفسه .
13- إيقاد السراج عند الاستيقاظ ، وفي عصرنا الحاضر إضاءة المصابيح الكهربائية ، فإن لها تأثيراً في طرد النعاس بنورها .
14- عدم إطالة السهر ولو في قيام الليل ، فإن بعض الناس قد يطيل قيام الليل ، ثم ينام قبيل الفجر بلحظات ، فيعسر عليه الاستيقاظ لصلاة الفجر ، وهذا يحدث كثيراً في رمضان ، حيث يتسحرون وينامون قُبيل الفجر بقليل ، فيضيعون صلاة الفجر ، ولا ريب أن ذلك خطأ كبير ؛ فإن صلاة الفريضة مقدمة على النافلة ، فضلاً عمن يسهر الليل في غير القيام من المعاصي والآثام ، أو المباحات على أحسن الأحوال ، وقد يزين الشيطان لبعض الدعاة السهر لمناقشة أمورهم ثم ينامون قبل الفجر فيكون ما أضاعوا من الأجر أكثر بكثير مما حصلوا .
15- عدم إكثار الأكل قبل النوم فإن الأكل الكثير من أسباب النوم الثقيل ، ومن أكل كثيراً ، تعب كثيراً ، ونام كثيراً ، فخسر كثيراً ، فليحرص الإنسان على التخفيف من العشاء .
16- الحذر من الخطأ في تطبيق سنة الاضطجاع بعد راتبة الفجر ، فربما سمع بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلّى أحدكم فليضطجع على يمينه ) رواه الترمذي رقم 420 وهو في صحيح الجامع 642 . وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى سنة الفجر يضطجع ، ثم يُؤذنه بلال للصلاة ، فيقوم للصلاة ، وربما سمعوا هذه الأحاديث ، فعمدوا إلى تطبيق هذه السنة الثابتة ، فلا يحسنون التطبيق ، بحيث يصلي أحدهم سنة الفجر ، ثم يضطجع على جنبه الأيمن ، ويغط في سبات عميق حتى تطلع الشمس ، وهذا من قلة الفقه في هذه النصوص ، فليست هذه الاضطجاعة للنوم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بلال للصلاة وهو مضطجع ، وكان أيضاً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وابن حبان إذا عرس ( قبل ) الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى ، وأقام ساعده رواه أحمد في المسند 5/298 وهو في صحيح الجامع رقم 4752 ، وهذه الكيفية في النوم تمنع من الاستغراق ؛ لأن رأس النائم في هذه الحالة يكون مرفوعاً على كفه وساعده ، فإذا غفا سقط رأسه ، فاستيقظ ، زد على ذلك أن بلالاً كان موكلاً بإيقاظه صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر .
17- جعل قيام الليل في آخره قبيل الفجر ، بحيث إذا فرغ من الوتر أذن للفجر ، فتكون العبادات متصلة ، وتكون صلاة الليل قد وقعت في الثلث الأخير - وهو زمان فاضل – فيمضي لصلاة الفجر مباشرة وهو مبكر ونشيط .
18- اتباع الهدي النبوي في كيفية الاضطجاع عند النوم ، بحيث ينام على جنبه الأيمن ، ويضع خده الأيمن على كفه اليمنى ، فإن هذه الطريقة تيسر الاستيقاظ ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف النوم بكيفيات أخرى ، فإنها تؤثر في صعوبة القيام .
19- أن يستعين بالقيلولة في النهار ، فإنها تعينه ، وتجعل نومه في الليل معتدلاً ومتوازناً .
20- ألا ينام بعد العصر ، ولا بعد المغرب ، لأن هاتين النومتين تسببان التأخر في النوم ، من تأخر نومه تعسر استيقاظه .
21- وأخيراً فإن الإخلاص لله تعالى هو خير دافع للإنسان للاستيقاظ للصلاة ، وهو أمير الأسباب والوسائل المعينة كلها ، فإذا وجد الإخلاص الذي يلهب القلب ويوقظ الوجدان ، فهو كفيل بإذن بإيقاظ صاحبه لصلاة الصبح مع الجماعة ، ولو نام قبل الفجر بدقائق معدوادات .(/3)
ولقد حمل الإخلاص والصدق بعض الحريصين على الطاعة على استعمال وسائل عجيبة تعينهم على الاستيقاظ تدل على اجتهادهم وحرصهم وتفانيهم ، فمن ذلك أن أحدهم كان يضع عنده عدة ساعات منبهة إذا نام ، ويجعل بين موعد تنبيه كل واحدة والأخرى بضع دقائق ، حتى إذا أطفأ التي دقت أولاً دقت الثانية بعدها بقليل وهكذا ، وكان أحدهم يربط في يده عند النوم خيطاً ، ويدليه من نافذة غرفته ، فإذا مر أحد أصحابه ذاهباً إلى المسجد جذب هذا الخيط فيستيقظ لصلاة الفجر .
فانظر يا رعاك الله ماذا يفعل الإخلاص والتصميم ، ولكن الحقيقة المرة هي أن ضعف الإيمان ، وقلة الإخلاص تكاد تكون ظاهرة متفشية في الناس اليوم ، والشاهد على ذلك ما نراه من قلة المصلين ونقص الصفوف في صلاة الفجر ، بالرغم من كثرة الساكنين حول المسجد في كثير من الأحياء .
على أننا لا ننكر أن هناك أفراداً يكون ثقل النوم عندهم أمراً مرضياً قد يُعذرون به ، لأنه أمر خارج عن الإرادة فمثل هذا عليه أن يلجأ إلى الله بالتضرع ، ويستفيد ما استطاع من الوسائل الممكنة ، وأن يراجع الطبيب لمحاولة إيجاد علاج .
وأخيراً هذا تنبيه على أمر مشتهر بين الناس وهو زعمهم بأن هناك حديثاً مفاده أنّ من أراد الاستيقاظ لصلاة الفجر فعليه أن يقرأ قبل النوم آخر سورة الكهف ، وينوي بقلبه القيام في ساعة معينة ، فيقوم ، ويزعمون أن ذلك مجرب ، ونقول لهم : إنه لم يثبت بذلك حديث ، فلا عبرة به ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
كثرة الضحك
وهذه شكوى من ظاهرة كثرة الضحك بين الناس ، وبخاصة الشباب يقول السائل :
مجالسنا التي نجلس فيها مع الإخوان والزملاء يكثر فيها الضحك كثرة مفرطة ، وهذه الظاهرة تتفشى وتنتشر فما هو العلاج ؟ .
الجواب : إن علاج هذه الشكوى يأتي من جانبين : جانب علمي ، وجانب عملي .
أما الجانب العلمي : فيضمن أمرين :
أولها : أن نعلم كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك ، فهو خير قدوة في ذلك وفي كل شيء .
فقد ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ان لا يضحك إلا تبسماً رواه أحمد في المسند 5/97 وهو في صحيح الجامع 4861 . في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت قليل الضحك . رواه أحمد في المسند 5/86 وهو في صحيح الجامع 4822 . وقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً ، حتى أرى منه لهواته وإنما كان يتبسم . رواه أبو داود رقم 5098
ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تكثروا الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه رقم 4193 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 506 . وفي رواية : ( فإن كثرة الضحك فساد القلب ) وإن من التفريط بعد ذلك أن يركب المسلم ثبجاً يعلم أن فيه العطب .
هذا هو الجانب العملي في الحل بإيجاز .
وقبل الدخول في الجانب العملي لا بد أن نعلم أن الضحك ليس أمراً محرماً أو أن المسلم لا بد أن يكون عبوساً خشناً مكفهر الوجه ؛ فإن الضحك أمر جبلي طبعي : ( وأنه هو أضحك وأبكى ) ولكن المشكلة التي نحن بصدد علاجها والتحذير من آثارها .
- هي أن تكون المجالس مدوية بالقهقهات المتجاوبة .
- هي أن يُفسد المؤمن قلبه بكثرة الضحك وفغر الفم ، بدلاً من أن يكون جاداً سليماً .
- هي أن يجعل الداعية كثرة إضحاك الناس وسيلة كما يزعم لكسب الناس ، من أجل التأثير عليهم وإفادتهم ، وما علم أنهم يلتفون حوله ليضحكوا فقط ، وما أقل استفادتهم منه .
إن المشكلة هي أن يجعل بعض الناس كثرة الضحك متنفساً له من همومه وكروبه ، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أذكر أن شاباً كان يعاني يوماً من هموم تخلفه في دراسته ، ومشكلاته مع أهله ، وغير ذلك ، فخرج من بيته ، فصادفه في الطريق أخ له ، فقال : أين أنت ذاهب ؟ فقال : أنا مهموم مغموم ، وسأذهب إلى فلان الفلاني ، لكي يضحكني وينسيني أحزاني .. هكذا قال ، وما شعر أن إضحاك هذا الشخص له إنما هو بمثابة المخدر ، يُنسي المرء أتراحه ما دام تحت تأثيره ، فإذا انتهى عادت إليه كما كانت .
وكان خليقاً ألا يغفل عن العلاج النبوي للهم والحزن والكرب ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى صحيح الجامع 4703 وكان إذا كربه أمر قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) صحيح الجامع 4777 وفي الحديث الصحيح الآخر : كان إذا نزل به هم أو غم قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، الله ربي ولا أشرك به شيئاً ) صحيح الجامع 4791 .
وفي دعاء الهم والغم المشهور : ( اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك .. الخ الحديث )
وهذه وطاءة لابد من الإلمام بها قبل الخوض في الجانب العملي في مداواة ظاهرة الإفراط في الضحك ، ذلك الجانب الذي يمكن تحقيقه بوسائل منها :(/4)
1- تذكر الموت ، والقبر ، واليوم الآخر ، وما فيه من الحساب ، الصراط والنار ، وسائر الأهوال ، وتربية هذا التذكر بتدبر النصوص التي تصور هذه المشاهد ، وبالقراءة في شرح تفاصيلها ، وبمجالسة أهل الزهد والقلوب اللينة .
2- التأمل في واقع المسلمين ، وما يعانون منه من ابتعاد عن الدين ، وتخلف في جميع المجالات ، وما يتعرضون له من قهر وإيذاء وإبادة شرسة ، وما يحاك حولهم من تآمر عالمي ، فإذا تأمل المسلم هذه الأحوال تأملاً عميقاً صادقاً ، فلا بد أن يكون له أثر في ضحكه وبكائه .
3- أن يستشعر ثقل الأمانة الملقاة على عاتقه تجاه أمته ، فإن أمته تتطلب جهوداً ضخمة لإنقاذهما من أوهاق التردّي والسقوط ، فإذا جعل هذا الأمر همه فإنه سيمضي شُعلة من النشاط لإصلاح أهله وأصدقائه وأحبابه ومجتمعه بقدر المستطاع ، ولن يجد وقتا للتهريج المقيت ، والضحك الكثير والاهتمامات التافهة .
4- تجنب مخالطة الشخصيات الهزلية المعروفة بكثرة الإضحاك والتهريج ، والابتعاد عن المجالس التي تكون فيها ، مع محاولة النصح لهم ولمجالسيهم .
ومرت قبل قليل إشارة إلى أن بعض الدعاة قد يجعل الإضحاك وسيلة لكسب الناس ، حتى قال بعض العامة أين الشيخ الذي يضحك ؟ نريد الشيخ الذي يضحك وهذه دركة نربأ بالأمة أن تهوي فيها ، فإن دين الله عظيم متين : ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) وفي الحديث : ( لو تعلمون ما أعلم ؟ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ) لو أننا أدركنا حق الإدراك ماذا يراد منا ، وماذا أمامنا ، لما اكتحلت أجفاننا بنوم هنيء .
5- أن يجتهد في رد الضحك ما استطاع عن نفسه وعن غيره فقد يجتمع المجلس مع القوم تعودوا أن يكون غالب وقتهم ضحكاً وقهقهة ، فعليه أولاً أن يكظم الضحك عن نفسه كما يرد التثاؤب ، وثانياً أن يرشد الحاضرين ويُعينهم على أنفسهم ، وهذا يحتاج إلى رجل جاد حازم لبق ، والناس ولله الحمد فيهم خير كثير ، واستعداداً للاستجابة لداعي الإصلاح والتقويم ، وهذا الإرشاد يمكن أن تُسلك إليه سبل مختلفة : كأن تذكر لهم مساوئ الضحك والإضحاك ، مثل أنه يقود إلى الكذب والاختلاق ، حيث يضطر "المهرج" إذا لم يجد قصة أو حادثة حقيقة إلى صناعة قصص من نسج الخيال ، ليجعلها مادة للإضحاك ، وهذا الشخص قد توعده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم .. ويل له ، ويل له ) صحيح الجامع 7136 . كما أن من مساوئه أنه يؤدي إلى اهتزاز الشخصية وسقوطها من الأعين ، فإن مُضحك القوم وإن ظهر له أنه ذو مكانة بينهم ليس إلا محتقراً لديهم ، ولا يقدرونه ولا يوقرونه ، وقل مثل ذلك في الذي لا تراه إلا مغرقاً من الضحك .
6- تغيير الموضوع الذي قاد إلى الضحك إلى موضوع آخر مفيد ، فإذا رأيت أن الحاضرين قد تجاوزوا حدّ الاعتدال في الضحك ، وأسلموا قيادهم لدواعيه ، فتسلل إلى قلوبهم بالأسلوب المناسب ، لنقلهم إلى عالم الجد واستثمار الوقت ؛ بقراءة في كتاب نافع ، أو بطرح موضوع مهم للنقاش وإبداء الآراء ، أو دعوة للاتفاق على عمل إصلاحي خيري ، أو غير هذا أو ذاك من الأمور التي يحبها الله ويرضاها .
7- فإذا بلغ السيل الزبى ، وجاوز الأمر حده ، بأن أبى الجالسون إلا الإغراق في الضحك ، والمضي في طريق الغفلة ، فإن آخر العلاج الكي ، قم من المجلس وفارقه ، حماية لنفسك ، ووقاية لقلبك من الفساد ، بعد أن أديت ما عليك من واجب التوجيه والنصح ، ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )
الوساوس الشيطانية
وهذا سائل يقول :
إنني أشكو من كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله عز وجل ، تطوف بخاطري أفكار لا أستطيع أن أذكرها ، لأنها لا تليق بالله سبحانه ولكني أعاني من ترددها على ذهني كثيراً ، في الصلاة وخارج الصلاة ، حتى شككت في إيماني ، وارتبت هل أنا مسلم أو لا ، فما علاج هذه المصيبة ؟ .
الجواب : الحمد لله حمداً كثيراً وبعد :
فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة أحاديث فيها حل هذه المشكلة ، وعلاج هذه الشكوى ولله الحمد :
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول فمن خلق الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه ) صحيح الجامع 1657 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق السماء ؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الأرض ؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل : آمنت بالله ورسوله ) صحيح الجامع 1656 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من وجد من هذا الوسواس ، فليقل : آمنت بالله ورسوله ثلاثاً فإن ذلك يذهب عنه ) صحيح الجامع 6587 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ) صحيح الجامع 7993 .(/5)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يوشك الناس يتساءلون ، حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فإذا قالوا ذلك ؛ فقولوا : الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً ، وليستعذ من الشيطان ) صحيح الجامع 8182 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في آلاء الله ، ولا تفكروا في الله ) صحيح الجامع 2975 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في الله ) صحيح الجامع 2976 .
من هذه النصوص نستطيع أن نستخلص ست وسائل للتغلب على هذه الوساوس والأفكار :
1- أن يقول المرء إذا انتابته هذه الخواطر : آمنت بالله ورسوله .
2- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، فيقول مثلاً : ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً .
4- أن ينتهي عما هو فيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ولينته " ، وهذه وسيلة مهمة ؛ فإن الاستطراد مع الشيطان في هذه الوساوس يزيد نارها اشتعالاً وضراماً ، والواجب أن يقطع المسلم هذه الخواطر بقدر المستطاع ، وأن يشغل ذهنه بالمفيد النافع .
5- أن يقرأ سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد ) فإن فيها ذكر صفات الرحمن ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، وقراءة هذه السورة العظيمة وتدبرها كفيل بقطع هذه الوساوس .
6- أن يتفكر الإنسان في خلق الله ، وفي نعم الله ، ولا يتفكر في ذات الله ، لأنه لن يصل بعقله القاصر إلى تصور ذات الله ، قال تعالى : ( ولا يحيطون به علماً )
السهر
وهذه شكوى من مشكلة السهر ، وعدة أسئلة تدعو إلى حل هذه المشكلة ، فإن كثيراً من الناس يضيعون أوقاتاً طويلة جداً في السهر .
والجواب : إن السهر ليس نوعاً واحداً ، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : السهر في طاعة الله تعالى وهو سهر محمود ، ومنه السهر في مصالح المسلمين العامة ، كالجهاد والرباط في الثغور ، ومنه السهر في إحياء الليل بالقيام وتلاوة القرآن : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون )
ولا ننسى في هذا المقام الصحابي الجليل الذي كان يحرس المسلمين ليلاً ، ويقضي وقت الحراسة في الصلاة ، فرُمي بسهم من المشركين ، فأصابه السهم ، فأخذ دمه يسيل ، وهو مع ذلك ماض في صلاته يتلذذ بمناجاة ربه الكريم .
وورد عن بعض أهل العلم أنهم تذاكروا الحديث حتى طلع الفجر ولقد كان الدعاة المخلصون ولا زالوا يسهرون الليل في مناقشة الأمور التي تؤرق الغيورين على الأمة ، وتقض مضاجعهم ، وتطرد الوسن عن عيونهم ، ومن ذلك مثلاً ما كان يجري بين الشيخين : عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ، مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر ، فقد كانا في فترة وجودهما في المدينة يسهران الليل كله إلى الفجر ، يناقشان أوضاع الأمة الإسلامية ، وما تردت إليه من البدع والخرافات والتخلف ، ويخططان لانتشال المجتمع الجزائري من هذا التردي .
هذا النوع من السهر سهر محمود كله ، إذا لم يؤد إلى تضييع مصلحة راجحة أو واجب شرعي أعلى منه ، فإن بعض الناس قد يسهرون في أمر شرعي ، ثم تفوتهم صلاة الفجر ، وهذا خطأ وخلل .
القسم الثاني : السهر المباح : وهو ما كان على أمر مباح ، شريطة ألا يؤدي إلى تضيع واجب ، فمن ذلك مثلاً محادثة المسافرين لبعضهم لتهوين مشقة السفر على أنفسهم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم مع بعض نسائه ، يؤانسها وهو في طريق سفر .
ومنه مسامرة الضيف ومؤانسته بالحديث .
ومنه سهر كثير من الناس اليوم في أعمالهم الليلة ، في هذه النوبات التي أوجدتها الأحوال المادية ولا ريب أن بعض مصالح المسلمين تقتضي أن يكون هناك من يعمل ليلاً ، كالعمل في الأمن ، والمستشفيات ، والمطارات ، والكهرباء ، وغير ذلك .
القسم الثالث : السهر في معصية الله عز وجل كالسهر في مشاهدة الأفلام ، والألعاب المحرمة كلعب الورق ، أو في أكل لحوم الناس بالغيبة والشتائم والبهتان وما شابه ذلك من أنواع المعاصي .
وهذا السهر محرم ، يأثم أصحابه ويستحقون العقوبة من الله ، وقد كثروا في هذا الزمان ؛ لأسباب بعضها مذكور في قول الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجدَه مفسدة للمرء أيّ مفسده
هذه هي أقسام السهر الثلاثة ، فيجب أن نفرق بين كل قسم والآخر .
وفي زماننا هذا انتشر السهر لأسباب منها :
1- السهر للمصالح الدنيوية ، مثل سهر بعض التجار في تدبير أمور تجارتهم ، وسهر بعض الطلاب في مذاكرة المقررات الدراسية ، وينبغي لهؤلاء ومن شاكلهم أن يجتهدوا في ترتيب أوقاتهم ترتيباً يُغنيهم عن السهر المؤدي إلى المفاسد .(/6)
2- طبيعة العصر الحاضر التي غيرت الأوضاع الاجتماعية ، فلئن كان القدماء يشرعون في الهدوء والهجعة منذ حلول الظلام ، فإن وجود الكهرباء في عصرنا يحمل الناس على أن يمارسوا كثيراً من الأنشطة والأعمال والعلاقات التي لم يكونوا ليمارسوها في الظلام ، حتى لقد أصبح ليل بعض الناس كنهارهم .
3- انصراف كثير من الناس إلى ما يبث من برامج وفنون في وسائل الإعلام المختلفة : من إذاعة وتلفاز ، وما يسمى الفيديو وغيره .
4- جعل أكثر الناس زياراتهم وبرامجهم وعلاقاتهم العائلية وغير العائلية في الليل بسبب طبيعة الأعمال والدراسة ، فأصبحت تجد من النادر أن يزورك أحد في النهار ، إلا في عطلة الأسبوع ، وحتى مجالس العلم صار كثير منها يقام بعد صلاة العشاء .
5- انهماك بعض الناس في الثرثرة والأحاديث المتداعية الطويلة ، وربما أزعجوا الآخرين بثرثرتهم وضحكاتهم ، ولعل انتشار هذه الظاهرة في أوساط الطلاب في الإسكانات الجامعية أكثر وضوحاً ، حيث يقوم بعض الضيوف الثقلاء بزيارتهم في سكنهم ، ويمضون معهم الليل في القيل والقال ، ويلحقون الضرر بأنفسهم وبغيرهم ، ثم يضيعون كثيراً من الواجبات .
6- الأرق : والأرق يسببه في كثير من الأحيان مقارفة المعاصي والبعد عن الله تعالى ، فإن البعيد عن ربه لا يمكن أن يذوق الطمأنينة والأنس ، وإنما هو في قلق دائم ووحشة واضطراب .
كما أن للمشكلات العائلية والمادية والدراسية والعملية وغيرها أثراً بارزاً في إحداث القلق والأرق لدى الشخص حتى تنجلي أسبابها .
على أننا لا ننكر أن هناك من يحرمه الأرق من لذيذ الكرى بسبب خوفه من الله ، وحرصه على صلاح أمته الأسيرة .
وبعد استعراض أقسام السهر وأبرز أسبابه ، نتجه لبيان الأسباب المعينة على علاج هذه الشكوى التي أصبحت وباء فاشياً .
وعلاجها من الناحية العلمية التأملية : أن يتفكر المرء في ما يترتب على السهر من الأضرار الجسمية ، وتفويت المصالح العظيمة ، فمن ذلك :
1- تضييع الواجبات الشرعية ، مثل تضييع صلاة الفجر كما أسلفنا إما بالتخلف عن الجماعة ، أو بقضائها في غير وقتها ، أو بأدائها مع الجماعة لكن دون خشوع وإحساس بسبب الإعياء الشديد الذي يجعله يصارع النعاس ولا يفقه من صلاته شيئاً ، فلا يدري ما قرأ الإمام ، ولا في أي ركعة هو ، ولا يتدبر ما يقوله في سجوده وركوعه وقيامه وقعوده ، ولذلك نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد صلاة العشاء .
2- الأضرار الجسدية : ذلك أن جعل الليل للحركة والنهار للسكون مصادم للطبيعة التي خلقها الله في الأرض والنفوس : ( وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه … )
ولهذا فإننا نجد القوم الذين تنكبوا الصراط ، وخالفوا الفطرة ، في حالة صحية سيئة مضطربة ، وإن نوم ساعة من الليل قد يعدل نوم ضعفها في غيره ، كما هو مجرب ومشاهد .
3- تقصير كثير من الموظفين في أعمالهم ، بحيث يأتي الموظف إلى عمله منهكاً متأخراً ، فيكون أداؤه ضعيفاً ، وتعامله مع المراجعين سيئاً ، وربما كان في بعض راتبه شبهة بسبب تقصيره في عمله .
وقل مثل ذلك في شأن الطلاب الذين يسهرون ، ثم يأتون للمدرسة أو الجامعة متأخرين ، وقد ضربوا بالمحاضرات الأولى عرض الحائط ، ثم يجلس أحدهم كرسياً على كرسي ، لا يستوعب معلومة ، ولا ينتبه لشرح .
4- أنه يؤدي إلى النوم في غير وقت النوم ، فينام السهران مثلاً بعد العصر ، والنوم بعد العصر لغير الحاجة كرهه السلف ، أما الحاجة فلا بأس به . ثم إن هذا يسبب صداعاً وتفويتاً لوقت حيوي من اليوم .
5- أنه يعيق عن بعض العبادات التطوعية ، فإحياء الثلث الآخر من الليل مثلاً ، كيف يستطيعه السهران ؟! والتسحر لصيام التطوع ، كيف يطيق الاستيقاظ له ؟! ولا شك أن الإعياء والإجهاد سيثنيه عن النهوض ، فيفوت على نفسه خيراً كثيراً .
6- فوات بركة البكور في أول النهار ، فإن الذين يسهرون ينامون بعد صلاة الفجر ، فيحرمون أنفسهم من الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( بورك لأمتي في بكورها ) صحيح الجامع 2841 . ولا يقدرون على المكث في المسجد إلى طلوع الشمس لذكر الله ، ولا يخرجون إلى أرزاقهم مبكرين في وقت البركة والفضيلة ، وقد عم ذلك فينا ، حتى أصبحنا نرى من النادر أن يفتح تاجر متجره في وقت مبكر مثلاً .
إذا علم العاقل بهذه الأضرار الناجمة عن السهر ، وبفداحة الخسارة التي يمنى بها من جرائه ، فلا ريب أنه سيسعى سعياً حثيثاً لتصحيح وضعه ، واستدراك ما فاته ، وبذلك يكون قد وضع رجله في أول طريق العلاج .
وهذه إشارات إلى جوانب عملية في حل المشكلة يسترشد بها من يريد الوصول إلى ذلك العلاج :(/7)
1- بذل الوسع في تعويد النفس على النوم المبكر ، فإن السهر في الأصل عادة ، فإذا انبرى المرء لجهاد نفسه بحزم وبتصميم فإنه ينتصر عليها بإذن الله في بضعة أيام ويسير في ركاب المبكرين في النوم .
2- الزواج فإن كثيراً من الشباب العزاب غير منضبطين في حياتهم ، بل يسهرون معاً ، ويشجع بعضهم بعضاً على السهر ، إذ ليس وراءهم أولاد ولا زوجات ، أما المتزوج فإنه يشعر أن في عنقه مسؤولية زوجته وأولاده ، فيحرص على العودة إليهم مبكراً لئلا يقلقوا ، أو يخافوا أو يحتاجوا إليه في هجعة الليل ، وهو ليس في البيت ، ومن جرب عرف .
3- تنمية الإحساس بالمسؤولية في شتى المجالات التي تعينه ؛ فإن المرء يحس أن على كاهله حملاً لابد أن يؤديه ، لا يمكن أن يهدر وقته ويفرط فيه ، في حين نجد غير المبالي يبدد كنوز الأوقات في سفاسف الأمور ، ولا يقدرها قدرها .
4- تعويض الحاجة إلى النوم بالقيلولة ، بدلاً من النوم في غير أوقات النوم ، فإن النوم بعد العصر أو قبل العشاء مضر كما أسلفنا وقد أوصى عليه الصلاة أمته بقوله : ( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ) صحيح الجامع 4431 هذه بعض الوسائل العملية لعلاج مشكلة السهر ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
سرعة الغضب
وهذه شكوى من شخص يقول : إنني شديد الانفعال ، سريع الغضب ، وإذا حصل لي استفزاز ، فسرعان ما أثور فأكسر وأشتم وألعن وأرمي بالطلاق وقد سببت لي هذه المشكلة حرجاً كبيراً ، وكرهني أكثر الناس ، حتى زوجتي وأولادي وأعز أصدقائي ، فماذا أفعل للتخلص من هذا الداء الوبيل وإطفاء هذه النار الشيطانية ؟ .
الجواب : الغضب نزعة من نزعات الشيطان ، يقع بسببه من السيئات والمصائب ما لا يعلمه إلا الله ، ولذلك جاء في الشريعة ذكر واسع لهذا الخلق الذميم ، وورد في السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحد من آثاره ، فمن ذلك :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان : عن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان ، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ) . رواه البخاري ، الفتح 6/377 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه ) صحيح الجامع الصغير رقم 695 .
2- السكوت : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم فليسكت ) رواه الإمام أحمد المسند 1/239 ، وفي صحيح الجامع 693 ، 4027 . وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين ، وبالجملة فالسكوت هو الحل لتلافي كل ذلك .
3- السكون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) .
وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه ، حدثت له في ذلك قصة : فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه " أي كسره أو حطمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء في هدم الحوض " وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذكر الحديث " الحديث بقصته في مسند أحمد 5/152 وانظر صحيح الجامع رقم 694 " . وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوض فأغضبه رجل فقعد .. فيض القدير المناوي 1/408 .
ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل كما سيرد بعد قليل وربما أتلف مالاً ونحوه ، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران ، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية ، قال العلامة الخطابي رحمه الله في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد ) . والله أعلم سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن 5/141 .
4- حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال : لا تغضب ، فردد ذلك مراراً ، قال : لا تغضب رواه البخاري فتح الباري 10/465 .
وفي رواية قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله . مسند أحمد 5/373
5- لا تغضب ولك الجنة حديث صحيح : صحيح الجامع 7374 ، وعزاه ابن حجر إلى الطبراني ، انظر الفتح 4/465(/8)
إن تذكر ما أعد الله للمتقين الذين يتجنبون أسباب الغضب ويجاهدون أنفسهم في كبته ورده لهو من أعظم ما يعين على إطفاء نار الغضب ، ومما ورد الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن كظم غيظاً ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة ) رواه الطبراني 12/453 وهو في صحيح الجامع 176 . وأجر عظيم آخر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن يُنفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) رواه أبو داود 4777 وغيره ، وحسنه في صحيح الجامع 6518 .
6- معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد 2/236 والحديث متفق عليه وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة ، قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرُّعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) رواه الإمام أحمد 5/367 ، وحسنه في صحيح الجامع 3859 . وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضح هذا الأمر ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال : أفلا أدلكم على من هو أشد منه ، رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ) رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن ، الفتح 10/519 .
7- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، ومن أبرزها : عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم " أي ما بين العنق والكتف " وقد أثرت بها حاشية البرد ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن ، الفتح 10/519 .
ومن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل غضبنا لله ، وإذا انتهكت محارم الله ، وهذا هو الغضب المحمود فقد غضب صلى الله عليه وسلم لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفر الناس من الصلاة بطول قراءته ، وغضب لما رأى في بيت عائشة ستراً فيه صور ذوات أرواح ، وغضب لما كلمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت ، وقال : أتشفع في حد من حدود الله ؟ وغضب لما سُئل عن أشياء كرهها ، وغير ذلك ، فكان غضبه صلى الله عليه وسلم لله وفي الله .
8- معرفة أن رد الغضب من علامات المتقين :
وهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه ، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض ، ومن صفات أنهم : ) ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ما تشرئب الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : ( إذا ما غضبوا هم يغفرون ) .
9- التذكر عند التذكير :
الغضب أمر من طبيعة النفس يتفاوت فيه الناس ، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب ، لكن الصدِّيقين إذا غضبوا فذُكروا بالله ذكروا الله ووقفوا عند حدوده ، وهذا مثالهم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل " العطاء الكثير " ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، وكان من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل رواه البخاري الفتح 8/304 . فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب رواه البخاري فتح 1/465 نعوذ بالله من الخذلان .
10- معرفة مساويء الغضب :
وهي كثيرة مجملها الإضرار بالنفس والآخرين ، فينطلق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب ، وقد يصل الأمر إلى القتل ، وهذه قصة فيها عبرة .(/9)
عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال : إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة " حبل مضفور " فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته ؟ قال : نعم قتلته ، قال : وكيف قتلته ، قال : كنت أنا وهو نتخبط ( نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف ) من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه ( جانب الرأس ) فقتلته .. إلى آخر القصة . رواه مسلم في صحيحه 1307 .
وقد يحصل أدنى من هذا فيكسر ويجرح ، فإذا هرب المغضوب عليه عاد الغاضب على نفسه ، فربما مزق ثوبه ، أو لطم خده ، وربما سقط صريعاً أو أغمي عليه ، وكذلك قد يكسر الأواني ويحطم المتاع .
ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها ، هو الطلاق ، واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى ، فسينبئونك : لقد كانت لحظة غضب .
فينتج عن ذلك تشريد الأولاد ، والندم والخيبة ، والعيش المر ، وكله بسبب الغضب ، ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم ، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسار .
وما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب أمر عظيم كما يصف الأطباء كتجلط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكتة مميتة أو مرض السكري وغيره ، نسأل الله العافية .
11- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب :
لو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرأة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه ، وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله ! نعوذ بالله من الشيطان والخذلان .
12- الدعاء :
هذا سلاح المؤمن دائماً يطلب من ربه أن يخلصه من الشرور والآفات والأخلاق الرديئة ، ويتعوذ بالله أن يتردى في هاوية الكفر أو الظلم بسبب الغضب ، ولأن من الثلاث المنجيات : العدل في الرضا والغضب صحيح الجامع 3039 كان من دعائه عليه الصلاة والسلام : ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب ، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بالقضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ) . رواه النسائي في السنن 3/55 والحاكم وهو في صحيح الجامع 1301 . والحمد لله رب العالمين .
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/10)
شكوى رمضانية
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
ها هي هذه الأيام وقد أقبل علينا فيها شهر الصيام ، هذا هو موسم التقوى الذي جعله الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، هذه ليالي الإيمان والذكر والبر والإحسان، هذه أوقات الطاعة والمنافسة في الخيرات والإنفاق في سبيل الله ..
هذا موسم التطهر والمغفرة من الذنوب والخطايا ، هذه أيام وليال مباركات وموسم عظيم الخيرات، هذه شعيرة وفريضة مباركة جعلها الله لعباده المؤمنين رحمة منه وتفضلاً ، تجديداً لإيمانهم ، وتقوية لعزائمهم ، وتربية لنفوسهم ، وصياغة لعقولهم ، وتذكيراً بأمتهم ، وتأكيداًَ على وحدتهم ، ومنافع أخرى نعلم منها ما نعلم ويخفى علينا ما يخفى .
ورغم هذا الخير العميم الذي ساقه الله إلينا إلا أننا نرى صوراً من التقصير ، وألواناً من المخالفات ، ونرى نماذج من التكاسل والتخلف عما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في هذه المواسم المباركة ، ولذلك لا يخفى على المسلم الفرق الكبير والبون الشاسع بين ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام وسلف الأمة - رضوان الله عليهم - في اغتنام الأوقات ، و المسارعة إلى الخيرات ، وبين ما حل بالأمة من ضعف الإيمان ، ومن تقصير في الطاعات ، ومن إغراق في الشهوات ومن تعد على الحرمات .
وهذا هو رمضان يشكو حاله ها هو رمضان يعاتب المقصرين من أبناء هذه الأمة ، ولذلك وقفاتنا اليوم في أول يوم من أيام هذا الشهر وبداياته قبل أن يمضي شيئاً فشيئاً فينتصف ، ثم يتحول إلى نصفه الثاني ويوشك أن ينقضي، فمن غانم ومن محروم ومن مغفور له ومن آثم مأزور، ولذلك صور هذا التقصير وهذه الشكوى كثيرة جداً :
صور التقصير
أولاً : عدم القيام بالفريضة وعدم الأداء للصيام والفطر في شهر رمضان
وقد يقول قائل : وهل هذا موجود في أمة الإسلام ؟ بل قد يتساءل بصورة أخص : هل هذا موجود في المجتمعات التي تعيش في جزيرة العرب قرب الحرمين الشريفين ؟ نقول بكل أسى وأسف : إنها ظاهرة موجودة ، وإنها تزيد عاماً بعد عام ، رغم كثرة الخير وإقبال المصلين ودعاء الداعين وقنوت الساجدين ، نرى ذلك - وللأسف الشديد - في بعض الشباب الذين غرقوا في الشهوات وأعرضوا عن أمر الله عز وجل .
إن ترك فريضة من الفرائض وركن من الأركان هو كبيرة من أعظم الكبائر ، وإن المستحل لهذا الأمر يعتبر كافراً خارجاً عن ملة الإسلام، وإن المتهاون المستهتر يكون على خطر كبير أن يخرج من الدين أيضاً لأنه يستهزأ بشرائع الله ولا يأبه بحكم الله ولا يكترث بما شرعه الله وأوجبه على العباد، ولذلك ليكن أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا موضع النقد والزجر الشديد وموضع الوعظ والتذكير ثم التنبيه والتحذير، ثم يكن بعد ذلك أخذهم بجريرة فعلهم حتى لا يسهلوا للناس ترك الطاعات وحتى لا يجرئهم على الاعتداء على أوامر الله سبحانه وتعالى .
ثانياً : عدم شهود الجماعات وأداء الصلوات في الأوقات
ولئن كانت هذه الظاهرة ليست منتشرة انتشاراً كبيراً بحمد الله - عز وجل - فإن الظواهر الأخرى التي يشكوا منها رمضان ، والتي يعتب فيها على أهل البر والإيمان هي ذلك التخلف، فبعد المعرضين يأتي المتخلفين ، الذين يتخلفون عن العبادات وعن شهود الجماعات ويقصرون في الطاعات، فتجد كثيرين ممن يصومون لا يحرصون على أداء الصلوات في الجماعات ولا أدائها في الأوقات ، فتجد هؤلاء قد جعلوا الصيام كأنه حمل ثقيل فإذا بهم يجدوا أنفسهم قد عجزوا معه عن أن يقوموا بفعل من أفعال الخيرات وأن يغتنموا هذه الأوقات .
ولذلك نجد أيضاً بعض من يصومون ولا يصلون ، وما فقهوا أنه لا ثمرة للصيام إلا بالصلاة وأنه لا تمام ولا كمال لأداء هذه الفريضة إلا مع ما أوجب الله من سائر الفرائض، بل لا تتم إلا بما ندب الله إليه من كثير من الطاعات والمندوبات التي يكمل بها الإيمان ويعظم بها أثر صيام رمضان، ولذلك هذه الجماعات التي تزيد - بحمد الله - في رمضان، نعلم كذلك أن هناك من يفرض ومن لا يشهد المساجد إلا في الجمع مع أن هذا الأمر قد ذكر أهل العلم وجوبه عند أكثرهم وأن الجماعة واجبة وأنه لا عذر للمتخلف عنها وأنه ناقص في أجره بل ربما يلحقه الإثم إذا لم يلحق جماعة المسلمين ولم يشهد مساجدهم ولم يغشهم في صلواتهم ودعائهم وتبتلهم لله رب العالمين .
وفي الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤكد وجوب الجماعة ولزومها : ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ) .(/1)
فإذا كانوا الثلاثة في بادية وهم متفرقون لزمهم أن يجتمعوا وأن يصلوا في الله في الجماعة فكيف بالمدن والحواضر التي ملأت بحمد الله بالمساجد ، والتي يُؤذّن فيها كل يوم خمس مرات ويدعى فيها إلى الصلاة ويندب فيها إلى الفلاح .
ومع ذلك يتخلف المتخلفون ويقصر المقصرون وكنا من قبل هذا الشهر لا نرى وجوهاً كثيرة ترتاد المساجد ثم نراها في أول الشهر ، وتتناقص - للأسف الشديد - بعد مرور أيامه وبعد تتابع لياليه ، ثم لا تلبث إلا من رحم الله أن تنقص بعد انقضاء الشهر وتترك المساجد خاوية على عروشها تشكوا إلى الله قلة عُمّارها ، وتندب ذهاب ساجديها وتالي القرآن فيها ، فما بالكم يا عباد الله تتركون الخير الذي ساقه الله إليكم ، والأماكن التي جعلها مواضع لبيوته عز وجل وجعل فيها مضاعفة الحسنات ونزول الرحمات، وجعل فيها دعاء الملائكة وتتابعهم من الأرض إلى أعلى السموات .
فما بال العبد لا يفطن إلى خيره ، ولا يفكر في عاجل أمره وآجله ! ما بالنا وقد زهدنا فيما عند الله من الثواب ! ما بالنا وقد استغنينا عما ساقه الله لنا من الخيرات ، ونحن نعلم أنا قد حملنا فوق ظهورنا أوزاراً مع أوزار كثيرة لا يعلمها إلا الله ! .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - والصحابة والسلف - رضوان الله عليهم - مع كونهم أبعد الناس عن المعاصي كانوا أسبق الناس إلى الطاعات، وكانوا أكثر الناس منافسة في الخيرات وأن أحدهم ربما يمرض المرض الشديد فيؤتي به وهو يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف لئلا تفوته الجماعة رغم أنه قد عذر بعذر من الله - عز وجل - إلا أنه لا يجد في هذا العذر فرصة سانحة ليتخلف عن هذا الأمر العظيم وعن هذا الأجر الكبير .
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً خطورة هذه الظاهرة وهي الاكتفاء بالصلوات في البيوت دون شهود الجماعات في المساجد، قال عليه الصلاة والسلام -كما صح في مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصليها هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ) ، فهل نحن ندعي حب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أم أننا نحبه حقيقة .
لو كان حبك صادقاً لأطعته **** إن المحب لمن يحب مطيع
فهو النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي قد اشتد غضبه وتعاظم غيظه وتزايد زجره وتهديده وتوعده ووعيده لمن تخلف عن الجماعة ، كما قال فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام : ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة في المساجد فأحرق عليهم بيوتهم ) ، فهل نحن نريد أن نكون ممن همَّ النبي أن يحرق بيوتهم من شدة إنكاره عليهم .
ورغم أننا في رمضان كذلك يشكو من هؤلاء الذين يتخلفون عن الجماعات حتى في أعظم موسم من مواسم الخير والطاعات وحسبنا أن بعضاً منا يستسلم لنومه ويركن لراحته ويفوت صلاة أو اثنتين كما يفوت الناس الفجر في غير رمضان؛ فإننا نجد كثيرين يفوتون الظهر والعصر في رمضان وحسبنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه : ( من ترك صلاة العصر عمداً فقد حبط عمله ) .
وما أخبر عنه - عليه الصلاة والسلام - أن من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ، أي كالذي ينقلب إلى بيته فيجد أهله قد ماتوا عن بكرة أبيهم ، ويجد ماله قد تلف فلم يبق منه شيء ، فما أعظم خسارته ! وخسارة هذا الذي ضيع الصلاة أعظم ، ولذلك يشكو رمضان من هؤلاء المتخلفين المقصرين .
ثالثاً : التبرم والكسل
ويشكو ثالثة من المتبرمين الكسالى الذين لا يجدون في هذا الشهر إلا صورة من الإرهاق والتعب،ويصورون رمضان على أنه معول من معاول هدم القوة والنشاط وإضعاف العمل والإنتاج، فلا تجدهم إلا نائمين ، ولا تراهم إلا متكاسلين ، ولا تسمع منهم إلا كلام المتبرمين، ولا شك أن الذي يعمل الطاعة من غير نية خالصة ومن غير محبة صادقة لن يأتي بها على تمامها ، وأنه ينقص عليه من أجرها، فالذي يصوم وهو يستثقل الصوم ويطلب الأيام والليالي ليخرج منه وليبعد عنه وليتخلص منه إذا جاز التعبير ؛ فإنه ما أدرك العبادة حق إدراكها ولا عرفها حق معرفتها ولا ذاق لذتها ولا شعر بحلاوتها ولا نال عظيم أجرها .
ولذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض هؤلاء عندما قال : ( كم من صائم ليس له من صيام إلا الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب ) ؛ لأنه لم يخلص لله ولأنه ما قام إلى هذا العمل إلا وهو متبرم متضايق، نفسه حرجة وصدره ضيق وقلبه نافر ونفسه غير قابلة فما كأنه يؤدي عملاً إلا وهو مكره، وقد وصف الله أهل النفاق عياذاً بالله فقال جل وعلا : {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) .(/2)
فإلى الذين يجعلون هذا الشهر شهر الصوم شهر الرخاوة والكسل نقول : قد جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في رمضان فكان فيه يوم الفرقان ، ثم كان فيه يوم الفتح الأعظم ، ثم تتابع طريق أمة الإسلام يشهد بأن شهر رمضان هو شهر القوة والعزة .. هو شهر النصر والتمكين .. هو شهر القوة والجهاد .. هو شهر النشاط والفتوة .
" فلا تُمِت علينا ديننا " قالها عمر - رضي الله عنه - حينما رأى بعض الشباب وهو يمشي مشية متماوتة يسحب رجله وهو مطأطئ رأسه ، فكان عمر يعلوه بدرته على أم رأسه ويقول : " لا تمت علينا ديننا " ، فليس في الإسلام تماوت ولا ضعف ، بل قوة وعزة ، وليس فيه طأطأة ولا مسكنة بل فيه إخبات وتواضع مع قوة إيمان وعزة بهذا الإسلام .
فإلى أولئك أيضاً إليهم شكوى رمضان ومقارنته بينهم وبين المجاهدين الذين عمروا هذا الشهر فكانوا رهبان الليل فرسان النهار .
رابعاً : الصور المعكوسة والظواهر المنكوسة
كذلك تتوالى شكوى رمضان من صور كثيرة في مجتمعاتنا يعجب لها المرء أيما عجب ويحار فيها العقل أيما حيرة ؛ لأن هذا الشهر جعل ليختص بمزيد من الخير والطاعات ، وإذا بالحال ينقلب رأساً على عقب ، ونرى كثيراً من الناس يخصونه بغير ما أراد الله له وبغير ما شرعه فيه وبغير ما ندب إليه، ولذلك من هذه الصور المعكوسة والظواهر المنكوسة ما يشكو منه رمضان .
أولاً : إكثار الطعام والشراب
فكثير من الناس ما علموا أن الصوم دورة في فطم النفس عن شهواتها وتعودها أن تترفع عن ملذاتها وتقوية إرادتها إزاء شهواتها، وأن الصوم لم يشرع ليكون ختامه أكل حتى التخمة وشراب حتى البطنة دون أن يفقه ما ينبغي أن يشارك فيه الفقراء والمساكين والمحرومين الذين لا يجدون قوت يومهم والذين يبيتون على الطوى ، بل لا يتذكر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وقد وصفته عائشة - رضي الله عنها - ووصفت حاله فكانت تقول : كان يمر الهلالان والثلاثة وما يوقد في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار شهران أو ثلاثة ولا يطبخ فيه طعام ولا دسم . قيل لها فما كان ؟ قالت : الأسودان التمر والماء .
وصح عند البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه كان صائماً في يوم من الأيام تطوعاً فأوتي له بطعام الإفطار فنظر إليه فإذا فيه أكثر من صنفين من الطعام فطأطأ رأسه - رضي الله عنه - باكياً وانخرط في بكاء طويل، قالوا له : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت مصعب بن عمير - رضي الله عنه - : مات يوم مات في أحد ما وجدنا ما نكفنه به إلا بردة إذا غطينا رجلاه بدا رأسه وإذا غطينا رأسه بدت قدماه وإني أخشى أن نكون ممن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا .
فما بالنا ونحن نجمع على موائدنا ليس صنفين ولا ثلاثة بل ربما خمسة وعشرة ونأكل حتى لا يبقى في بطوننا موضع لطعام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه فإن كان لا بد فاعل فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) .
فتفطنوا أن الصيام ليس غاية وسبباً نجوِّع فيه أنفسنا ، فلسنا مثل أجلكم الله الحيوانات التي تجوع فتطلع فلا يكون لها هم إلا أن تلتهم الطعام إلتهاماًً .
وأعجب العجب الذي أراه وترونه أن كثيرين يقضون ما بين العصر إلى المغرب هذا الوقت المبارك وقت نزول الملائكة ووقت الغروب والذكر ووقت التسبيح بالآصال يقضونه وهم طوابير طويلة لأوقات عديدة ، ولساعات متتابعة ؛ ليشتروا أصنافاً من الطعام هم عنها في غنى ولا حرج ولا ضير ولا حاجة أن تكون موائدهم ، ولكن بعض الناس جعلوا هذا الشهر شهراً وضعوا له فرائض من عند أنفسهم وأنه لا بد أن يكون في طعام الإفطار كذا وكذا وأنه لا يتم الإفطار إلا بوجود كذا وكذا، فشغلوا أوقاتهم وشغلوا أفكارهم وكأنه هذا الشهر موسم أنواع الأطعمة يتفرغ الناس لها وتستعد المطاعم بها ، ويضيع الناس أوقاتهم فيها فانصرفوا عن العبادة والطاعة إلا من رحم الله ، فما أعظم شكوى رمضان منا وقد قلبنا آياته وقد عكسنا حسناته !
وهو شهر ينبغي أن يقل فيه الشراب والطعام ، وأن يتعود فيه الإنسان على الجوع والعطش وعلى الترفع عن الدنيا ، وعلى الصبر على ما يحل به ، فالله نسأل أن يفقهنا في هذا الدين وأن يبصرنا بالحكم والغايات فيما شرع لنا من فرائض الدين .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن من أعظم مواسم التقوى شهر رمضان المبارك ، الذي جعله الله - عز وجل - معيناً لا ينضب لكثير من الخيرات، ولكن شكواه مُرَّة كما أشرت من هذا الانعكاس والارتكاس .
ثانياً : غشيان الأسواق وكثرة نزول النساء إليه(/3)
ومن ذلك ما يغشى فيه الناس الأسواق وما يكثر فيه نزول النساء إليها، وكأنه ليس هناك وقت وليس هناك مجال لقضاء الحاجات إلا في الليالي المباركات، وتزداد هذه الظاهرة والعياذ بالله عندما تدخل العشر الأواخر ، وعندما يشتد أهل الإيمان في الطاعات والعبادة ، ويقطعون ليله تسبيحاً وذكراً قياماً وركوعاً وسجوداً ، ويقطعون أوقاتهم تضرعاً وابتهالاً لله - عز وجل - وبكاء وخشية من الله - عز وجل - وسؤالاً لنيل أعظم الثواب وأعظم البركات في ليلة القدر .
وفي هذه الليالي تشتغل الأسواق كما لم تشتغل في غيرها من الليالي ، ويكثر نزول النساء وتكثر المنكرات والمحرمات والمعاكسات والتبرج وغير ذلك ، ويختص شهر رمضان في مجتمعاتنا على وجه الخصوص في رمضان كذلك بأن الليل يشغل في اكثر أحيانه وفي أواخر الشهر على وجه الخصوص بغير ما أراد الله عز وجل، ولذلك نجد هذه الظاهرة التي يدمي لها القلب وعندما يكون الإنسان ـ وقد رأيت ذلك بأم عيني ـ في رمضان في العشر الأواخر في بيت الله الحرام ، ويرى احتشاد المصلين ؛ حتى لا يبقى مكان في البيت الحرام فإذا خرج ليقضي حاجة أو ليتوضأ أو كذا رأى أضعاف أضعاف ذلك العدد ، وهم يرتادون الأسواق ويتكلمون بفارغ الكلام ويفعلون كثيراً من الأفعال المحرمة المنكرة في كثير من الأحوال إلا من رحم الله ، ولذلك هذه الظاهرة كأنها نوع مخالفة عما ينبغي أن يكون في شهر رمضان، ونوع قلب لما أراده الله - عز وجل - لا سيما في العشر الأواخر من أن يكون هناك مزيد التفرغ للطاعة والاغتنام للخير .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عند مسلم : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) ، أي إذا فيها كما هو الغالب ما حرم الله عز وجل، وقد ورد أيضاً عند الطبراني وغيره بإسناد حسن : ( خير البقاع المساجد وشر البقاع الأسواق ) .
ومن هن أولئك النساء ومن هم أولئك الرجال الذين يحيون هذه الظاهرة ؟ إنهم أنا وأنت وزوجي وزوجك وابنتي وابنتك وأختي وأختك وقريبتي وقريبتك، فليكن كل امرئ مسؤول عن نفسه وليكن قائماً بحق من استولاه الله أمره ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) ، فلماذا يؤجل الناس حوائجهم إلى شهر رمضان ولماذا يؤخرونها إلى العشر الأواخر ، بل ليلة العيد يقضونها حتى صباحها وحتى شروق شمسها دون أن يذكروا الله - عز وجل - بل هم في لهو وصفق في الأسواق نسأل الله السلامة .
لماذا - أيها الأخوة - نقدر ونقر ونغض الطرف عن هذه الظواهر المعكوسة ، وهذه الأعمال المرفوضة التي كأنها أصبحت سنة من سنن رمضان، كأنه كما نرى ونشاهد لا بد أن يزداد في أوقات العمل في ليالي العشر الأواخر، وكلما زادت العشر الأواخر قرباً من آخر الشهر كلما زاد العمل حتى إذا كانت الليالي الأخيرة واصلوا الليل بالنهار عجباً لأمة يساق لها الخير في مواطن العبادة وفي المساجد وفي بيوت الله ويضاعف لها الأجر وتوعد بليلة القدر ثم تعرض عن ذلك كله وتذهب لتشتري ثياباً مبهرجة ولتشتري طعاماً تملأ به البطون أو لتشتري ألعاباً تلهي بها الأطفال .
عجباً للعقول كيف سخفت ؟ عجباً للبصائر كيف طمست ؟ عجباً للمسلم كيف لا يفطن لما فيه خيره فلا يحرص لما فيه أجره ؟ كيف لا ويبقى ما ينبغي أن يتقي من عذاب ا لله وسخطه ؟ نسأل الله السلامة .
هذه الظاهرة لو أننا جميعاً أصحاب المتاجر والأعمال وحتى على مستوى المسؤولين الرسميين في الحكومة أن يمنعوا هذه الظاهرة بأن تغلق الأسواق في أوقات معينة، فيعلم الناس أنهم إذا أرادوا حاجتهم ؛ فإن هذا الوقت هو المتاح وبعد ذلك ليس هناك أسواق إذاً لا نقمع الناس في بيوتهم وتفرغوا لعبادتهم ، وعلى أقل تقدير لم يعلنوا بالمعاصي في شهر الخير والبركة وفي العشر الأواخر وفي ليلة القدر والناس ساجدون .
هناك من يغازل ويعاكس والناس يدعون ، وهناك من يغني ويدندن والناس يسبحون وهناك من يشتم ويلعن، كيف تتنزل علينا الرحمات وكيف ننال الخيرات، ونحن نعلم في مجتمعاتنا بشكل عام بهذه المنكرات ولا نرى لها مُنكِراً ولا نرى لها معارضاً ونتقبلها حتى ألفناها وحتى تعودنا عليها وحتى أصبحنا لا نرى رمضان بدونها ولا نعرفه بغيرها، ينبغي أن يكون كل مسلم قائماً بهذا الأمر سيما ونحن في أول الشهر نحن في بدايته فليكن كل مسلم قائماً بأمر من ولاه الله عليهم .(/4)
فإذا أراد أن يشتري أهله شيئاً فليشتره في نهار رمضان ؛ فإن النهار فيه وقت مديد وليقتصد في مشترياته ، إن كان ولا بد مشترياً وكان محتاجاً ؛ فإن ما في هذا الشهر من الخير أعظم من أن يفوّت في تفكير في أنواع الملابس أو مقاساتها ، أو ينتظر كما يفعل أهل الأسواق وأهل المتاجر والملابس على وجه الخصوص لا يخرجون البضائع الجديدة إلا في آخر الشهر ، وتظل النساء و للأسف الشديد يفكرون في آخر الشهر ليشترين الموديلات الجديدة والألوان الجديدة والتشكيلات الجديدة ، وينصرفن من أعظم اجر وأغنم خير ساقه الله في ليلة القدر .
فهل ترون لو أنا نظرنا إلى مجتمع الصحابة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم هل كنا نرى أحداً في الليل يصفق في الأسواق او يتلهى على المنتزهات او يتمشى على البحار أم ان الناس كلهم يغتنمون اللحظة والثانية ولا ينتطرون في أي وقت ولا يضيعون أي جهد إلا فيما يرضي الله عز وجل لأنه وقت قصير وليالي معدودة يوشك ان تنقضي، فيخرج الناس فإما غانم وإما محروم نسأل الله عز وجل السلامة ، إن هذه الظواهر التي عكسنا فيها الآية والتي غيرن فيها الأمور ينبغي أن تكون موضع إنتباهنا وموضع إنكارنا وموضع مقاطعاتنا لو قاطعنا نحن جميعاً الأسواق الذي نرتاد المساجد نحن وأسرنا لما ملأت بهذه الأعداد المتكاثرة ولما رأينا هذا الإزدحام الذي يدل على خواء في العقول وعلى ضعف في الإيمان وعلى بلادة في التفكير وعلى عدم معرفة بالمصلحة الدنيوية والأخروية نسأل الله عز وجل السلامة .
ولذلك ينبغي لنا أن نسمع لهذه الشكاوي من رمضان ، وأن نكون جميعاً عاملين على تغيير هذه الظواهر وعلى هذه الصور التي فيها نقص ، والتي فيها تغيير لحكمة الله ، والتي فيها تفريط في اغتنام ما أراد الله .
ونحن في أول الشهر أكررها ثانية ونرى الإقبال كثيراً ، ونرى الصفوف في التراويح كثيرة ، ثم ما تلبث أن تتناقض ! أين الهمم العالية ؟ أين العزائم الماضية ؟ أين الثبات على الخير ؟ أين خير الأعمال أدومها وإن قلّ ؟ ولا تكن أيها - العبد المؤمن - من يُقْبِل في أول رمضان وأوله خير ولكن الخير أعظم في آخره، فلا تكن ممن يأخذ القليل ويقنع ثم يستغني عن الكثير فيفوته خير كثير فالله نسأل أن يوفقنا للصيام والقيام وأن يعيننا على الذكر وتلاوة القرآن .(/5)
شيخ العراق مسعر بن كدام
إعداد / مجدي عرفات
اسمه ونسبه:
هو مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة بن الحارث أبو سلمة الرؤاسي الهلالي الكوفي الأحول الحافظ.
شيوخه ومن روى عنهم:
روى عن الحكم بن عتيبة وقتادة بن دعامة وسعد بن إبراهيم وقيس بن مسلم وأبي إسحاق السبيعي وحبيب بن أبي ثابت ومحارب بن ديثار ويزيد الفقير ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى والزهري ومحمد بن المنكدر وغيرهم.
تلامذته والرواة عنه:
روى عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وسليمان التيمي وابن نمير ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون وابن المبارك ويحيى بن آدم وخلق سواهم.
ثناء العلماء عليه:
قال يحىى بن سعيد ما رأيت أحدًا أثبت من مسعر وقال أحمد بن حنبل الثقة كشعبة ومسعر.
قال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا أبو خلدة فقال أحمد بن حنبل: كان ثقة؟ فقال: كان مؤدِّبًا وكان خيارًا، الثقة شعبة ومسعر.
قال وكيع شكُّ مسعر كيقين غيره.
وقال سفيان بن عيينة قالوا للأعمش إن مسعرًا يشك في حديثه قال شكه كيقين غيره.
قال هشام بن عروة: ما قدم علينا من العراق أفضل من ذاك السختياني أيوب وذاك الرؤاسي مسعر.
قال شعبة بن الحجاج: كنا نسمي مسعرًا المصحف، يعني من إتقانه، قال أبو معمر القطيعي قيل لسفيان بن عيينة من أفضل من رأيت؟ قال مسعر.
قال يعلى بن عبيد: كان مسعر قد جمع العلم والورع.
قال عبد الله بن داود الحُزيبي ما من أحد إلا وقد أُخذ عليه إلا مسعر قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت مثل مسعر كان من أثبت الناس.
قال سفيان الثوري كنا إذا اختلفنا في شيء أتينا مسعرًا.
قال أبو نعيم: مسعر أثبت ثم سفيان ثم شعبة وقال أيضا: كان مسعر شكاكًا في حديثه وليس يخطئ في شيء من حديثه إلا مرة حديث واحد.
قال ابن عمار: حجة، من بالكوفة مثله؟
قال العجلي كوفي ثقة ثبت.
وقال أبو حاتم مسعر أتقن من سفيان وأجود حديثًا وأعلى إسنادًا وهو أتقن من حماد بن يزيد وقد سأله ابنه: عن مسعر إذا خالفه الثوري؟ فقال الحكم لمسعر فإنه المصحف.
قال أبو زرعة: ثقة.
قال ابن المبارك:
من كان ملتمسًا جليسًا صالحًا
فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها
أهل العفاف وعلية الأقوام
قال الذهبي: الإمام الثبت شيخ العراق الحافظ.
قال ابن حجر: ثقة ثبت فاضل.
من أحواله وأقواله:
قال الحسن بن عمارة: إن لم يدخل الجنة إلا مثل مسعر إن أهل الجنة لقليل، قال خالد بن عمرو: رأيت مسعرًا كأن جبهته ركبة عنز من السجود.
قال محمد بن مسعر كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن.
قال معن: ما رأيت مسعرًا في يوم إلا وهو أفضل من اليوم الذي كان بالأمس، قال قبيصة: كان مسعر لأن ينزع ضرسه أحب إليه من أن يسأل عن حديث.
قال ابن السَّمَّاك رأيت مسعرًا في النوم فقلت أي العمل وجدته أنفع؟ قال ذكر الله.
قال مسعر لرجل رأى عليه ثيابا جيدة: ليس هذا من آلة طالب الحديث وكان طالب حديث.
قال مسعر من طلب الحديث لنفسه فقد اكتفى ومن طلبه للناس فليبالغ.
أنشد مسعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
وتَتْعَبُ فيما سوف تكره غِبّه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
قال أبو أسامة سمعت مسعرًا يقول إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟
قال الذهبي معلقا على هذا: قلت هذه مسألة مختلف فيها هل طلب العلم أفضل؟ أو صلاة النافلة والتلاوة والذكر؟ فأما من كان مخلصًا في طلب العلم وذهنه جيد فالعلم أولى ولكن مع حظ من صلاة وتعبّد فإن رأيته مجدًا في طلب العلم، لاحظ له في القربات فهذا كسلان مهين، وليس هو بصادق في حسن نيته، وأما من كان طلبه الحديث والفقه غِيةً، ومحبة نفسانية فالعبادة في حقه أفضل، بل ما بينهما أفعل تفضيل، وهذا تقسيم في الجملة، فَقَلَّ واللَّهِ من رأيته مخلصًا في طلب العلم دَعْنَا من هذا كلّه فليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف من حَيّز طلب العلم، بل اصطلاحٌ وطلبُ أسانيد عالية وأخذ عن شيخ لا يعي وتسميع لطفل يلعب ولا يفهم أو لرضيع يبكي أو لفقيه يتحدث مع حدث أو آخر ينسخ وفاضلهم مشغول عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس والقارئ إن كان له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء سواء تصحف عليه الاسم أو اختبط المتن أو كان من الموضوعات فالعلم عن هؤلاء بمعزل والعمل لا أكاد أراه بل أرى أمورًا سيئة. نسأل الله العفو.
قال مسعر: الإيمان قول وعمل. قلت: في هذا تبرئة له من تهمة الإرجاء.
قال مسعر: التكذيب بالقدر أبو جاد الزندقة.
أنشد مسعر:
ومشيد دارًا ليسكن داره
سكن القبور وداره لم تسكن
وقال يوصي ولده كدامًا:
إني منحتك يا كدام نصيحتي
فاسمع مقال أب عليك شفيق
أما المُزَاحةَ والمراء فدعهما
خلقان لا أرضاهما لصديق
إني بلوتهما فلم أحمدهما
لمجاور جارًا ولا لرفيق
والجهل يزري بالفتى في قومه
وعروقه في الناس أي عروق
قال محمد بن سعد: كان لمسعر أم عابدة فكان يخدمها.
وفاته: توفى مسعر في رجب سنة خمس وخمسين ومائة.(/1)
المراجع:
سير أعلام النبلاء.
تهذيب التهذيب.
تقريب التهزيب.(/2)
صبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)
عائض بن عبد الله القرني
الحمد لله ربِ العالمين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
الحمد للهِ حمدا حمدا، والشكرُ لله شكرا شكرا، الحمد لله عبوديةً واعترافا، الحمد لله استخزاءً وذلة.
والصلاةُ والسلام على معلمِ البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزعِ كيان الوثنية، صلى الله وسلم على محمدٍ ما اتصل مرءأ بنظر، وما اتصلت أذنُ بخبر، وما هتفَ ورقُ على شجر، وما نزل مطر، وما تلعلعَ الظلُ على الشجر، وعلى آله وصحبِه وسلمَ تسليما كثيرا.
أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدا عبدُه ورسولُه، أشهدُ أن لا غله غلا اللهث على رغمِ أنفِ من تكبر وكفر، وعلى رغمِ من جحد واستكبر، وعلى رغمِ من بعدَ وتنكر.
أيها المسلمون:
بشرى لنا معشرُ الإسلامِ إن لنا ....... من العنايةِ ركنا غير منهدمِ
لما دعا اللهُ داعينا لطاعتِه ............ بأكرمِ الرسلِ كنا أكرم الأممِ
أخوك عيسى دعا ميتا فقامَ له .........وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
مولاي صلي وسلم ما أردتَ على ... نزيلِ عرشكَ خير الرسل كلهمِ
لا يزالُ الحديثُ عن جانبٍ من جوانبِ عظمتِه (صلى اللهُ عليه وسلم)، وعظمتُه تبهرُ العقول، وتخلبُ الألباب، وتحيرُ الأفكار، إنهُ عظيمُ لأنَه عظيم، وإنه صادقُ لأنَه صادق، بنى رسالةً أرسى من الجبال، وأسسَ مبادئ أعمقُ من التاريخ، وبنى جدارا لا يخترقَه الصوت، إنه (صلى اللهُ عليه وسلم) حيثما توجهتَ في عظمتِه وجدتَ عظمتَه، فهيا بنا إلى جانبِ الصبرِ في حياتِه (صلى اللهُ عليه وسلم).
ذكرَ الصبرُ في القرآنِ في أكثرِ من تسعينَ موضعا، مرةً يمدحُ اللهُ الصابرين، ومرةً يخبرُ اللهُ بثوابِ الصابرين، ومرةً يذكرُ اللهُ عز وجل نتائجَ الصابرين، يقولُ لرسولِه (صلى اللهُ عليه وسلم): فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا رأيتَ الباطلَ يتحدى، وإذا رأيت الطغيانَ يتعدى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قل مالُكَ وكثرَ فقرُكَ وعوزُك وتجمعتَ همومُك وغمومُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قتلَ أصحابُك وقل أصحابُك وتفرقَ أنصارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا كثُرَ عليك الأعداء، وتكالبَ عليك البُغضاء وتجمعت عليكَ الجاهليةُ الشنعاء: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا وضعوا في طريقِك العقبات، وصنفوا لك المشكلات، وتهددوكَ بالسيئاتِ وأقبحَ الفعلات: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُك وتفرق أقرباءُك وأحباؤكَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فكانَ مثالا للصبرِ عليه السلام، سكنَ في مكةَ فعاداهُ الأقرباءُ والأحباء، ونبذَه الأعمامُ والعمومةَ، وقاتلَه القريبُ قبل البعيد فكانَ من أصبرِ الناس، أفتقرَ وأشتكى، ووضع الحجرَ على بطنِه من الجوع وظمأَ فكان من أصبرِ الناس.
مات أبنَه بين يديه وعمرُه سنتان، فكان ينظرُ إلى أبنِه الحبيبِ القريبِ من القلبِ، ودموعُ المصطفى (صلى الله عليه وسلام) الحارةُ تتساقطُ كالجُمانِ أو كالدرِ على خدِ أبنِه وهو من أصبرُ الناسِ يقول: تدمع العين، ويحزنُ القلب، ولا نقولُ إلا ما يرضي ربَنا، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون.
مات خديجةُ زوجتُه وامرأتُه العاقلةُ الرشيدة، العاقلةُ الحازمةُ المرباةُ في بيتِ النبوة، التي كانت تؤيدُه وتنصُره، ماتت وقت الأزمات، ماتت في العصرِ المكي يوم تألبت عليه الجاهليةُ، وقد كانت رضي اللهُ عنها ساعدَه الأيمن.
يشتكي إليه من كثرةِ الأعداء، ومن الخوفِ على نفسِه فتقول: كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا، إنك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلَ، وتعينُ الملهوفَ، وتطعمُ الضيفَ، كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا. فتموتُ في عام الحزنِ فيكونُ من أصبرِ الناسِ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تجمع عليه كفارُ مكةَ، أقاربُه وأعمامُه، نصبوا له كمينا ليقتلوه ويغتالوه، فدخلَ دارَه، وأتى خمسونَ من شبابِ قريش، كلُ شابٍ معَه سيفُ يقطرُ دما وحقدا وحسدا وموتا، فلما طوقوا دارَه كان من أصبرِ الناس، خرج من الدارِ وهم في نعاسٍ وسباتٍ فحثا على رؤوسِهم الترابَ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ولما حثا الترابَ على رؤوسِهم كانوا نياما قد تساقطت سيوفُهم من أياديهم، والرسول عليه الصلاة والسلامُ يتلو عليهم: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.(/1)
خرج إلى غارِ ثورٍ ليختفي من الأعداء، فتولبَ عليه الأعداءُ وتجمعوا على سطحِ الغار، ونزلوا في ميمنةِ الغار، وأحاطوا بميسرةِ الغار، وطوقوا الغار وأرادوا أن يدخلُوه فسخرَ اللهُ عنكبوتا وحماما فعشعشت تلكَ، وباضت تلك:
ظنوا الحمامَ وظنوا العنكبوتَ على .... خيرِ البريةِ لم تنسج ولم تحمِ
عنايةُ الله أغنت عن مضاعفةٍ ........ من الدروع وعن عالي من الأُطمِ
فما دخلوا الغار، يقولُ أبو بكر رضي الله عنه وهو في الغارِ مع المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم): يا رسولَ الله واللهِ لو نظرَ أحدُهم إلى موطني قدمِه لرآنا.
فيتبسمُ عليه الصلاةُ والسلام، يتبسمُ الزعيمُ العالميُ، والقائدُ الرباني، الواثقُ بنصرِ اللهِ ويقول: يا أبا بكر، ما ظنُك باثنين اللهُ ثالثُهما؟ ويقول: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وهي دستورُ للحياة، إذا جعت وظمئت فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُكَ فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وإذا أرصدت في طريقِك الكوارثَ والمشكلات ِفقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
فكان عليه الصلاةُ والسلامُ من أصبرِ الناس، ويخرجُ من الغار، والكفارُ لا يدرونَ أنه كانَ في الغار، فينسلُ إلى المدينةِ وليتَهم تركوه، بل يعلنونَ عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجدَه، جائزةَ العارِ والدمارِ وقلةِ الحياءِ والمروءة، مئةُ ناقةٍ حمراء لمن جاء به حيا أو ميتا، فيلاحقُوه سراقةُ أبن مالكٍ بالرمحِ والسيف، فيراهُ (صلى اللهُ عليه وسلم) وهو يمشي على الصحراءِ جائعا ظمئنا قد فارقَ زوجتَه فارق بناتِه، فارق بيتَه، فارق جيرانَه وأعمامَه وعمومتَه، ليس له حرسُ ولا جنود، لا رعايةُ ولا موكب، وسراقةُ يلحقوه بالسيف.
فيقولُ أبو بكرٍ:يا رسولَ الله والله لقد اقتربَ منا.
فيتبسمُ عليه الصلاة والسلام مرةً ثانيةً لأنَه يعلم عليه الصلاةُ والسلامُ أن رسالتَه سوف تبقى ويموتُ الكفار، وسوف تبقى دعوتُه حيةً ويموتُ المجرمون، وسوف تنتصرُ مبادئُه وتنهزمُ الجاهليةُ. فيقول: يا أبا بكرٍ ما ظنكَ باثنين اللهُ ثالثَهما.
ويقتربُ سراقةُ ويدعُ عليه المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) فتسيخُ أقدامُ فرسِه ويسقط، فيقومُ ويركب ويقترب فيدعُ عليه المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) فيسقط، ثم يقولُ:
يا رسولَ الله أعطني الأمان، الآن هو يطلبُ الأمان وأن يحقنَ المصطفى دمَه، وهو بسيفٍ والمصطفى بلا سيف، فرَ من الموتِ وفي الموتِ وقع. فيعطيهِ المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) أمانَه.
يا حافظَ الآمالِ أنت ...... حفظتني ونصرتني
وعدى الظلومُ علي ....... كي يجتاحني فنصرتَني
فأنقادَ لي متخشعا ..........لما رآك منعتني
يصلُ (صلى اللهُ عليه وسلم) إلى المدينة، ويشاركُ في معركةِ بدر، فيجوعُ حتى يجعلَ الحجرَ على بطنِه:
يا أهل الموائدَ الشهية، يا أهل التخمِ والمرطبات، والمشهياتِ والملابس، رسولُ الإنسانيةَ، وأستاذُ البشرية يجوع حتى ما يجدُ دقل التمرِ وحشف التمر: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ بناتُه الثلاث هذه تلو الأخرى، تمتُ الأولى فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد أيامٍ تموتُ الثانية فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ الثالثةَ فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يموتُ أبنُه إبراهيم، فيغسلُه ويكفنُه ويدفنُه ويعودُ من المقبرةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
عجبا من قلبِك الفذ الكبير. لأن اللهَ يقول لَه: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يشاركُ في معركةِ أحد، فيهزَمُ أصحابُه، ويقتلُ من قرابتِه ومن سادةِ أصحابِه، ومن خيارِ مقربيه سبعونَ رجلا أولُهم حمزة رضي اللهُ عنه، عمُه سيفُه الذي بيمينِه، أسدُ اللهِ في أرضِه، سيدُ الشهداءِ في الجنة، ثم يقفُ (صلى اللهُ عليه وسلم) على القتلى، وينظرُ إلى حمزةَ وهو مقتولُ مقطعُ، وينظرُ إلى سعدَ أبنُ الربيعِ وهو ممزق، وأنسُ ابنُ النظر وغيرهم من أولئك النفر فتدمعُ عيناه، وتسيلُ دموعُه الحارة على لحيتِه الشريفة، ولكن يتبسم لأن الله قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ويعودُ عليه الصلاةُ والسلام فيرسلُ قادتَه إلى مؤتةَ في أرض الأردنَ ليقاتلواُ الروم، فيقتلُ الثلاثةُ القوادُ في ساعةٍ واحدة، زيدُ أبنُ حارثة، وجعفرُ الطيار أبين عمه، وعبدُ الله أبن رواحه، ويراهم وينظرُ إليهم من مسافةِ مئاتِ الأميال، ويرى أسرتَهم من ذهب تدخلُ الجنةَ، فيتبسمَ وهو يبكي لأن اللهَ قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.(/2)
يتجمعُ عليه المنافقونَ، والكفارَ، والمشركون، واليهودَ، والنصارى، وإسرائيل ومن وراءَ إسرائيلَ فيحيطون بالمدينة، فيحفرُ (صلى الله عليه وسلم) الخندق، ينزلُ على الخندقِ ويرفعُ الثوب، وعلى بطنِه حجرانِ من الجوع، فيضربُ الصخرةَ بالمعولِ فيبرقُ شذا النارِ في الهواء فيقولُ:
هذه كنوزُ كسرى وقيصر، واللهِ لقد رأيتُ قصورَهما، وإن اللهَ سوف يفتحُها علي.
فيضحكُ المنافقونَ ويقولون: ما يجدُ أحدُنا حفنةً من التمر، ويبشرُنا بقصور كسرى وقيصر.
فيتبسم لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد خمسٍ وعشرين سنةً تذهبُ جيوشُه وكتائبُه من المدينةِ فتفتح أرض كسرى وقيصر، وما وراء نهر سيحونَ وجيحون، وطاشكند وكابل وسمرقن والسند والهند وأسبانيا، ويقفُ جيشُه على نهر اللوار في شمالِ فرنسا.
لماذا لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فظلمُ ذوي القربى أشدُ مضمضةً ... على النفسِ من وقعِ الحسامِ المهندِ
يأتيه أبنُ العمَ، فيتفل على الرسولِ عليه الصلاةُ والسلام، يتفل على الرسول، على معلمِ الخير، على هادي البشريةَ، فيتبسم عليه الصلاةُ والسلام ولا يقولُ كلمة، ولا يغضب، ولا يتغيرُ وجهَهُ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يأتي أبو جهلٍ فيأخذَ ابنةَ المصطفى، طفلةُ وادعةُ أزكى من حمام الحرم، وأطهر من ماء الغمام فيضربُها على وجهِها ضربَه الله، فيتبسم عليه الصلاةُ والسلام ولا يقولُ كلمةً واحدة: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يأتي الأعرابيُ من الصحراء فيجرجرُه ببردتِه، ويسحبَه أمامَ الناس، وهو يتبسمُ (صلى اللهُ عليه وسلم): فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
أي صبرٍ هذا!
إنها واللهِ دروسُ لو وعتَها الأمم لكانت شعوبا من الخيرِ والعدلِ والسلام، لكن أين من يقرأُ سيرتَه، أين من يتعلم معاليه.
يمرُ عليه في بيتِه ثلاثةُ أيامٍ وأربعة فلا يجدُ ما يُشبعُ بطنَه، لا يجدُ التمرَ، لا يحدُ اللبن، لا يجد خبزَ الشعير، وهو راضٍ برزقِ اللهِ وبنعيم الله: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ينامُ على الحصيرِ، ويؤثرُ الحصيرُ في جنبِه، وينامُ على الترابِ في شدةِ البرد، ولا يجدُ غطاءً: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
بيتَه من طين، إذا مدَ يدَه بلغتِ السقف، وإذا اضطجعَ فرأسُه في جدارٍ وقدميه في جدار لأنَها دنيا حقيرة: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فرعونُ على منبرِ الذهب، وفي إيوانِ الفضة، ويلبسُ الحرير. وكسرى في عمالةِ الديباج، وفي متاعِ الدررِ والجواهرِ، ومحمدُ (صلى اللهُ عليه وسلم) على التراب: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
أتى جبريلُ بمفاتيحِ خزائنِ الدنيا وسلمها إلى المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وقال له:
أتريدُ أن يحولَ اللهُ لك جبالَ الدنيا ذهبا وفضة؟
فقال لا، بل أشبعُ يوما وأجوعُ يوما حتى ألقى الله.
حضرتَه الوفاة، فقالوا له: أتريدُ الحياة، أتريدُ أن تبقى ونعطيكَ ملكا يقاربُ ملك سليمان عليه السلام؟
قال لا بل الرفيقِ الأعلى، بل الرفيقِ الأعلى.
أي عظمةٍ هذه العظمةُ، أي إشراقٍ هذا الإشراق، أي إبداعٍ هذا الإبداع، أي روعةٍ هذه الروعة.
بشرى لنا معشرُ الإسلامِ إن لنا ... من العنايةِ ركنا غير منهدمِ
لما دعا اللهُ داعينا لطاعتِه ........ بأكرمِ الرسلِ كنا أكرم الأممِ
أقولُ ما تسمعون وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إن هو الغفور الرحيم.
................................
الحمد لله الذي كان بعبادِه خبيرا بصيرا، وتبار الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهارَ خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
والصلاةُ والسلام على من بعثَه ربُه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
يقولُ اللهُ سبحانَه وتعالى له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً.
فأصبر صبرا جميلا........ وَاهجرهم هجرا جميلا.
ما هو الصبرُ الجميل الذي أمر اللهُ رسولَه (صلى الله عليه وسلم) أن يصبرَه؟
الصبرُ الجميل هو الذي لا شكوى فيه، أن تصبرَ ولا تشتكي على أحد، فالشكوى على الله، ولا يرفعُ الضرَ إلا الله، ولا يجيبُ دعاءَ المضطرِ إلا الله، ولا يغنيكَ من الفقرِ إلا الله، ولا يشافيكَ من المرضِ إلا الله، ولا يجبرُ مصيبتَك إلا الله.
فلذلك كان عليه الصلاةُ والسلام لا يشكو همومَه وغمومَه إلا على الله.
دخل عليه أبنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه فوجدَ الرسولُ (صلى اللهث عليه وسلم) مريضا على الفراش، سيدُ البشر، خيرُ من خلقَ الله أصابتهُ الحمى فصرعتُه على الفراش، الحمى مع مشاكلِ الدعوة، مع همومِ الدعوة، مع محاربةِ الأعداء، مع الفقرِ، مع الجوع، مع موتِ الأولادِ والبنات تصيبُه الحمى في جسمِه.(/3)
يقول أبن مسعودٍ دخلتُ على الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) وهو يوعَكُ وعكا شديدا، أي يرتعدُ على الفراشِ من شدةِ الحمى، فوضعتُ يدِ على جسمِه الشريف، قلت يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي، يعني أفديك بأبي وأمي، وصدق رضي اللهُ عنه فقد فدوه بالآباءِ والأمهات:
فدىً لك من يقصرُ عن مداكَ ..... فما شهمُ إذا إلا فِداك
أروحُ وقد ختمتُ على فؤادي .... بحبِك أن يحلَ به سواكَ
إذا اشتبكت دموعُ في خدودٍ ...... تبينَ من بكى ممن تباكى
قلت يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي، يعني أفديك بأبي وأمي إنك لتوعَكُ وعكا شديدا.
قال نعم إني لأوعَكُ كما يوعَكُ رجلانِ منكم، أي جمع اللهُ عليه مرضين.
لتُ يا رسول الله ذلك لأن لك الأجرُ مرتين؟
قال أجل.
ما من إنسانٍ يصيبُه مرضُ أو همُ أو غمُ أو حزنُ إلا كفرَ اللهُ به من خطاياه، في صحيحِ البخاري باب: هل يقولُ الرجلُ وا رأساه، هل يتوجع، يعني هل يقولُ آه من المرض؟
دخلت عائشةُ على الحبيبِ (صلى اللهُ عليه وسلم) وبها صداعُ فقالت: وا رأساه!
فقال المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) وهو في مرضِ الموت: بل أنا وا رأساه، واللهِ لقد هممتُ أن أدعو أباكِ وأخاكِ لأكتبَ لهم كتاب.
لأنَه علم عليه الصلاةُ والسلام أنه سوف يموتُ بعدَ أيام.
تأتيه الحمى فتهُزُه هزا عنيفا، وفي مرضِ موتِه مُرضَ مرضا عجيبا، سمعَ الآذان، سمع بلالاُ يطلقُ التكبيرَ من على المنارة، لكن لا يسمعُ بلالاً إلا أهلُ القلوبُ الحية.
قال أجعلوا لي ماءً لأغتسل وأصلي بالناس.
قالوا يا رسولَ الله إنك مريض.
قال أسمعُ الأذان واصلي في البيت.
فوضعوا له قربةً فأغتسل، فلما قام ليذهب إلى المسجدِ أغمي عليه، فجعلوا له ماءً فأغتسل أخرى فأغمي عليه، فجعلوا له الماء ثالثةً فأغمي عليه، ورابعةً وخامسة، وفي الأخيرِ لفظ أنفاسَه وقال ودمعُه تهارقُ على خدِه لأنَه يريدُ الصلاة: وجعلت قرةُ عيني في الصلاة.
كان يقول: أرحنا بها يا بلال، أرحنا بها من همومِ الدنيا، وتعبِ الدنيا، ومشاكلِ الدنيا، ومخالفةِ الدنيا.
وقل لبلالِ العزمِ من قلبِ صادقٍ ... أرحنا بها إن كنت حقا مصليا
توضأ بماء التوبةِ اليومَ مخلصا ..... به ترقى أبوابَ الجنانِ الثمانيا
قال أمروا أبا بكرٍ فليصلي بالناس، فذهب بلالُ إلى أبا بكرٍ وأخبرَه أن يصلي بالناسِ فبكى أبو بكرٍ وقال اللهُ المستعان، إن للهِ وإنا إليه راجعون.
فصبر (صلى اللهُ عليه وسلم) على هذه الأحداث: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فيا أيها المسلمونَ، يا أصحابَ وأتباع وتلاميذ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم)، من أصيبَ منكم بمصيبة فليتعزى بالرسول عليه الصلاةُ والسلام.
إن هذا دينُ العظماء، إنه دينُ العقلاء، إنه دينُ الشرفاء، أهلُ المبادئِ الأصيلة، والأهدافِ الجليلة، والأخلاقِ الجميلة.
يموتُ أبنُكَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تمرض زوجتُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تذهب عيناك، أو يصمُ سمعُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تصابُ بمرضٍ أو حادثٍ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يزلزلُ بيتُك أو يدمرُ عقارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
كلُ مصيبةٍ تهون إلا مصيبةُ الدين، كلُ مصيبةٍ سهلةٍ إلا يوم يتخلى اللهُ عنكَ فتصبحُ بعيدا عن الله، كلُ شيءٍ سهلُ إلا يومَ يصبحُ الإنسانُ فاجرا متنكرا للمسجد وللمصحفِ ولذكرِ الله، كلُ شيءٍ سهلُ إلا هذا الدين أن لا يفوتُك من قلبِك.
عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمرَكم اللهُ بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وقد قال عليه الصلاةُ والسلام: من صلى علي صلاةً واحده، صلى اللهُ عليه بها عشرا.
اللهم صلي على عبدك وحبيبِك محمد، وأعرض عليه صلاتَنا وسلامَنا في هذه الساعةِ المباركة، يا رب العالمين.
وأرضى اللهم عن أصحابِ الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أجمع كلمةَ المسلمين، اللهم وحد صفوفَهم، اللهم خذ بأيدِهم إلى ما تحبُه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم وفقِهم لما تحبُه وترضاه، اللهم أخرجهُم من الظلماتِ إلى النور، اللهم أهدِهم سبلَ السلام.
اللهم بعلمِك الغيب، وبقدرتِك على الخلق، أحيينا ما كانت الحياةُ خيرا لنا،وتوفَنا إذا كانت الوفاةُ خيرا لنا.
اللهم إنا نسألكَ خشيتَك في الغيبِ والشهادة، ونسألُكَ كلمةَ الحقِ في الغضبِ والرضاء، ونسألُك القصدَ في الغنى والفقر، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ والشوقَ إلى لقاءِك في غيرِ ضراءَ مضرة، ولا فتنةً مظلة، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنصر كل من جاهدَ لإعلاءِ كلمتِك، ولرفعِ رايتكِ، في برِكَ وبحرِك يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسَنا، وإن لم تغفر لنا وترجمنا لنكونن من الخاسرين(/4)
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المر سلين
--------------------------------------------------------------------------------
واحات الهداية(/5)
صة النخلة التي جعلت سبباً لنزول سورة
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص وانتشرت في بعض كتب التفاسير بل جعلوها سببًا من أسباب نزول سورة "الليل".
أولاً: متن القصة:
رُوِيَ عن ابن عباس: أنَّ رجلاً كان له نخل ومنها نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، فكان الرجل إذا جاء الدار فصعد إلى النخلة ليأخذ منها التمرة، فربما تقع تمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل من نخلته فيأخذ التمرة من أيديهم وإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرج التمرة من فيه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "اذهب"، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة، فقال له: "أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة".
فقال الرجل: لقد أعطيت، وإن لي نخلاً كثيرًا وما فيه نخلة أعجب إليَّ ثمرة منها، ثم ذهب الرجل ولقي رجلاً كان يسمع الكلام من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن صاحب النخلة فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أتعطيني يا رسول الله ما أعطيت الرجل إن أنا أخذتها فقال: نعم، فذهب الرجل فلقي صاحب النخلة ولكليهما نخل فقال له صاحب النخلة: أشعرت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة؟ فقلت له: لقد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها ولي نخل كثير ما فيه نخلة أعجب إليَّ ثمرها منها، فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا، إلا أن أعطي بها ما أريد ولا أظن أن أعطى، فقال: فكم مناك منها؟ قال: أربعون نخلة، قال: لقد جئت بأمر عظيم، ثم سكت عنه فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة، فأشهد لي إن كنت صادقًا، فدعا قومه فشهدوا له، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، إن النخلة قد صارت لي وهي لك، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار فقال له: "النخلة لك وليعالك".
فأنزل الله عز وجل: والليل إذا يغشى إلى قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى إلى آخر السورة.
ثانيًا: التخريج:
الحديث الذي جاءت به هذه القصة أخرجه الإمام ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10-3439) (ح19355).
وأورد هذه القصة السيوطي في "لباب النقول في أسباب النزول" (ص229) في أسباب نزول سورة الليل، وأورد السيوطي أيضًا هذه القصة في كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (6-357)، وأوردها الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (4-517) مع العزو لابن أبي حاتم والسند الذي جاءت به القصة قال فيه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: "أن رجلاً كان له نخل... القصة".
ثالثًا: التحقيق:
القصة واهية وسندها ضعيف جدًا وله علتان:
الأولى: حفص بن عمر العدني.
1- أورده الإمام المزي في "تهذيب الكمال" (5-53) ترجمة (1387) وقال: "حفص بن عمر بن ميمون العدني أبو إسماعيل الملقب بالفرخ". ثم بيَّن أنه روى عن: الحكم بن أبان العدني وغيره، كذلك بيَّن أنه روى عنه: محمد بن حماد الطهراني وغيره.
2- قال الإمام النسائي في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (133): "حفص الفَرخ اليماني العدني، ليس بثقة، وهو حفص بن عمر".
3- أثبته الإمام الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكين" رقم (168) قائلاً: "حفص بن عمر الفرخ العدني، عن الحكم بن أبان". اه.
قلت: وقد يُظن أن الدارقطني باقتصاره على ذكر اسم الراوي فقط أنه سكت عنه، ولكن هيهات لما يظنون حيث أن مجرد ذكر الاسم يكون الراوي متروكًا كما هو مبين في القاعدة المذكورة في أول الكتاب.
قال الإمام البرقاني: "طالت محاورتي مع ابن حمكان للإمام أبي الحسين علي بن عمر الدارقطني- عفا الله عني وعنهما- في المتروكين من أصحاب الحديث فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات". اه.
4- وأورده الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (2-354) ونقل عن ابن معين قال: "حفص بن عمر العدني ليس بثقة"، وعن العقيلي قال: "يحدث بالأباطيل". وقال الآجري عن أبي داود: ليس بشيء.
5- وقال الإمام ابن حبان في كتابه "المجروحين" (1-257): "حفص بن عمر العدني يعرف بفرخ كان ممن يقلب الأسانيد قلبًا".
والعلة الأخرى: الحكم بن أبان:
1- أورده الإمام المزي في "تهذيب الكمال" (5-78-1404) وقال: "الحكم بن أبان العدني أبو عيسى"، ثم بيَّن أنه روى عن عكرمة مولى ابن عباس وغيره كذلك بين أنه روى عنه: حفص بن عمر وغيره.(/1)
2- ثم نقل عن سعيد بن نصير، عن سفيان بن عيينة قال: "قدم علينا يوسف بن يعقوب قاض كان لأهل اليمن، وكان يُذكر منه صلاح فسألته عن الحكم بن أبان فقال: ذاك سيد أهل اليمن، كان يصلي من الليل، فإذا غلبته عيناه نزل إلى البحر فقام في الماء يُسَبِّح مع دواب البحر".
ثم نقل عن أحمد بن عبد الله العجلي قال:
كان الحكم بن أبان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر الله حتى يصبح، قال: نذكر الله مع حيتان البحر ودوابه حتى نصبح.
قلت: وهذا الفعل مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ودليل هذه المخالفة ما أخرجه الإمام البخاري في كتابه "التهجد" باب "ما يكره من التشديد في العبادة" في "صحيحه" (ح1150)، ومسلم (ح784) من حديث أنس رضي الله عنه قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الجبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا، حُلُّوه، ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد". واللفظ للبخاري.
قلت: وهذه الأفعال المخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أوهام الحكم بن أبان وضعف حفظه للصحيح.
ولذلك بيَّن الحافظ ابن حجر أن الحكم بن أبان ضعيف الحفظ حيث قال في "التقريب" (1-190): "صدوق له أوهام".
3- نقل الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (2-364) عن ابن عدي في ترجمة حسين بن عيسى أنه قال: "الحكم بن أبان فيه ضعف ولعل البلاء منه لا من حسين بن عيسى".
قلت: وما نقله ابن حجر عن ابن عدي في كتابه "الكامل في ضعفاء الرجال" (2-355) (118-487).
ومن هاتين العلتين يتبين الضعف الشديد لهذه القصة الواهية.
ولذلك قال الحافظ ابن كثير في تعقيبه على حديث القصة: "هكذا رواه ابن أبي حاتم وهو حديث غريب جدًا"، وضعف القصة كذلك السيوطي في "الدر المنثور" (6-603).
تنبيه هام
وقع تصحيف في سند القصة في تفسير ابن كثير، حيث جعل شيخ ابن أبي حاتم هو: أبو عبد الله الظهراني (بالظاء المعجمة)، وذلك كما هو مُبين في طبعة دار الكتب العربية، والتي صُدّرت بأن هذه الطبعة: "قوبلت على عدة نسخة خطية بدار الكتب المصرية وصححها نخبة من العلماء"، وكذلك طبعة مكتبة الإيمان بالمنصور التي صُدِّرت بأنها: "طبعة جديدة- مضبوطة- محققة- معتنى بإخراجها- ومن أصح الطبعات وأكثرها شمولاً". وكذلك طبعة الريان للتراث.
قلت: وبالرجوع إلى الأصل الذي نقل عنه الإمام الحافظ ابن كثير وهو: "تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم" تبين أن شيخه هو: أبو عبد الله الطهراني (بالطاء المهملة) كما قال في "تفسيره" (10-3439) ح(19355): حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس. فذكر القصة.
تحقيق التصحيف
حتى لا يتقول علينا متقول ويقول: "قد يكون التصحيف حدث في مطبوعة تفسير ابن أبي حاتم عند نقله من المخطوطة".
كان لابد من الرجوع إلى كتب الرجال وتركيز البحث حول مسألتين:
الأولى: شيخ الراوي.
الثانية: تلميذ الراوي.
الأولى: شيخ الراوي الذي روى عنه:
بالرجوع إلى كتاب "تهذيب الكمال" (5-52-1387) وجد أن: حفص بن عمر العدني الملقب بالفرخ هو شيخ أبي عبد الله الطهراني ولا يوجد ما يسمى بالظهراني.
حيث ذكره الإمام المزي فيمن روى عن حفص بن عمر مبينًا اسمه فقال عنه أنه: "محمد بن حماد الطهراني".
المسألة الثانية: تلميذ الراوي الذي روى له:
بالبحث في "تهذيب الكمال" (16-217-5749) في ترجمة: محمد بن حماد.
قال الإمام المزي: "محمد بن حماد الطهراني، أبو عبد الله الرازي، والد عبد الرحمن بن محمد بن حماد، من طهران الري لا من طهران أصبهان".
وبيّن أنه روى عن: حفص بن عمر العدني وغيره.
ثم بين أنه روى عنه: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وغيره.
قال الإمام النووي في "التقريب" (2-153- تدريب) النوع الخامس والثلاثون: "معرفة المصحّف: هو فن جليل، وإنما يحققه الحذّاق، والدارقطني منهم، وله فيه تصنيف مفيد، ويكون تصحيف لفظ وبصر في الإسناد والمتن، فمن الإسناد: العوّام بن مراجم "بالراء والجيم" صحّفه ابن معين فقاله بالزاي والحاء". اه.
قلت: وبهذا نواصل الغاية التي من أجلها قمنا بعمل هذه السلسلة وهي:
1- أن يقف القارئ الكريم على درجة هذه القصة.
2- أن يكون الداعية على حذر ويسلم له عمله على السنة وحدها.
3- أن يجد طالب هذا الفن نماذج من علم الحديث التطبيقي.
والله من وراء القصد.(/2)
( صدأ النفوس )
عناصر الموضوع:
1. ما الفقر أخشى عليكم
2. الصحابة وحالهم مع الغنى
3. حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء
4. وقفة مع المسافرين
صدأ النفوس:
في هذه الخطبة تحدث الشيخ عن أحوال الصحابة رضوان الله عليهم مع الفقر، مبيناً كيف صبروا على ذلك ولم يفتنوا في دينهم بسبب الفقر، ثم تكلم عن أحوالهم وقد فتحت لهم الدنيا على مصراعيها، وأتتهم الأموال من كل حدب وصوب، فلم يتغيروا أبداً، وإنما أدوا حق الله في شكر تلك النعم، وهذا بخلاف ما عليه المسلمون اليوم الذين أغناهم الله فتكبروا وتجبروا، وطغوا وأفسدوا إلا من رحم ربك.
ما الفقر أخشى عليكم:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون: إن فتنة المال من الفتن العظيمة التي وقع فيها المسلمون، وفتنة الجاه من الفتن الكبيرة التي أودت بكثير من أخلاق المسلمين، هذه الفتنة التي عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها فقال: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخشى على أصحابه الفقر، (لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) تنشغلون بالدنيا وبالأموال، فتفتنون فيصبكم ما أصاب الأمم من قبلكم. أيها المسلمون: مالنا نرى اليوم كثيراً من الناس إذا أصابتهم نعمة من الله كفروا، وإذا وسع الله عليهم شيئاً من معيشتهم نسوه سبحانه وتعالى، وإذا أعطاهم الله وظيفة أو جاهاً تكبروا على عباد الله. ما هو السبب الذي يجعل كثيراً من النفوس تصاب بهذه المصيبة الكبيرة؟ أو رجل يزاد له في دخله شيء أو يتجر تجارة أو تكثر أمواله بوجه من الوجوه، فتخرب نفسه ويتعالى على عباد الله، ويقطع الرحم، ويتكبر في الأرض، ويفسد فيها ويعلو علواً كبيرا؟!
الصحابة وحالهم مع الفقر:(/1)
لا بد لنا من رجعة إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف عاشوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا، وكيف كانوا وصاروا بعد أن فتحت عليهم الدنيا. إن الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً منهم قد أدرك الحالين: حال الفقر وحال الغنى، فكيف كان حالهم في وقت الفقر وكيف صار حالهم في وقت الغنى، هل تغيرت نفوسهم؟ هل اضطربت أحوالهم؟ هل رجعوا وارتدوا على أعقابهم؟ كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الفتوحات حالاً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة مالي ولبلال من طعام -ليس لي ولبلال طعام- إلا شيء يواريه إبط بلال)، قالت عائشة : (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) ما شبعوا من طعام البر ثلاث ليالٍ متوالية، ما مر عليهم، وقالت: (ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) وقالت: (كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو التمر والماء، إلا أن نأتي باللحيم -واللحيم تصغير لحم- من الجيران أو الصحابة الذين يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قالت لابن أختها عروة : (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار)، قال قتادة : (كنا عند أنس وعنده خباز له بعد ذلك، قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله). كان أهل الصفة فقراء، ليس لهم مأوى فينامون في المسجد، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإضافتهم ويأخذ معه بعضاً منهم إلى بيته، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهله فيقول: (عندكم طعام؟ فيقولون: لا. فيقول: إني إذاً صائم). ولما أراد الصحابي أن يتزوج لم يجد مهراً ولا خاتماً من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لم يغنِ عنها شيئاً وبقي هو بغير ثياب. عن عائشة قالت: (دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل -محتاجة ومسكينة- فلم تجد شيئاً عندي غير تمرة) -يا أيها المسلمون! اتعظوا! بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا تمرة- فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال: من ابتلي بهذه البنات بشيء كن له ستراً من النار) فقم بتربيتهن -يا أبا البنات- واحفظهن يحفظك الله في الدنيا والآخرة. كان الصحابة يقدم عليهم إخوانهم من سائر النواحي فقراء مطاردين مشردين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) هذا شيء يسير جداً من حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما شبعوا من التمر إلا بعد معركة خيبر ، أما غير ذلك فلم يكونوا يرون الطعام إلا يسيراً، وكانت خفافهم مشققة وثيابهم مرقعة رضوان الله عليهم، يجاهدون في سبيل الله ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.
الصحابة وحالهم مع الغنى:(/2)
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومحاربة أهل الردة بدأت الفتوحات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بدأت الفتوحات فانهالت الأموال على الصحابة لما فتحوا المدائن وهي مستقر كسرى وعاصمة مملكته، ومكان كرسيه وعرشه، أخذوا تاج كسرى وهو مرصع بالجواهر، وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ ومصورة فيه جميع ممالك كسرى، بأنهارها وقلاعها وأقاليمها، وكان كسرى إذا جاء يدخل تحت تاجه، ويجلس على عرشه وتاجه معلق بسلاسل الذهب، لأنه لا يستطيع حمله على رأسه من ثقله وكثره ما فيه من الذهب والجواهر المرصعة، وملابس كسرى مرصعة بالجواهر، لما قاتل الصحابة الفرس فهزموهم وأخمد الله نار المجوس وجدوا تاج كسرى وبساطه واللآلئ والجواهر، ووجدوا دوراً مليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافوراً كثيراً جداً ظنوه ملحاً خلطوه بالعجين فصار العجين مراً، فعرفوا أنه ليس بملح. لما قسم سعد الغنائم حصل الفارس اثنا عشر ألفاً وكانوا كلهم فرسان، كانوا في معركة بدر ليس معهم إلا فارس، وبعضهم يتعاقبون بعيراً وبعضهم مشاة حتى عقلة البعير لا يجد، وبعث سعد أربعة أخماس البساط إلى عمر ، فلما نظر إليه عمر قال: [إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال علي : إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا، ثم قسم عمر البساط على المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفاً]. توالت الأموال على الصحابة، غنائم جهاد، وأعطيات، و عمر يعدل ويقسم على المسلمين، و عمر كيف كان حاله؟ الصحابة بعد الفتوحات والغنائم -يا أيها المسلمون- كيف صار حالهم؟ لما فتحت عليهم الدنيا كيف كان حالهم؟ خليفتهم كان في إزاره اثنتا عشرة رقعة، وفي ردائه أربع رقع كل رقعة مختلفة عن الأخرى وكان باستطاعته أن يأكل لحماً مشوياً كل يوم، ولكنه كان يأكل زيتاً وكان يأكل خبزاً وملحاً، ويرفض أن يأكل من الطعام الهنيء، ورفض أن يجلس على الفراش الوثير، ونام في المسجد، حتى دخل مرسول من الكفرة فرآه في المسجد قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر . كيف كان حال الصحابة بعد أن صاروا أمراء على البلدان، هل طغوا وبغوا؟ هل غيرتهم الأموال؟ هل غيرتهم الدنيا؟
خباب يحكي حال الصحابة:
روى البخاري رحمه الله عن أبي وائل قال: عدنا خباباً -و خباب أصابه ما أصابه في مكة ، أحرق ظهره بأسياخ الحديد ومع ذلك عاش حتى رأى الفتوحات- قال خباب : هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، ما أردنا مالاً ولا شيئاً من الدنيا فوقع أجرنا على الله تعالى من مكة إلى المدينة ، فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً -هذا خباب يتكلم بعد أ، تدفقت الأموال- فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير الذي مات قبل الفتوح فوفى الله له أجره كاملاً، لم يأخذ منه شيئاً في الدنيا، قال خباب : منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من جاءته الأموال، أينعت له الثمرة فهو يقطفها، هذا الصحابي يذكر نفسه ويذكر الحاضرين، ويذكر هذا الحديث ما كان عليه الصحابة من الصدق في وصف أحوالهم، يقول: منا من مات في فتح البلاد فتوفر له ثوابه كاملاً، ومنا من بقي حتى نال من طيبات الدنيا حتى خشينا أن حسناتنا قد عجلت لنا، وأن أجر الطاعة قد جاءنا منه شيء في الدنيا، وأنه نقصنا من الآخرة شيء، ولذلك كان عمر يتجنب هذا ويقول: إن قوماً قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]. روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أتي بطعام وكان صائماً - عبد الرحمن بن عوف من كبار الأغنياء، قال لما قرب إليه الطعام، فنظر إلى الطعام الشهي- قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -هذا من تواضع عبد الرحمن رضي الله عنه، مع أنه أفضل من مصعب - وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطت رجلاه بدت رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، ما تغيرت نفوسهم والله، ولا تبدلت، ولا بطروا، ولا أشروا، وإنما تواضعوا لله، كانوا يذكرون على الطعام إخوانهم القتلى قبل الفتوحات.
فضالة بن عبيد وحاله أثناء الإمارة:(/3)
عن عبد الله بن بريدة : أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد - فضالة بن عبيد هذا صحابي جليل، وهو بمصر صار أميراً على مكان- فقدم عليه وهو يمد ناقة له، الأمير يسقي الناس مديداً من الماء، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثاً -المسافر القادم رأى أمير البلد شعثاً متفرق الشعر- فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟! قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، يعني: التدهن والتنعم -وشبابنا اليوم بالكريمات والشعر بالاستشوار وصالونات الحلاقة، وهذا أمير البلد فضالة بن عبيد شعره متفرق، والتنعم والدعة ولين العيش خطير على الأمة إذا تفشى فيها، هل يرجى منها الجهاد أو الوقوف أمام الأعداء؟ كلا والله- ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً - أحياناً نحتفي لنشعر بالخشونة، هذا الأمير يحتفي، ما تغيرت أحوالهم بل بقوا على إيمانهم، إنهم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى لما جاءتهم الدنيا ما تغيروا.
أبو هريرة بعد تولي الإمارة:
عن محمد قال: [كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح في ردائه، وقال: الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان] هذا بعد الفتوحات، وصار أبو هريرة أميراً وقال: [ الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] أي: يظنه مصروعاً فيه جني، فيجلس على صدره ليرقيه ويقرأ عليه فيقول أبو هريرة : ليس هناك جنون ولا جن ما هو إلا الجوع- قال أبو هريرة : [والله إني كنت لأعتمد بكتفي على الأرض من الجوع، وكنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي فيأتي الآتي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع]. ماذا صار حال أبي هريرة بعدما صار أميراً؟ عن ثعلبة بن أبي مالك القرضي قال: أقبل أبو هريرة في السوق -صار أميراً على البلد في عصر الفتوحات- يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير، أو في رواية يقول: طريق للأمير، طريق للأمير، طريق للأمير، والأمير يحمل حزمة من الحطب على ظهره. فهل تغيرت أحوالهم بعد الأموال والمناصب؟ ما تغيرت أحوالهم، فكيف حال المسلمين اليوم؟ تأتيه وظيفة أو يصبح موظفاً بعد أن كان طالباً، أو ينجح في شيء من التجارة، انظر إليهم في فسقهم وماذا يفعلون؟ انظر إلى حالهم لتعلم فتنة المال.
الصحابة ينفقون أموالهم في سبيل الله:(/4)
كان عند أنس خباز يخبز له، وربما صنع له لونين من الطعام، وخبزاً حوارياً -يعني: نقياً منخولاً- يجيء إليه الضيوف يكرم الضيوف يأتي بالخباز يصنع ويطبخ لهم، هذا في عصر الفتوحات، قال قتادة : [كنا نأتي أنس وخبازه قائم و... يقول: كلوا -وهذا إكرام للضيف- يقول: كلوا أنتم كلوا فما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة -وهي الذبيحة الصغيرة الطرية التي تشوى- حتى لقي الله عز وجل]. كل ما تقدم من الأحاديث في صحيح البخاري أو هو حديث صحيح، وقال عروة : [بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة خادمة عائشة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم واحد من المائة ألف من أجل طعام الإفطار، فقالت عائشة : لو ذكرتيني لفعلت] وتصدقت بسبعين ألف درهم وإنها لترقع جاني درعها رضي الله عنها. وزار أبو هريرة قوماً فأتوه برقاق فبكى قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه. ومن أعظم الأحوال خطبة عتبة بن غزوان في صحيح مسلم ، وهو أمير البصرة قال في خطبته للناس: [ولقد رأيتني سابع سبعة -أسلم سابع واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك ، فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني ..] -الآن هذا الكلام يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الأمير في الخطبة بعد أن بين حاله السابق- ثم قال: [ وإني أعوذ بالله أن أكون عظيماً وعند الله صغيراً ] أعلم القوم بأول حاله وآخره إظهاراً للتواضع وتحدثاً بنعمة الله وتحذيراً من الاغترار بالدنيا. أيها المسلمون: هل يكون في هذا الحال وفي هذا الوصف عظة للمتعظ، وعبرة للمعتبر، ومانعاً لنا من الكبر إن أصابنا شيء من الدنيا، أو نعمة المال أو التجارة، أو المناصب والوظائف؟! هذا حال الصحابة ربما أتاهم من المال أكثر مما أتانا، لكن ما تغيروا رضي الله عنهم، بل بقوا على حفظ العهد الذي عاهدوا به محمداً صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المال ونعوذ بك من فتنة الجاه ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء:
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد السراج المنير سيد الزاهدين وإمام العابدين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين. أيها المسلم: إذا رأيت الغني يصف حاله أيام فقره، ويذكر نعمة ربه، فهذا فيه خير كثير. قال غني لأولاده: كنا أيام الفقر في الحر ينزع أحدنا ثوبه ينقيه وينفضه من القمل، القمّل التي كانت تعلق به، وإذا رأيت الغني يقول: ورثت هذا كابراً عن كابر، فاعلم أن الخير من نفسه منزوع، وأن نصيبه من الرحمة والتواضع مفقود. وتلك قصة الثلاثة الذين أنعم الله عليهم؛ هذا بقطيع من الإبل، وهذا بقطيع من البقر، وهذا بقطيع من الغنم، وزال من كل واحد عيبه؛ زال الصلع، وزال العمى، وزال البرص، فماذا قال الأول والثاني: ورثته كابراً عن كابر، والأعمى قال: خذ ما شئت، هذا مال الله أعطاني إياه، خذ منه ما شئت، ما أمنعك من شيء منه أبداً.
عدم المبالاة من أي باب جمع المال:(/5)
أيها المسلمون: إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ففي بعض بلدان المسلمين فاض المال، فهل شكروا نعمة الله أم ماذا فعلوا بالمال؟ فجروا وطغوا وبغوا وكفروا بنعمة الله، ولذلك يستحقون ما أصابهم من خوف، ويستحق المسلمون ما يصيبهم من جوع وفقر وسلب نعمة وتحول عافية وزوال، وسيسيرون في الطريق حتماً إن استمروا على ذلك، ثم إن الناس لم يعودوا يبالون أكلوا من الحلال أو من الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أمن حرام) حديث صحيح رواه البخاري وغيره. وفي رواية: (يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام) وهؤلاء الناس اليوم لا يبالون، يظلم، أو يأخذ راتب عمال، أو أسهم بنوك، أو شركات محرمة، لا يبالون بما أخذوا من حلال أو من حرام، غصب أموال، أخذ حقوق أيتام، وهكذا، صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم، وصار الجشع والشرة في الناس عظيماً، يتنافسون على الدنيا ويتقاتلون وقد يشتكي الابن أباه في المحكمة، (يا أبا ذر ! أترى أن كثرة المال هو الغنى، إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها) قاله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم -اسمع أيها الفقير، أو يا صاحب الدخل المحدود، أو الذي لا يكفيه راتبه اسمع- (اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب). ولذلك الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، لأن أصحاب الجد محبوسون يحاسبون على الأموال، فلا تجزع إذاً إذا فاتك شيء من الدنيا. المهم -أيها المسلمون- أننا إذا أصابتنا نعمة من الله حمدنا الله وشكرناه وعرفنا حقه في نعمته، وإذا ابتلينا صبرنا ولم نجزع لفوات شيء من الدنيا، الدنيا ملعونة ملعونة ملعونة، هل نريد أكثر من هذا؟!! الدنيا ملعونة، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً).
وقفة مع المسافرين:(/6)
أيها المسافر: اتق الله سبحانه وتعالى وأنت تستعد لسفرك، واجعل نيتك في السفر إرضاء الله وصلة الأرحام وتعليم الجهال ودعوة الأهل والأقارب إلى الله، اصطحب معك من الكتب والأشرطة المفيدة ما تستعين به على هداية أهلك ونشر الخير بينهم في البلاد التي ستذهب إليها، ومن السنة السفر صباح الخميس إن تيسر، وأذكار السفر لا تنساها، وجمع الصلاة وقصرها في طريق السفر من السنة، وصلاة النافلة في السيارة والحافلة والطائرة في السفر من السنة، والتدبر في آيات الله في الأرض وإعانة الرفيق، وإذا قعدت في بلد أكثر من أربعة أيام فقول الجمهور أنك تتم الصلاة، لا تسافرن امرأة بغير محرم، واصطحب معك في طريق البر إذا سافرت من الأشرطة النافعة ما يقطع الطريق وأنت تذكر الله عز وجل. أكثر من سماع القرآن ودع سماع الأشعار، واذكر الله تعالى عند كل مرتفع وكل منخفض، كبره إذا ارتفعت وسبحه إذا انخفضت، سبحان الله إذا انخفضت تنزيهاً له عن النقائص والعيوب، واعلم أن دعاء المسافر مستجاب، وعجل الرجوع إلى أهلك إذا قضيت حاجتك، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم. ولا تطرق أهلك ليلاً إلا بخبر مسبق، والنقيعة: الطعام الذي يصنعه المسافر إذا رجع من سفره شكراً لله وحمداً على السلامة من السنة، وبيع وشراء الأموال: كثير من الناس يحتاجون إلى بيع وشراء العملات وهم في السفر في البلدان التي يسافرون إليها، تذكر أنه يشترط لبيع وشراء العملات الحلال أن تكون يداً بيد، تسلم ريالات وتستلم دينارات، تسلم دولارات وتستلم ليرات، تسلم جنيهات وتستلم ريالات، وهكذا يداً بيد، في أي مكان، سوق بيضاء أو سوداء ينبغي أن يكون التسليم يداً بيد، حتى يكون البيع والشراء جاهزا، ولا تعمل شيئاً فيه مضرة لعموم المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) واتق الله واحذر من أماكن الفحش، واعلم بأنك موقوف عند الله وسائلك عن البلد الذي سافرت إليه لأي شيء سافرت؟ وماذا فعلت في السفر؟ وكم أنفقت من المال؟ أنت مسئول عند الله. يقولون لك في تعليمات السفر: اركب وسائل النقل العامة، واحذر من سيارات الأجرة الخاصة حتى لا تكون عرضة للنهب وعمليات السلب، وضع جواز السفر والجواهر والحلي في قسم الأمانات في الفنادق، ونحن نقول: اهتم بحفظ الدين الذي هو أهم من حفظ الأموال وحفظ جوازات السفر، حفظ الدين الذي قصر فيه المقصرون وفرط فيه المفرطون. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذا اليوم من عتقائك من النار، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وعمل مبرور، اللهم اجعل فيما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم إنا نسألك أن ترفع البلاء عن المسلمين، اللهم انصر المستضعفين، اللهم ارفع سيف الذل والبغي عن عبادك الصالحين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم من ولاهم على ظلمهم أو كان معهم في فسقهم وبغيهم فدمره تدميراً وخذه أخذ عزيز مقتدر إنك أنت العزيز الجبار، نسألك بكل اسم هو لك أن ترحمنا وتجعلنا من عتقائك من النار.(/7)
( صدقات مهجورة )
عناصر الموضوع :
1. مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها
2. أبواب متفرقة في الصدقة
3. قرض الناس له أجر عظيم
4. فضل الضيافة وإحياء الأرض
5. تصدق الرجل بشيء من جسده
6. الإنفاق على الأهل
صدقات مهجورة:
لقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة عن أبواب كثيرة من أبواب الصدقة، والتي هجرت في يومنا هذا، وحث على المبادرة إلى اغتنامها والسعي في نيل أجورها، ومن هذه الأبواب: صلاة الضحى.. الذكر.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. احتساب الأجر في الإنفاق على الأهل .. غرس الأشجار .. رفع الأذى عن الطريق ... إلخ.
مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد ندب الله عباده إلى الصدقة ودعاهم إليها وحثهم عليها، وبين لهم الثواب الجزيل فيها، وجعل باباً من أبواب الجنة خاصاً بالمتصدقين، فكما أن للجنة باباً يقال له باب الصلاة يدخل منه المصلون، وكما أن لها باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، فكذلك فيها باب للجهاد يدخل منه المجاهدون، وبابٌ للصدقة يدخل منه المتصدقون كما ورد بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصدقة بالمال يربيها الله لصاحبها فتتضاعف أضعافاً كثيرة، ولا يجزي أحد على شيء كما يجزي ربنا على الصدقة التي تخرج خالصةً لوجهه سبحانه وتعالى، هذا من حكمة الدين، هذا من الحكمة في تشريعات هذا الدين أن جعل الله للفقراء من المسلمين فرجاً ومخرجاً من صدقات إخوانهم المسلمين. والحديث عن الصدقة طويل، فإن الحديث عن حكمتها ومشروعيتها وفضلها وأجرها وأحكامها حديث طويلٌ لعلنا نتطرق إليه في وقت آخر، وذلك لأن الشح قد كثر في المسلمين وخصوصاً بعد هذه الأحداث العادية صار الكثيرون يدخرون ويوفرون أموالهم للمستقبل زعموا، فبخلوا بالصدقات ونسوا الأجر الذي كان مكتوباً في كتاب الله سبحانه وتعالى للمتصدقين، وكثيرٌ من الناس الذين يريدون التصدق وأموالهم قليلة قد يتحسرون، فهل جاءت الشريعة بأمور من الصدقات غير الصدقات المالية؟ وكثيرٌ من المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم يغفلون عن جوانب خفية للصدقة جاءت بها الشريعة، وكثيرٌ من المسلمين تصورهم للصدقة ناقص، فيتصورون أن الصدقة بالأموال فقط، من أجل ذلك كانت هذه الخطبة التي نبين فيها جوانب للصدقة قد يغفل عنها الناس مع أنهم قد يسمعون أحاديثها ولكنهم لا يقدرون قدرها، فهذا التنبيه على هذه الأبواب الخفية أو المتغافل عنها أو غير المحتسب فيها الأجر، فإن كثيراً من الناس قد يقومون بها دون احتساب أجر.
الصدقة على المصلي المنفرد بالصلاة معه:
من ذلك الصدقة على المصلي المنفرد الوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه) وله قصة، فعن أبي سعيد الخدري : (أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟ فقام رجلٌ من القوم فصلى معه) فإذاً صدقتك على المصلي المنفرد بالصلاة معه تؤجر عليها كما ورد في الحديث الصحيح، ولو كان عقب صلاة الفجر أو عقب صلاة العصر، قيام الرجل مع أخيه يكسبه أجر الجماعة ويرأف بحاله خصوصاً المتأخر لعذر الذي فاتته صلاة الجماعة يجد أخاً مسلماً في المسجد يواسيه فيصلي معه.
احتساب الأجر في الإنفاق على أدوات الجهاد:(/1)
واحتساب الأجر في الإنفاق على الخير وأدوات الجهاد في سبيل الله فيها أجرٌ عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (المنفق على الخيل في سبيل الله كباسط يديه بالصدقة لا يقبضها) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، وهذا باب عظيم من أبواب الأجر لئن كنا حرمنا منه نتيجة عدم رفع راية الجهاد الصادقة في سبيل الله، فإن المخلصين من المسلمين يبحثون عن أمثال تلكم الأبواب ولو كانت قليلة شحيحة في هذا الزمن ليضعوا فيها أموالاً من أموالهم، يحبسون بها أدراعاً وأسيافاً وخيلاً في سبيل الله، فكذلك يحبسون اليوم من أدوات القتال الحديثة يعينون به المجاهدين في سبيل الله، وما ينفق فيها من صيانتها وذخيرتها فهي تجري عليهم باباً عظيماً من أبواب الصدقة لا يغلق لهم؛ جزاءً وفاقاً على ما أعانوا المجاهدين في سبيل الله.
أبواب متفرقة في الصدقة:(/2)
قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سلامى من ابن آدم في كل يوم صدقة، ويجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى) وقال مبيناً ذلك في الحديث الصحيح الآخر: (في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة) حق الله في هذه المفاصل التي أنعم بها علينا يجب علينا في كل يوم صدقة عن كل مفصل، فكيف يا ترى نحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم لكي نقوم لله بشكر نعمة هذه المفاصل؟ فقال صلى الله عليه وسلم رافعاً هذا الحرج: (النخاعة في المسجد تدفن -هذا البلغم والأذى والبصاق المتجمع في جدران المسجد أو في أرضه أو في بابه تحكه فتنظف المسجد منه- ذلك صدقة، والشيء تنحيه عن الطريق صدقة). وقال عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقيه صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبضعه في أهله صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى) .. (فكل تسبيحة صدقة -كما في رواية- وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) وقال صلى الله عليه وسلم: (ابن آدم ثلاثمائة وستون مفصلاً، على كل واحدٍ منها في كل يوم صدقة، فالكلمة الطيبة يتكلم بها الرجل صدقة، وعون الرجل أخاه على الشيء صدقة -لو أعنته على فتح قارورة لا يستطيع فتحها كان ذلك منك صدقة- والشربة من الماء يسقيها صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة). وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أيضاً: (كل سلامى من الناس عليه صدقة -على كل مفصل صدقة- كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة -وضعك المتاع في سيارة أخيك ومساعدته في حملها على دابته صدقة- والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة). من أبواب الصدقة: التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، تشير له تفهمه حتى يفهم ما يريد، وتدل المستدل على حاجة قد علمت مكانها، لو سألك عن دكان خبزٍ فدللته عليه صدقة، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماع زوجتك أجرٌ: (أرأيت لو كان لك ولدٌ فأدرك ورجوت أجره فمات، أكنت تحتسب به؟ فأنت خلقته، فأنت هديته، فأنت ترزقه، فكذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته، ولك أجر) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة، فإنه بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، ويجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى). فإذا أردت أن تعرف كيف تحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم، وهو حق الله في هذه المفاصل فارع سمعك لهذه الأبواب المتعددة التي يذكرها محمدٌ صلى الله عليه وسلم. هؤلاء الفقراء من المسلمين قالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الأموال ذهبوا بالأجر- يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم ) -لقد تفوقوا علينا بالأموال يتصدقون منها فيؤجرون ونحن فقراء، كيف نفعل لاستدراك ما فاتنا وتعويض النقص الذي عندنا في هذا الباب من أبواب الأجر؟ فماذا قال لهم صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة ونهيٌ عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس يكون عليه وزرٌ، فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر) وجماعك زوجتك أيها المسلم تبتغي إعفاف نفسك وإعفافها، وابتغاء الولد لك صدقة عند الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة سقي الماء) حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام وجاء في الحديث أيضاً: (إن سلامك على عباد الله صدقة) وقال صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيعين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمر بالمعروف) هذا كله من أبواب الصدقات. وقد كانت أمنا زينب أم المساكين تعمل بيدها لتتصدق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) فكانت زينب رضي الله عنها أول من لحق به من أزواجه.
قرض الناس له أجر عظيم:(/3)
ويبين عليه الصلاة والسلام باباً آخر من أبواب الصدقة، فيقول: (إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة) حديث صحيح رواه الإمام أحمد ، وقال موضحاً: (من أقرض ورقاً مرتين كان كعدل صدقة مرة). فأنت أيها المسلم إذا أسلفت رجلاً سلفاً، إذا أعطيته مالاً ديناً -مثلاً- ألف ريالٍ فكأنك تصدقت بخمسمائة والألف سترجع إليك، فلو أسلفتها لرجل مرة أخرى له أو لغيره، كان لك أيضاً أجر نصفها صدقة، فصار لك أجر المال كله صدقة لك والمال سيرجع إليك، وهذا يبين فضل إقراض الناس وفك أزمة المحتاجين بالإقراض. إن قال قائل: هذه البنوك الربوية لا تقرض إلا بالربا ونحن نحتاج مالاً، من الذي يقرضنا مثلاً بمثل دون زيادة؟ وما هو الدافع على إقراض الناس للناس إذا كانوا لا يأخذون فوائد ربا، الربا مهم لأجل إقراض الناس وفك الأزمات؟ فنقول: هذا في شريعة الكفرة لا في شريعتنا، أما شريعتنا فإن الحوافز على إقراض الناس للناس موجودة، في شريعتنا لا نحتاج إلى ربا، لا نحتاج إلى فوائد زعموا، في نار جهنم يأكلونها في بطونهم يوم القيامة، فإن في شريعتنا الحث على إقراض المحتاج من المال، ومن يقرض أخاه المسلم كان له من الأجر نصف ما أقرض صدقة، هل سمعت بفائدة خمسين في المائة؟ وأي بنك يعطيك ذلك؟ فاعلم بعد ذلك أن الإسلام قد أوجد الحل لمشكلة الإقراض بأبواب من الأجر أخروية ليست في الدنيا، فجعل في الإقراض الأجر العظيم، فمن أقرض مسلماً قرضاً كان له شطره صدقة، فكأنه تصدق بنصف المال ترغيباً للناس في إقراض الناس، فتنحل هذه الأزمة. وقال صلى الله عليه وسلم: (من منح منحةً غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) وفي رواية للبخاري : (نعم الصدقة اللقحة، الصفي منحةً، والشاة الصفية منحةً، يغدو بإناء ويروح بإناء) تصور لو أنك تصدقت بشاة حلوب كان الإناء الذي يذهب به في أول النهار (شرب أول النهار الصبوح) والإناء الذي يشرب في أول الليل ويحلب من هذه الشاة وهو الغبوق، كل إناء يروح بصدقة في أول النهار، وكل إناء يغدو منها بصدقة. فإذاً، أبواب الصدقة كثيرة، فمن الذي يتحفز ويتحمس لولوج هذه الأبواب الخفية التي قد يغفل عنها الناس؟! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من التوابين والمتطهرين، ونسألك أن تجعلنا من المتصدقين الذين يلجون أبواب الصدقة فيؤجرون عليها يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
فضل الضيافة وإحياء الأرض:
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الكريم المنان مالك الملك، المال ماله، والخلق خلقه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، علمنا فأحسن تعليمنا، ووعظنا وأدبنا بكلامه وكلامه صلى الله عليه وسلم، جزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ورضي عمن تابعه وسلك سبيله إلى يوم الدين. أيها المسلمون: مبيناً لباب آخر من أبواب الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة) وفي رواية: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) نقولها للذين حلَّ عليهم ضيوفٌ فأكثروا عليهم في أيام الضيافة، فإن كانوا من المحتاجين الذين لا مأوى لهم فليحتسبوا هذا الأجر عند الله. وقال صلى الله عليه وسلم: (من غرس غرساً، لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له صدقة) يوضحه فيقول: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة) رواه الإمام مسلم . وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة) وقال: (من أحيا أرضاً ميتةً فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة) فهذه الأغراس وهذه النباتات التي تزرع لو نوى بها وجه الله ونوى بها أجر الصدقة عندما يؤكل منها، بل عندما يعبث الأطفال فيها فيأكلون ويرمون الشجر فيأخذون من ثمره له فيه صدقة، وهذه الطيور التي تغدو وتروح على أغصان الأشجار فتأكل.
تصدق الرجل بشيء من جسده:(/4)
يا أيها الناس: أي دين أعظم من هذا الدين الذي جعلت فيه لنا كل هذه الأبواب؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحةً فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، فيه قصةٌ توضحه، مثالٌ من أمثلته فيها انقطاعٌ لكن فيها عبرة في مسند الإمام أحمد ، قال: (كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية وكان خليفة، فقال الأنصاري: إن هذا دق سني، قال معاوية : كلا. إنا سنرضيك، وكأن معاوية رضي الله عنه رأى أن الدية أنفع للأنصاري وأرحم بالقرشي، قال: فلما ألح عليه الأنصاري، يعني: يطلب القصاص، قال معاوية : شأنك لصاحبك، و أبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء في جسده يتصدق به إلا رفعه الله به درجة، قال: فقال الأنصاري: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، فعفا عنه) فهذا الذي يشهد له الحديث السابق وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق). يبين أن الإنسان إذا اعتدي عليه بشيء فتصدق بدية هذا الجرح أو هذا السن، أو تصدق بدية الولد عندما يقال: فلان صدم ولد العائلة الفلانية بالسيارة فسامحوه بالدية، كلمة فسامحوه بالدية -أيها المسلمون- لها معنى عظيم جداً، تصور عندما يسامحونه بأكثر من مائة ألفٍ مثلاً كم يكون لهم من أجر الصدقة، والناس يغفلون، يحسبون فقط أنه من مكارم الأخلاق مع أن فيها أجراً عظيماً جداً، هذا من أنواع الصدقة. وبالجملة يقول عليه الصلاة والسلام: (كل معروف صدقة) وقال: (كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة).
الإنفاق على الأهل:(/5)
ولما كان بعض الناس يستخسرون في صرف الأموال على أهليهم، ويبخلون على زوجاتهم وأولادهم بالصرف جاءت هذه الأحاديث لتبين لك -يا عبد الله! يا أيها المسلم!- أجر الأموال التي تنفقها على أهلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك -من المحتاجين- فإذا فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا من الأموال التي تنفق في أوجه الخير) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة) إذا كنت تبتغي وجه الله. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة) بعض الناس يبخلون على زوجاتهم بالمصروف، يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم) وقال عليه الصلاة والسلام: (نفقة الرجل على أهله صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة) فاحتسبوا إذاً هذه الأموال التي تنفق على أهاليكم من المصروفات اليومية، مصروف الأكل واللبس والسكن وغيره صدقة. (أربعة دنانير: دينارٌ أعطيته مسكيناً، ودينارٌ أعطيته في رقبة، ودينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وهو حديث صحيح. إن صدقة من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإنما تأكل امرأتك من مالك صدقة، وإنك إن تدع أهلك بخير خيرٌ من أن تدعهم يتكففون الناس. (ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده) و (ما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة). فإذاً يا عبد الله! أي دين أعظم من هذا الدين الذي يجعل حاجة الرجل النفسية في الإنفاق على من يعول صدقةً له؟! لكن نحن ننسى الاحتساب عندما ننفق على الأهل، وننسى الاحتساب عندما نشتري المأكولات من السوق، وننسى الاحتساب عندما نشتري ألبسة لأولادنا، وننسى الاحتساب ونحن ندفع إيجار السكن من أجلهم ومن أجلنا، إذا ابتغيت وجه الله فعليك الاحتساب. أيها المسلمون: الاحتساب: حضور النية عند إخراج المال أن ذلك لوجه الله، وتنفيذاً لحكم شرعي ودرء المفسدة الشرعية الأخوية عن النفس. (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) كل هذا صدقة، فإن لم يحصل كل هذا المعروف، يقول عليه الصلاة والسلام: (كف شرك عن الناس فإنها صدقةٌ منك على نفسك) حديث صحيح. فاغتنموا -أيها المسلمون- هذه الأبواب من أبواب الصدقات، واحرصوا ألا يفوتكم منها شيء، فإن هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب. وأنت تتصدق الآن وتنفق، ولا تنتظر حتى إذا صرت في سياقة الموت، ونزل بك وبلغت الروح الحلقوم، قلت: أعطوا من هنا، وتصدقوا من هنا، ولا تنسوا هذا وهذا، كيف؟ لا يمكن أن يقبل تصرفك في مالك إذا بلغت الروح الحلقوم، صار المال لغيرك ولمن وراءك من الورثة، فاغتنم الفرصة إذاً وتصدق بما تجود به نفسك: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110] الصدقة بالكلمة، والصدقة بالبدن، والصدقة بالمال، الصدقة بالنية عند الاحتساب. اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا من الشح والبخل، وأن تجعلنا من الكرماء في سبيلك، اللهم اجعلنا ممن ينفقون ويبذلون، اللهم اجعلنا ممن تضاعف لهم الأجور في صدقاتهم، واكتب لنا بها أجراً عندك يا رب العالمين، وأدخلنا من باب الصدقة في جنات النعيم. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(/6)
صدقوا ما عاهدوا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته، لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، لا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه، إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عُمِل أثاب، لا إله إلا هو سبحانه وبحمده، لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) اللهم لك الحمد مِلء السماوات والأرض؛ فكل الحمد اللهم لك، لك الشكر على نعم لا نحصيها؛ فكل الشكر لك، اللهم لك المتوبة والتذلل والخضوع فلا معبود غيرك. الحمد لله شَهِدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، "سبحانه وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته" ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا أفعاله ولا صفاته. سبحانه سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها والنجوم والجبال والشجر والدواب والأتان والرمال وكل رطب ويابس وكل حي وميت (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله -تعالى- رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. لأجلها نُصِبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الخلائق إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجَّار، عنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، عليها نصبت القِبْلة، وعليها أسِّست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد وهي حق الله على جميع العباد. إنها كلمة الإسلام، مفتاح دار السلام، لن تزول قدم عبد بين يدي الله حتى يسأل ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فلا إله إلا الله، شهادة حق وصدق أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا، وأتبرأ بها من الطواغيت والأنداد المعبودين ظلمًا وزورًا من دون الله. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، أرسله الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجَّة على الخلائق أجمعين. بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد وقمع أهل الزيغ والفساد فتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الراشدين، وأزواجه الطاهرات؛ أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أحبتي في الله؛ أسعد اللحظات في حياة العبد يوم يطرق مسامعه ذكر الله، يوم يطمئن قلبه بقول الله، وقول رسول الله- صلى وسلم عليه الله- (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) إن من نعمة الله علينا تهيئة مثل هذا المخيم لنجتمع فيه على الخير والبر والذكر والتناصح. فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجزيَ القائمين والمساهمين عليه وفيه أفضل ما يجزي عباده الصالحين، وأن يرزقنا شكر نعمته، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد، وحيي الله هذه الوجوه، حيي الله وجوهًا أقبلت على الله فجعلت حياتها كلها لله، وهنيئًا لها من قلوب تَأَرِز إلى ذكر الله، فتسكن وتسعد بإذن الله. هنيئًا لأسماع امتلأت بذكر الله، فتلذذت بقول الله وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. هنيئًا لأبصار تنعَّمَت بمجالسة من يذكر الله. هنيئًا لها من أقدام جعلت خطاها إلى ذكر الله. هنيئًا لكم يوم يرجى لكم أن تنصرفوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات بإذن ربكم. هنيئًا لكم تُذكرون في ملأ خير من ملئكم، ملائكةٌ تحفُّ، ورحمة تغشى، وسكينة تتنزل، فيا حسرة وندامة وخزي من لم تنعم عينه وجوارحه بذكر الله.
لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ
لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا في الشُّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** لَمْ يُلْهِهِم عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنانيرِ
ولم يُبالُوا بأوراقٍ ولا ذهبٍ *** ولَو تجَمَّع آلافُ القناطيرِ(/1)
فأكْثِرْ ذِكرهُ في الأرضِ دأبًا *** لتُذْكَرَ في السَّماءِ إذا ذَكَرتَ
ونادِ إذا سَجدتَ لَهُ اعْترافًا *** بما ناداهُ ذو النون بنُ متَّى
وسَلْ منْ رَبِّك التوفِيقَ فيها *** وأخلصْ في السُّؤال إذا سَألتَ
ولازم بابه قرعًا عساهُ *** سيُفتحُ بابه لك إن قَرعتَ
ونفسَك ذُمَّ لا تذمُمْ سِواها *** بعيبٍ فهْيَ أجدرُ منْ ذممْتَ
فلو بكت الدما عيناك خوفًا *** لذنبكَ لَمْ أقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَ
وَمَنْ لَكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ *** أُمِرْتَ فَمَا ائْتُمِرْتَ ولا أََطَعْتَ
ثَقُلتَ منَ الذُّنوبِ ولستَ تَخْشَى *** بجهلِكَ أن تَخِفَّ إذا وُزِنْتَ
فلا تضحكْ مع السفهاءِ لهوًا *** فإنك سوفَ تَبْكِي إنْ ضَحِكْتَ
ولا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ *** وفكِّر كَمْ صَبِيٍّ قَدْ دَفَنْتَ
تَفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا *** وتَنْحِتُ جِسمكَ السَّاعاتُ نَحْتًا
وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ *** ألا يا صَاحِ أنتَ أُرِيدُ أنتَ
أحبتي في الله أوصيكم جميعًا ونفسي بتقوى الله وأن نقدِّم لأنفسنا أعمالا تبيض وجوهنا يوم نلقى الله (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) يقول [أبو الدرداء] -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تصدق متصدق بأفضل من موعظة يعظ الرجل بها قومًا فيقومون وقد نفعهم الله -عز وجل- بها. والكلمة الطيبة صدقة كما أخبر بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. وللكلمة الطيبة ملامح، أرجو الله أن تتوفر في هذه الكلمة تلك الملامح؛ لتتغلغل إلى الجوانح، فتظهر على الجوارح. فالكلمة الطيبة مِعْطَاءَ جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس، جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويخشى ويسعى، طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بنَّاءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من النبع الصافي؛ من كتاب الله، وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة بإذن الله عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها اللئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخرًا له بعد الممات، ورصيدًا له في الحياة. كلمة من رضوان الله يكتب الله بها الرضوان للعبد إلى أن يلقى الله. أسأل الله أن يجعل هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأن تجعلها للجميع ذخرًا في يوم الحسرات على ضياع الأوقات في غير الطاعات، يوم يوقف العبد بشحمه ولحمه ودمه وعصبه وشعره وأظفاره يعرض على الله لا يخفى منه خافٍ، الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) أما بعد، أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزًا وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوِّون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة. ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد. رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج من الأمة أمثالهم. إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب الاستيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.
إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا *** تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ
ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا لنصل كما وصلوا. ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) غابت شخوصهم، فلنسمع ولنعي أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل:
فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي *** فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي(/2)
لهذا كله كانت هذه الكلمات التي عنونتها بهذا العنوان: صدقوا ما عاهدوا؛ لتحكي لكم حياة جيل لا كالأجيال، وأبطال لا كالأبطال، ورجال لا كالرجال.
رجال جاءتهم دعوة الحق فما ترددوا، وما كَبَوا، وما تلكئوا، وآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، واستيقنتها أنفسهم، فما كان قولهم يوم أن دُعوا إلى الله ورسوله إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: آمنا (ربنا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وضعوا أيديهم في يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هان عليهم بعد ذلك أبناءهم ونفوسهم وأموالهم وعشيرتهم؛ إذ علموا أن طريق الجنة صعب، محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة فسلكوه، وعلموا أن طريق النار سهل محفوف بالشهوات لكن آخره الشقاوة الدائمة فاجتنبوه. رجال وأي رجال (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) في السِّلم هداة مصلحون، عالمون عاملون، وفي الحرب مؤمنون محتسبون، مجاهدون ثابتون، عبَّاد ليل، وأُسْدِ نهار، حملوا السلاح في الميدان، وعلقوا القلوب وملئوها بالقرآن، قاوموا الشهوات، وقاوموا أهل العداوات، سيَّان الشيوخ منهم والشباب والشابات
القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ *** والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ
منحوا الحياة جمالا، ومعنى، ومغزى في جميل مبنى
كيفَ الحياةُ إذا خلَتْ *** منهم ظواهر أو بطاح
أين الأعزةُ والأَسِنَّةُ *** عند ذلكَ والسَّماحُ(/3)
وقفة أقفها معكم إزاء هذه الصفوة المختارة ممن صدقوا ما عاهدوا، ما هي إلا قطوف من أشجار، وقطرات من بحار، ورحلة في أكثر من أربعة عشر قرنًا في بساتين الصادقين اليانعة للوقوف على ثمار مجتناه، وزهور منتقاه، وإني لأستغفر الله، ثم أستغفر الله، ثم أستغفر الله من وصف حال أولئك مع ضعف الاتصاف مني بصفاتهم، بل والله ما شممنا رائحتهم، ولكنها محبة القوم تحملنا على التعرف على منزلتهم، وقراءة سيرهم، وإن لم نلحق فعسى همَّة منا أن تنهض إلى التشبث بسابق القوم ولو من بعيد (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى) (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) "اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا" صدقوا ما عاهدوا من خلال تربية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صار كل صحابي أمَّة وحده، فما من صحابي إلا وله سمة معينة، وموقف خاص، منهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرج، وكل ذلك فيما يخدم الدعوة إلى الله -جل وعلا-؛ فـ[سلمان] يستفيد من خلفيَّته الحضارية الفارسية المادية ليخدم هذا الدين؛ فيقترح يوم تحزَّّب الأحزاب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حفر الخندق، وأَنْعِمْ به من اقتراح. و[الخباب] يقترح الوقوف في غزوة بدر على الماء، فيشرب المسلمون ويحرم المشركون، ويوم يُعاد [أبو جندل] وهو يستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر المسلمين؛ أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسليه ويعزيه ويقول: اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، وإذا بعمر –وما عمر!عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر- ينفعل مع الموقف، ويمشي بجنب [أبي جندل]، ويقرب سيفه من أبي جندل؛ طمعًا في أن يستله ليقتل أباه دون مؤاخذة على بنود صلح الحديبية، لكن أبا جندل لم يفعل. فأعيدوا وانظر إلى الصديق، وما الصديق! يوم يتولى الخلافة فترتد بعض قبائل العرب بموت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى ما أصبحت تقام الجمعة إلا في بعض الأمصار؛ <كمكة> <والمدينة>، فيقوم لله قومة صادق مخلص؛ ليؤدب المرتدين، وينفذ جيش أسامة، وفي أقل من سنتين إذا بجيوشه ترابط على أبواب أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ ألا وهي فارس والروم، شعاره ما شعاره؟! ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. شعاره شعار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم يقول: "لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي". [وأبو بصير]، ما أبو بصير؟! يخطط لحرب عصابات بعيدة عن نقد بنود صلح الحديبية، إذ جاء مسلمًا فارًّا بدينه من قريش بعد صلح الحديبية، وبعد توقيع المعاهدة إلى <المدينة>، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفاءً بالعهد إليهم، وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين، ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: قد والله أوفى الله ذمتك يا رسول الله، فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في [البخاري]: "ويل أمِّه؛ مسعِّر حرب لو كان معه أحد، مسعِّر حرب لو كان معه رجال" فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، واستقر به المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وكانوا أذكياء فهموا أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من <مكة> إلى أبي بصير، وكان على رأسهم أبو جندل، جاء الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-. اجتمع منهم عصابة يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- تناشده الله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن. تنازلت عن هذا الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كأبي بصير وأبي جندل، فأرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات وكتاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجا يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين، والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين، حتى قرروا مبدأ من المبادئ؛ ألا وهو قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة. كل ذلك في حكمة، وأي حكمة إذ كان ذلك بإشارة من النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتشجيع من النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم وصف أبو بصير بأنه مسعِّر حرب لو كان معه رجال، ثم إن أبو بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة على بنود المعاهدة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. وهذا [خالد بن الوليد] يستلم الراية يوم مؤتة يوم سقط القوَّاد الثلاثة بلا تأمير فرضي الله عن الجميع، وفي <القادسية> تنفر خيل المسلمين(/4)
من الفِيَلة، فيعمد صحابي ليضع فيلا من طين، ويؤنس ويؤلف فرسه به حتى يألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيلة، فحمل على الفيل الذي كان يقدم الفيلة فقيل له: إنه قاتلك، قال: لا ضير أن أقتل ويفتح الله للمسلمين. ما كانوا يعيشون لأنفسهم، لكن يعيشون لدينهم، يعيشون لعقيدتهم. وهذا [عبد الرحمن بن عوف] يصفق بالأسواق حتى لا يكون عالة على غيره.
مَضَوْا في الدُّنَا شرقًا فأسلمَ فُرسُها *** وصَاروا بِها غَربًا فسلَمَ رُومُها
[زيد] يجمع القرآن، [وابن عمر] يدوِّن الحديث، [وابن عباس] يخرج إلى الأسواق ليسلم على الناس، ويذكرهم برب الناس. ويتحاور ويتناقش [سلمان] [وأبو الدرداء] حول قيام الليل، وحقوق العيال. تسابق إلى الخيرات، عزيمة في الأداء، إيجابية في العمل دون النظر لما يقوله الآخرون، أو حب لشهرة يراها المسلمون. علموا أن الإيجابية إعزارا إلى الله من التقصير، فأدوا واجبهم قدر الإمكان، ولم ينتظروا النتائج، على مبدأ:
بِذرُ الحبِّ لا قَطْفُ الجَنَى *** واللهُ للساعين خيرُ مُعينِ
علموا أن التكليف فردي، وكل سيحاسب يوم القيامة فردًا (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ) (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) فكان كل فرد منهم أمة يوم تربوا على منهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فصدقوا ما عاهدوا، صدقوا ما عاهدوا. وكيف لا يصدقون وقد عاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من القدوة المطلقة -صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين- يوم بعثه الله <بمكة> فأخرج العباد من الظلمات إلى النور بإذن ربه، يوم أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. رأوه وهو يقف على <الصفا> وحيدًا فريدًا قد اجتمعوا حوله وهو يقول: إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فأعرضوا وأصروا واستكبروا استكبارًا، وقال عمه: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتبت يداه، ثم تبت يداه، لم يتراجع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم ييأس، وما كان له ذلك؛ لأنه يعلم أنه على الحق، ويستمر عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، في <عكاظ> <ومَجَنَّه> في المواسم، يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلَّغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يؤويه ولا ينصره أحد، حتى أن الرجل ليخرج من <اليمن> أو من مضر فيأتيه قومه فيحذرونه غلام قريش لا يفتنهم. حرب إعلامية ضخمة في الصد عن سبيل الله تمارس ضد الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان.
والسرُّ باقٍ والزمانُ مجددُ *** والسيفُ ما فَقَدَ المُضِاءَ وما نَبَا
كيف لا يصدقون وقد عاصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما معه إلا نفر قليل؛ خمسة أعبد وامرأتان فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن وما كان له ذلك صلوات الله وسلامه عليه بل جاهد وجالد حتى كثر أصحابه وأوذي كما أوذوا في سبيل الله فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا بل صابروا وهاجروا فرارًا بدينهم هجرتين إلى <الحبشة> ثم إلى <المدينة> رضوان الله عليهم أجمعين عاصروا وعايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا له الأعوان والأنصار آووه وصدقوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه عاصروا محنة الهجرة بقسوتها وشدتها عليهم كيف وهم يرونهم يفقدون أوطانهم وأهاليهم مراضع الطفولة وحياتهم كلها ويرون فوق ذلك قائدهم ورسولهم –صلى الله عليه وسلم- يقف أمامهم يخاطب <مكة> بالحزورة قائلا:" والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخْرِجت ما خرجت" دموعه تهطل على لحيته –صلى الله عليه وسلم- فيا لها من قلوب احترقت وهي ترى نبيها على ذلك الحال! ويا لها من قلوب غلبت مصلحة العقيدة ومتطلبات الدعوة على هوى النفس وشهواتها! فما النتيجة؟ أمضى الله لها هجرتها، ولم يردها على أعقابها. كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضع عشر رجلا في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفًا يكفرون بالله قد خرجوا بطرًا ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله.
ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ *** ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ
تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً *** فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ(/5)
كيف لا يصدقون وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية وقد بلغوا ألفًا وأربع مائة وأكثر من ذلك فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى <مكة> التي أخرجوه منها فاتحين، قائدهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خشع شاكرًا لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجئ الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله. وإذ بالذين أخرجوه نكست رؤوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم، فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريمًا، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ *** زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم(/6)
كيف لا يصدقون وهم ضمن ثلاثين ألفًا يقودهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى <تبوك> ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية، وكان له ذلك. كيف لا يصدقون وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه على الصفا، يكبر ويقول: "خذوا عني مناسككم" في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه –صلى الله عليه وسلم- عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين. فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألف، إلى مائة ألف. ما قاتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عدوًا بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هم الأقل (كَم من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) صدقوا ما عاهدوا صدقوا الله في تلقيهم للقرآن فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألأ الكواكب في صفحات السماء ملئوا الجوانح بكلام الله فظهر أثر ذلك على الجوارح، رتَّلوا القرآن ترتيلا ينمُّ عن التأثر بما يتلون، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرؤون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا يا أيها الذين آمنوا إلا صاخوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فشرح الله صدورهم للإيمان بالقرآن، وأعلى قدرهم، ورفع ذكرهم ودرجتهم. يأتي أحدهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم هلعًا، فزعًا، جزعًا، ترتعد فرائسه، فيقال: ما بك؟ قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله، قال- صلى الله عليه وسلم- ولِمَ ؟ قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو. فمازال –صلى الله عليه وسلم- يهدئ من روعه حتى قال: " [يا ثابت بن قيس]؛ ألا ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى، بلى يا رسول الله، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك". ثم تتنزل آية الحجرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) وكان رجلا جهير الصوت، يلازم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يفارقه، عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: من يأتيني بخبر [ثابت]، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد، قال: شر والله، قال: ما ذاك؟ قال: تعلم أني رجل جهير الصوت، وكثيرًا ما يعلو صوتي صوت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل النار، يرجع الرجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله، كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا، قال: ارجع إليه فقل له: لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت. فيأتي إليه ليخبره، فلا تسل عن المبشِّر، ولا تسل عن المبشَّر، ولا تسل عن الحال، حال وأي حال! وإذا به ينتظر تلك البشارة طوال حياته، يجاهد لله، ويجالد لله، وينطلق من معركة إلى معركة، إلى أن يصاب بموت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيصاب كما أصيب المسلمون. ويرتد العرب فيكون في جند من يردون المرتدين إلى الواحد القهار، يوم جاء في المعركة، ورأى انخذال المسلمين، ورأى جرأة العدو، تحنط وتكفَّن ووقف على رؤوس المسلمين يقول: يا معشر المسلمين، والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بئس ما عوَّدتم عدوكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لعدوكم. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، ثم هبَّ هبَّة الأسد الضاري، فانطلق معه [البراء] [وزيد] [وسالم] فنشروا الرعب في قلوب المشركين، وسارت الحمية في قلوب المسلمين، فنصر الله المسلمين، وإذا به يخر صريعًا على تلك الأرض، ينتظر بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه. قف أخرى معي وتأمل: يوم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة <ذات الرقاع> ونزل المسلمون شعبًا من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يحرسنا الليلة؟ فقام [عباد بن بشر]، [وعمار بن ياسر]، وقد آخى بينهما رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا رسول الله،(/7)
خرجا إلى فم الشعب، فقال عبادُ لعمار: أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار: بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد، وبقي عباد يحرس جند رسول الله، أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي القيوم، عندها تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات، ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش رسول الله –صلى الله عليه وسلم على نبينا محمد- فوتر قوسه وتناول سهمًا من كنانته ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلا: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. ولَّى المشرك هاربًا، وأمَّا عمار فنظر –ويا للهول- أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به، فقال عباد واسمعوا إلى ما يقول: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وأيم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظه لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها. لا نامت أعين الجبناء، لا نامت أعين التنابلة والكسالى والبطالين.
يا ابنَ الهُدَى *** يا فَتَى القرآنِ
دعكَ مِنَ الأوْهَامِ *** جلجَلَ أمرُ الله أنْ أَفِقِ
تلذذوا بمناجاة الله في الخلوات، فما عدلوا بذلك شيئًا. عبر أحدهم عن تلك اللذة يوم قال: والله لولا قيام الليل بكلام الله ما أحببت البقاء في هذه الدنيا. ووالله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طربًا بذكر الله، حتى أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم وعبر الآخر عن لذته بمناجاة الله بقوله: والله لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، فقال قائل: وما الذي أنتم فيه تتلذذون، وبه تتلذذون؟ قال: لذة مناجاة الله في الخلوات. هذه حالهم يا متأمل، هذه حالهم يا متبصر، فما حالنا؟
كُثُرٌ لكنْ عديدٌ لا اعتدادَ بِهِ *** جمعٌ لكنْ بديدٌ غيرُ متَّسِقِ
شككتْ نفسي مهانتكم *** أنكمُ يا قومِ منْ مُضَرٍ
خَبِّرُونِي أين حِسِّكُمُ *** لأزْيَدِ الوَخْزِ بالإبرِ
نطقنا بالعربية والقرآن فما نكاد نلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب، قنعنا بفصاحة اللسان مع عُجْمة الجنان
وكانَ البرُّ فعلا دونَ قولٍ *** فصارَ البرُّ نُطقًا بالكلامِ
إنهم لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعًا عمليًا لا نظير له في تاريخ الأمة، فإذا بك ترى [أبا طلحة] الأنصاري وهو يسمع قول الله: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وزخرها عند الله، ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً) فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني. يا لله شيخ كبير لاف على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- وصرت شيخًا كبيرًا، فدعنا نغزوا عنك، قال: والله ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ الشبان، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازًا لدين الله، فيشاء الله يوم علم صدق نيته أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفًا، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضًا شديدًا يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟ ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته وهو مسجى بينهم لم يتغير فيه شئ كالنائم تمامًا، وفي وسط البحر بعيدًا عن الأهل والوطن نائيًا عن العشيرة والسكن دفن [أبو طلحة]، وما يضره أن يدفن بعيدًا عن الناس ما دام قريبًا من الله -عز وجل-، ماذا يضره أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة. لا نامت أعين الجبناء
ويلٌ لكم هل سِوَى الأكفانِ حُجَّتُكُم *** وهلْ يكونُ سوى الأكفانِ حَظَّكُمُ
هيَّا اسلبُوها من الأجْداثِ باليةً *** ثم البسوها وقُولُوا الإرثُ إرثُكُمُ(/8)
صدقوا ما عاهدوا فكان القرآن فيصلا في المواقف التي يحار فيها أولو الألباب، ما كانوا يرجعون إلا إلى كتاب الله؛ ففي يوم موت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصيب المسلمون وفجعوا، وفقد بعض الصحابة الصواب، حتى قال: والله ما مات، فإذا بأبي بكر تربية القرآن، إذا به يتلو ويقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) فعلموا بذلك أنه مات، حتى أن بعضهم سقط ما كادت تحمله رجلاه، وحق له ذلك، ويختلف المسلمون بعد ذلك فيمن يخلف رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقال المهاجرون: نحن أولى بخلافة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال بعض الأنصار: نحن أولى بها، وقال بعضهم: بل تكون فينا وفيكم؛ منَّا أمير ومنكم أمير، وكادت تحدث الفتنة ونبي الله لا زال بين ظهرانيهم ولم يدفن بعد، وإذا بأهل القرآن بكلماتهم الناصعة التي تئد الفتنة في مهدها ينطقون، إذا [بزيد بن ثابت] –رضي الله عنه- تربية القرآن يقول: يا معشر الأنصار: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين، فخليفته مهاجر مثله، وكنا أنصارًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فنكون أنصارًا لخليفته، ثم بسط يده إلى أبي بكر –رضي الله عنه- وقال: هذا خليفتكم فبايعوه، فبايعوه فبايعوه ووئدت الفتنة في مهدها. هذا صدقهم مع كتاب الله، أصلحوا سرائرهم ففاح عبير فضلهم، وعبقت القلوب بنشر طيبهم. فالله الله في كتاب الله قراءة وتدبرًا وعملا؛ لأننا جعلناه –ومع الأسف- للمآتم صوتًا ومحدثًا، قبلناه وأكثرنا تقبيله، وما قبلناه ولم يلامس شغاف قلوبنا، ادَّعينا حب من أُنزل عليه القرآن، ثم أحدثنا ما أحدثنا، وكل محدث ضلال، ومن عمل عملا ليس عليه أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو أحدث في أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما ليس منه فهو رَدٌّ. فالله الله في القرآن، والله الله في السرائر والأعمال وفق شرع الرحمن وعلى طريقة خير الأنام؛ فإنه لا ينفع مع فساد السرائر وتنكُّب الأتباع صلاح ظاهر (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) صدقوا ما عاهدوا، صدقوا في فقههم لدينهم، وفي طلبهم العلم ليعملوا به "ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" "وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه" فإذا براعي الغنم في باديته رأس ماله في الحياة غنيماته يتركها يوم سمع بوصول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، يتركها وهي أعز وأنفس ما لديه في تلك الفترة؛ لينطلق إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فيشهد شهادة الحق، ويبايع المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ثم يعود إلى غنيماته، ويسلم معه اثنا عشر راعيا. اجتمعوا يومًا من الأيام وقالوا: لا خير فينا إن لم نقدم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، ثم اتفقوا على أن يمضي كل يوم منهم واحد إلى المدينة، فيتفقه في الدين، ويسمع ما نزل من القرآن، وما نزل من الأحكام، فيرجع فينقله إليهم. يقول [عقبة] وهو أولهم: كنت أقول: اذهبوا واحدًا تلو الآخر وأنا أحفظ لمن ذهب غنمه؛ لشدة إشفاقه على غنمه أن يتركها لأحد من الناس. طفقوا واحدًا بعد الآخر يذهبون ويرجعون فيأخذ عقبة منهم ما سمعوا، ويتلقى عنهم ما فقهوا. يقول عقبة: ثم ما لبثت بعد ذلك أن رجعت لنفسي، وقلت: ويحك يا نفس، من أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني من جوع تفوت على نفسك صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والأخذ عنه مشافهة بلا واسطة، والله لا يكون ذلك، ثم يتنحى عن أنفس ما لديه؛ عن غنمه، لكن إلى الغنيمة فيلزم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يمضي معه أينما سار، يأخذ بزمام بغلته، يمضي بين يديه أنَّى اتجه، وكثيرًا ما أردفه –صلى الله عليه وسلم- على دابته، وربما نزل –صلى الله عليه وسلم- عن بغلته ليركب عقبة. جعل يَعُبُّ من مناهل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- العذبة حتى غدا مقرئا محدِّثًا فقيها فَرَضِيًا أديبًا فصيحًا شاعرًا، بل كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وكان إذا هدأ الليل، وسكن الكون، انصرف إلى كتاب الله –عز وجل- ليقرأ، فتصغي أفئدة الصحابة لترتيله، وتخشع قلوبهم، وتفيض بالدمع أعينهم من خشية الله –جل وعلا- حتى كان يدعوه عمر –رضي الله عنه- ويقول: اعرض عليَّ شيئًا من كتاب الله، فيجعل يقرأ من آيات الله ما يتيسر وعمر يبكي حتى تبلل الدموع لحيته. قاد الجيوش فكان قدوة قائدة، وولي ولاية فعدل، ورمى وتعلم الرمي، وجاهد وجالد حتى لقي الله مخلِّفًا تَرِكَة المجاهدين الصادقين، ما تركته؟ إنها بضع وسبعون قوسًا، أوصى أن تكون في سبيل الله. فرضي الله عنه وأرضاه، وعن جميع أهل القرآن. صدقوا حتى قيل لأحدهم وقد استغرق طلب العلم وكتابته وتبليغه وقته، قيل له: إلى متى تكتب العلم؟ إلى متى وأنت(/9)
تكتب في تلك العلوم؟ فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد. ما يدري المرء متى يقول الكلمة فيهدي الله بها خلقًا كثيرًا، ما يدري المرء متى يقول الكلمة أو يكتب الكلمة الصادقة فتنجيه بين يدي الله. صدقوا حتى إن أحدهم لتعاتبه زوجته على كثرة شراء الكتب فيقول هو رادًّا عليها:
وقائلةٌ أنفقتَ في الكتبِ *** ما حَوَتْ يمينُك من مالِ
فقلتُ دعيني لعلِّي أَرَى فيه *** كتابًا يَدُلني لأخذِ كتابِي آمنًا بيميني
صدقوا حتى قيل لأحدهم: بم كنت عالمًا من بين أقرانك وأترابك؟ قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لأدرس العلم في الكتب مثلما أنفقوا في شرب الخمور، وفرق بين رهط بالعلم قد زكاها، وأُخَرُ بالمعازف ورنات الكؤوس والغفلة قد دساها و(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) صدقوا ما عاهدوا، صدقوا فضَحُّوا بالنَّفس والنفيس في سبيل الله. صدقوا فتحمَّلوا الجوع والعطش والبرد والأذى؛ لخدمة هذا الدين. صبروا على الامتحان وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فتركوا أموالهم وعشيرتهم وأوطانهم وهاجروا فارين بدينهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم. استحقوا أن يخلِّد الله ذكرهم في كتابه بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظ لهم قدرهم في الأمة على مدى الزمان، فإذا بأحدهم؛ وهو [عبادة]- رضي الله عنه- يقول للمقوقس: وما منا رجل إلا ويدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرَّده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده وماله، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وماله، وإنما همُّنا ما أمامنا. بذلوا أرواحهم في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فنحن كذلك؟ اللهم اجعلنا جميعًا كذلك، آمين يا رب العالمين. أحبتي في الله؛ لم يكن طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان معبَّدًا، مفروشًا بالزهور والورود، بل كان محفوفًا بالأخطار، وكان الدخول فيها امتحانًا شاقًّا لا يجتازه إلا الهمم الشامخة، والرؤوس العالية التي حازت الإيمان والإخلاص والمجاهدة والجهاد.
سَلُوا بلالا وعمارًا ووالدَه *** عنِ السلاسلِ والرَّمْضاءِ والأَلَمِ(/10)
مر رجل [بالمقداد بن الأسود] -رضي الله عنه- فقال له: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله لوددنا أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فقال المقداد: ما يحمل أحدكم على أن يتمنى محضرًا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، والله لقد حضر رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنم؛ إذ لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم وقد كفيتم البلاء بغيركم. والله لقد بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق به بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافرًا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه وقريبه في النار، وإنها للتي قال الله: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) لقد كان معظم الصحابة فقراء ومن لم يكن فقيرًا فقد ترك ماله يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، وكانت الدولة الناشئة في المدينة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله، في نيل المال أو الجاه أو أي عرض من أعراض الدنيا. ومن طريف الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرج [البخاري] في صحيحه عن [سهل بن سعد] –رضي الله عنه- قال: كانت منَّا امرأة تجعل لها في مزرعة لها سلقًا –نوع من الخضار- فكان إذا جاء يوم الجمعة تنزع أصول السلقة، وتجعله في قدر، ثم تجعل معه قبضة من شعير تطحنه، قال سهل: فكنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرب لنا ذلك الطعام، والله إنا كنا لنتمنى يوم الجمعة من أجل ذلك الطعام، ونفرح بيوم الجمعة لأجله مع أنه طعام لا شحم فيه ولا وَدَك، وما عند الله خير وأبقى. ثم تجيل نظرك فإذا أنت [بصهيب] قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسعه أن يبق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عينًا الليلة، أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ إلا قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم –رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته –وهم يعرفون صهيب جيدًا- وبرى قوسه، وقال: يا معشر قريش، تعلمون أني من أرمى الناس، والله لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلا، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شئ، فقال قائلهم: والله لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكًا فقيرًا فاغتنيت وبلغت ما بلغت ،ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي، قالوا: نعم، فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فارًا بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله. يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ قباء رآه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهشَّ له وبشَّ وقال: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى". الله، لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي ربح البيع أبا يحيى، علت الفرحة وجه صهيب، وحقًا والله ربح البيع (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) ثم انظر أخرى فإذا أنت بآخر، إنه [حكيم]، يسلم إسلامًا يملك عليه لبَّه، ويؤمن إيمانًا يخالط دمه، ويمازج قلبه، وهو يقطع على نفسه عهدًا أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأضعاف أضعافها، وقد بَرَّ في قَسَمِه، وصدق فيما عاهد، فإذا بك تتخيل وتنظر فإذا حكيم قد آلت إليه دار الندوة التي كانت تعقد قريش مؤتمراتها فيها في الجاهلية، ويجتمع ساداتها وكبراؤها فيها ليأتمروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخيله وهو يتخلص من تلك الدار مسدلا الستار على ماض بغيض أليم، ويبيعها بمائة ألف درهم، فيقول فتى من قريش: بعت مكرمة قريش يا حكيم، فقال: يا بني؛ ذهبت المكارم كلها، ولم يبقَ إلا التقوى، أو ما يسرك يا بني أن أشتري بها دارًا في الجنة؟ إني أشهدكم أني جعلت ثمنها في سبيل الله؛ أرجو ذخرها وبرها عند الله، وربح البيع، ثم أنظر إليه أخرى يوم يحج بعد ذلك، فيسوق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية، ثم ينحرها جميعها؛ تقربًا إلى الله تعالى، ولا تعجب يوم يحج ثانية فيقف في عرفات ومعه مائة من عبيده قد جعل في عنق(/11)
كل واحد منهم طوقًا من فضة، نقش عليه عتقاء لله -عز وجل- ثم يعتقهم جميعًا على عرفات، ويسأل الله -عز وجل- أن يعتق رقبته من النار، ثم يحج ثالثة فيسوق أمامه ألف شاة، ثم يريق دماءها كلها في منى، ويطعم بلحومها فقراء المسلمين؛ تقرُّبًا لله -عز وجل- فلا تنساه البطون الجائعة، ولا الأكباد الظامئة ما دام على الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.
يا ناعمَ العَيشِ والأموالُ بائدةٌ *** أين التبرعُ لا ضَاقتْ بكَ النِّعَمُ
كان المال في أيديهم لا يدور عليه الحول حتى ينفقه في سبيل الله
لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ سُرَّتهم *** لكِنْ يمرُّ عليها وهو يستبقُ
كبر حكيم بعد أن قدم ما قدم، وذهب بصره باحتسابه لله، ونزل به الموت، واشتد وجعه، وإذ به يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ويقول: أخشاك ربي وأحبك، أخشاك ربي وأحبك ليلقى الله. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه، ورحم الله أولئك الرجال، طلبوا الدنيا على قدر مكثهم فيها، وطلبوا الآخرة على قدر حاجتهم إليها. لم يضحوا بأموالهم فحسب، بل ضحوا بدمائهم في سبيل الله؛ رجاء ما عند الله، وما عند الله خير للأبرار (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ) وصدقوا فإذا أنت بشاب ناضر الشباب مؤمن بالله اسمه [حبيب] يكلف بمهمة شاقة؛ ليكون رسولا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى [مسيلمة الكذاب]، يأخذ الرسالة غير وَانٍ ولا متريث ولا متردد، ترفعه النِّجاد، وتحطه الوهاد حتى يبلغ أعالي <نجد>، ويسلم الرسالة إلى مسيلمة، فلما قرأها انتفخت أوداجه، وبدا شره، ولو علم الله فيه خيرًا لأسمعه. أمر بحبيب أن يقيد، وأن يعرض عليه من الغد، وما ضر حبيب وقد بلغ رسالة الحبيب –صلى الله عليه وسلم- لما كان الغد أذن للعامة بالدخول عليه، وأمر بحبيب فجيء به يرسف في قيوده وسط جموع الشرك الحاقدة، مشدود القامة، مرفوع الهامة، شامخ الأنف بإيمانه، التفت مسيلمة إليه وقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، أشهد أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتميز من الغيظ وقال: أتشهد أني رسول الله –وخسئ-؟ فقال حبيب في سخرية: إن في أذني صمم عن سماع ما تقول، فيتغير لون وجهه، وترتجف شفتاه غيظًا وحنقًا ليقول لجلاده: اقطع قطعة من جسده، فبتر الجلاد قطعة من جسده لتتدحرج على الأرض، ثم أعاد مسيلمة السؤال، أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم -صلى الله عليه وسلم- قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمم عن سماع ما تقول، فأمر بقطع قطعة أخرى من جسده لتتدحرج على الأرض، فشخصت الناس بأبصارها مدهوشة مشدوهة من تصميم هذا الرجل وثباته؛ إنه الثبات من الله، مضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، حتى صار قطعًا منثورة على الأرض، ثم فاضت روحه وهو يردد محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، محمد رسول الله، محمد رسول الله.
إن عذَّبوا الجسمَ فالإيمانُ معتصمٌ *** بالقلبِ مثلَ اعتصامِ اللَّيثِ بالأَجَمِ
ثم يأتي الخبر لأمه -ويا لهول الخبر جدير بأمهات المسلمين وبأمهات الشباب والشابات أن يقفن مع هذه الأم لندرس سيرتها يوم جاءها خبر ابنها الذي قطع إربًا إربًا وهو يقول: محمد رسول الله، اسمع إلى ذلك المحضر الخالد لذلك الرجل- ما زادت –والله- يوم جاءها الخبر على أن قالت: من أجل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته، لقد بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة صغيرًا، ووفَّى له اليوم كبيرًا، فحمدت الله -سبحانه وتعالى- كثيرًا
فلو كانَ النساءُ كمنْ ذكرنا *** لفُضِّلتِ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٍ *** ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
هل وقفت عاجزة تبكي ابنها وتندب حظها؟ لا، بل في يوم اليمامة كانت تشق الصفوف كاللبؤة الثائرة تنادي: أين عدو الله مسيلمة؟ فوجدته مجندلا على الأرض، سيوف المسلمين قد ارتوت من دمه، فطابت نفسًا، وقرَّت عينًا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ) مضى حبيب ومسيلمة مضى حبيب ومسيلمة إلى ربهما، وشتَّان ما بينهما، فريق في الجنة، وفريق في السعير. رضي الله عنهم؛ ضحوا بكل شئ، وصدقوا الله فصدقهم الله، وأقر أعينهم بنصرة دينه وإعلاء كلمته. مواكب تتلوها مواكب من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
مواكبُ الله سارَتْ لا يُزَعْزِعُهَا *** عاتٍ منَ البحرِ أو عالٍ من الأطم
لا يهتفونَ لمخلوقٍ فقدْ علمُوا *** أنَّ الخلائقَ والدنيا إلَى العَدَمِ(/12)
فإذا أنت ترى أحدهم وهو [عقبة بن نافع] على أطراف غابة <القيروان> ينادي يخاطب السباع والهوام ويقول: نحن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئنا لننشر دين الله في الأرض فأخلي لنا المكان، فتخرج السباع والهوام، تخرج حاملة أولادها على ظهورها؛ لتخلي المكان لجند الله؛ كرامة من الله، أطاعوا الله فطوع الله لهم كل شئ؛ ليبني مدينة <القيروان> في تلك الغابة، لا ليركن إليها ويجلس فيها ويتنعم بها، بل ينطلق بعد ذلك فاتحًا في الأرض حتى يقف بقوائم فرسه في أطراف المحيط الأطلسي ليقول كلمته الخالدة وقوائم فرسه قد ابتلت بمياه المحيط الأطلسي يقول: والله لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضًا وأقوامًا لخضته في سبيل الله؛ لأنشر دين الله. وإذا [بقتيبة] في الجانب الآخر في شرق الكرة الأرضية ذاك في غربها وهذا في شرقها يفتح المدن والقلوب، حتى يقف على أطراف مملكة <الصين> ويقسم بالله ليطأن بأقدام فرسه تلك المملكة، ويسمع ملكها فيهلع ويخاف ويجزع، ويعلم أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا، فيرسل صِحَافًا من ذهب مملوءة بتربة أرض الصين؛ ليبرَّ قسم قتيبة، وتطأ خيل قتيبة تلك التربة، وتكون الصحاف مقدمة الجزية، وأربعة من أبنائه يوضع عليهم وسام المسلمين فيا لله!
مهلا حماةَ الضَيْمِ إنَّ لِلَيلِنا *** فجرًا سيطْوِي الضَيمُ في أطمارهِ
وإذا بكم بعد فترة تتخيلون وتقرؤون، خليفة المسلمين يخاطب السحابة وهو على كرسيه، ويقول: أمطري أنَّى شئت؛ فسوف يأتيني خراجك. صارت الكرة الأرضية ما بين مسلم حقًا وكافر يدفعُ الجزيةَ عنْ يدٍ وهو صَاغِرٌ.
للهدى كانوا أذلاء وللعدلِ *** وللمَعروفِ كانُوا خُلفاءَ
ولو دعاهم صارخٌ لانتفضوا *** مِن بطونِ الأرضِ يرمونَ السماءَ
تركُوا المنزلَ معمورًا لنا *** ثُمَّ جِئنا فتركناهُ خَلاء
ضربُوا العِزَّ لنا أخبيةً *** فنقضنَاها خَبَاءً فخَباء
ومع هذا
يا أمتي إنْ طالَ ليلُك عابثًا فتَرَقَبي *** بسمات فجرٍ في الظَّلام جَديدِ
ما نامَ جفنُ الحقِّ عنك وإنمَّا *** هيَ هدأةُ الرِّئبالِ قبلَ نفارِهِ
لعلها هدأة الأسد قبل نفاره. صدقوا ما عاهدوا، صدقوا في التجرد لله، وطلب الأجر العظيم من الله، وأنعم به من تطلع لا يعدله شئ من تكريم الدنيا. "صح أن أعرابيًا قسم له النبي- صلى الله عليه وسلم- في <خيبر> من الغنيمة وكان غائبًا، فلما حضر أعطوه ما قُسِم له، فجاء الأعرابي للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا بسهم فأدخل الجنة، وأشار إلى حلقه، فقال -صلى الله عليه وسلم- إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا، ثم نهضوا لقتال العدو، وكان له ما أراد، إذ أوتي به يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه الله، ثم كفنه النبي –صلى الله عليه وسلم- بجبته وصلى عليه، ودعا له، ثم قال: اللهم هذا عبدك، خرج مجاهدًا في سبيلك، قتل شهيدًا وأنا عليه شهيد". أرادوا الله فشمخت نفوسهم إلى رضوان الله، فترفعوا عن الدنيا حتى قال قائلهم؛ وهو [جابر بن عبد الله]: والذي لا إله إلا هو، ما اطلعنا على أحد من أهل <القادسية> أنه يريد الدنيا مع الآخرة . وهاهو [أبو الحسن عليّ] –رضي الله عنه- يوم الخندق يرى [عمرو بن ودٍّ]؛ فارس العرب بلا منازع وهو يجتاز الخندق، ويندب المسلمين للمبارزة، فيتقدم عليٌّ لمبارزته، فيندب الثانية وقد استصغر [علي] فيخرج له علي، فيندب الثالثة للمبارزة فما لها إلا علي، فيقول النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما روى عنه أخرج إليه منصورًا، فكان اللقاء وما هو إلا قليل وهما يصطرعان وإذ بعلي يعلوه بالسيف، ويوم علاه بالسيف بصق عمرو في وجهه، فيتركه علي دون أن يقتله، فقال له عمرو: عجبًا لأمرك مُكٍّنْتَ مني بشيء لم تحلم به العرب، ثم تتركني فقال علي: كنت أريد قتلك لوجه الله يا عدو الله، فلما بصقت في وجهي ثارت نفسي وطالبتني بالثأر، فخشيت أن يكون قتلك لنفسي، ووالله ما أريده إلا لله. ما أبلغه من كلام! ما أعظمه من تفكير! ما أحلاه من خلق أصيل! ترفع عن حظوظ النفس، وسفاسف الأمور، ولا غرابة، فأين تربَّى علي؟ تربى في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو ربيب الإخلاص والتجرد والصدق.
والأمرُ من معدنِهِ لا يُستغربُ *** والفرعُ للأصلِ حتمًا يُنسبُ(/13)
صدقوا ما عاهدوا فاتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو. ركلوا العُجْب والكبر والغرور فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء. في حضور يقال لأحدهم: يا مراءٍ، فيقول: متى عرفت اسمي؟ ويقال لآخر وقد ازدحم الحجاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء، فيقول: ما عرفني إلا أنت، ما عرفني إلا أنت. ويؤتى بالثالث يقف يوم عرفة آخر النهار متذللا خاضعًا خاشعًا قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -ويا لها من ذنوب صغار، وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم قلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي، اللهم لا تردهم من أجلي.
ليتَ شِعْرِي ما الَّذِي أطْلقهُمْ *** مِنْ عُقَالٍ وبقينًا أُسَرَاء
ما لنا نحنُ عَجِبنَا واغْتَرَرْنَا *** أوَ لسْنَا كُلُنَا طينًا ومَاء
لو تبعنا الهدى آثارهم *** لانطلقنا وسمونا للعلاء
صدقوا ما عاهدوا فعفوا وصفحوا. وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم، ولهجت أنفسهم لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، كل ذلك يرجون ما عند ربهم. يقال لأحدهم: إن فلانا من الناس يقع فيك فيقول: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول:" اصبروا حتى تلقوني على الحوض". يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. ويقال للثالث: إن فلانًا يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟ من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل، ما ينفعك إن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ لكن تعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك. أيها الأحبة؛ إن مكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يرى أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ على من يبدي الإسفاف، ويترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول أو جدل أو لجاج. وبعضنا -ويا للأسف- يتخذ أخاه هدفًا ويجمع الجموع ليرجموه معه، ترى بعضنا يرفع ويخفض، ويجرح ويعدل ويشي .
وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى *** ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى(/14)
اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة ولأولئك. وا أسفاه يوم يسود عرف التفاضح، ويوم تسترخى بيننا أيدي التصافح ليس المنزلة -والله- بأن تنال لقبًا بتجريح إخوتك، إنما المنزلة أن تحتل في قلوب المؤمنين حيِّزًا، أن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض: أن أحبوا فلانا. صدقوا ولم نصدق، قلوب امتلأت بخشية الله، وقلوب امتلأت بمحبة الله، ترجو ما عند الله، لا تتسع لحقد أو ضغينة أو حسد لخلق الله، بل –والله- كانوا مشفقين على عباد الله؛ يعلمون الجاهل، وينبهون الغافل مغتنمين كل فرصة، مستفيدين من كل مناسبة. يمر [أبو الدرداء] بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم ولو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) صدقوا في حبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحرصوا على رؤيته وصحبته، وقد كان فَقْد صحبته ورؤيته -صلى الله عليه وسلم- أشد عليهم من كل شئ، أحبوه، بذلوا المال والنفس والنفيس دونه -صلى الله عليه وسلم- أحبوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه، أحبوه فنصروا سنته، وذبُّوا عن شريعته، وما أحدثوا في حبه ما لم يشرع. فليحذر الذين ادعوا حبه ولم يتبعوه واتبعوا أهواءهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. لقد سد الله -سبحانه وتعالى- دون جنته الطرق فلن تفتح الجنة لأحد إلا من طريقه (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أحبوه حتى جاء أحدهم إليه يفكر فيما بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا رسول الله؛ إنك لأحب إلى من نفسي ومن ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، فإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنا إن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يجبه- صلى الله عليه وسلم- ليتنزل الجواب قرآنا يتلى (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم منَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشهداء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ويقول –صلى الله عليه وسلم- [لربيعة الأسلمي]: سل شيئًا يا ربيعة، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال –صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك، قال: ما هو إلا ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود. كان الناس يسألون ما يملأ بطونهم، ويواري جلودهم مما هم فيه، أما المحب فلا يريد إلا مرافقة حبيبه في الدنيا والآخرة. وبعد عام من وفاته –صلى الله عليه وسلم- بعد عام يقف أبو بكر –رضي الله عنه- على المنبر ويقول: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف من عامي الأول، ثم استعبر أبو بكر وبكى، ثم قال أخرى: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلم يملك أن خنقته العبرة فبكى، ثم قال ثالثة فخنقته العبرة فبكى، ثم قال: لا يسمع صوته من نشيجه، قال: صلى الله عليه وسلم، لم تؤتوا شيئًا بعد كلمة الإخلاص مثل العافية، فسلوا الله العافية. نسأل الله العافية. أما [سعد بن الربيع] فهو في آخر رمق يجده [زيد] بين القتلى، وإذا به يقول: بلِّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم شِفْر يطرف. والآخر يقول يوم أحد وقد كان يقوم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجالد فيقول: لا تشرف يصبك سهم، نحري دون نحرك يا رسول الله. أحبوا فامتثلوا أوامره. فبينما بعضهم يصلي صلاة العصر إذ حولت القبلة إلى الكعبة، فمرَّ رجل صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم – عليهم، فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في الصلاة، في صلاة العصر تأسيا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. نزل تحريم الخمر (فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ) فأريقت الخمر حتى جرت بها سكك المدينة ولسان حالهم ومقالهم: انتهينا انتهينا. خلع -صلى الله عليه وسلم- نعليه وهو يصلي فألقوا نعالهم وراءه، فسألهم لم فعلتم ذلك؟ قالوا: رأيناك ألقيت فألقينا، فأخبرهم أن جبريل أتاه فأخبره أن فيهما قذرًا. يقول يومًا [وابن رواحة] قادم إلى المسجد يريد الدخول: اجلسوا عباد الله، أو كما قال –صلى الله عليه وسلم- فيجلس ابن رواحة خارج المسجد، ما وسعه إلا الاستجابة لأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. أبو بكر –رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله(/15)
–صلى الله عليه وسلم- كان يتتبع أفعال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيفعلها حبًّا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-. الحب اتباع لا ابتداع. يقول: وبعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول لعمر: انطلق بنا إلى [أم أيمن] نزورها كما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزورها، قال: فلما انتهينا إليها ورأتنا بكت، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله -صلى الله عليه وسلم- قالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، ولكن أبكي لأن الوحي انقطع من السماء بموته -صلى الله عليه وسلم- ثم انفجرت تبكي -رضي الله عنها- فهيجتهم على البكاء، فجعلا يبكيان معها إيه يا أم أيمن.
يا أم أيمن قد بكيتِ وإنَّنا *** نلهُو ونمجنُ دونَ معرفةَ الأدبِ
لم تبصري وضع الحديثِ ولا الكذبِ *** لم تبصري وضع المعازفِ والطربِ
لم تشهدي شرب الخَمور أو الزنا *** لم تلْحَظِي ما قدْ أتانا من عطَبِ
لم تلحظي بدعَ الضلالةَ والهوى *** لولا مماتُك قدْ رأيتِ بنا العَجَبِ
لم تعلمي فعل العدو وصحبِهم *** ها نحن نجْثُو لليهودِ على الرُّكَبِ
واحرَّ قلبي من تَمَزُّقِ جَمعِنا *** أضحتْ أمورُك أمتي مثلَ اللعب
تالله ما عَرفَ البكاءُ صراخَنا *** ومع التباكي لا وشائجَ أو نَسَبِ(/16)
كيف لا يحبونه وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربه، فكان لهم قائدًا و مربيًا وأبًا ورسولا نبيًا، وسراجًا منيرًا، ولن يؤمن أحد حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ماله وولده وأهله ونفسه والناس أجمعين (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) وذلك هو الحب أيها الأحبة. إن هذا الحب العميق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع شدته، ومع مفاداتهم له بالنفس والنفيس فإن عقائد المسلمين استقامت بفضل الله لم يتجاوزوا صفة النبوة، ولم ينسبوا إلى نبيهم -صلى الله عليه وسلم- صفة الألوهية، ولم يعبدوه من دون الله، بل كان صوته يجلجل في عقولهم ويرددونه "أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة" القرآن يذكِّر ببشريته (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) والقرآن يذكر أنه يصيبه ما يصيب البشر(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فالاتباع خير لو كانوا يعلمون. صدقوا الله حتى في أمنياتهم وهممهم، وهمم أهل الدين يجب أن تكون أعلى وأسمى. هكذا كانت مطالب الصحابة -رضوان الله عليهم- وأمانيهم اجتمعوا يومًا من الأيام فقال قائلهم: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل-. وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به، وأما علي -رضي الله عنه- فيتمنى الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف. وأما خالد فيتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد يصبِّح منها العدو ليجاهد في سبيل الله. وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل [أبي عبيدة]؛ أستعملهم في طاعة الله. رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله، يا أيها الأحبة يتمنى عمر هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم. فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال! كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كأبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة. كم هي حاجتنا ماسة إلى رجل كأبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل، وعاثت في الأرض الغربان، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير. كم هي حاجة الأمة لأمين كأبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، تداعت علينا الأمم، وتداعى الأكلة على قصعتها، لا من قلة والله، ولكن غثاء كغثاء السيل، أحببنا الدنيا، وكرهنا الموت، فكان ما كان. كأني والله بقدوة من أولئك الصادقين يقول بلسان حاله وهو مرابط في قبره: وا أسفاه، وا أسفاه، أأنتم أحفادنا؟ أأنتم من قرأتم القرآن؟ أأنتم من درستم سيرة المختار؟ وا أسفاه نقشتم وصايا المختار على الجدران والأحجار، وكان الأحرى أن تنقشوها على الجنان ، وا أسفاه، أما قلت لكم: أقيموا الصلاة؟ فما بالكم تركتم الصلاة، وغادرتم المساجد لتعمروا المسارح والملاعب والملاهي. وا أسفاه ، أما قلت لكم صوموا رمضان، وقوموه إيمانا واحتسابًا ؟ فما بالكم تجعلونه شهر الطعام والفوازير والسهر على الحرام مع ضياع الأوقات؟ وا أسفاه ألم أقل لكم تصدقوا؟ فما بالكم بخلتم فما تنفقون درهمًا إلى على أقدام راقصة أو لاعب أو صاحب مزمار أو آلة دمار وعار، عار وأي عار! وا أسفاه ألم أقل لكم حجوا واعتمروا؟ فما بالكم جُبْتُم أقطار الدنيا، وبيت الله منكم على مرمى حجر يهجر، أأنتم بشر؟ وا أسفاه، تغرقون في أزقة الغرب ومواخيرها، ولا تعرفون الخندق ولا بدرًا ولا أحدًا ولا الحديبية، لا تعرفون المقام ولا الحطيم ولا زمزم وتعرفون أزقة باريس وما أشبهها. ألم أقل لكم انصحوا والدين النصيحة؟ فما بالكم اتقنتم صفة النفاق تَغُشُّون وتُغَشُّون، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، واأسفاه يا رجال الحق!
يا رجال الحق قد جل الأسى *** أرجال منْ أرى أمْ لا أَرَى؟
ضاعت الأمةُ فِي غفلاتِكم *** وتَحَيَّزْنا لأمرٍ حيَّر
الجوى ينخر في أحشائِكم *** والهوَى بَينَ خوافِيكُم سَرَى
اسألوا عن كلِّ نصرٍ خالدا *** واسألوا عن كلِّ عدلٍ عمرا
يا رجالَ الحق قدْ طالَ الجوَى *** بلغَ السيلُ الذُّبا وانحدرا
أنتم القدوة والناسُ بكم *** تقَتدي فَخرًا وتَزْهُو مَفخَرَا
وحِّدُوا أشتاتكم واتحدوا *** واربطُوا أحلامَكم ربطَ العُرَى
واصبروا إن عَظُمَ الخطبُ فما *** يدرك النصرَ سِوى مَنْ صبرا
وانصروا الله يَهبْكُم نَصرَهُ *** واشكروه يُعطي من قد شَكَرَا(/17)
صدقوا ما عاهدوا فكانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون. إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين. رضي الله عنهم أجمعين. أحبتي في الله: هذه بعض الصفات للصادقين الغر الميامين نوجه الجميع للنظر فيها (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) والاقتداء المطلق كما تعلمون بنبي الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو قدوتهم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، ثم يكون الاقتداء بالصالحين الصادقين في الجانب الذي تميز كل واحد فيه بما ينطبق مع أحكام الشرع ومقاصده، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وأخيرا وبعد هذه الجولة في رياضهم فإني أدعو الجميع من خلال ما سمعتم إلى أمور وأسأل الله –عز وجل- ألا نكون من الذين إذا نزلوا بقوم ما خرجوا من عندهم حتى يدعون الله –عز وجل- أن يفرج عنهم. اسمعوا إلى هذه الأمور: هذه أمور من خلال ما ذكر أريد أن أنبه إليها ولعلها خلاصة.
أولا: لا تستقلوا قليلا، ولا تستكثروا كثيرًا، وأحسنوا النية؛ فربَّ صغير تعظِّمه النية، ورب عظيم صغرته النية. والقليل أولى من القعود، حتى لو كان حديثًا لأهل، أو كلام لطفل، أو مسحًا لرأس يتيم، أو تبسمًا لجار، أو نصحًا لرفيق في عمل، أو استماع كلمة أو محاضرة أو قراءة قرآن، حتى لو كان ذلك في السيارة. وداوم فأحب العمل أدومه وإن قل وكل ذلك يكسب الأجر ويلحق بالركب (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
ثانيًا: إذا فرغت فانصب، إذا فرغت من طاعة فانصب في طاعة أخرى، ألحق العمل بالعمل، والتعب بالنَصَب، ولا تغتر بالرأي؛ فالحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى بها. ما ضرك أيها المؤمن؟ بدلا من صرف الوقت فيما لا ينفع أن تتناول كتابًا لتقرأه وتلخصه، أو تستمع لمحاضرة، أو تطالع في سير الصحابة، وما أكثر الأعمال! ، بل والله أين الأوقات. زيارة تكسب فيها صديقًا، أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، تعرفًا على تاجر يعين أنشطة الدعوة الإسلامية بماله، بحثا عن شيخ يؤثر في مستمعيه، درسًا للزوجة والأطفال ولو بالقراءة من كتاب، زيارة للمقابر، ذكرًا وتذكرًا للآخرة، حضور الجنائز، كثرة السنن، قيام الليل، صيام التطوع، صدقة السر، كل ذلك يكون في غير توان ولا بطالة؛ فإن التواني والبطالة -والله- لا يولدان إلا الخزي والندامة على حد قول القائل:
تزوجت البطالة بالتوانِي *** فأولَدَهَا غُلامًا مع غُلامَة
فأمَّا الابن سَمَوْهُ بفقرٍ *** وأما البنتُ سّموْهَا النَّدَامَة
إن تيار الحياة محدود، وفرصة العيش بها قصيرة، فسددوا وقاربوا ولا تجهدوا أنفسكم فتملوا وتتركوا، ولكم كما قيل: يمشي الهوينا ويجيء في الأول.
ثالثا: لا تستعجلوا؛ فإن الاستعجال يقود إلى الفشل فتضطر إلى تكرار العمل، فلو جمعت الوقت الأول مع وقت الإعادة لكان أطول من وقت واحد. أقول هذا لبعض المتعجلين الذين يتهمون أهل الأناة بالتباطؤ؛ لأنهم هم يستعجلون، وليتهم يفلحون ويعملون، لكن لا حاجة يدركون ولا أرضًا يقطعون، ولا ظهرًا يبقون، ولا لسانًا يكفون، وفي ذلك يستعجلون
منا الأناةُ وبعضُ القومِ يحسبُنَا *** أنا بطاءٌ وفي إبطائِنَا سرع
رابعا: إياكم والفراغ؛ فإن من مقت الإنسان أن يكون فارغًا ليس في عمل دنيا ولا آخرة، والوقت هو الحياة، فلا يضيع، وما هذا المخيم إلا مساهمة في استغلال الوقت
دقات قلب المرء قائلة له *** إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ
خامسًا: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه ذلك الباب
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون(/18)
سادسًا: إن حياة بعض الأخيار لا تخلو من ذنوب تضخم أحيانا لحاجة في نفس، ولكني أقول للأخيار: ووالله ما أظن من حضر إلا أخيارًا. إن التوبة تعدل ذلك كله ولا ضير، فصاحب التوبة بكل حال في خير، وكل منصف يعلم أن الكثير من أبناء الأمة غثاء غفلات وشهوات شطط وفساد وعدوان وعداوات، فيهم كل منخنقة وموقودة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع، فيهم من لوَّثه الربا، وأذهله الخمر، والأخيار -وما أنتم إلا جزء من الأخيار- رغم كل شيء هم أهل المناقب والصدق والعفة، ولا ننزِّه أحدًا، ولا نزكِّي أحدًا؛ فكلنا ذوو خطأ. من لم يلحظ هذا فهو عن ميزان العدل ناكب، يليق بكم –يا أيها الأخيار- أن تثقوا بأنفسكم أنكم أمثل من على الساحة، وأنكم أهل للإصلاح، وأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أهل لأن تأخذوا الزمام، فلا تلتفتوا إلى وسوسة شيطان أو أكاذيب ملا، أو تخذيل مخذِّل، ولكن اعملوا ومن أخطأ فليتب. ووالله، ثم والله، ثم والله لا يسعكم القعود، ابرؤوا ممن إذا أقدمتم أحْجَم، وإذا أعربتم أعجم، ألحقوا العمل بالعمل؛ فالعمل يدفع إلى العمل، والحسنة تقود إلى الحسنة، والحركة تولِّد الحركة، والطاعة تجلب الطاعة، وليكن لسان حال الواحد منا:
أغارُ عَلَى أمَّتِي أنْ تَتِيهَ *** بِهَوْجِ العَوَاصِفِ فِي العيلَمِ
وتقْعُدُ صَمَّاءَ مَضْرُورَةً *** وتطربُها لغةُ الأَبكَمِ
وتَشْغَلُهَا سَفْسفَاتُِ الأمورِ *** عن الفَرض والواجبِ الأقدَمِ
وتدْفِنَ آمَالَهَا بالضُّحَى *** وتُمسِي وتُصْبِحُ فِي مَأْتَمِ
تُناشِدُ أبْنَاءَهَا عروةً *** مِنَ الدِّينِ والحَقِّ لَمْ تُفْصَمِ
وتَرْجُو لِعِلاتِها مَرْهَمًا *** وَلَيْسَ سِوَى الدِّينِ مِنْ مَرْهَمِ
أخِي لا تَلِنْ فالأُلى قُدوة *** لِمِثْلِي ومِثْلِكَ في المَأزَمِ
لهم قدرهم باعتبارِ الرِّجالِ *** وسُمْعَتُهُم فِي ذُرَا الأْنجُمِ
تقَدَّمْ فَأنْتَ الأَبِيُّ الشُّجَاعُ *** ولا تتهَيَّبْ وَلا تَحْجَمِ
علَيْكَ بِهَدْي الرَّسُولِ الكَرِيمِ *** ومنهاجُ قرآنك المُحْكَمِ
تحرَّكْ فَأَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ *** ولو أثَّرَ القيدُ فِي المِعْصِمِ
فلا تَتَنَازَلْ ولا تَنْحَرِفْ *** ولا تتشاءَمْ ولا تَسْأَمِ
ولا تكُ مِنْ معشرٍ تافهٍ *** يَقِيسُ السَّعَادَةَ بالدِّرْهَمِ
يعيشُ وليسَ لهُ غايةٌ *** سِوَى مشرب وسوى مطعم
سابعًا: ليكن لكل واحد منا خبيئة من عمل لا يعلم بها إلا علام الغيوب؛ فلعلها الباقية النافعة.
أخيرا: عليكم بمدارسة القرآن، ومدارسة السنة، ومدارسة السيرة، واقتدوا بجيل الصحابة، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ما أقوله للرجال أقوله للنساء، ما يقال لهم يقال لهن، ولا أريد أن أزيد على ذلك وقد أطلت.
أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يجمعنا وإياكم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم يا ذا العزة التي لا ترام، والملك الذي لا يضام، يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، أنت حسبنا، ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل. حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم وامكر لهم ولا تمكر بهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم وامكر لهم ولا تمكر بهم وانصرهم على من بغى عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم وانصرهم على من بغى عليهم وانصرهم على من بغى عليهم وانصرهم على من بغى عليهم اللهم فكَّ أسرهم، اللهم فكَّ أسرهم اللهم فكَّ أسرهم اللهم قوِّ شوكتهم، واجعل الدائرة على عدوهم. يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/19)
صراع الدعاة مع المنافقين
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الحق تبارك وتعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ها هو صلى الله عليه وسلم يقارب الأربعين من عمره ذاهب إلى الغار ما يمر بشجر ولا حجر إلا سلم عليه صلى الله عليه وسلم ويأتيه جبريل بالوحي فيعود فزعاً خائفاً إلى زوجه خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع وأخبر خديجة بالأمر وقال قد خشيت والله على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبداً إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ذهبت به إلى ابن عمها [ورقة بن نوفل] وقد قرأ الكتب السابقة فأخبرته الخبر فقال هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جزع أكب فيها وأضع إذ يخرجك قومك قال أَوَمُخرِجِيَّ هم قال نعم ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي والآن
أرى خلل الرماد وميض جمر *** وأخشى أن يكون لها ضرام
أقول هذا في وقت لا نزال نسمع عن كثير ممن قل حظهم من مراقبة الله وخشيته والخوف منه ونسوا حظاً مما ذكروا به لا تحلوا لهم مجالسهم ولا يقربون في حديثهم ولا ينبسطون في جلساتهم حتى يتناولوا أعراض عباد الله القائمين بأمر الله من علماء الأمة ودعاة الملة ورجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الذين جردوا سواعدهم لرفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذين بذلوا أوقاتهم وأنفسهم لله عز وجل في وقت خرست فيه الألسن قالوا وقد سكت الناس ونطقوا وقد خرست الألسن وجاهدوا في وقت ركن فيه كثير من الناس إلى الدعة والسكون وأخلدوا إلى الحياة الدنيا وملذاتها وتسابقوا إلى الوظائف والمناصب ومع ذلك فقد قام هؤلاء المخلصون بأمر الله لا يبتغون إلا رفعة وإعلاء كلمة الله ودحر الباطل وأهله من أعداء الله تجد هؤلاء الفسقة بل كثير منهم يسارع إلى تناول أعراض الدعاة وتتبع عوراتهم والتلذذ بالحديث عنهم في المجالس يلمز هذا ويتكلم في عرض هذا ويردد ما أشيع عن هذا لم تتورع ألسنة بعض هؤلاء من اختلاق الأكاذيب وإلصاق التهم بهم وترديد بعض الأباطيل التي تلصق بهم والتي هي والله من اختلاق أعداء الإسلام وخصومه الذين تتقطع قلوبهم غيظاً وهم يرون راية الدعوة إلى الله ترفع في هذه البلاد لأن هؤلاء المحتسبين من الدعاة والعلماء يُقِضُّون مضاجعهم ويفسدون عليهم ملذاتهم وسكرهم وعربدتهم وفجورهم ودعوتهم إلى منكرهم ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء يلفق التهم والأكاذيب ليرميهم بها فيتلقفها خفاف الأحلام والسذج من الناس ويطيرون بها فرحاً يبلغون بها الأفاق
أقلوا عليهم لا أباً لا أبيكم من اللوم *** أو سدوا المكان الذي سدوا(/1)
لكن لا ضير ولا ريب هذه هي سمة الدعوة إلى الله عز وجل أوذي صلى الله عليه وسلم قيل عنه بأنه ساحر وقيل عنه بأنه كاهن و قيل عنه بأنه مجنون و رمي في عرضه صلى الله عليه وسلم ورغم ذلك أتم الله النور وأكمل الدين رغم أنف الكفار والمشركين والمنافقين خرجت هذه الفئة خرجت فئة المنافقين يوم عز الإسلام تدعي الإسلام وهي منه براء تريد ضرب الإسلام ودعاته فاتخذت النفاق طريقاً وياله من طريق موحش مظلم مبتور إنه مرض عضال ومقت ووبال من تلبس به فقد أغضب الله الواحد القهار واسكن نفسه الدرك الأسفل من النار لا إله إلا الله ماذا فعل المنافقون والمغرضون والحاقدون بالإسلام ودعاته في الماضي والآن لا إله إلا الله كم كادوا لرسول الأنام عليه الصلاة والسلام هم في كل عصر يعيشون يعشعشون ويبيضون ويفرخون همهم إطفاء كل نور يدعي له المسلمون تهاونوا بنظر الله تعالى وعملوا من المنكر أعمالاً في المنكرات والصد عن سبيل الله ينشطون وعن الصالحات والدعوة في سبيل الله يتباعدون (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا)ً يستهزئون بأهل الاستقامة والصلاح ومن دعوتهم إلى الله يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون فالله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ما يريدون أن يتكلم داعية ما يريدون أن يأمر بمعروف ولا ينهى بناهية لا يريدون علماً ولا دعوة ولا أن تقام ولو محاضرة لا إله إلا الله ما أخذت و أندل حالهم إن سألتهم عن آيات الله البيانات ما عرفوا إلا المغنين والممثلين والراقصات أحيائهم وأمواتهم يدّعون الإيمان وما هم بمؤمنين هم في كل عصر هم في كل عصر يعيشون يرمون بالتهم يرمون بالأكاذيب دعاة الإسلام رموا نبي الله موسى قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام بالزنا فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً ورموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وهم أصحاب الإفك في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهم هم في كل زمان ومكان بهذا الدور يقومون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيوجدون فقاتلهم الله أنى يؤفكون لنقف قليلاً مع حديث الإفك لنأخذ منه الدروس والعبر إن في ذلك لذكرى لمن له قلب فاسمعوا لعائشة المبرئة من فوق سبع سماوات رضى الله عنها وأرضاها صاحبة المعاناة في حديث الإفك يوم تقول :رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ولما دنونا من المدينة نزلنا منزلاً فبتنا فيه بعض الليل ثم أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل قالت فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش لأقضي حاجتي وفى عنقي عقد لي فلما قضيت شأني انسَلَّ من عنقي ولا أدري ثم أقبلت إلى رحلي وتلمست صدري فلم أجد العقد وقد أخذ الناس في الرحيل قالت فرجعت أتلمس عقدي فحبسني طلبه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه و هم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً فلم يستنكروا خفة الهودج قالت فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش جئت منازلهم فإذا هي بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب جلست في مكاني متلففة بحجابي أسبح الله واستغفر الله قالت فأخذني النوم وإذا برجل من أهل بدر من الذين اطلع عليهم فقال (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو [صفوان بن المعطل] رضى الله عنه هذا المجاهد الذي يقول عن نفسه بعد أن رمي بالفاحشة والذي نفسي بيدي ما كشفت خمار أنثي لا تحل لي في جاهلية ولا إسلام أتى إلى مكان عائشة فرآها وعرف أنها زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه يعرفها قبل الحجاب قالت عائشة والذي نفسي بيده ما كلمني كلمة ولا سلم عليّ حتى السلام وإنما سمعته يقول إنا لله وإنا إليه راجعون زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم أناخ بعيره فقمت وركبت بعيره فأخذ زمام البعير يمشى به ولا يلتفت ولا يتكلم وإنما تقول عائشة كنت أسمعه يسبح الله وأتى بها في الظهيرة وهي على بعيره فأما الذين في قلوبهم إيمان فاطمأنوا إلى موعود الله وهم في كل زمان يطمئنون لذلك وأما الذين في قلوبهم زغل وحقد وغشش على الإسلام وعلى رسول الإسلام وعلى دعاة الإسلام فأخذوها فرصة لا تتعوض قام كبيرهم الذي علمهم الخبث [ابن أبي] قام بين المنافقين يقول لهم لماذا تأخرت لماذا أتت مع هذا الأجنبي لما ركبت على بعيره لما تركها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الكلام هو واثق من زوجه أنها أطهر من حمام الحرم وأنقى من ماء الغمام قريشية من قرشيات
حور حرائر ما هممن بريبة *** كظباء مكة صيدهن حرام
متحجبات في الخدور أوانس *** ويصدهن عن الخنى الإسلام(/2)
انطلق الجيش إلى المدينة ولا زال المنافقون يشهرون ويلصقون هذه التهمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبفراشه الطاهر فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع الخبر وأتاه النبأ العظيم ضرب في صميم قلبه ضرب في قواعد دعوته ضرب في صميم رسالته الخالدة أصيب في شرفه وفى بيته ومروءته فلما أتاه الخبر عن طريق رجل من المسلمين أتاه وقال يا رسول الله إن المنافقين يقولون كذا وكذا فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) تحمل صلى الله عليه وسلم هذه اللطمة التي لم يصب بمثلها ذهب إلى بيته وسلم على زوجه وهي مريضة في فراشها بعد السفر أصابتها حمة ولم تدرِ أنها متهمة وأن المنافقين قد ألصقوا بها أعظم فرية هي مريضة على الفراش سلم عليها صلى الله عليه وسلم قالت عائشة ولم أرى منه ذاك الحنان و العطف الذي كنت أراه منه كلما مرضت قالت فاستأذنته لأمرض في بيت أبي في بيت خليفة الإسلام في بيت المجاهد الأول في بيت الرجل الأول بعد رسول الهدي صلى الله عليه وسلم فأذن لها صلى الله عليه وسلم قالت فأخذني النساء إلى بيت أبي وإذا بأبيها الآخر يعلم بالنبأ وينزل عليه كالصاعقة ويأتيه الخبر فيصاب ويبكي ويقول (فصبرا جميل والله المستعان على ما تصفون) ويأتي الخبر أمها فتصاب في قلبها وتنتشر الفرية في <المدينة> وتسري سريان النار في الهشيم ويشارك كثير من الصحابة رسول الله في هذا المصاب فيحزنوا لحزنه ويتأثروا لتأثره
لأن أولى الموالى من تواليه *** عند السرور كما ولاك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في الموطن الخشن
قالت عائشة ولم أعلم الخبر ولم أدر ما السر قالت فلما شفيت من مرضي خرجت مع نساء في ضاحية من ضواحي المدينة وكان معنا امرأة اسمها [أم مسطح] صالحة من الصالحات وولدها صالح من الصالحين من أهل بدر لكنه وقع في هذه الريبة ونشر الخبر وساعد في نشر التهمة كما يفعل بعض الناس الآن فلما أصبحنا في الصحراء عثرت هذه المرأة الصالحة فقالت تعس [مسطح] والعرب تدعو على عدوها بالتعاسة إذا أصيبت قالت عائشة فقلت لها كيف تدعين على ابنك وهو من الصالحين من أهل بدر قالت إنك ما علمت ماذا قال وماذا فعل قالت عائشة وماذا قال قالت اتهمك هو وأمثاله في عرضك وقالوا إنك ارتكبت الفاحشة مع صفوان لا إله إلا الله قالت عائشة فسقطت على وجهي مغشياً عليّ من البكاء رفعها النساء إلى فراشها في بيت أبيها وأما رسول الله فبقي شهراً كاملاً لا ينزل عليه الوحي يتلمس متى يسمع النداء العلوي ليشفي غليله في هذه المشكلة ما عنده دلائل وما عنده براهين لا يعلم الغيب اضطربت عنده الأمور صلى الله عليه وسلم يثق في زوجه لكنه بشر دخل صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أقاربه استشار علي رضي الله عنه قاضى قضاة الدنيا وهو منه بمنزلة هارون من موسى فقال علي يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسلها تصدقك فو الله ما عهدناها كاذبة
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً *** فما اعتذارك من قول إذا قيل
ذهب صلى الله عليه وسلم بعده إلى [أسامة] إلى حبه وإلى ابن حبه إلى المولى الذي رفعه الإسلام فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وعمر أسامة أربعة عشر سنة فيقول أسامة وهو يعرف من هي عائشة رضي الله عنها يقول يا رسول الله أهلك أهلك والله ما نعلم عنهم إلا خيراً والله إنها صوامة قوامة بارة رشيدة فاسأل جاريتها يا رسول الله فيذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية التي معها في البيت واسمها [بريرة] فتقول والله يا رسول الله ما علمت عن عائشة إلا خيراً أحمي سمعي وبصري إنها صوامة قوامة والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أعيبه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله والداجن هي الشاة التي تربى في البيت قام صلى الله عليه وسلم على المنبر وشكى إلى الناس ما لقيه من المنافقين في عرضه ما لقيه من اتهامات جريئة في دعوته شكي من [عبد الله ابن أبي] رأس الضلالة وعمود الجهالة المريد التدمير لهذا الدين فكان مما قاله صلى الله عليه وسلم "ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق والله ما علمت منهم إلا خيراً "فقام الأوس والخزرج فكادوا يقتتلون على اختلاف بينهم في المسجد دفاعاً عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم هدأ صلى الله عليه وسلم الأوضاع وعاد إلى عائشة في بيت أبيها ليجلس معها مجلس التحقيق والمحاكمة إما أن تعترف وتتوب إلى الله وإما أن تتبرأ من هذا وإما أن يعلن الله توبتها من فوق سبع سماوات جلس صلى الله عليه وسلم قالت عائشة وما جلس بعدها إلا ذاك المجلس وجاء الفرج من مفرج الكروب ومنفث الهموم قالت ومعي أبي وأمي ونساء يبكين معي يشاركنني مصيبتي
فلابد من شكوى إلى ذي قرابة *** يواسيك أو يسليك أو يتوجعوا(/3)
قالت فجلس صلى الله عليه وسلم ثم شهد أن لا إله إلا الله ثم حمد الله الذي بنوره تقوم السماوات والأرض ثم قال يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممتي بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا أعترف ثم تاب تاب الله عليه تلعثمت من البكاء لا تستطيع الكلام تقول لأبيها أجب عني رسول الله فيما قال فيبكي أبو بكر ويقول والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا يقول أبو بكر في اتهام كهذا ماذا يقول في فرية المغرضين من أعداء الإسلام قالت فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله فتبكي أمها وتقول والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاستجمعت قواي وجف الدمع من عيني وقلت إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فلأن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ولأن اعترفت لكم بأمر لم أعمله لتصدقنني فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا [أبا يوسف] حين قال (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) قالت فاندفع أبي وأمي باكيين أما رسول الله فلم يتحرك مهموماً به من الهم ما به قالت فوالله ما غادر مكانه صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي من السماء ثقل جسمه فاضطجع على فراشه وأخذ عرقه يتصبب من جبينه الطاهر فعرفنا أنه الوحي قالت فوالله ما فزعت أما أبي فكادت نفسه أن تخرج خوفاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس تحدر العرق بعد ما استفاق صلى الله عليه وسلم كالجمان من على وجه فجعل يمسح العرق وهو يبتسم ويقول يا عائشة ابشري إن الله قد برأك من فوق سبع سماوات براءة من الله ولطف من الله ورحمة من الله يوم أن توصد الأبواب فلا يوجد إلا باب الله يوم أن تسدل الحجب فلا يأتي إلا عطف الله وحنان الله
فلرب نازلة يضيق بها الفتي *** ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
تهلل وجهها رضى الله عنها قال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنه يا عائشة قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمي عليه واحمديه قالت لا والله لا أقوم ولا أحمده ولا أحمدك ولا أحمد أمي وإنما أحمد الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه يدخل صلى الله عليه وسلم بعدها المسجد منتصراً على أعداء الرسالة الذين ألصقوا به التهمة في عرضه وشرفه يجمع الناس ويقف على المنبر يتلو آيات الله البينات تنزل من على المنبر كأنها القذائف يسمعها المؤمن والمنافق والذكر والأنثى وتقرؤها الأمة إلى قيام الساعة لأن التهمة كانت فيه صلى الله عليه وسلم وقبله وهي متصلة إلى قيام الساعة والواقع يشهد بذلك اسمعوا إلى الآيات التي نزلت قال تعالى (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين) إلى أن قال تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب أليم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم)
صلى الله عليه وسلم بل تتجدد يوماً بعد يوم في صور ومخططات رهيبة مفزعة لكن العاقبة مع ذلك للمتقين والإسلام منتصر في كل مكان (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ألا فليخسأ الذين يريدون هدم هذا الدين من الذين يلصقون التهم بدعاته وعلمائه العاملين .وإن نجحوا فالنجاح مؤقت والعاقبة للمتقين نسأل الذي بيده مقاليد الأمور أن يفضح من أراد علماء الإسلام من اليهود والمنافقين وأذنابهم على رؤوس الأشهاد اللهم افضحهم على رؤوس الأشهاد اللهم افضحهم على رؤوس الأشهاد اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك اللهم أرنا فيهم يوماً أسوداً تقر به أعين الموحدين الآمرين والناهين اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك واكلأهم برعايتك وسدد رميهم واجعل كلماتهم فوارق على كل من أراد بهم الخذلان وافضح أعداءهم على رؤوس الأشهاد اللهم واهدنا إلى الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم أقول ما تسمعون واستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(/4)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد قال الله عز وجل (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) عباد الله في حادثة الإفك دروس وعبر أيما عبر ذاك (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) من هذه الدروس أن طريق الدعوة والجهاد طريق محفوف بالمكارة كله عراقيل كله عقبات وقد لاقي الدعاة في سبيل الله في هذا الطريق مكارة عظيمة فما صدتهم وما رضتهم عن دعوتهم ها هو صلى الله عليه وسلم يخرج من <مكة> من بين الأهل والجيران والأخوة والخلان حصيرا حزيناً كئيباً طريدا في تلك الفيافي والقفار ما معه من مظلة إلا لا إله إلا الله يصعد إلى أهل <الطائف> لأنه ما وجد هناك بيئة تتقبل لا إله إلا الله فيذهب إليهم فيسخروا به ويستهزئوا به فهذا هو طريق الدعوة وهذا هو المصطفي صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من أذى في سبيل الدعوة إلى الله فطريق الدعوة هذا هو وإلى عهد قريب ليس في ذاك العهد وإنما إلى عهد قريب نرى [سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب] حفيد إمام الدعوة رحمة الله يصدح بدعوة الحق فيجعله أعداء الإسلام في فوهة المدفع ثم يطلقون به المدفع لتتطاير أشلاءه لتقول لكل الدعاة قدموا أنفسكم في سبيل الدعوة إلى الله فما نقموا منه إلا أن آمن بالله العزيز الحميد طريق الدعوة إلى الإسلام طريق تضحيات ومن يفزع من هذا الطريق فليس بداعية حق الدعوة .إن الحافظ الله إن الولي هو الله إن المسدد هو الله ها هو موسى ذلك الغلام الذي رآه فرعون في منامه ورأى هلاك ملكه على يديه قتل من قتل من أولاد بني إسرائيل ويربى هذا الطفل في بيت فرعون ويترعرع أمام عينيه لأن الله عز وجل حفظه ومن حفظه الله فلا خوف عليه وهذا والله درس عظيم للدعاة إلى الله إذ مهما علا الباطل وزمجر وارتفع هديره فإن الله سيجعله زبداً ويبقى ما ينفع الناس لا خوف فالله ناصر دينه شاء من شاء وأبى من أبى أما كيد البشر فكيد ضعيف مهما عظم ووالله لا تستطيع أي قوة في الأرض أن تصل إلى قلب مؤمن صادق في إيمانه ويقينه ما أجمل وأصدق ما قاله أحد الدعاة حين أوذي في ذات الله
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى *** أبداً وفى التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب اذرعي *** بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة *** أو رد إيماني وصد يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يد ربي *** وربي حافظي ومعيني(/5)
لا حافظ إلا الله ولا معين إلا الله فنسأله أن يحفظ الدعاة إلى الله عز وجل ومن دروس هذه الحادثة أن المنتمين لهذا الدين بإخلاص وصدق معرضون للاتهام ولإشاعة الشائعات وإلصاق التهم بهم سمعتم كيف أتهم صلى الله عليه وسلم في عرضه المفعول لكل من ترسم خطاه ومضى على منهجه صلى الله عليه وسلم تجد كل تهمة تلصق بأهل هذا الدين بعلماء هذا الدين بدعاة هذا الدين تشاع عنهم الشائعات تلصق بهم التهم تلصق بعلماء الأمة شبابها الملتزم وبكل صالح في الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) وصف الدعاة بالرجعية والتأخر وصفوا بعدم مسايرة العصر وصفوا بالسذاجة والبساطة لكن هذه الألفاظ لن تجدي فبدءوا الآن برمي الدعاة بالشذوذ الخلقي لتحطيم وتضليل قدوة الأمة في نظر أبنائها وهذه كلمات وهذه أفعال والله ما جاءتنا إلا من اليهودية الحاقدة صدرتها لنا إلى بلاد الإسلام فأخذها الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم زادوا عليها وزعوها في مجالس الناس صار الصالحون في أوساط الناس مصدر شبهة وأهل ريبة وبالتالي سيفقد علماء الإسلام ثقة الناس فيهم فيضل الناس عند ذاك يعمنا الله بعقاب من عنده وذاك مطلبهم (قاتلهم الله أنى يؤفكون) يأتي كل من في قلبه زغل ونفاق يتشفى بالصالحين وبالدعاة المخلصين ويقول : الشاذون ، كانوا يقولون المتشددين والآن أصبحوا يقولون الشاذين ونسأل أصحاب هذه الكلمات ما الشذوذ في نظرهم هل هو التمسك بحبل الله يوم أن انقطعت حبال الذين من دونه هل الشذوذ هو الحرص على تطبيق السنة بالمسلك والآداب والتعامل يوم ضاعت تعاليم السنة بأشخاص كثير من الناس هل الشذوذ في إحياء القلوب بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن أصبحت مجالس الناس لنشر الشائعات وللسذاجة واللهو واللعب هل الشذوذ أن يتروض الشباب في بساتين آيات الله يوم تروض غيره في مذابل الأغاني وفي مذابل البغايا والعاهرات هل الشذوذ أن تدرس كتب السلف الصالح يوم شغل الكثير عن المصحف بالمجلة الخليعة وعن المسجد بالمقهى وعن السواك بالسيجارة وعن زيارة بيت الله الحرام بزيارة بلاد الكفار <كبانكوك> وما أمثالها ما أدراكم ما تلك البلاد لا إله إلا الله . سبحانك هذا بهتان عظيم الشذوذ والانحراف في البعد عن منهج الله في الانسلاخ عن القيم والآداب في الانسلاخ عن الإسلام والقيم والآداب والأخلاق الشذوذ والانحراف في البعد عن كتاب الله الذي أنزله الله عز وجل وما خرجت والله مثل هذه التهم إلا يوم أن ابتعدنا عن الإسلام يوم أن تركنا الأمر والنهي أصبح البعض يمشي خجلاً أنه مطبق للسنة فتجرأ الرعديد وتجرأ الملحد وتجرأ المنافق ليطلق الشائعات وعن من عن أنصار الدين وعلمائه عن حاملين راية محمد صلي الله عليه وسلم ولكن نقول
إذا عير الطائي بالبخل مادر *** وعير قسا بالفهامة باقل
وقال السهى للشمس أنت كثيفة *** وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر أن الحياة دميمة *** ويا نفس جدي إن دهرك هازل(/6)
ومن هذه الحادثة نستفيد أن دعاة الإسلام مستهدفون وعلى رأسهم قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم أشيعت عنه الشائعات وإشاعة الشائعات أمر عظيم ومرض خطير ومرض خطير أيها المسلمون لكنها كثيرة وموجودة كثير من الناس ما يسمع كلمة صدقاً كانت أو كذباً إلا وأخبر بها فرية كانت أو حقيقة تمس مسلماً تمس أخاً أم غير أخ ما كأنه سمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ما كأنه تربى به المصطفي صلى الله عليه وسلم كفا بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع كفا بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع رب كلمة توجب لصاحبها النار "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار سبعين خريفاً" (إذ تلقونه بألسنتكم وتقول أفواهكم بما ليس لكم به علم وتحسبوه هيناً وهو عند الله عظيم) (يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ومن الدروس أيضاً أن قذف المحصنات المؤمنات الغافلات كبيرة من الكبائر وموبقة من الموبقات استوجب صاحبها اللعنة من رب الأرض والسماوات وكذلك قذف المؤمنين (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) ومن دروس حادثة الإفك ألا تشاع الفواحش فلا يتحدث بالجرائم التي تحدث في المجتمع في المجالس حتى ولو حدثت لأن التحدث بها يقلل من خطرها في قلوب الناس أوما سمعتم قول الله (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) ومن الدروس ألا يقف المسلم في مواقف الريبة ولا في مواقف التهمة حتى ولو كان أطهر من ماء الغمام إن النفوس يشرع إليها الشك والقلوب تنتابها الأوهام وها هو صلى الله عليه وسلم" يصلى العشاء في مسجده وتأتيه [صفية] زوجه تعوده وهو معتكف فلما قام يودعها مر به أنصاريان فقال لهما على رسلكما هذه صفية بنت حيي" يخبرهم صلى الله عليه وسلم لئلا يجري الشيطان في دمائهم فيظنوا به سوءا ،فدع مواطن الشبهة والريبة يا عبد الله فذلك أصلح وأسلم وأتقى وأنقى ومن الدروس أن المؤمن مبتلى وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل أوذي صحابة رسول الله أذى عظيماً فصبروا واحتسبوا وأوذي من قبلهم فصبروا كان يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق نصفين ثم يمشط بأمشاط الحديد بين جلده وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) عباد الله علماؤنا زهرة الدنيا ونور الدنيا وهم حاملو ميراث الأنبياء والداعون إلى صراط الله العزيز الحميد عرف أعداء الإسلام ذلك فألصقوا به التهم ونشروا عنهم الشائعات وبعض السذج وخفاف الأحلام عن قصد وغير قصد يروج لهذه الشائعات لا إله إلا الله والله ما يريدون بتشويه العلماء سوى ضرب ميراث الأنبياء يريدون إطفاء نور الله فلتكن على وعي وإدراك أخي المسلم، المسلم كيس فطن المسلم لا يغتر المسلم بنور الله يمشي المسلم لا تنطلي عليه الشائعات المسلم يفرق بين السم والدسم اللهم انصر دينك وكتابك اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك اللهم انصر علماء أمة محمد صلي الله عليه وسلم والصالحين من عبادك وأولياءك اللهم انصر علماء أمة محمد اللهم انصر الدين ومن نصر الدين اللهم انصر من نصر الدين اللهم انصر الدين ومن نصر الدين اللهم أخذل من خذل الدين اللهم أخذل من خذل الدين اللهم أخذل من خذل الدين اللهم من أرادنا والإسلام بسوء فاشغله بنفسه وأجعل تدبيره تدميره وأخذله ومزقه كل ممزق يا أكرم الأكرمين اللهم اكشف أستاره اللهم افضح أسراره اللهم اكشف أستاره اللهم افضح أسراره اللهم أخرس لسانه اللهم أذهب عقله اللهم دمر جنانه اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا أكرم الأكرمين اللهم انتقم لأوليائك اللهم انتقم لعلماء المسلمين اللهم انتقم لأحبابك ودعاتك وصالح عبادك اللهم ثبتنا على الحق اللهم من نصر الدين فمكنه في الأرض واجعله هادياً مهدياً اللهم من خذل الدين فأرنا فيه يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وهارون نسألك يا ربي أن تحفظنا نسألك يا ربى أن تحمينا نسألك يا رب أن تهدينا سواء السبيل نسألك أن تمنعنا من كل ما يدبر للمسلمين من كيد وسوء اللهم لا تدابير لدينا إلا تدبيرك ولا حيل لدينا ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الحياة شرا لنا اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا ونسألك لذة النظر إلى وجهك بغير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم من أراد بعلمائنا سوءاً فعليك به. اللهم أهلكهم بدداً أحصهم عدداً ولا تغادر منهم أحداً اللهم آمنا في دورنا وأفرح أمتنا وولاة أمورنا واجعلنا من الذين نخافك ونتبع هداك(/7)
وبرحمتك يا أرحم الراحمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/8)
صرخة قبل الانتحار خطورة الاختلاط
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وسار على منهجه إلى يوم الدين.. أما بعد:
من الأمور التي يجب التنبيه عليها ما يحصل في هذا الزمن من التجرؤ على أحكام الشريعة الإسلامية، وبيان زيغ الزائغين، وإلحاد الملحدين، وتفلت المنحلين من الأخلاق، ذلك ما يشيعونه في البلدان الإسلامية من ضرورة خروج المرأة ومزاحمتها للرجال، في أماكن العمل والتعليم، وأماكن الدخول والخروج، وفي الأسواق وغيرها من الأماكن، وهذه الدعوات المسمومة يهدفون من ورائها: أن تصل المجتمعات المسلمة إلى ما وصلت إليه المجتمعات الأوربية والأمريكية وغيرها من التحلل والتفسخ والميوعة، وانتشار الفوضى الجنسية والأمراض القاتلة، فكما أن داء الفواحش انتشر عندهم سريعاً وبشكل مفجع كأمراض الإيدز والزهري، أرادوا تصديره إلى بلاد الشرق، حتى تصاب بمثل ما أصيبت به بلدانهم، ولا يتم ذلك إلا عن طريق الزنا أو اللواط أو السحاق، وهذه الخبائث منتشرة في الغرب، بل أصل حياتهم مبني على هذا، فهم مصدرو الأفلام الجنسية، والمواقع الإباحية على الإنترنت والقنوات الفضائية، وهذه الفواحش لا تتم إلا إذا تميعت المجتمعات واختلط الرجال بالنساء؛ مما يسهل للذئاب البشرية اصطياد الفريسة وجرها إلى الفخ القاتل! ولقد طبقت كثير من المجتمعات -التي تزعم الإسلام وهي عنه بعيدة- هذا السلوك الشائن، فراحوا يقلدون الغرب في كل ما هو عليه من الميوعة والاختلاط والتفسخ والتهتك، فظهرت فيهم الفواحش المعلنة، والأمراض المهلكة، التي تخجل تلك الدول من إعلان نتائج الإصابات بها، حتى لا يحصل الخوف لمن يمارس تلك الجرائم التي تهلك الحرث والنسل..
وإذا كان الاختلاط هو أخطر الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الفواحش؛ وذلك لسهولة التلاقي بين الرجل والمرأة، وسهولة إجراء موعد للتلاقي بينهما، بخلاف ما لو منع الاختلاط، فإنه حينئذ سيخف معدل الجريمة جداً.. إذا كان الأمر كذلك فإن الله قد حرم الاختلاط بين الرجال والنساء؛ ذلك لما يجره من ويلات ونكبات ومصائب عاجلة وآجلة. ولقد انهارت حضارة أمم كثيرة بسبب التميع والانحلال، وإننا لنرى الحضارة الغربية قد أشرفت على الانقراض العاجل الذي لا مفر منه؛ لأنهم أعلنوا بالفجور على مستوى الشعوب والحكومات.. وسنة الله في الحياة اقتضت إهلاك من أعلن الفجور وتبجَّح به، عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))1. والشاهد في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط).. إلى قوله ( الذين مضوا). ومعلوم انتشار الأمراض القاتلة التي لم تكن معروفة من قبل بسبب الفواحش، مثل: الإيدز والهربس والزهري..
يقول الشيخ مصطفى السباعي: ( فمن المعلوم في تاريخ أوروبا أن من أكبر أسباب انهيار الحضارة اليونانية تبرج المرأة ومخالطتها للرجال ومبالغتها في الزينة والاختلاط، ومثل ذلك حصل تماماً للرومانيين، فقد كانت المرأة في أول حضارتهم مصونة محتشمة، فاستطاعوا أن يفتحوا الفتوح، ويوطنوا أركان امبراطوريتهم العظيمة، فلما تبرجت المرأة وأصبحت ترتاد المنتديات والمجالس العامة وهي في أتم زينة وأبهى حلة: فسدت أخلاق الرجال وضعفت ملكتهم الحربية وانهارت حضارتهم انهيارا مريعاً)2.
تقول دائرة معارف القرن التاسع عشر:
( كان النساء عند الرومانيين محبات للعمل مثل محبة الرجال له، وكن يشتغلن في بيوتهن، أما الأزواج والآباء فكانوا يقتحمون غمرات الحروب، وكان أهم أعمال النساء بعد تدبير المنزل: الغَزْل، وشغل الصوف.. ثم دعاهم بعد ذلك داعي اللهو والترف إلى إخراج النساء من خدورهن؛ ليحضرن معهم مجالس الأنس والطرب، فخرجن كخروج الفؤاد من بين الأضاليع، فتمكن الرجل لمحض حظ نفسه من إتلاف أخلاقهن، وتدنيس طهارتهن، وهتك حياتهن، حتى صرن يحضرن المراقص ويغنين في المنتديات، وساد سلطانهن، حتى صار لهن الصوت الأول في تعيين رجال السياسة وخلعهم! فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحالة حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري!) ثم قالت دائرة المعارف:(/1)
( إنا لسنا أول من لاحظ هذا الأثر السيئ الذي يحدثه حب النساء للزينة يوماً فيوماً على أخلاقنا، فأن أشهر كُتَّابنا لم يهملوا الاشتغال بهذا الموضوع الخطير، فكيف النجاة من هذا الداء الذي يقوض مدنيتنا الحالية ويهددنا بسقوط سريع جداً ! وإن شئت فقل بانحطاط لا دواء له!!)3
وهذه رسالة نوجهها إلى دعاة التغريب وتدمير المرأة، رسالة ممن جرب حياة الاختلاط وما تجره من ويلات ونكبات، فهذا اعتراف واضح منهم بخطورة هذا الأمر الذي يدعو إليه أبناء جلدتنا من المغرورين بالحضارة الغربية، التي شارفت على الهلاك والانتحار، رسالة لم نكتبها بأيدينا نحن، بل كتبها أولئك الذين تألموا وتضايقوا من الحياة التي لم تعد إلا مجرد قطيع من البهائم والأنعام: عري وسفور، واختلاط وفجور، وغناء وخمور، أهذه حضارة تستحق البقاء، وتقود البشرية إلى بر الأمان! كما يتفوه به المنافقون من العلمانيين والزنادقة!!
يا ويح المجتمعات العربية والإسلامية من شبح الهلاك المدوي إن لم تفق من ذلك اللهو والتميع والانجرار وراء الغرب! احتل الأعداء بلدانهم وهم في غيهم ولهوهم وطربهم، كأن الأمر ما كان! ويل الذين يسوقون المجتمعات إلى الجحيم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (166-167) سورة البقرة.
ويل لدعاة الاختلاط من الحبس الرهيب، والطرد العنيف، واللعنة المؤبدة، التي لا تغفرها لهم الأجيال يوم أن تصحو وتعود إلى ربها..
أخي الكريم: لقد بين علماء الإسلام خطورة التبرج والاختلاط في أماكن العمل والتعليم، فهذا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز-رحمه الله- المفتي العام في المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء سابقاً، يبين خطر الاختلاط والتبرج وحرمته ويورد الأدلة على ذلك، يقول: ( الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجل المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً، له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.
ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختياراً أو اضطراراً -بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه- يجد تذمراً على المستوى الفردي والجماعي، والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ونجد ذلك واضحاً على لسان الكثير من الكتاب، بل في وسائل الإعلام! وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه. والأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة، قاضية بتحريم الاختلاط؛ لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه). ثم قال الشيخ: ( والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم الوسائل المؤدية إليه، قال الله -تعالى-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (33) سورة الأحزاب ، فأمر الله أمهات المؤمنين -وجميع المسلمات والمؤمنات داخلات في ذلك- بالقرار في البيوت؛ لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد، لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى التبرج، كما قد يفضي إلى شرور أخرى) ثم قال: وقال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب. فأمر الله نبيه -عليه الصلاة والسلام- وهو المبلغ عن ربه أن يقول لأزواجه وعامة نساء المؤمنين: يدنين عليهن من جلابيبهن؛ وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهن بالجلابيب، وذلك إذا أردن الخروج لحاجة؛ لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب.
فإذا كان الأمر بهذه المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال، واختلاطها معهم، وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة والتنازل عن كثير من أنوثتها لتنزل في مستواهم، وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة)4 وذكر أدلة كثيرة على حرمة التبرج والاختلاط..(/2)
وكلام العلماء والكتاب والمثقفين عن خطورة الاختلاط كثير جداً، ولكن المقصود بيان خطورة ذلك، وما يؤدي إليه الاختلاط من المفاسد العاجلة والآجلة، والتي اعترف بها أبناء الغرب أنفسهم -كما سبق أن قدمت لك- وكما قالت الكاتبة الإنجليزية اللادي كوك: (إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة.. إلى أن قالت: علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد).
ويقول سامويل سمايلس الإنجليزي: (إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه هاجم هيكل المنزل، وقوض أركان الأسرة، ومزق الروابط الاجتماعية، فإنه بسلبه الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية، مثل: ترتيب مسكنها، وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات البيتية، ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل غير منازل، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال، وطفأت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة القرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو -غالبًا- التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة) وهناك أقوال مشابهة لكل من: شوبنهور الألماني، والدكتورة ايدالين، واثنين من أعضاء الكونجرس الأمريكي، وإذا أردت المزيد من تلك الأقوال فطالع كتاب: ( المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور مصطفى السباعي- رحمه الله-.
أخي: يا من تقرأ هذا المقال: هل - بربك- نظر أحدنا إلى واقع المسلمين اليوم؟! بعض الدول لا تكاد تفرق بينها وبين دول الكفر بالنسبة للتبرج والاختلاط، وبعضها لا زالت بادئة ومبتهجة وفارحة بهذا الرقي الحضاري والانفتاح على الغرب!! ولم يعلموا أن أسيادهم في الغرب قد عافوا تلك الحياة، وكرهوا تلك المسيرة البهيمية، التي لا يرضاها عاقل، وقد قرأت شيئاً من أقوالهم في ذلك، فلماذا يُصرُّ هؤلاء على نحر المجتمعات الإسلامية تحت مسميات جوفاء؟!!
اللهم اقصم ظهورهم، واقطع دابرهم، واحفظ المسلمين من كيدهم، وطهِّر الأرض من أفكارهم الرجسية، ومخططاتهم الإبليسية، إنك على كل شيء قدير.. وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم..
________________________________________
1- رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (3246). والسلسلة الصحيحة رقم (106).
2- نقلاً عن كتيب: ( تحريم الاختلاط بالمرأة الأجنبية والاختلاط المستهتر) تأليف: محمد بن لطفي الصباغ.
3- المصدر السابق.
4- كلام الشيخ ابن باز جاء في مجلة التوعية الإسلامية في الحج، العدد 11 بتاريخ: 16/12/1398هـ.(/3)
صفات الفرقة الناجية
الحمد لله علاّم الغيوب غفّار الذنوب، يفرِّج الكروب ويهدي القلوب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، خيرتُه من خلقِه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلِحون.
عباد الله، إنَّ ربكم جلَّت عظمته وتقدَّست أسماؤه بعث صفيَّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم على فَترةٍ من الرّسُل، وأنزل عليه الكتابَ والحِكمة، ودعَا إلى ربِّه على بصيرةٍ، فعلِم الناس من القرآن، وعلِموا من السنّة، وفقهوا في دين الله تعالى، وما لحِق رسولُ الله بالرّفيق الأعلى حتى ترَك أمّتَه على المنهاجِ الواضح والصّراط المستقيم، قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون {الأنعام:153}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تركتُكم على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلا هالك".
فبيَّن الله تعالى أصولَ الإيمان وصفاتِ المؤمنين، فقال جلّ ذكره: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون {البقرة:177}. وبيَّن الرسولُ مراتبَ الدينِ في الحديث لمّا سأله جبريلُ عليه الصّلاة والسلام وهي الإسلام والإيمان والإحسان، وسنَّ عليه الصلاة والسلام السّنَن، وشرَع الأحكام، وفصَل الحلال والحرام، وبيَّن مسائل العقيدةِ أكمَلَ بيان، وحقَّق عليه الصلاة والسلام مقامَاتِ العبودية لربِّه، وكفى نبيَّنا محمّدًا شرفًا وقَدرًا ثناءُ الله تعالى عليه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم {القلم:4}.
والصّحابة رضي الله عنهم تربيةُ رسول الله ونقَلَةُ الشريعةِ والمجاهدون في سبيلِ الله، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، ووصَفهم الربُّ تبارك وتعالى بالإيمان الكامِل والسَّبق إلى الخيراتِ وفِعل الصّالحات فقال تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم {الأنفال:74}، وقال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار {التوبة:100}، وأثنى عليهم في قوله: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" {متفق عليه} .
فالسّلف الصّالح حقَّقوا الحياةَ العمليّة للإسلام، وعمِلوا بالدين في حياتهم الخاصَةِ والعامّة، وطبَّقوه التطبيقَ الكامل، وهم القدوةُ في العمل بتعاليمِ الإسلام لمن أتى بعدَهم، فكانت سيرتهم منارًا للأجيالِ بعدَهم في العِلم والعمَل، فمن اتَّبع طريقَهم اهتدى وفاز بجنّاتِ النعيم، ومن خالفهم ضلَّ وغوَى وكان من الخاسرين.
ولما كان السلف رضي الله عنهم أكملَ الناس عِلمًا وعملاً وأشدَّ الناس اقتداءً بالنبيِّ رغَّب عليه الصلاة والسلام في لزومِ ما كان عليه هو وصحابتُه، وأمر بالتمسّك بما كانوا عليه من الهدَى، وأخبر أنّ الفِرقة الناجية عند اختلافِ الأمة هي ما كان عليه الرسول وأصحابه، فقال: "افترقَتِ اليهود على إحدَى وسبعين فرقة، وافترقتِ النصارى على اثنتَين وسبعين فرقة، وستفترِق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النارِ إلا واحدة"، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي". وقوله: "كلُّها في النار" هذا من الوعيدِ المعلوم تفسيرُه عند السلف، وهذه الزيادةُ وهي قوله: "مَن كان على مِثل ما أنا عليه وأصحابي" رواها الآجري من طُرق، ومعناها لا شكَّ في صحَّته.
وقد وقع ما أخبرَ به النبيّ من الاختلاف والفُرقة، ولكنّنا كُلِّفنا بالاعتصامِ بالكتاب والسنّة ونَبذِ الخلاف والفُرقة، وأُمِرنا أن نكونَ من الفرقة الناجية التي علِمت الحقَّ وعمِلت به، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين {التوبة:119}.
وكلُّ فِرقة منَ الفرَق الإسلاميّة تزعم أنها على الحقِّ وغيرها على الباطل، ولكن ليس للدّعاوى وزنٌ عند الله ما لم يكن لها بيِّناتٌ من العِلم النافِع والعمَل الصّالح، وقد بيَّن الله تعالى في كتابِه صفاتِ هذه الفرقةِ النّاجية، وجلَّى أمرَها رسولُ الله؛ ليكونَ المسلم على بصيرةٍ من دينهِ وعلى نورٍ من ربِّه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور {النور:40}.(/1)
*فمِن صفاتِ هذه الفِرقة الناجية الاتباعُ بإحسانٍ لسلف الأمّة السابقين رضي الله عنهم، قال الله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم {التوبة:100}.
والاتباعُ هو الاقتداء بهم في توحيدِ العبادة لله تعالى بإفرادِ الدعاء لله وحدَه وإفرادِ الاستعانة والاستغاثة بالله وحدَه والاستعاذة، فلا يُدعَى مع الله غيره، ولا يُستعان بغيرِ الله، ولا يُشرَك مع الله عزّ وجلّ في أيِّ نوع من أنواع العبادة، وإثباتِ صفات الله عزّ وجلّ التي وصف بها نفسَه ووصفه بها رسوله إثباتَ معنى، لا إثباتَ كيفيّة، وتنزيهِ الربّ تبارك وتعالى عن كلِّ ما لا يليق به، فإنَّ السلف رضي الله عنهم كانت معاني صفاتِ الله تعالى أظهرَ عندهم من معاني الأحكامِ العمليّة، ولذلك لم يسألوا عن معانيها كما سألوا في الأحكامِ، والوقوفِ حيث انتهَوا إليه في أمورِ العبادة وأحكامِ الدّين.
*ومِن صفاتِ فرقةِ الحقّ الناجية الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله وردُّ التنازع والاختلافِ إلى ذلك، قال الله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا {آل عمران:103}، وقال عز وجل: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر {النساء:59}، وتأويلُ القرآن وتفسيره بالقرآنِ وبالسنة وبأقوال الصحابةِ والتابعين، فإنَّ الله تعالى ذمَّ من اتَّبع المتشابِهَ وأوَّل بالرّأي، ومدح الرّاسخين في العلم المتّبعين غيرَ المبتدعين.
*ومِن صفات فرقةِ الحقّ الناجية التمسُّكُ بما أجمع عليه السلفُ وما أجمَع عليه علماء الأمّة وعدَمُ المشاقَّة لله ولرسوله، قال الله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا {النساء:115}.
*ومِن صفات هذه الفِرقة الناجيةِ تعظيمُ قولِ رسول الله وسنّته والعنايةُ بآثارِه بحفظِها والذبِّ عنها والرضَا بتحكيمِها، قال الله تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون {النور:51}، وقال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء:65}، وروى الآجري بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنّه قال لرجلٍ يقول: لا أعمَل إلا بما في كتابِ الله تعالى: (إنّك أحمَق، أَتَجِد في كتاب الله عزّ وجلّ الظهرَ أربعًا لا يُجهَر فيها بالقراءة؟ ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزكاة ونحوهما، ثم قال: أتّجِد هذا في كتاب الله عز وجلّ مفسَّرًا؟! إنَّ كتاب الله جلّ وعلا أحكَمَ ذلك، وإنّ السنة تفسِّر ذلك)، وروَى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال في الواشمة والمستوشمة والمتنمّصة: (ما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله وهو في كتاب الله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر:7}.
*ومِن صفات فِرقة الحقّ الناجية بذلُ الجهد في معرفةِ الحقّ ودلائله وعدمُ الرضا بأقوالِ الرجال في دين الله ممّا لا يؤيِّده كتابٌ ولا سنّة ولا أصلٌ أصَّلَه علماء المسلمين، قال الله تعالى: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب {الزمر:18}، وقال تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون {الأعراف:3}.
*ومِن صفات هذه الفرقة الناجية محبّةُ المؤمنين ورَحمة المسلمين ونُصحهم وكفُّ الأذى والشرِّ عنهم، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين {المائدة:54}.
*ومِن صفات هذه الفرقةِ الناجية سلامةُ قلوبهم وألسنتِهم لسلفِ الأمّة رضي الله عنهم ومحبّتُهم، قال الله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم {الحشر:10}. وهذا بخلافِ ما عليه طوائفُ من الفِرَق الإسلامية من سبِّهم ولعنهم للصّحابة وسبِّهم لخِيار الأمة وساداتِ الأولياء رضي الله عنهم.
*ومّن صفات هذه الفرقةِ الناجية القيامُ بالدين عمَلاً به ودعوةً إليه وإقامةً للحجة على المخالفين وجهادًا في سبيله، قال الله تعالى: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم {المائدة:54}، وروى مسلم في صحيحه أنَّ النبيَّ قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذَلهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك" {رواه مسلم}.(/2)
*ومِن صفات هذه الفرقةِ الناجية النصيحةُ لله ولكتابه ولرسولِه ولأئمة المسلمِين وعامّتهم، وطاعةُ ولاة الأمر وأمرُهم بالمعروف ونهيُهم عن المنكر بالحكمة والصّواب، وطاعتُهم في المعروف وعدمُ الخروج عليهم ما لم يكن كفرٌ بواح فيه من الله برهان، بخلاف بدعةِ الخوارج الذين يستحلّون دماءَ المسلمين وأموالهم، ويرَونَ الخروجَ على الأئمّة ويستحلّون قتلَ النفوس المعصومَةِ.
ثم إنَّ أهلَ البدعِ قسمان: أئمّةٌ وأتباع، والأئمّة من أهلِ البدع منهم من انتحَلَ مذهبَه بسوءِ قصدٍ وكيد للإسلام، ومنهم من انتحَلَه بحسن نيَّةٍ، وكلٌّ هالك إلاّ أن يتوبوا ويكونوا مع المؤمِنين، قال الله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {آل عمران:7}.
أيّها المسلم، تمسّك بما كان عليه سلفُ الأمّة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ووعدَهم الجنّة، وشهد لهم بالإيمانِ الكامل، وعَضَّ على ذلك بالنواجِذ، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين، ولا تستوحِش من قلّةِ السالكين.
*ومِن صفاتِ هذه الفرقةِ الناجية الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر والدّعوة إلى دين الله بالحِكمة والموعظة الحسنة وتبليغُ الحقِّ للناس، قال الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله {آل عمران:110}، ويقول: "مَن رأى مِنكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبِلسانه، فإن لم يستطِع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان" رواه مسلم، والتّغييرُ باليدِ للسّلطان ونُوَّابه. ويقول تبارك وتعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين {يوسف:108}.
هذه صفاتُ الفرقة الناجية من الفِرق الإسلامية التي تسير على نهجِ سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان، فكونوا على نهجهِم وسبيلِهم تفوزوا بخيرَي الدنيا والآخرة.
يا معشر المسلمين، قد حذّر رسولُ الله من مخالفةِ هديِه وهدي أصحابه الأخيار، فقال عليه الصلاة والسلام: "وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالة"، قال الله تعالى: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير {هود:12}.
أيها المسلمون، لقد حذَّر الله تعالى من الفِتَن، ونهى عن الفُرقة والاختلاف، وأمر بالاجتماعِ والتعاون على الخيرِ والائتلاف، فقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون {آل عمران:103}.
وتحذيرُ القرآن والسنّةِ من الفتنِ ومِنَ الفُرقة لأنّها تذهَب بالدين أو تُضعفه أو تُنتَهَك فيها الحرُمات والأعراض أو تَذهب بالأموال وتفسِد الحياةَ الدنيا.
ومِن الفِتن في هذا الزمان القنواتُ التي تهدِم الدينَ والأخلاق وتدعو إلى الانحراف، وكذلك المواقِعُ الضارّة في شبكةِ المعلوماتِ وما أكثرَها، فإنها تدعو إلى كلِّ شرٍّ وتصدُّ عن كلِّ خَير، وتُحَسِّن محاكاةَ الأمَمِ غيرِ الإسلامية في كلّ شيء، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلَكم حذوَ القُذّة بالقذّةِ حتى لو دخَلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه" رواه البخاري ومسلم، وإخبارُه بذلك لتحذيرِ أمّته من التشبّه بالكفار.
وإنَّ من القنواتِ المفسِدة التي يجِب علَى المسلمِ الحذرُ مِنها ومُقاطعتُه لها هي وأمثالها قناةُ الإصلاح وفَقيهُها التي تبثّ السمومَ بين المسلِمين وتدعو بين وقتٍ وآخر إلى المظاهراتِ والتّخريب، كما نحذّر كلّ مسلِمٍ ممّن ينتهج هذا النّهج الذي يدعُو إلى الفوضَى والإفسادِ في الأرض، فإنّ هذه المظاهراتِ عملٌ غوغائيّ فوضويّ ممقوت، لا تجوز المشاركةُ فيها شرعًا، ولا الذهابُ إلى مكانها للمشاهَدةِ والتّسلية؛ لأنّه تكثير لسوادِ أهلها، ولأنّ فيه نوعًا من تأييدِها، ولأنها تعرّض المسلمين للخطر في الأنفسِ والأموال، قال الله تعالى: ولا تتبع سبيل المفسدين {الأعراف:142}. وإنها لا مكانَ لها في بلادنا ولله الحمد، ويجب أن لا يكونَ لها مكانٌ في بلاد المسلمين، وكلّ من ينتهج نهجَ التخريب والإفساد والعُدوان والظلم لا يمتُّ عملُه هذا إلى الإسلام بأيِّ صِلةٍ وإن سمَّى عملَه جِهادًا وإصلاحًا، فالعِبرة بالمعاني والمسَمَّيات، وليستِ العبرةُ بالأسماء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/3)
صفات المتقين
"وقفة مع أوائل سورة البقرة"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أخواني في الله نقف معكم في هذا الدرس مع قوله –تعالى-: (( ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)).
ابتدأت السورة بذكر أوصاف المتقين. وابتداء السورة بالحروف المقطعة (ألم) يجذب أنظار المعرضين عن القرآن، إذ تطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهون إلى ما يلقى إليهم من آيات، وفي هذه الحروف إعجاز للقرآن العظيم.
قوله -تعالى-: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه))، أي لا شك في أنه من عند الله، وأنه حق محض لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قوله -تعالى-: (( هدى للمتقين)) أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حرم عليهم، وأدو ما افترض عليهم.
ما هي صفات هؤلاء المتقين؟!
الصفة الأولى:الإيمان بالغيب: ((يؤمنون بالغيب)) والغيب هو كل ما غاب عن حس الإنسان ومداركه المعروفة: العين، والأذن ومن هذه الأمور: أركان الإيمان الستة، فإنها كلها غيب إلا القرآن، فإنه بين أيدينا، ولكن يجب التصديق به والعمل؛ فإننا لم نشهد تنزيله، ولكن آمنا بأنه من عند الله.
فالإيمان بالله غيب، فهو تعالى لا تدركه الأبصار، كما قال –تعالى-: (( لا تدركه الأبصار)) ولن تراه في الدنيا، وإنما يراه عباده المتقون إكراماً لهم في الآخرة في دار النعيم، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لمذهب أهل البدع الذين ينكرون ذلك. فالله تعالى لا يراه أحد في الحياة الدنيا، فكان الإيمان به دليل على صدق المؤمن وتقواه، ولهذا جاء في سورة الملك: ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) فالذين يخافون من الله وهم لم يروه دليل على حبهم له، وقوة إيمانهم ويقينهم به، فصدق أن يكون هؤلاء من المتقين الصادقين، ولهذا كان الذين لا يراقبون الله عند خلوتهم وانفرادهم بأنفسهم من أخبث الناس، وهم الذين تراهم بين الناس كالملائكة أخلاقاً وسمتاً وعبادة، فإذا اختلوا بأنفسهم، ولم يروا أحداً من البشر فعلوا كل ما ينكر عقلاً وعرفاً وشرعاً، ما جزاء هؤلاء لما راقبوا الناس ولم يراقبوا الله ؟ كما قال تعالى: ((يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذا يبيتون ما لا يرضى من القول)) ما كان جزاء هؤلاء؟ لقد كان جزاؤهم ما أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال مثل جبال تهامة بيضاً يجعلها الله هباءً منثوراً!) فقال ثوبان: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا؟ جلهم لنا ألا نكون منهم؟! فقال: (أما إنهم إخوانكم، يصومون كما تصومون، ويقومون من الليل كما تقومون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). رواه ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله-. فأي إيمان هذا؟ أن يأتي إنسان ويتظاهر بالصلاح أمام الناس، فإذا خلا بنفسه انتهك محارم الله من فواحش وغيرها، أي تقوى هذه؟ وأي إيمان هذا؟ وهل يستحق أن يدخل تحت قوله: (( المتقين الذين يؤمنون بالغيب)) فلو آمن بالله لخافه واتقاه، ولما كان الله أهون الناظرين إليه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!(/1)
إذن تبين لنا أن الإيمان بالله هو من الإيمان بالغيب، الذي جعل الله الإيمان به دليلاً على قوة الإيمان. ومن الإيمان بالله: التصديق بكتبه ورسله، والعمل بما أمرنا الله به ورسوله، ويشمل: توحيد الله في ربوبيته بأنه الخالق المالك المدبر، كما يشمل الإيمان بألوهيته التي لا يخضع لها كثير من البشر اليوم، حيث أن الله تعالى هو المعبود بحق وحده لا شريك له، وما سواه باطل. ويشمل الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته كما سمى ووصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا الإيمان والتسليم لله في الحكم والأمر فإن التشريع والأحكام التي تنظم حياة البشر هي من خصوصية الله، ولا يشاركه فيها أحد؛ فإن شاركه واعترض عليه كفر، ولهذا قال –تعالى-: (( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)) ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)) فهذا كله يلزم من الإيمان بالله، ولا يكفي الاعتراف المجرد، أو التصديق الذي لا يوافقه عمل، بل لا بد من الجمع بين: تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح... إذن، فكل من آمن بهذه الأمور التي تجب لله تعالى كان حقاً من المتقين؛ لأنه آمن بالله الذي لا يراه أحد في هذه الحياة فهو غيب من الغيوب.
ومن الغيب كذلك الملائكة: فهم جنود الله، وعباده وأولياؤه وأحباؤه، هم الذين: ((يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) وهم الذين (( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)) فلهذا كان الإيمان بهم واجب، وهذا الإيمان دليل على تقوى العبد وقوة يقينه بما أخبر عنه الله ورسوله، وقد جاء ذكر الملائكة في مواضع عدة في القرآن والسنة، قال –تعالى-: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)) وقال: ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا )) وقال: (( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون* يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) وغيرها كثير في القرآن..
وأما في السنة فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم. وقوله: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر) رواه البخاري ومسلم.. وغيرها كثير جداً، لا يمكن في هذا المقام ذكر كثير منها فضلاً عن حصرها . ومما يجب في هذا الأمر: الإيمان بهم جملة وتفصيلاً، فأما جملة فهو الإيمان بأن لله تعالى ملائكة مخلوقين من نور، قائمين بطاعته ليلاً ونهاراً، لا يفترون عن حمده وشكره وتسبيحه، ولا يعصونه ما أمرهم سبحانه وتعالى. وأما تفصيلاً فنؤمن بمن ذكر لنا اسمه في القرآن والسنة: كجبريل، وميكال، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، ولا يمكن بسط الأدلة هنا لذكر مواضع ورود هذه الأسماء وغيرها.
ومما يجب علينا في ملائكة الله: حبهم وتقديرهم والثناء عليهم كونهم إخواننا في الله تعالى، يجمعنا بهم الإيمان بالله، وحب الطاعة، وبغض المعاصي.. اللهم اجعلنا ممن يحبهم ويرضى عنهم.
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالكتب المنزلة على الرسل -عليهم السلام-، جملة وتفصيلاً، فأما جملة فهو أن نؤمن بأن الله –تعالى- أنزل على رسله كتباً لهداية البشرية، وأما تفصيلاً فالإيمان بما ذكر في القرآن الكريم والسنة المطهرة: كصحف إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن الكريم، فهذه لا بد من التصديق بأنها من عند الله، وأنها حق، ثم جرى التأويل والتحريف للتوراة والإنجيل.. إلا أن القرآن الكريم له مزية خاصة حيث تكفل الله بحفظه من التحريف: (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) والإيمان بكونه ناسخاً لما سبقه من الكتب. والإيمان بالقرآن يتضمن تصديق كونه من عند الله، واليقين في ذلك، كما جاء في أول السورة: (( ذلك الكتاب لا ريب فيه)) وأنه لا تصلح الحياة إلا به، وبتطبيق أحكامه، والعمل بما جاء فيه.. وغير ذلك مما يتضمنه هذا الكتاب العزيز الذي ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)).(/2)
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- جملة وتفصيلاً –أيضاً- فمن حيث الجملة: نؤمن ونوقن بأن الله –تعالى- لما خلق الناس احتاجوا إلى هداية، وإرشاد، وتوجيه مستمر، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق.. والكتاب هنا اسم جنس، أي كل نبي له كتاب يدعو إليه، ويرشد الناس به. وكذا الإيمان بأن هؤلاء الرسل حق من عند الله، وهم كثير جداً على امتداد تاريخ البشرية إلى عهد نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- عن أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله أنبياً كان آدم ؟ قال : (نعم ، مكلَّم) قال : كم كان بينه وبين نوح ؟ قال: (عشرة قرون ). قال : يا رسول الله! كم كانت الرسل قال : (ثلاثمائة وخمسة عشر ) وروي بلفظ: قلت: يا نبي الله فأي الأنبياء كان أول؟ قال: (آدم عليه السلام) . قال : قلت: يا نبي الله ! أو نبي كان آدم ؟ قال : (نعم ، نبي مكلم ، خلقه الله بيده ، ثم نفخ فيه من روحه ، ثم قال له : يا آدم قبلا ). قال : قلت : يا رسول الله ! كم وفى عدد الأنبياء؟ قال : (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر، جماً غفيراً)رواه ابن حبان وصححه الألباني. وأما تفصيلاً: فمن ورد ذكرهم في القرآن الكريم أو السنة، نؤمن بهم ونصدق برسالتهم،وهم: آدم، ونوح، وإدريس، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وصالح، وهود، وذو الكفل، ويونس، وشعيب، والأسباط، واليسع، ولوط، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وإلياس، وعيسى، ومحمد -صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين- فهؤلاء من ورد ذكرهم في القرآن، وعددهم خمسة وعشرون.
ومن الإيمان بالرسل الإيمان بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وما جاء به من الحق المبين، والوحي الآمين، المنزل من رب العالمين. ولا يكفي الإيمان به دعوى الحب باللسان، أو إقامة الاحتفالات والموالد لذكره، بل إن هذه الموالد بدعة منكرة، لم يفعلها السلف الكرام، وإنما ابتدعها الخلف الطغام.. إن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمثل بطاعته في كل ما أمر به أو نهى عنه، وحبه وتوقيره، واتباع سنته، وحب أصحابه وآله الطيبين، هذا هو المقياس الحق للإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-. وهكذا فالإيمان بالرسل يعد من الإيمان بالغيب؛ لأنهم لا يرون اليوم في الحياة، فالإيمان بهم بعد انقطاع طويل عنهم يعد من الإيمان بالغيب، وحُقَّ لصاحبه أن يدخل تحت قوله –تعالى-:(المتقين).
ومن الإيمان بالغيب أيضاً: الإيمان باليوم الآخر، الذي أنكره كثير من الكفار من وثنيين وبوذيين، ومجوس ومشركين، وكل الملحدين الدهريين.. والإيمان به يتضمن: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، والإيمان بالبعث والخروج من القبور للقاء الله، و الإيمان بالعرض على الله، والإيمان بالمقام المحمود الذي أوتيه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بالجزاء والحساب، والإيمان بالصراط، والإيمان بالجنة والنار، والإيمان بحوض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يشرب منه المؤمنون، ويرد عنه المنافقون والكافرون، والإيمان بما جاء ذكره في الجنة من نعيم مقيم، وبما جاء في النار من الأغلال والحميم، كما دل على ذلك القرآن ودلت عليه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيدخل فيه كلما يتعلق باليوم الآخر مما جاء الخبر به. وهناك أمور أخرى يجب أن يؤمن بها الإنسان في يوم الدين: كرؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وذبح الموت بين الجنة والنار، وغير ذلك كثير جداً، يجب الإيمان به وهو دلالة على قوة اليقين. ومما يستلزم من الإيمان باليوم الآخر: العمل له، والاستعداد للقاء الله بالباقيات الصالحات، والحسنات النافعات، والبعد عن كل موارد الهلاك والبوار، نعوذ بالله العظيم من موارد البلاء والحرمان.
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله –تعالى-: فكل ما يحصل في الحياة قد علمه الله قبل خلقه، وكتبه عنده، فهو (عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) وعلى هذا فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما جاء في الحديث. فكل ما يحصل فهو مقدر في اللوح المحفوظ.. ولا يمكن أن يخرج عن قدر الله تعالى شيء.. كيف؟ وهو –تعالى- قد علم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. وقد جاء ذكر القدر في مواضع كثيرة من القرآن والسنة نذكر بعض الأدلة: قال تعالى: (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) وقال: (( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله )) وقال: ((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن تبرأها إن ذلك على الله يسير* لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور))
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء ) رواه مسلم.(/3)
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بما أخبر الله به من الأمور المستقبلية، التي لم تحصل بعد: كخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى -عليه السلام-، وما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أشراط الساعة الصغرى والكبرى، وغير ذلك.
بلاغة القرآن وفصاحته:
قوله –تعالى-: ( الغيب) دخل فيها كل غيب يجب الإيمان به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وما أخبر به الله ورسوله من المستقبلات التي لم تحصل. فسبحان من اختص كتابه بقوة عبارته وفصاحتها، وبلاغتها، في جمعه المعاني العظيمة بألفاظ موجزة..
ذكر أقوال العلماء والمفسرين في قوله: (يؤمنون بالغيب): عن أبي العالية في قوله –تعالى-: ((يؤمنون بالغيب)) قال: يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث، فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة وغيره، وكلام العلماء في معنى هذا، يدور حول ما ذكر سابقاً من كلام أبي العالية -رحم الله الجميع-.
الصفة الثانية: ((ويقيمون الصلاة)) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والخشوع، والإقبال عليها فيها، وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها، ووضوئها، وركوعها وسجودها.. وكلام المفسرين في هذا متقارب، والمعنى واحد، وهو أن المقصود بإقامة الصلاة أن تكون صلاة كاملة كما أراد الله.. والمفهوم السائد في هذا الزمن: أنهم فهموا من ذلك مطلق الصلاة، فكل من صلى فهو مقيم للصلاة، ولو كانت كيفما تكون.. إنه لا بد من التفريق بين القيام إلى الصلاة، وبين إقامة الصلاة.. إن إقامة الصلاة تعني: إتمام الصلاة بخشوعها، وركوعها، وسجودها والإقبال على الحي القيوم، وأما القيام إليها فمن الممكن أن يقوم كل واحد منا إلى الصلاة.. ولكن قد يكون قلبه معلق في أمور خارج الصلاة، فالجسد حاضر والروح طائر، فيخرج العبد من الصلاة ولا يدري ما قال فيها.. إلا أن هناك مسألة مهمة وهي: أن الواجب و الفريضة من حيث كون الصلاة فرضاً تكون قد رفعت عنه، أي الإيجاب و الإلزام بالصلاة، فهو بمجرد القيام بالصلاة يكون قد سقط عنه الفرض.. لكن الشيء الخطير الذي لا يتقنه إلا الحذاق، وهو كيف تكون صلاتنا كلها أو أكثرها مقبولة من حيث الأجر والثواب، ورفع الحسنات، وكيف لا تكون كذلك؟
إن الفارق بين هذا وذاك هو الخشوع والخضوع، والإقبال بالجوراح والقلب على الله –تعالى-، ولهذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: " إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته, تسعها, ثمنها, سبعها,سدسها, خمسها، ربعها, ثلثها, نصفها " رواه أحمد وحسّنه الألباني .
وإقامة الصلاة من المفاهيم التي سيء فهمها، وغلط في تطبيقها، حيث أننا أخذنا الأمر على أنه ركيعات ننقرها كنقر الغرب الدم، ثم نخرج منها ونحن عباد الله المقربون!!
فسبحان من جعل لكتابه هذه الفصاحة والبلاغة، والمعاني العظيمة التي تستخرج من ألفاظ موجزة. فمن أقام الصلاة كما ذكر علماء التفسير وغيرهم، فهو المتقي حقاً، ويصدق عليه قول الله ( المتقين) وهو المهتدي بهذا القرآن، والمنتفع به حقاً.
الصفة الثالثة: دفع الزكاة الواجبة والمستحبة: (( ومما رزقناهم ينفقون)) أي ومما أعطاهم الله من الرزق الذي سهله لهم في الأرض ينفقون ويخرجون زكاة أموالهم، التي هي ركن من أركان الإسلام.. قال قتادة: فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها. قال ابن كثير رحمه الله: (كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق لله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده، والثناء عليه، وتمجيده، والابتهال إليه، ودعائه، والتوكل عليه.. والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين، بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك: القرابات، والأهلون، والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله –تعالى-: (( ومما رزقناهم ينفقون)). أ.هـ.
لقد اتضح لنا من خلال الكلام السابق أن الزكاة تشمل الآتي:
1. زكاة الأموال إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، وهي ركن من أركان الإسلام.
2. الإنفاق على الوالدين والأهل، وهذا واجب.
3. الإنفاق على الفقراء والمساكين، من غير الأقارب الواجب الإنفاق عليهم، فهذا من المستحبات، وهذا من غير الزكاة الواجبة والمفروضة؛ لأن الإنسان في هذه الحال يدفعها بدون إلزام ولا إيجاب من الشرع، ولكن لمزيد خير وإحسان.
فالإنفاق شامل لهذه الأصناف المذكورة.
فمن أدى زكاة ماله سخية بها نفسه، راضياً بحكم الله، من غير تكلف ولا جحود، ولم يكن كارهاً لبخله وحرصه، بل كان طيب النفس فهو من (المتقين).
الصفة الرابعة: (( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)).(/4)
قال ابن عباس: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَن قبلك مِن المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم.. وهذا يدخل في عموم قوله –تعالى-: ( الغيب) لأن كتب من قبلنا وإنزالها على الرسل لم نشهده ولم نعلمه، فالإيمان بذلك من الإيمان بالغيب، وهذا التخصيص هنا يدلنا على أهمية الإيمان بالكتب، وأشرفها: القرآن الذي نسخ من قبلها؛ لأن الإيمان به يستلزم الإيمان ببقية أمور الغيب.
الصفة الخامسة: (وبالآخرة هم يوقنون) أي بالبعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان – كما ذكر ابن كثير، وسميت ( الآخرة) بذلك؛ لأنها بعد الدنيا متأخرة عنها، و اليقين معناه: التصديق الجازم الذي لا يعتريه شك، وهو ضد الريب والشك، فاليقين منتهى التصديق، ومنه عين اليقين، وحق اليقين، وعلم اليقين، فعلم اليقين: الإيمان بالشيء عن بعد، وحق اليقين: الإيمان بالشيء عن قرب منه، وتلمس لأحواله ودلالاته، وعين اليقين: هو أعلى درجات اليقين؛ لأنه يرى عين الشيء وكنهه. ولهذا جاء في الخبر الصحيح ( ليس الخبر كالمعاينة)[1]ومثاله: ما لو قيل لإنسان إن في هذه العلبة حلواء، وهو يراها من بعيد فصدق، فهذا علم اليقين، فإن قربت إليه ونظرها ازداد يقينه، وهذا هو حق اليقين، فإن ذاقها وطعم حلاوتها، فهذا هو عين اليقين.
فاليقين هنا معناه: التصديق بيوم الدين؛ لدلائل القرآن والسنة، ولسنة الله في العدل والفصل.. وهو يتفاوت بين مؤمن وآخر، فمنهم من يكون عنده علم اليقين، ومنهم من يكون عنده حق اليقين، ومنهم من يكون عنده عين اليقين، وهو أعلى الدرجات، كما جاء عن بعض الصحابة أنه قال: ( لو رأيت الجنة لما ازداد في يقيني شيئاً) وقال الآخر: ( لو كشف الحجاب لما ازداد في إيماني شيئاً ) بمعنى أن اليقين لديهم لا يعتريه أدنى شك فيما يؤمنون به, وهذا أعلى درجات الدين وهو الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه)[2] .
وقوله –تعالى-: (أولئك): إشارة إلى من تقدمت صفاتهم من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والإنفاق، والإيمان بما أنزل على الرسل، واليقين بالدار الآخرة.
(على هدى): أي على نور وبيان وبصيرة من الله، (وأولئك هم المفلحون). أي الفائزون في الدنيا والآخرة. قال ابن عباس: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.. فالفلاح هو الفوز الأبدي في الدنيا والآخرة، فإن من وفقه الله للسداد في هذه الحياة، والاستقامة على سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والموت عليها، كان من الفائزين المفلحين..
فكل هذه الصفات تجعل الإنسان مؤمناً حقاً، وهو بذاك من المتقين، الذين اتقوا عقاب الله بهذه الصفات الشريفة العالية... كل هذه الآيات تتحدث عن صفات المتقين.. وستأتي الآيات بعدها لتحدثنا عن صنف ثانٍ ممن اتصفوا بصفات خبيثة، وهم الكفار.. ثم في الآيات بعدها صفات لشر الخليقة وأخبثها، وهم المنافقون، الذين يطعنون في صف الإسلام من داخله، وقانا الله شرهم، فما أكثرهم في هذا الزمن! ولا قوة إلا بالله.
إن شاء الله في الحلقة الثانية سيكون الكلام عن صفات الكافرين والمنافقين.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
------------------
[1]- رواه أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر في المسند( 1842 )
[2] - رواه البخاري ومسلم.(/5)
صفات المنافقين
الحمد لله الكريم الرحمن، جزيل العطايا والإحسان، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه الغر الكرام، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان.
أما بعد:
إن الله -تبارك وتعالى- قد قسم الناس في بداية سورة البقرة إلى ثلاثة أصناف، المؤمنين والكافرين والمنافقين، وذكر لكل صنف صفات تميزهم.ونحن -إن شاء الله تعالى- في هذا الدرس نسلط الضوء على الصنف الثالث,وهم المنافقون, فنذكر معنى النفاق, ثم نذكر بعض صفات المنافقين.
تعريف النفاق: اختلف علماء اللغة في أصل النفاق،فقيل: إن ذلك نسبة إلى النفق, وهو
السرب في الأرض؛ لأن المنافق يستر كفره ويُغيِّبُه، فتشبه بالذي يدخل النفق يستتر فيه.
وقيل : سُمي به من نافقاء اليربوع؛ فإن اليربوع له جُحر يُقال له: النافقاء،وآخر يُقال له: القاصعاء، فإذا طُلب من القاصعاء قصع فخرج من النافقاء،كذا المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه، وقيل: نسبة إلى نافقاء اليربوع أيضاً، لكن من وجهٍ آخر وهو إظهاره غير ما يضمر، ذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا المخرج ، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه ، فخرج، فظاهر جحره تراب كالأرض، وباطنه حفر، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر1 .
ولعل النسبة إلى نافقاء اليربوع أرجح من النسبة إلى النفق؛ لأن النفق ليس فيه إظهار شيء وإبطان شيء آخر، كما هو الحال في النفاق2.
أما النفاق في الاصطلاح الشرعي فهو: إظهار القول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد3، أو هو: الذي يستر كفره, ويُظهر إيمانه، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة معروفاً كما سبق4.
وأساس النفاق الذي بُني عليه: أن المنافق لابد وأن تختلف سريرته وعلانيته،وظاهره وباطنه؛ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق،قال- تعالى-:{ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}البقرة :10، وقال: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} المنافقون :1 وأمثال هذا كثير5. إذن: أخص وأهم ما يميز المنافقين الاختلاف بين الظاهر والباطن، وبين الدعوى والحقيقة كما قال- تعالى- : {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}البقرة : 8، قال الإمام الطبري-رحمه الله-: أجمع جميعُ أهل التأويل على أنَّ هذه الآية نزلتْ في قومٍ من أهلِ النِّفاقِ، وأنَّ هذه الصفة صفتُهم6.
وقد يُطلِق بعضُ الفقهاء لفظ الزنديق على المنافق،قال شيخ الإسلام-رحمه الله-: ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظالزنديق,وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق: هل تقبل توبته ؟ والمقصود هنا: أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أأبطن ديناً من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلاً جاحداً للصانع والمعاد والأعمال الصالحة7، وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في بيان مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم :الطبقة الخامسة عشر: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، هؤلاء هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار 8.
أهمُّ صفاتُ المنافقينَ :
المنافقون لهم صفات كثيرة، وقد وصفهم الله _عز وجل_ في أكثر من موضعٍ من القرآن العظيم،وسنتعرَّض لأهم صفات المنافقين،التي تميِّزهم عن غيرهم من الناس،وسنحاول إبراز الصفات الخطيرة،التي تجعل من هذه الشريحة الخسيسة في المجتمع المسلم.. فئةً أخطر على المسلمين من العدوِّ الظاهر نفسه. فمن تلك الصفات:
1- في قلوبهم مرض: فالمنافقون لا يمتلكون الشجاعة الكافية لإعلان موقفهم الحقيقيِّ الذي يُواجهون به أهل الإيمان.. فلا هم قادرون على إعلان الإيمان الصريح الواضح،ولا هم قادرون على إعلان إنكارهم للحق،وسبب ذلك هو المرض الذي يتمكَّن من قلوبهم، فيحرفها عن طريق الإيمان: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ, فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً,وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}9 .
2- مُفسدون يزعمون الإصلاح: وهل بعد النفاق فساد وإفساد؟!.. إنهم مفسدون في الأرض،يسعون لتخريب كل بذرة خير،وكل نبتةٍ طيبة.. وبعد هذا كله، يزعمون أنهم مصلحون،يسعون إلى خير الناس،ذلك لأنَّ الموازين قد اختلَّت حين ابتعدت عن المقياس الربانيِّ الصحيح! وهؤلاء المفسدون الذين يزعمون الإصلاح كثيرون في وقتنا الحاضر..
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}10 ؛ لكنّ الله-عز وجل- فضحَ حقيقتهم بقولٍ قاطعٍ واضح،فهم-في حقيقة الأمر-المفسدون، الذين يُحاربون الإصلاح والصلاح والمصلحين: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ11 }(/1)
3- سفهاء زائفون: يتعالون على الناس، ويعدون الإيمان والإخلاص لله-عز وجل-، نوعاً من السَّفَاهةِ، لكنَّهُم في حقيقة الأمر.. هم السُّفهاء المنحرفون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ12} .
4- مخادعون متآمرون: فهم أصحاب مكرٍ سيئ، يتصفون بالخسَّة واللُّؤم والجُبن والخبث، يتلوَّنون حسب الظروف،فهم أمام المؤمنين متستِّرون بالإيمان،وأمام الكافرين وشياطين الإنس يخلعون ذلك الستار عن كاهلهم،فيظهرون على حقيقتهم الخسيسة.. وهم في كل ذلك إنما يرومون النيل من المؤمنين والإيقاع بهم، والتحريض عليهم، وإلحاق أقصى درجات الأذى بهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}13. لكنّ الله- عز وجل-، يُواجههم بتهديده الرهيب الذي يُزلزل كيانهم، فيزيدهم عمى وتخبُّطاً، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ليحشرهم إلى مصيرهم المحتوم،بعد أن يمهلهم ولا يهملهم،ليزدادوا استهتاراً وضلالاً وشططاً وعدواناً على المؤمنين،إلى أن تحين ساعتهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}14.أليسوا هم الذين ارتضوا لأنفسهم هذا المصيرَ؟!.. ألم يكن الإيمانُ في متناولهم؟!.. ألم يكن الهدى يلامس قلوبهم وأنفسهم؟!.. فليذوقوا إذن تبعات الظلام الذي ارتضوه لنفوسهم: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ }15.
5- غادرون لا عهد لهم: يعاهدون الله على فعل الخيرات،وعلى الالتزام بما يأمرهم به ربهم،لكنَّ قلوبهم خواء،وعقولهم هراء،وشياطينهم متمكّنون من رقابهم،فهم ناقضون لعهد الله- عز وجل-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ }16.
6- يتولّون الكافرين ويتنكّرون للمؤمنين: زاعمين أنَّ العزة عند الكافرين،فيسعون لها عندهم،لكنهم لن يجدوها إلا عند الله العزيز الجبَّار: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً }17.
7- يتربَّصون بالمؤمنين: طالبين الغنيمة إن فازوا وانتصروا،ومنقلبين عليهم مع الكافرين ضدهم إن كان غير ذلك: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }18
8- يفرحون لما يُصيب المؤمنين مِنْ سُوءٍ ومحنةٍ: وكذلك يحزنون لكل خيرٍ أو فرحٍ يمكن أن يحصلَ لأهلِ الإيمانِ والمجاهدين في سبيل الله-عز وجل-: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }19.
9- مُرجِفون: فليس لهم من هَمٍّ عند المحن والشدائد إلا الإرجاف،والتخويف، وتثبيط العزائم، وإرهاق الهِمَم.. إنهم السوس الذي ينخر في صفوف المؤمنين،محاولين تحقيق ما لم يستطع العدوُّ تحقيقه في الأمة،فيشقُّون الصفوف،ويُثيرون الفتنة،ويحاولون زعزعة أي تماسكٍ للمؤمنين: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }20
10- يتولّون يومَ الزَّحفِ: فعند وقوع المحنة والبلاء،وحين تحين ساعة الاستحقاق.. تراهم أول الفارِّين،وفي طليعة الخائرين الخائفين،يُولُّون الأدبار،ويتوارون عن ساحات النزال الحقيقية،بكل أصنافها وأشكالها وألوانها: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}21 .(/2)
11- يرفضون الحكم بما أنزل الله ويتحاكمون إلى الطاغوت: لأن الحكم بما أنزل الله لا يُوافق أهواءهم،ولا يُحقق مآربهم،ولا يستجيب لنزواتهم.. فهم يؤمنون بما أنزل الله _عز وجل_ باللسان والمظهر فحسب، لكنهم لا ينصاعون لحكم الله، بل يصدُّون عنه ويُحاربونه، ويتَّخذون من قوانين البشر الوضعية ديناً لهم، يأتمرون بأمرها، ويلتزمون بها؛ لأنها وحدها تتوافق مع شرورهم ومصالحهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}22.
12-الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف:{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}23.
13- التلون والتزلف والتملق: فمن أجل أن يصل المنافق إلى ما يُريد، أي لكي يُؤدي الدورَ النفاقيَّ على أتم ما يرجو, ولكونه –أصلاً- لا يستند على قاعدة عقائدية ولا يملك مؤهلات أخلاقية، لهذا يجد نفسه مُرغماً على التلون وفقاً للظروف والأحوال، كما أنه لا يجد حَرَجاً في أن يظهر بمظاهر مختلفة حسب ما يميله إليه المخطط والهدف.. كما أنه لا يمانع في أن يخضع لهذا أو يتزلف لذاك أو يركع عند قدمي زيد أو يُقبِّلُ أيادي عمرو أو يمدح من لا يستحق المدح أو ينتقص مِن شأن مَن لا غُبارَ عليه.. فهو مُكلَّفٌ بدور لابد من أدائه,وبمهمة لابد من إنجاحِها,حتى وإنْ كان ذلك على حسابِ عناصرِ الكرامةِ في نفسِهِ إنْ كانتْ له كرامةٌ.
14- تشويه الحقائق وتحريفها وبث الإشاعات:
وهي نقطة مهمة يركز عليها المنافقون،فهم يظهرون الحقائق الناصعة بمظهر مشوه، وهذا ما صنعه المنافقون في حادثة الإفك.
15- دس الأفكار المنحرفة والمفاهيم الخاطئة:
وهذه مهمة يؤكد عليها المنافقون كثيراً،فهم -وتحت غطاء الإسلام- يحولون دون تقديم الإسلام إلى الناس إلا بصورة مشوشة، ويعرضون مفاهيمه بشكل محرف.
16- إثارة روح الاختلاف والنزاعات بين العناصر الاسلامية:
إن المنافقين يسعون جاهدين إلى تقطيع الأواصر الاسلامية المتلاحمة وتفتيت القوى المتحدة، وتبديد الطاقات المؤمنة، وإثارة روح الخلافات الجانبية فيما بينها... وهذا ولا شك أسلوب لو قدر له النجاح فإنه سيؤدي إلى هزيمة نكراء تعصف بالمد الاسلامي وتفسح المجال للأعداء الداخليين والخارجيين لكي يستولوا على مقاليد الأمور.
17- إعطاء تصورات خاطئة أو مزيفة عن أعداء الاسلام المكشوفين:
لو قُدر للمنافقين أن يكونوا في مواقع مسؤولية متقدمة، أو على مقربة ممن أنيطت بهم مسؤولية إسلامية، فإنهم سيحاولون وبكل وسيلة أن يحجبوا كثيراً من الحقائق المتعلقة بالأعداء الذين يجاهرون بعداوتهم للإسلام وربما أعطوا المعلومات الخاطئة عنهم وذلك لكي لا يكون المؤمنون على بصيرة واضحة بأولئك الأعداء.
18- التجسس وخدمة العدو الخارجي:
وهذه مهمة أساسية من مهام المنافقين حيث يقدمون للعدو الخارجي ا لذي يرتبطون به كل ما يتعلق بنشاطات المسلمين وتحركاتهم والشخصيات البارزة والإمكانيات العسكرية والخطوط التنظيمية. وفي الأخير لا يستغرب المسلم أن يجعل الله عذاب قوم هذه صفاتهم هو أشد العذاب{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}24.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين,وأذل الشرك والمشركين,وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
1 - انظر في معنى النفاق لسان العرب (1/358- 359) ، المفردات (502)، النهاية (5/98)، القاموس المحيط (3/286) شرح السنة للبغوي(1/71-72) تفسير القرطبي (1/195) حاشية مختصر سنن أبي داود (7/52- 53)؛ والمنافقون في القرآن الكريم د عبد العزيز الحميدي 13 .
2 - المنافقون في القرآن الكريم ، ص 13 .
3 - انظر : عارضة الأحوذي (10/97) .
4 - انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/98 )لسان العرب (10/359)، الإيمان لابن تيمية 284.
5 - الإيمان الأوسط ، وانظر:صفة النفاق للإمام الفريابي (29) .
6 - تفسير الطبري (1/268 ).
7 - الأيمان الأوسط( 13 ).
8 - طريق الهجرتين 374 .
9 -(البقرة:10).
10 -(البقرة:11).
11 -(البقرة:12).
12 -(البقرة:13).
13 -(البقرة:14).
14 - (البقرة:16).
15 - (البقرة:17).
16 -(التوبة:75 و76 و77).
17 - (النساء:139).
18 -(النساء:141).
19 -(آل عمران:120).
20 -(الأحزاب:12).
21 -(الحشر:12).(/3)
22 -(النساء:60 و61).
23 -(التوبة: 67).
24 -(145) سورة النساء.(/4)
صفة الجنة
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده نُزلاً، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا سواها شُغلاً، وسهَّل لهم طرقها، فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذُللاً، خلقها لهم قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجدهم، وحجبها بالمكاره، وأخرجهم إلى دار الامتحان، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلاً، وأودعها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجةً للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه للإيمان منادياً، وإلى دار السلام داعياً، وللخليقة هادياً، ولكتابه تالياً، ولمرضاته ساعياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً. فصلى الله عليه وملائكتُه وأنبياؤه و رسله وعباده المؤمنون عليه، كما وحَّد الله وعبده، وعرَّفنا به ودعا إليه 1.
أما بعد:
فإن الله لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدى وهملاً، بل خلقنا ليأمرنا وينهانا، فمن امتثل أمر الله، واجتنب نهيه، فاز بجنة عرضها الأرض والسماء، ومن خالف أمره وعصى كانت الجحيم هي المأوى.
لقد بين الله لنا طريق أهل السعادة ورغبنا فيها، وطريق أهل الشقاء وحذرنا منها، وأخبر الناس فريقين لا ثالث لهما، فقال تعالى: { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } 2. وهو سبحانه يمتن ويتفضل على أوليائه بجنته، ويجازي ويعاقب أعدائه بناره .
ولا أفضل وأصدق وأجمع من وصف للجنة حتى كأننا نراهما رؤي عين، من وصف من خلقها بيده، فوصفها لنا - سبحانه وتعالى – فقال : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) مُدْهَامَّتَانِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( ) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( ) فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } سورة الرحمن : 49 – 77
وقال جل ذكره: { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} سورة الرعد :35 وقال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } سورة محمد : 15(/1)
وقال تعالى : { إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( ) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ( ) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ( ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( ) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ ( ) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ( ) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ( ) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ( ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } سورة الصافات : 40 – 49
وقال تعالى { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ( ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ( ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ( ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } سورة الطور : 22 - 25
وقال تعالى :{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ( ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( ) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( ) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( ) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ ( ) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ( ) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ( ) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ( ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ( ) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ( ) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ ( ) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( ) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ( ) وَحُورٌ عِينٌ ( ) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( ) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا ( ) إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا ( ) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ( ) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ( ) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ( ) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ( ) وَمَاء مَّسْكُوبٍ ( ) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ( ) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( ) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ( ) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ( ) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ( ) عُرُبًا أَتْرَابًا ( ) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ } سورة الواقعة : 7 _ 38
وقال : { َلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ( ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ( ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( ) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ( ) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( ) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( ) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( ) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ( ) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( ) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ( ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } سورة المطففين : 18 – 28
وقال تعالى : { وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ( ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ( ) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( ) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ( ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ( ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ( ) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } سورة الإنسان : 12 – 20
وغبرها من الآيات التي يأتي ذكرها إن شاء الله
فَحَيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّم
فقد وصف سبحانه الجنة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم – وهو المبلغ عن ربه – على سبيل الإجمال ، مبيناً أنه جل شأنه قد أعد لعباده الصالحين من النعيم ما لم تره عيونهم، وما لم تسمع عنه آذانهم، وما لم يخطر على بالهم من قبل؛ فعن أبي هريرة رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، واقرؤوا إن شئتم : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 3 .
وأخبر -سبحانه وتعالى- أنها في السماء، قال تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } 4.
وقد تعددت أسماؤها في الكتاب والسنة، فهي الجنة، وهي دار السلام، ودار الخلد، ودار المقامة، وجنة المأوى، وجنات عدن، ودار الحيوان، والفردوس، وجنات النعيم، والمقام الأمين، ومقعد صدق، وقدم صدق 5.(/2)
ووصف لنا تربتها وطينتها وحصباؤها وبنائها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا : يا رسول الله! حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: " لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران؛ من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه"6. ووصف لنا غرفها عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام " 7. ووصف لنا درجاتها؛ فعن أبي هريرة ر ي الله عنه أن النبي صلى اله عليه وسلم قال: " إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن " 8.
ووصف لنا أبوابها، وسعتها، وعَدَدَهَا؛ فقال تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ } 9. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون "10. ووصف لنا سعة تلك الأبواب؛ فعن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " توفون سبعون أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله، وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ " 11. ووصف لنا أهلها وما هم عليه من الجمال والحُسن؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخطون ولا يبصقون، أمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوَّة، ورشحهم المسك، أخلاقهم على خلق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعاً " 12. وفي رواية: " لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً " . ووصف لنا آنيتهم التي يأكلون بها، قال تعالى: { يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 13 . ووصف لنا لباس أهلها، فقال تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } 14. وقال تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } 15 وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } 16 وقال تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } 17. وعدد لنا أنهارها، ووصف لنا ماؤها، فقال تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } 18 . وقال تعالى: { لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } 19. ووصف لنا أشجارها وبساتينها وحدائقها، فقال تعالى: { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ 20 } . وقال تعالى: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا } 21. وقال تعالى: { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } 22. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله وسلم قال : " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مئة عام ما يقطعها " 23.(/3)
ووصف لنا سوقها؛ فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً " 24. ووصف لنا حورها، فقال تعالى: { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } 25. وقال تعالى: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كََأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } 26. وقال تعالى: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } 27 . وقال تعالى: { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ } 28. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَقابُ قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً ولنصيفها ( يعني الخمار) خير من الدنيا وما فيها "29. ووصف لنا خُدَّام أهلها، فقال تعالى: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا } 30.
وبين لنا أن أعظم لذة فيها على الإطلاق هي النظر إلى وجه الله الكريم، قال الله تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 31. والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما ثبت ذلك، وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى لله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثَّقل موازيننا؟ ويبيَّض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال : فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه، ولا أقرَّ لأعينهم منه " 32 . اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم..
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
________________________________________
1 - من مقدمة حادي الأرواح لابن القيم صـ (23 – 24). بتصرف.
2 - الشورى(7).
3 - السجدة(17). والحديث متفق عليه.
4 - النجم ( 13- 15).
5 - انظر حادي الأرواح لابن القيم صـ (131 – 138). مؤسسة الرسالة. توزيع مكتبة العلم – جدة لطبعة الأولى. ( 1412هـ).
6 - رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة رقم ( 1086).بلفظ : " من يدخل الجنة ينعم، لا ييأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه ".
7 - رواه أحمد والطبراني.
8 - رواه البخاري.
9 - ص(50)
10 - متفق عليه.
11 - رواه أحمد، والحديث صححه الألباني في الصحيحة رقم (1698) بلفظ: " إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة ".
12 - رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ.
13 - الزخرف(71).
14 - الكهف(31).
15 - الإنسان(21) .
16 - الحج(23).
17 - فاطر(33).
18 - محمد(15).
19 - الغاشية (10 - 16).
20 - الواقعة(28 - 33).
21 - النبأ(32 - 31).
22 - عبس(30).
23 - رواه البخاري ومسلم.
24 - رواه مسلم.
25 - الدخان(54).
26 - الرحمن (56 - 58).
27 - الرحمن(70 - 72).
28 - الواقعة(35 - 38).
29 - رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
30 - الإنسان(19).
31 - يونس(26) .
32 - رواه مسلم.(/4)
صفة الحج والعمرة
407
الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
ملخص الخطبة
بين يدي التوجه لأداء مناسك الحج- التحذير من الغلو والتقصير والتفريط ، ووجوب المحافظة على الطهارة والصلاة وسائر الواجبات- بعض أحكام صلاة المسافر وطهارته- وجوب التحلي بالأخلاق الفاضلة ، وفضل ذلك- آداب الإحرام وأحكامه ، وصفة الطواف والسعي- أعمال الحج في يوم التروية وعرفة وسائر الأيام، والسنة في ذلك، وما يفعله الحاج عند عودته.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام راجين من الله تكفير ذنوبكم والآثام والفوز بدار السلام والخلف العاجل عما أنفقتموه في هذا السبيل من الأموال.
فيا أيها المسلمون إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته إلى أمكنة فاضلة تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات لستم تريدون بذلك نزهة ولا فخرا ولا رياء، بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله وتخضعون فيها لعظمة ربكم، فأدوها أيها المسلمون كما أمرتم من غير غلو ولا تقصير ولا إهمال ولا تفريط.
وقوموا فيها بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرها من شرائع الدين إذا خرجتم مسافرين إليها فاستحضروا أنكم خارجون لعبادة من أجل الطاعات وفي سفركم التزموا القيام بالواجبات من الطهارة والجماعة للصلاة، فإن كثيرا من الناس يفرطون في الطهارة فيتيممون مع إمكان الحصول على الماء.
وإن من وجد الماء فلا يجوز له أن يتيمم، وبعض الناس يتهاون بالصلاة مع الجماعة فتجده يتشاغل عنها بأشياء يدركها بعد الصلاة، وإذا صليتم فصلوا قصرا تجعلون الصلاة الرباعية ركعتين من خروجكم من بلدكم حتى ترجعوا إليه إلا أن تصلوا خلف إمام يتم فأتموها أربعا تبعا للإمام سواء أدركتم الصلاة أو فاتكم شيء منها.
وأما الجمع فإن السنة للمسافر ألا يجمع إلا إذا جد به السير، وأما النازل في مكان فالسنة ألا يجمع.
وأما الرواتب التابعة للمكتوبات فالأولى تركها إلا سنة الفجر، وأما الوتر وبقية النوافل فإنهما يفعلان في الحضر والسفر.
وتحلوُّا بالأخلاق الفاضلة من السخاء والكرم وطلاقة الوجه والصبر على الآلام والتحمل من الناس، فإن الأمر لا يدوم، وللصبر عاقبة محمودة وحلاوة لذيذة.
وإذا وصلتم الميقات فاغتسلوا وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية ثم أحرموا بالعمرة متمتعين وسيروا إلى مكة ملبين فإذا بلغتم البيت الحرام فطوفوا سبعة أشواط طواف العمرة، واعلموا أن جميع المسجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد، لكن القرب منها أفضل إذا لم تتأذ بالزحام، فإذا كان زحام فابعد عنه، والأمر واسع ولله الحمد.
فإذا فرغتم من الطواف فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم إما قريبا منها إن تيسر وإلا فصلوا بعيداً.
المهم أن يكون المقام بينك ويبن الكعبة ثم أخرجوا لسعي العمرة وابدؤوا بالصفا فإذا أكملتم الأشواط فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس، ولا يجزئ التقصير من جانب واحد لا تغتروا بفعل الكثير من الناس.
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة فاغتسلوا وتطيبوا واحرموا بالحج من مكان نزولكم واخرجوا إلى منى وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر قصرا من غير جمع لأن نبيكم كان يقصر بمنى وفي مكة ولا يجمع.
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة فسيروا ملبين خاشعين لله إلى عرفة واجمعوا فهيا بين الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين ثم تفرغوا للدعاء والابتهال إلى الله واحرصوا أن تكونوا على طهارة واستقبلوا القبلة ولو كان الجبل خلفكم لأن المشروع استقبال القبلة وانتبهوا جيدا لحدود عرفة وعلاماتها، فإن كثيرا من الحجاج يقفون دونها.
ومن لم يقف بعرفة فلا حج له لقول النبي : ((الحج عرفة)) وكل عرفة موقف شرقيها وغربيها وجنوبيها وشماليها إلا بطن الوادي وادي عرنة لقول النبي : ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)) فإذا غربت الشمس وتحققتم غروبها فادفعوا إلى مزدلفة ملبين خاشعين والزموا السكينة ما أمكنكم كما أمركم بذلك نبيكم فلقد دفع من عرفة وقد شنق لناقته الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده الكريمة: ((أيها الناس: السكينة السكينة)).
فإذا وصلتم مزدلفة فصلوا بها المغرب والعشاء ثم بيتوا بها إلى الفجر ولم يرخص النبي لأحد في الدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا الضعفة، رخص لهم أن يدفعوا في آخر الليل فإذا صليتم فاتجهوا إلى القبلة وكبروا الله واحمدوه وادعوه حتى تسفروا جدا ثم سيروا قبل طلوع الشمس إلى منى ثم القطوا سبع حصيات واذهبوا إلى جمرة العقبة وهي الأخيرة التي تلي مكة وارموها بعد طلوع الشمس بسبع تكبرون الله مع كل حصاة خاضعين له معظمين.
واعلموا أن المقصود من الرمي تعظيم الله وإقامة ذكره ويجب أن تقع الحصاة في الحوض وليس بشرط أن يضرب العمود.(/1)
فإذا فرغتم من رمي الجمرة فاذبحوا الهدي ولا يجزئ في الهدي إلا ما يجزئ في الأضحية، ولا بأس أن توكل شخصا يذبح لك ثم احلقوا بعد الذبح رؤوسكم ويجب حلق جميع الرأس ولا يجوز حلق بعضه دون بعض، والمرأة تقتصر من أطراف رأسها بقدر أنملة.
وبعد ذلك حللتم التحلل الأول فالبسوا وقصوا أظفاركم وتطيبوا ولا تأتوا النساء ثم انزلوا قبل صلاة الظهر إلى مكة، وطوفوا للحج واسعوا ثم ارجعوا إلى منى.
وبالطواف والسعي مع الرمي والحلق حللتم التحلل الثاني وجاز لكم كل شيء حتى النساء. أيها الناس: إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك: رمي الجمرة ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف والسعي.
وهذا هو الترتيب الأكمل ولكن لو قدمتم بعضها على بعض فحلقتم قبل الذبح مثلا فلا حرج، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى فلا حرج، ولو أخرتم الذبح وذبحتم في مكة في اليوم الثالث عشر فلا حرج، لا سيما مع الحاجة والمصلحة.
وبيتوا ليلة الحادي عشر بمنى، فإذا زالت الشمس فارموا الجمرات الثلاث مبتدئين بالأولى ثم الوسطى ثم العقبة كل واحدة بسبع حصيات تكبرون مع كل حصاة ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس، ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس ولا يجوز قبل الزوال ويجوز الرمي في الليل إذا كان الزحام شديدا في النهار.
ومن كان لا يستطيع الرمي بنفسه لصغر أو كبر أو مرض فله أن يوكل من يرمي عنه ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه وعمن وكله في مقام واحد لكن يبدأ بالرمي لنفسه فإذا رميتم اليوم الثاني عشر فقد انتهى الحج، وأنتم بالخيار إن شئتم تعجلتم ونزلتم وإن شئتم فبيتوا ليلة الثالث عشر.
وارموا الجمار الثلاث بعد الزوال وهذا أفضل لأنه فعل النبي فإذا أردتم الخروج من مكة فطوفوا للوداع.
والحائض والنفساء لا وداع عليهما ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد والوقوف عنده. أيها المسلمون: هذه صفة الحج فاتقوا الله فيه ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [سورة الحج:27-29].(/2)
صفة الحج والعمرة
محمد بن صالح العثيمين
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
أخي المسلم:
يامن عزمت على حج بيت الله الحرام، وأنفقت في سبيل ذلك المال والجهد والأوقات والأيام، وتركت وراءك الأهل والأولاد والأحباب والأرحام، ونزعت عنك لباس الترف والزينة ولبست لباس الاحرام، الذي هو أشبه ما يكون بالأكفان، كل ذلك سعياً لأداء هذه الفريضة العظيمة، وطلبا لرضى الخالق سبحانه وتعالى، لأنك تعلم أن { الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } كما قال النبي { من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه } [متفق عليه] وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد، قال: { لكن أفضل الجهاد حج مبرور }. والحج المبرور هو ما وافق هدي النبي قال: { لتأخذوا عني مناسككم } [مسلم] لذا فقد أحببنا أن نذكر لك صفة الحج وفق سنة النبي . والحائض والنفساء لا تصلي، ثم يلبي الحاج، قيقول: لبيك اللهم عمره، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ولا يزال يلبي حتى يصل إلى مكه.
* وينبغي إذا قرب من مكة أن يغتسل لدخولها كما فعل النبي )، ثم يجعل البيت عن يساره ويطوف سبعة أشواط، يبتدئ بالحجر ويختتم به، ولا يستلم من البيت سوى الحجر الأسود والركن اليماني، لأن النبي وقد قال النبي إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ في ذلك الموقف العظيم: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ). وليحرص كذلك على الأذكار والأدعيه النبوية فإنها من أجمع الأدعية وانفعها فيقول: ( اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك ربي مآبي، ولك ربي تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ).
( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً، اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق المقر، المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذلّ لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم ).
* فإذا غربت الشمس من يوم عرفه، انصرف إلى مزدلفة، فصلّى بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، ثم يبقى هناك حتى يصلي الفجر، ثم يدعو الله عز وجل إلى أن يسفر جداً، ثم يدفع بعد ذلك إلى منى، ويجوز للإنسان الذي يشق عليه مزاحمة الناس أن ينصرف من مزدلفة قبل الفجر، لأن النبي كان يُسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير، فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخر يومئذ إلا قال: { افعل ولا حرج } [متفق عليه].
فإذا نزل من مزدلفه إلى مكة، وطاف وسعى، ثم رجع إلى منى ورمى فلا حرج، ولو رمى ثم حلق قبل أن ينحر، فلا حرج، ولو رمى، ثم نزل إلى مكة وطاف وسعى فلا حرج، ولو رمى ونحر وحلق، ثم نزل إلى مكة وسعى قبل أن يطوف فلا حرج. المهم أن تقديم هذه الأنساك الخمسة بعضها على بعض لا بأس به، لأن رسول الله وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .
* وفي ليلة الثاني عشر، يرمي الجمرات الثلاث كذلك، فإذا أتم الحاج رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تعجّل ونزل من منى، وإن شاء تإخّر، فبات بها ليلة الثالث عشر، ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال كما سبق، والتأخر أفضل، ولا يجب إلا بعد أن تغرب الشمس من اليوم الثاني عشر وهو بمنى، فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال. لكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير إختياره، فإنه لا يلزمه التأخر، لأن تأخره إلى الغروب كان بغير اختياره.
* ولا يجوز للإنسان أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر قبل الزوال،لأن النبي لأمته، إما بفعله، أو قوله، أو إقراره..(/1)
* ولكن يمكنه إذا كان يشق عليه الزحام، أو المضي إلى الجمرات في وسط النهار، أن يؤخر الرمي إلى الليل، فإن الليل وقت للرمي، إذ لا دليل على أن الرمي لا يصح ليلاً، فالنبي وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ لم يأذن لضعفة أهله أن يوكلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم بالذهاب من مزدلفة في آخر الليل، ليرموا بأنفسهم قبل زحمة الناس، ولكن عند الضرورة لا بأس بالتوكيل، كما لو كان الحاج مريضاً أو كبيراً لا يمكنه الوصول إلى الجمرات، أو كانت امرأة حاملاً تخشى على نفسها أو ولدها، ففي هذه الحال يجوز التوكيل.
* فيجب علينا أن نععظم شعائر الله، وألا نتهاون بها، وأن نفعل ما يمكننا فعلهبأنفسنا لأنه عبادة، كما قال النبي : { لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت } [مسلم]، إلا إذا كانت المرأة حائضاً أو نفساء، وقد طافت طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يسقط عنها، لحديث ابن عباس: { أمر الناس أن يكونآخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفف عن الحائض } [متفق عليه]، ولأن النبي FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" لما قيل له: إن صفية قد طافت طواف الإفاضة قال: { فلتنفر إذن } [متفق عليه] وكانت حائضاً.
* ويجب أن يكون هذا الطواف آخر شيء، وبه نعرف أن مايفعله بعض الناس، حين ينزلون إلى مكة، فيطوفون طواف الوداع، ثم يرجعون إلى منى، فيرمون الجمرات، ويسافرون من هناك، فهذا خطأ، ولا يجزئهم طواف الوداع، لأن هؤلاء لم يجعلوا آخر عهدهم بالبيت، وإنما جعلوا آخر عهدهم بالجمرات.
خلاصة أعمال العمرة
(1) الإغتسال كما يغتسل للجنابة والتطيب.
(2) لبس ثياب الإحرام، إزار ورداء للرجل وللمرأة ما شائت من الثياب المباحة.
(3) التلبية والإستمرار فيها إلى الطواف.
(4) الطواف بالبيت سبعة أشواط ابتداءً من الحجر الأسود وانتهاءً به.
(5) صلاة ركعتين خلف المقام.
(6) السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط ابتداءً بالصفا وانتهاءً بالمروة.
(7) الحلق أو التقصير للرجال، والتقصير للنساء.
مجمل أعمال الحج
عمل اليوم الأول وهو يوم الثامن:
1- يحرم بالحج من مكانه فيغتسل ويتطيب زيلبس ثياب الإحرام ويقول: ( لبيك اللهم حجاً لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ).
2- يتوجه إلى منى فيبقى فيها إلى طلوع الشمس في اليوم التاسع،ويصلي فيها الظهر من اليوم الثامن، والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها، ويقصر الرباعية.
عمل اليوم الثاني وهو اليوم التاسع:
1- يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفه، ويصلي الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم، وينزل قبل الزوال بنمرة إن تيسر له.
2- يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء مستقبل القبلة رافعاً يديه ويبقى بعرفه إلى غروب الشمس.
3- يتوجه بعد غروب الشمس إلى مزدلفة فيصلي فيها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، ويبيت فيها حتى يطلع الفجر.
4- يصلي الفجر بعد طلوع الفجر، ثم يتفرغ للذكر والدعاء حتى يسفر جداً.
5- يتوجه قبل طلوع الشمس إلى منى.
عمل اليوم الثالث وهو يوم العيد:
1- إذا وصل إلى منى، ذهب إلى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات متعاقبات، واحدة بعد الأخرى، يكبر مع كل حصاة.
2- يذبح هديه إن كان عليه هدي.
3- يحلق رأسه أو يقصره، ويتحلل بذلك التحلل الأول، فيلبس ثيابه ويتطيب، وتحل له جميع محظورات الإحرام سةى النساء.
4- ينزل إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، وهو طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، إن كان متمتعاً، وكذلك إن كان غير متمتع ولم يكن سعى مع طواف القدوم.
وبهذا يحل التحلل الثاني، ويحل له جميع محظورات الإحرام حتى النساء.
5- يرجع إلى منى فيبيت فيها ليلة الحادي عشر.
عمل اليوم الرابع وهو الحادي عشر:
1- يرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة،يرميهن بعد الزوال ولا يجوز قبلهز ويلاحظ الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى.
2- يبيت في منى ليلة الثاني عشر.
عمل اليوم الخانس وهو الثاني عشر:
1- يرمي الجمرات الثلاث كما رماهن في اليوم الرابع.
2- ينفر من منى قبل غروب الشمس إن أراد التعجل، أو يبيت فيها إن أراد التأخر.
عمل اليوم السادس وهو الثالث عشر:
هذا اليوم خاص بمن تأخر ويعمل فيه:
1- يرمي الجمرات الثلاث كما سبق في اليومين قبله.
2- ينفلا من منى بعد ذلك.
وآخر الأعمال طواف الوداع عند سفره، والله أعلم.
أنواع النسك
الأنساك ثلاثة: تمتع، إفراد، قران.
فالتمتع: أن يُحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة طاف وسعى للعمرة وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أفعاله.
والإفراد: أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة طاف للقدوم وسعى للحج ولا يحلق ولا يقصر ولا يحل من إحرامه،بل يبقى محرماً حتى يحل من بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، وإن أخر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.(/2)
والقران: أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً،أو يحرم بالعمرةأولاً ثم يدخل الحج عليهما قبل الشروع في طوافها. وعمل القارن كعمل المفرد سواء، إلا أن القارن عليه هدي، والمفرد لاهدي عليه.
مصادر الرسالة:
1- فقه العبادات.
2- مناسك الحج والعمرة.
3- المنهج لمريد الحج والعمرة.
4- صفة الحج والعمرة.
5- اللقاء الشهري رقم (10)
وكلها من مؤلفات فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=151 ...(/3)
صفحة صدق
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) أما بعد عباد الله:
اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لا يخطأ، وميزان لا يظلم، يكشف عن ما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، ينتفي معه الزيف والرياء، وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصريح لا يبقى معه غبش ولا خلل، إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن عن نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة، فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تبين الغبش من الصفاء والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.
عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية.
( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران الآية154).
بالمحن تستيقظ الضمائر وترق القلوب وتتوجه إلى بارئها تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه، معلنة تمام العبودية والتسليم الكامل له لا حول ولا قوة إلا به.
لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا معقب لحكمه لا إله إلا هو.
باق فلا يفنى ولا يبيد ........ ولا يكون غير ما يريد
منفرد بالخلق والإرادة ...... وحاكم جل بما أراده
سبحانه وبحمده.
عباد الله:
وصور المحن والمنح في السيرة جليلة وكثيرة، وجديرة بالتملي والتأمل.
والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرةَ المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وصحبِه حديثٌ تُحبُه وتُجلُه النفوسُ المؤمنةُ، تأنسُ به قلوبُ بالإيمانِ هانئةٌ مطمئنةٌ، حُبه في شغافِ القلوبِ والأفئدةِ، وتوقيرُه قد أُشربت به الأنفُسَ بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).
فهلمَ هلم عباد اللهِ لنتصفحَ ونتفحص صفحةَ صدقٍ بيضاء نقيةٍ لنرى من خلالِها المحنةَ بكلِ صورِها، وبالصدقِ تُتخطى، لنعلمَ عبرَها وعِضاتَها فقد مُلئت عبراً وعبرات، وفكراً ونظرات، دموعاً حرى وحسرات، هجرُ الأقربينَ فيها شديدُ المضاضهِ ومع ذلك بارزٌ وظاهر، وتزلفُ المناوئين والمنافقين فيها مشرئب زاخر، صفحةٌ ملئت بأحداثٍ تذرفُ منها الدموع، وتخشعُ لها القلوب، صفحةٌ جسدت الصدق والإخلاصَ والقدوة بالصبرِ على الضراء والشكرِ على السراء تطبيقاً عملياً ماثلا.
إنها صفحةٌ بُدئت باستنفارِ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم يطفئوا نورَ الله بأفواههم واللهُ متمُ نورِه ولو كره الكافرون.
إنه استنفارٌ وأي استنفار في أيامٍ قائظة وظروفٍ قاسيةٍ، في جهدٍ مضنيٍ ونفقاتٍ باهظةٍ، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحانِ ليسطرَ في آياتِ في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب، أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداث تتنوع وتثير.
يجيء المعذرون ليُؤذنَ لهم، ويقعدَ الذين كذبوا اللهَ ورسولَه، ويتولى الذين لم يجدوا ما يُحملونَ عليه بفيضِ دموعِهم حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون.
ويرجفُ المرجفون ( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: الآية81).
والساقط في الفتنة يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي وفِي الْفِتْنَةِ وقع، فر من الموت وفي الموت وقع.
وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم،فمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
ومنهم رجالٌ تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاقٍ لكن غلبتُهم أنفسُهم، وأدركَهم ضعفَهم البشري مع سلامةِ إيمانهم ومعتقدِهم رضي اللهُ عنهم وأرضاهم.
على رأسِ هؤلاء صحابيٌ جليل، مجاهد نحرير لن يبلغَ آلفُ رجلٍ منا بالقولِ ما بلغَه مرةً واحدةً بالفعل، لكنَه بشرٌ تبقى له بشريتُه غيرُ معصوم.
لنقفَ مع صفحةٍ من صفحاتِ حياتِه، صفحة تتضمنُ قصةَ الخطيئةِ ، وحقيقةَ التوبةِ أهيَ قولٌ باللسانِ أم هيَ الندمُ الدافعُ لعملِ الجوارحِ والأركان والتأثرُ البالغُ في النفسِ والجنان.(/1)
صفحتنا مثبتة في الصحيحين، راويها صاحب المعاناة فيها، فأسمع إليه عبد الله تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن سوف كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك:
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي راحلتان قبلها قط، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزاة، في حر شديد واستقبل سفرا بعيد ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثير لا يكاد يجمعهم كتاب فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله.
وغزا رسول الله (صلى اللله عليه وسلم) والمسلمون معه، يقول فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضي شيً، فأقولُ في نفسي أنا قادرٌ عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معهم ولم أقضي من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقضي شيئا.
قال فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتفارط الغزو وفات، وهممت أن ارتحل فادركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، ويأخذ ذلك من كعب مآخذه، وتبلغ الحاسبة ذروتها ولسان حاله:
ندمت ندامة لو أن نفسي...... تطاوعني إذا لقطعت خمسي
عباد الله :
إن كعباً رضي اللهُ عنه يعيشُ كل يومٍ مع سوفَ وهذه والله ليست مشكلةُ كعبٍ فحسب، إنها مشكلةٌ كبيرةٌ في أمة الإسلام، مشكلةٌ التسويف، استطاع الشيطانُ أن يلج إلينا من هذا البابِ الواسع ونحنُ لا نشعرُ، حالَ بينَنا وبين كثيرِ من الأعمالِ قد عزمنا على فعلها ، فقلنا سوف نعملها ثم لم نعمل:
كم من مذنبٍ قال سوف أتوب وداهمَه الموتُ وما تاب.
كم من باغٍ للخيرِ عازم عليه وأدركَه الموتُ ولم يستطع ذلك حال بينَه وبين الخيرِ سوفَ.
كم من عازمٍ على الخيرِ سوّفَه.
كم ساع إلى فضيلة سوف ثبطته وقيدته.
فالحزم الحزمَ بتداركِ الوقت وترك التسويف فإن سوف جنديٌ من جنودِ إبليس.
فأطرح سوف وحتى ........ فهما داء دخيل
يقولُ كعب:
فكنتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحزنني أن لا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصا علي النفاق، أو رجلا ممن عذره الله من الضعفاء واللذين لا يجدون ما ينفقون.
ولم يذكرني رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) حتى بلغَ تبوك فقال وهو جالسُ بين أصحابِه:
ما فعلَ كعب ؟
فقال رجلُ من بني سلَمة: يا رسول الله حبسَه برداه ونظره في عطفيه ( أي إعجابه بنفسه).
فقال معاذُ وقد استنكرَ الأمرَ وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكتَ (صلى الله عليه وسلم).
أيها المسلمون:
إن معاذً رضي اللهُ عنه لم يسَعَه السكوت وهو يرى من ينالُ من عرضِ أخيه المسلم فبادرَ بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكتَ كما يفعلُ البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، من رد عن عرض أخيه رد الله عن عرضه وعن وجهه النار يوم القيامة). ويهو يعلم أيضا أن الساكت كالراضي، والراضي كالفاعل فلينتبه.
يقول كعب:
فلما بلغني أنه توجَه قافلا (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) حضرني همي – حضره بثه وحزنه- قال فطفقت أتذكر الكذب وأقولُ: بماذا أخرج من سخط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غدا.
واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلم قيل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أظل قادما، زاح عني الباطلَ وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيءٍ في كذب فأجمعتُ صدقَه ويا له من رأي.
وقدم (صلى الله عليه وسلم) ثم جلسَ للناسِ، وجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له فقبلَ منهم علانَيتهم ووكل سرائرَهم إلى الله وهذا هو منهجنا.
وجئته فلما سلمت عليه تبسمَ تبسم المُغضب ثم قال تعال، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال:
ما خلفَك يا كعب، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
فقلتُ يا رسولَ الله:
والله لو جلستُ عند غيرِك من أهلِ الدنيا لرأيتُ أني سأخرجُ من سخطِه بعذر، واللهِ لقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله لقد علمتُ أني لإن حدثتُك اليومَ حديثِ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكَن اللهَ أن يسخطَك علي، ولأن حدثتُك حديث صدقٍ تجد علي فيه إني لأرجُ فيه عفو الله، واللهِ يا رسولَ الله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفتُ عنك.
فقال (صلى الله عليه وسلم) أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضيَ الله فيك.
صدقٌ، وضوح، صراحة لا التواء ولا مراوغة، علم كعبُ أن نجاتَه في الدنيا والآخرةِ إنما هي في الصدق، وقد هدي ووفق للصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب فقمتُ وثار رجال من بني سلمة فأتبعوني وقالوا لي:(/2)
واللهِ ما علمناك يا كعبُ قد أذنب ذنبا مثل هذا، أو قد عجزت أن لا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ الله بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) لك.
يقولُ فواللهِ ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجعَ فأكذبَ نفسي.
عباد الله:
ما أشد خطر صديق السوء، كاد يهلك سعد بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق، وهم يدفعون به إلى واد سحيق من الهلاك هلك به جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة كثيرا ما تتكرر في مجالسنا، يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غر لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم.
أرأيت لهؤلاء عندما وصفوا الأمر لكعب بأنها أول كذبة ولا ضير منها، وسيعقبها استغفار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر فلينتبه.
فمن العداوة ما ينالك نفعه........ ومن الصداقة ما يضر ويألم
وأعلنت المقاطعة لهذا وصحبه، بل التربية النبوية العميقة.
يقول كعب:
ونهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسلمين عن كلامنا من بين كل من تخلف عنه، قال فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرضُ فما هي بالأرضِ التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلةً، وكنتُ أشد القوم وأجلَدَهم فكنتُ أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد،، وآتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في مجلسِه بعد الصلاة فأسلمَ عليه فأقولَ في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا.
ثم أصلي قريباً منه فاسارقَه النظر فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت إليه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيتُ حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو أبنُ عمي وأحبُ الناسَ إلي، قال فسلمت عليه، فواللهِ ما ردَ علي السلام.
فقلتُ له نشدتُك الله هل تعلمني أحبُ اللهَ ورسولَه ؟ فسكت.
فنشدتهُ فسكت، فأعدتُ عليه فنشدته فقال اللهُ ورسولُه أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار أهيمُ على وجهي.
وأنظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكاملة، وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه، حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم إن الرقابة لله، حتى ولو كان ابن عمه، نعم إن المراقبة لله.
إن أضر شيئا على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدورا رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعو وازدراء عاما لكان دافعا إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر إلى ذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، في الأسواق، في المساجد، مع الأصدقاء، بل حتى مع بني العمومة، بل حتى مع الزوجة، فلم تترك منفذا يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحقيق الغاية التربوية منها.
كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتُألف وذلك عين الحكمة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي تقضي باللين في مكانه، والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم، وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
عبد الله:
وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء، إن هناك صفا يعمل داخل الصف الإسلامي دائما، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر، وأن لا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين.
يقولُ كعبٌ: فبينا أنا أمشي في سوقِ المدينة إذ نبطي من أنباط أهلِ الشامِ يقول: من يدل على كعب؟
فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع لي كتابا مِن مَن؟
من ملك غسان، فإذا فيه أما بعد:
فإنه قد بلغني أن صاحبك ( يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) قد جفاك، ولم يجعلُك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعة فألحق بنا نواسك.
فلما قرأتها قلت أيضا هذا من البلاء، هذا من الامتحان فيممت بها التنور وسجرته بها (احرقها).
عباد الله:
هذا هو ديدن أعداء الله، يتحسسون الأنباء، ويترصدون الفرص والأخطار، وكم من الأقدام في مثل هذا زلت وانزلقت، إن المسلم قد يخطأ ولكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر، قد يخطأ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية يوم تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرة بعد الكرة، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل، في المكاتب، وفي غيرها، يوم تترك بعد العلم بضررها فإنها مدعاة لأن يضعف أمامها يوما ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها.(/3)
ولا يزال البلاء والتمحيص بكعب، حتى أمر باعتزال زوجته فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
يقولُ كعب:
وكملت لنا خمسون ليلةً وأنا على ظهرِ بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكرها الله في ما بعد قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرضُ بما رحبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعبَ أبشر بخيرِ يومٍ مر عليكَ منذُ ولدتكَ أمك.
قال فخررتُ ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفتُ أن قد جاء الفرج.
نعم جاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد.
وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بصدقه، فقال بعد ذلك: واله ما أنعم الله علي من نعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وتأتي البشرى وأي بشرى بحسن العقبى، يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، وعلى مثلها تكون التهاني، لمثلها تكون البشائر والجوائز.
يقول كعب فلما جاءني الذي بشرني، نزعت له ثوبيَ فكسوته إياهما، والله ما أملك غيريهما، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودخلتُ عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حولَه جلوس فقام إلي طلحةُ فرحا مغتبطا يهرولُ حتى صافحني وهنأني، وللهِ ما قام إلي رجلٍ من المهاجرينَ غيرَه و ولله ما أنساها لطلحةَ رضي الله عنه.
الله أكبر ما أعظمَه من تعاملٍ لصحابةِ مع أخيهم، بالأمسِ القريب لا يتحدثونَ معه، ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون في من يصلَ إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.
إنه حبُ الخيرِ لأخيهم كما يحبونَه لأنفسِهم ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامرَ الشارع.
قال كعب:
فسلمت على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال وهو يبرق سرورا وجهُه كأنه فلقة قمر:
أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك.
فقلت أمن عندك يا رسولَ الله أم من عندِ الله؟
فقال بل من عندِ الله، فحمد الله وأثناء عليه.
( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (التوبة:118) وفاز الصادقونَ بصدقهم، وحبطَ عملُ الكاذبين واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين، وظهر الاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البداية.
هؤلاء هم رجلُ الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسةِ النبوة:
صدقُ في الإيمان.
قوةُ في اليقين.
صدقٌ في الحديث.
صدقٌ في المواقفِ.
صبرُ عند اللقاء.
اعترافٌ بالخطيئةِ.
كلمةُ الحق في الرضاء والغضبِ من غيرِ تنميقِ عباراتٍ أو تلفيقِِ اعتذارات.
( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119) عباد الله:
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وعودوا معي والعود أحمد إلى كعب ابن مالك صاحب القصة رضي الله عنه وأرضاه.
فإن الأمر لم يقف عند بشارتِه بالتوبة وتهنئته بالقبول، إنما جلسَ كعبُ بين يدي رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) معلناً التأكيدِ لهذه التوبةِ والتمسكَ بها، قائماً مقام الذاكرين الشاكرين التائبين المخبتين، قائلاً يا رسولَ الله:
إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً إلى لله ورسولِه.
فقال عليه الصلاة والسلام، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
ثم يعلنُ أخرى رضي الله عنه التمسك بالصدق سلوكا ثابتا في مستقبل حياته إذ بالصدق نجى فيقول يا رسول الله:
إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدثّ إلا صدقاً ما بقيت.
حاله كحال الآخر يوم يقول: والله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
يقول كعبُ فواللهِ ما علمتُ أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدقِ الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أحسن مما أبلاني الله به.
ولله ما تعمدتُ كذبةً منذ قلت ذلك لرسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) إلى يومِ هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله في ما بقيت، ولله ما أنعمَ الله علي نعمةٍ قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم). لما يا كعب ؟
قال أن لا أكونَ كذبتُه فأهلك مع اللذين كذبوا، فإن قال فيهم شرَ ما قال لأحد يوم قال سبحانه:(/4)
( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:95-96) عباد الله:
اعلموا أن الصدقَ فضيلةً وطمأنينة وصفةً من صفاتِ المؤمنين، فعليكم به وليكن قدوتَكم كعباً وصحبَه ومن اقتدى به، فليسَ بينَك وبينَهم حاجب.
إذا أعجبتك خصال امرئ ....... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات.... إذا جئتها حاجب يحجبك
تحروا الصدق وإن رأيتم الهلكَة فيه، فإن النجاة فيه.
وإياكم والكذب وإن رأيتم النجاة فيه فإن الهلَكة وعظيم الفتنة به.
وكم تركت الفتن من قلب مقلب وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح فكثر الهاجي وقل المادح.
وما النفسُ إلا حيث يجعلُها الفتى........ فكنِ الحرَ وقُدها بزمام
وأصدُق حديثَك إن المرءَ يتبعهُ.......... ما كان يبني إذا ما نعشُه حملا
اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين الصابرين الشاكرين.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/5)
صلاة التراويح
الحمدُ لله ربِّ العالمين،والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين،محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فمما شرعه نبيُّ الهُدَى والرَّحمةِ محمَّد بن عبد الله-صلى الله عليه وسلم-لأُمَّته في شهر رمضان المباركِ صلاة التراويح،وهي من الأعمالِ الصَّالحةِ التي يُتقرَّبُ إلى الله-عَزَّ وجَلَّ- بها؛لأنها شرعها النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-.
تَعْرِيْفُ التَّراويحِ:
التَّراويحُ جمع ترويحةٍ، وهيَ المرَّة الواحدة من الرَّاحةِ،تفْعِيلة منها مِثْل تَسْليمة من السَّلَام(1)، سُمِّيتْ بذلكَ؛لأنَّهم أول ما اجتمعُوا عليها كانُوا يستريحون بين كُلِّ تسليمتين،كما قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ-رحمه الله-(2)،فهي الصلاة التي تُصلَّى جماعة في ليالي رمضان،وتُعرَفُ كذلكَ بقيامِ رمضانَ.
حكمُها:
سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ(3).
دَلِيْلُ مشروعيَّتِهَا:
عن عائشة-رضي الله عنها-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد،وصلى رجال بصلاته،فأصبح الناس فتحدثوا،فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة،فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فصلوا بصلاته،فلمَّا كانت الليلةُ الرَّابعةُ عَجَزَ المسجدُ عن أهلِهِ حتى خرج لصلاة الصبح،فلمَّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد,ثم قال:(أمَّا بعد فإنه لم يخف عليَّ مكانكم،ولكني خشيتُ أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)، فتُوفي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-والأمر على ذلك(4).
ولما مات رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-وأُمن فرضها, أحيا هذه السُّنَّةَ عمرُ-رضي الله عنه-،فقد خرَّج البُخاريُّ في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري,أنه قال:(خرجت مع عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-ليلةً في رمضان إلى المسجد,فإذا الناس أوزاعٌ مُتفرِّقُون،يُصلِّي الرجلُ لنفسِهِ،ويُصلِّي الرجلُ فيصلي بصلاتِهِ الرَّهطُ،فقال عمرُ: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحدٍ لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أُخرى،والناس يصلون بصلاة قارئهم،قال عمر: نعم البدعة هذه،والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون-يريد آخر الليل- وكان الناسُ يقومون أوله)(5).
ومراد عمر بالبدعة هنا البدعة اللغوية، وإلا فهي سنةٌ سنَّها الرسولُ-صلى الله عليه وسلم- وأحياها عمر-رضي الله عنه-، فهي ليستْ بدعة أتى بها عمرُ من عنده,وليس لها أصل في الدين،بل هي سنة فعلها النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-،وإنما تركها خشيةَ أن تُفرضَ على الأمَّةِ،كما هُو مُصرَّحٌ به في الحديث المتقدِّم.وفعلها الصحابةُ من بعده،وتلقَّتها الأُمَّةُ بالقَبولِ(6).
فضلها:
كان النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم- يحثُّ أصحابَهُ على قيام رمضان،ولكن لم يفرضْهُ عليهم فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-,قال:(كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يُرغِّبُ في قيام رمضان مِنْ غير أنْ يأمرهم بعزيمةٍ)(7)، وعنه -رضي الله عنه- أنه قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)(8).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)(9).
وقتها:
من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وفعلها في آخر الليل أفضل من فعلها في أوله لمن تيسر له، واتفقوا عليه، لقول عمر -رضي الله عنه-: (والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون)(10).
ولكن إذا كان المسلمون يصلونها في أول الليل فصلاة الرجل معهم جماعة أفضل من صلاته منفرداً.
عدد ركعاتها:
أفضل القيام في رمضان وغيره إحدى عشرة ركعة،وهو ما واظب عليه -صلى الله عليه وسلم-،كما صح عن عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت: كيف كانت صلاته -صلى الله عليه وسلم- في رمضان؟ فقالت:(ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً)(11).
وإن زاد,فالأمرُ في ذلكَ واسِعٌ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (له أن يصلي عشرين ركعة،كما هو مشهور من مذهب أحمد والشافعي،وله أن يصلي ستاً وثلاثين، كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة، وكلٌ حسن، فيكون تكثير الركعات أو تقليها بحسب طول القيام وقصره)(12).
ما يقرأ فيها:
لم تُحدَّ القراءة فيها بحدٍّ، وكان السلفُ الصالحُ يُطيلون فيها,واستحبَّ أهلُ العلم أن يختمَ القرآن في قيام رمضان ليسمع الناس كل القرآن في شهر القرآن، وكره البعض الزيادة على ذلك,إلا إذا تواطأ جماعة على ذلك فلا بأس به.
فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن الأعرج,أنه قال : سمعتُ أبي يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالسحور مخافة الفجر(13).(/1)
وروى مالك أيضاً عن السائب بن يزيد,قال: أمر عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أبي بن كعب وتميماً الداري أنْ يقوما للناس,وكان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام،وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر(14).
وروى البيهقي(15) بإسناده عن أبي عثمان الهندي قال: دعا عمر بن الخطاب بثلاثة قراء فاستقرأهم, فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس ثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمساً وعشرين آية، وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية(16).
وقال ابن قدامة: قال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولاسيما في الليالي القصار(17)، والأمر على ما يحتمله الناس. وقال القاضي -أبو يعلى-: (لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر؛ ليسمع الناس جميع القرآن ولا يزيد على ختمة،كراهية المشقة على من خلفه والتقدير بحال الناس أولى،فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل، كما روى أبو ذر قال: قمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح -يعني السحور- وقد كان السلف يطيلون الصلاة حتى قال بعضهم: كانوا إذا انصرفوا يستعجلون خدمهم بالطعام مخافة طلوع الفجر)(18).
وقال ابن عبد البر:(والقراءة في قيام شهر رمضان بعشر من الآيات الطوال،ويزيد في الآيات القصار،ويقرأ السور على نسق المصحف)(19).
فعلها جماعة في المسجد:
يجوز أن يصلي المسلم صلاة التراويح في جماعة,كما يجوز له أن يصليها على انفراد، ولكن صلاته مع جماعة المسلمين في المسجد أفضل, وهذا قول جمهور العلماء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالمسلمين ثلاث مرات, ثم تركها خشية أن تُفرضَ عليهم، ثم جمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المصلين الذين كانوا يُصلونها أوزاعاً في المسجد على إمام واحد، وتابعه الصحابة على ذلك ومن بعدهم،وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)(20).
الوتر بعد التراويح:
ويُوتر بعد أن يكمل صلاة التراويح، فإن كان له تهجد جعل الوتر بعده استحباباً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)(21)، ولكن الأفضل له أن يصلي مع الإمام الوتر, فإذا سلم الإمام قام فشفع ركعة الوتر بأخرى، ثم إذا تهجد أوتر، فينال فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، وفضيلة جعل وتره آخر صلاته.
ومن أوتر مع الإمام أو منفرداً، ثم أراد الصلاة تطوعاً بعد الوتر فيصلي مثنى مثنى, ولا يوتر لأنه: (لا وتران في ليلة) كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-(22).
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ويعيننا عليها،ويكتب لنا الخير أينما كنا، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل، ويجعلنا من الراشدين،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،والحمد لله رب العالمين.
000000000000000
1 - النهاية لابن الأثير (2/274).
2 - فتح الباري (4/250).
3 - راجع: الملخص الفقهي (1/167)، والفقه الإسلامي (1/72).
4 - رواه البخاري في صحيحه.
5 - صحيح البخاري.
6 - راجع: الملخص الفقهي (1/168)، والفقه الإسلامي (1/73).
7 - متفق عليه.
8 - متفق عليه.
9 - رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2417)، وإرواء الغليل رقم (447) وصحيح سنن الترمذي رقم (646)، وصحيح سنن النسائي رقم (1514).
10 - صحيح البخاري.
11 - متفق عليه.
12 - انظر: "الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية" لشيخ الإسلام (صـ 97) بتصرف. ط دار العاصمة.
13 - الموطأ (1/116).
14 - الموطأ (1/115).
15 - في السنن الكبرى (2/497).
16 - انظر: المجموع (4/33-34).
17 - مثل ليالي الصيف.
18 - المغني (1/457).
19 - الكافي لابن عبد البر (صـ 74).
20 - رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2417)، وإرواء الغليل رقم (447) وصحيح سنن الترمذي رقم (646)، وصحيح سنن النسائي رقم (1514).
21 - متفق عليه.
22 - رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7567) وصحيح أبي داود رقم (1267)، وصحيح سنن الترمذي رقم (391).(/2)
صلاة الجماعة في القطار والطائرة والسيارة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
من المسائل التي ينبغي التنبه لها في الصلاة والتي هي من المسائل الحادثة في عصرنا: مسألة من أدركه وقت الصلاة وهو راكب على سيارة أو قطار أو طائرة، ولم يكن هناك مجال لتأخير الصلاة إلى حين وقوف السيارة التي يأبى صاحبها الوقوف لأداء الصلاة، أو الطائرة التي تصل المطار بعد خروج الوقت، أو القطار الذي لا يقف إلا بعد خروج وقت الصلاة كذلك.
فما الحكم في كل ما سبق؟ هل يؤخر الإنسان الصلاة فيصليها خارج وقتها على الأرض، أم أنه يصليها على أي حال قدر عليه حفاظاً على الوقت؟ وهل تجب عليه الجماعة إن تمكن من إقامتها مع من معه؟.
من المعلوم أن السيارة يمكن النزول منها والصلاة على الأرض، ولكن قد يحصل من بعض السائقين الذين لا يقيمون أحكام الإسلام رفض الوقوف لأداء الصلاة، فإذا كانت الحال هكذا وخشي المصلي من فوات وقت الصلاة صلاها على حسب حاله ولا يؤخرها عن وقتها. ومن المعلوم أيضاً أن السيارات الموجودة حالياً لا تتسع لصلاة واحد قائماً بقيام وركوع وسجود فضلاً عن أكثر من واحد، لكن إذا أمكن لجماعة أن يصلوها وهم جلوس على المقاعد جماعة حسن ذلك، والله أعلم.
أما القطار فإنه لا يقف إلا عند أماكن معينة، فقد يمر بالإنسان وقت من أوقات الصلاة، فالواجب عليه الصلاة في القطار ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، والوقوف ممكن في القطارات ذات الصناعة الحديثة، مع بعض الصعوبة، فإذا كان القطار يمر في فضاء من الأرض خال من العمران والمزارع والجبال فإن مساره في الغالب يكون مستقيماً، ومن ثم فإن الإنسان قد يتجه على القبلة ويؤدي صلاته والاتجاه لم يتغير.
وإذا كان الطريق متعرجاً فعليه أن ينحرف إلى القبلة إن استطاع ذلك، وإذا استطاع المجموعة أن يؤدوها جماعة فذلك حسن، وإن لم يقدر الفرد أو الجماعة على القيام صلوا جلوساً.
وأما الطائرة فمن المعلوم أنها لا تقف إلا في المطار المعد لهبوطها، فإن كانت المسافات بعيدة فقد يمر بالإنسان وقت أو أكثر وهو على متنها، فيصلي فيها ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، فإن أمكن القيام فيها بلا مشقة صلى قائماً متجهاً إلى القبلة، وذلك أن الطائرة تسير مسافة طويلة بخط مستقيم، ثم تتحول إلى مسار آخر، وتسير مسافة طويلة أيضاً، فيمكنه التوجه إلى القبلة والصلاة بين المقاعد أو عند الأبواب، بقيام وركوع وسجود ويتعين ذلك إن أمكن؛ فإن استطاع من في الطائرة الصلاة جماعة في مكان فارغ تعينت الجماعة، وإن كان المكان لا يسع إلا البعض صلوا جماعة حسب المكان، ثم تأتي جماعة أخرى وتصلي بعدهم، وهكذا إلى أن ينتهوا.. فإن لم يمكن للمصلي الصلاة بين المقاعد أو عند الأبواب صلى على حسب حاله ولو على المقعد، ويستقبل القبلة إن أمكنه ذلك، وإن لم يمكنه صلى على اتجاهه خشية فوات الوقت، وهذا كله من باب قوله -تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة:286)، وقوله -سبحانه-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن:16). ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمران بن حصين -رضي الله عنه-: (صلِّ قائماًً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).1
مع الأدلة التي تأمر بأداء الصلاة في وقتها وحرمة إخراجها عن وقتها مهما كان العذر، فإن الله -عز وجل- لم يعذر المقاتل في سبيله الذي يخوض معارك الموت، بل يؤديها كيفما استطاع، فما ذكرناه من الحالات السابقة أخف من ذلك بكثير.. والله الموفق.
ومن فتاوى العلماء التي بينت هذا الحكم فتوى فضيلة الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله- حيث سئل هذا السؤال:
كيف يؤدي المسلم الصلاة في الطائرة؟ وهل الأفضل له الصلاة في الطائرة أول الوقت، أو الانتظار حتى يصل المطار إذا كان سيصل في آخر الوقت؟
فأجاب: الواجب على المسلم في الطائرة إذا حضرت الصلاة أن يصليها حسب الطاقة: فإن استطاع أن يصليها قائماً ويركع ويسجد فعل ذلك، وإن لم يستطع صلى جالساً وأومأ بالركوع والسجود، فإن وجد مكاناً في الطائرة يستطيع فيه القيام والسجود في الأرض بدلاً من الإيماء وجب عليه ذلك؛ لقول الله –سبحانه-: (فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمران بن حصين -رضي الله عنهما- وكان مريضاً: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري في الصحيح، ورواه النسائي بإسناد صحيح وزاد: (فإن لم تستطع فمستلقياً).
والأفضل له أن يصلي في أول الوقت، فإن أخرها إلى آخر الوقت ليصليها في الأرض فلا بأس، لعموم الأدلة. وحكم السيارة والقطار والسفينة حكم الطائرة. والله ولي التوفيق. انتهت الفتوى.
نسأل الله أن ييسر الأمور، وأن يتقبل الأعمال، إنه على كل شيء قدير.
---------------(/1)
1- رواه البخاري. وانظر كتاب أحكام الإمامة والإتمام.. للمنيف ص398 وما بعدها.(/2)
صلاة الجماعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من أعظم شعائر الإسلام صلاة الجماعة في المساجد، فقد شرع الله لهذه الأمة الاجتماع في بيوته في أوقات معلومة لأداء هذه الشعيرة، فالمسلمون يجتمعون في اليوم والليلة خمس مرات لأداء هذه الصلاة، وقد اتفق المسلمون على أن أداء الصلوات الخمس في المساجد من أوكد الطاعات وأعظم القربات، بل هي من أعظم وأظهر شعائر الإسلام(1).
مشروعية صلاة الجماعة:
الجماعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله-تعالى-: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ..}النساء: 102 الآية، أمر الله بالجماعة في حالة الخوف أثناء الجهاد، ففي الأمن أولى، ولو لم تكن مطلوبة لرخَّص فيها حالة الخوف،ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها.
وأمَّا السُّنَّةُ: فقوله-صلى الله عليه وسلم-:(صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ،بسبع وعشرين درجة)(2).
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة على مشروعيتها بعد الهجرة(3).
فضلها:
وردت أحاديث كثيرة تدل على فضيلة الصلاة في جماعة,ومن تلك الأحاديث ما يلي:
- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه.
- وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-,قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)(4).
- وعن بُريدة الأسلميِّ,عن النبيِّ-صلى الله عليه وسلم-,قال:(بشِّر المشَّائين في الظُّلم إلى المساجدِ بالنُّورِ التام يومَ القيامةِ)(5).
حِكْمتُها:
من حِكَمِ صلاة الجماعة أنها تحقق التآلف والتعارف بين المسلمين، وتغرس أصول المحبة والود في قلوبهم، وتشعرهم بأنهم إخوة متساوون متضامنون في السراء والضراء، دون فارق بينهم في الدرجة أو الرتبة أو الحرفة أو الثروة والجاه، أو الغنى والفقر(6).
وفيها تعليم للجاهل، ومضاعفة الأجر، والنشاط على العمل الصالح عندما يشاهد المسلم إخوانه المسلمين يزاولون الأعمال الصالحة، فيقتدي بهم(7).
حكم صلاة الجماعة:
ذهب الحنفية والمالكية إلى أن: الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة، للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعد والمريض والشيخ الهرم ومقطوع اليد والرجل من خلاف. وكونها سنة، لأن ظاهر الحديث السابق: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) يدل على أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة.
وذهب الشافعية إلى أن: الجماعة فرض كفاية، للرجال أحرار مقيمين، لا عراة، في أداء مكتوبة، بحيث يظهر الشعار أي شعار الجماعة بإقامتها، في كل بلد صغير أو كبير. فإن امتنعوا كلُّهم من إقامتها قوتلوا(أي قاتلهم الإمام أو نائبه دون آحاد الناس)، ولا يتأكد الندب للنساء تأكده للرجال في الأصح.
وذهب الحنابلة إلى أن: الجماعة واجبة وجوبَ عينٍ؛لقوله-تعالى-:{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة...} وقوله: {واركعوا مع الراكعين} وقوله-صلى الله عليه وسلم- قال:(والذي نفسي بيدهن لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم)(8). وحديث الأعمى المشهور، فعن أبي هريرة قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل أعمى,فقال: يا رسول الله,إنه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجدِ فسأل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أنْ يُرخِّصَ له,فيُصلِّي في بيته فرخَّص له،فلمَّا ولَّى دعاه،فقال:(هل تسمع النداء بالصلاة؟),فقال:نعم،قال: (فأجب)(9).
أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة:
تنعقد الجماعة باثنين،قال الشوكاني -رحمه الله-: (وأما انعقاد الجماعة باثنين، فليس في ذلك خلاف،وقد ثبت في الصحيح(10) من حديث ابن عباس: أنه صلى في الليل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده وقعد عن يساره فأداره إلى يمينه)(11).
كثرة الثواب كلما كثرت الجماعة:
فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه-,قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده،وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل،وما كثر فهو أحب إلى الله-تعالى-)(12).
حضور النساء إلى المساجد،وفضل صلاتهن في بيوتهن:(/1)
يجوز للنساء الخروج إلى المساجد وشهود الجماعة، بشرط أن يتجنبن ما يثير الشهوة ويدعو إلى الفتنة من الزينة والطيب، فعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم)(13)، وعنه -رضي الله عنه- قال قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن)(14).
وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت النبي-صلى الله عليه وسلم-,فقالت: يا رسول الله, إني أحب الصلاة معك، قال:(قد علمت أنك تحبين الصلاة معي،وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك،وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك،وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك،وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي)،قال: فأمرت فبُني لها مسجدٌ في أقصى شيء من بيتِها وأظلمه،وكانت تُصلِّي فيه حتى لقيت الله-جلَّ وعَلَا-(15).
وقد كره العلماءُ الحضورَ إلى المساجدِ للشابة خوفاً من الفتنة(16).
إدراك الإمام:
من أدرك الإمام كبر تكبيرة الإحرام قائماً ودخل معه على الحالة التي هو عليها، ولا يعتد بركعة حتى يدرك ركوعها سواء أدرك الركوع بتمامه مع الإمام أو انحنى فوصلت يداه إلى ركبتيه قبل رفع الإمام؛فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-,قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-,قال:(من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)(17)،وعنه -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة)(18).
المشي للجماعة:
يستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها، وعليه السكينة والوقار؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-:(إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا)(19).
تكرار الجماعة في المسجد:
ذهب الحنفية إلى أنه: يكره تكرار الجماعة بأذان وإقامة في المسجد، إلا إذا كان مسجد طريق، أو مسجداً لا إمام له ولا مؤذن، ويصلي الناس فيه فوجاً فوجاً.
أما مسجد الشارع، فالناس فيه سواء، لا اختصاص له بفريق دون فريق. وعلى هذا لا يكره تكرار الجماعة في مساجد الطرق: وهي ما ليس لها إمام وجماعة معينون.
وذهب المالكية إلى أنه: يُكره تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة الإمام الراتب. والقاعدة عندهم: أنه متى أقيمت الصلاة مع الإمام الراتب، فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضاً أو نفلاً، لا جماعة ولا فرادى.ومن صلى جماعة مع الإمام الراتب،وجب عليه الخروج من المسجد،لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام. وإذا دخل جماعة مسجداً، فوجدوا الإمام الراتب قد صلى، ندب لهم الخروج ليصلوا جماعة خارج المسجد،إلا المساجد الثلاثة(المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى)،فيصلون فيها فرادى، إن دخلوها، لأن الصلاة المنفردة فيها أفضل من جماعة غيرها.
وذهب الشافعية إلى أنه: يكره إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن الإمام الراتب، ولا يكره تكرار الجماعة في المسجد المطروق في ممر الناس، أو في السوق، أو فيما ليس له إمام راتب، أو له وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت، لأنه لا يحمل التكرار على المكيدة.
وذهب الحنابلة إلى أنه: يحرم إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، لأنه بمنزل صاحب البيت، وهو أحق بها، ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه، وكذلك يحرم إقامة جماعة أخرى أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين. وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب، لأنه مع الإذن يكون المأذون نائباً عن الراتب، ولا تحرم ولا تكره أيضاً إذا تأخر الإمام الراتب لعذر، أو ظُن عدم حضوره، أو ظن حضوره ولم يكن يكره أن يصلي غيره في حال غيبته. ولا يكره تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب إلا في مسجدي مكة والمدينة فقط، فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما، رغبة في توفير الجماعة، أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى، وذلك إلا لعذر كنوم ونحوه عن الجماعة، فلا يكره لمن فاتته إعادتها بالمسجدين(20).
أعذار ترك الجماعة:
يعذر المرء بترك الجماعة، فلا تجب عليه للأسباب الآتية:
- المرض الذي يشق معه الحضور كمشقة المطر، وإن لم يبلغ حداً يسقط القيام في الفرض، بخلاف المرض الخفيف كصداع يسير وحمَّى خفيفة فليس بعذر. ومثله تمريض من لا متعهد له ولو غير قريب ونحوه؛ لأن دفع الضرر عن الآدمي من المهمات.
فلا تجب الجماعة على مريض ومقعد وزَمِن ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط، ومفلوج وشيخ كبير عاجز.
- أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو عرضه أو مرضاً يشق معه الذهاب.(/2)
فلا تجب الجماعة بسبب خوف ظالم، وحبس مُعسِر، أو ملازمة غريم معسر، وعُرْي، وخوف عقوبة يرجى تركها كتعزير لله- تعالى-، أو لآدمي، وقَوَد (قصاص) وحد قذف مما يقبل العفو إن تغيب أياماً، وخوف زيادة المرض أو تباطئه.
ولا تجب الجماعة بسبب الخوف عن الانقطاع عن الرفقة في السفر ولو سفر نزهة.
- المطر، والوَحَل (الطين) والبرد الشديد، والحر ظهراً، والريح الشديدة في الليل لا في النهار، والظلمة الشديدة؛ بدليل ما روى نافع أن ابن عمر-رضي الله عنه-, أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: ألا صلوا في رحالكم ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) متفق عليه، والثلج والجليد كالمطر.
- مدافعة الأخبثين (البول أو الغائط) أو أحدهما؛ لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة وخشوعها.
- حضور طعام تتوقه نفسه، أو جوع وعطش شديدان لخبر أنس في الصحيحين: (لا تعجلن حتى تفرغ منه).
- أكل منتن نيء إن لم يمكنه إزالته، ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً ونحوه، حتى يذهب ريحه، لتأذي الملائكة بريحه، ولحديث: (من أكل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته) متفق عليه. ومثله جزار له رائحة منتنة، ونحوه من كل ذي رائحة منتنة؛ لأن العلة الأذى. وكذا من به برص أو جذام يتأذَّى به قياساً على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى.
- الحبس في مكان، لقوله- تعالى-: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} البقرة: 286(21).
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته،ويعيننا عليها،وصلى الله وسلم على نبينا محمد،والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - راجع: الملخص الفقهي (1/191).
2 - متفق عليه.
3 - راجع: الفقه الأسلامي (2/147).
4 - رواه البخاري.
5 - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (525)، وصحيح ابن ماجه، رقم (633).
6 - الفقه الإسلامي (2/149).
7 - الملخص الفقهي (1/192).
8 - متفق عليه.
9 - رواه مسلم.
10 - متفق عليه.
11 - الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/233).
12 - رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (518)، وصحيح الجامع (2242).
13 - رواه مسلم.
14 - رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/92)، والحالكم وصححه، وأبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (530).
15 - رواه ابن حبان وابن خزيمه في صحيحهما، وأحمد، قال الألباني: "حسن لغيره" انظر صحيح الترغيب والترهيب (340).
16 - راجع: الفقه الإسلامي (2/153-155).
17 - متفق عليه.
18 - رواه أبو داود، وابن خزيمة، والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (792).
19 - رواه البخاري ومسلم نحوه.
20 - راجع: الفقه الإسلامي (2/163-165).
21 - راجع: الفقه الإسلامي (2/169-171).(/3)
صلاة الخوف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين،والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الصلاة مكانتها عظيمة،ومن عظمتها أنها لا تترك أبداً،حتى في أشد أوقات الخوف،لا يجوز تركها، لما لها من مكانة عظيمة، حتى والمسلمون في قتالهم للعدو وجهادهم له وهذا واجب عليهم لم يُسقط عنهم فرضية الصلاة، على الرغم من أنهم يؤدون واجباً آخر وعبادة أخرى,لكن هذه الفريضة لا تُسقط عنهم،بل عليهم أن يؤدوها،والله لا يوجب علينا شيئاً إلا ولنا فيه خير عظيم،ولا يكلفنا بما لا طاقة لنا به،فهو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا.
مشروعية صلاة الخوف:
تشرع صلاة الخوف في كل قتال مباح؛ كقتال الكفار والبغاة والمحاربين؛ لقوله-تعالى-: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء: 101، وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله، ولا تجوز صلاة الخوف في قتال محرَّم(1).
والدليل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقال-تعالى-: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} النساء: 102.
وأما السنة: فقد ثبت وصح أنه-صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف في أربعة مواضع: في غزوة ذات الرقاع،وبطن نخل(2), وعُسْفان(3)، وذي قرَد(4)، وقد صلاها مرات كثيرة،ووردت أحاديث في صفة صلاتها,سيأتي ذكرها في كيفية صلاة الخوف.
وأجمع الصحابة على فعلها،وصلاها علي وأبو موسى الأشعري وحذيفة(5).
شروط صلاة الخوف:
1- أن يكون العدو يحل قتاله،سواء أكان واجباً كقتال الحربيين، والبغاة، والمحاربين (قطاع الطرق) القاصدين سفك الدماء وهتك الحرمات، لقوله- تعالى-: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}،أم جائز كقتال من أراد أخذ مال المسلمين.
2- أن يخاف هجوم العدو أو السبع حال الصلاة؛ أو خوف الغرق أو الحرق، وسواء أكان الخوف على النفس أم المال فيجوز صلاة الخوف عند الجمهور(6).
صفة صلاة الخوف:
قال الإمام أحمد: "ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "أُصولُها ست صفات,وأبلغها بعضهم أكثر،وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهاً فصارت سبعة عشر،لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي-صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من اختلاف الرواة"، قال الحافظ: "وهذا هو المعتمد"(7).
الصفة الأولى: ما ورد في حديث سهل ابن أبي حثمة الأنصاري-رضي الله عنه-, وقد اختار الإمام أحمد العمل بها; لأنها أشبه بالصفة المذكورة في القرآن الكريم, وفيها احتياط للصلاة واحتياط للحرب, وفيها نكاية بالعدو, وقد فعل- عليه الصلاة والسلام- هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع,وصفتها كما رواها سهل هي: أن طائفة صفت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وطائفة وجاه العدو, فصلى بالتي معه ركعة, ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم, ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو, وجاءت الطائفة الأخرى, فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته, ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم, ثم سلم بهم" متفق عليه.
الصفة الثانية: ما روى جابر-رضي الله عنه-,قال:(شهدت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-صلاة الخوف,فصففنا صفين-والعدو بيننا وبين القبلة-, فكبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فكبرنا, ثم ركع وركعنا جميعاً, ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً, ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه, وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو, فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود, وقام الصف الذي يليه; انحدر الصف المؤخَّر بالسجود, وقاموا, ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم, ثم ركع وركعنا جميعاً, ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً, ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وكان مؤخراً في الركعة الأولى,وقام الصف المؤخر في نحر العدو, فلما قضى -صلى الله عليه وسلم- السجود, وقام الصف الذي يليه; انحدر الصف المؤخَّر بالسجود, فسجدوا, ثم سلم -صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعاً) رواه مسلم.
الصفة الثالثة: ما رواه ابن عمر,قال:(صلى النبي صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والأخرى مواجهة العدو, ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو,وجاء أولئك, فصلى بهم ركعة, ثم سلم, ثم قضى هؤلاء ركعة, وهؤلاء ركعة) متفق عليه.(/1)
الصفة الرابعة: أن يصلي بكل طائفة صلاة,ويسلم بها, رواه أحمد وأبو داود والنسائي(8).
الصفة الخامسة: ما رواه جابر;قال:(أقبلنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حتى إذا كنا بذات الرقاع،قال: فنودي للصلاة,فصلى بطائفة ركعتين,ثم تأخروا,فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين،قال:فكانت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-أربع وللقوم ركعتان) متفق عليه.
الصفة السادسة: أنها قامت مع النبي-صلى الله عليه وسلم-طائفة،وطائفة أخرى مقابل العدو،وظهورهم إلى القبلة؛فكبَّر فكبروا جميعاً الذين معه والذين مقابل العدو،ثم ركع ركعة واحدة ركعت الطائفة التي معه،ثم سجد فسجدت التي تليه,والآخرون قيام مقابل العدو،ثم قام وقامت الطائفة التي معه,فذهبوا إلى العدو وقابلوهم,وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو،فركعوا وسجدوا،ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة آخرى، فركعوا معه؛ وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد ومن معه ثم كان السلام، فسلم وسلموا جميعاً، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان؛ وللقوم لكل طائفة ركعتان. رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
كيفية صلاة المغرب:
قال الشوكاني -رحمه الله-: (وأما صلاة المغرب فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر, ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة أو العكس؟ ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-،وقد روي أن علياً-عليه السلام-صلاها ليلة الهرير(9) واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال،والظاهر أن الكل جائز؛وإن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات،وللقوم ثلاث ركعات؛فهو صواب قياساً على فعله في غيرها، وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض)(10).
الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف:
قال ابن قدامة -رحمه الله-: (وإذا كان الخوف شديداً وهم في حال المسايفة صلوا رجالاً وركباناً إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها،أما إذا اشتد الخوف والتحم القتال فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالاً وركباناً، إلى القبلة إن أمكنهم وإلى غيرها إن لم يمكنهم، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة،ويجعلون السجود أخفض من الركوع،ويتقدمون ويتأخرون ويضربون، ويطعنون،ويكرون ويفرون،ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهذا قول أكثر أهل العلم)(11).
وقد أخرج البخاري عن ابن عمر- في تفسير سورة البقرة- بلفظ:(فإنْ كان خوفٌ أشدُّ من ذلكَ,صلُّوا رجالاً قياماً على أقدامهم,أو ركباناً مُستقبلي القبلة,وغير مستقبليها)، قال مالك: قال نافعٌ:(لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-)(12).
وروى ابن ماجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم- وصف صلاة الخوف,وقال:(فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالاً ورُكباناً)(13).
وعن عبد الله بن أنيس,قال:(بعثني رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-إلى خالد بن سفيان الهذلي,وكان نحو عرنة وعرفات,فقال: اذهب فاقتله، قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر؛ فقلت: إني لأخاف أن يكون بينى وبينه ما يؤخر الصلاة،فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه)(14). قال الشوكاني -رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: (ومن البعيد أن لا يخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ ولو أنكره لذكر ذلك)(15).
نسأل الله أن يعيننا على كل خير،وأن يجنبنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن،وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا،ومن فوقنا ومن تحتنا،وصلى الله وسلم على نبينا محمد,وعلى آله وصحبه أجمعين،والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - راجع: الملخص الفقهي (صـ 171)، منار السبيل (1/139).
2 - اسم موضع في نجد بأرض غطفان.
3 - يبعد عن مكة نحو مرحلتين.
4 - ماء على بريد من المدينة، وتعرف بغزوة الغابة.
5 - الفقه الإسلامي (2/432).
6 - راجع الملخص الفقهي (صـ 172)، والفقه الإسلامي (2/433- 434)، ومنار السبيل (1/140).
7 - فتح الباري (2/431)، ونيل الأوطار (4/3).
8 - صححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1112).
9 - هي من الليالي التي كانت فيها معركة شرسة بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- جميعاً وكانت في صفين.
10 - الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/273-274).
11 - المغني (2/139).
12 - صحيح البخاري.
13 - قال الحافظ ابن حجر: "إسناده جيد" الفتح (2/501).
14 - رواه أحمد وأبو داود، وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده حسن" فتح الباري (2/507).
15 - الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/274).(/2)
صلاة الضحى
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،محمد بن عبد الله الصادق الأمين،وعلى آله وصحبه أجمعين،والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فقد شرع الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأمته نوافل يتقربون بها إلى الله-عز وجل-، تزداد بها محبة الله لهم، كما قال –عز وجل- (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)(1)، فالمسلم ينبغي عليه أن يحافظ على هذه النوافل ولا يتركها، أو يتكاسل عن أدائها. ومن هذه النوافل صلاة الضحى.
فضل صلاة الضحى:
وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما يلي:
1- عن أبي ذر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)(2).
2- وعن بريدة-رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-,قال:(في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل عليه أن يتصدق عن كل مفضل منها صدقة)، قالوا: فمن الذي يُطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: (النخاعة في المسجد يدفنها، أو الشيء ينحيه عن الطريق،فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنك)(3). قال الشوكاني:(والحديثان يدلان على عِظَمِ فضل الضُّحى وكبر موقعها وتأكد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق المواظبة والمداومة،ويدلان –أيضاً- على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل،والأمر المعروف،والنهي عن المنكر،ودفن النخاعة، وتنحية ما يُؤذي المارَّ عن الطَّريقِ وسائر أنواع الطاعات ليسقط بذلك ما على الإنسان من الصَّدقاتِ اللَّازمةِ في كُلِّ يومٍ)(4).
3- وعن النَّواس بن سَمْعان-رضي الله عنه-أنَّ النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم-,قال: (قال الله -عز وجل-:ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره)(5).
4- وعن عبد الله بن عمرو,قال: بعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-سرية، فغنموا وأسرعوا الرجعة،فتحدث الناس بقرب مغزاهم،وكثرة غنيمتهم,فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى،وأكثر غنيمة،وأوشك رجعة؟من توضأ,ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى,فهو أقرب مغزى،وأكثر غنيمة،وأوشك رجعة)(6).
5- وعن أبي هُريرة-رضي الله عنه-,قال:(أوصاني خليلي-صلى الله عليه وسلم- بثلاث:بصيام ثلاثة أيام في كل شهر،وركعتي الضحى،وأن أوتر قبل أن أنام)(7).
حكم صلاة الضحى:
دلَّتِ الأحاديثُ المذكورة على استحبابِ صلاةِ الضُّحى،وأنَّ مَنْ شاء ثوابها فليؤدها،وإذا تركها فليس عليه تثريب،وإنما حرم نفسه من الثواب المترتب عليها،فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: (كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يُصلِّيها)(8).
وقت صلاة الضحى:
وقت صلاة الضحى يبتدئ من ارتفاع الشمس بعد طلوعها قدر رمح، ويمتد إلى قبيل الزوال؛أي وقت قيام الشمس في كبد السماء، والأفضل أن يصلي إذا اشتد الحر، فعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل قباء وهم يصلون الضحى،فقال:(صلاة الأوَّابين(9) إذا رمضت(10) الفصال(11) من الضحى)(12)، أي: حين تحمى الرمضاء؛ فتبرك الفصال من شدة الحر(13).
عدد ركعاتها:
أقل صلاة الضحى ركعتان؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: (أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: بصيام ثلاثة أيام في كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)(14).
وأكثرها ثماني ركعات؛ لما روت أم هانئ: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح صلى ثماني ركعات سبحة الضحى يسلم بين كل ركعتين)(15)، ولمسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان النبي يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله)(16).
نسأل الله أن يتقبل أعمالنا، ويوفقنا لكل خير، ويجنبنا كل شر،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - رواه البخاري.
2 - رواه أحمد ومسلم، وأبو داود.
3 - رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (666).
4 - نيل الأوطار (3/78).
5 - رواه أحمد والترمذي والنسائي، الحاكم والطبراني، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1146).
6 - رواه أحمد والطبراني، وقال الألباني: (إسناده صحيح على شرط مسلم) تمام المنة (257).
7 - متفق عليه.
8 - رواه الترمذي، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (72).
9 - الأوابين: الراجعين إلى الله.
10 - رمضت: احترقت، والرمضاء: التراب الحار.
11 - الفصال: جمع فصيل: وهو ولد الناقة.
12 - رواه أحمد، ومسلم.
13 - راجع: الملخص الفقهي (1/128)، وفقه السنة (1/156).
14 - متفق عليه.
15 - رواه الجماعة.
16 - رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه.(/1)
صلاة العيد في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن من الأحكام المهمة مما يتعلق بالصلاة، مابين أيدينا وهو موضوع (صلاة العيد في المصلى) وقد اختلف فيه الفقهاء قديماً وحديثاً، وسنورد أقوال الجميع -إن شاء الله-، في الأسطر التالية:
نقول وبالله التوفيق: اختلفت أراء الفقهاء في ذلك، فقال ابن قدامة: السنة أن يصلى العيد في المصلى، أمر بذلك علي -رضي الله عنه-، واستحسنه الأوزاعي، وأصحاب الرأي، وهو قول ابن المنذر، وحكي عن الشافعي: إن كان مسجد البلد واسعاً فالصلاة فيه أولى! لأنه خير البقاع وأطهرها، ولذلك يصلي أهل مكة في المسجد الحرام.
قال ابن قدامة-رحمه الله-: ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل؛ ولأننا قد أمرنا بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، والمنهي عنه هو الكامل، ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى العيد في مسجده إلا من عذر؛ ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه.
وقد روينا عن علي -رضي الله عنه- أنه قيل له: قد اجتمع في المسجد ضعفاء الناس، وعميانهم فلو صليت بهم في المسجد، فقال: أخالف السنة إذاً ! ولكن نخرج إلى المصلى، وأستخلف من يصلي بهم في المسجد أربعاً.
فإن كان هناك عذر يمنع الخروج من مطر أو خوف أو غيره صلوا في الجامع كما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة العيد في المسجد)1.
وقد ذكر الشيخ الألباني الأدلة على أن السنة صلاة العيدين في المصلى خارج المسجد. فمما ذكر من الأدلة:
الدليل الأول:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر، والأضحى إلى المصلى)2.
الحديث الثاني:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغدو إلى المصلى في يوم العيد، والعنزة3 تحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها، وذلك أن المصلى كان فضاءً ليس فيه شيء يستتر به)4.
الحديث الثالث:
حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قيل له: (أشهدت العيد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب)5.
قال الألباني: إذا عرفت دلالة الأحاديث، فهي حجة قاطعة على أنه السنة في صلاة العيدين أن تؤدى في المصلى، وبذلك قال جمهور العلماء، ففي (شرح السنة) للإمام البغوي قال: (السنة أن يخرج الإمام لصلاة العيدين إلا من عذر، فيصلي في المسجد).
وقال الإمام النووي في شرح الحديث الأول: (هذا دليل على من قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار، وأما أهل مكة، فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول).
وقال الشافعي في (الأم): (بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذلك من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة.
ثم أشار -رحمه الله- إلى أن سبب ذلك سعة المسجد، وضيق أطراف المدينة، فلو عمر بلد فكان مسجد أهلها يسعه في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه! فإذا كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه، ولا إعادة6.
ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة، لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى)7.
وقد تعقبه الإمام الشوكاني بقوله: (وفيه كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينهض للاعتذار عن التأسي به -صلى الله عليه وسلم- في الخروج إلى الجبانة بعد الاعتراف بمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة، فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة؛ لضيق أطراف مكة، لا للسعة في مسجدها).(/1)
قال الإمام الألباني: (وهذا الاحتمال الذي ذكر الإمام الشوكاني أشار إليه الإمام الشافعي نفسه، وقد يحتج لتلك العلة برواية البيهقي في السنن الكبرى8: (مطرنا في إمارة أبان بن عثمان على المدينة مطراً شديداً ليلة الفطر، فجمع الناس في المسجد، فلم يخرج إلى المصلى الذي يصلي فيه الفطر، والأضحى، ثم قال لعبد الله بن ربيعة: قم فأخبر الناس ما أخبرتني، فقال عبد الله بن عامر: إن الناس مطروا على عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فامتنع الناس من المصلى فجمع عمر الناس في المسجد، فصلى بهم، ثم قام على المنبر، فقال: يا أيها الناس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج بالناس إلى المصلى، يصلي بهم؛ لأنه أرفق بهم، وأوسع عليهم، وإن المسجد كان لا يسعهم، فإذا كان المطر فالمسجد أرفق9.
قال الألباني: والجواب أن هذه الرواية ضعيفة جداً؛ لأن محمد بن عبد العزيز -هذا الذي من طريقه الرواية- قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال النسائي (متروك)، وقد أخرجها الشافعي).
فيثبت بطلان التعليل بضيق المسجد، وترجح أقوال العلماء الذين جزموا بأن الصلاة في المصلى هي السنة، وأنه مشروع في كل زمان ومكان إلا لضرورة، ولا أعلم أحداً من العلماء المستقلين -الذين يعتد بهم- خالف في ذلك إلا ابن حزم في المحلى في قوله: (وإن كان عليهم مشقة في البروز إلى المصلى صلوا جماعة في الجامع، ثم قال: وقد روينا عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- أنهما صليا العيد بالناس في المسجد لمطر وقع يوم العيد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبرز إلى المصلى لصلاة العيدين، فهذا أفضل، وغيره يجزئ؛ لأنه فعل لا أمر، وبالله التوفيق. (المحلى (5/81-87)).
قال أحمد شاكر -رحمه الله-: (وقد تضافرت أقوال العلماء على ذلك، فقال العلامة العيني في شرح حديث أبي سعيد: فيه البروز إلى المصلى، والخروج إليه، ولا يصلي في المسجد إلا من الضرورة.
وفي الفتاوى الهندية (1/118): الخروج إلى الجبانة في صلاة العيد سنة وإن كان يسعهم المسجد الجامع على هذا المشايخ، وهو الصحيح)10.
وروى بن زيادة عن مالك قال: (السنة الخروج إلى الجبانة إلا أهل مكة ففي المسجد)11
وفي المدونة: (ولا يصلون في مساجدهم ولكن يخرجون كما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم-: فعن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى المصلى، ثم استن بذلك أهل الأمصار))12
وقال العلامة ابن الحاج في " المدخل " ( 283 ) : والسنة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)13, ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى وتركه، فهذا دليل واضح على تأكد أمر الخروج إلى المصلى لصلاة العيدين، فهي السنة، وصلاتهما في المسجد على مذهب مالك -رحمه الله- بدعة إلا أن تكون ثَم ضرورة داعية إلى ذلك فليس ببدعة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها، ولا أحد من الخلفاء الراشدين بعده، ولأنه -عليه السلام- أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيدين، وأمر الحيض، وربات الخدور بالخروج إليهما فقالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (تعيرها أختها من جلبابها لتشهد الخير ودعوة المسلمين). فلما أن شرع -عليه الصلاة والسلام- لهن الخروج شرع الصلاة في البراح لإظهار شعيرة الإسلام.
فالسنة النبوية التي وردت في الأحاديث الصحيحة دلت على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي العيدين في الصحراء في خارج البلد. وقد استمر العمل على ذلك في الصدر الأول، ولم يكونوا يصلون العيد في المساجد إلا إذا كانت ضرورة من مطر ونحوه.14
القائلون بالصلاة في المسجد:
تقدم أن ذكر أنَّ من ذهب إلى أن الصلاة في المسجد أولى هو الإمام الشافعي -رحمه الله-، حيث قال: (بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذلك من كان بعده وعامة أهل البلدان إلا مكة، فإنه لم يبلغنا أن أحداً من السلف صلى بهم عيداً إلا في مسجدهم، وأحسب ذلك -والله تعالى أعلم- أن المسجد الحرام خير بقاع الدنيا، فلم يحبوا أن يكون لهم صلاة إلا فيه ما أمكنهم؛ وإنما قلت هذا لأنه قد كان وليست لهم السعة في أطراف البيوت بمكة سعة كبيرة، ولم أعلمهم صلوا عيداً قط، ولا استسقاء إلا فيه، فإن عُمِّر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أنهم يخرجون منه، وإن خرجوا فلا بأس)15.
وقد تعقبه الإمام الشوكاني وغيره كما قدَّمنا ذكره.
والذي يظهر -والله أعلم- أن صلاة العيدين تصلى في المصلى (الجبانة) خارج المسجد إلا من عذر، وهو القول الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة، والذي عليه جمهور المسلمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
________________________________________(/2)
1 - رواه أبو داوود برقم(980)، وابن ماجه(1303)، والحاكم.(1044)قال الألباني :ضعيف، انظر المشكاة (1448)، ضعيف سنن ابن ماجه (270 / 1313)، صلاة العيدين في المصلى ص (21 ، 22) طبع المكتب الإسلامي.
2 - رواه البخاري برقم (903).
3 - العنزة: مثل نصف الرمح وأكبر شيء وفيها سنان مثل سنان الرمح، والعكازة قريباً منها، كان يضعها سترة له من المارين.
4 - البخاري 1/354، مسلم ( 2 ظ 55 )وابن ماجه ( 1 / 392 )،واللفظ لابن ماجه وهو أتم، وسنده صحيح.
5 - أخرجه البخاري، والسياق له (2/373)برقم(924).
6 - الشافعي في كتاب الأم (1/207).
7 - كتاب الأم (1/267)
8 - السنن الكبرى 3/310
9 - السنن الكبرى وهو ضعيف (3/310)
10 - التعليق على شرح الترمذي - أحمد شاكر( 2 / 421 - 424 ).
11 - صلاة العيدين في المصلى -للألباني- من ص27-31 بتصريف يسير.
12 - المدونة (1/171).
13 - مسلم برقم(2469).
14 - صلاة العيدين في المصلى -للألباني- من ص34-35 .
15 - الأم (1/207).(/3)
صلاة العيد للرجال والنساء
الحمد لله الحميد المجيد، الذي شرع لعباده أنواعاً من العبادات والتمجيد، والصلاة والسلام على النبي الرشيد، صاحب القول السديد، والصيت الحميد، الذي أضاء طريق الله للعبيد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فقد شرع الله لعباده شعائر كثيرة كانت بها سعادتهم إن هم عملوا بها في حياتهم، واستشعروا عظمتها لكونها من لدن حكيم خبير.. ومن أجلِّ تلك الشعائر ما امتاز به المسلمون عن أمم الأرض من مناسبات بها يفرحون، ويتذكرون ماضيهم وتاريخهم وذكرياتهم.. من تلك المناسبات الأعياد، ولم يشرع لنا إلا عيدان فقط مع يوم الجمعة هما عيد الفطر والأضحى.. وفي يوم العيد توجد كثير من الأعمال التي يستحب للناس أن يقوموا بها امتثالاً لأمر الله بها وترغيبه فيها، ومنها صلاة العيد التي هي فريدة في صفتها وهيئتها ووقتها وعظمتها، وقد ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إلى هذه الصلاة حتى النساء.. وموضوعنا يدور حول صلاة العيد للرجال والنساء.. أما الرجال فإن الصلاة على قول بعض العلماء تلزمهم، وهي في حقهم فرض كفاية، ومنهم من قال فرض عين، أي تجب على كل بالغ عاقل مكلف من المسلمين، وجمهور العلماء على أنها سنة لا تجب على أحد بل من قام بها وأداها فله عظيم الأجر والثواب، ومن لم يصلها فليس عليه إثم، وعموماً فإن المسلم ينبغي له أن يحرص على الفرص إذا سنحت له. ولا يضيع فرصة من فرص الثواب.. ولا يترك مثل هذه الأمور إلا محروم.. وهذه الصلاة تعتبر من أجل شعائر الدين؛ لأنها في يوم عظيم من هو أفضل أيام الدنيا وأعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى، ولا تتكرر في السنة إلا مرتين فقط، وكلما ندر الشيء كان له من الاهتمام والحرص الشيء الأكبر.. لهذا يجب علينا تعظيم هذه الشعيرة التي هي من جنس الصلوات الخمس التي يمحو الله بهن الذنوب والخطايا..
ويستحب أن يخرج الرجال إلى المصلى؛ لما روى البخاري ومسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى المصلى في العيدين، وقد خرج الصحابة من بعده، وقد خرج علي رضي الله عنه استخلف على الضعفة والعاجزين عن الخروج إلى المصلى أبا مسعود الأنصاري..
ويخرج المسلم إلى المصلى طاهر الباطن أولاً، وثم الظاهر، ويتزين بأحسن الثياب ويتعطر، ويمس شيئاً من الطيب، ويدهن ويتسوك؛ ليقابل إخوانه وهو طيب النفس طيب المظهر...
والنساء.. يستحب لهن الحضور لصلاة العيد؛ يشهدن التكبير والصلاة، ويكثرن سواد المسلمين، لحديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد، فأما الحيض فكن يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين) رواه البخاري ومسلم. ولحديث: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: (وليخرجن تفلات) والتفلة: المرأة غير المتعطرة التي لا تشد انتباه الناس. هذا من حيث الحكم الشرعي.. أما من حيث الأمور المتعلقة بخروج المرأة إلى المصلى وإلى المسجد فقد تكلم العلماء في ذلك واشترطوا لخروج المرأة إلى الصلاة شروطاً منها:
1. أن لا تظهر زينتها لغير زوجها أو محارمها ولتحتجب الحجاب الشرعي.
2. أن يكون لبسها حجاباً شرعياً كاملاً ليس في زينة تفتن بها الرجال.
3. أن لا يشم منها ما يثير الغرائز الشهوانية كالعطور، والروائح المثيرة.
4. أن لا يزاحمن الرجال أو يختلطن بهم أثناء المشي، وكذا في المصلى أو في أي مكان..
5. أن يكون الغرض من خروج المرأة إلى المصلى هو ما ذكر في الحديث : (يشهدن التكبير والخير والصلاة ودعوة المسلمين)؛ لأنه قد تخرج بعض النساء بحجة الصلاة، إلا أن الغرض هو النزهة أو التفاخر بجميل الثياب وطيب الريح وجمال الحلي..!!
6. إذا كانت المرأة حائضاً فإنها تحضر المصلى؛ لكن لا تشهد الصلاة، وتبتعد عن مكان الصلاة خارج المصلى...
لأن المرأة كلها عورة وهي سريعة الانقياد إلى ما يريده الرجال خيراً كان ذلك أو شراً..
وإن المرأة المسلمة فضلها الله على غيرها من نساء الأرض، فهي كالجوهرة المصونة التي عرف الناس قدرها وثمنها.. لا كأولئك النساء من بنات الغرب اللاتي تفلتن وانخرطن في مستنقع الرذيلة، من الكاسيات العاريات المائلات المميلات.. اللاتي لا هم لهن إلا التمتع بالشهوات المحرمة
فهي المكرمة بدينها، العزيزة بربها، الشريفة العفيفة.إن المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان، ونظرت إليها عيون الفسقة من كل مكان، الذين لا هم لهم إلا نيل وطرهم أو حاجتهم منها.. فلهذا كانت شروط خروج المرأة من بيتها عموماً إلى أي مكان وإلى المسجد خاصة شروطاً تحفظ كرامتها وشرفها وتحفظها من الفتنة
و ، وخرجت.. وبقاء المرأة في البيتها خير من خروجها متعطرة متزينة يستشرفها الشيطان، عن عائشة رضي الله عنه قالت: ( لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل) رواه البخاري ومسلم(/1)
والمقصود أن المرأة تحافظ على نفسها من لعنة الله، وذلك بالحذر من التعرض للفتن وما يغضب الله تعالى.. وأن تحافظ على هذه الشعيرة فإنها شعيرة عظمية، بها يحصل اجتماع السواد الأعظم من المسلمين، ويحصل الغيظ للكافرين، وبلوغ الأجر العظيم من رب العالمين..
ولا يسعنا في الأخير إلا أن نقول: تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
والله ولي الهداية والتوفيق.(/2)
صلاة العيدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإن المسلمين ليس لهم إلا عيدان عيد الفطر وعيد الأضحى لما جاء عَنْ أَنَسٍ-رضي الله عنه-,قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ,وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ:(مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ)(1).
وهذان العيدان هما من شعائر الله التي ينبغي إحياؤها وإدراك مقاصدها واستشعار معانيها.
وقد شرعت صلاة العيدين في السنة الثانية من الهجرة، وواظب النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها حتى فارق الدنيا، واستمر عليها المسلون خلفاً عن سلف، لأنها من شعائر الدين الظاهرة.
حكم صلاة العيدين:
ذهب بعض العلماء إلى وجوبها,وهذا مذهب الأحناف,واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-(2)، وقالوا: إن النبي-صلى الله عليه وسلم- واظب عليها,ولم يتركْها ولا مرة واحدة، واحتجوا بقوله- تعالى-:((فصل لربك وانحر))(الكوثر: 2) أي صلاة العيد والنحر بعده,وهذا أمر،وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإخراج النساء من البيوت لشهادتها، والتي ليس عندها جلباب تستعير من أختها.
وذهب بعض العلماء إلى أنها فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين(3)، وهذا مذهب الحنابلة.
وذهب فريق ثالث إلى أن صلاة العيد سنة مؤكدة وهذا مذهب المالكية والشافعية، واحتجوا بحديث الأعرابي في أن الله لم يوجب على العباد إلا خمس صلوات(4).
فينبغي على المسلم أن يحرص على حضورها وشهودها خصوصاً وأنّ القول بوجوبها قول قوي ويكفي ما في شهودها من الخير والبركة والأجر العظيم والاقتداء بالنبي الكريم.
وقت صلاة العيد:
وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس قدر ثلاثة أمتار إلى الزوال، لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء من حديث جندب قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بنا الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح(5).
قال سعدي أبو حبيب في "موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي" (2/654): (ويُسن تقديم صلاة الأضحى, وتأخير صلاة الفطر, بلا خلاف يُعلم) اهـ(6).
موضع أداء صلاة العيد:
الجمهور غير الشافعية: يقولون أن موضعها المصلى (خارج البلد) إلا إذا كان من ضرورة أو عذر، بدليل فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومواظبته على ذلك، فإن كان عذر صلى في المسجد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد(7).
صفة صلاة العيد:
قال عمر -رضي الله عنه-: صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم وقد خاب من افترى(8)، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفطر ركعتين لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما(9).
وعن أبي سعيد قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة(10).
والتكبير سبع في الركعة الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:(أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كبَّر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة)(11).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- قال: قال نبي الله-صلى الله عليه وسلم-:(التكبير في الفطر سبع في الأولى,وخمس في الآخرة,والقراءة بعدهما كلتيهما)(12).
القراءة في صلاة العيد:
يُستحبُّ أن يقرأ الإمام في صلاة العيد بـ (ق) و(اقتربت الساعة) كما في "صحيح مسلم" أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ، فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِـ(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)، وَ(اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(13).
وأكثر ما ورد أنه-صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في العيد بسبح والغاشية، كما كان يقرأ بهما في الجمعة، فقد جاء عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى،وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)(14).
وقال سمرة -رضي الله عنه-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العيدين ((سبح اسم ربك الأعلى)) و((هل أتاك حديث الغاشية))(15).(/1)
وتكون الصلاة بغير أذان ولا إقامة، فعن ابن عباس، وجابر -رضي الله عنهما- قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى (16)، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: (شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة).
خطبة العيد:
الخطبة بعد صلاة العيد سنة,والاستماع إليها كذلك، فعن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيد فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس،ومن أحب أنْ يذهبَ فليذهب)(17).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإذا كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله. فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلناها قبل الصلاة(18).
خُرُوجُ النِّساءِ والصِّبيان:
يُشرع خروج الصبيان والنساء في العيدين للمصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض(19)، لحديثِ أمِّ عطية,قالت:(أمرنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور,فأمَّا الحُيَّض فيعتزلن الصلاةَ ويشهدن الخير ودعوة المسلمين)(20).
آداب العيد
1- الاغتسال، والتطيب،ولبس أحسن الثياب للرجال:
من آداب العيد الاغتسال قبل الخروج للصلاة فعن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: كَانَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ ويوم الأضحى(21).
وفي الصحيحين: أن عمر وجد حلة في السوق من استبرق تُباع فأخذها فأتى بها النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم-,فقال: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمَّل بها للعيد وللوفود، فقال: (إنما هذه لباس مَن لا خلاقَ له)(22).
وكان-عليه السلام- يتطيب يوم العيد،ولو من طيب أهله،وكان له بُردٌ حمراء يلبسها يوم العيد(23).
2- الأكل قبل الخروج:
من الآداب ألا يخرج في عيد الفطر إلى الصلاة حتى يأكل تمرات؛لما رواه البخاريُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ,قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا.
وإنما استحب الأكل قبل الخروج مبالغة في النهي عن الصوم في ذلك اليوم,وإيذاناً بالإفطار وانتهاء الصيام. وعلل ابن حجر -رحمه الله- بأنّ في ذلك سداً لذريعة الزيادة في الصوم، وفيه مبادرة لامتثال أمر الله(24). ومن لم يجد تمراً فليفطر على أي شيء مباح.
وأما في عيد الأضحى فإن المستحب ألا يأكل إلا بعد الصلاة ويكون من أضحيته، لحديث بريدة قال: كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم النحر حتى يرجع)(25) زاد أحمد (فيأكل من أضحيته).
3- التكبير يوم العيد:
وهو من السنن العظيمة في يوم العيد؛لقوله-تعالى-:((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون))(البقرة: 185).
جمهور العلماء على أن التكبير في عيد الفطر من وقت الخروج إلى الصلاة إلى ابتداء الخطبة،أما في عيد الأضحى فمن صبح عرفة إلى عصر أيام التشريق وهي: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة(26).
4- مخالفة الطريق:
فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى استحباب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق آخر؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (كان النبي-صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم عيد خالف الطريق)(27)، وعنه –أيضاً-, قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه)(28).
5- التهنئة:
يُستحبُّ أن يهنأ المسلمُ أخاه المسلمَ بالعيدِ، قال الحافظ ابنُ حَجَر:(وروينا في المحامليات بإسنادٍ حسنٍ عن جُبير بن نُفير,قال:كان أصحابُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: (تقبل الله منا ومنك)(29).
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة:(قد رُوي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخَّصَ فيه الأئمةُ كأحمدَ وغيرِهِ)(30).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1 - سنن أبي داود، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود رقم (1004).(/2)
2 - قال الشوكاني -رحمه الله- في "الدراري المضية شرح الدرر البهية" (1/263-264): (قد اختلف أهل العلم هل صلاة العيدين واجبة أم لا؟ والحق الوجوب؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- مع ملازمته لها، قد أمرنا بالخروج إليها، كما في حديث أمره- صلى الله عليه وسلم- للناس أن يغدوا إلى مصلاهم بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال، وهو حديث صحيح، وثبت في الصحيح من حديث أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين"، والأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب، والرجال أولى من النساء بذلك).
3 - راجع: المغني: (2/367)، كشاف القناع (2/55).
4 - راجع: الفقه الإسلامي (2/363- 364).
5 - ذكره الحافظ في التلخيص الحبير (2/83) ولم يتكلم عليه.
6 - نقلاً من حاشية الدراري المضية (269).
7 - رواه أبو داود، وابن ماجة، وضعفه الالباني
8 - رواه ابن خزيمة،وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة رقم (1425).
9 - متفق عليه.
10 - رواه البخاري.
11 - رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني
12 - رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (1020).
13 - صحيح مسلم.
14 - صحيح مسلم.
15 - رواه أحمد والترمذي وابن ماجه،وصححه الألباني في الإرواء رقم (644)، وصحيح ابن ماجه رقم (1061).
16 - متفق عليه.
17 - رواه النسائي، وأبو داود،وابن ماجه،وقال الألباني:صحيح.انظر الإرواء (3/96 رقم 629).
18 - رواه البخاري.
19 - راجع: فقه السنة (1/299).
20 - متفق عليه.
21 - رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه رقم (272)، والصحيح هو: (أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو) قال النووي: "أثر صحيح" المجموع (5/6).
22 - متفق عليه.
23 - رواه البيهقي عن ابن عباس، ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن جابر: (كان للنبي حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة) راجع: الفقه الإسلامي (2/388).
24 - فتح الباري (2/446).
25 - رواه أحمد، والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، وصححه الألباني، انظر صحيح ابن ماجه رقم (1422).
26 - راجع: فقه السنة (1/305).
27 - رواه البخاري.
28 - رواه مسلم، و أحمد ، والترمذي.
29 - فتح الباري (2/446).
30 - فتاوى شيخ الإسلام (24/253).(/3)
... ... ...
صلاح الدين وتحرير القدس ... ... ...
أحمد محمود الديب ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- ذلة المسلمين وواقعهم المرير. 2- منهج صلاح الدين في إصلاح واقع المسلمين حينذاك. 3- صلاح الدين يحارب الصلبيين ويستعيد القدس. 4-بعض مؤامرات اليهود اليوم على القدس. 5- فضل المسجد الأقصى. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أيها الأخوة الكرام الأحبة، في وسطِ ما تعيشُهٌ أمتُنا الإسلاميةُ اليومَ من أزماتٍ وهجمةٍ شرسةٍ من أعدائِها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في فلسطين وإريتريا والفلبين والصومال وبورما، وفي خضمِ هذه المعناة ِالتي أحاطت بأمتنا نرى الأمل يشع بضوئه المشرق ليبعث فينا روح التفاؤل لعلنا نجد مخرجاً لما تعانيه الأمةُ.
وان المخرجَ يا عبادَ الله يتمثلُ في استعلاءِ الأمة بإيمانها و الصدقِ مع الله ومواجهة الأعداء.
واليومَ أيها الأخوة أقدم نموذجاً من النماذج الرائعة التي عملت من أجل إخراج الأمةِ من أزماتها، إنه صلاحُ الدينِ في موقعةِ حطين.
لقد كانت الأمةُ الإسلاميةُ قبلَ ولايتهِ تشكو من الظلم والفساد الذي استشرى في كل مكان، فلما تولى الوزارة َ بمصر ثم استقلَ بشؤونها رأى بتوفيق ٍ من الله أن يخطو َخطوة ً إيجابية ً هامة في توحيدِ المسلمين فبدأ بحمل شعار: إصلاحِ العقيدة وكانت عقائدُ أكثرِ الناسِ قد فسدت في زمانه، ورأى صلاحُ الدين خطورة ذلك الفسادِ في العقيدةِ والأخلاقِ وكان يؤلم نفسَهُ ما يرى من اختلافاتٍ وفرقةٍ ونزاعٍ بين المسلمين، وشعرَ صلاحُ الدين بصعوبة ما هو مُقدمٌ عليه من عمل، ولكنه كان يرى أن صلاحَ أمرِ أمته وخروجَ المسلمين من أزماتهم الطاحنة لن يتمَ إلا بهذه الخطوةِ الإيجابية، وهي أولاً صلاحُ العقيدةِ، فقام بإنشاء المدارس التي تدعو إلى مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ، وهو المذهبُ الذي يمثلُ الاتزانَ والتعقلَ من بين المذاهبِ الأخرى، ولما أحسَ صلاحُ الدين بنجاحِ هذه الخطوةِ توجه إلى توحيد بلادِ المسلمين ليتمكن بذلك من مواجهة أعداءِ الإسلام بصفٍ موحدٍ لا عداوةَ َبين أصحابه ولا خلاف، ولم يكن هذا الطريقُ ممهداً أمامَهُ، بل كان فيه كثيرٌ من العقبات، وكان من أولِ تلك العقبات أن امتنع والي حلب عن فتح أبوابها أمامَ صلاحَ الدين بل تجاوز َذلك إلى محاولة قتلِ صلاحِ الدين فأنجاه الله من كيده.
وهنا عزم صلاحُ الدين على مواجهته بعد أن استعان والي حلب بالإفرنج ولكنهم لم يستطيعوا الصمودَ أمامَ قوةِ الجيشِ الإسلامي ثم كان تآمرُ الإفرنجِ على المسلمين، فهجموا على دمياطَ والإسكندرية ولكن الله هزمهم.
وهكذا ظلَ صلاحُ الدين يبذلُ جهودا ً كبيرة ً في توحيدِ الجبهة الإسلامية بعد أن كانت مفككةً لا ضابطَ لها ولا نظام ، ومن ثمَّ انطلقَ إلى مواجهةِ الأعداء الصليبين فقد اتفقت ضدَهُ جميعُ الدولِ الأوربية وجمعت جيوشاً كثيرة ً لمحاربةِ المسلمين فكان بينهم وبينَ صلاحُ الدين وقائعُ كثيرة انتصرَ فيها عليهم، فكانت موقعةُ حطين ثم تلاها فتحُ بيتِ المقدسِ.
ومن مواقفهِ الشهيرة من أجل تحرير بيتِ المقدس أنه كان بينه وبين أرناط أميرِ الكركِ هدنةً وفي شروطها السماحُ للقوافل الإسلامية بالانتقالِ بين مصرَ والشام دونَ التعرضِ لها ولكن أرناط لم يحترم هذا العهد، فاعتدى على قافلةٍ تجارية تابعة للمسلمين وكان ذلك عام اثنتين وسبعين وخمسمائة للهجرة، فصادرَ أموالها وأسرَ رجالَها ولم يكتفِ بذلك بل زاد عليه أن أساءَ إلى المسلمين وإلى النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال للأسرى: إن كنتم تعتقدون في محمدٍ فادعوه الآن ليفك أسركم وليخلصَكُم من شر ما وقعَ بكم.
ولما علم صلاحُ الدين بهذا الاعتداء وهذه الإساءةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَ غضبُهُ لله ولرسوله وحلفَ إن أظفره اللهُ بأرناط ليقتلنه بيده، وهنا أخذ صلاحُ الدين يعدُ جيوشَهُ ويستنفرُ هممَ المسلمين، وبعد أن أعدَ العدةَ َ اجتمع مع رجالهِ وكانت المشورة ُ عملاً بقول الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ [آل عمران:159]. فاتفقوا على الخروج لمحاربة الأعداء بعد صلاةِ الجمعةِ، السابعَ عشرَ من ربيعٍ الآخر سنة ثلاثٍ وثمانين وخَمسمائةٍ للهجرةِ.
وخرجَ المسلمون بعد صلاةِ الجمعةِ وهم يُكبرون ويتضرعون إلى الله والتقي الجيشان، ودارت رحى الحرب واشتدَ الحرُ على الناس ولكن اللهَ يثبتُ عبادَهُ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]. وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. وكتبَ الله النصرَ للمسلمين وكان نصراً كبيراً.
وصف العمادُ الأصفهاني مشهدَ القتلى والأسرى من الأعداء بقوله: "فمن شاهدَ القتلى في ذلك اليومِ قال: ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال: ما هناك قتيل".(/1)
وبعد انتهاءِ المعركة سجدَ صلاحُ الدين شكراً لله على نعمةِ النصرِ الذي كان من عند الله ثم استعرضَ كبار الأسرى بحثاً عن أرناط الذي أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال له: ها أنا ذا أنتصرُ لنبينا صلى الله عليه وسلم ثم عَرض عليه الإسلامَ فأبى فقتله، ووفى بقسمه، فقتلَهُ.
هذا هو صلاح الدين في موقعة حطين وما قام به من إصلاح ومعالجةٍ لواقع المسلمين، فالعلاج يا عبادَ اللهِ ينبعُ من ذات الإسلام وعملا بالإسلام. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
وفي الخبر السابق يا عباد الله نرى أن إنشاءَ المدارسِ استهدفَ إعادة َ المسلمين إلى عقيدتهم، فلقد كان عملاً كبيراً ما قام به من إصلاحِ عقيدةِ المسلمين بل إن ذلك هو الأساس في إعادة بناء القوة الإسلامية، وإلا فكيفَ يمكنُ أن يوحد شمل المسلمين إذا كانت عقيدتُهم فاسدةً وقلوبُهم مختلفة، وفي هذا الخبر السابق نرى جميعاً كيف كان صلاحُ الدين صادقاً في جهادهِ وعمله من أجل أمته.
وفي الخبر السابق نرى ماذا فعل صلاح الدين بأرناط الذي أساء للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الغضب في الله ولله، وفي الخبر السابق نقطةً جديرةً بالتأمل والوقوف ألا وهي اجتماع صلاحُ الدين مع رجالهِ قبلَ وقوعِ المعركة، إنه أنموذجٌ صادقٌ للاجتماعِ الناجحِ الإيجابي الذي يبتعدُ عن الكلامِ المجردِ والنظرياتِ الكاذبةِ والقراراتِ الوهمية فماذا كانت النتيجةُ بعد هذا الاجتماع؟ كانت انتصاراً كبيراً للمسلمين تلاهُ فتحُ بيتِ المقدس، فماذا نقول عن واقعنا اليوم؟ أين غضبتنا لله ولرسوله؟ أين غضبتنا لقدسنا؟ أين اجتماعاتنا من هذه الاجتماعات؟ وأين قراراتُنا من تلك القرارات؟ فان ما أصابنا لم يصبنا من قلةٍ في عددنا أو ضعفٍ في إمكاناتنا، إنما أصابنا ذلك حينما لم نستعل بإيماننا، ولم نفهم حقيقةَ أعدائِنا، فما أحوجَنا اليومَ إلى أن نُمعنَ النظرَ في واقِعنا وما ألمَّ بنا وما آلَ إليه حالنُا، وكيفَ تألبت علينا أثقالُ الحياةِ ومظالمُ الناسِ الذينَ يَلبَسونَ المسوحَ ويمدونَ أياديَهم الآثمةَ بدعوى المصالحةِ والسلام،ِ وهم من هم، هم الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً وأولئك هم المعتدون، فهاهم اليهود غدروا بعهودهم ونقضوا كثيراً من بنود المعاهداتِ وسارعوا يبنون ويهدمون ما يشاؤونَ من أرضِ فلسطينَ ومن قبلةِ المسلمين الأولى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أحاطوا المدينةَ المقدسةَ بجبالٍ هائلةٍ من المباني وصادروُا أكثرَ من 80 في المائة من مجموعِ مساحةِ القدسِ فضلاً عن محاولاتِهم طمسَ المعالمِ الإسلاميةِ والعربيةِ في المدينةِ المقدسةِ، ومن ثمَّ السيطرة ُ على يمكنُهم السيطرةُ عليه، حتى المعلمَ الرئيسي حرقُوه وأكثروا الحفرَ تحته ولا يزالون، فالقدسُ وما حوَلها في خطرٍ، وهاهي في كل يوم تستصرخُ ضميرَ ووجدانَ الأمةِ لينقِذوها من التهديدِ اليهودي،ِ فالقدسُ أمانةٌ في أعناقِ أمتنا، وهاهو الأقصى ينادي ويستنجدُ، فهل من وقفةٍ لله رب العالمين ولإنقاذِ المستضعفين.
أيها الأخوةُ: إننا مع ذهولِ الموقفِ واعتصارِ الألم فإننا لا نيأسَ، وأملَنا في اللهِ تعالى كبير ثم في أمةِ الإسلام، ولن يَنضُبَ معينُ أمتنا من الخيرين ، واعملوا يا عباد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حق المسجد الأقصى: ((لا تشدُ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدٍ إلى المسجدِ الحرام وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء يعني بيت المقدس)) [رواه مالك رحمه الله].
ولقد بين الله تعالى لنا قيمة المسجدِ الأقصى حينما ربطه بالبيت الحرام فقال: سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها الأخوة الكرام الأحبة: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
صلة الأرحام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واتبعوا ما جاءكم به رسوله صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع القويم، فإن في اتباع الرسول الفلاح والعاقبة المرضية، وفي مخالفة أمره الشقاء والعذاب الشديد.. وكان مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ديننا الحنيف، ومما هو من الأمور المطلوبة شرعاً وعرفاً وضميراً: صلة الأرحام، وقد دلت الآيات والأحاديث على وجوب الصلة، وحرمة قطع الأرحام، وفضيلة الإحسان إليهم، وقد أخذ اسم الرحم من الرحمة؛ لأن الأرحام يرق لهن ويعطف عليهن..
مدح الله تعالى الواصلين ما أمر الله به أن يوصل، فقال:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}1 وذم القاطعين ذماً شديداً فقال:{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}2 وقال –سبحانه- مهدداً المفسدين في الأرض وقاطعي الأرحام:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}3.
ووصّى الله تعالى بذوي الأرحام خيراًَ فقال:{ وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}4 وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}5 وقال –سبحانه-:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }6 فهذه آيات كريمات تأمر بالصلة، وتنهى عن قطيعة الأرحام.. فهل عقلتم الخطاب عن ربكم يا مسلمون؟ أم أن بعض الناس لأرحامهم قاطعون، وهم في غيهم يعمهون، وفي معاصي ربهم يترددون، وعن شرعه يصدون، وعن أوامره لاهون غافلون؟!
وإلى جانب الآيات القرآنية جاءت الأحاديث النبوية تؤكد هذا الأمر، وتجعله من أعلى أخلاق الإسلام التي جاء بها، ورسول الله قدوتنا في ذلك، فقد أمر بالإحسان إلى الأرحام، وكان أفضل الناس صلة، فمما ثبت عنه قوله: (( الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله))7. وقال: (( صلة الرحم، وحسن الجوار،- أو حسن الخلق- يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار))8 .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الرحم شجنة 9 متمسكة بالعرش تَكلَّم بلسان ذلْق: اللهم صِلْ من وصلني، واقطع من قطعني، فيقول الله -تبارك وتعالى-: أنا الرحيم الرحمن، وإني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن نكثها نكثته))10.كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه قامت الرَّحِمُ فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: " نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟" قالت: بلى يا رب، قال: " فذاك لك" )) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( اقرؤوا إن شئتم:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}11 .
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان -قبل أن يسلم وكان في تجارة في بلاد الشام- عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم وبماذا يأمرهم ؟ قال: يقول: ( اعبدوا الله واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة..) الحديث12 . فكانت الدعوة إلى صلة الأرحام من أول ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ماله ماله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أَرَبٌ ما له! تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرَّحِم))13. وكان هذا مما يوصي به رسول الله أصحابه، فقد ورد عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: ( أوصاني خليلي: أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرَتْ) 14.(/1)
عباد الله: إن صلة الرحم سبب في زيادة العمر، وكثرة المال، هذا وعد من الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، حيث ثبت عنه من حديث أنس بن مالك أنه قال: ((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصِلْ رَحِمَه)) 15. وفي حديث مشابه له عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه))16 ، وبين صلى الله عليه وسلم أن ثواب صلة الرحم أعجل شيء يناله المرء، حيث قال: (( ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعجل ثواباً من صلة الرَّحِم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع..)) الحديث17. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الوصل الحقيقي هو الذي يكون من الإنسان عندما تقطعه رحمه، أما الذي يصل من وصله فهو مكافئ لذلك المعروف فحسب، وهذا وإن كان من الصلة إلا أن من وصل أقاربه القاطعين له كان أجره أعلى وأعظم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصلَ الذي إذا قَطَعت رَحمُه وصلها))18 بل وصل الأمر بهذا الدين العظيم أنه حث على صلة الرحم ولو كانت كافرة ، فعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: قدِمَتْ أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة – يعني في صلتها – أفأصلها؟ قال: (( نعم ، صِلي أمك ))19 .. والآيات والأحاديث كثيرة في الأمر بصلة الأرحام وفضيلة ذلك..
عباد الله: هذه منزلة صلة الأرحام في دينكم، فهل أنتم عند حدود الله واقفون؟ ولأوامره فاعلون؟ ولزواجره تاركون؟ هل وصلتم الأرحام وزرتم الأقارب، وهل استسمحتموهم من التقصير في قلة الصلة وقسوة القلب تجاههم؟ فيا من تريد الخير في الدنيا والآخرة صل رحمك، وتعهدهم دائما، ولا تقطع عنهم يداً، وتذكر دائماً الأجر في صلتهم وحسن رعايتهم.. وفق الله الجميع للقيام بالحقوق على أتم وجه، وأكمل طريق.. واستغفروا الله العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
عباد الله: تقدمت الآيات والأحاديث في فضيلة صلة الرحم والأمر بذلك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل البشري الأعلى في العمل بمثل تلك الأوامر.. وذلك من خلال ما اشتهر به من الصلة والرحمة والكرم وغير ذلك، ولما نزلت هذه الآية:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 20 ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها )) رواه مسلم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل الرحم ولو كانت كافرة، وقوله: ((سأبلها ببلالها)) شبه الصلة ببلل الماء: لأن بعض الأشياء إذا بلت اتصلت، وإذا يبست انفصلت21، والمقصود تشبيه الصلة بالبلل الذي يدل على رخاء الأرض، ومنهم من قال: شَبَّه قطيعة الرحم بالحرارة، ووصْلَها بإطفاء الحرارة ببرودة..22
وقال عن ابنته فاطمة -رضي الله عنها-: (( فاطمة بضعة23 مني فمن أغضبها أغضبني )) رواه البخاري ومسلم.
أما أقوال السلف الصالح ومآثرهم فقد تعددت في بيان أهمية الصلة، قال عمر رضي الله عنه : تعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكونن بين الرجل وبين أخيه شيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم لأوزعه ذلك عن انتهاكه )24 . وقال عطاء بن أبي رباح: (لَدِرهمٌ أضعه في قرابتي أحب إلي من ألفٍ أضعها في فاقة، قال له قائل: يا أبا محمد وإن كان قرابتي مثلي في الغنى؟ قال: وإن كانوا أغنى منك!)25. وقال سعيد بن المسيب -رحمه الله- وقد ترك دنانير: ( اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه، ويصل رحمه، ويكف به وجهه)26 . وقال عمرو بن دينار: (تعلمُنَّ أنه ما من خطوة بعد الفريضة أعظم أجراً من خطوة إلى ذي رحم ) وقال سليمان بن موسى: ( قيل لعبد الله بن محيريز: ما حق الرحم؟ قال: تُستقبَلُ إذا أقبلت، وتُتبعُ إذا أدبرت )27 .وأقوال السلف الصالح في هذا كثيرة.. ولكن يكفينا إشارات نفهم بها المقصود..
أيها المسلمون: هل تعلمون ما هي الثمرات من صلة الأرحام؟! إن هناك بشائر في الدنيا وبشائر في الآخرة.. نشير إليها:
صلة الأرحام علامة كمال الإيمان وحسن الإسلام..
صلة الأرحام سبب في سعة الرزق والبركة في العمر..
صلة الأرحام تكسب العبد رضا الله عنه.(/2)
صلة الأرحام تقوي العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة، والأسر المرتبطة بالمصاهرة والنسب، حتى يعم ذلك المجتمع كله28.
أنها سبب في حسن الخاتمة؛ لأن الصلة إحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.. اللهم أعنا على القيام بصلة الأرحام، إنك على كل شيء قدير.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
________________________________________
1- (سورة الرعد: 21).
2- (سورة الرعد: 25).
3- (سورة محمد: 22-23).
4- (سورة النساء: 1).
5- (سورة الإسراء: 26).
6- (سورة النحل: 90).
7- رواه البخاري ومسلم.
8-رواه أحمد وغيره، ورجاله ثقات كما قال ابن حجر في الفتح ( 10/429 ).
9- الشجنة هي غصن الشجر، والمقصود هنا: قرابة مشتركة كاشتباك العروق.
10- أخرجه البخاري في الأدب المفرد وله أصل في صحيحه. كما سيأتي في الحديث بعده.
11- (سورة محمد: 22 -23). والحديث رواه البخاري ومسلم.
12-رواه البخاري ومسلم.
13- رواه البخاري ومسلم. واللفظ للبخاري.
14- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/154 ) ورجاله ثقات كلهم.
15- رواه البخاري ومسلم.
16- رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في ( زوائد المسند ) وصححه أحمد شاكر وذكر الهيثمي أن رجاله ثقات.
17- رواه البيهقي في السنن الكبرى وصححه الألباني في صحيح الجامع (5391 ).
18- رواه البخاري.
19- رواه البخاري.
20 -(سورة الشعراء: 214)
21- هذا مضمون ما ذكره السندي عند شرحه لهذا الحديث في سنن النسائي رقم الحديث( 3584 ).
22- ذكر ذلك النووي في شرح مسلم عند حديث رقم (204 ).
23- البضعة: القطعة من اللحم.
24- تفسير الطبري (1/144 ).
25- ( مكارم الأخلاق) لابن أبي الدنيا صـ 62 .
26- (الآداب الشرعية) لابن مفلح ( 3 / 269 ).
27- انظر القولين في ( مكارم الأخلاق) صـ 62 و 64 .
28- انظر (نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم)صـ 2632.(/3)
صمام الأمان (2)
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
حديثنا موصول عن صمام الأمان الذي يحفظ الإيمان ، ويقيم الدين، ويثبت الصلاح وينفي الشر ويدفع الضر بإذن الله عز وجل، الشعيرة العظمى والقطب الأكبر في ديننا العظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد سلف لنا حديث يكشف عن أهميته، ويبرز خطورة تركه، والحديث اليوم مباشر إلينا، وموجه لكل واحد منا، كيف الطريق إلى القيام بهذه المهمة، والأخذ بهذه الشعيرة، والتحقق بهذه السمة اللازمة لكل مؤمن ومسلم، لأننا لا نريد أن نرسل الكلام على عواهله ولا أن نصف ونسرد الأدلة متتابعة في الأهمية أو الوجوب ثم لا يكون لنا من وراء ذلك عمل نقوم به ولا مهمة نتصدى لها .
وما جاس المنكر خلال الديار وما دخل إلى عقر الدار، وما ظهرت أعلامه وما كثرت أقلامه، إلا يوم ضعف الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أو قل عددهم ، فكأنما خرست الألسنة ، وعميت الأعين ، وصمّت الآذان ، وماتت القلوب .. نسأل الله عز وجل السلامة .
فلعلنا نشير هنا إلى الأمر المهم الأول، وهو استشعار الغيرة الإيمانية، واستحضارها في القلب، تلك الغيرة التي تجعل القلب ينقبض والصدر يضيق، والنفس تتحشرج إذا رأت المنكر أو سمعت به، إنها النفس المؤمنة الصافية السامية، إنه القلب المؤمن المشرق الوضاء، الذي بمجرد سماعه أو رؤيته للمنكر تتحرك فيه المشاعر الإيمانية والغيرة الإسلامية، والحمية التي تدل على التشبث بهذا الدين والإتباع للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .. {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له}
تعظيم حرمات الله يشتمل على معنيين:
أي تعظيم ما له حرمة وتقديس أن ينتهك أو أن يجترأ عليه، فلا نقبل اجتراء وانتهاكاً لحرمة كتاب الله أو لحرمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لحرمة ما ثبت من شرع الله عز وجل من الأحكام القطعية الدالة عليها آيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومثل ذلك في المعنى أيضا أن يكون هناك الغضب لوقوع تلك المنكرات والمعاصي سواء كانت اجتراء على المعظم المحرم، أو كانت ارتكابا للمعصية والحرام .
قال السعدي في تفسيره { حرمات الله } : " كل ماله حرمة وأمر باحترامه ولذلك قال تعظيمها إجلالها بالقلب ومحبتها وتكميل العبودية فيها غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل " .
وقال ابن كثير رحمه الله : "ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه فهو خير له عند ربه " .
تلك هي الغيرة الإيمانية .. ويعضد ذلك ما جاء في سياق الآيات نفسها بعد آيتين : {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}
دليل القلب التقي النقي أنه يغضب إذا انتهكت محارم الله، وذلك ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه ) رواه البخاري .
وفي رواية مسلم ( إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ) .
وهذه مهمة عظيمة، لا يمكن أن ننبعث إلى إنكار المنكر وقلوبنا غير منكرة له، ونفوسنا غير متبرمة به، وحزننا غير مخالط لنا لما لهذا المنكر من اعتداء على حرمة الله، أو مخالفة لأمر الله أو مضادة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وانتبهوا إلى هذه الصورة التي يذكرها لنا ابن القيم رحمه الله ؛ لأنها صورة خطيرة من وجدت فيه دلت على ضعف إيمانه وزعزعة يقينه وعلى ذهاب الدلالات الواضحة على حياة قلبه، قال رحمه الله : "وأي دين وأي خير يرجى فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع، ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان " ثم قال: " وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت مآكلهم ورئاساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين - ثم ذكر الأمر الخطير الذي لا بدلنا من الانتباه له - وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون ؛وهي موت القلب ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ولرسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل " .
مقياس تعرف بها نفسك .. هل تغضب لحرمات الله المنتهكة وللمعاصي المنتشرة، أم أنه لا يضرك شيئ من ذلك، ولا تلتفت إليه ولا يسوئك في قليل أو كثير، لكن كما قال هو في مقالته: إذا أخذ شيء من مالك أو اعتدي على شيء من حظ دنياك، غضبت وأرغبت وأزبدت وقمت وانتصرت بكل ما بيدك من وسيلة .
فأول أمر لا بد من أن نحرص على وجود فينا : استشعارنا لعظمة وأهمية وضخامة دلالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان والغيرة والحمية الإيمانية ؛ فإن أحييناها وأشعلنا جذوتها وجعلناها حية في قلوبنا جارية مع دماءنا في عروقنا جائلة ، في خواطر عقولنا حاضرة ، في كلمات ألسنتنا فحينئذ تكون البداية الصحيحة التي تدفع إلى إنكار المنكر .(/1)
الأمر الثاني: المتابعة والموافقة والانتصار الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الآمر الأعظم بالمعروف والناهي الأمثل للمنكر هو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ومن عظيم صفته وسمته في هذا الأمر أن ذكرت صفته في الكتب السابقة منصوصا عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما نعلم من قوله عز وجل : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ... } .
ما هي الأوصاف ؟
{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
هذه سمة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفته في الكتب السابقة وصفته في سيرته الحية الناطقة .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في هذه الآية : "هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة وهكذا كان حاله عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله " .
ثم ساق عن الإمام أحمد من رواية أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه) ، قال ابن كثير: "هذا حديث جيد الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة " .
ثم ساق عن علي رضي الله عنه قوله: "إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا تظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنا والذي هو أنجى والذي هو أتقى صلى الله عليه وسلم " .
ما معنى هذا السياق الذي أورد فيه ابن كثير هذا الحدث وهذا الأثر عن علي رضي الله عنه، هو سياق مهم : ( إذا سمعتم الحديث ) قلوبكم تحبه وتعرفه تراه من الفضائل والقيم والأخلاق ومعالي الأمور ( ولانت له أشعاركم وأبشاركم ) تأثرتم به ورأيتموه قريبا منكم، تحبونه وتحبون اتصافكم به (فأنا أولا كم به) فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الناس أجمعين، بكل خير وبكل فضل وبكل خلق وبكل معروف .
(وإذا رأيتم أو سمعتم الحديث تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترونه منكم بعيد) أي ترونه قبيحا تبرءون منه، وتجتنبونه وتحذرون منه فاعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبعد الناس منه .
وذلك يدلنا على السمت الذي ينبغي أن نحرص عليه وهو طريقنا إلى أداء هذه الشعرية اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتفاتا إلى المعنى الحقيقي في اتباعه ونصرته لأن الآية في ختامها : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه }
أي الذين آمنوا به ووقروه واحترموه وعظموا قدره ومقامه ونصروه هم أولئك الذين قاموا بتلك السمات، سمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الحلال الطيب والتحذير من الحرام الخبيث ونشر السماحة واليسر كما كان عليه الصلاة والسلام .
فإذاً ثمة أمر مهم لكي ننطلق إلى هذه الشعيرة أن نعرف أن قائدنا وقدوتنا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأن حقيقة انتسابنا إليه ومتابعتنا له وانتصارنا وذبنا عن سنته مرتبط بإقامة هذه الشعيرة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وثالث الأمور: الإخلاص والتجرد لله عز وجل؛ فإن المزايدة أو الرغبة في لفت الأنظار أو بيان التقدم بين الناس مفاخرة أو مباهاة أو إظهارا للعلم أو مباهاة به أو انتقاصا للناس أو ازدراء لهم أو ظنا بأن مرتكب المنكر والعياذ بالله قد استوجب النار أو غير ذلك، كلها دلالات لا تبعث على أداء المهمة على الوجه الصحيح ولا يتحقق منها الأثر المرجو ؛ لأن الإخلاص هو قوام كل أمر هو الدافع الأول هو المقصد الأعظم هو الذي تبتغي به وجه الله عز وجل والدار الآخرة، لا ترجو به منفعة الناس بل ولا تخشى من هيبتهم كما سنذكر هذا الإخلاص هو مفتاح وسر التأثير، ألسنا أحيانا نذكر الناس ونعظهم؟ ألسنا نحذر من المنكر ونبين خطره، ألسنا نخاطب هذا وننصح ذاك، فما بال ذلك لا يجدي نفعا ولا يبدي أثرا، سر من أسرار عدم القبول، ليس في إعراض الناس، وليس في جهلهم وليس في مكابرتهم بل سر في إخلاص من أنكر، إخلاص من نصح، إخلاص من ذكر ووعظ، لم يرد بذلك وجه الله، لم يكن منطلقا بذلك من الغيرة على حرمات الله، له مصالح له أفكار، له مقاصد أخرى، فلا يصل حديثه إلى القلوب، ولا يؤثر في النفوس، ولا يقع به التغيير في واقع العمل والحال .(/2)
قال ابن النحاس رحمه الله في هذا المعنى كلاماً نفيساً، قال: "فمن أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها وفي الألسن الذربة فقيدها وفي أيدي السلطة فعقلها، وأما زماننا هذا فقد قيد الطمع ألسن العلماء فسكتوا ولم تساعد أقولهم أفعالهم ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم " .
يقوله ابن النحاس هذا القول منذ قرون مضت ليس منذ عشر سنوات أو عشرين، يقول عن زمانه واختلال الأمر في أحوال علماءه، فكيف بحالنا وأحوالنا، ثم يقول ابن القيم في هذا المعنى :
"رأس التقوى والإحسان خلوص النية في إقامة الحق والله سبحانه وتعالى لا غالب له فمن كان معه -أي معه الله عز وجل- فمن الذي يغلبه، أو يناله بسوء "
إن كان الله مع العبد فممن يخاف، وإن لم يكن معه فمن يرجو بمن يثق ومن ينصره من بعده، فإن كنت قد قلت القول لله فأنت مستمد قوتك من نصر الله ومن تأييد الله ولا تخشى أحدا إلا الله ويثبتك الله ، ويزيد في قلبك الجرأة والشجاعة والثبات، وإن كنت لغير الله خفت كل أحد سواه وإن كان مقصدك شيئا من مبتغى الدنيا فإنه لا أثرا لذلك ولا نفع فيه وهذا أمر مهم.
ويتلوه أمر رابع وهو : الشجاعة والجرأة فإن الجبن والذل والخوف عقد الألسنة فلم تعد تقول حقا، ولم تعد تنطق بخير، ولم تعد تنكر منكرا في جملة أحوالها، وتلك الشجاعة من دلائل قوة الإيمان ورسوخ اليقين، وتلك الشجاعة من آثار القبول، وبعض الناس قد لا يفقه هذا، إن مرتكب المنكر ذليل في حقيقة الأمر بذلِّ معصيته ، وذلّ منكره ، وذلّ مخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه ذل أيضا من خشية فضحه بين الناس في بعض الأحوال ، وفيه ذل أيضا بتخويفه من العقوبة الأخروية التي يؤمن بها ، وإن غطى ذلك بانغماسه في تلك المعاصي والمنكرات، فإن المنكر أقوى منه، وأشجع وأقدر على أن تقول الحق وأن تبينه، وكم من قائل بالحق بجرأة مع إخلاصه ومع استشعاره لعظمة هذه الشعيرة وغيرته وحميته الإيمانية قال قولا لمن هو أقوى وأكثر سلطانا وجاها ومالا فكان لقوله أثر في خوف ذاك، وفي اعتذاره وعلى أقل شيء في استتاره وسكوته، غير أننا عندما نرى الباطل منتفشا وربما يكون مرتكبه كما نقول قويا يداخلنا خوف وخشية لا ينبغي أن تكون على تلك الصورة التي نرى كثيراً من شواهدها وأمثلتها .
ولعلنا هنا نشير إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا فقال: ( ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بالحق إذا علمه )
والحديث الأشهر الأكثر رواجاً وحفظا بين الناس، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذنا في الله لومة لائم ) .
تلك البيعة التي بايعها الأنصار في أول الإسلام، قبل أن يكون جهاد وقبل أن يشرع قتال، قالوها وبايعوا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}
ومن هنا ندرك من أين تأتي هذه الشجاعة والقوة إنها من الأمر الأول السابق وهو الإخلاص لله عز وجل والثقة به ، والاعتماد عليه والالتجاء إليه ، وحسن الظن به ، والتماس الرجاء فيما عنده من الأجر والثواب، ذلك يدفع المرء إلى أن يكون على هذا المعنى وعلى هذا السمت المهم من سمات قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد قالها ولقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمتنا وعلمائنا بل وآحاد وأفراد المسلمين في كل عصر ومصر، وتكررت تلك الحوادث ولنا إليها عود من بعد.
وفي هذا المقام نتمم بالسمة الخامسة، وهي العلم والحلم؛ فإن هذه الشجاعة التي ذكرناها قد تصبح تهورا وحمقا، وقد تصل إلى مخالفة شرع الله عز وجل ونحن قوم لا ننطلق من دوافع أنفسنا ومن ردود الأفعال بل نحن منضبطون بأفكار الشرع وبضوابط الكتاب والسنة .
ولذا لا بد من العلم بما يأمر به وبما ينهى عنه وليس شرط أن يكون عالماً بكل شيء أو من كبار العلماء ، لكن إن علم حكماً ، وعلم وجوبه ، وعلم الدليل عليه ، وكان من الأمور الظاهرة المعروفة من الواجبات والأركان أو من المحرمات المنهي عنها قطعاً بلا أدنى شك وبلا أدنى اختلاف فيها، فإن الأمر حينئذ قد حق فيه العلم وصدق فيها وصف العلم به ، وهنا يجمع منع العلم الحلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ) .(/3)
فإن الغضبة والحمية للإنكار المنكر والشجاعة فيه لا تمنع، بل العلم والحلم يوجب التدرج ويوجب ما نفقهه من قول الله عز وجل في خطابه جل وعلا لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام عندما بعثا وأرسلا إلى فرعون أطغى أهل الأرض، قال: { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } .
البدء كذلك والعلم فيه، العلم بالمصالح والمفاسد وأن لا ينكر منكراً صغيراً يعلم أو يترتب عليه منكراً أكبر، وفيه تفصيلات وفروع مهمة لا بد من معرفتها ولا بد من الإلمام بها لكننا لا نجعل ذلك ذريعة أن نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا سئلنا لما قلنا نحن لا علم لنا، ولا بد أن يكون الآمر والناهي عالما، فيكون عالما بما يأمر عالما بما ينهى، فهل عندكم شك في أن الخمر محرمة، وأن مرتكبها أو شاربها ينكر عليه والدليل على ذلك واضح والحكم مستفيض ومثل ذلك في أمور الواجبات، هل ينكر أحد وجوب الصلاة أو جوب الزكاة أو جوب الصيام فتارك ذلك مما ينكر عليه ويذكر ويؤمر بالمعروف، فأمور الدين المعلومة من الدين بالضرورة والأحكام التي توافرت أدلتها وعلم حالها وعرف ما يتصل بها في كلام أهل العلم وفي أحوال أمة الإسلام، أمرها بين ظاهر، وكل ذلك مما يعيننا على الأداء لهذه المهمة والشعيرة، أسأل الله عز وجل أن يحيي الغيرة الإيمانية في قلوبنا وأن يرزقنا الإخلاص لربنا وأن يوفقنا للعمل على طاعته والنهي عن معصيته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
وإن من دلائل التقوى الغيرة على حرمات الله عز وجل وإنكار المنكر والأمر بالمعروف، ولعلنا نختم بأمر مهم فيما نحتاج إليه وهو أمر الطاعة والعصمة؛ فإن الحمية الإيمانية والشجاعة والجرأة وغيرها لا تكون سببا إلى إثارة الفتنة والبلبلة وإشاعة الفوضى وتجاوز الحدود وممارسة الإنكار بصور لا يسمح بها الشرع، ومن أجل ذلك وأعظمه ترك السمع والطاعة لولي الأمر والخروج عليه والظن بأن إنكار المنكرات طريقه مثل هذا، ويغيب هنا أمور ومسائل كثيرة يضيق المقام عن حصرها، غير أني أشير إلى ربطنا بقضية العلم، وخير الهدي هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم من كان يغار على حرمات الله وينكرها هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال لنا في حديثه الصحيح: ( من كره من أميره شيء فليصبر، فإنه من خرج عن السلطان شبرا فمات، مات ميتة جاهلية ) رواه ابن عباس في صحيح البخاري .
وقال ابن بطال في هذا الحديث: "في الحديث بيان على ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء " .
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك عنه عليه الصلاة والسلام: ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم - أي الدعاء بينكم متبادل- وشرارا أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ) ، فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيوف، قال: ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة ) .
هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل اندفاع طائش وكل عمل خارج عن ضوابط الشرع؛ فإنه هو في ذاته منكر ويترتب عليه من المنكرات ما هو أعظم .
ومن هنا كان من اعتقاد أهل السنة والجماعة المحافظة على الطاعة والعصمة والحرص عليها كما قال الطحاوي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والاستقامة " .
ومثل هذا المعنى مهم وهو متمم لذلك ؛ فإن الدعوة إلى الغيرة الإيمانية والشجاعة والجرأة منضبط بمثل هذه المعاني في العلم، ولنا تتمة نوضح بها كيف نطبق هذا عملياً ؛ فإنني أرى أن هذا الأمر لا بد فيه من استكمال صورته وتحديد خطواته ورسم معالمه، لأنه إذا تقاعسنا عنه فلم نعرف أهميته ولم نعرف واجبنا كأفراد نحوه، ولم نعرف طريقته وآليته بقينا على ما نحن عليه من التخلف والتقصير في هذه الشعيرة وجاء لنا وحل بنا وشاع فينا من السوء والضر والشر ما يتعاظم بالتقصير في هذه الشعيرة .
نسأل الله عز وجل السلامة والعافية ، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأن يقيم في مجتمعاتنا الدين والإيمان والإسلام والخلق والقيم الفاضلة .(/4)
صمام الأمان1
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
موضوعنا خطير، وأثره كبير، ونفعه إن تحقق عظيم، وضرره إن تخلف جسيم، انتبهوا جيدا، وأصغوا بقلوبكم قبل آذانكم، مقالات أبتدئ بها هذا الحديث لأؤكد على أهمية والعظمة، قال الغزالي رحمه الله –عن موضوعنا-: "هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل عمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة وعمت الفتنة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد " . نسأل الله عز وجل السلامة .
ويقول أبو بكر بن العربي أيضاً في موضوعنا : "هو ابتداء الدين والإسلام وهو انتهاءه " .
ويقول القرطبي : "هو فائدة الرسالة وخلافة النبوة " .
ويقول النووي رحمه الله كذلك : "هو باب عظيم به قوام الأمر وهلاكه " .
فهل جال بخاطركم ما هو هذا الأمر ؟ هل هو التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، كل ذلك يصدق عليها لكن هذا لا يخفى على أحد ! هل هو فرائض العبادات كالصلاة أو غيرها ، كذلك الأمر فيها عظيم ! غير أن العلم بها وافر، إنه أمر له كل هذه العظمة, ومع ذلك لا يكاد يلتفت الناس إلى أهميته، وزمنا بعد زمن، وعصراً بعد عصر تنحلُّ عراه، وتغيب شمسه، وتذوي جذوته، والأمر يشتد خطراً ويعظم ضرراً، وكثيرون ما زالوا عنه غافلين وبه غير عارفين، وعنه غير سائلين .. هل أدركتم ما هو ؟
أحسب أن بعضا قد أدرك وربما كثيرون لم يدركوا .. إنه قطب الرحى صمام الأمان ، خصيصة هذه الأمة، سمة الدين والعبودية الحقة .. إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هل نُدرك أن له هذه العظمة ؟ هل ندرك لما قال أولئك العلماء الأفذاذ هذه المقالات ؟ لم يأتوا بها من عقولهم ولا من بنات أفكارهم، جاءوا بها من نور قرآنهم ومن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم .
ومضات سريعة ننظر فيها إلى هذه الشعيرة في إسلامنا وقرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن ما أذكره ما هو إلا غيظ من فيض وقليل من كثير.
أولاً: حقيقة العبودية:
أكثر الناس يظنها في حفظ الصلاة والمواظبة على الصيام ومتابعة الحج والعمرة وإخراج الزكاة وليس وراء ذلك شيء، استمع لقول الحق سبحانه وتعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
انظر إلى الأوصاف المتعلقة بأهل الإيمان : {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين }
الصفة ملازمة لحقيقة العبودية وأداء الأركان والفرائض، قال ابن كثير في تعليقه وتفسيره لهذه الآية قال : "ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علماً وعملاً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق " .
أمران متلازمان في دين الإسلام، لا تكمل العبودية إلا بهما، عبودية الحق ونصح الخلق.
واستمع كذلك إلى الوصية العظيمة التي جاءت بها آيات القرآن تعليماً وتوجيهاً وتذكيراً وتربية لنا، وصية لقمان : { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } .
تأمل هذا التتابع في سائر الآيات بعد ذكر الصلوات بعد سرد العبادات تأتي هذه الشعيرة ظاهرة واضحة.
قال الرازي في تفسيره: "إذا أكملت نفسك بعبادة فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم "
فهل نفقه ذلك من سمت عبوديتنا وحقيقة ربانيتنا ؟
ثانيا: سبب الخيرية:
وكلنا يحفظ الآية وكلنا يرددها { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}
تأمل هذا المعنى أيضا خيرية واضح نصها وسببها وتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالاحتفاء به وبيان أهميته وتوكيده بتعقيبه بالأمر الذي لا خلاف فيه وهو الإيمان بالله عز وجل، روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس رعة –أي نوعا من سوء الأدب والطيش والسفه- قال رأى من الناس رعة فقرأ الآية : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} ، ثم قال: "من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدي شرط الله فيها " .
قال ابن كثير : " ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله جل وعلا بقوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ثم قال: ولما مدح الله في هذه الآية الأمة بهذه الصفات شرع بعد ذلك في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال: {ولو آمن أهل الكتاب}"(/1)
فهل نفقه أيضا أن سر خيريتنا وتشريفنا وتفضيلنا وتقديمنا مربطه وأساسه وقطب رحاه هو هذه الشعيرة، ومتى فقدناها فقدنا من الخيرية بقدر ما نفقد منها أو نفرط فيها.
وهل نكاد اليوم نضع الأصبع على الداء ونكشف بالنور موضع الخلل، فندرك أن كثيرا مما أصابنا من هواننا وضعفنا وخلافنا وفرقتنا سببه تفريطنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثالثا: سمة الإيمان
شعيرة تفرق بين الإيمان والنفاق جدير أن يعض عليها المؤمن بالنواجذ ، وأن يقبض عليها بكلتا يديه ولو كانت كجمر متقد ؛ لئلا يخرج من سمة الإيمان إلى وصف النفاق والعياذ بالله، الله جل وعلا يقول: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}
تلك سمتهم بصيغة المضارع الدال على الاستمرار، ولاء يقتضي ذلك الأمر والنهي، يقتضي النصح والتقويم والتكميل، وفي جهة مقابلة : {والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}
كم نرى من صورة لهذا في واقع أمتنا، كم نرى به من لسان ناطق، كم نرى فيه من مشهد حي عبر القنوات، وصور فاتنة آثمة على الصفحات، كم نرى له من رواج قد غضت عنه العيون فكأنها لا ترى، وخرست عن إنكاره الألسن فكأنها لا تنطق، وربما لم تشمئز منه القلوب ولم تنقبض منه النفوس، فكأنما قد غاب عنها هذا الشعور حتى في داخلها، في سويداء قلوبها وأعماق نفوسها .
تأمل هذا وتأمل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن درة بنت أبي لهب قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقام رجل فقال: يا رسول الله من خير الناس، قال: ( خير الناس أتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنكرهم للمنكر وأوصلهم للرحم ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
قال البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان: "إن الله جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين –ثم قال رحمه الله- وثبت بذلك أن أخص أوصاف المؤمنين وأقواها دلالة على صحة عقيدتهم وسلامة سريرتهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".
والبرهان الصادق على الإيمان الراسخ واليقين العظيم، والإيمان الصادق الدال على الغيرة والحمية الإيمانية، هو الكاشف عن حقيقة ما يستقر في النفس والقلب من حب الله وحب أوامره وبغض من يبغض الله أو يعاديه أو يعادي أوليائه وأحبابه ودعاته، تلك هي السمة الفارقة، فهل نزن أنفسنا، وهل نعرف المعيار الذي قد نخرج به والعياذ بالله من سمة الإيمان إلى وصف النفاق.
رابعاً: أمر مهم ضابط الصلاح والأمان
إنه لا سلامة للمجتمعات ولا استقامة لها، ولا دوام لحسن وصلاح أحوالها إلا بهذه الشعيرة {فلولا كان من القرون من قبلكم أول بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم}
آية عظيمة تخبرنا عن سر وسبب الفساد والانحلال الذي جرى عبر القرون المتتابعة كيف انحلت واضمحلت الديانة؟ كيف ضعفت أنوار النبوة عبر التاريخ رسولا إثر رسول وأمة إثر أمة؟
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض}
لو كان في كل أمة بقية صالحة مصلحة لا تكتفي بصلاح نفسها وعبادة ربها بل تتجاوز ذلك إلى إصلاح غيرها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر لكان الحال على غير الحال، ولكان الخير أوسع دائرة والصلاح أظهر وضوحا مما هو الأمر عليه.
وجاء الاستثناء للبقية {إلا قليلاً ممن أنجينا منهم} تلك القلة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصرف الله بها ما شاء من البلاء، ويكون لها ذلك السبب السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل .
قال السعدي في تفسير هذه الاية: " في هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ويبصرونهم من العمى، وهذه الحالة أفضل حالة يرغب فيها الراغبون وصاحبها يكون إماما في الدين إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين "
أتدرون ما شر انتشار أو كثرة الفساد، ألسنا نشكو اليوم أكثر شكوى مما كنا نشكو منه بالأمس، أتسمعون الحديث الصحيح المتفق عليه من قول أم المؤمنين تسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون ؟! فأجاب بلسان النبوة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال : ( نعم، إذا كثر الخبث)
وكلنا أو معظمنا يحفظ حديث السفينة، قوم في أعلاها وقوم في أسفلها، إن تركوا من في الأسفل يخرق غرقوا وهلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على يده نجوا ونجوا جميعا، ليس ثمة تصوير أبلغ من أثر ترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومآله الوخيم وعاقبته الجسيمة وضرره العميم من مثل هذا الحديث النبوي العظيم.
وروى الإمام أحمد والطحاوي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه ) .(/2)
وذلك أمر واضح ذكره العلماء وبينوه، قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى : " الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل الله به إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظلمة للخلق " .
وقال بلال بن سعد رحمه الله: "إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة "
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: " إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة لكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا كلهم العقوبة " .
هل نمضي ونزيد ؟!
أحسب في هذا كفاية لندرك عظمة هذا الأمر، هو قطب الرحى هو صمام الأمان، هو سمت العبودية والإيمان، هو مناط الخيرية والتقدم، هو الذي به يكون لنا تقويم كل اعوجاج وتصويب كل خطأ واستدراك كل نقص، به نضيق دائرة الفساد ونردم منابعها، به نجعل القلوب حية مشرقة مفرقة بين الحق والباطل، يبقى لها ذلك السمت الإيماني الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه يوم قال له سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك ) .
وبين له الإثم فقال: ( الإثم ما حك في القلب وتردد في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس )
أين هذه القلوب التي تشمئز وتنفر وتضيق وتتبرم بالمنكر إذا رأته أو سمعت عنه، هل هي صاحبة الفرقان المذكور في قول الحق جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم } .
يجعل في قلوبكم من الإيمان وشفافيته ونورانيته ما تميزون به بين الحق والباطل والخير والشر، وإن لم يكن لكم عندكم فيه برهان أو دليل واضح أو علم سابق ؛ لأن النفس المؤمنة والقلب المشرق بالإيمان ينفر بطبعه بما وقر فيه من كل معصية ومنكر، يضيق الصدر إذا فقد بعض الناس أموالهم كما أسلفنا في الأسهم، تنزل الدمعة من أعين الناس إذا فقدوا حبيبا أو قريبا أو حلت بهم نكبة، يعظم الهم ويتعاظم الغم إذا حصل كذا وكذا، فأين مثل هذا أو شبهه إذا وقعت المنكرات وعمت ولم تجد لسانا بالمنكر ناطقا، ولا يدا له كاتبة أو مانعة، أين هذا من قلوبنا ونفوسنا، أليس ذلك جديرا بأن نقف عنده وقفات، وإن ملأنا المساجد بالصلوات، وإن أكثرنا من الصيام والتلاوات والدعوات ؛ فإن دين الله عز وجل شامل كامل، وإن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن من وقر الإيمان في قلبه وتحقق بالعبادة في حياته لا يملك إلا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يستقيم له حال لا يطمئن له قلب، لا يلين له جنب إلى أن يرى الحق ظاهرا والمنكر متواريا، فإذا تغير الأمر كان الحال على غير الحال، كلنا يدرك هذا المعنى وكلنا مخاطب به وأول من يخاطب به ولاة أمورنا من حكامنا وعلمائنا، وإن كان ذلك لا يعفي آحادنا من المسئولية بأي حال من الأحوال.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون }
قال الضحاك رحمه الله في هذه الآية: "ما في القرآن آية أخوف عندي منها أننا لا ننهى"
{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}
قال: إنها تخيفني، أولئك أحبار وربانيون وفي أمتنا علماء وأهل علم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم مسؤولية عظيمة .
نقل ابن جرير في تفسيره قوله بعدما ساق من أقوال السلف في هذه الآية قال:
"وكان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها"
فإلى علمائنا وإلى دعاتنا نبض قلوبنا ونظرة عيوننا، وتعلق أبصارنا بدوركم بقولكم بوقفاتكم بإحقاقكم للحق، بإعلائكم رايته، بثباتكم على الحق والمبدأ، باستنصاركم بالله وعزتكم به وعدم خوفكم من الباطل وأهله مهما كانت سطوتهم وقوتهم.
وإلينا جميعا كذلك، فإن النصوص الشرعية تخاطبنا فردا فردا، هل نريد بالعبادات والطاعات أجرا وتكثيرا لحسناتنا ونريد تكفيرا لسيئاتنا ذلكم كذلك في هذه الشعيرة العظيمة ( من دل على خير فله أجره وأجر من عمله إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) .
(لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) .
ثم في المقابل في التكفير يأتي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ( فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .(/3)
وكلنا يعلم كذلك الدوائر المهمة التي نحتاج أن ننتبه لها، لعل قائلا يقول: مالك جئتنا بهذا الموضوع ولم تعظمه علينا وتجعله كعبء وحمل ثقيل بل كجبال عظيمة فوق رؤوسنا أقول هذا سؤال تعرفون جوابه، فإننا نرى المنكر يجوس خلال الديار، ويدخل إلى عقر بيوتنا، ويشيع بيننا، وفي هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين التي لها كرامة عظيمة بما فيها من هذين البيتين العظيمين والمدينتين المقدستين وما فيها من دستور ونظام حكم يدل في كل حرف من حروفه وكلمة من كلماته على الاستمساك بالشرع والكتاب والسنة، وتنص أنظمتها كلها من حيث دلالتها وصياغتها على التزام الإسلام وعدم ارتكاب ما يخالفه، نرى في الواقع صورا كثيرة تزداد دوائرها وتتسع وتتنوع صورها، وقد آلمني الكثير والكثير مما يرى ثم يزداد ثم يتعاظم، ثم يتكرر ثم يستسلم الناس له، ولا يرون بأسا به، ولا يرون قدرة على إنكاره وكأنه أمر لا مفر منه، وكأنه شيء قد عذر الناس بتركه وترك الأمر والنهي عنه .
جد ذلك لي مجلة جديدة عجيبة غريبة أن تصدر من ديارنا ولا أقول هذا إثارة وتعلمون أني لا أحب ولا أجيد هذا الفن، ولا أقوله تهجما على من وراءها أو من يقوم بها، ولكنها مهمة وواجب الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، مجلة كل صورها على غلافها نساء كاشفات الشعر مزينات الوجوه بالألوان المختلفة وعنوانها الرئيس الموجود على صفحة غلافها [ النساء يغتصبن الرجال] ، وداخل العدد، أبحث عما يقولونه عن عقل المرأة وفكرها ودورها وقدرتها على القيادة وغير ذلك مما يرددونه صباح مساء، فلا أرى إلا موضوعات سخيفة وبعض القضايا التي فيها كثير وكثير من التهجم على مجتمع هذه البلاد، والتهجم ضمنا قد يكون واردا، أو يفهم عند من قد يفهمه أنه يشتمل على ما يقوم به المجتمع من أسس الدين ودعائم الأخلاق وركائز القيم، تصف لنا كاتبة أم فلان، وهي امرأة في بيتها وعندها خادمة وعندها تسعة من الأبناء وعندها وعندها وعندها، وتصور تصويرا قبيحا لبيت كأنه من بيوتنا وترى أن كثرة الأبناء وأن بعض الصور كلها من الأمور المذمومة المرذولة .
أقول ألا يصدق ألا يصح ألا يسهل على كل أحد منا أن يكتب كلمات ويرسلها إلى أولئك، علّ الله عز وجل أن يشرح بها صدورهم علهم وكلهم من أهل الإسلام وفيهم بذرة الخير، علهم يرجعون إلى أنفسهم فيحاسبونها علنا على أقل تقدير نقيم حجتنا ونبرئ ذمتنا، وليس في هذا الباب فحسب بل الأبواب كثيرة، وقد اتسع الخرق على الراقع .. نسأل الله السلامة.
نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا ديننا وإسلامنا وأخلاقنا وقيمنا وأن لا يؤاخذنا بفعل السفهاء منا إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
وأعملوا أن من أعظم دلائل التقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنفسي ولكم أبعث هذه الرسائل الثلاث حتى لا تظنوا أن الأمر ليس متعلقا بنا وأن المهمة ليست مرتبطة بأعناقنا بل أزيد الأمر عبئا على عبء وثقلا على ثقل، عل ذلك يدفعنا جميعا إلى أن نسعى إلى إبراء ذمتنا وعتق رقابنا والقيام بواجبنا .
احذر الأعذار، الكثيرة هي الأعذار التي يمكن أن نقولها لنبرر لأنفسنا ترك هذه الشعيرة العظيمة، ما عسى أن ينفع قولي وما فائدة كتابتي، وما الأمر الذي يمكن أن يحصل لو قلت أو سكت، كلاهما سيان، ليس الأمر كذلك، لا تعذر بهذه الأعذار، لأن الله عز وجل قد بين لنا ذلك، فقال في شأن قصة أهل القرية وحيل أصحاب السبت { قالوا لم تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم ينتهون}
لا تدري رُبَّ كلمة تقع موقعا من قلب مرتكب لمعصية ومقترف لإثم فيتذكر بها ويتعظ ويرجع، قال النووي رحمه الله: "قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين والذي عليه الأمر والنهي لا القبول، قال الله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ}" .
وثانية أرسلها وأحذر منها، مداهنة الأشرار، كم نبتسم في وجوه الناس الذين يرتكبون المنكرات وقد يكون ذلك حال ارتكابهم لها، وإن كنا مصدرين في الناس أو مسموعي الكلمة، فإن ذلك تلبيس للحق بالباطل، كيف أرى مع من يرتكب المنكر حال ارتكابه، دون أن يسمع قول في الإنكار ولا فعل بهذا الإنكار، ولا مقاطعة على أقل تقدير لهذا المنكر، إنه أمر غير مقبول بحال، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } .
قال القرطبي: "دل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا صدر منهم منكر لأن من لم يحدث منه ذلك فقد رضي فعلهم "(/4)
ثم قال في قوله: {إنكم إذا مثلهم} "كل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وقالوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية".
وآخر هذه الإنذارات احذروا هدم آخر الأسوار، سور إنكار القلب وكلكم يعلم حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
كلنا يحفظ كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة رضي الله عنه : ( تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تكون القلوب على قلبين قلب أبيض لا تضره فتنة وقلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروف ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) .
وكذلكم نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه وهو حديث طويل من حديث حذيفة: ( ثم تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) .
فهل نريد أن نفقد حبة الخردل الأخيرة من إيماننا، نسأل الله عز وجل السلامة.
صور كثيرة وحديثنا في هذه الشعيرة وفي صمام الإيمان موصول، نسأل الله عز وجل أن يحفظ بلادنا من المنكرات ، وأن يشيع فيها الخيرات ، وأن يجعلنا من الناطقين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والآخذين بهذه الشعيرة العظيمة ..(/5)
صنائع المعروف ...
بسم الله الرحمن الرحيم ...
معنى المعروف وأهمية هذه العبادة
1- المعروف المقصود هنا هو فعل الخير وإسداؤه للعباد، سواء كان هذا الخير مالاً كالصدقة والإطعام وسقاية الماء وسداد الديون، أو جاهاً كما في الإصلاح بين المتهاجرين والشفعة وبذل الجاه، أوعلماً، أو سائر المصالح التي يحتاجها الناس، كحسن المعاملة وإماطة الأذى وعيادة المرضى، و...
ومن النصوص التي أشارت إلى تنوع هذه العبادة قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ذر قال: قلت: يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يصلون ويصومون ويحجون! قال ((وأنتم تصلون وتصومون وتحجون)) قلت: يتصدقون ولا نتصدق؟ قال ((وأنت فيك صدقة، رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الأرثم(الذي لا يبين الكلام) صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة)) قال: قلت: يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال (( أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم)) قال: قلت: نعم قال (( فتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير )) [أحمد ح20856]
وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((على كل مسلم صدقة فقالوا يا نبي الله فمن لم يجد قال يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا فإن لم يجد قال يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا فإن لم يجد قال فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)) [البخاري ح1445، مسلم ح1008]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كل سلامى عليه صدقة كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ودل الطريق صدقة)) [البخاري ح2891، مسلم ح1009] 2- كثير من الناس يطلق معنى العبادة على مايتعلق بحقوق الله فحسب، ويغفل عن باب آخر عظيم، وهو حسن المعاملة مع العباد والإحسان إليهم.
أدلة صناعة المعروف من القرآن الكريم
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}[الحج:77] فقوله {وافعلوا الخير} أمر يشمل كل خير، وقال تعالى{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}[النساء:114]{وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}[البقرة:195]
أدلة صناعة المعروف وتعدد صوره من السنة النبوية
عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ونصف الأعمال أحب إلى الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً( في مسجد المدينة) ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)) [رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة ح906]
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه))[ابن ماجه ح237، وابن أبي عاصم في السنة، وحسنه الألباني بطرقه ، السلسلة الصحيحة ح1322]
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [البخاري ح2566، مسلم ح1030]
وعن أبي جرىٍّ الهجيميّ قال أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه إنّا قوم من أهل البادية فعلّمنا شيئًا ينفعنا اللّه تبارك وتعالى به قال ((لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط))[أحمد ح20110]
عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة))[مسلم ح1552]
عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء، فتلك سقاية سعد بالمدينة)) [النسائي ح3666، أحمد ح23333]
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره)) قال أبو هريرة ( ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) [مسلم ح1609، البخاري ح2463]
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).[مسلم ح35](/1)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء))[البخاري ح1432، مسلم ح2627]
عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إن الرجل ليسألني الشيء، فأمنعه حتى تشفعوا فيه فتؤجروا))، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا))[النسائي ح2557، أبو داود ح5132]
عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال:((الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)) [البخاري ح2518،مسلم ح84]
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كل معروف صدقة))[البخاري ح6021، مسلم ح1005]
عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك))[الترمذي ح1970، قال: هذا حديث حسن صحيح]
التحذير من ترك صناعة المعروف
{فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}[الماعون:4-7] {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين }[المدثر:41-44] {ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين}[الحاقة:34-35]
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم )) فذكر منهم ((ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) [البخاري ح2369]
عن أنس قال توفي رجل من أصحابه فقال يعني رجلا أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه)) [رواه الترمذي ح2316، وقال: هذا حديث غريب]
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ))[البخاري ح3318، مسلم ح2242]
وروى مالك أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو لك منفعة، تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله فقال محمد: لا فقال عمر: (لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك) فقال محمد: لا والله. فقال عمر: (والله ليمرن به ولو على بطنك) فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك.[الموطأ ح1463]
الأنبياء وصناعة المعروف
الأنبياء هم أسرع الناس إلى طاعة الله، فهم الذين قضوا حياتهم في دعوة الناس وهدايتهم إلى خيرهم، إذ حياتهم كلها بذل وتضحية ومعروف.
فهذا إبراهيم الخليل، بلغ هذه المنزلة بصناعته للمعروف، فقد روى البيهقي في الشعب بسنده إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يا جبريل لِم اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال لإطعامه الطعام يا محمد))[الدر المنثور 2/706]
وهذا موسى عليه السلام {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}[القصص:23-24]
وقال الله على لسان عيسى{وجعلني مباركاً أينما كنت}[مريم:31] روى أبو نعيم وغيره بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسيره للآية: ((جعلني نفاعاً للناس أين اتجهت)){الدر المنثور5/509}
وكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم ، قيل لعائشة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: (نعم بعد ما حطمه الناس) أي بكثرة حوائجهم [مسلم ح732]
ومن صور صناعته للمعروف صلى الله عليه وسلم ما جاء عن عبد الله بن جعفر قال: فدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)) [أبو داود ح2549](/2)
ومنه أيضاً شفاعته لمغيث عند زوجته السابقة بريرة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: (( يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعتِه قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: لا حاجة لي فيه)).[البخاري ح5283]
وقد صدق الشاعر حين قال عنه
تراه إذا ما جئته متهللاًكأنما تعطيه الذي أنت سائله
لو لم يكن في كفه إلا روحه لجاد بها فليتق الله سائله
صناعة المعروف عند السلف
كان السلف رحمهم الله أسرع الناس في صناعة المعروف وبذله:
ومن ذلك ما ذكر من إنفاق الصديق وعثمان والزبير وأمهات المؤمنين وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم، وهذا يطول ذكره.
ومنه أيضاً صنيع أبي بكر الصديق حين ولي الخلافة ، فكان في كل يوم يأتي بيتاً في عوالي المدينة تسكنه عجوز عمياء، فينضج لها طعامها، ويكنس لها بيتها، وهي لا تعلم من هو، فكان يستبق وعمر بن الخطاب إلى خدمتها.[أُسد الغابة 3/327]
ولما ولي عمر الخلافة خرج يتحسس أخبار المسلمين، فوجد أرملة وأيتاماً عندها يبكون، يتضاغون من الجوع، فلم يلبث أن غدا إلى بيت مال المسلمين، فحمل وقر طعام على ظهره وانطلق فأنضج لهم طعامهم، فما زال بهم حتى أكلوا وضحكوا .[الرياض النضرة1/385]
ومن صناعة المعروف أيضاً ماذكر عن علي زين العابدين، فقد كان أناس من أهل المدينة، لايدرون من أين معايشهم، فلما مات فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.
ولما غسلوه رحمه الله وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقله بالليل إلى بيوت الأرامل.[سير أعلام النبلاء4/393]
وهذا عبد الله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفقهاء، وكان من أراد الحج من أهل مرو إنما يحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المديون دينه ويشترط على الدائن أن لا يخبر مدينه باسمه[سير أعلام النبلاء8/386]
ثمرات صناعة المعروف
1- صرف البلاء وسوء القضاء في الدنيا
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) [ابن ماجه ح2417]
ولما عرض جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (( زملوني زملوني )) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب) .[البخاري ح4، مسلم ح160]
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو أمامة ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)) [رواه الطبراني في معجمه الكبير ح8014، وقال الهيثمي: إسناده حسن 3/115]
2- دخول الجنة
وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف)) [رواه الطبراني في الكبير ح8015]
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [مسلم ح1914]
3- مغفرة الذنوب والنجاة من عذاب وأهوال الآخرة
عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر ،قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: عز وجل تجوزوا عنه))
وفي رواية عند مسلم ((فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي )) [مسلم ح1560، البخاري ح2077]
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر)) [البخاري ح2466، مسلم2244]
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخذه، فشكر الله له فغفر له)) [البخاري ح2471، مسلم ح1914]
آداب صناعة المعروف
ولصناعة المعروف آداب، يتعلق بعضها بالصانع ، وبعضها بالمصنوع له.
ومن الآداب المتعلقة بمن صنع له المعروف:(/3)
1- شكر الله عز وجل أولاً، إذ هو المنعم الحقيقي، فهو أولى بالحمد من كل أحد، قال الله {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}[النحل:83]قال عون بن عبد الله : إنكارهم إياها : أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا، ولولا فلان لم أصب كذا وكذا.[الدر المنثور 5/155] وقد أسدي إلى بعض السلف معروف، فشكر الله ، ثم عاد إلى صاحبه في اليوم الثاني فشكره على معروفه، وقال: استحييت من الله أن أضيف شكرك إلى شكره.
2- شكر صاحب المعروف فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله )) [الترمذي ح1945، أبو داود ح4811، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]
عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه))[النسائي ح2567، أبو داود ح5109]
وعن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء))[الترمذي ح2035]
قال المكي بن إبراهيم كنا عند ابن جريج المكي فجاء سائل فسأله فقال ابن جريج لخازنه: أعطه ديناراً فقال: ما عندي إلا دينار، إن أعطيته جعت وعيالك، قال: فغضب وقال: أعطه.
قال المكي: فنحن عند ابن جريج إذ جاءه رجل بكتاب وصرة، وقد بعث إليه بعض إخوانه، وفي الكتاب إني قد بعثت خمسين ديناراً قال: فحل ابن جريج الصرة فعدها، فإذا هي أحد وخمسون ديناراً، قال: فقال ابن جريج لخازنه: قد أعطيت واحداً فرده الله عليك وزادك خمسين ديناراً [ذكره الترمذي عقب الحديث السابق]
3- أن يقبل المعروف الذي أسدي إليه، فعن خالد بن عدي الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه ))[أحمد ح17477]
ومن الآداب المتعلقة بصانع المعروف:
1- إخلاصه وإسراره بالعمل وعدم انتظار العوض من الناس، قال تعالى{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}[الإنسان:9]
وهذا عدي بن حاتم لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعروف والخير الذي كان يصنعه أبوه في الجاهلية ابتغاء المدح والذكر الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم (( إن أباك أراد شيئاً فأدركه )) [أحمد ح1888] أي الأجر من الناس بالثناء.
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا))[أبو داود ح3541]
ومن الإخلاص الإسرار بالمعروف،قال تعالى {إن تبدو الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}[البقرة:271] قالصلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء)) [الحاكم ح4]،وقال في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))[البخاري ح660، مسلم1031]
2- أن يبذله لمن يستحقه ويحتاج إليه من إنسان أو حيوان، أن يبذله للبر والفاجر بل والكافر.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم ((لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا طائر ولا شيء إلا كان له أجر)) [رواه الطبراني في الأوسط ، وقال الهيثمي: إسناده حسن. مجمع الزوائد 3/134]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال رجل لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)) [البخاري ح1421، مسلم ح1022]
3- أن يعلم أن معروفه نوع من المعاملة مع الله قبل أن يكون معاملة مع الخلق، فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي))[مسلم ح2569](/4)
4- أنه يقع عند الله بمكان مهما صغر شأنه عند الله، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [البخاري ح2472، مسلم ح1914]
عن عائشة أنها قالت جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)) [مسلم ح2630]
5- أن يبادر إلى حاجة أخيه ولو لم يطلبها منه، جاء مديون إلى سفيان بن عيينة يسأله العون على قضاء حاجته، فأعانه ثم بكى، فقالت له زوجته: ما يبكيك؟ فقال: أبكي أن أحتاج أخي فلم أشعر بحاجته حتى سألني.
6- المسارعة بالخير والمسابقة إليه{فاستبقوا الخيرات}[البقرة:148] عن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً أو موقوفاً ((التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة ))[أبو داود ح4810]
7- أن يستصغر معروفه ولا يمن به{لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}[البقرة:264] ...
كتبه
د. منقذ بن محمود السقار
mongiz@maktoob.com ...(/5)
صناعة الحج
بدر بن نادر المشاري ...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
فقد أقبل موسم الحج واقتربت أيامه المباركات جاءت لتكون شاهدة ً بما سيودعها الناس فهناك أقوام سيودعونها بصالحِ العملِ وعظيم ِ القربِ من صلاة وصيام وحج واعتمار وتنافس في الطاعات وتسابق إلى الخيرات ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) ، وأما الآخرون وما أدراك ما الآخرون فيا حسرةً على العباد فأخشى أن تضيع عليهم الفرصة من أيديهم كما ضاعت في مواسم كثيرة الفرصة من أيديهم فلم يرفعوا بها رأساً ولم يعرفوا لها قدراً فاتخذوها هزواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون، فإذا مضت عشرُ ذي الحجة ومضى يومُ عرفة ويومُ النحر وأيامُ التشريقِ كما مضت قبل ذلك دهور وأعوام وانصرمت سنون وآجال مضت خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً وعاد الحجاج إلى بلادهم وأوطانهم فهل سيتغير شيءٌ ما في واقعهم وحياتهم ، هل من أثر لهذه المواسم العظيمة والأيام الجليلة على سلوكهم وتصرفاتهم أي ايجابية تحققت على نطاق الفرد والجماعة وعلى مستوى الأمة الوسط التي أختارها الله لتكون شاهدة على الناس يوم يقوم الناس لرب العاملين ، أيها المسلمون أن من أبرز عوامل انحطاط الأمة وتخلفها وضيعتها وشتاتها أنها أمة لا تحسن الاستفادة من شعائر دينها العظيم أمة تغفل بكل برود عن الأسرار المذهلة والحكم العظيمة والفوائد الكبرى لفرائض الإسلام وشعائر الإسلام وقبسات النور التي جاء بها الإسلام ، إنها أمة تتعامل ُ مع شعائر دينها . وفرائض شعائرها وفرائض شرعها بصورة رتيبة مملة ينتابهُا البرود ويغشاها الجمود ويغلفها الذهول والشرود ، وإلا فما معنى أن يتحول الحج في أذهان الكثيرين وفي أحاسيسهم وتصوراتهم إلى مجرد ساحة مترامية الأطراف تسمى المشاعر المقدسة يزدحم فيها أناس كثيرون يؤدون المناسك بكل اندفاع وعجلة دون أن يستشعرا معنى ً لما يفعلون أو مغزىً لما يصنعون ولو تأملت أحاديث الناس في مجالسهم أثناء الحج وبعده لوجدتها لا تكاد تخرج في الجملة عن أعداد الحجيج وكثرتهم وعن الزحام وكثافته وعن الحر وشدته أما أن يتحدثوا عن الحج وآثاره عن الحج ودروسه عن الحج وعبره عن الحج وفوائده ومواعظه وكنوزه فذلك عزيز المنال قد نسى ذكره وأهمل شأنه ولعمرك إن ذلك لهو الحرمان المبين .
أيها المسلمون ـ أيها الأحبة في الله هذه بضاعة مزجاه وجهداً لمقل نتذاكر من خلالها شيء من آثار الحج ودروسه والتي بدونها يصبح الحج عديم الفائدة مبدداً للجهد مبعثراً للوقت والمال والله ثم والله إن هذه الدروس لهي المقياس الحقيقي الذي يحكم من خلاله بنجاح موسم الحج من عدمه ، وإنها لهي بعض المنافع التي أشار إليها القرآن الكريم بقول الباري جل جلاله { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } وفي يقيننا أيها الأحبة في الله أن تسليط الأضواء وتوجيه الاهتمام نحو مقاصد الحج وغاياته ودروسه وآياته كفيلً بتحقيق إنجازات لا يستهان بها ونتائج لا يهونُ من شأنها تقطعان بالأمة شوطاً إلى الأمام وتحجزان لها مقعداً في مقدمة الصفوف وتقفزان بها إلى مراتب العلياء وإلى مواقع الجوزاء فأرخي السمع يا رعاك الله واستحضر القلب يرحمك الله وهناك دروساً من مدرسة الحج الكبرى ، هناك دروساً من مدرسة فرضها الرحمن وبينها القرآن ووضع معالمها سيد ولد عدنان .
أما الدرس الأول:
(لله رب العالمين)(/1)
من هذه المدرسة الركن فهو الإعلان الصارخ والنبأ العظيم بتجريد التوحيد لله رب العالمين إنه الإعلان للتوحيد منذ اللحظة الأولى التي يتنافس فيها الحاج بالنسك وحتى اللحظة الخيرة التي يفرغ فيها منه ، فتلبيته توحيد وطوافه توحيد وسعيه توحيد ووقوفه يوم عرفه توحيد ومبيته عند المشعر الحرام توحيد ورميه الجمار توحيد وحلقه ونحره توحيد وإفاضته توحيد ووداعه توحيد { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فلا خير في الدنيا بلا توحيد ولا نصيب في الآخرة بلا توحيد فمن أجله أسست المله ومن أجله شرعت القبلة ومن أجله خلقت السماوات والأراضون ومن أجله خلقت الأنس والجن والملائكة أجمعون والعبد الموحد هو من أقر لله بالربوبية المطلقة والألوهية الخالصة وأثبت لربه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا فهو موصوفٌ بالجمال منعوت بالكمال والعبد الموحد يعلن بكل قوة ورجولة وشجاعة أني لا أعبد إلا الله ولا أخضع لأحد سواه ولا ادعو إلا هو ولا أذبح إلا له ولا أقسم إلا به ولا أتوكل إلا عليه ولا أخاف إلا منه وأن مقاليد السموات والأرض بيده وأن مفاتيح الغيب والكبرياء والجبروت له وحده فالحكم حكمه والأمر أمره والشرع شرعه أحق من عبد وخير من ذكر وأكرم من سئل واجود من أعطى ومتى تغلغل هذا الشعور في حس المسلم وأعماق ضميره اتضحت له معالم الطريق وتجلت أمامه طرائق الحياة وعرف من هو ومن يكون وإلى أين النهاية وما هو المصير وعرف لمن يسلم قيادة ولمن يخضع رقبته ولمن يصرف ولائه ، وعرف بمن يصول وبمن يجول وبمن يخاصم ولمن يحاكم ، كما أن العبد المسبح بحمد خالقه سيلحظ هذا إن كان ذا فطنة وذكاء .
إن كثرة أعمال الحج وتواصلها وارتباطها بكيفيات وأزمنة محدودة سيلحظ أن هناك مشرعاً واحداً هو الله جل جلاله له المشيئة المطلقة والإرادة النافذة في تشريع ما يشاء وفرض ما يريد مسلمٌ لشرعة ويخضع لحكمة ويعلم يقينا أن كل شرع خالف شرع الله فهو شرع باطل . وكل أمر خالف سنة نبيه فهو رد قال الله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } وقال أيضاً : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا }
وأما الدرس الثاني
(إتباع لا ابتداع)
تجديد المتابعة في أداء العبادات عموماً وفي الحج خصوصاً لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو القائل ( خذوا عني مناسككم ) ، فلا يلبي إلا بتلبيته ولا تشهد المشاعر إلا كشهودة ولا ترمى الجمار إلا كرميه ولا تنحر الهدايا إلا كنحرة ولا يفاض بالبيت إلا كإفاضته ولا يعزم بشيء من أنساك الحج إلا بعزيمته ولا يُترخص بشيء إلا برخصته ، ولا مشروع إلا ما شرعه ولا محظور إلا ما حظره وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً .
إذا فليس لأحد حق القوامه على هذا الدين وليس لإحداث ما يشرع ما يشاء أو يفتي بما يريد أو يتقدم بين يدي الله ورسوله فالعصمة التامة لرسول الله والطاعة المطلقة لرسول الله والفتوى الملزمة هي لرسول الله ، فإذا أمرنا فلا أمر إلا أمره وإذا نهى فلا نهي إلا نهيه وإذا رأى فلا رأي إلا رأيهُ ، والمحروم من حرم بركة الإتباع والمفتون من فتن بحب المخالفة والابتداع ألا فليتق الله من أعجبته نفسه وغره هواه وضل يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين وزاده ، إثارة من علم وصبابة من سؤ فهم لا تعرف لرسول الله مقداراً ولا لجاهه وقاراً .
وأما الدرس الثالث
(مقياس ومعيار دقيق)(/2)
فيتضح من خلال لحجيج المجتمعين في صعيد واحد على اختلاف أجناسهم وألوانهم وتعدد ألسنتهم ولغاتهم يرتدون لباساً واحداً ويعبدون إلهاً واحد ويقتسمون شربة الماء ولقمة العيش يتجاورون في السكن والمبيت والإقامة والترحال في تلك المشاعر المقدسة يعانق المسلم الغربي أخاه المسلم الأفريقي ويحتضن الآسيوي آخاه المسلم الأوروبي وقد تناسى الجميع تماماً تناسوا كافة الوثائق الرسمية والهويات الشخصية والانتماءات الوطنية وانصهرت كل العلائق في بوتقة الإسلام العظيمة ، في هذه المظاهر كلها إعلان لسقوط كل الدعوات الأرضية والعصبيات الجاهلية والشعارات القومية والنعرات القبيلية والنداءات الوطنية والتي ما أنفك يدعوا إليها سفهاء العالم وشذاذ الآفاق الذين ملؤا الدنيا ضجيجاً بدعواهم المتهالكة واطروحاتهم الفارغة 0 متناسين بسفهم وغرورهم أن قيمة الإنسان ووزنه ورفعته ومحبة إنما هو بمقدار تمسكه بالإسلام وانتماءه بالتقوى والإيمان واعتزازه بالقيم التي جاء بها القرآن { يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
ولا فضل لعربي على أعجمي ولا ابيض على أسود إنه المعيار الأصيل والمقياس الدقيق لتفاضل الناس وتمايزهم وهو ذاك المعيار الذي رفع بلالاً وعماراً وابن مسعود ووضع أبا جهل ومسليمة وغيرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وما فقد المسلمون عزتهم ولا غابت هيبتهم واستأسدوا عددهم إلا يوم تأرجح ميزان العدل في حياتهم وسادت الحزبية في أوساطهم وارتفعت أسهم الطبقية في مجتمعاتهم .
وأما الدرس الرابع
(بناء الوحده)
هو الإعلان الواضح أن الطريق الوحيد لوحدة الأمة وتماسكها إنما ينطلق من شعاب مكة أرض عرفات 0 تلك الوحدة التي تقوم على أساس العقيدة الواحدة والإسلام الوسط ، حيث الإله الحق والنبي المعصوم ، فهي وحدة لا تعترف بالحدود السياسية ولا بالقيود القانونية ولا تبني جسورها على أساس المصلحة الدنيوية أو الحزبية الجاهلية ولا ريب أن أي محاولة حدودية لا تقوم على أساس العقيدة الصحيحة فهي وحدة آيلة لتفكك والانهيار طال الزمان أم قصر .
والمتأملون في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يدركون جيداً كيف تمكن عليه السلام من بناء الوحدة وصنع التلاحم الوثيق بين أناس كانوا إلى عهد قريب مضرب المثل في الشتات والفرقة والتشرد والاختلاف تسودهم الحروب الدموية وتسيطر عليهم العصبيات القبلية فإذا بعقيدة الإيمان تذيب كل تلك العقبات الكئود وتختصر كل تلك المسافات البعيدة لتصبح ملحمة التوحيد الكبرى وتضم جدار الإيمان الصلب في زمن أقرب للخيال وبجهد أشبة بالمعجزة ـ أيها المسلمون ـ المسلمون اليوم قادرون على إعادة المحاولة وتكرار التجربة في صدق عزائمهم وحسن نواياهم وخلت نفوسهم من الغش والخديعة والمكر والاحتيال وهم محتاجون للوحدة لاستعادة هيبتهم وبناء مجدهم ودفع مسيرتهم نحو السيادة والريادة فإن تعذر ذلك فلا أمل من الوحدة ، لدفع الصائل عن ديارهم والذل عن حرماتهم ووقف النزيف فوق أراضيهم الذي أراقه شراذم يهود يوم غابت الوحدة الجادة واختفى مفهوم الجسد الواحد
نهضة الأمة
في الحج دروساً لا تحصى ومآثر لا تنسى وما لا يدرك كله ولا يترك جله ، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى العودة إلى أصول دينهم وفضائل شريعتهم حيث العزة وأساس النهضة ومبعث القوة هم بحاجة إلى استخراج الكنوز واستنباط الدروس وتأمل العبر الذي تفضل به المشرع العظيم وتضمنها الشرع الحكيم ، مصيبة والله أن يمر الحج بعد الحج وعام بعد عام والفرصة بعد الأخرى دون أن يتقدم المسلمون ولو خطوة واحدة إلى الأمام ومصيبة أن يصل المسلمون في ذيل القافلة ومؤخرة القائمة وهم ينسبون إلى أعظم ملة ويحتضون أكمل شريعة ، لقد آن الأوان أن يستيقظ النائمون وينتبه الغافلون ويتقدم الراجعون فيرفعون الراية بشجاعة ويحملون الدين بقوة ينطلقون به إلى الأفاق يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله .
ما أعظمها من جناية وما افضحه من خطأ يوم زهد المسلمون في دينهم واستخفوا بشرعهم فحرموا أنفسهم وحرموا البشرية بهم بركات عظمة الأديان وأشرف الرسالات فإذا بالعالم كله يتخبط في ديار الظلام ويغرق في مستنقعات الرذيلة كل ذلك يوم يختلف الإسلام عن القيادة يتخلى المسلمون عن الريادة ورضيت خير امة أخرجت للناس ، رضيت بالتبعية والدون ألا إنها دعوة إلى إحياء شعائر الدين في النفوس وتصحيح العقائد في القلوب ومراجعة الواقع بصدق وتصويب الخطأ بإنصاف .
ألا إنها دعوة لتوظيف وصناعة الحج لمصلحة الإسلام وبناء الأمة وإيقاظ الغافلين ، بدءاً من تحقيق التوحيد ومروراً بإحياء سنة الإتباع و انتهاءاً بنهضة الأمة ووحدتها وسيادتها وريادتها وما ذلك على الله بعزيز .(/3)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
صيد الفوائد ...(/4)
صناعة القرار
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• أنواع القرارات .
• حيثيات اتخاذ القرار .
• أسس اتخاذ القرار .
• المعلومات التي نحتاج إليها لاتخاذ القرار .
• المحاذير في اتخاذ القرار .
• المؤثرات في اتخاذ القرار .
صناعة القرار
المقدمة :
نبدأ بالتعريف ، ونمضي بعد تعريف القرار إلى ذكر أنواعه وأسس اتخاذه والمحاذير والأخطاء التي قد تصاحب ذلك في بعض الأحوال.
القرار في أصل اللغة العربية مشتق من القرِ ، وأصل معناه على ما نريد هو : " التمكن " ، فيقال قرّ في المكان ، أي قرّ به وتمكّن فيه .
ومن هذا الباب الإقرار ، وهو ضد الجحود وهو الإذعان للحق والاعتراف به ، فإذا أقرّ الإنسان بشيء ، فمعنى ذلك أنه اعترف بخطئه وأعطى الحق لصاحبه ، فيكون بذلك قد اتخذ قراراً أمكن فيه صاحب الحق من حقه ورد الأمر إلى نصابه.
ومن ذلك أيضاً يوم القرِ ، وهو أول أيام التشريق في منى ، يسمى كذلك ؛ لأنه يوم استقرار وسكون ، وهذا المعنى هو الذي سيكون له ارتباط بمعنى القرار.
فالقرار هو أن تستقر على أمر وتميل إليه وتثبت عليه وتختاره دون غيره .
أما القرار الذي نتحدث عنه بمعنى أنك تتخذ قراراً ، أي تحدد أمراً للتنفيذ دون غيره من سائر الأمور فهو كما يعرّفه أهل الإدارة : هو التعرف على البدائل المتاحة لاختيار الأنسب بعد التأمل بحس متطلبات الموقف وفي حدود الوقت المتاح " ، ما معنى ذلك؟ إننا عندما تعرض لنا مشكلة أو نعزم على أمر ؛ فإن هناك عدة خيارات تظهر لنا فنحلّ المشكلة أو نتغاضى عنها ، أو نحلها بمواجهتها مواجهةً عنيفة ، أم نتخذ طريق التدرج ونحلها جزئيً، أم نستعين بغيرنا في هذا الحل هذه خيرات متنوعة ؟ .
فالقرار أن تعرف هذه الخيرات والبدائل ، ثم تصل إلى الخيار الأمثل ، وذلك من خلال التأمل وحسب الظروف المحيطة وحسب متطلبات الموقف ، وفي حدود الزمن المتاح ؛ لأن الزمن أيضاً أحياناً يكون له أثر حاسم في اتخاذ القرار ، فالذي يريد - مثلاً - أن يتخذ قراراً في أن يدرس في جامعة كذا وجامعة كذا لا بد أن يتخذ القرار قبل انتهاء مدة القبول والتسجيل ، فإذا اتخذ قراره بعد ذلك أبح قراره بعد فوات الأوان كما يقال .
إذاً فالقرار الذي نتحدث عنه هو كيف تختار الأمثل والأفضل والأكمل ليكون له الأثر النافع والمفيد في المدى القريب والمدى البعيد بإذن الله تعالى.
أنواع القرارات
لأن هذا الموضوع في غالب الأحوال يتحدثون عنه في القرارات الإدارية في المؤسسات التجارية والمنشات الصناعية ، ونحن نتحدث هنا عن القرارات الشخصية في الحياة العامة على وجه الإطلاق.
أ – القرارات الفردية
هناك قرارات فردية وأخرى جماعية قرار فردي يخصك وحدك ، كما قلنا طالب يريد أن يحدد جامعة أو رجل يريد أن يختار للزواج امرأةً ، فهذا أمر محدود ، لكن إذا كان القرار يخص جمعاً من الناس أو يخص الأمة برمتها ،كقرار يتخذه الحاكم في مصلحة الأمة أو كحكم يتخذه القاضي بشأن متنازعين مختلفين .
إن مثل هذا القرار يكون أكثر حساسية وأكثر أهمية ، ولا بد له من مزيد من أخذ الأسباب الموصلة للقرارات ؛ لأن الأول قرار يخصك وحدك ؛ فإن وقع فيه خطأ فأنت الذي تتحمله وإن كان به ضرر فدائرته مخصوصة به وحدك ، أما أن يكون القرار تتخذه فيتضرر منه الآلف أو الفيام من الناس ، أو أن تتخذ الحكم فيتضرر به أو النظام فيتضرر به كثير من الناس فهذا أمر يحتاج إلى مزيد من الروي.
ب – القرارات المصيرية
أيضاً من جهة أخرى هناك قرارات عادية وأخرى مصيرية .. قرار عادي تريد أن تهدي لأخ لك هدية ، وهل يا ترى أهديه من الطيب أم أهديه كتاب من الكتب ؟ قضية عادية متكررة ليست خطيرة ولا كبيرة ، لكن هناك قرار ربما يكون بالنسبة للفرد وأحياناً على مستوى الأمة مصيرياً هل تريد أن تدرس أو تعمل؟ ربما يكون قرار مصرياً بالنسبة لك هل تريد أن تبقى في هذه البلاد أو ترحل إلى بلاد أخرى؟ هذه أمور لها آثار أكبر لذلك لا ينبغي أحياناً أن يزيد الإنسان من التفكير والبذل للجهد في قرار عادي يتكرر فيجمع جمعاً من الناس يستشيرهم .. هل يهدي هذا أو هذا ولا يكون ؟
أيضاً العكس فيأتي في قرار مصيري فيتخذه ويقرره وهو في جلسة لشرب الشاي دون أن ينتبه للخطورة التي تترتب على ذلك.
ج – القرارات الدورية(/1)
وهناك أيضاً قرارات دورية وأخرى طارئة ، ما معنى قرارات دورية ؟ أي تتكرر دائماً ، على سبيل المثال بالنسبة للطالب الاختبارات أمر يتكرر دائماً ، فيحتاج أن يقرر هل يبدأ بدراسة الكتاب أو بدراسة المذكرة أو يبدأ بدراسة المادة الأولى أم الثانية ؟ فالأمور الدورية مثلاً الشركات أو المؤسسات توظف موظفين لديها وأحيناً تفصل آخرين هذه الأمور الدورية المتكررة القرار فيها هو اتخاذ النظام الأمثل ، بحيث لا تحتاج في كل مرة إلى أن نعيد القرار ندرس القضية مرةً واحدة نضع شروط لتعليم الموظفين نضع نماذج نحتاج إليها وينتهي الأمر أما في كل مرة نعاود التفكير ، كلا ! قرار دوري يأخذ دائماً أما الشيء الطارئ الذي يحتاج إلى بعض ذلك الأمر إذاً فهمنا هذه الصورة العامة في القراراتِ وبأسلوب مبسط ويلامس واقع حياتنا.
أحب هنا أيضاً وقفة مع اتخاذ القرار ماذا يعني هذا الاتخاذ للقرار؟ فما هي بعض حثيثياته وملابساته ؟.
حيثيات اتخاذ القرار
أولاً : اتخاذ القرار لا يكتسب بالتعليم وحده وإنما أكثره بممارسة والتجربة
لن تكون صاحب قرارات صائبة بمجرد أن تقرأ كتاباً ، أو بمجرد أن تستمع لمحاضرة ، ولكنها التجربة تنضجك شيئاً فشيئاً .. ولكنها الخبرة تكتسب مع الأيام .. ولكنها الدربة يملكها الإنسان مع ممارستها شيئاً فشيئاً ..
ومن هنا يتميز كبار السن وأصحاب التجربة بالحنكة وصواب الرأي ودقة الاختيار أكثر من غيرهم ، فالغرّ الشاب الناشئ كثير ما لا توجد لديه الأسباب والملكات لاتخاذ القرار الصحيح ، هنا يحتاج إلى المشورة أو المعونة.
ثانياً : اتخاذ القرار أفضل من عدم اتخاذه وإن كان في القرار أخطاء
خاصةً في الأمور التي لا بد منها من اتخاذ قرار ؛ لأن عدم اتخاذ قرار يصيب الإنسان بالعجز والشلل في مواجهة الأحداث وحل المشكلات بعض الناس دائماً لا يبث الأمور لا يتخذ قرار يبقيها معلقة فتجده حينئذً شخص غير منجز ، ولا متخذ لقرار ، دائماً يدور في حلقة مفرغة ، يمرّ الوقت دون أن ينجز شيئاً ؛ لأنه لم يختر بعد " هل يدخل في كلية الطب أم يدرس في كلية الهندسة ؟ " يمر العام والعامين وهو على غير استقرار فلا ينجز ، والذي يتردد كثيراً فيدرس فصلاً في الطب والثاني يختاره في الهندسة ، ثم يقول : ليس ذلك اختياراً صائباً فيمضي للعلوم ، ثم يرى أنها لا تناسبه فتمر السنوات يتخرج الطلاب وهو - كما يقولون - يتخرج بأقدمية يكون معها قد استحق أن يأخذ عدة شهادات بدل شهادة واحدة .
أيضاً تضيع الفرص وتمرّ ؛ فإن لم تتخذ القرار وتغتنم الفرصة لأن الفرص لا تتكرر ، وهذه مسألة أيضاً مهمة ، البديل لاتخاذ القرار هو لا شيء ، واتخاذ القرار يكسبك جرأةً ويعطيك شجاعةً ، وأيضاً يتيح لك الفرصة للتقويم بعد الخطأ فلا تكن أبدأً متردداً في اتخاذ القرارات ، اعزم واعقلها وتؤكل ، وأمضِ فإن أخطأت فإن الخطأ تجربة جديدة وعلماً جديداً يفيدك في مستقبل الأيام بإذن الله عز وجل .
من المنطلق الإسلامي وجه آخر إن أخطأت فلك أجر واحد وإن أصبت فلك أجران ، فلماذا تحجم إذاً؟ ولماذا تتردد؟ خذ الأسباب واجتهد وامضي ولا تخشى الخطأ فإن الخطأ مع النية الصالحة السليمة ومع العمل الذي بني على اجتهاداً صحيح يكون مغفوراً بإذن الله عز وجل ، بل ويثاب صاحبه كما في الحديث من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ).
ثالثاً - ليس اتخاذ القرار مبنياً على العلم الشرعي فحسب
بل لكثير من الأحوال يبنى على معارف الحياة العامة وعلى طبيعة الظروف ومعرفة الأحوال وحاجات الناس ومصالحهم وهذه كلها تمثل أسساً لا بد من معرفتها عند اتخاذ القرارات .
رابعاً - اتخاذ القرار يحتاج إلى عقلية متفتحة مرنة
بعيدةً على الجمود وأحادية الرأي ؛ فإن الذي لا يفكر إلا من طريق واحد ولا ينظر إلا من منظار واحد تستغلق عليه أمور وتوصد في وجهه الأبواب ويظن ألا حل ويستسلم لليأس ، مع أنه لو نظر عن يمينه أو عن يساره أو خلفه أو أمامه لا رأى أبواباً كثيرة مشرعة وطرق كثيرة ممهدة إنما أعماه عنها أنه لم يتح لعقله أن يسرح في الآفاق وأن يولد الأفكار حتى تكون هناك مخارج عدة بإذن الله عز وجل.
خامساً - ليس اتخاذ قرار هو نهاية المطاف بل في الحقيقة هو بدايته
لأن اتخاذ القرار يحتاج بعده إلى التنفيذ والتنفيذ يحتاج إلى المتابعة والتقويم والتقويم ربما يدخل كثير من التعديلات على تلك القرارات ، فليس المهم هو اتخاذ القرار وإنما أهم من ذلك أيضاً ما بعد اتخاذ القرار.
أسس اتخاذ القرار
وهذه أسس مهمة ، ونحب في الحقيقة -كما أشرت - ألا نمضي مع ما يقرره الإداريون لمثل هذه الموضوعات فحسب فنحن لنا رويتنا ولنا ديننا وعندنا تاريخنا وبين أيدينا سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك كثير من الخير الذي قد نغفل عنه في بعض الأحوال.
الأساس الأول : الأساس الإيماني(/2)
وأحببت أن نبدأ بهذا ونركز عليه ونلفت النظر إليه ؛ لندرك أن كثير من الأمور بل ربما كل الأمور مفتاحها وصمام أمانها هو هذا الأساس الإيماني ، ماذا أعني بذلك؟ على سبيل المثال ونذكر بعض النقاط.
حسن الصلة بالله عز وجل ، ودوام الارتباط به ، واللجوء إليه هذا الأمر هو مفتاح لكثير من الخير ، وهو باب التوفيق ، وهو أساس في صواب الرأي وفي سداد القول ..
فإن من كان مع الله كان الله معه ، ومن تعلّق بالله أجرى الله الحق على لسانه ، ومن كان دائم الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى ، وفقه لما اختلف فيه من الحق بإذنه أن يصيب وجه الحق فيه .
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه يطلب من الله - عز وجل - أن يهديه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه ، وهذا من آيات القرآن أيضاً في الدعاء للمؤمنين هذه أمور أساسية ومهمة .
على سبيل المثال أيضاً استدعاء التوفيق بالدعاء وسؤال الله - عز وجل - الدائم لأن يخرجك من كل مشكلة ومعضلة ، هذا أمر من الأمور المهمة في حسن اتخاذ القرار أو صواب الحل للمشكلات ، وأيضاً ما هو من أحكام الدين وما هو من تشريعاته وعباداته فصلاة الاستخارة كان الصحبة - رضوان الله عليهم -يخبرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها ما هي صلاة الاستخارة ؟ إنها استمداد للتوفيق من الله - سبحانه وتعالى - إنها براءة من الحول والقوة البشرية إلى حول الله وقوته .. إنها طلب البصيرة أن يقذفها الله - عز وجل - في قلب المؤمن ليرى الحق حقاً ويرزقه اتباعه ، ولذلك ماذا يقول في دعاء الاستخارة ؟ ( إني أستخيرك بعلمك وأستعين بقدرتك ) ..
إنه طلب استمداد العلم من الذي وسع علمه كل شيء والقدرة من الذي نفذت قدرته في كل شيء وهو على كل شيء قدير ومن أنت؟ وما عقلك الذي تفكر فيه؟ ما إمكاناتك التي تستعين بها؟ إنها لا شيء إذا لم يكن لك توفيق من الله - عز وجل - إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده ، فنحن إذا أردنا أن نوفق في قراراتنا ونسدد في آرائنا ونصوب في أعمالنا ؛ فإن طريقنا الأول إلى ذلك فإن طريقنا الأول إلى ذلك هو أن نكون مع الله سبحانه وتعالى فيفتح علينا حينئذً بإذنه جلا وعلا.
الأساس الثاني : جمع المعلومات
لأن القرارات لا بد أن تبنى على المعلومات ولا تبنى على العواطف وعلى التخمينات ، إذ أردت أن تتخذ قراراً لتدخل - كما قلنا - في جامعةً بعينها أو في تخصص بعينه ؛ فإن أول بديهية هي أن تعرف هذه الجامعة ما كلياتها قد لا يكون فيها التخصص الذي تريد فانتهى أمرها في ثوانٍ معدودة ، أو قد لا تنطبق عليك شروطها فانتهى الأمر أيضاً دون الحاجة إلى بذل جهد .
المعلومات التي نحتاج إليها لاتخاذ القرار
1- المعلومات المطلوبة دون غيرها
بمعنى أنه ليس المراد حشد معلومات كثيرة ليست ذات صلة بالموضوع ؛ لأن هذه تشوش أكثر وتصيب بالحيرة بشكل أكبر ، إنما أريد المعلومات الحقيقية المناسبة للموضوع هذا .وكما قلت إذا أردت أن أدخل الجامعة فليس من داع أن آخذ معلومات عن الكليات المتوسطة ولا على المعاهد دون المرحلة الجامعية ولا أن آخذ معلومات عن المدارس الثانوية لأن هذا ليس مطلوباً في هذه المسألة.
2- المعلومات في الوقت لا بعده
لأنه إذا أراد مثلاً أن يعرف موعد التسجيل فعرف اليوم أن موعد التسجيل كان قبل أسبوعين أصبحت المعلومة غير مفيدة فالمعلومات القديمة لا فائدة منها.
3- المعلومات الدقيقة المحددة
المعلومات العامة لا تفيدنا هذه الجامعة جيدة وممتازة لا يكفي ولذلك تجد الدقة في المعلومات - وللأسف - أنها قد تكون في بلاد غير المسلمين أكثر لا يقول لك الجامعة ممتازة وتأخذ المرتبة الأولى ، كلا ! يقولون في تخصص كذا أفضل الجامعات هي هذه وفي التخصص الآخر جامعةً أخرى فليس التفضيل في الإطلاق وليس التحديد على سبيل الإجمال بل هو أمر دقيق محدد فلا بد من مثل هذه الدقة ؛ لأنها من أعظم الأسباب التي تعين على اتخاذ القرار أيضاً من الأمور المتعلقة للمعلومات هي المشروعية لمعنى مشروعية هذه المعلومات الوصول إليها هل هي معلومات توصل إليها لطريق غير مشروع ؛ لأنه يريد مثلاً أن ينشئ عمل تجاري في عمل ما فيذهب ويتلصص أو يسرق معلومات من الذين يعملون في هذا المجال ويكذب عليهم ، ويقول : جئتكم شارياً ، أو جئتكم لأكون شريكاً ثم يأخذ المعلومات ينتفع بها هذا ليس مقبول عند المسلم ؛ لأن الغاية لا تبرر الوسيلة في منهج المسلمين .
أيضاً لا يصح الخداع ولا تجوز التقية ، ولا ينبغي أن يكون هناك شيء من المغالطة لمثل هذه الأمور ، طبعاً المعلومة التي تأخذها هل هي مفيدة في الحد ذاته الجواب لا المعلومة تفيد بعد التفكير والتأمل .(/3)
خذ مثلاً النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر لما أراد أن يعرف قوة أعدائه وعددهم قال : كم ينحرون من الإبل ؟ فقيل له : كذا وكذا حينها عندما علم هذه المعلومة المعلومة ليست مباشرة في الأمر ، لكن كل ناقة أو كل جمل يأكله عدد من الناس ، قال : القوم بين التسعمائة وألف .. هكذا استنتج من المعلومة بمعادلة بسيطة ، ولذلك لا بد من تحليل المعلومات والاستفادة منها ، وهذا أمر - كما قلنا - مهم جداً .
طبعاً طرق تحصيل المعلومات إما أن تكون المعلومات متاحة ، وإما أن يسعى إليها الإنسان من خلال المقابلات ، أو من خلال الاستشارات أو من خلال الوسائل المتاحة في المعلومات من كتب أو غيرها.
الأساس الثالث : الاستشارة
وما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار .. الاستشارة والمشاورة أمر من صميم ديننا ، وقد أمر به من هو أغنى الناس وأغنى الخلق عن المشاورة .. إن قلنا : إن المشاورة تدل على نقص في عقلً أو تدل على فقر في خبرة ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مبرأ من ذلك ومع ذلك أمر بقول الله عز وجل : { فشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتؤكل على الله }، ووصف المؤمنون بأنهم كما قال الله عز وجل : { أمرهم شورى بينهم } .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( ما رأيت أحداً أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
وفي الحديث بسند الرجال ورجال الصحيح من حديث عبدالله ابن الزبير رضي الله عنه ( قال المستشار مؤتمن )، وهذا يدل على أن هناك من يستشار وأن الاستشارة مرغوب فيها وأنها تحتاج إلى الأمانة
وكما قال القائل :
الرأي كالليل مسود جوانبه **** والليل لا ينجلي إلا بمصباح
فأضمم مصابيح آراء الرجال إلى **** مصباح رأيك تزدد ضوء مصباحِ
فإن ملاقحة العقول وأخذ آراء الرجال يكون له أثر محمود في الوصول إلى الرأي الصحيح والاختيار المناسب بإذن الله - عز جل - وهنا نسأل من هو المستشار؟ ومن الذي نأخذ مشورته؟ ومن نسأل إذا أردنا أن نتخذ قراراً هناك أمران اثنان في الجملة صلاح، وكفاية يعني في المر الذي نستشير فيه .
وكما كنت أضرب مثلاً في بعض الموضوعات الأخرى كنت أقول : إذا تعطلت سيارة أحدكم فماذا يصنع وأين يذهب ؟ فأجاب الجميع : بأنه يذهب إلى الميكانيكي الذي يصلح السيارات ! وقلت : ولماذا لا تذهب إلى إمام المسجد ؛ فإنه رجل صالح يحفظ القرآن ويصلي بالناس ؟ فماذا يقول لك ؟ يقول : " هو صالح لكنه غير متخصص .. ليس هذا مجاله " بل هذا قد قاله أهل العلم في الحديث وهذا الذي مثل نضربه في علوم الحديث عند تدريسها ؛ لأن مالك - رضي الله عنه - كان يقول : " أدركت في هذا المسجد - وهو مسجد رسول الله - سبعين مما يستسقى بهم " ، فإذا صلاحهم وتقواهم كلهم لا يؤخذ منهم حديث ، ولم يقال ليس من أهله .. لم يتخصصوا فيه .. ولم ينتدبوا له .. ولم يحفظوا نصوصه .. ولم يعرفوا رجاله فلا يؤخذ منهم ، وليس ذلك قدحاً فيهم ، ولا نقصًا من قدرهم .
فينبغي أن نأخذ جانب الصلاح مع جانب التخصص فإذا أصابتك علة في بدنك فأذهب إلى طبيبً ثم اختر من الأطباء أصلحهم وأورعهم وأتقاهم فتكون قد جمعت بين الحسنيين ، فإذاً في جانب الصلاح الإيمان والصدق والإخلاص الإيمان فالمؤمن لا يكذب ، بل إنه يصدقق وينصح لك والإخلاص والشفقة فلإخلاص يولد الشفقة ؛ فإنه يريد مصلحتك فيخشى عليك المضرة ، وبالنسبة للكفاية علم بالأمر وخبرة فيه وتجربة سابقة فإن من حاز ذلك فإنه يكون أهلاً للمشورة.
ماذا تجني من المشورة والاستشارة ؟
1- أفكار جديدة قد تكون مناسبة وملائمة لا تخطر ببالك ولم ترد على عقلك ، وهذا شيء طبعي ؛ فإن الإنسان يفكر في الأمر فيرى فيه حلان أو ثلاثة ، فإذا سأل غيره زاده واحدة ، وإذا سأل ثالثاً زاده رابعاً ، لكن إذا استشار مائة جاءه مائة حلاً لم يعرف بعد ذلك ما الذي يختار منها يغرق في بحر من هذه الاختيارات ، فلذلك ينبغي أن تكون الاستشارة محدودة بقدر الحاجة - كما قلت - إذا أردت أن تهدي هدية استشر واحداً ممن حولك ، هل أهدي هذه أو تلك ؟ لكن لا تجمع لها كل أصدقائك وكل الخبراء والعلماء حتى يعطوك رأي في مثل هذا ؛ فإن هذا يزيدك حيرة وأيضاً يضيع الجهد والوقت في مثل هذا ، ثم أيضاً يكون في المشورة نوع من تحمل المسؤولية ؛ فإن الإنسان إذا اتخذ القرار وحده فأخطأ عنّف نفسه ولامها ، فإذا كان قد استشار ذوي الخبرة ثم وقع الخطأ كان وضع ذلك على نفسه أخف ، ووطأة اللوم عنده أقل ، ورضاه عمن شهد فيه والأسباب الذي أخذ بها أكبر ، فيكون ذلك أعون له على أن يتجاوز الخطأ وينتفع به في مرات قادمة .
وهذه مسألة مهمة ؛ فإن بعض الناس ينفرد برأيه حتى إن كان الأمر يخصك إن أشركت غيرك ممن تثق به - كما قلنا - وفيه خير ، يكون لذلك أثر .(/4)
أيضاً المشورة تفيدك أمر مهماً وهي اكتشاف جوانب الخطأ والكسور فيما قد عرض لك من الخيارات والحلول قد تمضي وتقول إني أريد أن أفعل كذا ، ورأيت أن أقول كذا وكذا ، أو أن آخذ بهذا الأسلوب فيقال لك لكن هذا بالتجربة يؤدي إلى كذا وكذا على الأقل تعرف ماذا يكون في هذا الاختيار حتى وإن اخترته قد يكون هو اختيارك بعد ذلك ؛ لأن أضراره أقل من غيره لكن تعرفها وتتوقعها وتستعد لها ، وهذا أيضاً أمر مفيد جداً .
النقطة الأخيرة في هذا من تستشير من حيث تنوع الناس هناك أصناف من الناس الأقربون والأدنون وأعظم الأصناف في هذا الوالدان والأساتذة والمربين هؤلاء هم أقرب ، وأيضاً أخبر وأكثر حرصاً على الشخص والإنسان والفئة الثانية الخبراء والمستشارون الذين ربما لا يكونون قريباً منك ولا يعرفونك ولا تعرفهم ، لكن عندهم من العلم والخبرة في هذا الشأن ما يجعلهم بصيرين قد مرّت بهم كثير من الأحوال التي قد تطابق حالك وعرضت لهم كثير من المشكلات التي قد تشابه مشكلتك ، فيكون لهم دور فيها والصنف الثالث هم أيضاً الأقربون والأصحاب متى يكون هذا في الأمر اليسير - كما قلنا - وفي الأمر الذي قد يكون صاحبك قد مرّ به أليس بالضرورة أن تكون الاستشارة من الأدنى للأعلى بل قد يستشير الأعلى من هو دونه أو من هو مثله في بعض الأحوال .
وأخيراً نقول : الاستشارة ليست قراراً وإنما سبب ووسيلة معينة لاتخاذ قرار الذي يشير إليك لا يتخذ قرار بالنيابة عنك ولا ينفذ شيئاً إنما يعطيك ما قد تستفيد منه بعض الناس يستشير ، ثم كأنه يقول لمن يستشيره : قم وأفعل بدلاً مني كذا وكذا كأنما إذا استشار أحياناً مثلاً في شأن الزواج يسأل عن هذه الأسرة أو عن تلك المرأة فيقولون : هي صالحة أو فيها خير هل أتزوج يقول له أعطيتك المعلومات ، ثم يقول هل أقدم فيسأل أنت الذي تأخذ المشورة ، ثم تتخذ قرارك لا أحد يتخذ قرار بدلاً منك .
الأساس الرابع : الإمكانات
الإمكانيات والقدرات ؛ فإنه قد تستشير ويكون الأمر أخذاً بهذا الحل ، لكنك إذا دققت عرفت أنك لا تستطيع ، وكل أمر لا تستطيعه تجاوزه إلى ما تستطيع ، وخذ الأمر الأقل حتى تكون أقدر على ما هو أكبر منه ، لذلك من المهم جداً أن يعرف الإنسان إمكانياته ؛ لأن ليست القضية هي اتخاذ القرار .. يتخذ القرار يقول : أريد أن أدخل كلية الطب طيب ما هي الإمكانيات مجموعه 60% ولا يعرف العلوم التي تتعلق بالطب وليس عنده حافظة قوية وهو مهمل ولا يحب الدراسة !
ما من شك أن هذا أمر غير مقبول وهكذا لا قيمة لقرار لا يمكن تنفيذه لا تتخذ قراراً وأنت تعلم سلفاً أنك لا تنفذه ؛ لأن ذلك يفت في عضدك ويشعرك بالفشل ويصيبك بالإحباط ، وهذا أمر مهم تأمل ما كان في شأن الصحابة - رضوان الله عليهم - في يوم بيعة العقبة الثانية لما كانوا نفراً قليلين أمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ، وكانوا يحملون بين جنوبهم إيماناً متقداً ، ويقيناً كاملاً ، وصدقاً وإخلاصاً فقالوا : " يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل هذا الوادي ميلة واحدة لفعلنا ! " ، وبذلوا للنبي - عليه الصلاة والسلام - هذا الاستعداد وكانوا صادقين فيه ، لكن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي كان ينظر بنور الله - عز وجل - وبتسديد الوحي لا شك ، لكنه أيضاً ينظر بالمقياس البشري والأسباب المادية المطلوب مراعاتها ، قال : ( إنا لم نؤمر بذلك ) .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - طاف حول الكعبة يوم عمرة القضاء وحولها 360 صنم ، ما كسّر واحداً منها ولا عابها ولا بزق فيها ، لكنه بعد أقل من عامين مباشرة جاء في يوم الفتح في أوانه وزمانه ومكانه وقدرته ، فدخل مكة فاتحاً وأخذ محجنه يطعن به في هذه الأصنام وهي تتهاوى ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ..(/5)
إن كنت ضعيفاً وخصمك قوي لا تستطيع في المصارعة أن تصرعه فانتظر حتى تتقوى أو خذ أساليب غير أساليب القوة خذ قوة العقل الذي قد تفوقه فيه فدبر الحيلة في مواجهته ورد كيده ، فالمسألة لا بد من معرفة مكمن القوة ، هل قوتك في ذكائك ؟ هل قوتك في بدنك ؟ هل قوتك في حسن معاملتك ؟ اكتشف قوتك في ما تحتاج إليه في الأمر التي أنت فيه ، ومن هنا هذا الأمر مهم ذكر ابن حجر - رحمه الله - في تعليقه على بعض الأحاديث ، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ذكر ما ذكره بعض أهل العلم كالشافعي وغيره عندما قالوا : " إن طلب العلم أفضل من أداء النوافل من الصلوات " ، علّق على ذلك تعليقاً جميلاً ما مفاده : " اعرف نفسك فإن كنت من أهل العبادة والجلد في الطاعة ، فخذ بها وزد منها ، وإن كنت من أهل العلم ؛ فإن أخذك له ربما كان أنفع " ، لكنه قال : " فإن كنت تعلم أنك من لست صاحب حافظة قوية ولا ذهن صافي ولا ذاكرة حديدية فلا تتعب نفسك ، ولا تضيّع وقتك في طلب العلم " ؛ لأنه سيتخذ مجالاً بمعنى ليس لطلب العلم الأساسي وإنما طلب العلم الذي تريد أتتطور فيه وأن تتوسع وأن تكون فيه صاحب اختصاص بما هو أكثر من حاجتك الشخصية فهذا أمر أيضاً مهم جداً.
الأساس الخامس التحليل والدراسة
فإن كل الذي ذكرناه من المعلومات التي جمعتها والمشورات التي حصّلتها ، والإمكانات التي عرفتها ، كل ذلك يحتاج إلى أن تدرسه مع بعضه البعض لتنظر في أمرك وتتخذ قرارك ما الذي تدرسه؟ وما الذي تحلله ؟ السلبيات والإيجابيات عندي خياران فأنظر لو أنني أخذت في هذا ما الذي سيحصل سأجني كذا وكذا وكذا ، وقد يقع علي كذا وكذا أنظر إلى الثاني فإن رأيت ترجيح المصالح أكثر من المفاسد كان هذا معين على اتخاذ القرار ، وأيضاً يدرس عنصر الزمن هل هذا القرار مسألة عابرة أم قرار مصيري؟ هل هو طويل المدى أم قصير المدى؟ فإذاً أحتاج لمثل هذا الأمر والتفكير فيه أيضاً أنظر إلى الآثار هل ستكون آثاره علي وحدي أم علي وعلى أبنائي وأسرتي ؟ علي وعلى حولي من الناس أم علي وعلى وزملائي ؟ ما الذي سيترتب على هذا القرار؟ هل القرار لذاته أم لغيره؟ هل أنا أريد أن اتخذ القرار لذاته أم أنا أريده أن يحصل شيء آخر متعلق به؟
من اللطائف مما يكون في هذا سئل عنترة عن شجاعته وخوف الشجعان منه كيف حصل ذلك؟ قال: " إني لأعمد إلى الرجل الجبان الرعديد فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الكني الشجاع " ، فهو ذهب إلى هذا قصداً لكي يكون عبرةً ولكي يكون رسالة إلى غيره فهذا كله أيضاً مما تنبغي مراعاته.
ولننظر إلى بعض الصور التي تعتبر أمثلة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض أصحابه ؛ لنرى أنهم كانوا يرون ذلك ويأخذون إلى ما أشرنا إليه من هذه الأمور .
النبي - عليه الصلاة والسلام - في يوم الخندق لما بلغه نقض قريضة من اليهود عليهم لعائن الله للعهد ماذا قال؟ أمر السعداني سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة أن يستجليا الخبر ، وهذا جمع للمعلومات والتأكد من صحتها حتى يبني القرار على أساس صحيح لا على مجرد شبهة أو وهم أو شائعة ثم أيضاً كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد ألا تكون للمعلومة آثار سلبية قبل اتخاذ القرار فقال : انظرا الخبر ؛ فإن كان كما قيل فألحنا لي لحنًا لا يعرفه غيري ، أي إذا كان اليهود نقضوا العهد فلا تصرحوا بذلك ولا تعلنوه بين الناس وعلى رؤوس الأشهاد لئلا يكون على هذا أثر في النفوس ، بل قولا قولً أعرفه ولا يعرفه غيري ، قالا : عضل وقارة.(/6)
ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتخذ قراراً ليخذل عن المسلمين ، ما القرار الذي أراده ؟ أراد أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة ؛ حتى يرجعوا إلى ديارهم فيتفتت تماسك المحاصرين للمدينة ، فهل اتخذ القرار وحده؟ وهل مضى فيه لسبيله؟ كلا ! قد استشار أصحابه ، فجاء إلى سعد وسعد - وهما زعماء الأنصار - فاستشارهم ، فقالا : يا رسول الله أوحي من الله لا رأي لنا فيه أم هو الرأي ؟ فقال : بل هو الرأي ، فقالوا : لقد كنا نحن وغطفان في جاهليةٍ وكفرٍ لا يطمعون منا بثمرةً من ثمر المدينة إلا عن قرى -يعني إلا ضيافةً - أبعد ما عزنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف يا رسول الله " ، فنزل الرسول - عليه الصلاة والسلام - عند رأيهم فاتخذ القرار بعدم الترخص لا مع غطفان ولا مع غيرها ، ولو مضينا مع هذه الصورة ؛ فإننا نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ القرار بالتماسك وبالصمود ، وأخذ لذلك أسبابه ، ثم أرسل حذيفة لمعرفة مزيد من أحوال القوم ، ثم قبل ذلك أيضاً استعان بنعيم بن مسعود لما أسلم قال : خذّل عنا ما استطعت ، فأخذ النبي - عليه الصلاة والسلام - بكل ذلك وقبل ذلك وبعده كان عليه الصلاة والسلام دائم الالتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى - فكان الأمر بعد ذلك بتوفيق الله ونعمته وقوته جلا وعلا : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال }.
موقف آخر أيضاً نراه كثيراً في سير ومواقف عمر الفاروق - رضي الله عنه - وهو إذا كان عرضت له المسألة يجمع لها كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار فيستشيرهم فيها ، وكان يستشير في سائر الأحوال ومنها استشارته في تولية الرجال ، وقد ورد أنه مرةً جاء إلى بعض الصحابة وقال : أشيروا عليّ في أمر قد أهمني يريد تولية رجل ، فأشاروا عليه برجل ، قال : ليس ذلك الذي أريد ، فقالوا : من تريد ؟ فذكر لهم المواصفات ، قال : أريد مؤمناً صادقاً قوياً في دينه آخذ بالجد في عمله ، فقالوا له : الربيع بن زياد الحارثي ، قال : ذاك الذي كنت انشدُ ، فأخذ برأيهم.
وقصة عمر في مشورته للصحابة في استشارته للصحابة في شأن أرض السواد في العراق ، لما فتح الله على المسلمين شاور الصحابة ثم مضى للرأي السديد ؛ لأن جعلها وقفاً على أمة الإسلام جميعاً الأمثلة في هذا كثيرة ، ومع ذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن صاحب المسؤولية العظمى وصاحب الولاية الكبرى وصاحب المهمات العظيمة ؛ فإنه يحتاج إلى أن يكون في آخر الأمر هو صاحب الرأي الأول والأخير بعد أن يستعين بالله وأن يستشير المستشارين ، وأن يأخذ بالأسباب كما فعل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عند حرب المرتدين جاء الصحابة كانوا على خلاف رأيه فأبدى لهم ما خفي عليهم من ذلك الأمر ، ثم كان حسمه وعزمه وتضييقه لفجوة الوقت ومبادرته لاتخاذ قرار كان له الأثر الأعظم في استبداد الأمن ورجوع المرتدين إلى الإسلام ، وحصول ما كان ينشده أبو بكر - رضي الله عنه - من تماسك الأمة ورجوعها إلى دينها فلم يمضي عام لم يمضي العام أقل من العام خمدت فتنة الردة وتماسكت الأمة ، ثم سير الجيوش إلى فتح فارس والروم ولو تردد أو تأخر أو كان منه غير ذلك لكان الأمر غير ما مضت به أقدار الله سبحانه وتعالى.
المحاذير في اتخاذ القرار
1- لا للمجاملات في اتخاذ القرارات
فإنه من يأتيك من يستشيرك - على سبيل المثال - وترى أنه لا يصلح لهذا لكنك تجامله فتقول : توكل على بركة الله تكون غششته ولم تنصح له وتكون قد هيأت له سبباً أو أمراً يتضرر به وتقع به عليه مشكلة دون أن يكون لذلك فائدة ، دعه يعرف الحق ، أو حتى كن صريحاً حتى مع نفسك لا تجاملها يأتيك اللوم عندما تقول لا في البداية لكنه يأتيك مضاعفً عندما تقول لا في النهاية وهذا أحياناً يحصل في جوانب كثيرة فبعض الناس يتأثر بمن حوله فيقول : ماذا سيقول الناس عني الآن؟ ينتظرون مني قرار حاسماً ! أو يريد مثلاً جاءه الرجل الكفء المناسب لابنته وصالحاً تقي ماذا يقول؟ قل : أريد أن أوافق لكن البنت أختها قد تزوجت كذا ، والوسط الاجتماعي يقول كذا وكذا ، فيترك الرأي السديد والقرار الصائب مجاملة للآخرين دونما وجود ضرر حقيقي أو مخالفة حقيقة.
2- لا للعواطف
لأن العواطف عواصف ، وهذا نراه كثيراً بين الأباء والأبناء ،كم تغلب العاطفة الأباء والأمهات فيتخذون لأبنائهم قرارات ، أو يساعدونهم على مسارات هي عين الضرر عليهم .(/7)
وأيضاً كم تكون العاطفة سبباً في اتخاذ موقف لا يتفق مع المبدأ أو يخالف العهد والميثاق أو يخالف ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان العاطفة مؤثرة لا شك في ذلك لها أثر حتى في القرارات ، لكن إذا غلبت العاطفة أصبح الرجل - كما يقولون - عاطفياً يأتي المجرم المذنب الذي ثبت جرمه فيبكي عند القاضي ، فهل يقول له القاضي ما دمت تبكي اذهب فأنت من الطلقاء ؟ ضاعت الأمور واختلت الأحوال واطربت الحياة من كل جوانبها بمثل هذا ويأتي الابن وقد أخطأ ويستحق العقوبة واستحق على أقل شيء نوع من الحزم ، وشيء من الجد فإذا به يجد أباه يطبطب على ظهره ويبتسم له ويكافئه عند الخطأ ، فيكون ذلك من أعظم الأسباب والأضرار .
وتأمل كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف الموقف الحاسم في شأن العاطفة دونما نظر إلى تأثيراتها ، ما دام الأمر الذي حسم والقرار الذي اتخذ فيه الخير والمصلحة في يوم صلح الحديبية كان النبي - عليه الصلاة والسلام - مسدداً بالوحي لا شك في ذلك تحرّكت عاطفة نواره في نفس الفاروق عمر - رضي الله عنه - فجاء إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - ألسنا على الحق ؟قال : بلى ، قال : أليسوا على الباطل ؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ ونحن الآن في قوة لماذا نقبل بهذه الشروط؟ النبي عليه الصلاة والسلام يروض تلك العاطفة فيقول : إني رسول الله وإن الله لن يضيعني ..
انظر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - عندما ذهب إليه عمر وهو بهذه العاطفة ، ماذا قال الصديق رضي الله عنه ؟ قال : الزم غرزه فإنه رسول الله .
لكن الشاهد الأقوى في هذه الحادثة بعد أن أبرم العقد بالمشافهة ، وقبل أن يكتب جاء أبو جندل ، ابن سهيل بن عمرو والذي تولى عقد الصلح من كفار قريش لإجراء الصلح ، جاء وهو يرصف في قيوده مسلم مضطهد معذب مقيد ؛ جاء ليلتحق بالرسول وبالمسلمين ، فلما رأوه المسلمون تحركت نفوسهم ، وهاجت عواطفهم ، وكان موقفاً عصيباً وله وقع في النفوس عظيم ، فماذا قال سهيل بن عمرو ؟ قال : يا محمد قد لجت القضية بيننا - الاتفاق ابرم وإن لم يكتب - فأمر رسول الله أبا جندل أن يبقى مكانه ، وبقي - عليه الصلاة والسلام - على عهده ووعده ولم تغلب العاطفة في حادثةً قد يكون لها ضرر عظيم بل جعل العاطفة في حدها وجعل لها أوان يأتي بإذن الله عز وجل في وقتها.
3- لا للتردد والتراجع
كثيراً ما يتردد الناس ولا يعزمون أمراً ولا يتخذون قراراً ، ولا ينشئون عملاً ، ولا يبدون بممارسة ، فتضيع الأوقات دونما شيءً . وأيضاً التراجع يبدأ ثم يرجع ، ويأخذ ثانية ثم يتقاعس هذا أيضاً مبدد للجهد ومضيع للوقت ومؤثر في النفس ، وتأمل في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، يوم كانت العاطفة عند من لم يشهد بدر موّاره ، وكانوا يريدون أن يشهدوا غزوة وجهاد في سبيل الله كما شهد أصحاب بدر ، فألحوا على النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان رأيه أن يبقى في المدينة وأن يتحصن فيها وأن يكون موطن القتال في أزقتها فيكون له الغلبة على عدوه ، فكان الشباب المتحمسون يريدون الخروج والقتال والجهاد فبعد أن كثر الكلام ، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوال هؤلاء وهؤلاء دخل إلى بيته ولبس لامته أي - عدة حربه - فرأى أولئك النفر المتحمسون أنهم قد ضغطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنهم قد ألزموه أو ألجئوه إلى ما لم يكن يحب ، وإلى ما لم يكن يميل إليه ، فقالوا : يا رسول الله رجعنا عن رأينا فافعل ما بدا لك ،كان من الممكن أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يفصل الله بينه وبين عدوه ) .. القائد الأعظم ما يتقدم بقرار ثم بعد أسبوع يلغي القرار ، ثم يتخذ قراراً ثانياً ثم يبدله بثالث .. تصبح الأمور فوضى ، ويشعر الناس أن القائد ليس بصاحب خبرة ، أو على أقل تقدير أنه ليس بصاحب جد ولا اعتناء بالأمور ، أو أنه تؤثر فيه المؤثرات وتغيره المؤثرات ، فلا يكون حينئذً ثقة ولا حصول للمصلحة المنشودة في مثل هذه القرارات .
4- لا للإذاعة والنشر ( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان )
بعض الناس إذا أراد أن يفعل أمراً أو يتخذ قراراً أذاعه في كل الصحف والإذاعات هو يريد أن يتزوج امرأة وإذا به يشرق بحديثه ويغرب فتأتيه أمور لا يدركها أو لم يكن يحسب لها حساب ..
من تحتاج إليه واستعن على قضاء حاجتك بالكتمان ؛ فإن ذلك أوفق وأوصل إلى الغاية وإن كثرة الكلام وإشاعة الأخبار لا يحصل منها في غالب الأحوال فائدة .
5- لا للعجلة(/8)
فإن العجلة كثيراً ما تصاحبها الندامة ، وأيضاً البطء الشديد غير مطلوب ، لكن العجلة كثيراً ما نرى أحوال الناس مع طبيعة الحياة اليوم يقولون نحن في زمن السرعة أو في عصر البرق والاتصالات السريعة نعم نحتاج إلى رفع الكفاءة في اتخاذ قراراتنا لكن العجلة المفرطة التي لا تعطي للزمن قدره كثيراً ما تأتي بعواقب وخيمة وبأمور لا تحمد عقباها في غالب الأحوال .
المؤثرات في اتخاذ القرار
أولاً : القيم والمعتقدات
فإن الذين يدعون إلى اتخاذ القرارات بعيداً عن هذه القيم ، وبعيداً عن المعتقدات ، قوم متناقضون مع أنفسهم ومع حقائق ووقائع النفس البشرية وتفاعلها في الحياة لا يمكن ، والمسلم مطلوب منه أن يكون أساسه واعتقاده ومبدأه في اتخاذ قراره فيمن يوالي وفيمن يعادي ، فيمن يحب وفيمن يبغض ، فيمن يصل وفيمن يقطع ، أو فيمن يبذل له وفيمن يمنع عنه كل هذا مبني على هذه الناحية .
ثانياً : الشخصية والاهتمامات
لكل إنسان شخصيته ، ولكل فرد اهتماماته ، ولا يمكن أن يكون اتخاذ القرار مبرأ من أثر لهذه الشخصية ، وأمر ذلك الاهتمام .
على سبيل المثال لو جئت لرجل طبعه حاد ، وشخصيته -كما يقولون - صدامية تجد غالباً أن قراراته فيها شيء من الشدة والمواجهة ، وإذا الرجل طبعه الهدوء ، وميله إلى السكون ، وعنده من رحابة الصدر شيء كبير وعظيم ؛ فإن أيضاً قراراته تأتي فيها مسحة من شخصيته وبصمة من اهتماماته وهذا ليس فيه شيء إذا كان بقدره .
وأبو بكر - رضي الله عنه - نموذج للرقة وذلك عندما أمر النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة وزوجاته قال : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) فاجتهدن وامروا عمر ، فما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال : ( يأبى الله ذلك ورسوله ) ، قالت : إن أبا بكر رجل بكّاء يوشك إذا صلى بالناس يبكي ..
هذا الرجل الحليم الأسيف الكثير البكاء ماذا كان في يوم الردة ؟ كان أسداً عجيباً في شجاعته وجرأته ، حتى إن عمر الذي كان مشهوراً بالقوة والشجاعة والجرأة جاء يقول له : يا أبا بكر كيف تقاتل ؟ فضرب أبو بكر الرقيق على صدر عمر القوي ضربة قوية ، قال : أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر ؟! رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك يا عمر ؟! هذه شخصيته لكن إذا جد الجد ليست الشخصية هي التي تطغى وإنما متطلبات الموقف ، لكن يبقى أن رأي أبي بكر في أسرى بدر ماذا كان كان الفداء وكان رأي عمر بحسب شخصيته أقتلهم يا رسول الله لا تبقي منهم أحداً ، الشخصية لها أثر لكن لا ينبغي أن يكون أثرها غالب فتفسد اتخاذ القرار الصحيح .
ثالثاً : الميول والطموحات
و شهوة ما تجد أنه في قراراته يحسبها بالأرقام وبالحسابات الدقيقة كما يقولون ومن له رغبة في الأمور المعنوية وطموحاته دائماً في أن ينال شهادة تقدير لا يريد شيء يريد شهادة تقدير لا يريد مبلغ من المال تجد أيضاً تفكيره في الحلول وفي اتخاذ القرارات ينحو هذا النحو بطبيعة ما يطمح إليه وما يرغب فيه من الناحية النفسية هذا أيضاً أمر يحف بهذه القرارات .
وأخيراً نقول إن اتخاذ القرار في أخر الأمر له أثر في الراحة النفسية ، وإزالة الحيرة والاضطراب ، وله أثر في العمل والإنجاز وتحقيق الطموحات والآمال . ونسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نتخذ القرارات الصائبة وأن يوفقنا للحلول الصحيحة لمشكلات حياتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .
...(/9)
صوت العقل في زمن الفتن
الكاتب : المشرف العام على موقع الوسط
التاريخ : 1/9/1426
من طبيعة الفتن أنها أحداث تطيش معها العقول ، ويندر فيها وجود العاقل الحكيم الذي تناول الأمور بالحكمة ، ويعالج الأزمات بالعقل الرشيد ، ويتأمل في نتائج التصرفات وآثارها السلبية على المجتمع .
وأكثر ما يحرك الناس وقت الفتن مشاعر الغضب ورغبات الثأر وغليان العواطف وردود الأفعال .
قال فقيه الفتن والبصير بها حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : " تكون فتنة تعوج فيها عقول الرجال ، حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً " رواه نعيم بن حماد في الفتن ، وقال في كنز العمل : صحيح .
كما أن للفتن تأثيراً سلبياً على العقول لا تقل عن تأثير الخمر عليها بحيث يفتقد بعض الناس توازنه الفكري ، كما قال حذيفة رضي الله عنه : " ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتن " رواه ابن أبي شيبة وأبو نعيم في الحلية .
ومن طبائع الفتن كما يذكر حذيفة رضي الله عنه : " أنها تكون مشتبهة في أول أمرها " بمعنى أن الحق يختلط فيها بالباطل ، بحيث يشتبه الأمر فيها على كثير من الناس ، ولكن بعد انتهائها وخمود نارها تتضح فيها الحقائق ويشرق فيها الصواب ، فيحمد اللهَ تعالى العُقلاءُ الذين عصمهم الله تعالى من الولوغ في الفتن .
إن الانضباط بالعقل الرشيد والاتزان الفكري ومعالجة الأمور بالحكمة والروية من أعظم الأسباب التي تعصم الإنسان من الفتن ، كما أن اللجوء إلى ثوابت القرآن وقواطع الشرع – كتحريم دم المسلم وماله وعرضه ، والحرص على وحدة الأمة وسلامة صدورها وأمن مجتمعاتها – والبعد عن استباحة حدود الله بالتأويل والشبهة كذلك سد أبواب الفتن ، ويقي الأجيال من مخاطرها كما قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن : " وفينا كتاب الله ؟! قال : وفيكم كتاب الله ، قلت : ومعنا عقولنا ؟! قال ومعكم عقولكم " ، فهذا الصحابي الكريم كان يدرك تماماً الالتزام بمبادئ القرآن ومعطيات العقل الرشيد من شأنه الوقاية من الفتن .
إن فتح أبواب الفتن والاحتراب الداخلي وتوجيه السلاح نحو صدور المسلمين لن يخدم إلاّ أعداء الأمة ، وفي التاريخ القديم والحديث عبر ومواعظ للعقلاء ..
المصدر : الوسط نت(/1)
صور من الحروب الصليبية ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- استعراض تاريخي لجولات الصراع بين الإسلام والصليب. 2- جرائم صليبية بحق المسلمين عبر التاريخ. 3- البروتستانت والأصوليون المسيحيون يقفون إلى جانب اليهود. 4- كيف تتجاوز الأمة المسلمة هذه المحنة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد: يعود تاريخ الصراع بين الإسلام والنصرانية إلى بداية الجهاد ضد الروم في غزوة مؤتة، واستمر هذا الصراع مع حَمَلَةِ الصليب عبر الأندلس وصقلية وفلسطين وسواحل بلاد الشام، ناهيك عن الاستعمار الحديث في القرن التاسع عشر، فالحرب بين الإسلام والنصرانيةلم تتوقف أبداً منذ مطلع الدعوة الإسلامية وحتى عصرنا الحاضر. وما تزال هجماتهم بادية للعيان هنا وهناك، لتكون شوكة دامية في قلب العالم الإسلامي. إليكم نماذج تاريخية من هذا الصراع المرير مع الصليبيين:
فغزوة مؤتة كانت مثالاً للصراع المبكر بين المسلمين والبيزنطيين، عندما زحفت جيوش الروم مع حلفائهم من عرب غسان في السنة الثامنة للهجرة نحو الجزيرة العربية وكان الصليب شعار الروم آنذاك. واصطدم بهم المسلمون، وسقط عدد من الشهداء على أرض المعركة في مؤتة. واستمر الصراع بعدها لإعلاء كلمة الإسلام فكانت المعارك قوية متعددة، ومن أشهرها معركة اليرموك بقيادة كبار الصحابة رضي الله عنهم ورفعت رايات الإسلام على بلاد الشام خفاقة مشرقة كما أن الإسلام دخل مصر أرض الكنانة، وانتهى الأمر باسترجاع تلك البلاد من أيدي الروم الغزاة.
ثم جاءت معركة ملاذكرد والتي تعتبر من المعارك الفاصلة في تاريخ الصراع الصليبي مع المسلمين السلاجقة. انهزم فيها الروم ـ والحمد لله ـ هزيمة ساحقة حتى امتلأت الأرض في آسيا الصغرى بجثث القتلى، وأُسر الإمبراطور نفسه على يد القائد المسلم "ألب أرسلان" وكان الإمبراطور قد رفض مهادنة المسلمين، وسار بجيوش جرارة يعاونه كثير من النصارى الأوربيين، الذين وفدوا على بيزنطة ليساعدها في غزوها للمسلمين.
وتذكر المراجع التاريخية أنهم كانوا يحملون الصليب رمزاً لحربهم المقدس.
ومنذ أن وقعت الكارثة على النصارى في معركة ملاذكرد صاروا لا ينقطعون عن طلب النجدة العاجلة من البابوية ضد السلاجقة المسلمين، وكانت هذه الصيحات من جملة أسباب توجه النصارى الصليبيين إلى بلدان المسلمين، والتي عرفت فيما بعد بالحروب الصليبية الشهيرة. هذه الحروب التي استمرت مائتي سنة وكانت الحملات فيها تتوالى من الغرب الصليبي كالأمواج المتلاطمة واشترك فيها ملوك وأمراء أوربا وكان الصليب فيها شعارهم، واشتركت أقطار أوربا كلها القريب منها والبعيد، فكانت تمد الغزاة بالمقاتلين والسلاح والإمدادات طوال قرنين كاملين. فكانت عدواناً صارخاً حاقداً ليس له نظير في تاريخ الحروب العالمية إذ خلفت الخراب والدمار وكانت سِمتها المجازر الوحشية، مما يعتبر وصمة عار في تاريخ العالم النصراني.
جاءت بعدها حرب الإبادة في الأندلس ضمن سلسلة الصراع بين المسلمين والنصارى، هذه الأندلس درة الحضارة الإسلامية في أوربا خلال 800 سنة تعبث فيها أيدي الحاقدين من النصارى وتقضي على معالمها الزاهرة وأبنائها المسلمين، فتصبح أثراً بعد عين.
الأندلس التي كانت تتعالى فيها تراتيل المؤذنين أمست نواقيس الكنائس فيها تصم الآذان، حتى لا تسمع للتوحيد صوتاً في تلك الأرض التي أشرقت بنور الإسلام ثمانية قرون، وفي سنوات معدودة لم يبق للإسلام فيها أثر، وأصبحت خبراً يذكر، وليس الخبر كالمعاينة.
سقطت الأندلس بعد قرون من البناء والتقدم والازدهار وإشاعة العدل والتسامح مع جميع السكان من ذوي الأديان المختلفة كانت إبادة المسلمين في الأندلس وصمة عار أخرى على النصارى الصليبيين رغم السماحة التي عومل فيها النصارى من أهل أسبانيا طوال قرون خلت، إذ سمح المسلمون لهم أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيّن لهم حكام للأقاليم من أنفسهم، فتأمل في هذه المعاملة وبين ما فعله النصارى بمسلمي الأندلس حيث وصف الحال الشاعر أبو البقاء الرندي هذه المأساة في قصيدته المشهورة حيث يقول فيها:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان(/1)
أيها المسلمون، أوقع العثمانيون أيضاً هزائم عديدة لنصارى أوربا، كان من أهمها هزيمتهم في كوسوفو عام 1389م، حيث أحرز العثمانيون نصراً مؤزراً على جيوش النصارى التي بلغت أكثر من مائة ألف، فقتل منهم الكثير، وأسروا وغرق آلاف منهم في نهر الدانوب، وكان البابا هو الذي أمر بهذه الحملة ضد المسلمين. بعدها سقطت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، ومنذ ذلك التاريخ وحتى القرن العشرين وقادة أوربا يضعون الخطط للإجهاز على الدولة العثمانية واقتسام تركتها.
تبين للسلطان عبد الحميد حقيقة هذا التآمر الخبيث وقال بمرارة: "للصليب أن يتحد في كل وقت، لكن الهلال يبقى دائماً بمفرده".
وكانت عصبة الأمم وهيئة الأمم كالعروض بحراً بلا ماء، وما وجدت إلا لتُلبس الأعداء حلة قانونية ولتُسوغ الغزو العسكري الاستعماري بتغيير الأسماء، ولا يطيعها إلا عاجز ضعيف. وهذا هو واقع المنظمة الدولية حالياً، فهي ما وجدت أصلاً إلا لتبارك عدوان المعتدين.
واستمر القوم يتآمرون ويتعاونون ضمن خطة صليبية مع جمعيات الماسون السرية التي كانت تضم المجرمين من اليهود والصرب واليونان، وهم عماد الثورة التي عزلت السلطان عبد الحميد، وأسقطت الخلافة ليتحكم فيها جماعة الاتحاد والترقي، ومعظم قادتها وأعضائها من يهود الدونمة. ثم تمكن الاستعمار الخبيث من القضاء نهائياً على الخلافة واصطناع الحدود بين أقطارها عن طريق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة عام 1915م، وكان من أبرز شروطها انسحاب الحلفاء من تركيا لصالح صنيعتهم أتاتورك.
جاء بعدها الغزو الصليبي الجديد على بلدان المسلمين في صورة الاستعمار الأوربي. هاجم المستعمرون بلدان المسلمين وهم يحملون أحقاداً صليبية، وإن تسترت بشعارات الانتداب والوصاية وما شابه ذلك. فاستغلوا خيرات بلاد المسلمين من المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام، فلم تسلم دولة إسلامية حتى الباكستان وأندنوسيا من شرورهم، بينما لم تمتد يد المستعمر لأية دولة نصرانية.
فعلى سبيل المثال: استعمرت فرنسا الجزائر وحصل من اضطهاد أهلها ما تقشعر له الأبدان. يقول مؤرخ فرنسي وهو يتحدث عن غنائم الجيش الفرنسي من الجزائر: "وبيعت الغنائم وكان من بينها أساور نساء وهي لا تزال في أيديهن المقطوعة، وأقراط نساء لا تزال تلتصق بها قطع من آذانهن". بمثل هذه الروح الحاقدة استعمر الصليبيون الجدد بلاد المسلمين، وما خرجوا منها حتى تركوا فيها بصماتهم وخلّفوا عملاءهم الذين أكملوا المسيرة الشريرة. فتركوا البلاد مقطعة الأوصال، وقد اصطنعوا بينها الحدود التي ما تزال مشكلاتها قائمة حتى اليوم. وأطلقوا يد المنصّرين وسخروا المستشرقين لبث البلبلة الفكرية والعقدية في ديار المسلمين. ورسموا المناهج لتعليم أبناء المسلمين على الطريقة العلمانية، لإبعادهم عن معطيات دينهم وتراثهم الناصع.
أيها المسلمون، وضمن سلسلة الحروب الصليبية، تعاون النصارى مع المغول القدامى ضد المسلمين: فلم يكتف الصليبيون بمهاجمة ديار المسلمين، وإنما تآمروا مع قوى الشر العالمية لاستئصالهم، فتحالفوا مع المغول الوثنيين. ففي القرن الثالث عشر للميلاد ظهرت قوة التتار طاغية مدمرة، فتحالف معهم النصارى ضد المسلمين، وقد هدم المغول مساجد المسلمين وقتلوهم، وحرَصوا على حماية أرواح النصارى وممتلكاتهم وحافظوا على كنائسهم. وأحدثوا مذبحة في بغداد فقتلوا الفقهاء والعلماء كما أعدموا الخليفة، ولم ينج من تلك المجزرة سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى.
أيها المسلمون، ومن صور الحروب الصليبية تعاون أوربا النصرانية مع الصهيونية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فقد التقت مصلحة الصليبيين مع مصلحة الصهاينة من أجل تمزيق وحدة العالم الإسلامي بغرس النبتة الغريبة المسمى بإسرائيل في فلسطين، لتفصل مصر وشمالي أفريقيا عن بلاد العرب في آسيا، وحتى لا يفكر المسلمون بالعودة إلى مجاهدة الغزاة المستعمرين وطردهم من بلادهم.
لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ بداية القرن العشرين، ووافقت على تسليم فلسطين صافية إلى اليهود، لقد التقت المصالح القومية لبريطانيا مع الخلفية التوراتية لكثير من سكانها النصارى ذوي المنطلقات الأصولية التوراتية في تبني الكيان الصهيوني في فلسطين .
وفعلاً سلمتها بريطانيا لليهود عام 48م بعد أن اطمأنت إلى قوتهم، ومن ثم أسرعت كل من أمريكا وروسيا واعترفتا بدولة إسرائيل، وأخرجوا المسلمين من ديارهم وألقوا بهم لاجئين خارج وطنهم ليعيشوا في الخيام. إنها حرب صليبية.
ومما يدعم الحرب الصليبية دور الولايات المتحدة في حماية إسرائيل: فها هي تستلم حماية إسرائيل وتمدها بالمال والسلاح، وتسخر هيئة الأمم لمصلحة الصهاينة المعتدين.(/2)
والاتجاه القومي في الولايات المتحدة في العصر الحديث يتلخص في اعتقاد النصارى الإنجيليين التوراتيين بأن أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وسوف تكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة، وأنها ستكون معركة نووية تكون نهايتها دمار العالم وانهيار حضارته، ويعتقد هؤلاء أن نهاية المعركة ستكون انتصاراً للنصارى وتدميراً كاملاً للمسلمين.
يؤمن بهذا الوعد المحرّف سبعة من رؤساء الولايات المتحدة الذين جاءوا قبل بوش الأب. ويعتقدون أن أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد، وهو وعد محرف عندنا، ولا شك لأنهم سيكونون من جنود المسيح الدجال، وسوف يقتلهم المسلمون بقيادة عيسى عليه السلام تحقيقاً لا تعليقاً.
أيها المسلمون، ولا تزال الحرب الصليبية مستمرة بلهجة شرسة ليس لها نظير، إلا في مسلسل القوم الإجرامي منذ تخريب بيت المقدس وإراقة الدماء فيه بوحشية. فما أشبه الليلة بالبارحة.
ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية.
أما مذبحة المسجد الإبراهيمي فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ، كل ذلك يتم تحت مظلة النظام العالمي الجديد الذي يغض الطرف عن هذه المجازر وعن مثيلاتها في كشمير والفلبين والصومال وأرتيريا وأفغانستان والشيشان وغيرها.
وأما ما حصل من حرب صليبية في البوسنة فأمر كشف أشياء وأشياء، عن أحقاد القوم، وبانت سوءة الغرب في تلك الحرب التي فاقت وحشية المغول والتتار، فقد عذبوا أئمة المساجد وطالبوهم بالكفر بالإسلام، والإيمان بالنصرانية، وأجبروا كثيراً من المسلمين في مخيمات الأَسْر على أكل لحم الخنزير، وكان الإعدام الجماعي من سمات وحشيتهم، شمل ذلك الرجال والأطفال والنساء، بل كانوا يستنزفون دماء المسلمين لإمداد الصرب الجرحى بالدم المسلم. وكانت جائزة كل صربي يقتل مسلماً ما يعادل 300 جنيه إسترليني. وأما اغتصاب المسلمات العفيفات فأمر يندى له الجبين. وبلغ عدد اللاجئين الهاربين من هذه الوحشية أكثر من مليونين ونصف تلقفتهم الأيدي بين قابل ورافض. ولم يعرف العالم الأوربي لذلك مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.
إن مسلسل الإجرام الصليبي واحد لا يتغير مع توالي القرون، ومنذ عهد مجازر الحملات الصليبية الأولى، مروراً بمحاكم التفتيش ومجازر البوسنة وانتهاءً بآخر الحروب الصليبية هذه الأيام التي ما زالت في علم الغيب، نسأل الله تعالى أن يكفي بلاد المسلمين شرها.
في بداية حرب البوسنة صرح وزير الإعلام الصربي قائلاً: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة"، وهذه المقولة شبيهة بمقولة سمعها العالم قبل عدة أشهر نطق بها كبيرهم الذي علمهم السحر، فما أشبه الليلة بالبارحة.
قال الرئيس الفرنسي والذي يؤمل منه شيئاً في الحرب الصليبية الحالية عند زيارته لمطار سرايفو: "لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا".
وأما موقف بريطانيا فكما هو واضح الآن فقد كان واضحاً أيضاً في الحرب الصليبية البوسنية فقد قال رئيس وزرائهم: "إن الهدف النهائي لنا هو تقسيم البوسنة ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبداً".
أيها المسلمون، ومع كل هذا الكيد، إلا أن الأمل بالله جل وتعالى كبير في أن تنهار هذه الحملة الصليبية الجديدة كما انهارت الحملات الصليبية السابقة، وما ذلك على الله بعزيز، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
بارك الله ... ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله على إحسانه..
أما بعد: إن الشبه كبير بين واقع المسلمين المعاصر وما كان يسود بلاد المسلمين خلال فترة الحروب الصليبية، من حيث الغزو الجماعي الصليبي الشرس والاستيطان الظالم المدمر، وتفرق المسلمين وضعفهم وغياب الأسس العقدية الأساسية. ولن تتخطى الأمة محنتها تجاه الصليبيون الجدد إلا بما يلي:
أولاً: رجوع الأمة إلى هويتها الأصيلة وثقافتها المنبثقة عن عقيدتها، وأول هذه الشروط أن يشمل التغيير بنيتنا الفكرية على أن نلتزم بالتربية العقدية، فالمجتمع المفكك الفاقد لثقافته وهويته لا يمكن أن ينتج قوة عسكرية قادرة متماسكة.
ثانياً: نشر الثوابت العقدية بين الأمة، والتي لا مساومة عليها، من بغض الكفار وكفر اليهود والنصارى وتأصيل عداوتهم ومحاربتهم لنا، والحب في الله والبغض في الله، ينشر هذا عن طريق الشريط والكتيب والمطوية وكلمات المساجد وخطب الجمعة.
ثالثاً: نشر العلم الشرعي: عن طريق المدارس والمساجد والبيوت لأن هذا العلم هو الذي يحفظ للأمة أجيالها، فلا بد من وضع المناهج الكفيلة بتحقيق هذه الغاية والبعد عن كل ما يشوش على الناشئة تصورهم، وإحباط المناهج العلمانية التي سادت معظم ديار المسلمين والتي ورثناها عن المستعمرين ومخططاتهم الخبيثة.(/3)
رابعاً: إقامة الوحدة الإسلامية: وهذا مطلب شرعي وهدف عظيم حققه الإسلام منذ فجر الدعوة وصرنا أمة واحدة قوية متآلفة، هذا المكسب يجب المحافظة عليه وتجديده بكل وسيلة. وفي العصر الحديث قامت عدة محاولات للوحدة بين بعض الأقطار على غير رابطة الدين والعقيدة، فباءت بالخسران والفشل لأنها قامت على روابط قومية علمانية أو يسارية شيوعية، وكل تلك الروابط لا تجسد إرادة الأمة المسلمة ولا تمثل عقيدتها.
خامساً: التربية الجهادية: الجهاد ذروة سنام الإسلام وعموده، به يعز الله المسلمين ويذل الكافرين، فما تَرك الجهاد قوم إلا أذلهم الله وعمهم البلاء. بالجهاد انتشرت الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بعد إزالة الطواغيت وتصفيتهم. بالجهاد دب الرعب في قلوب المشركين منذ فجر الإسلام، وزُلزل اليهود والنصارى، فهَرعوا لمحاربة الروح الجهادية في نفوس أبناء هذه الأمة بالمكر والكيد عن طريق المبشرين والمستشرقين وأذنابهم من العلمانيين. قال أحد المستشرقين: "إن أوربا لا تستطيع أن تنسى ذلك الفزع الذي ظلت تحس به عدة قرون والإسلام يجتاح الإمبراطورية الرومانية من الشرق والغرب والجنوب". وقال آخر محذراً قومه من عودة الجهاد إلى نفوس المسلمين: "إن الشعلة التي أوقدها محمد ـ ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم ـ في قلوب أتباعه لهي شعلة غير قابلة للانطفاء". من أجل ذلك جنّد العدو أشياعه من العلمانيين ودعاة التغريب لطمس روح الجهاد الذي لا يمكن لهم طمسه مهما أوتوا من حيلة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ... ...
... ...
... ...(/4)
صور وعبر
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
صور وعبر متقابلة من قوة وعزة إلى ضعف وذلة ، نستجلي بها ما أخبرنا به الله - جل وعلا - من شروط النصر وأسبابه ، وما كشفته لنا سننه الماضية وآياته الناطقة من أسباب الضعف والخذلان التي تعود وترتبط بكل مخالفة وإعراض عن أمر الله - جل وعلا - وهدي رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
صور متقابلة ترينا من واقعنا ما الذي نرى فيه الخير فنؤيده ونسعى بكل ما يقيمه في واقع الحياة ، ونكشف كذلك من خلالها ما فيه الشر والضر وما ينبغي ألا نكون معه في سبيل ، وأن لا نمضي معه في عمل حتى نكون دائرين مع أمر الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
من تاريخنا صور متقابلة في هذا وذاك ، تجعلنا - دائماً - على تذكر وتدبّر واعتبار ..
مواقف لقائد عظيم من قادة الإسلام ، ومجاهد من أعلام المجاهدين ، وفاتح من مشاهير الفاتحين .. لم نأخذ سيرته من بين صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من أعيان التابعين ، بل هو من بعض القواد المتأخرين ، ذلكم هو فاتح المغرب الأوسط والأقصى ، والفاتح الأعظم في بلاد الأندلس - الفردوس المفقود الذي تذكرنا أحداث تواريخه عند سقوطه بكثير من مآلات الأمور في حياتنا العامة - موسى بن نصير ، القائد الإسلامي العظيم الذي توجه فاستعاد فتح بلاد المغرب الأوسط ، ثم ركب البحر وفتح طنجة ، وتوجه أيضا باتجاه الغرب حتى عاد وفتح بلاد المغرب الأقصى ، وتاقت نفسه كذلك إلى فتح بلاد الأندلس فأرسل واحداً من قادته يستجلي الخبر فخرج إلى قرية طريف من جهة البحر فيما يقابل المغرب ، فنزل بالجزيرة الخضراء وقاتل وغنم ، ثم رجع ومضى بعد ذلك مولاه طارق بن زياد ، لكن موسى بن نصير - رحمه الله - لحق به وسار في الفتح مسيراً أعظم ، وبخطة أحكم مما كان عليه من سبقه من قادته ، فمضى وكانت الفتوحات قبل مضيه فيما فتح الله عليه عظيمة بعث بها التابعي الجليل علي بن رباح ومعه أيضا رجل آخر إلى الوليد - الخليفة إذ ذاك - فقالوا في وصف ما فتح الله به على موسى بن نصير : يا أمير المؤمنين تركت موسى بن نصير في الأندلس ، وقد أظهره الله ونصره ، وفتح على يديه ما لم يفتح على أحد قبله ، ومضى يدكّ الحصون ويفتح البلاد ، ويغرّب ويوغل في أرض الأعداء حتى بلغ مبلغاً عظيماً وأراد أن يسير بجيشه فقالوا: أين تذهب بنا حسبنا ما قد ملكنا بأيدينا؟ إلى أين تريد أن تمضي؟ إلى أين تسير بك همتك العظيمة وروحك المجاهدة؟ حتى قال له بعض أعلام وأعيان ممن معه: أين تمضي فتهلك القوم والناس؟ فقال - رحمه الله - مقالة مشهورة نسبت له ، والتصقت بسيرته في التاريخ قال: " والله لو انقادوا إلى لقدتهم إلى رومية ولفتحها الله على يدي إن شاء الله " .
من تلك البلاد يريد أن يغرب حتى يمضي إلى روما متعلقا بالثناء والمدح الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفتح على يديهم تلك البلاد العظيمة فيما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن فتح قسطنطينة ورومية.
سليمان بن عبد الملك - الخليفة الذي كان بعد ذلك - لما فتح موسى بن نصير تلك البلاد ، وسطّر مآثر ومفاخر عظيمة في سجل الجهاد ، قفل راجعاً فلقيه سليمان ، ودار بينهما حوار يكشف لنا عن كثير من الأسرار ، وعن كثير من الأسباب الحقيقية للانتصار .. قال سليمان في حديثه إلى موسى: ما الذي كنت تفزع إليه وتلجأ إليه في تدبير أمرك وإحكام حربك؟ فكان جواب موسى رحمه الله قال: التوكل والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين.
أوجز القول وخلص إلى السر والسبب الحقيقي للنصر .. ليس كثرة جيش ولا إحكام خطة ، ولا زيادة عدة ، وإنما التجاء صادق ، واعتماد حقيقي على الله - سبحانه وتعالى - قال: فهل كنت تمتنع في الحصون والخنادق أو كنت تخندق حولك؟ أي هل كان من خطتك كقيادة عامة للجيش الحفاظ على روحك ونفسك ، فكنت تنزل في الخنادق أو تعتصم في الحصون؟ فماذا قال موسى بن نصير؟ قال راسماً لنا الصورة المثلى للقيادة العسكرية المؤمنة: كنت أنزل إلى السهل وأستشعر الخوف والصبر ، وأعتصم بالسيف والمغفر وأستعين بالله وأرغب إليه في النصر.
كنت أنزل إلى المنطقة المكشوفة ؛ ليكون في مقدمة الصفوف .. ليكون في أوائل المجاهدين .. ليكون القدوة لجيشه وجنده ، ثم يرغب إلى الله سبحانه وتعالى في النصر ، فيرسم صورة – أيضاً - مثلى فيما ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان إذا أرادوا النصر على أعدائهم .. إخلاص والتجاء إلى الله واستعداد وأخذ بالأسباب وشجاعة وإقدام وضرب مثل.(/1)
وهكذا يمضي الحوار معنا فيقول له سليمان الخليفة: أي الأمم أكثر قتالا؟ قد لقي القوط ولقي الروم ، ولقي الفرنجة ، وأقواماً مختلفين في تلك البلاد ، فسأله سليمان: أي الأمم أكثر قتالا؟ قال: هم أكثر من أن أصف .. قد كان كل قوم من كثرتهم ومن شدتهم ما لا يستطاع أن يقال أولئك أشد من هؤلاء ، فقال له سليمان: فصف لي الروم؟ فقال: أسد في حصونهم ، عقبان على خيولهم ، نساء في مراكبهم ، إذا وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن رأوا غلبة فأوعال تذهب في الجبال ، أي يفرون ولا يرون في الهزيمة عاراً.
هذه مدرسة موسى بن نصير يستقيها من القرآن الكريم يستقيها من سنة وهدي وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويجددها بعد عهود بل بعد قرون من الزمان فتعود غضة طرية متحققة فيها سنن الله ماضية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستمع إليه وهو يصف مسيره العظيم وجهاده الطويل فهل ترى جاهد عاما أو عامين؟ وهل ترى كان مرابطا أو فاتحا لفترة من الزمان قصيرة؟ وأي شيء جرى على يديه لما أخلص لربه ومولاه ولما كان معتمدا عليه كما سنرى في بعض مواقفه ومعاركه ، قال رحمه الله: والله ما هزمت لي راية قط ، ولا بدد لي جمع ، ولا نكب السلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين؟
يجاهد ويفتح وينتصر بإذن الله - سبحانه وتعالى - وهو يبين كيف تعلو راية الإسلام ؟ وكيف تظهر عزة المسلمين ؟ وكيف يدال على الكفر والكافرين ؟ وكيف يذل أولئك المعاندين والمعارضين إذا وجدوا عبادا لله أتقياء مخلصين ، له أصفياء شجعان ليسوا بالجبناء ، فهكذا ترينا تلك الصفحات من تاريخ موسى بن نصير كثيراً مما ينبغي أن نتأمله ونستمع إلى وصف بعض من كان معه من جنده لنرى كيف كانوا يرون في سيرته ومسلكه ، وفي شجاعته وبطولته ما يثير الهمة في نفوسهم ، وما يقتل الضعف والجبن ويزيل الخور من نفوسهم وذلك هو أثر القادة فيمن وراءهم.
جعفر بن الأشتر يقول: كنت ممن غزى الأندلس مع موسى بن نصير فحاصرنا حصنا من الحصون فاستعصى علينا - وكان حصنا عظيما - حتى إذا طال الوقت صاح موسى بن نصير بالجند أن أصبحوا على تعبئة - أي استعدوا في الصباح وكونوا متهيئين - قال: فقال الناس لعله قد جاءه خبر من شأن القوم بأن يصيب منهم غرة ، أو لعله قرر أن ينصرف عنهم لعدم الإمكان ، قال: فلما أصبح الناس قال لهم: " أيها الناس إني متقدم الصفوف فإذا رأيتموني قد كبّرت وحملت فكبروا واحملوا "، لم يكن هناك شيء قد تغير ، ولكنه طال عليه أمد الحصار ، وهو الذي لا يحب إلا الجلاد والقتال ، وهو الذي لا يصبر عن الجهاد ولا يحب الانتظار ، وهو الذي يستبطئ النصر .. قال: " إني متقدم الصفوف فإذا كبرت فكبروا ، وإذا حملت فاحملوا " ، فأي شيء زاد في الأمر ؟ وأي شيء أراد أن يستصحبه للنصر ؟
لنستمع إلى رواية جعفر وهو يتم لنا وصف الحدث ، قال: فقال الناس أترى فقد عقله أم عزب عنه رأيه؟ ما الذي يريد أن يفعله إنه الهلاك المحض والفناء المتحقق ، فقالوا: يأمرنا أن نحمل على الحجارة وما لا سبيل إليه حصون مبنية أي شيء نصنع فيها ؟ قال: فتقدم بين الصفوف بحيث يراه الناس ثم رفع يديه وأقبل على الدعاء والرغبة فأطال ونحن ركوب ننتظر ، ثم كبر فكبر الناس وحمل وحمل الناس ففتح الله - عز وجل - عليه.
لقد استبطأ النصر فلجأ إلى الدعاء ، واستحضر شجاعته ورغبته وشوقه إلى الشهادة ، فجمع من وراءه من جنده لما رأوا قائدهم أمامهم لما رأوا تضرعه إلى خالقهم ساروا لم يتخلفوا ، وانطلقوا ولم يتلكئوا ، وأقدموا ولم يحجموا ، وانتصروا بإذن الله - عز وجل - ولم يهزموا.
وهذا الذهبي - مؤرخ الإسلام العظيم - يصف لنا بعض مواقفه التي تتجلى فيها هذه المعاني التي ذكرناها ، يقول الذهبي رحمه الله: حمل مع الروم ووقف مواقف عظيمة ، وكان في موقف مشهود وهَمّ المسلمون بالهزيمة - يعني كان الأمر في شدة وكادت الدائرة دور على المسلمين ويهزمون - قال: فكشف موسى بن نصير سرادقه عن بناته وحرمه ، ورفع يديه بالدعاء والتضرع إلى الله - عز وجل - والبكاء له - سبحانه وتعالى - فانكسرت أجفان السيوف بين يديه - أي جاء جنده وكسروا أجفان السيوف - دلالة على الاستعداد التام للتضحية والفداء والقتال ، قال: فكسرت أجفان السيوف بين يديه وصدقوا اللقاء ونزل النصر وغنموا ما لا يحصى من الغنائم.
وهكذا نرى هذه المواقف وهي التي تبين لنا ما ذكره الله جل وعلا من أسباب النصر ومما يستحضره المؤمنون في تلك المواقف:{ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } .
والصبر الذي أوصى به الحق - جل وعلا - والاجتماع والوحدة التي دعانا إليها القرآن ، وكل هذا ظاهر بين فيما ذكرنا من بعض هذه المواقف العظيمة لموسى بن نصير الذي مدحه المادحون فقال بعضهم:
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت **** عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
وجرين جري الشمس في أفلاكها **** فقطعن مغربها وجزن المطلعا(/2)
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلها **** لعممنها وخشين ألا تقنعا
لو استفرغت جهدك في قتال **** أتيت به على الدنيا جميعا
قد استقصيت في سلب الأعادي **** فرد لهم عن السلب الهجوعا
إذا لم تسر جيشا إليهم **** أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
سموت بهمة تسموا وتسموا **** فما تلقى بمرتبة قنوعا
وهكذا نرى هذه الأوصاف في مواقف عزة وقوة .. ويتجلى قول الحق سبحانه وتعالى:{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }.
وقوله:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ }.
ويتجلى تحقق وعده جل وعلا فيما جعله حقا للمؤمنين: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }.
ولعلنا نأخذ صورة مقابلة من البلد نفسه من الأندلس التي ضاعت لنرى كيف جاءت على يد أمثال موسى بن نصير وطارق بن زياد ؟ وكيف ضاعت على يد أبي الحسن المأمون ومحمد بن موسى بن هود وأبي عبد الله بن الأحمر وغيرهم من وصفهم المؤرخون من الأعداء والأصدقاء وصفاً يجلي لنا سبب الهزائم وعلة النكبات وصورة الذل الذي ما بعده ذل .. فماذا كان من شأن أولئك وماذا كان من وصف ذلك الحال؟
ولم تزل هذه الجزائر منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق إلى أن تميز فيها سيل العناد والنفاق ، فامتاز كل رئيس منهم بموضع كان مسقط رأسه ، وجعله مغنماً يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه ، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره ، ويحاربه في عقر داره إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي ويراوح معاقلهم بالغيث ، ويغادي حتى لم يبق بأيديهم منها أي من هذه الديار إلا ما هو في ضمان هدنة مقررة وإتاوة في كل عام على الصغير والكبير مقررة.
أي صار كل منهم يخالف أخاه ، وصاروا شيعاً وأحزاباً فصدق فيهم قول الله سبحانه وتعالى:{ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } .
وإنما كما وصف بعض المؤرخين وهذا وصف آخر يبين لنا علة عدم تنزل نصر الله إذ لا يكون هناك نصر في الواقع لله ، بل مخالفة لأمره ومجاهرة بمعصيته وإعراض عن كتابه وتنكب لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال بعض المؤرخين في وصف كثير من أولئك: " إنما كان همة أحدهم كأس يشربها ، وقينة يسمعها ، ولهو يقطع به أيامه " .
والعجيب أن الواصف لذلك هو قائد مغوار من قواد المسلمين يوسف بن تاشفين الذي خرج من المغرب ونصر بعض بلاد وبعض أمراء الأندلس ضد النصارى في ذلك الوقت.
ثم ماذا أيها الاخوة؟ لنقف على بعض المواقف التي نرى فيها تلك الصور المقابلة ، وهذا الذي ينبغي لنا أن نتأمله .. المأمون أبو الحسن يحيى -كان هذا اسمه وذلك لقبه وتلك كنيته -كان أميرا على طليطلة ، عندما خرج عليه واحد من رعيته في بعض بلاده فاستنجد بالفرنج على تملّك بعض مدائن الأندلس وكاتب طاغيتهم وقال: أقبل علي في مائة فارس في مكان كذا وكذا لعلنا نلتقي ونتفق ، وجاء النصارى لكن زعيمهم لم يأت في مائة فارس بل جاء في ستة آلاف جندي مستعد للقتال ، وظهر له في الموضع بمائة فارس ، وقد أمر جنده أن يتهيئوا فإذا اجتمع الجميع أحاطوا بهم ، وكان الأمر كما كان ، ثم إن هذا النصراني العلج الكافر خاطب ذلك الغر الأحمق فقال له: قد كنت أظنك يا يحيى عاقلاً وأنت أحمق ، جئت إلي وسلمت مهجتك بلا عهد ولا عقد فلا نجوت مني حتى تعطيني ما أطلب قال: فاقتصد - يعني اطلب واختصر - قال: فسمى له حصونا أن يتنازل عنها وقرر عليه في كل سنة كذا وكذا من الأموال ، فقبل ورجع ذليلاً مخذولاً ، وذلك بما قدمت يداه كما قال الذهبي رحمه الله .
ومثله فعل محمد بن يوسف بن هود لما قام عليه واحد ممن معه في بلدة أو قرية من قرى قومه فقال - وقد راسل ألفونسو زعيم النصارى إذ ذاك - قال له : تعينني عليه وأعطيك قرطبة لك ! قال :وكيف يكون هذا و في البلاد مسلمون ؟ قال : يدخلها الإفرنج بغتة وأخليها من حرسها وأهملها ، ثم يأتي الإفرنج ليلا فيعتلون أسوارها فلا يجدون مقاومة ولا قتالا .
ثم كتب بذلك إلى واليه على قرطبة وقال خلي جهتها الشرقية وفعل الإفرنج ذلك واعتلوا الأسوار فلم يجدوا قتالا ، ثم صاح بالناس الصيحة في وقت الفجر عند مباغتة الجند فجاء أعيان الناس إلى ذلك الوالي وقالوا ك أخرج بنا إلى عدونا ، فقال : حتى يضحي النهار فانتظروا يظنون الاستعداد أو الإعداد ، ثم خرج معهم وهو متآمر مجتمع أمره على غير ذلك فلما انكشفا أو توجها إلى قرب النصارى ، قال : انتظروا حتى ارجع فأخذ بعض سلاحي فانتظروا حتى انفرط العقد ، وحوصرت البلد ، ونهب الناس وخرج منها عام أربعة وثلاثين وست مائة .. ذهبت ديار الإسلام والمسلمين وعاث فيها أولئك القوم فسادا وكان فيها ما فيها من صور القهر والذل .
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فان تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .(/3)
وإن من معين التقوى الاعتبار بما مضى من الأحداث وبما يجري منها ، ولعلنا نقف وقفة أخيرة مع صور مهمة تتعلق بواقعنا في الاستنجاد والاستغاثة عندما تحل النكبة ، وعندما يتسلط الأعداء ، وصورة يجليها لنا واقع التاريخ - إذ ذاك - كيف كان الاستنجاد والاستغاثة ؟ وكيف كان الخذلان والتقاعد ؟ حتى لا يتكرر في واقعنا ما مضى في تاريخنا من هذا الوصف الذي وصفه بعض أهل البلاد في التقاعس عن نصرة إخوانهم عند ما حلت بهم النكبة ، وعاث بهم الأعداء فساداً ..
وهذه صورة تتجلى كثيرا في واقع المسلمين ، اليوم نكبات من اليهود - عليهم لعائن الله - في أرض فلسطين ، وأخرى على المسلمين في بلاد الهند ، وثالثة في بلاد الشيشان ، وكثيرة هي أحوال الصمت وإغضاء الطرف وموت القلب وقتل النفس وعدم الاكتراث ، كأنهم ليسوا منا ! وكأن فتكهم ليس بمفض إلينا ! وكأن نكبتهم لن تحل بنا ! وكأن كارثتهم لن تؤثر فينا ! وكأن سخط الله - سبحانه وتعالى - وغضبه لتقاعسنا وتفريطنا وعدم إعلائنا لرايته وعدم غيرتنا على محارمه وعدم نصرتنا لعباده ! كأن ذلك كله لا يستوجب عقابا ولا يحل به عذابا !
نسأل الله - عز وجل - أن يسلمنا وأن يرفع عنا.
وابن العربي المالكي - الإمام العالم المفسر المشهور - يروي لنا في واقعته وفي أيامه وقد أثارته هذه الأحداث في بعض المواطن والمواقع .
قال: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - عام سبعة وعشرين وخمسمائة من الهجرة ، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسّط بلادنا فقلت للوالي والمولى عليه : هذا عدو الله قد حصل في الشبكة ، فلتكن عندكم بركة ، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة ، فليخرج إليه الناس جميعا حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم ؛ فإنه هالك لا محالة.
هكذا استنجد ، وهكذا حرك الهمم ، وهكذا دعا الناس كعالم من علماء المسلمين يذكرهم بواجبهم .. إن العدو قد نزل بدارنا وقد جاس في ديارنا وقد أسر جيرتنا وتوسط بلدنا فلابد من نصرة الدين ولابد من اجتماع الجميع ، ولابد من خروج الناس جميعا ، فماذا كانت النتيجة؟
يصفها ابن العربي بنفسه فيقول: " فغلبت الذنوب ، وشقيت بالمعاصي القلوب ، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى جحره ، وإن رأى المكيدة بجاره فإنا لله وإنا إليه راجعون ".
ولعل هذه المواقف عِبَرٌ حيّة ناطقة في كثير من شواهد واقعنا ، ونحن -كما قلت - نجدد الحديث ، ونجدد التذكير ، ونجدد التحفيز لئلا ننسى قضايانا ، ولئلا ننسى إخواننا ، ولئلا ننسى غيرتنا على ديننا ، ولئلا ننسى أن نرفع إلى الله - عز وجل - دعاءنا ، وأن نتحقق بالحزن والألم ببكائنا أو بتباكينا ، وألا يكون عندنا نوع من الرضا بالقواقع ولا الاستسلام له ولا التبرير لمثل هذه الوقائع التي تجري على الأمة في كثير من مواقعها ، وفي بيت المقدس وأرض الإسراء على وجه الخصوص ، وهذه عبر ناطقة
يا غافل وله في الدهر موعظة **** إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرة يلهيه موطنه **** أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها ****وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عناق الخيل ضامرة **** كأنها في مجال السبق عقبان
أ عندكم نبأ من أهل أندلس **** قد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم **** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم **** وأنتم يا عباد الله إخوانا
ألا نفوس أبيات لها همم **** أما على الخير أنصار وأعوان؟
يا من لذلة قوم بعد عزهم **** أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم **** واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
عظات وعِبرٌ يجري بها التاريخ وينطق بها الواقع ولقننا إياها الحق - سبحانه وتعالى - آيات في كتابه تتلى ، وعلمنا إياها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث من قوله الطيب تروى ، وساقتها لنا صفحات التاريخ أحداث وعبر ينبغي أن نتأملها وأن نعتبر بها.(/4)
صور وعبر
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
صور وعبر متقابلة من قوة وعزة إلى ضعف وذلة، نستجلي بها ما أخبرنا به الله - جل وعلا - من شروط النصر وأسبابه، وما كشفته لنا سننه الماضية وآياته الناطقة من أسباب الضعف والخذلان التي تعود وترتبط بكل مخالفة وإعراض عن أمر الله - جل وعلا - وهدي رسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
صور متقابلة ترينا من واقعنا ما الذي نرى فيه الخير فنؤيده ونسعى بكل ما يقيمه في واقع الحياة، ونكشف كذلك من خلالها ما فيه الشر والضر وما ينبغي ألا نكون معه في سبيل، وأن لا نمضي معه في عمل حتى نكون دائرين مع أمر الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
من تاريخنا صور متقابلة في هذا وذاك، تجعلنا - دائماً - على تذكر وتدبّر واعتبار..
مواقف لقائد عظيم من قادة الإسلام، ومجاهد من أعلام المجاهدين، وفاتح من مشاهير الفاتحين.. لم نأخذ سيرته من بين صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من أعيان التابعين، بل هو من بعض القواد المتأخرين، ذلكم هو فاتح المغرب الأوسط والأقصى، والفاتح الأعظم في بلاد الأندلس - الفردوس المفقود الذي تذكرنا أحداث تواريخه عند سقوطه بكثير من مآلات الأمور في حياتنا العامة - موسى بن نصير، القائد الإسلامي العظيم الذي توجه فاستعاد فتح بلاد المغرب الأوسط، ثم ركب البحر وفتح طنجة، وتوجه أيضا باتجاه الغرب حتى عاد وفتح بلاد المغرب الأقصى، وتاقت نفسه كذلك إلى فتح بلاد الأندلس فأرسل واحداً من قادته يستجلي الخبر فخرج إلى قرية طريف من جهة البحر فيما يقابل المغرب، فنزل بالجزيرة الخضراء وقاتل وغنم، ثم رجع ومضى بعد ذلك مولاه طارق بن زياد، لكن موسى بن نصير - رحمه الله - لحق به وسار في الفتح مسيراً أعظم، وبخطة أحكم مما كان عليه من سبقه من قادته، فمضى وكانت الفتوحات قبل مضيه فيما فتح الله عليه عظيمة بعث بها التابعي الجليل علي بن رباح ومعه أيضا رجل آخر إلى الوليد - الخليفة إذ ذاك - فقالوا في وصف ما فتح الله به على موسى بن نصير: يا أمير المؤمنين تركت موسى بن نصير في الأندلس، وقد أظهره الله ونصره، وفتح على يديه ما لم يفتح على أحد قبله، ومضى يدكّ الحصون ويفتح البلاد، ويغرّب ويوغل في أرض الأعداء حتى بلغ مبلغاً عظيماً وأراد أن يسير بجيشه فقالوا: أين تذهب بنا حسبنا ما قد ملكنا بأيدينا؟ إلى أين تريد أن تمضي؟ إلى أين تسير بك همتك العظيمة وروحك المجاهدة؟ حتى قال له بعض أعلام وأعيان ممن معه: أين تمضي فتهلك القوم والناس؟ فقال - رحمه الله - مقالة مشهورة نسبت له، والتصقت بسيرته في التاريخ قال:"والله لو انقادوا إلى لقدتهم إلى رومية ولفتحها الله على يدي إن شاء الله".
من تلك البلاد يريد أن يغرب حتى يمضي إلى روما متعلقا بالثناء والمدح الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفتح على يديهم تلك البلاد العظيمة فيما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فتح قسطنطينة ورومية.
سليمان بن عبد الملك - الخليفة الذي كان بعد ذلك - لما فتح موسى بن نصير تلك البلاد، وسطّر مآثر ومفاخر عظيمة في سجل الجهاد، قفل راجعاً فلقيه سليمان، ودار بينهما حوار يكشف لنا عن كثير من الأسرار، وعن كثير من الأسباب الحقيقية للانتصار.. قال سليمان في حديثه إلى موسى: ما الذي كنت تفزع إليه وتلجأ إليه في تدبير أمرك وإحكام حربك؟ فكان جواب موسى - رحمه الله - قال: التوكل والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين.
أوجز القول وخلص إلى السر والسبب الحقيقي للنصر.. ليس كثرة جيش ولا إحكام خطة، ولا زيادة عدة، وإنما التجاء صادق، واعتماد حقيقي على الله - سبحانه و تعالى - قال: فهل كنت تمتنع في الحصون والخنادق أو كنت تخندق حولك؟ أي هل كان من خطتك كقيادة عامة للجيش الحفاظ على روحك ونفسك، فكنت تنزل في الخنادق أو تعتصم في الحصون؟ فماذا قال موسى بن نصير؟ قال راسماً لنا الصورة المثلى للقيادة العسكرية المؤمنة: كنت أنزل إلى السهل وأستشعر الخوف والصبر، وأعتصم بالسيف والمغفر وأستعين بالله وأرغب إليه في النصر.
كنت أنزل إلى المنطقة المكشوفة؛ ليكون في مقدمة الصفوف.. ليكون في أوائل المجاهدين.. ليكون القدوة لجيشه وجنده، ثم يرغب إلى الله - سبحانه و تعالى - في النصر، فيرسم صورة – أيضاً - مثلى فيما ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان إذا أرادوا النصر على أعدائهم.. إخلاص والتجاء إلى الله واستعداد وأخذ بالأسباب وشجاعة وإقدام وضرب مثل.(/1)
وهكذا يمضي الحوار معنا فيقول له سليمان الخليفة: أي الأمم أكثر قتالا؟ قد لقي القوط ولقي الروم، ولقي الفرنجة، وأقواماً مختلفين في تلك البلاد، فسأله سليمان: أي الأمم أكثر قتالا؟ قال: هم أكثر من أن أصف.. قد كان كل قوم من كثرتهم ومن شدتهم ما لا يستطاع أن يقال أولئك أشد من هؤلاء، فقال له سليمان: فصف لي الروم؟ فقال: أسد في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء في مراكبهم، إذا وجدوا فرصة انتهزوها، وإن رأوا غلبة فأوعال تذهب في الجبال، أي يفرون ولا يرون في الهزيمة عاراً.
هذه مدرسة موسى بن نصير يستقيها من القرآن الكريم يستقيها من سنة وهدي وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويجددها بعد عهود بل بعد قرون من الزمان فتعود غضة طرية متحققة فيها سنن الله ماضية على ما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
واستمع إليه وهو يصف مسيره العظيم وجهاده الطويل فهل ترى جاهد عاما أو عامين؟ وهل ترى كان مرابطا أو فاتحا لفترة من الزمان قصيرة؟ وأي شيء جرى على يديه لما أخلص لربه ومولاه ولما كان معتمدا عليه كما سنرى في بعض مواقفه ومعاركه، قال - رحمه الله -: والله ما هزمت لي راية قط، ولا بدد لي جمع، ولا نكب السلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين؟
يجاهد ويفتح وينتصر بإذن الله - سبحانه و تعالى - وهو يبين كيف تعلو راية الإسلام؟ وكيف تظهر عزة المسلمين؟ وكيف يدال على الكفر والكافرين؟ وكيف يذل أولئك المعاندين والمعارضين إذا وجدوا عبادا لله أتقياء مخلصين، له أصفياء شجعان ليسوا بالجبناء، فهكذا ترينا تلك الصفحات من تاريخ موسى بن نصير كثيراً مما ينبغي أن نتأمله ونستمع إلى وصف بعض من كان معه من جنده لنرى كيف كانوا يرون في سيرته ومسلكه، وفي شجاعته وبطولته ما يثير الهمة في نفوسهم، وما يقتل الضعف والجبن ويزيل الخور من نفوسهم وذلك هو أثر القادة فيمن وراءهم.
جعفر بن الأشتر يقول: كنت ممن غزى الأندلس مع موسى بن نصير فحاصرنا حصنا من الحصون فاستعصى علينا - وكان حصنا عظيما - حتى إذا طال الوقت صاح موسى بن نصير بالجند أن أصبحوا على تعبئة - أي استعدوا في الصباح وكونوا متهيئين - قال: فقال الناس لعله قد جاءه خبر من شأن القوم بأن يصيب منهم غرة، أو لعله قرر أن ينصرف عنهم لعدم الإمكان، قال: فلما أصبح الناس قال لهم:"أيها الناس إني متقدم الصفوف فإذا رأيتموني قد كبّرت وحملت فكبروا واحملوا"، لم يكن هناك شيء قد تغير، ولكنه طال عليه أمد الحصار، وهو الذي لا يحب إلا الجلاد والقتال، وهو الذي لا يصبر عن الجهاد ولا يحب الانتظار، وهو الذي يستبطئ النصر.. قال:"إني متقدم الصفوف فإذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا"، فأي شيء زاد في الأمر؟ وأي شيء أراد أن يستصحبه للنصر؟
لنستمع إلى رواية جعفر وهو يتم لنا وصف الحدث، قال: فقال الناس أترى فقد عقله أم عزب عنه رأيه؟ ما الذي يريد أن يفعله إنه الهلاك المحض والفناء المتحقق، فقالوا: يأمرنا أن نحمل على الحجارة وما لا سبيل إليه حصون مبنية أي شيء نصنع فيها؟ قال: فتقدم بين الصفوف بحيث يراه الناس ثم رفع يديه وأقبل على الدعاء والرغبة فأطال ونحن ركوب ننتظر، ثم كبر فكبر الناس وحمل وحمل الناس ففتح الله - عز وجل - عليه. لقد استبطأ النصر فلجأ إلى الدعاء، واستحضر شجاعته ورغبته وشوقه إلى الشهادة، فجمع من وراءه من جنده لما رأوا قائدهم أمامهم لما رأوا تضرعه إلى خالقهم ساروا لم يتخلفوا، وانطلقوا ولم يتلكئوا، وأقدموا ولم يحجموا، وانتصروا بإذن الله - عز وجل - ولم يهزموا.
وهذا الذهبي - مؤرخ الإسلام العظيم - يصف لنا بعض مواقفه التي تتجلى فيها هذه المعاني التي ذكرناها، يقول الذهبي رحمه الله: حمل مع الروم ووقف مواقف عظيمة، وكان في موقف مشهود وهَمّ المسلمون بالهزيمة - يعني كان الأمر في شدة وكادت الدائرة دور على المسلمين ويهزمون - قال: فكشف موسى بن نصير سرادقه عن بناته وحرمه، ورفع يديه بالدعاء والتضرع إلى الله - عز وجل - والبكاء له - سبحانه و- تعالى - فانكسرت أجفان السيوف بين يديه - أي جاء جنده وكسروا أجفان السيوف - دلالة على الاستعداد التام للتضحية والفداء والقتال، قال: فكسرت أجفان السيوف بين يديه وصدقوا اللقاء ونزل النصر وغنموا ما لا يحصى من الغنائم.
وهكذا نرى هذه المواقف وهي التي تبين لنا ما ذكره الله - جل وعلا - من أسباب النصر ومما يستحضره المؤمنون في تلك المواقف:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}.
والصبر الذي أوصى به الحق - جل وعلا - والاجتماع والوحدة التي دعانا إليها القرآن، وكل هذا ظاهر بين فيما ذكرنا من بعض هذه المواقف العظيمة لموسى بن نصير الذي مدحه المادحون فقال بعضهم:
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت *** عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
وجرين جري الشمس في أفلاكها *** فقطعن مغربها وجزن المطلعا
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلها *** لعممنها وخشين ألا تقنعا(/2)
لو استفرغت جهدك في قتال *** أتيت به على الدنيا جميعا
قد استقصيت في سلب الأعادي *** فرد لهم عن السلب الهجوعا
إذا لم تسر جيشا إليهم *** أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
سموت بهمة تسموا وتسموا *** فما تلقى بمرتبة قنوعا
وهكذا نرى هذه الأوصاف في مواقف عزة وقوة.. ويتجلى قول الحق - سبحانه و تعالى -:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. وقوله:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ}.
ويتجلى تحقق وعده - جل وعلا - فيما جعله حقا للمؤمنين: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
ولعلنا نأخذ صورة مقابلة من البلد نفسه من الأندلس التي ضاعت لنرى كيف جاءت على يد أمثال موسى بن نصير وطارق بن زياد؟ وكيف ضاعت على يد أبي الحسن المأمون ومحمد بن موسى بن هود وأبي عبد الله بن الأحمر وغيرهم من وصفهم المؤرخون من الأعداء والأصدقاء وصفاً يجلي لنا سبب الهزائم وعلة النكبات وصورة الذل الذي ما بعده ذل.. فماذا كان من شأن أولئك وماذا كان من وصف ذلك الحال؟
ولم تزل هذه الجزائر منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق إلى أن تميز فيها سيل العناد والنفاق، فامتاز كل رئيس منهم بموضع كان مسقط رأسه، وجعله مغنماً يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره، ويحاربه في عقر داره إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي ويراوح معاقلهم بالغيث، ويغادي حتى لم يبق بأيديهم منها أي من هذه الديار إلا ما هو في ضمان هدنة مقررة وإتاوة في كل عام على الصغير والكبير مقررة.
أي صار كل منهم يخالف أخاه، وصاروا شيعاً وأحزاباً فصدق فيهم قول الله - سبحانه و تعالى -:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.وإنما كما وصف بعض المؤرخين وهذا وصف آخر يبين لنا علة عدم تنزل نصر الله إذ لا يكون هناك نصر في الواقع لله، بل مخالفة لأمره ومجاهرة بمعصيته وإعراض عن كتابه وتنكب لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، قال بعض المؤرخين في وصف كثير من أولئك:"إنما كان همة أحدهم كأس يشربها، وقينة يسمعها، ولهو يقطع به أيامه".
والعجيب أن الواصف لذلك هو قائد مغوار من قواد المسلمين يوسف بن تاشفين الذي خرج من المغرب ونصر بعض بلاد وبعض أمراء الأندلس ضد النصارى في ذلك الوقت.
ثم ماذا أيها الإخوة؟ لنقف على بعض المواقف التي نرى فيها تلك الصور المقابلة، وهذا الذي ينبغي لنا أن نتأمله.. المأمون أبو الحسن يحيى -كان هذا اسمه وذلك لقبه وتلك كنيته -كان أميرا على طليطلة، عندما خرج عليه واحد من رعيته في بعض بلاده فاستنجد بالفرنج على تملّك بعض مدائن الأندلس وكاتب طاغيتهم وقال: أقبل علي في مائة فارس في مكان كذا وكذا لعلنا نلتقي ونتفق، وجاء النصارى لكن زعيمهم لم يأت في مائة فارس بل جاء في ستة آلاف جندي مستعد للقتال، وظهر له في الموضع بمائة فارس، وقد أمر جنده أن يتهيئوا فإذا اجتمع الجميع أحاطوا بهم، وكان الأمر كما كان، ثم إن هذا النصراني العلج الكافر خاطب ذلك الغر الأحمق فقال له: قد كنت أظنك يا يحيى عاقلاً وأنت أحمق، جئت إلي وسلمت مهجتك بلا عهد ولا عقد فلا نجوت مني حتى تعطيني ما أطلب قال: فاقتصد - يعني اطلب واختصر - قال: فسمى له حصونا أن يتنازل عنها وقرر عليه في كل سنة كذا وكذا من الأموال، فقبل ورجع ذليلاً مخذولاً، وذلك بما قدمت يداه كما قال الذهبي - رحمه الله -.
ومثله فعل محمد بن يوسف بن هود لما قام عليه واحد ممن معه في بلدة أو قرية من قرى قومه فقال - وقد راسل ألفونسو زعيم النصارى إذ ذاك - قال له: تعينني عليه وأعطيك قرطبة لك! قال:وكيف يكون هذا و في البلاد مسلمون؟ قال: يدخلها الإفرنج بغتة وأخليها من حرسها وأهملها، ثم يأتي الإفرنج ليلا فيعتلون أسوارها فلا يجدون مقاومة ولا قتالا.
ثم كتب بذلك إلى واليه على قرطبة وقال خلي جهتها الشرقية وفعل الإفرنج ذلك واعتلوا الأسوار فلم يجدوا قتالا، ثم صاح بالناس الصيحة في وقت الفجر عند مباغتة الجند فجاء أعيان الناس إلى ذلك الوالي وقالوا ك أخرج بنا إلى عدونا، فقال: حتى يضحي النهار فانتظروا يظنون الاستعداد أو الإعداد، ثم خرج معهم وهو متآمر مجتمع أمره على غير ذلك فلما انكشفا أو توجها إلى قرب النصارى، قال: انتظروا حتى ارجع فأخذ بعض سلاحي فانتظروا حتى انفرط العقد، وحوصرت البلد، ونهب الناس وخرج منها عام أربعة وثلاثين وست مائة.. ذهبت ديار الإسلام والمسلمين وعاث فيها أولئك القوم فسادا وكان فيها ما فيها من صور القهر والذل.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فان تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.(/3)
وإن من معين التقوى الاعتبار بما مضى من الأحداث وبما يجري منها، ولعلنا نقف وقفة أخيرة مع صور مهمة تتعلق بواقعنا في الاستنجاد والاستغاثة عندما تحل النكبة، وعندما يتسلط الأعداء، وصورة يجليها لنا واقع التاريخ - إذ ذاك - كيف كان الاستنجاد والاستغاثة؟ وكيف كان الخذلان والتقاعد؟ حتى لا يتكرر في واقعنا ما مضى في تاريخنا من هذا الوصف الذي وصفه بعض أهل البلاد في التقاعس عن نصرة إخوانهم عند ما حلت بهم النكبة، وعاث بهم الأعداء فساداً..
وهذه صورة تتجلى كثيرا في واقع المسلمين، اليوم نكبات من اليهود - عليهم لعائن الله - في أرض فلسطين، وأخرى على المسلمين في بلاد الهند، وثالثة في بلاد الشيشان، وكثيرة هي أحوال الصمت وإغضاء الطرف وموت القلب وقتل النفس وعدم الاكتراث، كأنهم ليسوا منا! وكأن فتكهم ليس بمفض إلينا! وكأن نكبتهم لن تحل بنا! وكأن كارثتهم لن تؤثر فينا! وكأن سخط الله - سبحانه وتعالى - وغضبه لتقاعسنا وتفريطنا وعدم إعلائنا لرايته وعدم غيرتنا على محارمه وعدم نصرتنا لعباده! كأن ذلك كله لا يستوجب عقابا ولا يحل به عذابا!
نسأل الله - عز وجل - أن يسلمنا وأن يرفع عنا.
وابن العربي المالكي - الإمام العالم المفسر المشهور - يروي لنا في واقعته وفي أيامه وقد أثارته هذه الأحداث في بعض المواطن والمواقع.
قال: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - عام سبعة وعشرين وخمسمائة من الهجرة، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسّط بلادنا فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه الناس جميعا حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم؛ فإنه هالك لا محالة.
هكذا استنجد، وهكذا حرك الهمم، وهكذا دعا الناس كعالم من علماء المسلمين يذكرهم بواجبهم.. إن العدو قد نزل بدارنا وقد جاس في ديارنا وقد أسر جيرتنا وتوسط بلدنا فلابد من نصرة الدين ولابد من اجتماع الجميع، ولابد من خروج الناس جميعا، فماذا كانت النتيجة؟
يصفها ابن العربي بنفسه فيقول:"فغلبت الذنوب، وشقيت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى جحره، وإن رأى المكيدة بجاره فإنا لله وإنا إليه راجعون".
ولعل هذه المواقف عِبَرٌ حيّة ناطقة في كثير من شواهد واقعنا، ونحن -كما قلت - نجدد الحديث، ونجدد التذكير، ونجدد التحفيز لئلا ننسى قضايانا، ولئلا ننسى إخواننا، ولئلا ننسى غيرتنا على ديننا، ولئلا ننسى أن نرفع إلى الله - عز وجل - دعاءنا، وأن نتحقق بالحزن والألم ببكائنا أو بتباكينا، وألا يكون عندنا نوع من الرضا بالقواقع ولا الاستسلام له ولا التبرير لمثل هذه الوقائع التي تجري على الأمة في كثير من مواقعها، وفي بيت المقدس وأرض الإسراء على وجه الخصوص، وهذه عبر ناطقة
يا غافل وله في الدهر موعظة *** إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرة يلهيه موطنه *** أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها ***وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عناق الخيل ضامرة *** كأنها في مجال السبق عقبان
أ عندكم نبأ من أهل أندلس *** قد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم *** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم *** وأنتم يا عباد الله إخوانا
ألا نفوس أبيات لها همم *** أما على الخير أنصار وأعوان؟
يا من لذلة قوم بعد عزهم *** أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم *** واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
عظات وعِبرٌ يجري بها التاريخ وينطق بها الواقع ولقننا إياها الحق - سبحانه و تعالى - آيات في كتابه تتلى، وعلمنا إياها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث من قوله الطيب تروى، وساقتها لنا صفحات التاريخ أحداث وعبر ينبغي أن نتأملها وأن نعتبر بها.
http://islameiat.com المصدر(/4)
صوم الست من شوال
لفضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين رحمه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد...
فعن أبي أيوب الأنصاري(1) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر". (رواه مسلم)(2).
هذا الحديث يدل على فضل عظيم وعطاء كريم من الله سبحانه، وعلى المسلم: أن يتعرض لهذا العطاء الوافر من الله سبحانه، ولا يحرم نفسه ذلك.
والصوم خمسة أقسام:
1 صوم واجب بإيجاب الله تعالى، وهو معين؛ وهو: شهر رمضان.
2 صوم واجب بإيجاب الله تعالى مضمون في الذمة؛ كصيام الكفارات (كفارة اليمين لمن عجز عن الإطعام، وكفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة القتل الخطأ) وكصيام القضاء لما أفطره في رمضان.
3 صوم واجب بإيجاب الإنسان على نفسه وهو معين؛ كنذر صوم يوم، أو أيام بعينها.
4 صوم واجب بإيجاب الإنسان على نفسه مضمون في الذمة غير معين، كنذر صوم يوم، أو أيام بغير تعيين.
5 صوم التطوع.
وصوم التطوع منه ما هو محدد في الأيام من العام؛ كصوم عرفة وعاشوراء، ومنه: ما يأتي من جملة الصالحات؛ كالتسع الأولى من ذي الحجة لحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيها خير من هذه الأيام العشر" ومنها: ما هو مطلق في الشهور المعينة؛ كصيام شعبان والمحرم، والصوم في الأشهر الحرم، وصوم الست من شوال، ومنها: ما هو مطلق في الشهور غير معيَّن؛ كصيام ثلاثة أيام في كل شهر، وقد يخص منها الأيام البيض (القمرية)، ومنها ما هو مخصص في الأسبوع كصوم الاثنين والخميس.
وأفضل الصيام عند الله: صيام داود؛ كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا.
ويحرم الصوم في العيدين، ويحرم صوم يوم الشك، وهو اليوم الذي يُشك فيه هل هو آخر يوم من شعبان (ثلاثون منه) أو هو أول يوم من أيام رمضان؛ لأن الهلال غُمَّ على الناس فلم يستبن لهم طلوعه من عدمه.
ويكره الصوم في أيام التشريق، وهي: الأيام الثلاثة بعد عيد الأضحى؛ لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى.
ويكره إفراد الجمعة أو السبت بالصوم تطوعًا، إلا أن تصوم يومًا قبله، أو يومًا بعده.
ب صوم الست من شوال:
فرض الله تعالى على الذين آمنوا صوم شهر رمضان، وقد شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصوم قبله في شعبان؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر أكثر من شعبان؛ فإنه كان يصوم شعبان كله إلا قليلا {متفق عليه}(3)
وقد شرع الصوم بعده في شوال لحديث أبي أيوب: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" فكانت كالراتبة من نوافل الصلاة قبلها وبعدها.
ومعلوم أن أعظم النوافل أجرًا: النوافل الراتبة، وهي: ركعتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
شوق إلى الصوم:
ولما كان الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به..." فإذا استشعر المسلم معنى (فإنه لي)، وخالط هذا المعنى شغاف قلبه؛ أَحَبَّ الصوم، وتمنى ألا ينتهي من رمضان أبدًا، ولكن كيف ينال ذلك ورمضان يبدأ بالهلال وينتهي بالهلال؟!
هذا الشوق يؤهل العبد لمكافأة من الله وعطاء كبير، حيث يجعل له صوم ستة أيام من شوال تكمل له حلقة العام مع رمضان، فيصبح كمن صام العام كله، وذلك عطاء من الله سبحانه لمن إذا خرج من العبادة أحب العودة إليها، وعليه يمكن حمل الأجور العظيمة على الأعمال اليسيرة بعد العبادة كحديث: "ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين..."(4)
فمن صام رمضان، أي: أتم أيامه صيامًا حتى طلع عليه هلال شوال، ثم أتبعه ستًّا من شوال، أي: بعد عيد الفطر؛ لأنه معلوم أن العيد لا يجوز صومه لا في قضاء ولا كفارة ولا تطوع. فيبدأ الصوم من اليوم الثاني أو ما بعده إلى أن يتم صوم الأيام الستة متتابعة أو متفرقة في أول الشهر، أو في وسطه، أو في آخره، بهذا كله يكون قد تحقق له أنه (أتبعه ستًّا من شوال).
حكم صوم الستة من شوال:
قال القرطبي: (واختلف في صيام هذه الأيام؛ فكرهها مالك في موطئه، خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه).
وقد وقع ما خافه، حتى إنَّه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان، وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف (انتهى).
ولقد استحب صيامها جمهورالعلماء إلا المالكية؛ فكرهوا صيامها إذا اجتمعت شروط أربعة؛ فإن تخلف منها شرط أو أكثر لم يكره صيامها عند المالكية؛ وهذه الشروط هي:
1 أن يكون الصائم ممن يقتدي به، أو يخاف عليه أن يعتقد وجوبها.
2 أن يصومها متصلة بيوم الفطر.
3 أن يصومها متتابعة.
4 أن يظهر صومها.
صيام الدهر(5)(/1)
قوله صلى الله عليه وسلم : "كان كصيام الدهر" أي: كتب له أجر من صام كل يوم فلم يفطر، ولقد أخرج الدرامي في سننه عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام شهر بعشرة أشهر، وستة أيام بعدهن بشهرين، فذلك تمام سنة"(6) يعني: شهر رمضان، وستة أيام بعده.
وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها، وإنما يرجى ذلك لمن أنس العبادة وأحبها، وذلك فوق التضعيف الخاص بالصوم في قوله: "فإنه لي"، فهو تضعيف، وزيادة فوق ذلك التضعيف وتلك الزيادة. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم : "كصيام الدهر" مع أن الأحاديث قد جاءت بالنهي عن صيام الدهر. لكن التشبيه هنا: أن من أراد أن يحصل على ثواب صوم الدهر فعليه بصيام ستة أيام من شوال بعد رمضان، فيضاعف له الثواب حتى يحوز من الأجر كأنه لم يفطر أبدًا. بل إن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر"(7) فكان من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال وصام ثلاثة أيام من كل شهر بعد، كان كمن صام دهرين في عمره، وذلك مما اختص الله سبحانه به هذه الأمة على قصر أعمارها، فإن الله سبحانه ضاعف لها أعمالها؛ فتسبق الأمم بذلك العطاء العظيم من الله سبحانه.
هل يدل الحديث على توالي صيام الستة من شوال بعد رمضان أو لا يدل على ذلك؟
الإجابة: لا يدل الحديث على التوالي بعد يوم العيد وإن كان هو الأفضل للمبادرة بالطاعات.
قضاء رمضان وصوم شوال:
ومعلوم أن القضاء فريضة، فهي على الوجوب، أما صوم شوال فنافلة ما لم ينذره العبد فيصبح عليه فريضة بنذره، والقضاء مقدم على صوم النافلة، فإن استطاع العبد القضاء في شوال، ثم صام الستة بعدها فعل ذلك، وإن خاف لو صام الستة من شوال ألا يستطيع القضاء على مرور العام حتى رمضان الذي يليه؛ تعين عليه القضاء في شوال دون الستة. فإن كان لا يتسع شوال عنده للستة مع القضاء، وهو يرجو أن يفرق القضاء بعد ذلك على أيام العام؛ جاز له صوم الستة في شوال، وتأخير القضاء إلى ما بعد ذلك لأن وقت الستة من شوال محصور فيه، أما القضاء فوقته مُوَسَّع في العام كله؛ لقوله تعالى: فعدة من أيام أخر {البقرة:185}، وذلك مراعاة لوظيفة الوقت المضيقة دون ما كان وقته موسعًا.
والحمد لله رب العالمين(/2)
... ... ...
صوم الصالحين ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- درجات الصوم 2- الأمور التي بها يتمّ الصوم ويكمُل 3- حفظ اللسان عن كلّ سوء 4- فضل الجود والبذل في رمضان لما لذلك من أثر وخصوصية 5- العلاقة بين الصيام والصدقة ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد :-
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .
قالوا بأن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
أما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
أما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الأمور الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله فهو اقبال بكامل الهمة على الله جل وتعالى وانصرافه عن غيره.
قال ابن رجب رحمه الله: الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا.
مثل هذا الصائم ليس عيده أول يوم من شوال، وانما عيده يوم لقاء ربه، وفرحته برؤيته.
أهل الخصوص من الصُوّام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب
من صام عن شهواته أدركها غداً في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، قال الله تعالى: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت .
فيا معشر الصائمين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
أيها الصائمون:-
إن تمام الصوم وكماله، وكلكم يطلب ذلك، لا يتم إلا بستة أمور:-
الأول: غض البصر وكفه عن الإتساع في النظر إلى كل ما يحرم ويذم ويكره.
قال الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن .
وعن جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: ((اصرف بصرك)) رواه مسلم.
فحذار ثم حذار أخي الصائم من فضول النظر، فضلاً عن النظر إلى شيطان العصر، الذي أخذ بلب العاقل قبل الساذج. وهو التلفاز.
لا تجرح يا أخي صومك، ولا تنقص من أجرك فليس هذا عمل من يطلب لصيامه التمام والكمال.
ماذا يعرض التلفاز؟ يكفي ما فيه من فتن المارقات الماجنات، السافرات العاصيات.
يكفي ما يُثار من غرائز في صدور الرجال. نظرات خائنة، وغمزات جائعة، وتكشف وعري، وتفسخ بذئ، ونزول إلى درجة البهيمية.
لواحظنا تجنى ولا علم عندها وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه أذِنّ على أحشائه بالفواقر
ماذا جنيت يا أخي الصائم في إطلاق نظرك في الصور المعروضة، هل زادت حسناتك، هل زاد إيمانك، هل تعلمت علماً يقربك إلى الجنة ويباعدك عن النار؟
أظن الجواب هو عكس ذلك كله، وأنت أدرى بنفسك من غيرك بك.
اتعظ يا أخي ببعض أخبار من مضى، وإليك هذا الخبر، قال أبو الأديان: كنت مع استاذي أبي بكر الدقاق، فمّر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه، فقال: يا بني لتجدّن غِبها ولو بعد حين. يقول: فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه، فأصبحت وقد نسيت القرآن كله.
فهل تريد يا أخي أن تجد حسرة هذه النظرات ولو بعد حين، فتفقد شيء من إيمانك أو حسنتاك عند لقاء ربك، والسبب النظر في التلفاز.
فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا أنموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى لمآلهم، فعدهم قرب الرحيل إلى ديارهم، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.
الثاني: حفظ اللسان عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والمراء والسب وبذاءة اللسان، والسخرية والإستهزاء. وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان.
من أطلق عذبة اللسان، وأهمله وأرخى له العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
تدبر يا عبدالله في قول الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
فأما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة.(/1)
وأما مالا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والإشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، وبذلك يكون سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع، وتزكية النفس، وفضول الكلام، وفصل الخطاب قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صمت نجا)).
روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: ((كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)).
من هو هذا الرجل؟ وماذا فعل؟
قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
أما الفرض فقد سقط عنه، والذمة برأت، فلا يعاقب عقاب ترك العبادة، بل يعاتب أشد عتاب، حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب.
الأمر الثالث: لمن طلب تمام الصيام.
كف السمع عن الإصغاء إلى كل محرم ومكروه.
فكل ما حرم قوله، حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: سماعون للكذب أكّالون للسحت .
وقال عز وجل: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت .
اذا لم يكن في السمع من تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ
فيا من أطلق أذنه لسماع أصوات المزامير، وأصوات الغناء، اتق الله تعالى في نفسك، واتق الله في صومك، فليس هذا هو صوم الصالحين، وليس هذا من يطلب تمام صومه وكماله.
الأمر الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام.
كف اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، والحرام سُمّ مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله.
الأمر الخامس: أن لايستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال.
وكيف يستفاد من الصوم، قهر عدو الله وكسر الشهوة، إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه مالا يؤكل في عدة أشهر.
ورقة القلب وصفاؤه إنما تكون بترك الشبع، قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
من أكل كثيراً نام كثيراً، فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
الأمر السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء. اذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين. وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها.
مرّ الحسن البصري بقوم وهم يضحكون فقا :
إن الله عزوجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
نسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
إن رمضان شهر الجود والإحسان، شهر الكرم والعطاء، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأكرم الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال وبل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، و تحمل أثقالهم، ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لايخشى الفقر. رواه مسلم.
يقول صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاني، وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال وعنده صُبْرة من تمر فقال: ((ما هذا يا بلال؟ قال: أعد ذلك لأضيافك، قال: أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً)). يقول أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغد. نعم هكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم.
تَعَوّدَ بسط الكف حتى لو أنه ثناها القبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله(/2)
إن الصدقات في رمضان لها عدة خصوصيات:
منها شرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه.
- ومنها إعانة الصائمين المحتاجين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم. ولهذا فمن فطر صائماً كان له مثل أجره.
- ومنها أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة، فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
إن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة.
فهما من موجبات الجنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام)).
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
الصيام جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
الصيام لابد أن يقع فيه خلل أو نقص، والصدقة تجبر النقص و الخلل، ولهذا وجب في أخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث.
الصيام والصدقة كفارات لعدد من الأشياء كالأيمان ومحظورات الإحرام وكفارة الوطء في نهار رمضان، بل إن الصوم أول مافرض كان بالتخيير بين الصيام والإطعام ،ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره.
فعليكم بالصدقة أيها الصائمون فهذا شهركم، خير الناس أنفعهم للناس.
الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها، نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((داووا مرضاكم بالصدقة)).
أما علمت يا أخي أن الصدقة تزيد في العمر. وتبقى لك بعد الممات.
يا أخي الصائم: ما قدر كسرة تعطيها، أو ماسمعت أن الرب يربيها، فيراها صاحبها كجبل أحد، أفيرغب عن مثل هذا أحد.
إن تطوعات البدن لا تتعدى المتطوع، لكن نفع الصدقة متعدد متنوع. من فطر صائم فله مثل أجره. و الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، و الله يضاعف لمن يشاء.
فيا أيها الصائمون المؤمنون، هذا شهركم، و هذه فرصتكم، فمن لم يتصدق في رمضان فمتى يكون. و كيف ينسى المسلمون بعضهم بعضا.
يموت المسلمون و لا نبالي ونهرف بالمكارم والخصالِ
ونحيا العمر أوتاراً و قصفاً ونحيا العمر في قيل وقال
وننسى إخوة في الله ذرّت بهم كف الزمان على الرمال
تمزقهم نيوب الجوع حتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على خواء ويقتسمون أرغفة الخيال
وناموا في العراء بلا غطاء وساروا في العراء بلا نعال
يسيل لعابهم لهفاً وتذوي عيونهم على جمر السؤال
وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أقتل للرجال
يمدون الحبال وليت شعري انقطع أم سنمسك بالحبال
نسينا: واتقوا يوماً ثقيلا به النيران تقذف كالجبال
ونحن المسلمون ننام حتى يضيق الدهر بالنوم الخبال
جلسنا والآرائك فاخراتٌ وأوجفنا على الفرش الغوالي
ورصفنا البيوت من المرايا لتنطق بالبهاء وبالجمال
وفاح العطر وائتلقت جنان كأن العمر ليس إلى زوال
فنام على الريال وإن صحونا فإن الفجر فاتحه الريال ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
صيام الست من شهر شوال
أجور عظيمة.. فأين الهمم؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.. أما بعد:
فإن شهر شوال من الأشهر التي يستحب فيها القيام بعبادة عظيمة ربما يغفل عنها كثير من الناس، تلكم العبادة هي صيام الست من شوال والتي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عظيم أجرها؛ كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)1 .
ففي هذا الحديث الحث على صيام ست من شهر شوال، وأن من أتبع رمضان بها كتب له أجر من صام الدهر إذا فعل ذلك كل عام. وما دام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين عظيم أجر صيامها فما بال الكثير من المسلمين يتخلى عن صيامها! مع أننا جميعاً محتاجون إلى رحمة الله وإلى حسنة تخلصنا من هموم الدنيا وأهوال القيامة!
وهنا قد يقف المرء متسائلاً كيف يعدل صيام الست من شوال صوم الدهر؟
الأصل في مثل هذه الأجور التي ذكرت في الأحاديث أن علمها عند الله -تعالى- ولكن العلماء عللوا ذلك بما يمكن أن يستأنس به، فمن ذلك ما قاله ابن رجب في لطائف المعارف 2:
(وإنما كان صيام رمضان و اتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقد جاء ذلك مفسراً من حديث ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة، يعني رمضان و ستة أيام من شوال بعده)3 خرجه الإمام أحمد والنسائي وهذا لفظه وابن حبان في صحيحه وصححه أبو حاتم الرازي وقال الإمام أحمد: ليس في حديث الرازي أصح منه و توقف فيه في رواية أخرى.
أخي رعاك الله:
اعلم أن في معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة، منها:
1-أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله.
2-ومنها:أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم القيامة، كما ورد ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة، وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل فيحتاج إلى ما يجبره ويكمله من الأعمال.. و كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: من لم يجد ما يتصدق به فليصم، يعني من لم يجد ما يخرجه صدقة الفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر، فإن الصيام يقوم مقام الإطعام في التكفير للسيئات كما يقوم مقامه في كفارات الإيمان وغيرها من الكفارات في مثل كفارات القتل والوطء في رمضان والظهار.
3-ومنها:أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بعد بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
4-ومنها:أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب.
5-أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم حتى تتورم قدماه فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ فيقول: (أفلا أكون عبدا شكوراً)4 ، و قد أمر الله -سبحانه وتعالى- عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره وغير ذلك من أنواع شكره فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة. فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقب ذلك.. كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائماً، و يجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام. وكان وهب بن الورد يُسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه؟ فيقول: لا تسألوا عن ثوابه ولكن اسألوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر للتوفيق و الإعانة عليه؟.
إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لموليكها شكراً فلست بشاكر
على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم للتوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً، فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر كما قيل :
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... و إن طالت الأيام واتصل العمر(/1)
فأما مقابلة نعمة التوفيق كصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده فهو من فعل من بدل نعمة الله كفراً، فإن كان قد عزم في صيامه على معاودة المعاصي بعد انقضاء الصيام فصيامه عليه مردود، وباب الرحمة في وجهه مسدود، قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود.
6-ومنها:أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان، بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حياً.. و ذلك لأن كثيراً من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام وملله وطوله عليه، ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعاً. فالعائد إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام وأنه لم يمله ولم يستثقله ولا تكرَّه به.. والعائد إلى الصيام سريعاً بعد فراغ صيامه شبيه بقارئ القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عاد في المعنى، والله أعلم. وقيل لبِشْر: إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقال: (بئس القوم لا يعرفون لله حقاً إلا في شهر رمضان! إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها). سئل الشبلي: أيما أفضل رجب أم شعبان؟ فقال : (كن ربانياً و لا تكن شعبانياً، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عمله ديمة، وسئلت عائشة -رضي الله عنها-: هل كان يخص يوماً من الأيام؟! فقالت: (لا، كان عمله ديمة) متفق عليه. 5
فهذه فضائل الصوم بعد شهر رمضان، وذلك أجر صيام الست من شوال..
فنسأل الله الإعانة على صيامها، ونسأله أن يتقبلها منا وأن يكتب لنا الأجر الجزيل على ذلك إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
0000000000000000
1- مسلم في صحيحه برقم (1164).
2 - ص244.
3 - وقد أخرجه ابن ماجه أيضاً وقال الأعظمي: (إسناده صحيح) صحيح ابن ماجه (2115).
4 - رواه البخاري ومسلم.
5 - انظر لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله -تعالى- ص244. بتصرف يناسب المقام، وحذف لبعض الأحاديث والآثار الضعيفة.(/2)
ضبط النفس عند الغضب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإن الغضب شعلة من نار تلظى، تطلع على الأفئدة، تحرق الوقار والسكينة وحسن السمت. فهو جدير بهدم هذا البناء الخلقي؛ وهو مدعاة إلى المقت والخذلان، وصفة ذميمة تعافها النفوس، وتشمئز منها القلوب، وتُمَزِّق التعاون والتآلف، وتنحدر بصاحبها إلى الهاوية؛ لأن الغضب طبع ذميم يشوبه الكبر والغطرسة والعجب والغرور ؛ فما إن يتمكن في القلب حتى يجعله كالرميم ؛ لأنه محرق للفؤاد ، ومشتتٌ للذهن ، ومنغصٌ للحياة ، ومدمرٌ للأسر ، وقاطع للأرحام ، ومفرق
للجماعات ، ومزهق للأرواح ، ومظهر للأفعال بدون ترتيب ونظام وتفكير وبناء للألفاظ ؛ فهو جالبٌ للخصوم ، ومضيع للحقوق، وساكبٌ للأحقاد في قلوب العباد1.
عبد الله: كيف تطفئ هذا الغضب؟ وكيف تعالجه؟ فتضبط نفسك عند حدوث الغضب؟ إن هناك ذكرٌ واسع لمعالجة هذا الخلق الذميم، ورد في السنة النبوية للتخلص من هذا الداء وللحدّ من آثاره. فإليك هذا الذكر و العلاج لكي تستعين به على ضبط نفسك ومعالجتها عند الغضب:
1- الاتسعاذة بالله من الشيطان: فعن سليمان بن صُرَد قال: كنت جالساً مع النبي-صلى الله عليه وسلم-، ورجلان يستبّان، فأحدهما احمّر وجهه وانتفخت أوداجه2، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد)3.
2- السكوت: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إذا غضب أحدكم فليسكت)4.وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله، أو لعن، أو طلاق يهدم بيته، أو سب وشتم- يجلب له عداوة الآخرين. فالسكوت هو الحل لتلافي ذلك كله5.
3- تغيير الحالة: فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فليضطجع، فقد جاء من حديث أبي ذر-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)6.إن الغاضب قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل، وربما أتلف مالاً ونحوه، فالقعود كان أبعد عن الهيجان والثوران، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية. قال الخطابي-رحمه الله- :" القائم متهيء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي-صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوه بادرة يندم عليها فيما بعد"7.
4- حفظ وصية رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رجلاً قال للنبي-صلى الله عليه وسلم-:أو صني قال: (لا تغضب، فردَّد ذلك مراراً، قال لا تغضب)8. وفي رواية قال الرجل: ففكرت حين قال النبي-صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله"9.
5- معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه عند الغضب: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ليس الشديد بالصُّرعة، إن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)10.
6- التأسي بهديه-صلى الله عليه وسلم- في الغضب: هذه السِّمة من أخلاقه-صلى الله عليه وسلم-، وهو أسوتنا وقدوتنا، ينبغي علينا أن نتأسى به ففي الغضب روى أنس –رضي الله عنه- أنه قال:"كنت أمشي مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذَه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي-صلى الله عليه وسلم-وقد أثَّرت بها حاشية البُرْدِ، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ إليه –صلى الله عليه وسلم- فضحك، ثم أمر له بعطاء)11 ، ومن التأسي بالنبي-صلى الله عليه وسلم- أن نجعل غضبنا لله، وإذا انتُهكت محارم الله، وهذا هو الغضب المحمود فقد غضب-صلى الله عليه وسلم- لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفّر الناس من الصلاة بطول قراءته، وغضب لما رأى في بيت عائشة ستراً فيه صور ذوات أرواح، وغضب لما كلّمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت، وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟)12 وغضب لما سُئل عن أشاء كرهها، وغير ذلك، فكان غضبه –صلى الله عليه وسلم- لله13.
7- ضبط النفس ورد الغضب من علامات المتقين: فهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه، وأثنى عليهم رسوله-صلى الله عليه وسلم-، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض، من صفاتهم أنهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران:134، وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم، ما تشرئبّ الأعناق، وتتطلع النفوس للّحوق بهم، ومن أخلاقهم أنهم:" {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى:3714(/1)
8- التذكر عند التذكير: الغضب أمر من طبيعة النفس البشرية يتفاوت فيه الناس، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب، لكن الصِّدِّيقين إذا غضبوا فذُكّروا بالله ذكروا الله ووقفوا عند حدوده.
9- معرفة مساوي الغضب: وهي كثيرة، مجملها الإضرار بالنفس والآخرين، فينطلق اللسان بالشتم والسبّ والفحش، وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب، وقد يصل الأمر إلى القتل وغيرها من مساوي الغضب.
10- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب: فلو قُدّر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره، فلو رأى تغيّر لونه، وشدة رعدته، وارتجاف أطرافه، وتغيّر خلقته، واحمرار وجهه، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه، واشمأز من هيئته15.
فحري بكل مسلم ومسلمة أن يكون بعيداً عن أسبابه ؛ لكي ينجو من الانحطاط الخلقي الذي يمارسه الغاضب من سوء في المقال ، وخبث في الأفعال بدون تمعنٍ في عاقبة الخذلان . وما هذا كله إلا؛ لأن الغاضب لنفسه يقدم العاطفة على العقل في أقواله وأفعاله ؛ فهو يتصرف بعاطفته لا بعقله، ولو علم حقيقة ما يغضب من أجله لعد نفسه من المجانين ؛ لأنه بعيد عن واقع ما يغضب من أجله. والمتأمل في كثير ممن يمارسون سرعة الغضب وانفعاله لديهم يرى أنهم يندمون على فعلهم في حال غضبهم ، فهم في تعاسة في حال فعلهم ، وحسرة على ما صدر منهم بعد زوال الغضب. فهم في شقاق وشقاء وظلام ؛ لأنهم يفعلون ما لا يريدون، ويبغضون ما يصنعون، ويطلبون السلامة بما لا يقدرون إلا بتوفيق الحي القيوم16.
اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال إنك سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً،
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - راجع: مجلة البيان عدد(124) عنوان"الغضب".
2 - عروق من العُنقُ.
3 - رواه البخاري.
4 - أحمد(1/239)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(693).
5 - راجع: شكاوى وحلول ص(44)، الشيخ محمد صالح المنجد.
6 - سنن أبي داود، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5114).
7 - شرح سنن أبي داود(5/141).
8 - البخاري.
9 - أحمد (5/373).
10 - متفق عليه.
11 - متفق عليه .
12 - متفق عليه.
13 - راجع: شكاوى وحلول ص(48). للشيخ محمد صالح المنجد.
14 - المصدر السابق ص(49).
15 - المصدر السابق ص (52).
16 - راجع: مجلة البيان رقم(124)، بعنوان" الغضب".(/2)
ضبط النفس
فضيلة الشيخ: د. ناصر ابن سليمان العُمر
.............................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
احمد الله واثني عليه، وأشكره جل وعلا أن يسر لهذا اللقاء، وأسأله أن يبارك فيه وأن يتمه على خير وبركة، وأشكركم أيها الأخوة على مجيئكم وحضوركم وأسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم يوم القيامة.
موضوعنا كما قرأتم بعنوان ضبط النفس، وهذا الموضوع من المواضوعات المهمة جدا، وبخاصة في هذه الأزمان، خاصة في زمن الفتن الذي تكاثرت على المسلمين.
ولو تأملنا في موضوع ضبط النفس لوجدنا أن القلة من الناس من يتقن هذا الأمر ومن يوفق له، وموضوع ضبط النفس ليس خاصا بفئة دون فئة، بل هو للرجال وللنساء، للصغار وللكبار، للعلماء والدعاة وطلاب العلم وللعامة.
وإنه بسبب عدم ضبط النفس، وبسبب أنفاذ الغيظ والانسياق وراء الغضب والتصرفات المفاجئة، كم حدثت من محن وفتن سواء على مستوى الخاصة أو العامة.
فلو جئنا للخاصة مثلا:
لوجدنا عددا من جرائم القتل أكثرها كان بسبب عد ضبط النفس.
روي أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقود رجلا فقال:
يا رسول الله إنه قتل أبني.
فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): أقتلته؟
قال نعم. قال ولما؟ قال: كنت أحتطب أنا وإياه، فسبني وشتمني فأهويت بالفأس على رأسه فقتلته. أو كما ورد في الحديث.
وكثير من جرائم القتل تقع بسبب نزوة شيطان، وبسبب غضب لا يكتم فيه الإنسان غيظه، ولا يضبط نفسه، فيع ما يقع، وعندما تقرءون كثيرا من البيانات التي تتلى عند القِصاص تجدون أن نسبة عظمى من أولئك كانت بسبب شجار أو خصام توصل في النهاية إلي القتل والقتال.
لو نظرنا إلى داخل البيوت وتتبعنا حالة واحدة وهي حالة الطلاق، ولو سألنا القضاة عن هذا الأمر، وعن أكثر أسباب وقوع الطلاق، لقالوا إنه الغضب، أو نزوة لم بضبط الإنسان فيها نفسه فوقع الطلاق.
إذا هذه المسألة وهي حالات الطلاق أكثرها يقع لعدم ضبط الخصمين وبالذات عدم ضبط الزوج تصرفاته فيقع الطلاق والعياذ بالله.
فأقول إن كثيرا من مسائل الطلاق تقع بسبب عدم ضبط النفس، وكثير من البيوت أصابها الخراب والدمار بسبب تصرفات هوجاء كانت تحتاج إلى مسألة واحدة وهي قضية ضبط النفس.
أما على المستوى العام:
على مستوى الدعاة، وعلى مستوى طلاب العلم، فلو تأملنا في الواقع المرير لكثير من الدعاة وبخاصة في بعض البلاد الإسلامية، لوجدنا أن من أعظم أسبابها أن الأعداء قد استفزوا أولئك الدعاة الصالحين، فوقع كثير منهم في الاستفزاز، ولم يتمكن من ضبط نفسه، ثم انجرت الويلات تبعا لذلك كالسبحة إذا انقطعت تتوالى حباتها الواحدة تلو الأخرى.
فموضوع ضبط النفس نحن في أمس الحاجة إليه سواء على المستوى الخاص في داخل بيوتنا ومع أقاربنا ومع أهلينا ومع جيراننا ومع أصحابنا، وكذلك نحن بحاجة إليه على المستوى الدعوة إلى الله جل وعلا.
نحن بأمس الحاجة إليه وبخاصة في هذه الأيام التي نلحظ فيها كثرة الفتن، وكثرة مراحل الاستدراج، وينصب الفخ لكثير من الدعاة، فقد يقع ، وقد يقعون في ما ينسب لهم من أعدائهم، فمن أجل بيان هذا الأمر وخطورة هذا الأمر نقف هذه الليلة بأذن الله مع هذا الموضوع المهم، وما أشرت إليه من حيث الأهمية ما هو لا نزرا يسيرا يبين أهمية هذا الموضوع.
* ضبط النفس هو بمعنى كظم الغيظ، ولذلك أثنى الله جل وعلى على الكاظمين الغيظ فقال جل من قائل: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * للَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فالمتقين هنا من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، فكظم الغيظ وهو أحد معاني ضبط النفس، جنة عرضها السماوات والأرض، ولو لم يأتنا إلا هذه الآية لكفانا بها والله فضلا وشرفا.
قال القرطبي في معناه:
كظم الغيظ رده في الجوف.
يقال كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه.(/1)
وكظمت السقاء أي ملأته وسددت عليه.
والكظامة ما يسد به مجرى الماء.
ومنه الكظام للسير الذي يربط به فم الذق والقربة.
وكظم البعير جرته إذا ردها في جوفه.
وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه كظم، وكظم البعير والناقة إذا لم يجترا.
فكظم الغيظ هو منعه من أن يقع، فنستطيع أن نعرف ضبط النفس بالكلمات التالية:
فضبط النفس هو منعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة والمفاجئة التي تتطلب قدرا من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف.
وقد أوضحت لكم أن بين كظم الغيظ وبين ضبط النفس ترادف وتشابها، فالذي يضبط نفسه هو الذي يكظم غيظه، وهو الذي يحبس غضبه، وقد ورد أحاديث كثيرة عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) فيها بيان فضل كظم الغيظ وبالتالي ضبط النفس وأقرأ عليكم بعضها:
قال (صلى الله عليه وسلم): (ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (من كظم غيظا وهو قادر أن ينفذه ملء الله جوفه أمنا وإيمانا).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء).
وعنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله جل وعلا).
وكما أسلفت أن الأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
* مظاهر عدم ضبط النفس:
كيف نعرف أن هذا الإنسان لم يضبط نفسه؟ هناك مظاهر عدة ودلالات أذكر هنا أبرزها:
- سرعة الغضب والانفعال، والتأثر.
حدوث أفعال وردود أفعال لم تدرس عواقبها، نسمع أحيانا أن هناك تصرفات تحدث كرد فعل لم تدرس عواقبها، وهذه هي التي قلت قبل قليل أنها تجر علينا الويلات.
مثلا قد يؤذى أحد الدعاة، ويطلب منا في هذا المقام أن ننصر أخانا نصرا مؤزرا، (أنصر أخاك ظالما و مظلوما)، لكن ما الذي يحدث بسبب الحماس والانفعال، وبسبب عدم ضبط النفس ؟
قد يتصرف البعض تصرفات تجر إلى ويلات، وتجر إلى مصائب، وتجر إلى أمور لا تحمد عقباها، وهذا أيها الأخوة يحتاج منا إلى نظر وإلى تبصر.
وحينما أشير إلى ذلك لا لكونها واقعة ولكنني أتحدث عنها لكي لا تقع، لأن معالجة المرض قبل وقوعه أولى من معالجته بعد وقوعه.
لنأخذ مثلا واحدا: عند مسجد من المساجد جاء رجال الأمن لمنع بيع أشرطة التسجيل عند المسجد، وهؤلاء الرجال جاءوا ينفذون أمرا قد صدر لهم، فبسبب الانفعال والحماس تحمس بعض الحضور ووقع احتكاك بين رجال الأمن وبين هؤلاء الشباب الذين لا نشك في حماسهم وخيرهم وصدقهم، ولكن ماذا تكون النتيجة؟
هل هذا التصرف منهم قد منعَ اتخاذ مثل هذه القرارات ؟ لا بل زاد الأمر سوء وجر على هؤلاء الشباب أمورا نحن في غنى عنها.
هناك وسائل مشروعة نسلكها لإلغاء مثل هذه القرارات، بالكتابة للعلماء، بالاتصال بالعلماء، بالكتابة للمسئولين، والوسائل متعددة ليس المقام لحصرها.
ولكن أن نستفز بمثل هذه الأمور، هذا ما يريده الأعداء، وهذا ما يتمناه الأعداء، وهذا ما يسعى إليه الأعداء، فردود الأفعال غير المدروسة، يكون لها من الآثار كما وقع في بلاد كثيرة ما لا يخفى على أمثالكم.
- إطلاق اللسان.
بالسب أو الشتم أو نحو ذلك كما سمعتم قبل قليل في الحديث الذي رواه البخاري لما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) للرجل أقتلته، قال نعم، قال ولما؟ قال لأنه سبني وشتمني، فلم يتمكن هذا من ضبط نفسه فأهوى عليه بالفأس فقتله.
كم من البيوت خربت لأن الزوج لا يتمكن من ضبط لسانه فيقع الطلاق، تتصرف المرأة تصرفا خاطىء وقد تثير زوجها بانفعال أو غيره، فأقرب ما يتجه إليه الزوج هو أن يطلقَ لسانه بالطلاق، وأمر الطلاق ليس بالأمر ليسير ولا بالأمر الهين، وكم جاء للعلماء وجاء للمشايخ من يقول إنني كنت بانفعال، أنني كنت مغضبا وطلقت وأنا لا أشعر.
نعم المرأة تخطئ، والمرأة ضعيفة، لكن كيف نقابل هذا الأمر؟
هل نقابله بالضرب، أو بإطلاق اللسان، لا.
اسمعوا إلى هذه القصة لنعرف كيف نقابل مثل هذه الأحداث التي تقع في البيوت:
كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند عائشة في يوم من الأيام، فأرسلت إحدى زوجاته رضي الله عنهن جميعا طعاما للرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أصلحته بصحفة مع جارية لها.
فلما جاءت بالطعام والرسول عند عائشة، أخذت الغيرة عائشة رضي الله عنها، تأتي بطعام واليوم يومها والرسول عندها.
الغيرة شديدة بالنسبة للنساء، فقامت عائشة وأخذت الصحفة وكسرتها وانتثر الطعام، فقام (صلى الله عليه وسلم) يجمع ما انتثر من الطعام ويقول:
غارت أمكم، غارت أمكم وهو يبتسم (صلى الله عليه وسلم)، وأخذ صحفة جديدة وأرسلها إلى أم المؤمنين بدل ما كسر. الله أكبر ما هذا الأسلوب.
هل نتعامل مع زوجاتنا بهذا الأسلوب ؟
هل غضب (صلى الله عليه وسلم) وضربها ؟
هل غضب (صلى الله عليه وسلم) وتكلم عليها ؟
هل غضب أقل شيء وخرج من عندها ؟(/2)
لم يفعل ذلكح (صلى الله عليه وسلم)، إنما قام هو يجمع ما انتثر من الطعام ويقول غارت أمكم. ويعطي المرأة الأخرى صحفة بدل الصحفة التي انكسرت.
هذا هو خلق المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو الخلق.
كم من المتحادثين وبسبب كلمة قالها أحدهم، فرد عليه الآخر حتى تصل أحيانا إلى أن يلعن الرجل أباه وأمه، (قيل كيف يا رسول الله يلعن الرجل أباه وأمه؟ قال يسب أب الرجل فيسب أباه ويسب أمه الرجل فيسب أمه). أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
إن القلوب إذا تناثر ودها....... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
فهذه بعض مظاهر عدم ضبط النفس.
وهنا يأتي أهم باب في هذا الموضوع، فأقول أدركنا من خلال ما ذكرت أهمية ضبط النفس، وضبط الأعصاب، وأن نتصرف التصرفات الحميدة التي نحسب نتائجها قبل أي تصرف.
كل منا يقول أتمنى ذلك، كل واحد يقول أتمنى أن اضبط نفسي ولكن لا أستطيع، كل منا يقول أريد ن اكتم غيظي ولكن لا أقدر.
فنقول لا، تقدر بأذن الله، تقدر إذا التزمت بأسباب سيأتي ذكر وبيانها:
يقول الشاعر:
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما........للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تصبر ساعة........... يرضى بها عنك الإله وترفع
ويقول عروة ابن الزبير:
لن يبلغ المجد أقوم وإن شرفوا........ حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويُشتموا فترى الألوان مشرقة........ لا عفو ذل ولكن عفو إكرام
* الأسباب والدواعي المضادة لضبط النفس:
بعبارة أخرى ما هي العوامل التي تثير الإنسان؟ الحقيقة أن هناك عدة أسباب تؤدي إلى كون الإنسان لا يضبط نفسه، وكون الإنسان قد يغضب، وكون الإنسان قد يثور، وكون الإنسان قد يستفز وهي أسباب عامة وخاصة، وأذكر هنا أهم تلك الأسباب:
- تحريش الشيطان.
ولا شك فالشيطان جاهز، فالشيطان ينزغ في مثل هذه المواقف لأنه يريد أن يُقع المرء في مثل هذه المهلكات من الاستعجال أو التصرفات التي لا تحمد عقباها.
- استفزاز المنافقين وأعداء الله.
وقد أشرت إلى ذلك، وهذا يكون بمثل الاستفزازات التي تسمعون عنها في أنحاء العالم الإسلامي من استفزازات الأنظمة، والأفراد سواء بالقول أو الفعل، فهناك استفزازات الآن تجري في الكثير من الدول وفي كثير من البلاد، يتولاها منافقون، ويتولاها علمانيون، وتتولها أنظمة معادية للإسلام لتوقع الدعاة في الفخ، لأن المستعجلين منهم قد لا يصبروا فيستعجلوا ويتحمسوا ولا يضبطوا نفسهم.
- الإهانات والضربات الموجه للمسلمين.
وحقيقة أن المسلمون يعيشون في وضع لا يحسدون عليه من الذل والمهانة، وهذا يحتاج إلى شيء من ضبط النفس، والتبصر بالعواقب، والنظر في مآلات الأمور، وعدم جعل هذه الأسباب العامة سببا لهذا الأمر.
ولو تأملنا كيف كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وكم مرة يقول الصحابة له (صلى الله عليه وسلم) أنقبل الدنية في ديننا، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يوجههم بالصبر وبضبط النفس، وعدم التحمس والاستعجال.
- ارتفاع صوت الباطل وخفوت صوت الحق.
- تخاذل بعض القادرين على نصرة دين الله من قول كلمة الحق.
فهناك من القادرين من يستطيع أن يقول للظالم يا ظالم، من يستطيع أن ينصر الدعاة، من يستطيع أن يقف مع المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنه يسكت ويتخاذل، فما الذي يحدث عندها؟ يأتي بعض الشباب ويتحمسون ولا يستطيعون الصبر ولا التحمل فيتصرفون بعض التصرفات التي تكون نتائجها غير محمودة.
- إفشاء وتشجيع الفساد بجميع الوسائل.
وحمايته فهذا سبب من الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم ضبط النفس، وإلى الاستعجال أو إلى التصرفات التي قد لا تحمد عواقبها.
- مضايقة الدعوة والدعاة، مع تشجيع الضد وحماية الضد.
- الأراجيف والإشاعات.
وخاصة أن البعض يتعجلون بتصديق هذه الإشاعات، وهذا مسألة يجب أن نأخذ منها بيانا.
أذكر مثلا: أنه منذ فترة قريبة أوقف بعض الدعاة، فما علم الناس إلا وإعلانات توزع في بعض الأماكن أنه ستكون هناك مسيرة من المسجد الفلاني إلى الإمارة، وبعد التتبع والاستقصاء واهتمام العلماء بهذه المسألة تبين أن طلاب العلم والدعاة ليسو هم من قام بهذا الأمر، وأن هناك أيدي مغرضة تريد الإيقاع بطلاب العلم، تريد الإيقاع بالشباب، وترديد مثل هذه التصرفات التي لا تحمد عقباها.
فهناك إشاعات وهناك تصرفات تكون مكتوبة أو غير مكتوبة يقصد بها إحداث فوضى، يقصد بها إحداث خلل، يقصد بها إيقاع الطيبين في الفخ، فلننتبه.
إذا الإشاعات والأراجيف وألاعيب بعض العابثين قد تكون سببا رئيسا في وقوع بعض الأمور التي لا تضاد ضبط النفس.
- الأحداث المتلاحقة في العالم الإسلامي.
نعم الأحداث التي تجري على المسلمين من التعذيب والأذى والامتهان كما في الصومال والبوسنة والهرسك وفلسطين وغيرها، يجعل بعض الناس قد لا يتحمل، وقد ينفجر، وقد يتصرف تصرفات غير محمودة العواقب.
- الطبائع الفردية.(/3)
فالناس يختلفون، فهناك من أعطاه الله سعة في الصدر، وتحملا وقدرة على ضبط النفس، وهناك آخرون سريعو الغضب، سريعو الثورة، فأي سبب يقع في بيته قد يطلق معه زوجته، قد يسيء إلى ابنه، وقد يتعدى هذا الأمر إلى ما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فبسبب طبيعته المتعجلة، وبسبب طبيعته الشخصية التي لا تتحمل قد يجني على المسلمين ما لا يحمد عقباه.
إذا هذه اختصار بعض الأسباب التي قد تؤدي إلى ما يضاد ضبط النفس.
* وسائل ضبط النفس:
وسائل ضبط النفس كثيرة جدان وأذكر منها هنا ما يناسب المقام، فأقول مستعينا بالله:
- العلم حصن حصين.
نعم فالعلم حصن حصين يمنع من التصرفات الهوجاء، وإليكم الدليل: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).
ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدوة، انظروا كيف كان يتصرف في الشدائد.
كيف كان (صلى الله عليه وسلم) في الملمات.
كيف كان إذا استفز ولطالما استفز (صلى الله عليه وسلم) ولم يقبل الاستفزاز.
ثم انظروا إلة أولئك الذين تحدث منهم ردود أفعال، وغضب ستجدون أن أقل نسبة في هذا هم العلماء.
فالعلم شرف، والعلم حصانة، والعلم مانع بإذن الله من الوقوع في مثل هذه الأمور:
ما الفضل إلا لأهل العلماء إنهمو ........... على الهدى لمن استهدى أدلاء
العلم أولا بعاقبة عدم كظم الغيظ، وبعاقبة كظم الغيظ أيضا، العلم بمائلات الأمور، العلم بفضل كظم الغيظ، بعض الأحاديث التي ذكرتها قبل قليل قد يكون عدد منا يسمعها لأول مرة، وقد يكون مضى من عمره ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة.
إذا عندما نتعلم، ومن العلم الذي نتعلمه فضل كظم الغيظ، هذا يكون مساعدا لنا، وقد سمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جُرعَة، نعم تجرّع كما يتجّرع البعير، فأنتم ترون البعير يتجرعها أولا ثم يعيدها مرة أخرها، فكذلك ضبط النفس وكظم الغيظ وكأن الإنسان يبلعها.
وقد ترون بعض العامة أحيانا حينما توجه له إهانة فيقول بلعتها، أي لن أظهرها ولم أتعدها، فكذلك في الأحاديث سمها رسول (صلى الله عليه وسلم) جرعة يتجرعها الإنسان.
فالعلم حصانة بإذن الله من الوقوع في الغضب أو آثاره.
- تحري الحكمة.
نعم أن نتحرى الحكمة: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). واقرءوا سورة لقمان (ولَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)، فالوصايا التي أوصى بها ابنه تدل على عقل وعلى حكمة وعلى بعد نظر: ( وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
والحكمة هي فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، فضبط النفس هو الحكمة، فهذا الذي نريده أن تفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي وكما ينبغي.
فمن تحرى الحكمة هدي إليها: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، فإذا كنت تتحرى الحكمة في أفعالك، وفي تصرفاتك فأطمئن فستوفق إليها: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ).
- رجاحة العقل.
مما يمنع من التصرفات التي لا تحسب نتائجها رجاحة العقل والرزانة، ولذلك يقول الله جل وعلا: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): (ليس الشديد بالصُرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)، ومما ورد في أهمية العقل ما قال بعض الشعراء:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم....... أدنى إلى شرف من الإنسان
ولربما طعن الفتى أقرانه ............ بالرأي قبل تطاعن الأقران
ويقول آخر:
ألم ترى أن العقل زين لأهله........ ولكن تمام العقل طول التجارب
يقول لك العقل الذي زيّن الفتى..... إذا لم تكن تقدر عدوك داره
ويقول آخر:
يعد رفيع القوم من كان عاقلا ..... وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حل أرضا عاش فيها بعقله..... وما عاقل في بلدة بغريب
ويقول آخر بيتا هو نص في موضوعنا:
ذوي العقل في معترك الأقدار مقتدر..... لكن ذا الجهل مغلوب ومغلول
وعقل ذو الحزم مرآة الأمور بها......... يرى الحقائق والمجهول مجهول
فالعقل أيها الأخوة مرآة ومانع من الوقوع في المحظور.
- ضبط اللسان.
يقول (صلى الله عليه وسلم) أمسك عليك لسانك، ولما قال له معاذ رضي الله عنه: إن يا رسول الله مآخذون بما نتكلم؟ قال ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وقال (صلى الله عليه وسلم) وقد أمسك بلسان نفسه: كف عليك هذا.
ودخل عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آخذ بلسانه يجره، وكأنه يريد أن يقلعه، قال له يا أبا بكر حسبك، قال هذا الذي أوردني الموارد.
أبو بكر الصديق يقول عن لسانه هذا الذي أوردني الموارد، ماذا نقول نحن عن ألسنتنا، فالمحافظة على اللسان وضبط اللسان مما يمنع من التصرفات التي لا تحمد عقباها.(/4)
يصاب الفتى من عثرة بلسانه....... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه....... وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
احفظ لسانك أيها الإنسان......... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه........كانت تهاب لقاءه الشجعان
الصمت زين والسكون سلامة...... فإذا نطقت فلا تكن مكثار
فإذا ندمت على سكوتك مرة....... فلتندمن على الكلام مرار
احفظ لسانك واستعذ من شره...... إن اللسان هو العدو الكاشح
وزن الكلام إذا نطقت بمجلس....... فإذا استوى فهناك حلمك راجح
والصمت من سعد السعود بمطلع..... تحي به والنطق سعد الرابح
عود لسانك قول الخير تنجو به....... من زلة اللفظ أو من زلة القدم
واحذر لسانك من خلٍ تنادمه........ إن النديم لمشتق من الندم
فالمحافظة على اللسان وضبط اللسان سبب لضبط النفس بل هو جزء من ضبط النفس.
- التجرد لله جل وعلا.
وهذا سبب أوجهه لأحبتي من الدعاة ومن طلاب العلم بصفة خاصة.
وللأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وللقائمين بحدود الله.
التجرد من حظوظ النفس فعند التأمل والتحقيق قد يكون الغضب ليس لله، كيف؟
كم من الناس يغضبون ثم يتصرفون ثم يقولون غضبنا لله، ولو درسنا المسألة دراسة حقيقة مجردة لثبت لنا أنه في الحقيقة لم يكن الغضب لله، بمعنى أنه قد يكون أصل الغضب لله نعم.. مثلاً:
قد تأتي لإنسان فتقول له قم للصلاة جزاك الله خيرا، فيتلفظ عليك بكلمات، فقد لا تحتمل أعصابك فتصرف إما بالضرب أو بالشتم أو بغير ذلك. نعم يحدث هذا، وعندما يقال لك لماذا هذا التصرف؟ تقول إنني غضبت لله.
تأمل أخي الكريم، تأمل أخي الداعية أأنت غضبت لله أم غضبت لنفسك؟
كثير من الناس يقع في هذا البلاء وقد غضب لنفسه ولم يغضب لله جل وعلا، صحيح أنه كان يأمر بالأمر بالمعروف، صحيح أنه كان ينهى عن المنكر، وكان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لله، لا نشك في ذلك، لكن ما حدث بعد ذلك من ثورة وغضب وفوران وتعدي لم يكن لله جل وعلا، ولكن لأن هذا الشخص أساء إليك فغضبت لنفسك.
فالتجرد من حظوظ النفس وهو أمر لا يقدر عليه إلا من أعطاه الله قوة وعزما: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
فأقول أن نتجرد لله جل وعلا وأن يكون غضبنا لله لا لأنفسنا، ولو تأملنا وأخذنا الأمور بهدوء وناقشنا أنفسنا بعد ذلك، لوجدنا أن الغضب الذي كثيرا ما يحدث م يكن أثره غضبا لله وإنما هو لحظ النفس.
إذا فالتجرد من حظ النفس يعين على ضبط النفس بإذن الله.
- التربية الجادة وحسن الخلق.
وهنا كلمة للآباء والأمهات، وإلى المربين بصفة خاصة بالتربية على التحمل، ربوا أبناءكم، ربوا تلاميذكم على تحمل الإساءة من الآخرين، إننا لا نستغرب الإساءة من الآخرين، ولكننا نستغرب ردود الأفعال من الصالحين.
يقول (صلى الله عليه وسلم): (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). فالتربية الجادة، والتربية الصالحة تؤدي بإذن الله إلى ضبط النفس.
وأشير هنا إلى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يشجع أصحابه على ضبط النفس، قال لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبوهما الله جل وعلا؛ الحلم والأناة).
فالحلم كما سيأتي بعد قليل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يربي على ذلك، والتربية على التصرف في الأزمات مما يساعد على التخلص من هذا البلاء.
- معرفة مآلات الأمور.
من أعظم الأسباب التي تمنع من التصرفات الخاطئة معرفة عواقب الأمور، وإتقان قاعدة المصالح والمفاسد، الله جل وعلا يقول للصحابة:
( ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )، إذا كان سب الأصنام سيؤدي إلى سب الله جل وعلا، فلا تسبوا الأصنام، هذه قضية نغفل عنها.
الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاء ليحطم الأصنام وجاء لينقل الناس من عبادة الأصنام إلى عبادة الله، ومع ذلك نجد أن الله ينهى الصحابة من أن يسبوا الأصنام، لماذا؟
لأن سب الأصنام يؤدي إلى أن المشركين يسبون الله جل وعلا.
فالمعرفة بمآلات الأمور أمر عظيم جدا.
معرفة النتائج أمور مهم جدا، الآن قد يأخذنا الأنفال بتصرف أهل السوء تصرفات هوجاء، ومع زحمة الانفعال والغضب والغيرة على دين الله وعلى محارم الله قد نتصرف ولا نعرف ماذا سيترتب على ذك، ونحن يجب أن نكون أكثر حكمة.
وإليكم هذا المثال:
قصة أصحاب القرية التي وردت في سورة ياسين:
أرسل الله جل وعلا لقرية رسولين، ثم عزز بثالث، فقالوا إنا إليكم مرسلون، ودامت القصة بين أهل القرية وبين الرسل، وفي آخر المطاف قال أهل القرية، لأن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم، هذه نهاية القصة.(/5)
فجاء رجل مؤمن، انظروا كيف يتم ضبط الأعصاب، انظروا كيف التصرف في المواقف الحاسمة: ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، ماذا سيفعل هذا الرجل؟
أهل القرية يهددون الرسل، أهل القرية يعلنون الشرك علانية، انتبهوا معي بدقة إلى أصل القصة، مشركون بالله ويستهزؤن بالرسل، يعلنون أنهم سيعذبونهم وسيقتلونهم، ويأتي الرجل يسعى ماذا سيفعل؟ ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
أرأيتم الأسلوب، أريتم ضبط الأعصاب، أرأيتم كيف التصرف في مواقف الشدة، يقول يا قومي، بأحب الألفاظ إليه، وكان المتوقع بحدود فهمنا القاصر أنه مادام هؤلاء يهددون الرسل ويؤذنهم ويريدون أن يقتلوهم أن يأتي هذا ويلتحم بمعركة مع هؤلاء المشركين، لا، بل يقول بأحب الألفاظ إليهم: ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
هل ستواجهون منكرا أعظم من هذا؟ أي منكر رأيتموه لن يكون أعظم من منكر أهل القرية، لأن أهل القرية مشركون كفروا بالله، هددوا الرسل، استهزئوا بالله، ومع ذلك يأتي هذا الرجل ويقول هذه الكلمات الهادئة، هذه الكلمات العاقلة، هذه الكلمات المطمئنة، ويثني الله جل وعلا عليه في نهاية القصة :( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
فإذا رأيتم منكرا لا نقول لا تغيروه، كلا وحاشا، ولكن ضبط الأعصاب مطلب شرعي لنعرف كيف نتصرف.
إذا اللهَ الله بالحلم وتدريب النفس على ذلك، الحلمَ الحلم، وإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، وقدوتنا في ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
روى أنس أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجذبه من عنقه قال يا محمد أعطني من مال الله، يقول أنس حتى رأيت أثر الجذبة بين رقبة وحتفه (صلى الله عليه وسلم)، ماذا فعل (صلى الله عليه وسلم)؟ تبسم وأعطاه حتى أرضاه. حلم عجيب ولا عجب فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يوسف عليه السلام:
تصوروا أن إخوانه الذي آذوه، وألقوه في البئر حتى سيق مملوكا، واشتري بثمن بخس، وسجن سنوات طويلة، ثم بعد ذلك يصبح عزيز مصر، فلما جاءت قصة أخيه قال أخوته:
( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، ماذا يقصدون ؟
يقصدون يوسف عليه السلام، هذا الذي أذوه وأهانوه وهو الآن عزيز مصر، ماذا فعل يوسف؟ وانظروا إلى ضبط النفس:
( فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ).
حتى ما أراد أن يجرح مشاعرهم بهذه الكلمة، نعم حتى كلمة (أنتم شر مكانا) ما نطقها بل قالها سرا في نفسه،مع أنه وهو في موقعه عزيزا لمصر يستطيع أن يأخذهم وأن يعاقبهم وأن يعذبهم وأن يقتلهم، لكن مجرد أن يجرح مشاعرهم مع أنهم أذوه من قبل، بل وإلى الآن هم يجرحون مشاعره عندما قالوا: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، يتهمونه بالسرقة أيضا رغم أنه لم يسرق عليه السلام، وإنما هي تهمة لُبّست عليه وهو صغير، ومع ذلك لم يرد عليه السلام أن يجرح مشاعرهم، وهذا والله هو كظم الغيظ مع القدرة على التنفيذ، مع القدرة على المعاقبة.
عندما كان عليه السلام صغيرا وأخذوه وألقوه في البئر لم يكن يملك من أمره شيئا، ولكن الآن هو عزيز مصر ولو أراد أن ينتقم منهم لفعل، ولكن ليست قصة انتقام، بل حتى أن يجرح مشاعرهم بكلمة واحدة لا يريد.
الأحنف وهو سيد قومه يقال أنه إذا غضب غضبَ له مائة ألف لا يسألونه فيما غضب، لكن متى يغضب الأحنف؟ قيل له ممن تعلمت الحلم؟:
قال تعلمته من قيس ابن عاصم حيث كان يوما جالسا مع أصحابه في مجلسه، فجاءوا له برجل مقيد يرسف بالحديد، وقالوا له: هذا أبن أخيك قتل ابنك.
فالتفت إلى أبن أخيه وقال: يا ابن أخي أقتلت ابن عمك وأسأت إلى لرحمك، وأثمت نفسك.
ثم التفت إلى ابنه وقال قم أطلق سراح ابن عمك، وأدي الدية إلى أمك، وجهز أخاك ثم آذنا بعد ذلك، واستمر في مجلسه، نعم لم يتحرك من مجلسه. الله أكبر.
ميمون ابن مهران:
كان جالسا مع أصحاب في مجلسه، فجاءت الجارية تحمل مرقة حارة لتقدمها لهم، فعثرت وسقطت المرقة على ميمون ابن مهران، فغضب غضبا شديدا، وكاد أن يعاقبها.
فقالت له حسبك، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فكظم غيظه.
قالت ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) قال قد عفوت عنك.
قالت: (َاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال أنتي حرة لوجه الله جل وعلا.
الحلم أيها الأخوة زين ومن زينة الرجال:
ألا إن حلم المرء أكرم نسبة ......... تسامى بها عند الفخار حليم
فيا رب هب لي منك حلما فإنني..... أرى الحلم لم يندم عليه كريم(/6)
أحب مكارم الأخلاق جهدي....... وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلما...... وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه............ ومن حقر الرجال فلن يهابا
- الأعراض عن الجاهلين.
وهذا مما يساعد على ضبط النفس، يقول جل وعلا:
( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، ويقول: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)، ويقول: ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً).
ومرة أخرى كان الأحنف يسير إلى مجلسه، وورائه رجل يتبعه ويسبه ويشتمه، فلما قرب الأحنف من بيته وقف وقال لهذا الرجل الذي يسبه ويشتمه، وكان يجري خلفه منذ مسافة، قال له يا أخي اعطني ما بقي عندك، أكمل السب والشتام، فأستغرب الرجل فقال لماذا؟
قال أخشى أن أدخل إلى حارتي وأنت تسبني فيراك سفهاء قومنا فيؤذوك وأنا لا أريد أن يؤذوك، فأطرق الرجل حياء وانصرف.
ولقد أمر على اللئيم يسبني ........... فمضيت ثم قلت لا يعنيني
لو كل كلب عوى أقمته حجرا ...... لأصبح الصخر مثقالا بدينار
فالإعراض عن الجاهلين منهج يؤدي إلى ضبط النفس.
- دفع السيئة بالحسنة.
يقول تعالى: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ويقول (صلى الله عليه وسلم): ( اتق الله حث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن).
- الاستشارة.
نعم مما يعين على ضبط النفس الاستشارة فيما يجب اتخاذه من المواقف الطارئة والمفاجئة والاستعداد لذلك: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
ولكن ما معنى أن نتشاور؟
هو أن نقول نتوقع أن يحدث كذا، واحتمال هذا اليوم أن يستفزنا أحد، واحتمال عند وقوع هذا الأمر أن يحدث كذا، ماذا تنصحونا ؟
فنتشاور عن الحدث قبل وقوعه، فإذا وقع وإذا نحن قد قلبنا النظر، وإذا نحن قد استشار بعضنا بعضا، فنعرف كيف نتصرف، أما إذا أقدمنا دون استشارة فقد يكون أحدنا يرى الحسن خطأ والخطأ حسن: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ).
- الصبر والتقوى.
يقول تعالى: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)، ويقول: ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول: ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
ويقول الشاعر في الصبر:
أصبر قليلا فبعد العسر تيسير ...... وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا قدر.......... وفوق تدبيرنا لله تدبير
أصبر فبالصبر خير لو علمت به..... لكنت باركت شكرا صاحب النعم
وأعلم بأنك إن لم تصطبر كرما.... صبرت قهرا على ما خط بالقلم
كن حليما إذا بليت بغيظ......... وكن صبورا إذا أتتك مصيبة
فالليالي من الزمان حبالى.......... مثقلات يلدن كل عجيبة
أصبر قليلا وكن بالله معتصما..... لا تعجلن فإن العجز بالعجل
الصبر مثل اسمه في كل نائبة....... لكن عواقبه أحلى من العسل
إذا جرحت مساويهم فؤادي...... صبرت على الإساءة وانطويت
وجئت إليهمو طلق المحيا......... كأني لا سمعت ولا رأيت
فالصبر من أعظم العلاج في مسالة ضبط النفس.
- الالتزام بما ورد في الشرع الذهاب الغضب.
وهي وسيلة عظيمة تجمع عدة وسائل، فأنتم تعلمون أن موضوع ضبط النفس يعني مدافعة الغضب، فكيف يدفع الواحد منا غضبه.
فمثلا إذا غضب الواحد منا على زوجته أو على ابنه، أو على أقاربه، أو أثاره الغضب على أمر من أمور الشرع، فكيف يذهب هذا الغضب؟
هذا الموضوع يحتاج بذاته إلى محاضرة خاصة، وأحيل الأخوة إلى كتاب للشيخ محمد المنجد بعنوان (شكاوى وحلول)، وهي رسالة جميلة ذكر فيها بابا عن الغضب، وكيف نعالج الغضب، وأذكر لكم هنا أبرز الوسائل التي مستطيع أن ندفع بها الغضب، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:(/7)
الاستعاذة بالله من الشيطان: فعن سليمان بن سرد قال: كنت جالسا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ورجلان يستبان، فأحدهما أحمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان لذهب عنه ما يجد. وقال (صلى الله عليه وسلم) إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله سكن غضبه.
إذا التعوذ من الشيطان وسيلة مهمة من وسائل ضبط النفس.
السكوت: فيا أخي الكريم إذا غضبت إياك والكلمة، أخرج واترك الموضع، قال (صلى الله عليه وسلم):( إذا غضب أحدكم فليسكت).
السكون وتغيير الحالة التي هو عليها: قال (صلى الله عليه وسلم):(إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فيضطجع).
وهذا حديث يبين لنا كيف نتصرف: (قال رجل للنبي (صلى الله عليه وسلم) أوصني، قال لا تغضب، قال أوصني، قال لا تغضب، قال أوصني، قال لا تغضب.)يقول هذا الصحابي ففكرت حين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
فإذا كنت مع زوجتك تتكلم مثلا، اعلم أنك لو أنفذت غضبك فقد يقع الطلاق، وماذا بعد الطلاق ؟، لو كنت مع خصم لك وغضبت فقد يحدث ما لا يحمد عقباه.
أذكر هنا قصة عجيبة حدثت قبل سنوات:
(امرأة من أهل السنة ذهبت لشراء اللحم، وكان بعض الجزارين في تلك البلاد من الرافضة، فذهبت إلى أحد الجزارين وكان رافضيا، فقالت أريد منك لحم، فقام وأعطاها لحما، فلما نظرت اللحم فإذا هو قد غشها، فغضبت ورمت اللحم عليه وقالت أعطي هذه للخميني (وكان ذلك أيام الثورة)، فما كان من هذا الجزار إلا أن رفع السطور وقسمها نصفين، عليه من الله ما يستحق). أرأيتم الغضب ؟
فالغضب أيها الأخوة سببا لأكثر مشاكل القتل، نعم تبدأ مشاجرة عادية ثم تتطور شيئا فشيئا حتى تصل إلى القتل.
الدعاء: وهو من أعظم ما يضبط النفس، فالدعاء سلاح، أن يلح الإنسان على الله بالدعاء أن يرزقه حلما وعلما ويقينا وثباتا، نعم خاصة الثبات، أدعوا الله أن يثبت أقدامكم.
هذه أبرز وسائل ضبط النفس.
وأخير أقف مع نقطتين مهمتين:
* الأولى ثمار ضبط النفس:
- أولا ثمرة من ثمار ضبط النفس الاتصاف بصفة من صفات المتقين.
( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
تفويت الفرص على الأعداء، وحماية الصحوة من المتربصين.
يا شبابنا يا إخواننا والله إن الأعداء يتربصون ويتمنون أن يقع من شباب الصحوة، ومن طلاب العلم تصرفات تكون مبرر للإيقاع بهم، ففوتوا الفرصة عليهم، فإن من أعظم ثمار ضبط النفس تفويت الفرصة على الأعداء.
- تجنيب النفس الحسرة والندامة.
وكم من الناس في السجون يتحسرون على نزوة حصلت، كم من الرجال في داخل بيوتهم يتأثرون ويتحسرون على خراب بيوتهم.
جاءني رجل منذ أيام يقول لي أبحث لي عن مخرج، قلت ما الذي حدث؟
قال طلقت زوجتي وهذه هي المرة الثالثة أي بانت منه، وكنت مغضبا ومشكلتي الآن أطفالي ماذا افعل بهم؟ إن جلسوا معي مشكلة وإن ذهبوا معها مشكلة.
وهو الآن يعيش في حالة لا يعلمها إلا الله، ولم أجد له مخرج لأنني وجدت أن أسباب الغضب التي أدت به إلى الطلاق لا تبرر أن نعتبر أن إحدى تلك الطلقات خارجة عن إرادته، فقلت لا أجد لك حلا وأذهب إلى من هو أعلم مني.
وهو الآن يعيش حسيرا كسيرا متألما بسبب غضب لم يكظمه، فخرب بيته.
وإنني هنا أوجه الآباء والأمهات إلى الترفق بأبنائهم وإلى كظم الغيظ مع منهم تحت أيديهم، فقد كان (ص) رفيقا بأبنائه يداعب الحسن والحسين، ويفرح فرحا شديدا بمقدميهما، كان (ص) وهو يصلي يحمل إمامة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، كان لطيفا بالأطفال، كان يداعب أبا عمير طفل من الأطفال ويقول له: يا أبا عمير ما فعل النغير - طائر كان يلعب به -.
أما ما يفعله بعض الآباء فخذوا بعض هذه القصص ولعل فيها العبرة:
دخل أحد الآباء يوما على أولاده فوجدهم قد عبثوا في أثاث المنزل، تعلمون عن لعب الصغار يلحق بعضهم بعضا، وقد يرمون كرة وقد يكسرون شيئا أو يفسدون شيئا.
فغضب غضبا شديدا ونادى أكبرهم وربطه بيديه ربطا شديدا، وأقسم على أمه إن فككته من رباطه فأنت طالق.
وكان الطفل يبكي بكاء شديدا ويتأوه والأب لا يتصرف ولا يحرك ساكنا حتى ازرقت يدا الطفل. أخذه إلى المستشفى فقالوا له:؛
لا خلاص إلا بأن نقطع يدا أبنك، حيث أن هذا الدم إن وصل إلى القلب مات الطفل، فأضطر بعد أن اقتنع أن يوقع على قطع يدا أبنه، وهو يبكي.
ولما انتهت العملية وأفاق الطفل وجاء أبوه يزوره وكان يقول لأبيه:
يا أبتي أعد إلى يدي ولن أعبث بأثاث المنزل، والأب كلما رأى أبنه بكى وتأثر بسبب تصرف أهوج كان هو أعقل من أن يفعل ذلك.
و يقول لي أحد الآباء إن أحد أبنائي كان عاصيا ومفرطا وكنت آمره وأنهاه ولم يأتمر ولم ينتهي، وقد كان هذا الأب قواما صواما فقام ودعا عليه.(/8)
وأثناء مجيء ابنه من إحدى المباريات وقع له حادث وأصيب بشلل، ولله لقد رأيت هذا الابن وهو مشلول على الكرسي، وأبوه يقول أن أذاه بعد شلله كان أعظم من أذاه قبل شلله.
كان يكسر زجاج البيت، كان يسب أهله كان يؤذيهم، وفي نهاية المطاف ما كحان منه إلا أن أحرق نفسه مع البيت، ثم توفي أبوه بعد ذلك.
فبعض الأمهات هداهن الله تدعو على أبنه غضبا، وقد توافق ساعة إجابة، فيا أختي الكريمة عودي لسانك بدلا من أن تقولي أهلكك الله أن تقولي أصلحك الله:
عود لسانك قول الخير تنجو به........ من زلة اللفظ أو من زلة القدم
فبدل أن تسب أدعو لأبنك، بدلا أن تدعو عليه أدعو له: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).
أحد الآباء شد على ابنه وغضب عليه، وأمره أن يخرج في الظلام لينفذ له حاجة من الحوائج، والابن الصغير الخائف يقول لا أستطيع، فأصر عليه والده وهو يقول له أنت جبان أخرج، فخرج وكان عمره عشر سنوات، فلما عاد الابن رجع وقد فقد عقله.
فأقول رفقا بأبنائكم، لطفا بأبنائكم، رحمة بأبنائكم.
- القدوة الصالحة.
طفل من الأطفال خرج في يوم من الأيام مع مجموعة من الدعاة، فلما وصلوا إلى القرية التي ذهبوا إليها قالوا: كل منا يذهب إلى شارع ويطرق البيوت على أهل هذه البلدة ويقول إن إخواننا لكم قد جاءوا لزيارتكم وهم سيلقون درسا أو محاضرة في المسجد الفلاني.
هذا الطفل ذهب وطرق باب أحد الناس، فخرج عليه صاحب البيت وربما كان نائما أو مشغولا أو لسبب من الأسباب، فلما خرج قال للطفل لماذا طرقت الباب، قال نحن إخوان لكم جئنا من مدينة كذا ونريد أن نزوركم وأن تحضروا معنا بعض الدروس، قال أمن أجل هذا تطرق الباب، ثم بصق في وجهه بغضب.
فما كان من هذا الطفل إلا أن مسح البصاق في وجهه وهو يقول: الحمد لله الذي أوذيت في سبيلك ثم انصرف.
هذا الرجل وقف مشدوها، فما كان منه إلا أن لحق بالطفل وقال له:؛
قف يا بني، لقد أخطأت عليك، أين إخوانك فأنتم ضيوف علينا وأريد أن تسامحني، ثم ذهب معه إليهم وجلس معهم وأكرمهم. أرأيتم القدوة الصالحة، نحتاج إلى قدوات لضبط النفس.
*أخيرا وقفات مهمة:
- الوقفة الأولى:
اعلموا أن عدم ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة، يعني إذا جاء إليك إنسان وقال أن فلانا شتمنى أو تصرف كذا وأني ضربته، فلا تقل له أنه بطل، أبدا فهو بالحقيقة ضعيف، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ).
يقول الإمام أحمد رحمه الله مبينا هذه المسألة:
(الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملا فهو صدّيق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس بعد ذلك إيمان).
إذا عد ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة.
- الوقفة الثانية:
هناك فرق عظيم بين ضبط النفس وبين الذل، فقد يقول قائل أن المعنى أن كل ما جاءنا نصبر عليه، وهذا يؤدي بنا إلى الذل والضعف، أقول لا.
فرق بين الذل وبين ضبط النفس:
ضبط النفس هو تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الله ومن أجل دعوته.
ضبط النفس هو تحمل الأذى والنظر في مآلات الأمور.
ضبط النفس هو مراعاة قواعد المصالح والمفاسد.
فإذا كان تصرفك سيجر علينا مصيبة أعظم فلا، وبارك الله فيك، أما إن كنت قادرا ولن يترتب على ذلك مفسدة فأقدم وبارك الله فيك، إن كنت صاحب سلطة فأدب هؤلاء.
أما الذل فهو تحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة النفس، كثير من الناس يتحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة نفسه، يخشى على وظيفته، أو يخشى أن يسجن، أو يخشى من أي أذى شخصي وهذا هو الذل.
هؤلاء هم الذين يتربون على الذل، أما أن تتحمل في سبيل الله، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وضع السلى على رأسه الكريمة فما حركه وصبر (صلى الله عليه وسلم)، بل شجوا رأسه وصبر (صلى الله عليه وسلم).
فيجب أن نفرق بين ضبط النفس وبين الذل حتى لا يقع وهم، أو يتصور أحد منكم أن هناك خلط بين الأمرين.
( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى )، لا نحن لا نقبل بالذل ولا نرضى به أبدا، ولكن هناك فرق بين الأمرين فلتنتبهوا.
* الوقفة الأخيرة:
أن الغضب لله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعا، وهذا آخر ما أختم به كلامي لأهميته، الغضب من أجل الله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعا ولكن بضوابطه الشرعية، ضوابط المصلحة والمفسدة.
فالرسول (صلى الله عليه وسلم) الرحيم الحليم قد غضب غضبا شديدا عندما خرج والصحابة يتكلمون في القدر، وكأن ما تفقأ في وجهه الرمان (صلى الله عليه وسلم) أو كحب الرمان، وقال أيضرب بكتاب الله بعضه ببعض وأنا بين أظهركم.
وعندما بلغه أن معاذا كان يطيل الصلاة في الناس غضب (صلى الله عليه وسلم) وقال: أفتان أنت يا معاذ.(/9)
وعندما دخل على عائشة ووجد في غرفتها صور غضب (صلى الله عليه وسلم).
عندما جاء إسامة يشفع في المخزومية غضب (صلى الله عليه وسلم) وقال: يا إسامة أتشفع في حد من حدود الله.
وعندما قتل إسامة الرجل الكافر الذي قال في آخر حياته (لا إله إلا الله)، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): أقتلته وقد قال لا إله إلا الله؟ ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة وغضب (صلى الله عليه وسلم).
ولكن غضبه لم يخرجه عن الحد الشرعي، وحاشاه من ذلك، بل إن غضبه شرعيا (صلى الله عليه وسلم).
إذا الغضب لله في ضوابطه الشرعية، وإذا لم يؤدي إلى مفسدة أعظم، وضبط بهذه الضوابط فهو مطلوب، والذي لا يغضب لله لا خير فيه.
وقد ذكر بعض الشعراء بعضا من ذلك:
إذا كنت محتاجا إلى الحلم إنني ...... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ....... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ........ ومن شاء تعويجي فإني معوج
ونحن لا نسميه جهلا، ولكن الشاعر سماه جهلا.
إذا كنت بين الحلم والجهل ناشئا....... وخيرت أنى شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصف..... ولم يرضى منك الحلم فالجهل أمثل
والجهل هنا يقصد به الغضب.
ولا خير في حلم إذا لم يكن له...... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له...... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فأقول إن الغضب في الله، والغضب لله ولمحارم الله وضبط بضوابطه الشرعية فهو مطلوبا شرعا.
وختاما:
أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القوا فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد الله وتوفيقه.
………………………………………………………
واحات الهداية(/10)
ضوابط في إلقاء الكلمات السريعة أو القصيرة المعروفة بـ ( الخاطرة)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
إننا نعيش في زمن يتسابق الناس فيه على جودة العرض، وسبل الجذب الآخذة إلى الخير أو الشر. ومن الضروري أن يحتل دعاة الإسلام الذروة في الجودة والحسن لطرق الدعوة إلى الله؛ لأننا نعيش زمن الصراعات، وفي شباب المسلمين صحوة تتطلع في هداية التعليم إلى الأسلوب الأمثل مما دفعني إلى جمع ما تفرق في موضوع البحث من عدة مراجع لتحديد المواصفات الخاصة بالكلمات السريعة المسماة بالخاطرة فأقول:
تختلف المقامات والأحوال، ولذلك قد يقتضي المقام كلمة مطولة أو درساً وما شابه ذلك، وقد يقتضي المقام كلمةً موجزةً قصيرة، وهذا التنوع لا يشك عارفٌ بالسنة الشريفة في وجوده في أيام المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال، لو تتبعت كتاباً مثل: (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله وهو نموذج متنوع من السنة النبوية لوجدت بعض الأحاديث طويلة إلى حد ما، وبعضها كليمات تُعدُّ على الأصابع، ولا شك أن المقام والحاجة لها دور في الإطالة والقصر، ومن هنا نستطيع أن نقول أن ما يسمى بـ الكلمة السريعة أو )الخاطرة) الآن كان موجوداً من ناحية معناه وحقيقته وإن كان غير معروف بهذه التسمية. وهذه التسمية (الخاطرة) هي من اصطلاحات المتأخرين، ولذلك نريد أن نتعرف على حدود وتعريفات وضوابط ما يُسمَّى بالخاطرة، ونحن لم نجد – بحسب إطلاعنا- من تكلم عن ضوابط الخاطرة مع انتشارها، وسهولتها وحاجة الناس إليها، فحاولنا أن نجمع ما استنبطناه من مواصفاتها وحدودها عسى أن يسهم ذلك في تمييز الخواطر وضبط شأنها، وعدم الخلط بين أصناف الخطاب المتعددة، فإن الخلط بين أصناف الخطاب المختلفة يؤدي إلى مفاسد، من أقلها الإملال وعدم الاستفادة من الكلام، وضبط الأصناف يؤدي إلى وضع الأمور في نصابها، ومراعاة المقام. فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: تعريف الخاطرة لغة:
خطر الأمر بباله وعلى باله وفي باله، يخطُر ويخطِر خُطُوراً: مرَّ أو ذكره بعد نسيان.
ومن الأول ( أي: خطر بباله) قول أبي الطيب المتنبي:
بتنا يناولنا المدامَ بكفِّه مَن ليس يخطُر أن نراه ببالِه
ومن الثاني (أي: خطر على باله) قول ابن الفارض:
أرى البعد لم يُخطر سواكم على بالي وإن قرَّب الأخطار من جسمي البالي.
ومن الثالث (أي: خطر في باله) قول الحريري:
وكم أخطر في بالِ ولا أخطر في بالِ
_أي: وكم أمشي في ثوب بالٍ، ولا أمر في بال أحدٍ_.
وخَطَر الشيء بباله من باب (دَخَل)، وأخطره الله بباله، وعلى باله جعله يخطر، وخطر بقلبي من الذكر خَطَرة، أي ذكرة، قال الشاعر:
خطرت خطرة على القلب من ذكـ راكِ وهناً فما استطعت مضيا.
والخاطر اسم فاعل: الهاجس، والجمع: (خواطر).
وقولهم: يصقل الخاطر وينشط الفاتر، أي: يجلو القلب ببسطه إياه، ويقال: شاعر سريع الخاطر، أي عاجل البداهة في النظم، وجاش الشعر في خاطره، أي في نفسه، من قولهم: جاشت القدر، إذا غلت... إلخ.
ثانياً: تعريف الخاطرة اصطلاحاً:
قال أبو البقاء في (الكليات): الخاطر: اسم لما يتحرك في القلب من رأي أو معنى، سمي محله باسم ذلك، يقال فيه: خطر ببالي أمر، وعلى بالي أيضاً، وأصل تركيبه يدل على الاضطراب والحركة، وأطلق الخاطر على القلب والنفس مجازاً من باب إطلاق لفظ الحال على المحل..) أ.هـ بتصرف.
قلت: ونستطيع بعد النظر في المعنى اللغوي لكلمة (خطر) وتعريف (الخاطر) عند أبي البقاء وغبره وكذلك بالنظر في العرف بالنسبة للخاطرة، نستطيع أن نقول:
"الخاطرة: "هي كلمة موجزة قصيرة يلقيها المتكلم خطيباً أو واعظاً من أجل التنبيه على قضية أو مسألة محددة خطرت بباله، أو أعدها مسبقاً في زمن قصير دون استطراد أو إطالة أو مداخلة".
قلت: ولا شك أن هذا التعريف ليس بالتعريف المنطقي الذي يسمونه "التعريف الجامع المانع"، ولكنه تعريف تقريبي اجتهدت فيه أرجو أن يجزئ إن شاء الله.
وقال بعضهم: الخواطر عند أكثر المتصوفة أربعة:
1. خاطر من الحق، وهو علم يقذفه الله تعالى من الغيب في قلوب أهل القرب والحضور من غير واسطة.
2. وخاطر من المَلَك: وهو الذي يحث على الطاعة، ويرغب في الخيرات ويحذر من المعاصي والمكاره ويلوم على ارتكاب المخالفات، وعلى التكاسل عن الموافقات.
3. وخاطر من النفس: وهو الذي يتقاضى الحظوظ العاجلة، ويظهر الدعاوى الباطلة.
4. وخاطر من الشيطان: وهو الذي يدعو إلى المعاصي والمناهي والمكاره.
قلت: وهذا التقسيم فيه ما فيه، ويريد به الصوفية التوصل إلى شطحاتهم، وخواطرنا التي نحن فيها – إن شاء الله- هي من الله الحق، أو من لمة المَلَك وشاهدها أنها حث على مسألة شرعية.
ثالثاً: أسباب الحاجة إلى الخاطرة:(/1)
تختلف الأحوال، وتختلف المقامات والمواقف، فرب موقف يحتاج إلى خطبة أو درس، ورب موقف يحتاج إلى كلمة موجزة قصيرة، وهو ما يسمى بالخاطرة، فوضع الكلمة القصيرة (الخاطرة (مكان الخطبة أو الدرس، أو وضع الخطبة أو الدرس مكان الكلمة القصيرة ( الخاطرة) هو من باب وضع الشيء في غير محله، وهو مناف للبلاغة وفن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قالوا: (لكل مقام مقال) أي لكل مقام ما يناسبه من فنون القول والكلام؛ كما أن لكل داء دواء، فكما أنه لا يصلح دواء واحد لكل الأدواء، فكذلك لا يصلح أسلوب واحد لكل المقامات والأحوال، وإنما على الداعية أن يكون كالطبيب الحاذق، الذي يضع الدواء مواضعه، فيصيب البرء بإذن الله تعالى.
رابعاً: مكان الخاطرة: المسجد (غالباً) أو أي مكان يمكن أن يجتمع فيه الناس كالمدرسة أو البيت أو المأتم أو المقبرة أو السوق أو السجن أو المعتقل أو العرس أو المكتب في العمل أو المطار أو.. وغير ذلك من أماكن التجمعات التي لا نستطيع أن نأتي على حصرها..!
يقول العدناني في "طرق الدعوة الإسلامية152)" ): إن الاستفادة من التجمعات الكبيرة كالحج مثلاً، أو الصغيرة كالمؤتمرات والمخيمات، واستقبال الوفود في المناسبات، من أهم الطرق المؤثرة في الدعوة إلى الله، وفي عرضنا لبعض نماذج الوفود من السيرة النبوية، يعطينا فكرة تامة حول ذلك الموضوع، وكيفية توظيفه، في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل. لقد قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وفد الأوس والخزرج في موسم الحج، وكانت تلك المقابلة مفتاح الهجرة، ونصرة دين الله، وذلك واضح لكل مثقف درس السيرة النبوية، وبيعة العقبة الأولى والثانية، وكان صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته في أسواق العرب الكبرى، عكاظ وذي مجنة وذي مجاز، وكان معه أبوبكر يقوم بدور المعرف بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلك القبل؛ لأن أبابكر اشتهر بمعرفته لأنساب العرب، فكان يبدأ بعرض موجز عن تلك القبيلة وأمجادها، ثم يعرف بالرسول صلى الله عليه وسلم وبهدفه".
خامساً: زمان الخاطرة: هو الزمن المناسب الذي يراه المتكلم أو الواعظ أو الخطيب، وهو في المسجد غالباً بعد الصلوات، وأنسب الصلوات التي تكون بعدها الخاطرة، هي العشاء، ثم العصر ثم الظهر، ثم المغرب، ثم الفجر، ولا تكون الخاطرة بعد الجمعة إلا للتنبيه على مسألة قد تفوت إذا لم تذكر. وقد يكون في بعض البلدان بين التروايح خاطرة، وقد تصبح درساً إذا طالت. ولا يناسب أن تكون الخاطرة بعد الفجر، وبخاصة في البلاد التي تَعوَّد أهلُها على السهر، مثلما يقع في رمضان في دول الخليج، واليمن أن الناس يسهرون الليل كله أو معظمه فيأتون في صلاة الفجر مرهقين غير متحملين لأي إطالة في الصلاة فضلاً عن خاطرة بعد الصلاة. وبعد المغرب يمكن أن يناسب الخاطرة، ولكن هو أنسب لإلقاء الدروس والمحاضرات، ومعظم الدروس والمحاضرات تكون – غالباً- بين المغرب والعشاء!
سادساً: مدة الخاطرة: تترواح الخاطرة ما بين (5) دقائق إلى (10) دقائق والغاية القصوى – في نظري- من (15) إلى (20) دقيقة، أما إذا زادت على ذلك فقد أصبحت درساً أو خطبة فينبغي في هذه الحالة مراعاة قواعد الدروس والخطب وعدم التعامل معها على أنها خاطرة.
* استثناء: يمكن لبعض الشخصيات التي لها شعبية، وقبول واسع أن ترى أن الجمهور يطلب منها الإطالة، ففي هذه الحالة ينبغي أن تستغل الفرصة، ولكن ينبغي للمتكلم أن يراعي أن الخاطرة ستتحول إلى درس أو خطبة فيراعى فيها سمات الدرس أو الخطبة.
سابعاً: سمات وخصائص الخاطرة :إن الداعية طبيب القلوب، وكما يسهّل طبيبُ الأبدان الدواءَ للمريض ويُسيغه له، فعلى الداعية أن يسوق موعظته في أسلوب طيب جميل، بعيد عن السباب والشتم، وقسوة العبارة، حتى لا ينفر منه المدعوون. وهذا الأمر واضح في سير الأنبياء، ومَن يُقتدى بهم من الدعاة الناجحين؛ من أجل هذا ينبغي أن يُراعى في الخاطرة السمات والصفات الآتية:
1. عدم الإطالة في المقدمة.
2. التركيز في مسألة أو قضية محددة أو جزء من مسألة أو قضية.
3. عدم الاستطراد أو الخروج من النقطة إلى غيرها، بل الالتزام بالنقطة أو المسألة دون الدخول إلى أخواتها أو نظائرها أو أشباهها.(/2)
4. عدم ذكر المصادر أو الأجزاء والصفحات من الكتب أو الأسانيد أو كثرة النقول أو غير ذلك، فيكفي أن تقول قال الله تعالى في سورة كذا، ولا تحتاج إلى ذكر رقم الآية، ويمكن أن تكتفي بقولنا قال الله تعالى دون ذكر السورة لشهرتها أو لسهولة السؤال أو الوصول إلى مكانها، وكذلك في الحديث يكفي أن تقول وفي البخاري كذا.. أو روى مسلم أو في مسلم، أو يكفي أن تقول: وفي الصحيح.. كذا! أو: وفي الحديث الصحيح.. إلخ. فالاختصار والإيجاز أوضح سمات (الخاطرة) وهذا كله من لوازمه، فلا يناسب أن يكون ما يتعلق بالفكرة مختصراً موجزاً، ثم تطيل بذكر أجزاء الكتب وأرقام الصفحات، وأذكر أن أحدهم قام ليقول خاطرة، وكان إذا ذكر حديثاً في مسلم أو البخاري ساق إسناده كاملاً، وهذا لا شك فيه إطالة، ونحن لا نقلل من شأن ذكر الأسانيد وإشاعتها بين الناس ولكن لكل مقام مقال.
5. عدم إيراد الخلافات في المسألة، وإنما يتم التركيز على الأمر المتفق عليه، أو الإتيان بعبارات تحتمل أوجه الخلاف ولا تفيد جزماً برأي منها، وإنما توصل المعلومة المطلوبة التي يغلب عليها الترغيب والترهيب والتعميم.
6. قصر المدة الزمنية، وقد تكلمنا أنها تترواح بين (5) دقائق إلى (10) دقائق.
7. موضوع الخاطرة في الغالب ينبغي أن يكون في الرقائق والترغيب والترهيب والموعظة وهذا كله ضرورة لازمة، ففي النفس دوافع فطرية، تحتاج دائماً للتوجيه والتهذيب، ورب موعظة لطيفة خفيفة مؤثرة، ترد السامع إلى صوابه، وتعيده إلى مكارم الأخلاق، ويختار الداعية ما يناسب المقام من توجيه، ويكون نصب عينيه قوله تعالى: ((وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً)) وقوله تعالى: ((إن الله نعما يعظكم به)) وقوله: ((وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه)) وقوله: ((وهدى وموعظة للمتقين)). فليست الخاطرة مناسبة لمعالجة المسائل الفقهية، حتى إنْ تناول المتكلم مسألة فقهية في الخاطرة فليتناولها من ناحية الترغيب والترهيب، فمثلاً: يمكن أن أتكلم في (خاطرة) عن (الأضحية) وهي مسألة فقهية، ولكن عندما أتكلم عنها في الخاطرة سأتكلم من جهة الترغيب فيها، وأنها يمكن أن تكون داخلة في قوله: (فصل لربك وانحر) وأنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يضحي أن لا يقص من أظافره أو شعره إذا دخل عليه شهر ذي الحجة للحديث المتفق عليه الوارد في ذلك.. إلخ.
8. عدم فتح الباب للمداخلات أو الأسئلة والمناقشات في الخاطرة فوقت وطبيعة الخاطرة (لا تتحمل ذلك)، فإذا قاطع إنسان أو أراد أن يسأل أو يشارك بمداخله، فينبغي للمتكلم ألا يسمح بهذا، بل يؤجله إلى الانتهاء من الكلام، ثم إذا انتهى من ( الخاطرة) حادثه أو أجاب على سؤاله أو مداخلته. فيما بينه وبين السائل في الغالب!
9. ينبغي للمتكلم في ( الخاطرة) ألا يتكلم بالمتشابه من الكلام، بل ينبغي أن يكون كلامه منضبطاً بعيداً عن الاحتمالات الباطلة؛ لأن المتكلم في الخاطرة غالباً يخاطب عوام الناس، فليكن نصب عينية دائماً: (ليس كل حديث صحيح تحدث به العامة) وأيضاً نقول: (ليس كل كلام صحيح تحدث به العامة).
10. ينبغي للمتكلم في الخاطرة أن يتصيد المناسبات للتوجيه التربوي والترغيب والترهيب والتعليق على حدث ما، وقد أرشدتنا إلى ذلك السيرة النبوية المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا). رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ولقد انتهز يوسف عليه السلام فرصة سؤال صديقيه في السجن عن تعبير الرؤيا، فدعاهم إلى الإله الواحد (( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)). وحدث أن كُسفت الشمس عندما مات ابن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقال الناس: كُسفت الشمس لموت إبراهيم، فقام صلى الله عليه وسلم في الحال وانتهزها فرصة ليصحح أفهام الناس في التوحيد، فقال: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم". إن هذا الطريق وهو استغلال ضرورات المجتمع، فرصة للدعوة إلى الله عن طريق الكلمة السريعة (الخاطرة) وهذا يحتاج من الدعاة إلى التفاني في الدعوة، وقوة إيمان وذكاء، يعرف كيف يستغل ذلك الحدث أو الفرصة للدعوة إلى الله.
11. ينبغي ألا تكون الخاطرة معروضة بصورة أكاديمية نصية، فبعض الناس يحشد في الخاطرة الآيات والأحاديث، في حين أنه يمكن أن يكتفي في الخاطرة بآية أو حديث فقط، أو أن يجمع بينهما، ففي الخاطرة ينبغي أن تتوجه للناس بتوضيح الآيات والأحاديث فالناس يسمعون الآيات في المذياع، والمسجل، ولكن يحتاجون إلى من يفهمهم ويستخرج لهم الفوائد والنكت من الآية أو الحديث.(/3)
12. الخاطرة من طبيعتها أن لا يكون معلناً عنها؛ لأنها في الغالب ترد في ذهن أو خاطر المتكلم فجأة نتيجة شيء رآه في الطريق أو في المسجد أو بدت له فكرة، وقلما يسبقها تحضير، وإنما يُعلن عن الدرس؛ لأنه يحتاج إلى استعداد للمكث مدة على الأقل من نصف ساعة إلى ساعة، أما الخاطرة فإن من لم يكن مستعداً يمكن أن يبقى ويستمع لها حتى ولو كان مشغولاً لقصر زمنها...!
13. تحتاج كل أنواع الخطاب إلى بداية أو استهلال جيد، وهو ما يسمى (حسن الاستهلال) أو أبلغ منه (براعة الاستهلال) وهو الإتيان بمقدمة تشير إلى موضوع الخاطرة، وهذا وإن كان في جميع أنواع الخطاب، فإن الخاطرة في أشد الحاجة إليه؛ لأنها سريعة، فتحتاج إلى سرعة جذب انتباه الناس فالخاطرة أحوج إلى (حسن الاستهلال) و (براعة الاستهلال)!
14. أن يكون الموضوع المختار من صميم ما تجري به الحياة، ليدق على الوتر الحساس، ويملك انتباه السامعين، وما أكثر المواضيع التي تفرضها الحياة بأحداثها الكثيرة.. ولأمر ما نزل القرآن منجما حسب الحوادث ومقتضيات الأحوال. فيكون الموضوع المعالج لإيضاح ما خفي على الأذهان، وللدفاع عن حق مهاجم، وإزالة أوهام سائدة نحو ذلك. ولكل طبقة وضعها الخاص، فمحيط الزراع غير محيط العمال أو المدرسين والطلبة.
15. ضرورة التركيز على تقديم حلول عملية، فلا يكتفي المتكلم بإثارة المشكلة بل ينبغي أن تعرض المشكلة بصورة سريعة ثم يتوجه المتكلم إلى اقتراح بالحلول المناسبة. إن تقديم الداعية لحل لمشكلة من طرق الدعوة إلى الله، وفيها جرأة في تقديم الحلول لرد الظلم وتخليص المجتمع من الفتنة ولو كان الثمن باهظاً، قال تعالى عن نبي الله لوط عليه السلام: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } (78) سورة هود.
16. الالتزام بالوقت أمر مهم، ويجب الحرص في إلقاء الخاطرة كاملة في الوقت المحدد مع الاختصار ولا تظن أن الجمهور غافل عن الوقت فلا تكن أنت الغافل الوحيد.
17. البراهين : قصر الخاطرة لا يمنع من البرهنة على ما تقول، فبعض الناس عندما يسمع أن الخاطرة ترغيب وترهيب في الأساس وأنها كلمة سريعة قصيرة يظن أنها يجب أن تخلو من البرهان , وهذا خطأ فالبرهان يأكد مصداقيتك أمام الناس، وليس كل البراهين تحتاج إلى إطالة، فانظر مثلاً عندما آن الآوان؛ لأن يجهر رسول الله عليه السلام لأهل مكة ببعثته وأن يبلغهم رسالة ربه وقف على جبل الصفا ودعاهم للتجمع ليخطب بهم، فقال: يا معشر قريش إن حدثتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ فكان جوابهم: نعم، وذلك لأنهم لم يعرفوا عليه الكذب طوال أربعين عاماً، وبعد أن أكد مصداقيته لديهم قال لهم: (( فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد)). راجع تفسير ابن كثير 6/176.
18. سرعة الإلقاء: يستطيع الناس أن يستمعوا بسرعة تفوق السرعة التي يتحدثون بها (وهي تبلغ في المتوسط 800 كلمة في الدقيقة مقابل 250 كلمة في الدقيقة للتحدث) وإذا ما تركنا هؤلاء الناس طويلاً من دون شيء يستمعون إليه فإن اهتمامهم سوف يتشتت. وقد يكون من المطلوب مراراً أن نتحدث بأسرع مما نفعل عادة. وليس هناك معدل واحد مناسب لإلقاء الخطاب، لكن علينا أن نتحدث بأسرع ما يمكننا أن نفعل دون أن نتلعثم أو نقرأ الفقرات بشيء من الغموض أو الإبهام. والوضوح في هذا الصدد مهم، إذ يتعيّن أن تكون كل كلمة مفهومة وكل فقرة جلية مبينة. إن الوضوح من صلب عملية الإلقاء الجيد، ومن الضروري أن ننطق كل كلمة بجلاء وأن نتجنب استخدام الحشو من الكلمات التي تستخدم كلازمة مثل «يعني»، «تعلمون بالطبع»، «أأهـ»، «أهـ»، «أم م م» أو «هـ م م».
19. إثارة الانتباه ويسمى ( عنصر التشويق) ويحصل بعدة طرق:
- التجديد والطرافة: فكلما كانت الخاطرة بصور و أمثلة جديدة كان انتباه السامعين أشد ويبعث فيهم الحيوية، أما الكلام المكرور فيؤدي إلى الملل والسآمة، كالقوالب المحفوظة التي يكررها بعض خطباء اليوم.
20. الأسلوب: توخَّ ما استطعت من استخدام أفضل الأساليب اللغوية في التعبير. فاستخدام الكلمات والعبارات العامية، يصمُ المتحدث بالسطحية وعدم النضج، وينتقص من جدية الأمر، ويقلل من قيمة المحاضرة أو الخطبة، وقد يكون استخدام الكلمات والتعبيرات الجديدة وسيلة فعالة لتحقيق انسجام سريع مع الجمهور، لكن يجب اختيار الكلمات بحذر ودقة. وهناك أساليب بلاغية متعددة تحقق الفاعلية إذا ما استخدمت بذكاء، منها ما يلي:
تكرار النقاط الأساسية، بشرط عدم الإفراط، ويحبذ أن لا يجاوز التكرار ثلاث مرات.
توخِّي الإيقاع والسجع والجرس الموسيقي في اختيار الكلمات، بدون تكلف.
الجناس لإعطاء الحديث نكهة إيقاعية.(/4)
العبارات البليغة السهلة الجامعة التي ترسخ في ذاكرة المستمع.
التشبيه والاستعارة والقياس لنقل الأفكار الصعبة.
الإحصاءات والأرقام التي توصّل الأفكار وتعطي الحديث مصداقية.
توظيف المبنى للمعلوم والأفعال التوكيدية التي تخاطب العواطف والعقول معاً.
عبارات مفعمة بالحيوية واستنتاجات راسخة تجذب الأذهان وتشد انتباه المستمعين.
سرد الأمثال وسوق الأشعار وإيراد الحكَم.
في المقابل، هناك عبارات ينبغي تجنب استعمالها تماماً إلا إذا كان المتحدث يعنيها فعلاً. من هذه العبارات ما يلي:
«لست متأكداً لكنني أعتقد أن...»
«حسب علمي...»
«أعتقد أن...»
علينا «أن نعلم...»
«دائماً»
«أبداً»
«الجميع»
«لا أحد»
كما ينبغي اجتناب التعميم والتجريح والتعالي والسخرية والسطحية ومواجهة العاملين المهتمين وحدهم باللوم والتقصير أو الوقوف منهم موقف الآمر الناهي.
ثامناً: كيفية إعدادها: هناك طريقتان لإعدادها:
الأول: أن الخطيب أو الواعظ ينقدح في ذهنه مسألة وهو قادم إلى الصلاة، أو في المسجد أو يقع أمامه أمر من صياح ورفع لأصوات أو غير ذلك، فيجهز في قلبه كلمة وربما استحضر آيات معينة أو أحاديث وربما فتح المصحف بسرعة فراجع آية أو ضبطها.
الثاني: أن يكون قد طُلب منه كلمة أو خاطرة، كما يقع لتدريب المبتدئين أو يقع في رمضان أن يطلب القائمون على المسجد من خطيب أو واعظ أو مثقف أن يلقي كلمة في الترويحة بين الركعات بعد يوم أو يومين ويحدد له اليوم الذي سيلقي فيه الكلمة، فيستطيع في هذا الفترة أن يجهزها في نفسه فربما لم يراجع مصدراً إذا كان معتاداًَ على الكلام، وربما راجع وأعد، ولذلك في العادة تأتي الخاطرة أوالكلمة – في هذا الوقت- طويلة إلى حدٍ ما، وربما تحولت إلى درس أو شبه درس.
تاسعاً: أخطاء في إلقاء الخاطرة:
1. إطالة المقدمة: المقدمة تتناسب مع ما تقدم له، فمقدمة الكتاب الكبير غير مقدمة الكتاب الصغير، ومقدمة الكتاب غير مقدمة الرسالة، ومقدمة الدرس غير مقدمة الكلمة السريعة (الخاطرة)، فيمكن أن نقول على سبيل التقريب أن المقدمة تكون عشر ما تقدم له، فإذا كانت نصفه أو ربعه فقد تجاوزت حدها، ولم تعد مقدمة يقول أحمد العدناني في "طرق الدعوة الإسلامية"(44):" ومن الخصائص المطلوبة في الخطبة : 1-حسن الافتتاح: بأن تكون المقدمة مناسبة في الطول والقصر، لزمن الخطبة، فالمقدمة تعادل من 8:5% من زمن الخطبة؛ لأن الافتتاح يعني لفت انتباه السامعين في القصد من الخطبة، لأن بعض الخطباء يطيل في المقدمة فيضيع الغرض المطلوب بيانه". ونحن ننبه هنا إلى أنه ينبغي تسمية الأشياء بأسمائها، ومن الظواهر الشائعة وضع الأسماء على غير مسمياتها, فمثلاً: سمعت أحدهم يلقي خاطرة، فيأتي بخطبة الحاجة كلها كمقدمة لكلامه مع أن خطبة الحاجة تصلح أن تكون مجالاً لعدة خواطر فهذا الذي ألقله الأخ الفاضل هو درس وإن سماه خاطرة وإن ألقاه وهو واقف، ويكفي الإنسان في مقدمة الخاطرة أن يقول:" بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد...إلخ" ثم يأتي بالخاطرة، ويمكن أن يفتتح بآية تكون مدخلاً للخاطرة أو يفتتح بسؤال أو بمثل أو حكمة، أو بحديث يكون موضوعاً للخاطرة. وهذا ليس تقييداً بألفاظ معينة في مقدمة الخاطرة, ولكنه تقريب ومثال!
2. من الأخطاء الإطالة، فإن ذلك يؤدي إلى إملال الناس وبخاصة إذا كان الوقت مدعاة للاستعجال، كأن يقوم لإلقاء الخاطرة – بعد الجمعة مثلاً- فالمناسب أن يكون وقتها خفيفاً؛ لأن الناس قد استمعوا إلى خطبتين، وقد طال بقاؤهم في المسجد فلا يناسب وعظ بعد وعظ إلا إذا كان تنبيهاً سيفوت وقته كأن كان هناك خطأ أو مشكلة وقعت أثناء الجمعة لم ينبه عليها الخطيب فأراد أن يستدركها الخطيب، أو أحد المستمعين ولقد رأيت من يقوم لإلقاء خاطرة على الناس بعد الجمعة، فيطول كلامه إلى ثلث الساعة حتى يتململ الناس في أماكنهم.(/5)
3. تحديد الوقت: صحيح أن وقت الخاطرة في المتوسط خمس دقائق؛ ولكن لا يحسن من المتكلم أن يبدأ حديثه بتحديد زمن الكلام، كأن يقول: دقيقة فقط.. أيها الإخوة فأنت إذا قلت هذا قد حددت نفسك، وربما طالت الخاطرة من خمس إلى عشر دقائق، فسوف يحسب لك بعض الناس الوقت ويسخر منك – في سره غالباً- فلا يلزمك هذا حتى وإن كنت ستتكلم دقيقة فقط. تكلم دقيقة ولا تخبرني أفضل.يقول هشام الطالبي في " دليل التدريب القيادي" : "... في عام 1973 دعيت إلى كنيسة في" لوجانسبورت" في ولاية إنديانا، للتحدث عن الإسلام. تكلّم سبعة من القساوسة النصارى عن مللهم المختلفة في البداية ثم تحدث أستاذ هندوسي عن الهندوسية، وقد بدأ حديثه بالقول: «بالرغم من أنني هندوسي، فإنني لا أعرف شيئاً عن الهندوسية. لذلك فإنني سوف أتلو عليكم بضعة فصول من كتاب كتبته سيدة مسيحية أمريكية، قضت بضع سنوات في الهند...» وعندما اقترب من النهاية قال: «أخيراً سوف أقرأ لكم هذا الفصل... أخيراً سوف أقرأ فصلاً آخر... أخيراً سوف أقرأ لكم صفحة أخرى». وحينما قال «أخيراً سوف أقرأ لكم فقرة أخرى» لم يصدقه أحد لأنه أعاد كلمة «أخيراً» أكثر من مرة. لقد تملّك الجمهور الضجر من خطبته. العبرة في ذلك هي أنه مهما كانت الظروف، إياك أن تصدر حُكماً مسبقاً على خطبتك أو تقدم عذراً أو تدلي باعترافات حول طريقة طرحك للموضوع مثل: أنا آسف لم يكن لديّ الوقت الكافي للإعداد، أو إن خطبتي لن تكون جيدة، أو لقد دعاني المنظمون الآن فقط إلى التحدث بيد أني لا أعرف الكثير عن هذا الموضوع، أو بوسعكم أنتم أيها الحفل الكريم أن تقدموا خطبة أفضل ونحو ذلك. تجنب كل ما ورد من هذه العبارات المثبطة والسلبية، وادخل في الموضوع مباشرة وابذل كل ما في وسعك. لا تقوّم نفسك أمام الناس، لأنهم هم الذين سوف يقومونك. فقد تقدم أفضل عرض دون أن تدرك ذلك. وفي هذا الصدد يُروى أن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه لم يستطع في إحدى المرات أن يلقي خطبة الجمعة من فوق المنبر، وحينما كان ينزل من أعلى المنبر قال «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وعندما سمع الحاضرون منه ذلك قالوا: «لو كان قال ذلك من فوق المنبر لكانت تلك من أفضل الخطب»." قلت :" العبارة مشهورة عن عثمان رضي الله عنه , وأما حكاية أنه لم يستطع أن يلقي خطبة الجمعة , فهذا مستبعد, وأين إسنادها؟!".
4. ذكر الخلافات: الخاطرة زمنها قصير فتحتاج إلى تركيز الكلام، فينبغي للمتكلم أن يأتي بالمتفق عليه، فإن لم يكن متفقاً عليه، فليأت بالراجح بدون عرض الخلاف، وليأت بعبارات عامة مثل: الأفضل والأحسن، فمثلاً: أردت أن ألقي خاطرة لأنبه الناس إلى أهمية الأضحية، وقد اختلف العلماء فيها هل هي واجبة؟ أم سنة؟ فإذا كانت خاطرة لا يلزمني مناقشة الأقوال وترجيح الاستدلال، وإنما أورد ما في ذبحها من موافقة الهدي وأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يفعلها وقيمة التقرب بها إلى الله، ومن فَهِم وجوباً فَهِم ومن فَهِم سنة فَهِم، فأنا لم أصرح أو أتكلم عن وجوب أو استحباب، وإنما رغبت فيها وهي ( الأضحية) سواء كانت واجبة أو مستحبة فهي مرغب فيها، فأنا على صواب مع الاحتمالين، فهذا ليس موضع تحقيق ذلك، وإنما يكون هذا في الدروس...!
5. السماح بالمداخلات: المتكلم في الخاطرة يريد أن يُوصِّل فكرة معينة في دقائق معدودة، فلا ينبغي أن يسمح بالمداخلات التي ستطيل الكلام، وتثير شبهات تحتاج إلى ردود، وهذا سيخرج بالخاطرة عن معناها، وحقيقتها، وربما آثار ضوضاء ولغطاً فيشوش على خاطرته ويفسد حلاوتها، وإن كان ولا بد فاعلاً، فإذا اعترضه أحد الناس بمداخلة فليقل له: نعم، انتظر حتى أنتهي، بعد الكلمة ثم ليقف معه جانباً وليجب على أسئلته. ولقد رأيت بعض من قام يلقي خاطرة يثير التساؤلات عند الناس، ويستفزهم بأسئلة وشبهات ربما لم يوردوها وهذا لا يصلح إلا في ظروف معينة وليس الأصل والله أعلم.
عاشراً: نماذج نبوية للكلمة القصيرة (المسماة: بالخاطرة):(/6)
سأتكلم عن فن ( الكلمة القصيرة أو الخاطرة) عند المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما أريد أن أتكلم عنها عند المصطفى أشعر بحرج خشية أن يفهم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بخواطر غير معصومة، كما يخطر في بال أحدنا، فأردت أن أنبه لأمر وهو معلوم من الدين بالضرورة وهو أن ما يتكلم به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم معصوم؛ إما لأنه ابتداءً من الوحي، "إن هو إلا وحيٌ يوحى" وإما لأن النبي تكلم به بدون الوحي ابتداءً، ثم أقره الله، فكلام النبي وقوله وفعله – بأبي وأمي هو- معصوم ولو وقع شيء لنزل الوحي مصححاً ومبيناً كما حدث في وقائع متعددة كما هو في سورة "عبس"، وكما في "أسرى بدر" وغير ذلك مما هو مذكور في كتب الأصول والعقائد وغيرها. فإذا كان ذلك كذلك، فإن رأيي أن النبي الكريم استخدم الكلمة السريعة القصيرة في مناسبات عديدة وكثيرة، وتحققت بها نتائج باهرة، وما زالت هذه الكلمة السريعة القصيرة نتعلم منها في ديننا، وهي تمثل نسبة كبيرة من الأحاديث النبوية الشريفة، وهاك نماذج من فنون وتنوع الكلمة القصيرة، واستخدام المصطفى صلى الله عليه وسلم لها:
1- ضرب الأمثال: وضرب المثل يوضح المبهم، ويكشف اللبس ويقع في النفس خير موقع. والناس من قديم الزمان يجدون من طبائعهم الميل إلى الاستشهاد بالمثل، فقد يكون أحدهم بصدد حال يحكيها فيحضره مثل يشابهه في المعنى فيستشهد به، لأن الكلام يزيد به وضوحاً؛ و لأن النفس تستأنس بالمثل، فعلى الداعية أن يحرص على ضرب المثل ويجعلها مفاتيح صدق يفتح بها مغاليق النفوس.
وقد ورد المثل في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) سورة يونس.ومن نماذج الموعظة بضرب المثل في السنة الشريفة :
أ-عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منه وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). متفق عليه.
ب-عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذُبُّهُّن عنها وأنا آخذٌ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي)) رواه مسلم.
ج-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحوا الله بهن الخطايا). متفق عليه.
د-عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مرٌ) متفق عليه.
هـ-عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به – أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا، نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) رواه البخاري.
2- انتهاز فرصة الحادثة للتعليق عليها:
أ - عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.(/7)
ب - عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: (اعلم أبا مسعود) فلم أفهم الصوت من الغضب، فلمَّا دنا منِّي إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: ( اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود)، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام) فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً. وفي رواية: فسقط من يدي السوط من هيبته. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله هو حرٌ لوجهِ الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار) رواه مسلم بهذه الروايات.
ت - عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ( أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عنده؟ فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
3- أسلوب القصة:
في فطرة الإنسان ميل إلى القصة، ولها تأثير ساحر على القلوب، سواء كانت تاريخية أم معاصرة، فالداعية يعي هذا الميل فيستخدم القصة في البيان والتربية. وفي القرآن الكريم الكثير من القصص الموجهة، كقصص الأنبياء، والمُكذَِبين بالرسالات وما أصابهم من جزاء التكذيب، فموسى مع فرعون وعيسى مع بني إسرائيل وصالح مع ثمود، وشعيب مع مدين، ولوط مع أهل القرى ونوح مع قومه.. وهكذا، وهذه القصص تاريخ حق وواقع لا شك فيه، وإنها حقيقة لا ريب فيها وأثرها في تربية الأفراد والمجتمعات عميق فإن البشر يعتبرون بما يروى لهم من أخبار، ويقيسون ما يحسون على ما يسمعون، ولذلك قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (27)- (30) سورة المائدة. وهذه القصة تصور أثر الحقد الأعمى وعاقبة الأمور، وأنه ما يعقِّب إلا الندامة والخسار. ولذلك يمكن أن يستفيد الداعية من القصص في خواطره وكلماته القصيرة، فيمكن أن تكون الكلمة القصيرة كلها قصة واحدة مثل قصة " الأبرص والأقرع والأعمى" وقصة " أصحاب الغار" وغيرها من القصص التي علم بها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاك بعض النماذج من القصص النبوي حتى تستفيد منها:
أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه، حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبدٍ رطبةٍ أجراً)) متفق عليه. وفي رواية للبخاري: ( فشكر الله له فغر له، فأدخله الجنة).(/8)
ب - عَنْ أبي هُريْرَةَ رضي اللَّه عنه أَنَّهُ سمِع النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: « إِنَّ ثَلاَثَةً مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ: أَبْرَصَ، وأَقْرَعَ، وأَعْمَى، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعث إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حسنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، ويُذْهَبُ عنِّي الَّذي قَدْ قَذَرنِي النَّاسُ، فَمَسَحهُ فذَهَب عنهُ قذرهُ وَأُعْطِيَ لَوْناً حَسناً. قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الإِبلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ - شَكَّ الرَّاوِي - فأُعْطِيَ نَاقَةً عُشرَاءَ، فَقَالَ: بارَك اللَّهُ لَكَ فِيها. فأَتَى الأَقْرعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحب إِلَيْكَ؟ قال: شَعْرٌ حسنٌ، ويذْهبُ عنِّي هَذَا الَّذي قَذِرَني النَّاسُ، فَمسحهُ عنْهُ. أُعْطِيَ شَعراً حسناً. قال فَأَيُّ الْمَالِ. أَحبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الْبَقرُ، فأُعِطيَ بقرةً حامِلاً، وقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: أَنْ يرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَري فَأُبْصِرَ النَّاسَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بصَرَهُ. قال: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قال: الْغنمُ فَأُعْطِيَ شَاةً والِداً فَأَنْتجَ هذَانِ وَولَّدَ هَذا، فكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، ولَهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلَهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَم. ثُمَّ إِنَّهُ أتَى الأْبرص في صورَتِهِ وَهَيْئتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ قدِ انقَطعتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ باللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، والْجِلْدَ الْحَسَنَ، والْمَالَ، بَعيِراً أَتبلَّغُ بِهِ في سفَرِي، فقالَ: الحقُوقُ كَثِيرةٌ. فقال: كَأَنِّي أَعْرفُكُ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرصَ يَقْذُرُكَ النَّاسُ، فَقيراً، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ، فقالَ: إِنَّما وَرثْتُ هَذا المالَ كَابراً عَنْ كابِرٍ، فقالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّركَ اللَّهُ إِلى مَا كُنْتَ. وأَتَى الأَقْرَع في صورتهِ وهيئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ما قَالَ لهذَا، وَرَدَّ عَلَيْه مِثْلَ مَاردَّ هَذَّا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيّرَكَ اللهُ إِليَ مَاكُنْتَ. وأَتَى الأَعْمَى في صُورتِهِ وهَيْئَتِهِ، فقالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ وابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ اليَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذي رَدَّ عَلَيْكَ بصرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفَرِي؟ فقالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصري، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ ما أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشْيءٍ أَخَذْتَهُ للَّهِ عزَّ وجلَّ. فقالَ: أَمْسِكْ مالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رضيَ اللَّهُ عنك، وَسَخَطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ » متفقٌ عليه.
« وَالنَّاقةُ الْعُشَرَاءُ » بِضم العينِ وبالمدِّ: هِيَ الحامِلُ. قولُهُ: « أَنْتجَ » وفي روايةٍ: «فَنَتَجَ » معْنَاهُ: تَوَلَّى نِتَاجَهَا، والنَّاتجُ للنَّاقةِ كالْقَابِلَةِ لَلْمَرْأَةِ. وقولُهُ: « ولَّدَ هَذا » هُوَ بِتشْدِيدِ اللام: أَيْ: تَولَّى وِلادَتهَا، وهُوَ بمَعْنَى نَتَجَ في النَّاقَةِ. فالمْوَلِّدُ، والناتجُ، والقَابِلَةُ بمَعْنى، لَكِنْ هَذا للْحَيَوانِ وذاكَ لِغَيْرِهِ. وقولُهُ: « انْقَطَعَتْ بِي الحِبالُ » هُوَ بالحاءِ المهملة والباءِ الموحدة: أَي الأَسْبَاب. وقولُه: « لا أَجهَدُكَ » معناهُ: لا أَشَقُّ عليْك في رَدِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ أَوْ تَطْلُبُهُ مِنْ مَالِي. وفي رواية البخاري: « لا أَحْمَدُكَ » بالحاءِ المهملة والميمِ، ومعناهُ: لا أَحْمَدُكَ بِتَرْك شَيْءٍ تَحتاجُ إِلَيْهِ، كما قالُوا: لَيْسَ عَلَى طُولِ الحياةِ نَدَمٌ أَيْ عَلَى فَوَاتِ طُولِهَا.
ج-عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجلٌ ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسراً، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال الله عز وجل: ( نحن أحق بذلك منه، تجاوزا عنه) رواه مسلم.
د-عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً، فخر عليه رِجْلُ جرادٍ من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربُّه عز وجل: يا أيوبُ، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟! قال: بلى وعزتك، ولكن لاغنى بي عن بركتك) رواه البخاري.
4- مطايبة الصغار والضعفاء والنساء بالكلمة القصيرة:(/9)
أ - عن ابنِ عبَّاسٍ، رضيَ اللَّه عنهمَا، قال: «كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يوْماً فَقال: «يَا غُلامُ إِنِّي أُعلِّمكَ كَلِمَاتٍ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَل اللَّه، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعلَمْ: أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمعتْ عَلَى أَنْ ينْفعُوكَ بِشيْءٍ، لَمْ يَنْفعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بَشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللَّه عليْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ». رواهُ التِّرمذيُّ وقَالَ: حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ. وفي رواية غيرِ التِّرْمِذيِّ: «احفظَ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ في الرَّخَاءِ يعرِفْكَ في الشِّدةِ، واعْلَمْ أَنّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَك، وَمَا أَصَابَكَ لمْ يَكُن لِيُخْطِئَكَ واعْلَمْ أنّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْب، وأَنَّ مَعَ الْعُسرِ يُسْراً».
ب - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنها قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه.
5-أسلوب مزج القول بالعمل:
أ - وعَنْ عُقْبَةَ بنِ عامِر رضي اللَّه عنْهُ أنَّ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم خَرجَ إلَى قَتْلَى أُحُدٍ. فَصلَّى علَيْهِمْ بعْد ثَمان سِنِين كالمودِّع للأحْياءِ والأمْواتِ، ثُمَّ طَلَعَ إلى المِنْبر، فَقَالَ: إنِّي بيْنَ أيْدِيكُمْ فَرَطٌ وأنَا شهيد علَيْكُمْ وإنَّ موْعِدَكُمُ الْحوْضُ، وَإنِّي لأنْظُرُ إليه مِنْ مَقامِي هَذَا، وإنِّي لَسْتُ أخْشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُشْركُوا، ولَكِنْ أخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنيا أنْ تَنَافَسُوهَا» قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إلَى رَسُولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، متفقٌ عليه. وفي روايةٍ: « وَلَكِنِّي أخْشَى علَيْكُمْ الدُّنيَا أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كَما هَلَكًَ منْ كَان قَبْلكُمْ » قَالَ عُقبةُ: فَكانَ آخِر ما رَأيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلَى المِنْبرِ. وفي روَايةٍ قال: « إنِّي فَرطٌ لَكُمْ وأنَا شَهِيدٌ علَيْكُمْ، وَإنِّي واللَّه لأنْظُرُ إلَى حَوْضِي الآنَ، وإنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِن الأرضِ، أوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ، وَإنَّي واللَّهِ مَا أَخَافُ علَيْكُمْ أنْ تُشْرِكُوا بعْدِي ولَكِنْ أخَافُ علَيْكُمْ أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا ». وَالمُرادُ بِالصَّلاةِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ: الدُّعَاءُ لَهُمْ، لاَ الصَّلاةُ المعْرُوفَةُ.
ب - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: (رب اغفر وتب علي إنك أنت التواب الرحيم). رواه أبو داود والترمذي.
ج-وعن عائشَةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: كان رسُولُ اللَّهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، كُلَّما كان لَيْلَتها منْ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلى البَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ، وأَتَاكُمْ ما تُوعَدُونَ، غَداً مُؤَجَّلُونَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ» رواهُ مسلم.
د-وعن ابن عَبَّاسٍ رَضَيَ اللَّه عنهما، قال: مَرَّ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِقُبورٍ بالمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بوَجْهِهِ فقالَ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ، أَنْتُم سَلَفُنا ونحْنُ بالأَثَرِ» رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسن.
6-أسلوب السؤال:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما تعدون الشهيد فيكم؟" قالوا :يا رسول الله ,من قتل في سبيل الله ,فهو شهيد. قال :" إن شهداء أمتي إذا لقليل !" قالوا :فمن هم يا رسول الله؟ قال :" من قتل في سبيل الله فهو شهيد , ومن مات في سبيل الله فهو شهيد , ومن مات في الطاعون فهو شهيد , ومن مات في البطن فهو شهيد , والغريق شهيد " رواه مسلم.
الحادي عشر : ثمرات ومميزات الكلمات القصيرة أو السريعة (الخواطر) :
1- تحقيق شيء من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- كثرة جمهورها ومستمعيها.
3- تنوع جمهورها ,فإنه يستمع إليها وينصت لها مختلف الناس من مثقفين وغير مثقفين ومن متعلمين وغير متعلمين ومن طلبة علم وعوام ,بخلاف الدروس فإنه لا يحضرها غالبا إلا طلبة العلم وأشباههم.(/10)
4- سهولة تكرارها ,فربما كررها الداعية في الأسبوع خمس مرات أو أكثر أو أقل بحسب الظروف والمناسبات والحاجة ,حتى أنه ربما أدى خاطرتين في يوم واحد ,لسهولتها على نفوس الناس ولسهولتها في الإعداد على الواعظ أو الخطيب بخلاف الدرس أو الخطبة أو المحاضرة .
5- سهولة أدائها على الخطيب أو الواعظ فلا تحتاج لكثير إعداد لقصر زمانها , بل ربما لم يحتج الخطيب المتمرس في الخاطرة إلى إعداد .
6- لا تحتاج إلى كلفة في الإعلان عنها كالدروس والخطب والمحاضرات.
7- سرعة مواكبتها للأحداث ,فهي ليست مربوطة بموعد أسبوعي كالخطب والدروس والمحاضرات ,فيمكن للخطيب أو الواعظ بمجرد وقوع الحدث أن يجهز في نفسه كلمة فيها تعليق على الأحداث,ويحضر إلى المسجد فيلقيها مباشرة وبسرعة, وهذا مالا يمكن تحقيقه بدرس أو خطبة .
تنبيه :لا يفهم من ارتجالية الخاطرة-كما يبدو من كلامي-أن يتعجل الخطيب أو الواعظ في التعليق على الأحداث بدون ضوابط,بل هذا مفترض فيما كان واضحا ظاهرا للخطيب ولا يؤدي إلى الفتن وأحيلك على موضوع كتبناه في " ضوابط الكلام في الفتن " فراجعه فإنه مهم , ولولا الإطالة والإملال لأعدته لك ملخصا هنا لأهميته .
الثاني عشر: نماذج حديثة في الخاطرة
النموذج الأول
هل تريد أن تكون من أكمل المؤمنين إيماناً؟ هل تريد أن تكون من أقرب الناس مجلساً من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ هل تريد أن تثقل ميزانك في الآخرة؟ هل تريد أن تكون محبوباً من الله محبوباً من خلقه؟ هل تود أن يتمنى المؤمنون لقياك؟ هل تود أن تكون كالعسل الذي يحلِّي الأطعمة، ويُطيِّب مذاقها؟ هل تود أن تكون بلسماً للجروح؟ إذا أردت هذا كله وزيادة عليه فعليك بـ "حسن الخلق"..!
من المفترض في المؤمن "ادخلوا في السلم كافة" أي أن تسلم لله بقلبك وجوارحك وروحك وأفعالك، فليس من المقبول في الشريعة أن تكون في مقدمة الصفوف في صلاة الفجر، ثم تكون في مؤخرة الصفوف في صلة الأرحام، ومراعاة الجوار، فالإيمان صبغة تصبغ أهلها، فيكونون بلون وطعم الإيمان، فكما من القبيح أن يكون جزء من الثوب بلون وطعم الإيمان، فمن القبيح أن يكون المؤمن وأن يكون في وضع كالصلاة بلون وفي وضع آخر كعاملة الناس بلون مختلف{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (85) سورة البقرة. و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} سورة الصف.
وكذلك إذا أحسنت الأدب مع الله بأداء فرائضه من العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، فينبغي أن تتأدب مع الناس بحسب الخلق فالأدب مع الناس أدب مع الله؛ لأن الله هو الآمر بهذه الأخلاق الحسنة وفي الحديث: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله).
وينبغي أن تعلم أن "حسن الخلق" هو واجهة المؤمن، وأول ما يلقى الناس من المؤمن، ولذلك ربما جذب المؤمن الناس بحسن أخلاقه إلى حسن إيمانه فيؤمنون، وقد وقع مراراً مع النبي صلى الله عليه وسلم أن أسلم أناس بمجرد حسن خلقه معهم.
وإذا تأملت التاريخ الإسلامي وجدت أن بلداناً في جنوب شرق آسيا وفي أواسط أفريقيا دخل الإسلام إليها، ولم يصل إليها جيش إسلامي ولا بعثة دعوية، وإنما وصل إليها تجار مسلمون حسنت أخلاقهم فكان سكان تلك البلاد من عبدة الأوثان أو النصارى أو غيرهم يتعجبون من أخلاقهم وأمانتهم فيسألونهم عن سبب هذه الأخلاق وتلك الأمانة فيقولون: الإسلام. فيتعرفون على الإسلام فيسلمون، وبعكس ذلك – في هذا العصر- بعض المسلمين في أوروبا وأمريكا شوهوا الإسلام، وصدوا عنه ببعض الأفعال والأخلاق القبيحة. وفي الختام أقول سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله وحسن الخلق" رواه الترمذي.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
النموذج الثاني
عذاب القبر ونعيمه
أخي المسلم/ من فضل الله علينا أن الإيمان بصّرنا بما وراء الحُجُب، فالإيمان بَصَر مع البصر، يُخبرك بما لا يصل إليه بصرك، والكافر محروم محجوب لا يعرف إلا ما تدركه حواسه{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (15) سورة المطففين فهم محجوبون في الدنيا قبل الآخرة. فلا يدرك ما يقع بعد الموت ولا يدري شيئاً من أحداث القيامة والبعث، وإذا كان لا يعرف، فمن باب أولى أنه لا يستعد ولا يضبط أموره استعداداً لرحلة الآخرة وهي رحلة طويلة مليئة بالأحداث الجسام العظام، ولذلك أثنى الله على رسله بإعلامهم بالغيب: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ... الآية{. سورة الجن وأثنى على سيد ولد آدم بإعلامه بهذا الغيب العظيم فقال:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } (52) سورة الشورى.(/11)
ومن هذا الغيب الذي لم نكن لنعلمه لولا أن أعلمنا الله إياه أن هناك بعد الموت (فتنة القبر). وأنها تحوي فيما تحوي نعيماً للطائعين وعذاباً للعاصين، قال تعالى{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (46) سورة غافر .
ونعيم القبر أو عذابه مرحلة بعد الموت ومقدمة لما سيأتي من النعيم أو العذاب، ففي الحديث:(القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) وقد تواترت الأحاديث النبوية الشريفة في هذا الباب حتى أصبح العلم بهذا – عند المؤمنين- قطعياً لا يدخله شك ولا يدانيه ريب، واعلم أن الشريعة لما ذكرت ما يقع في القبر من ضغطه القبر وسؤال منكر ونكير، وغير ذلك من الأمور العظام ما أرادت الشريعة إدخال الفزع والرعب في نفس المسلم، وإنما أرادت الشريعة أن يستعد المؤمن لهذا الأمر ويتهيأ له بالعمل الصالح فقد قال سفيان الثوري رحمه الله: "من أكثر من ذكر القبر وحده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عنه وجده حفرة من حفر النيران".. فلماذا لا يكون قبرك روضة من رياض الجنة؟ ولماذا تخاف من عذاب القبر وتفزع ولا ترجو ولا تحن إلى نعيمه ولذته، فالقبر فيه هذا وذاك ولا يظلم ربك أحداً.
ولذلك عندما حذر الله الناس بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم فذكر بعد هذا أن العذاب سينال الكافرين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (7) سورة التحريم ، وذكر أن النعيم سينال المؤمنين فقال{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (8) سورة التحريم. فنحن نقول لك نعيم القبر قبل عذابه، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا)، وقول أهل العلم عذاب القبر ونعيمه ليس تقديماً للعذاب على النعيم فالواو – في اللغة العربية- لا تعني ولا تفيد ترتيباً حتى نقول أنهم قدموا العذاب على النعيم – فاستعد يا أخي الحبيب للقبر، واسعَ في أن تكون منعماً فيه لا مُعذَّباً وخَفْ من عذابه، واستعذ بالله منه، فإنك لا تنجو من النار إلا بالرجوع إلى الله كما أشارت الآية أن هؤلاء المؤمنين يتوبون إلى الله والله يكفر عنهم السيئات، ويدخلهم الجنات فالجأ إلى ربك ولذ به فلن يحفظك إلا هو، ولكن: (احفظ الله يحفظك).
يا غافلاً وله في الدهر موعظةٌ إن كنتَ في سنةٍ فالدهر يَقظان
حفظنا الله وإياكم، وأعاذنا من عذاب القبر، وجعله علينا روضة من رياض الجنة، وجمعنا في الفردوس الأعلى... آمين... آمين.
أخيراً: مصادر ومراجع البحث ولمزيد من المعلومات
"الكليات" لأبي البقاء (2/309)، و"محيط المحيط" (341)، و "التعريفات " للجرجاني (101)، و "المجمل" لابن فارس (2/296)، ومختار الصحاح للرازي (93)، و "قواعد التحديث" للقاسمي، و"من أجل مسجد فاعل": عبد الرحمن بن عبد الله اللعبون، و" الخطابة": لأبي زهرة، و "رياض الصالحين" للنووي، و "تفسير ابن كثير"، و "طرق الدعوة الإسلامية" للعدنان(/12)
طرق إبداعية في حفظ القرآن الكريم
د. يحيى الغوثاني
نأتي الآن إلى القواعد العامة لحفظ القرآن الكريم :
القاعدة الأولى :
1) الإخلاص سر الفتح :
إذا عمل الإنسان وبذل الجهد وطبق ما يلزم تطبيقه وأتقن البرمجيات ولكن لم يكن هناك إخلاص في عمله أولم يكن هناك توكل على الله تعالى ، يكون العمل ناقصاً ... لذلك نجد كثيرا من المصلحين الغربيين من المكتشفين من الذين نفعوا البشرية بأفكارهم ولكنهم فقدوا الإخلاص النابع من الإيمان بالله تعالى ، نجدهم انتحروا وبكل بساطة .. ولذلك علينا أن نتذكر قوله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) إذاً هم سعوا واجتهدوا ولكن سعيهم ضلّ بسبب فقدانهم للإيمان والإخلاص ..
ونحن نحمد الله كثيرا على منة الإيمان والإسلام . فالإسلام الذي ميّز امتنا جعلنا نصبغ كل ما نأخذه من الغرب من برمجيات وتكنولوجيا بصبغة الإسلام ونلبسها بروحانية الإيمان ولذلك نحن نؤمن بأن كل عمل لا يقوم على الإخلاص فهو على جرف هار..
الإخلاص له زرّ في القلب وفي أي لحظة وبدون أن يراك أحد اضغط هنا على القلب وقل في نفسك ( الإخلاص .. الإخلاص .. الإخلاص) ( ثم انطلق إلى القاعدة الثانية ) .
الحقيقة يا أخواني أن موضوع الإخلاص يحتاج إلى محاضرات طويلة وأمثلتها كثيرة جدا منها قصة الإمام النووي والإمام الشاطبي قصة النووي والإمام أحمد أيضا ) مؤلف المنظومة المشهورة الشاطبية في القراءات السبع .. تفكر في إخلاصه العجيب : كان يطوف بها حول الكعبة مئات بل آلاف المرات ويقول : يا رب إن كنت قد قصدت بها وجهك فاكتب لها البقاء ... ولم يكتف بهذا بل كتبها في قرطاس ووضعها في قارورة وختم عليها وألقاها في البحر ثم دعا الله تعالى أن يبقيها إن كان يريد بها وجهه تعالى ... ودارت الأيام وإذا بصياد يصيد السمك ويرى القارورة بين السمك فيفتحها ، فيجد بها ورقة بها قصائد في القراءات .. فيقول في نفسه : والله لا يعلم بها إلا الإمام الشاطبي .. سأذهب إليه وأسأله عنها وحينما دخل على الإمام وذكر له ما وجد في البحر قال له الإمام : افتحها واقرأ ما فيها .... فبدأ الصياد يقرأ :
بدأت باسم الله في النظم أولا *** تبارك رحمان الرحيم موئلا
وثنيت صلى الله ربي على الرضا *** محمد المهدي إلى الناس مرسلا
وإذا بالصياد يقرأ والإمام الشاطبي يبكي وحكى له قصة القصيدة ( اللهم ربي ارزقني الإخلاص) ، ولذلك نجد الآن وفي كل مكان من طلاب علم القرآن يحفظونها ، وهي مشهورة تذهب إلى اندونيسيا .. الهند .. مصر ، الشام ، تركيا ، وفي كل مكان لأن صاحبها أخلص في عمله إذاً الخلاصة للقاعدة الأولى : ( ما قصد به وجه الله تعالى ، لابد أن يبقى )
القاعدة الثانية :
2) الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر :
اعترض أحد الحاضرين وقال إن هذه القاعدة سلبية ، فأجابه الشيخ الفاضل قائلاً : ستجد بعد قليل كيف أن الإيجابيات ستضيء من جوانب هذه القاعدة.
نرجع إلى هذا القول المأثور .. ( الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر والحفظ في الكبر كالكتابة على الماء ) هذه نشأت من أصل قاعدة ربانية موجودة في الكون مسلّمة لاشك فيها ، أن الصغير يحفظ أكثر من الكبير.. القاعدة تكون كما يأتي :
الإنسان عندما يولد يكون الحفظ عنده في القمة ، ولكن فهمه لاشيء ، فالفهم قليل جداً ، والحفظ يرتفع جداً وكلما كبر كلما ارتفع الفهم وقلّ الحفظ وهكذا بمرور السنوات .. سنوات الطفولة والشباب .. حتى يصل إلى سن العشرين إلى الخامسة والعشرين تقريبا .. يتساوى عنده الحفظ والفهم ، ثم يبدأ يقل الحفظ أكثر ويزداد الفهم أكثر .. هل يموت الحفظ أخيرا ؟؟؟؟؟ لا لا يموت لأن حجيرات الدماغ الخاصة والمسئولة عن الحفظ لا يمكن أن تموت حتى بعد المائة .. إذاً القانون السائد كلما كبر الإنسان قلّ الحفظ ....ولكن ماذا يخرق هذا القانون ؟؟؟؟ هناك شيء اسمه العامل الخارجي .. إذا وجد فانه يضرب جميع القوانين ، فيصبح الحفظ بعد الأربعين سهلاً جدا جدا وهناك كتاب اسمه ( الفضل المبين على من حفظ القرآن بعد الأربعين) ما هو هذا العامل الخارجي ؟؟
هذا العامل هو : الرغبة .. التصميم .. الإرادة .. العزم .. قوة الهمة .. الهمة العالية .. ، إذا وجدت هذا في نفسك فإنه يشعل العزيمة والقوة لتنفيذ ما يريد ..وهناك عندي أكثر من ثمانين اسماً حفظوا القرآن بعد سن الأربعين والخمسين والسبعين ...؟!!
أمثلة على العامل الخارجي :
إذا وقفت على رجلك ثلاث ساعات مثلا .. تتعب صح ؟ .. طيب إذا وقفت 4 أو 5 ساعات .. لا تستطيع صح..؟؟ بس إذا قلت لك إن تقف 8 ساعات .. مستحيل صح ؟؟؟ لكن مالذي يدفع مغنيا أن يقف على خشبة المسرح 14 ساعة متتالية وهو يغني ، وذلك ليدخل اسمه في موسوعة جينيس للأرقام القياسية ..( عامل خارجي )(/1)
مسابقة حصلت حول أكل طبق من الصراصير مقابل إعطاء مال بشرط أن تقرمشه تحت أسنانك !! وتقرظه فلم يقم احد .. إلاّ بعد أن رفعت المكافئة إلى مبلغ خيالي أكثر من 500ألف دولار قام رجل .. قال أنا آكله . واعتبر نفسي أنني آكل فستق .. ( عامل خارجي ) !!!!!!
قصة أم طه التي حفظت القرآن تؤكد ذلك ... ( سأروي لكم القصة آخر المحاضرة )
سأل الشيخ الحضور .. إذا عرضت على أحدكم أن يقف خمس ساعات , وبعدها عرضت عليه أن أعطيه 10آلاف دولار مقابل أن يقف ساعة إضافية .. هل يفعل ..؟ أجاب الحضور بل نقف ساعتين إضافيتين .. فعلق : أرأيتم ..هذا هو العامل الخارجي .. تحدّي ..
نرجع إلى الموضوع السائد أن الإنسان إذا حفظ القرآن وهو صغير فقد اختلط بلحمه ودمه ، كيف ذلك ؟؟
أنا أودع القرآن عند حفظه في حجيرات دماغي ، وعندما أكبر تكبر كذلك حجيرات دماغي ، تكبر وهي حافظة للقرآن، فيبقى .. والسؤال المهم من أي سنّ يجب أن يكون التلقين ؟؟؟؟؟؟؟
إذا استطاعت الأم أن تحرص أن تفتح المسجل دائما وجنينها في بطنها في الأشهر الأخيرة فلتفعل وبعد أن يولد الطفل ، دائما أسمعيه القرآن الكريم ، اجعليه يراك تقرئين القرآن الكريم ، تذكرين الله تعالى ، ستجدين النتيجة طيبة بإذن الله تعالى ... ولكن .. احذري .. احذري أختي المؤمنة أن تقهريه قهراً فكرة الإجبار خاطئة تماماً ..
لنأخذ هذا المثال ... معي قطعة من الحلوى لذيذة جداً جداً , وهي من النوع الفاخر الغالي الثمن .. وجئت من خلف ابني وفاجأته وقلت افتح فمك لأضع الحلوى فيه .. ماذا تتوقعون أن يفعل ؟؟؟ أول حركة يتراجع ويغلق فمه .. لا يستقبل ولا بد أن، يعمل حركة معاكسة .. القاعدة هي :
لا تضع قطعة الحلوى مباشرة في فم الطفل .. تعني لا تدفع طفلك إلى حب العلم .. الصدق .. الخلق الطيب....لا تأمره بهذا أولا ... حببه إليه ..
لا تضعها مباشرة في فمه وإنما أمامه .. شوقه إليها تشويقا .. على مبدأ ( ما بال أقوام ) .
لقد وقعت أنا في هذا الخطأ وكان عندي شريط كاسيت وكنت أرغب من قلبي أن يسمعه ابني عاصم في السيارة ، وفي الطريق إلى المدرسة وفي السيارة ، قلت له : اسمع هذا الشريط يا عاصم . الذي حدث أنه بدأ يقرأ اللوحات على جانبي الطريق .. ويشغل نفسه .. وأنا أقول له : عاصم أسمع .. وهو يشغل نفسه ويتعمد ذلك ، وأنا كنت حريصا على أن يسمع الشريط ، وبعد ذلك صرخت وقلت له : يا بابا هذا شريط قرآن اسمعه .. ثم التفتت لخطئي ... أنني أريد أن اسمعه الشريط بطريقة خاطئة .. فلم يسمع الشريط .. بعد فترة حملت معي شريط آخر ولم أتكلم فسألني ما هذا قلت له قرآن يا ابني وقال : بابا ما هذا الشريط .؟؟ قلت له " بعدين تعرف " .. ركبنا في السيارة قال عاصم : بابا أضع الشريط في المسجل .؟؟ قلت له : لا لا تضعه بعدين تعرف .. أوصلته إلى المدرسة وعنده ملف مفتوح وهو يفكر به .. ، افتحوا ملفات عند أبنائكم واتركوهم يفكرون .. قولوا لهم ماذا فعلت حليمة السعدية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكملوا الشرح خلوهم يفكرون ويعيشون في الخيال ، وكذلك في الحلقة القرآنية افتح للطلاب ملفا واتركهم يفكرون فيه .. المهم ما فتحت الشريط .. رجعت إليه بعد الظهر ركب السيارة وكنت قد فتحت الشريط وهو لطفل قارئ اندونيسي وصوته جميل جدا .. يقرأ القرآن وبعده بثوان أغلقت المسجل: بابا ليش أغلقت المسجل خليه .. قلت له طيب بعدين .. أنت كيف حالك اليوم بالمدرسة .. وبدأت اشغله ..وهو يجيب بسرعة ويلح عليّ أن افتح الشريط .. وأنا أشغله .. وتعلق قلبه بالشريط .. وبعد ذلك أسمعته , وأعجبه .. وبعد ذلك استأذنني أن يأخذه معه إلى البيت ليكمله .. هكذا ..
جرب أنك تجبر أبنك على شيء معين .. وفي اليوم التالي جرّب أن تشوّقه لنفس الشيء بطريقة التحبيب والترغيب ... وسترى النتيجة ..
الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر .. والحفظ في الكبر ممكن إذا وجد الحافز والعامل على ذلك...
في السودان ، وكنت أتكلم عن الذين حفظوا القرآن الكريم بعد الأربعين قالوا الآن هنا يوجد الشيخ مكين حافظ القرآن الكريم وهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب فناديته وقال " لي أسأل أي سؤال وأقرأ أي آية وأخطأ أي خطأ وأنا أكتشف لك ذلك .. " ، فوالله أنا ارتبكت كيف أخطأ بالآية ؟ ..
فطلبت من شخص جالس أن يعطيه آية .. فقرأها وأخطأ فيها .. وأخذ الشيخ مكين يبين له الخطأ والأحكام ، قلت له ما شاء الله عليك .. احكي لنا قصتك .. قال : " أنا نظرتَ إلى نفسي وقلتَ : ((ملاحظة :أهل السودان يتكلمون عن أنفسهم بالمخاطب نظرتَ وأكلتَ وهكذا )) وقلتَ يا مكين كيف تأتي يوم القيامة وأنت مليء بالذنوب .. فذهبتَ إلى المسجد وجلستَ مع حلقة الأطفال وبدأتَ أردد معهم وأسمعهم وبقيت كذلك حتى حفظت القرآن الكريم كاملا " تصوروا وبعد الستين سنة وبإتقان ، والقصص عديدة بهذا الموضوع ومنها قصة أم طه ...
القاعدة الثالثة :
3) اختيار وقت الحفظ :(/2)
إذا تغدى الإنسان وملأ بطنه وشرب من المشروبات الغازية .. كيف يستطيع الحفظ .. لا يمكن أبدا !!!!
فالذهن مشغول والدم كله موجه إلى المعدة لعملية الهضم .. وأهمل الدماغ , فلن تستطيع أن تحفظ .. أو لن يتركز الحفظ أبدا ... وإنما وقت الحفظ هو وقت السحر قبيل الفجر .. يقول الإمام ابن جماعة .. أحد علماء الإسلام المربّين الرائعين في رسالة ماجستير له بعنوان ( فنّ التعليم عند ابن جماعة ) يقول : " أجود الأوقات للحفظ الأسحار ، وأجودها للبحث الأبكار ، وللتأليف وسط النهار ، وللمراجعة والمطالعة الليل ".
الآن لو تساءلنا لماذا يكون وقت الأسحار أفضل الأوقات للحفظ ؟؟؟؟؟؟
لو رسمنا خطا بيانياً للقلب هكذا .. في فترة الصباح يتحرك الدماغ طوال النهار .... أي مشكلة , خطأ ، راحة ، فنجان قهوة ، الدماغ شغّال بين حالات راحة وعصبية وتعب .. كل الحوادث تجد الصورة للخط البياني للدماغ وعند النوم هكذا مثلا ...
يخزن هذه الأحداث وهذا الجدول البياني في الليل يبدأ العقل اللاوعي بترتيبها وأنت نائم على حجيرات ...
يضع النظير مع نظيره والشبيه مع شبيهه ، فيضع العصبية مع بعض .. والراحة مع بعض والألم مع بعض ، وما يتعلق بأمر النساء وكل شيء ... مثل الكومبيوتر .. وهو نظام عجيب .. يرتب لي الحجرات ولكن مالذي يفيدني هذا في الحفظ ؟؟؟؟؟؟؟؟
يفيدني أن الإنسان عندما يستيقظ في السحر يكون الدماغ جاهزا للحفظ ويقول لك تفضل أعطني المعلومات .. أما في آخر النهار إضافة إلى الشواغل الكثيرة ، تأتي وتدخل عليها الحفظ ... ستجد الصعوبة في الحفظ أو يكون غير جيد ..أو يأخذ وقت أطول وتركيز أكثر ... أما في السحر .. وهو شيء مجرب ..هو أفضل الأوقات .. وهو الثلث الأخير من الليل .. ولابد أن يسبقه نوم ، لأنه إذا لم يسبق هذا الوقت النوم يشعر الإنسان بالتعب الشديد ، فالعقل اللاواعي يعمل طوال الليل ...
فمن مميزات العقل الواعي انه يهدأ ليلاً ويرتاح ، أما العقل اللاواعي فلا ينام ولا يرتاح .. شغّال طول الوقت .. ليلا ونهاراً ، وهو لا يفرق بين الخيال
والواقع ، ولذلك حينما أقول لك تخيّل أنك حافظ القرآن الكريم ..وحققته ... العقل اللاواعي يصدق .. عندما تقول : أنا الآن أحقق حفظ القرآن الكريم أو أن أنال شهادة الماجستير وبتفوق ... يقول لك العقل اللاواعي أنا حاضر وأنا عبدك المطيع .. سأسخر لك كل قواك الداخلية لتحقيقها .. أما إذا قلت لا لا يمكن .. ذلك صعب .. فالعقل اللاواعي يصدق ذلك .. ويقول لك حاضر ... خلاص .. بإرادتك .. نام قد ما تقدر .. أنا عبدك المطيع .. كما تريد أكون أنا ..
هناك تشبيه جميل .. يشبهون العقل اللاواعي والعقل الواعي بالهندي والفيل ... الذي يأمره .. فيأتمر بأمره ...
الفيل ضخم جدا والهندي وزنه ستون أو خمسون كيلو.. يلاعبه ...يقول له اجلس على منضدة... يجلس الفيل على المنضدة .. ويقول له ارفع خرطومك .. يرفع خرطومه .. يقول له افعل كذا وافعل كذا .. ويفعل الفيل ما يأمره الهندي .. والهندي هو العقل الواعي ..أعطي عقلك اللاواعي رسالة أنك ستحفظ .. هو سيقول لك بأمرك أنا حاضر ...الآن سنبدأ ..
(( حينما سئل الشيخ كم ساعة تكون قوة العقل على الاستيعاب والحفظ ؟؟ قال 4 أو 6 أو 8 للناجحين .. وبراحة تامة )) .
إذا استطاع العقل أن يتحكم بالطاقة الجسدية والنفسية ويوجهها عند ذلك تستطيع أن تعمل كل شيء ، العقل اللاواعي يتحكم بحسب ما يدخله العقل الواعي إليه من معلومات .. ( الحقيقة أن الحواس كثيرة فهناك حواس لازالت تكتشف ، منها حاسة الاتجاه .. فلو أني رميت لك القلم هكذا ستمسكه بأقل من لحظة .. كيف تمسكه؟ بحاسة الاتجاه ، كذلك إذا قلت لك أكتب رقم الهاتف دون أن تنظر إلى مكان القلم في جيبك .. ستمّد يدك وتمسك بالقلم دون نظر ودون تفكير .. وتخرج القلم .. كله بحاسة الاتجاه ) .
الآن الكومبيوتر مثلا ، تدخل إليه المعلومات : أنا كسلان ...أنا غضبان .. أنا زعلان .. أنا قلق .. وبعدين اطلب منه أن يعطيك المعلومات التي أعطيته إياها .. هل سيعطيك مثلا .. أنا مسرور ؟؟ أو أنا سعيد .. غير ممكن .. سيعطيك ما أدخلته .. لذلك بعض الناس عند العصبية تطلع منه العجائب ويفتح قاموس الحيوانات الأليفة وغير الأليفة .. من عقله اللاواعي ..والأطفال يحفظون ويأخذون من آباءهم .. وإذا كان الطفل مؤدب جدا جدا.. يقول لك انتظر يا أبي عندما أكبر .. سأعامل أولادي كما عاملتني بالضبط .. وسأقول لهم كذا وكذا ... هكذا العقل اللاواعي يعمل .. يحفظ ويحفظ ويخزن .. مثل الكومبيوتر .. لذلك عليّ أن أحرص ألا أتكلم مع أولادي إلا بالإيجابيات ..والكلام الطيب ..
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ****** على ما كان عودّه أبوه
القاعدة الرابعة :
4) اختيار مكان الحفظ : كيف ؟؟؟(/3)
عليّ أن أحفظ القرآن الكريم في المكان الذي احفظ فيه عيني وأذني ولساني .. إخواني : الحقيقة أن منافذ الذاكرة ثلاثية .. لو أن عندي حوضا للماء وفيه ثلاث مصبات تصب فيه .. من أماكن متفرقة ، فإذا فتحت المصبّات الثلاثة بالماء ، يمتلئ الحوض ماءً ، وإذا فتحتها باللّبن يمتلئ لبناً ، وإذا بالعصير .. الخ وهكذا ، وكذلك قلبك .. حوض مداخله ومصبّاته العين والأذن واللسان ، فكل ما يدخل عن طريقها إلى القلب يمتلئ به ، فإذا دخلت المعاصي .. نكت في القلب نكته سوداء .. وإن كانت طاعات .. يمتلئ القلب نوراً وهكذا ...
فإذاً علينا أن نحفظ في المكان الذي نحفظ فيه سمعنا من الغيبة . ألسنتنا من النميمة .. وأبصارنا مما حرم الله تعالى .. ومن اللطائف في اختيار مكان الحفظ .. أنني وجدت في تركيا في بعض المراكز لتحفيظ القرآن الكريم ، غرفا صغيرة جدا ، مترين في مترين ، بناها العثمانيون القدامى .. ولها سقف عالي للتهوية ، قالوا إنها مخصصة للمتسابق للمراجعة .. وللذي عليه ورد معين يريد أن ينهيه ، وحينما دخلت وجدت أحد الأخوة يراجع القرآن الكريم فيها .. قال هنا نركز على الحفظ .. وهذه فكرة قديمة من 400 سنة تقريبا .. وفي الحرم لازالت هناك غرف صغيرة موجودة .. ومن الأشياء الطريفة أيضا أنك يجب أن تحفظ ولا يوجد أمامك مرآة : لماذا؟؟؟؟
لئلا تنشغل ، فإذا بدأت بالحفظ : بسم الله الرحمن الرحيم .. نظرت إلى المرآة وقلت لنفسك والله إن الشيب قد كثر .. ما عاد ترضى بي أم العيال ... أو تنظر إلى قميصك ، إلى لباسك ... أو .. أو .. فيشغلك الشيطان ..
قد يسمح وينصح بالمرآة في جانب آخر وذلك لتذكر وتعلم أحكام التجويد .. في بعض المراكز ينصح المدرّب الناجح والمحفظ لتلقي أحكام التجويد يقول الشيخ انظر إلى شفتيك وفرق بين انطباقهما وانضمامهما وكذلك الإشمام والروم ، ويقول امسك المرآة وانظر كيف تطبق أحكام التجويد .. وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الطلاب جاء ليدرس أحكام التجويد وهو يدرس في بريطانيا فقال نحن ندرس في معهد اللغات معهد الصوتيات في الدراسات العليا قال نحن ندرس اللغة والمرآة عند المشرف يقول للطالب انظر إلى المرآة وانظر إلى شفتيك والفك وتعلم كيف تنطق .. فقلت له أننا بحمد الله نهتم بهذا العلم منذ فترة طويلة ...
القاعدة الخامسة :
القراءة المجودة والمنغمة :
التجويد يثبت الحفظ بطريقة أقوى وأوسع فمن خلال تتبعي للعديد من المدارس والطلاب ، يأتيني الكثير من الإشكالات في الحفظ يقول أخ : يا شيخ أنا احفظ وأنسى ، فاسأله كيف حفظت؟؟ فالأكثرية يقولون أننا نحفظ بقراءة عادية ( كأنه يقرأ كتاب عادي ) ..وهذا خطأ .. القراءة الاعتيادية جدا للقرآن الكريم لا تصح ، ينبغي لي أن أجمل صوتي وأنغمه ...
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرأ القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليه ، فسّر بقراءته فالتفت إليه أبو موسى وقال :
يا رسول الله استمعت إليّ؟ قال : نعم لقد أوتيت مزمارا من مزامير أبي داود . قال :" لو أعلم أنك تستمع إلىّ لحبرته لك تحبيراً"( لقرأته لك أجمل وأحلى من ذلك ) ..
إذاً إذا أردت أن تحفظ فاقرأ بالحد الأدنى من مخارج الحروف من الغنة والإدغام والمد والذي يعتبر تركه لحنا جليا .. القراءة السريعة تسمى هذربة .. الحفظ الجيد أن نظهر المدود والغنة وبعض مخارج الحروف المهمة ثم النغمة .. كل ذلك سيثبت الحفظ .. الدماغ يرتاح على النغم والإيقاع ...
كل إنسان حينما يقرأ ( اقرأ بسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ...) القلقلة الموجودة في الآيات ( إق) أول الآية وأخرها تحس ببهاء الآية وجمال الآية، والآية التي بعدها نجد أن الجرس الإيقاعي أو الإعجاز الإيقاعي تؤثر وتؤدي إلى تسهيل الحفظ فالإنسان مفطور على النغم ، كل واحد ، الأعرابي ..الرجل.. المرأة في مطبخها نجدها تدندن بنشيد أو آيات ...الخ ما سرّ ذلك ؟؟؟
إن الجنين حينما كان في بطن أمه كان رأسه قريبا من قلب أمّه الذي يدق دقات منتظمة طوال تسعة أشهر , بم بم ... بم بم بم ... بم بم .. المشيمة تنقل صوت دقات القلب بطريقة عجيبة إلى الطفل كأنها تهدهده ، تسكته ، تعطيه النغم ، تعطيه الراحة النفسية فهو يعيش على هذا الإيقاع بم بم بم .. بم بم .. وعندما يولد الطفل عندما يبتعد عن أمه ، يبكي ، وحينما يقترب منها ويسمع دقات قلبها يهدأ وكلما ابتعد عن قلبها يبكي ويصيح : " أرجعوني إلى المكان إلي يريحني "
فكل واحد منا شاء أم أبى يحب أن يسمع ولكن علينا أن نعلم أن هناك خطوط حمراء وخطوط خضراء هذا في الشرع .. تمتع بالطرب في حدود الخطوط الخضراء .. فإذا تجاوزت شرعنا وديننا هذا لا يجوز .. وأنتم تعرفون حكم الخطوط الحمراء...(/4)
* الخلاصة والقصد من كل هذا أنه إذا أردت أن تحفظ القرآن الكريم فاحفظه بنغم فطري و إيقاع يثبت الحفظ ، إذا ذهبنا إلى أي قرية في العالم ، سبحان الله ، وقلنا لطفلة صغيرة إقرأي الفاتحة ، تقول: "بسم الله الرحمن الرحيم ..." بنغمة مميزة ومعروفة... من أين جاءت بها ؟؟ يقرأها بغير القراءة العادية وغير الأداء الاعتيادي لجميع القراءات ..
هذا الرجل الذي درس الصوتيات في احد معاهد الدراسات في بريطانيا والذي تكلمنا عنه عند استعمال المرآة في تعلم اللغة ، هو يدرس صوتيات اللغة العربية فطرح فكرة مع أسرته أن يسجل لهم أصوات عربية من أناس عرب مختلفين .. مثقفين وعامة وعاديين جداً ، وسيضع نصوصا مختلفة ، من بينها نصوصا قرآنية ، فوجد أن الناس يقرأ ون الآيات القرآنية بطريقة مجودة ونغمة مختلقة عن باقي النصوص ولها إيقاع خاص ، غير باقي الإيقاعات ، سجل ذلك بأجهزة دقيقة وذهب إلى أستاذه المشرف عليه غير المسلم ، قال له : " أنظر هذه لغة عربية وهذه لغة عربية ولكن هذه تختلف بالقراءة عن تلك " قال له الأستاذ : " عجيب هذا الكلام ، هل هذا الاختلاف صدر من واحد أو اثنين من المسلمين ؟؟ "
قال له : " أغلب المسلمين هكذا فالمسلم إذا قرأ الشعر ، الجريدة ، الأخبار ، المجلة .. يقرأها بطريقة معينة ، إذا جاء إلى آية قرآنية يقرأها بتجويد بغنة بإدغام " قلت له : " هذا البحث إذا طورته وخدمته خدمة عميقة سيقدم للغرب حقيقة أن القرآن متميز بكل شيء حتى بصوتياته وبحروفه وطريقة أدائه المتوارث"
فتعجب الأستاذ وقال : " كيف تأخذونها " قلت : " هذه الطريقة يأخذها التلميذ والطالب عن شيخه والشيخ عن شيخه والشيخ عن شيخه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه ميزة القرآن العظيم عندما ينبغي أن يقرأ على شيخ وقد شرحت له فكرة السند أكثر وقلت له أخبر أستاذك هذا (بيّن له) وقل له أن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ على الشيوخ ولا يصرح ولا يجاز بأنه يستحق أن يعلم القرآن إلا بشروط منها أنه عليه أن يقرأ القرآن غيباً من أوله إلى أخره بطريقة معينة على شيخ متقن فيسمع الشيخ كامل قراءته ثم يقول له لقد استمعت إلى قراءتك وبما أنها متقنة فقد أجزتك بقراءته كما أجاز لي شيخي الذي أجازه شيخه فلان ابن فلان وهكذا السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه ميزة لا توجد إلا في القرآن الكريم فكان هذا الكلام مبهراً جدا للأستاذ بل حتى هو انبهر عندما علم من بعض المسلمين أن هناك سند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ولم يصدق . وللسند أنواع منها من يصل إلى 30 درجة ومنها من يصل إلى 35 درجة ، ومنها 32 ومنها 28 شخص ، وهذا أعلى الأسانيد وأعلى من هذا 27 اليوم في العالم ,,
يوجد شخص واحد في العالم حسب علمي ( والكلام للشيخ الغوثاني ) اليوم بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم 26 قارئ والناس يرحلون إليه ويقرأون عنده شهراً كاملا ويؤشر على الإجازة وهو الشيخ ( بكري الطرابيشي ) وهو في دمشق أحيانا يأتي إلى دبي ، وهذا الرجل بينه وبين الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم 26 شخص ، ولكن الذين بينهم 27 هم كثر ، منهم الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات من مصر وعمره أكثر من 90 سنة وهو مريض فأدعو له بالشفاء ..
القاعدة السادسة:
الاقتصار على طبعة واحدة من المصحف ولا يغيره :
وهذا المصحف الأفضل أن يبدأ بآية في أول الصفحة وينتهي بآية في أخرها .. وهذا مصحف مجمع الملك فهد هو المنتشر .. حافظ على المصحف المحدد ، ولا يشتت الآيات وإذا اضطرت بعض أخواتنا أن يقرأن من كتب التفسير لعذر أقول لها اختاري التفسير الذي يكون بداخله المصحف نفس الطبقة التي تحفظيها حتى لا تشتت الآيات ..
القاعدة السابعة :
تصحيح القراءة مقدّم على الحفظ :
إذا أردت أن تحفظ الآيات عليك أن تقرأها على شيخ متقن الحفظ ولا تعتدّ بنفسك فلا بد أن يكون لك أخطاء ، والتصحيح له طريقتان فإمّا أن تصحح القرآن كاملا من أوله إلى أخره وهذه الطريقة لا يسمح للطالب فيها أن يبدأ بالحفظ ،عليه أن يقرأ وتصَحّح القراءة ثم في السنة الثانية يبدأ ، الطريقة الثانية أنك تبدأ فقط بتصحيح ما تريد أن تحفظه وتصحيح التلاوة يجعل الطالب يحفظ أسرع بكثير من الذي لا يصحّح قبل الحفظ ثم أنك عندما تصحّح الحفظ تحفظ بما لا يقل عن 30 % من الصفحة قبل الحفظ مجرد التصحيح يفتح ذهنك وبحضور الشيخ ، فيتجاوز 30% من الصفحة فيبقى عليك 70% هذا على الطريقة الثانية ..
أما على الطريقة الأولى فالطالب حينما يبقى مع القرآن سنة كاملة يقرآ يصحح وبوجود شيخه فتكون هناك نسبة من المحفوظ ... أنا أذكر أن والدي رحمة الله عليه قد قرأ القرآن على الطريقة الأولى صححّه عند الشيخ من أوله إلى أخره والمرحلة الثانية وقف لم يكمل الحفظ ولكنه يصحح أي آية ويعرف تقريبا كل آية في أي سورة ولكنه حفظ حوالي 40 % .(/5)
في الجلسة الخاصة للنساء سألت إحدى الحاضرات عن استخدام بعض الكلمات النابية والنبرات المؤذية مع بناتها بنية التخويف أو إجبارهن على الحفظ ، فأجابها الشيخ الفاضل بأن الكلمات السلبية في الحقيقة غير مستحسنة ويجب أن تحاول مع بناتها بالطريقة الإيجابية والتشخيصية وقال أن الشخصية نوعان إحداها مرجعيتها داخلية والثانية خارجية فالأولى لا تستجيب إلا لنفسها ولا يهمها قول الآخرين فتعمل الذي تريده ويرضيها هي ، أما الثانية عكس ذلك .. عليك أن تتعلمي كيف تنوعين وتغيرين التعامل مع أولادك تعلمي كيف تسيطرين على المواقف وذلك بممارسات مختلفة حسب المواقف ..
إحدى الحاضرات سألت عن طريقة ناجحة لتعليم غير العربيات وتحفيظهن القرآن الكريم مع صعوبة اللفظ عندهن فقال الشيخ حفظه الله بأن الصبر مهم في هذه المهمة ويجب تعليم الألف باء أولا ثم مخارج الحروف ثم بعد ذلك نبدأ بالتحفيظ .. مع ذلك أقول لك يا أختي وأنت تعلمين أولادك دائما تذكري الرسائل الخمس للعقل اللاواعي وأعطيهم الثقة بالنفس وكرريها دائما ... ووفقكن الله تعالى لما يحبه ويرضاه ولما يخدم الإسلام والمسلمين ..
القاعدة الثامنة :
عملية الربط مقدم على الحفظ :
الربط مهم جدا في كل جزء من أجزاء السورة ، أي ربط الآيات بالمعاني .. مثلا ربط الآية بخيال ، جائز كما قلت ضمن الدائرة الخضراء ( يجعلون أصابعهم في آذانهم ..) جاز لك أن تتخيل كافرا يضع إصبعيه في أذنه كلما سمع القرآن هكذا ..( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) لك أن تتخيل كافراً يخفه البرق الصورة تسمح بذلك ( ويوم يعض الظالم على يديه ..) صورة تتخيلها .. بلغة مؤثرة لك أن تربطها بطريقة ما .. ما دام النص يعطيني خيال أوسع ..
لكن لا يجوز أن تربطها بأشياء غير محلها ، مثلا ذلك الشاعر الذي قال حينما نزل ضيفاً عند شخص فأجلسهم في سطح المنزل فجاعوا فجلب لهم الماء وكلما ازدادوا جوعا يرسل لهم ماء فقام أحدهم كان شاعرا فقال :
أبات الضيوف على سطحهم وبات يريهم نجوم السما
وقد قطع الجوع أمعاءهم وإن يستغيثوا يغاثوا بما
هذه الآية لا ينبغي وضعها هنا فهو أراد أن ينكت .. وهذه خاصة بالكافرين .. فلا ينبغي ربط الآية في غير محلها .. لأن الضيوف مؤمنون والآية خاصة بالكفار ..
من الطُرف أن أحدهم جمع مجموعة في مطعم وجاء لهم بخروف مشوي وقال لهم لا أسمح لأحدهم أن يمد يده إلى الطعام إلا بعد أن يأتي بآية يقرأها وتكون مناسبة لما يأخذ ، فقال أحدهم( فك رقبة ) وأخذ الرقبة .. والثاني قال ( والتفت الساق بالساق ) وهم على الفخذ .. أما الثالث فقال ( حتى إذا ركب السفينة خرقها ) .. هذا لا يجوز .. لا ينبغي التلاعب بالقرآن ..
الربط البصري : ربط اسم الآيات رسم الكلمات ، مثلا ( وهو على كل شيء قدير ) الذي شخصيته بصرية يركز على شكل المصحف والآيات ،أما السمعي فيركز على صوت القارئ ..وهكذا
القاعدة التاسعة :
التكرار :
عملية التكرار تحمي الحفظ من التلفت والفرار..، التكرار نوعان :
أولهما : بمعنى امرار المحفوظ على القلب سرّاً.
الثاني : التكرار الصوتي وبطريقة مرتفعة يوميا.
التكرار يجب أن يكون من وجهة نظري خمس مرات على الأقل ، بعض الشيوخ يوصي طلابه أن يكرر الدرس خمسين مرة ... ذكر أحد العلماء عن طالب أمره شيخه أن يكرر الدرس ثمانين مرة .. فأخذ يكرر ويكرر .. فحفظ بعد عشر مرات. ولكن كرر وكرر لان شيخه أمره بذلك .. وإذا بعجوز جارة له تنادي من وراء السور .. يا غبي أنا حفظت الدرس وأنت ما حفظته ، قال لها : ماذا افعل ... الشيخ أمرني أن أكرره ثمانين مرة ، قال لها إذا حفظتيه فاذكريه ، فقرأت له الدرس كامل.. بعد أسبوع ناداها .. يا عمتي إقرأي الدرس الذي قرأ تيه قبل أسبوع .. قالت : أي درس ؟؟ أنا لا أدري ما تعشيت أمس .. لقد نسيته ! ، قال لها لكني لم أنس .. بسبب التكرار ... حتى لا يصيبني ما أصابك أكرره كثيرا ..
هناك نظرية تقول : إذا حفظت حفظا .. يوضع في ملفات مؤقتة ثم بعد ذلك ينزل إلى الملفات الثابتة في اليوم الثاني أو الثالث ..
من خلال تجربة أحدى الأخوات من أبو ظبي تتضح لنا هذه النظرية :
هذه الأخت حفظت في اليوم أكثر من تسع صفحات .. وكتبتها غيبا .. فوجئت عصر ذلك اليوم أنها لم تستطيع قراءتها .... فاكتأبت وقالت قضيت أكثر من ساعتين بالحفظ وجئت عصرا فلم أتذكر منها شيئا : قلت لها لا تحزني اقر أيها غدا وستتذكرينها .. لأنها الآن في الملفات المؤقتة في الذاكرة القصيرة .. فاصبري عليها وغدا راجعيها ستجدين أنها قد ثبتت في الذاكرة الدائمة ، وفعلا بعد مراجعتها قالت أنها فعلا تركزت عندي بعد المراجعة..
فمن ترك التكرار نسي ..
إذاُ التكرار للقرآن الكريم هو أساس كل شيء ..(/6)
ومن الأشياء المهمة أنك في البداية تشعر بصعوبة .. الشيخ إبراهيم الذي حفظ القرآن في 55 يوما كان يراجع في اليوم ثلاثة أجزاء ثم أصبح الأمر سهلا عليه فراجع خمسة .. ثم عشرة .. ثم يقول أنا أراجع في اليوم 15 جزء بسهولة وراحة .. لأنه تعود التكرار والمراجعة .. عود نفسك على التكرار بدون ملل...
القاعدة العاشرة :
الحفظ اليومي المنتظم خير من الحفظ المتقطع : لماذا ؟
لان هناك حجيرات في الدماغ مسئولة عن الحفظ فعندما تبدأ بعملية الحفظ ربما تشعر ببعض التعب ... ولكن لماذا ؟
لأن هذه الحجيرات في دماغك تعاتبك وتقول لك "أهكذا هجرتني هذه المدة الطويلة والآن تطالبني بالحفظ ؟!! أين كنت منذ زمن طويل ؟؟!!
ربما تعاندك في البداية ولكن في اليوم الثاني والثالث والرابع تستجيب لك ...ابدأ بالقليل بعد التعود على الحفظ ، وبعد استجابة الحجيرات لك زود قليلاً الكمية ...
أحد الأخوة كان يقول : لا أستطيع الحفظ أبداً ، فحاول معه المشرف على المركز قال له : ألا تستطيع أن تحفظ سطراً واحداً كل يوم ؟ قال نعم أستطيع .. واستمر في حفظ سطر واحد كل يوم حتى زاده إلى سطرين ثم ثلاثة ثم أربعة ثم نصف صفحة ... وهكذا .. النجاح يولد النجاح .. ابدأ بالصغير ثم تصل إلى الكبير..
إذا داومت على الحفظ تتنشط الذاكرة ، وقد تجد طريقة في الحفظ أفضل ومناسبة لك .. بعض العلماء قالوا لا مانع إذا أعطى الحافظ لنفسه استراحة يوم أو يومين إذا وجد نفسه قد تعب من الحفظ ..
أيضا عليك أن تعطي لنفسك جائزة إذا أنجزت شيئا في الحفظ مثلاً: أنهيت حفظ سورة البقرة لا مانع من أن تكتب شهادة شكر وتقدير لنفسك ( أشكرك يا طموح ..... يا متفائل .. عسى الله أن يسهل عليك سورة آل عمران ..) هكذا ..
تخيل نفسك شخصاً آخر يهنئك على الإنجاز ويبارك لك ما قدمته..
* سئل الشيخ : ماذا عن العقاب ؟ أجاب :" بعض السلف كان يعاقب نفسه إذا اغتاب أحدا صام يوماً ... فتعودت نفسه على الصوم ... فقال : وجدت
نفسي تعودت على الصوم ووجدت أن الصوم قد هان عليّ ، فقلت إن اغتبت مسلماً سأدفع ديناراً ، فصعب عليّ فتركت الغيبة؟؟!!!! "
ما رأيك بهذه الفكرة ؟؟؟!
عندما تشكر نفسك وبصوت عالٍ تجد أن عقلك اللاواعي يتنشط ، وينجز نفس الإنجاز بطريقة أسرع ..
هل سمعت بإبراهيم الفقي ؟؟؟؟ أحد المدربين العالميّين قال أنه بدأ حياته بكندا ... وكان يعمل غاسل صحون في فندق ... وكان عنده تصميم أنه يصبح في يوم من الأيام مدير أحد الفنادق الكبيرة ... وبعد سنوات أصبح مديرا لأحد الفنادق الكبرى في كندا .. فيقول : لمّا تسلمت إدارة الفندق .. في الصباح لم يهنئني أحد على المنصب الجديد .. فرحت و اشتريت بوكيه ورد وكتبت بطاقة تهنئة وكتبت بنهايتها اسمي .. ووضعته في المكتب أمامي ..
، فجاء أحد زملائه يزوره ، فنظر إلى الورد وقال : من الذي أرسل لك هذه التهنئة ؟؟؟ وعندما نظر إلى البطاقة قرأ الاسم .. إبراهيم ؟؟ فقال مين إبراهيم ..
قلت له : أنا .. فتعجب وذهب إلى زملائه وقال لهم يجب علينا أن نبارك له .. يقول وبعد فترة بسيطة امتلأت الغرفة بالورود .. والتهاني ..
أسئلة جانبية :
1)) سئل الشيخ الفاضل عن أيام الامتحانات هل من بأس إذا ترك الطالب الحفظ والمراجعة نهائيا وانشغل بالامتحانات هل يؤثر على حفظه ؟
فأجاب بارك الله فيه : لا بأس من ذلك لأن الذاكرة لازالت تعمل ، فلا بأس أن يتفرغ للامتحانات ولكن لابد من مراجعة ولو نصف ساعة أو ربع ساعة فلا يقطع الصلة بالقرآن الكريم ، وحتى لو عشر دقائق ، وهذه الدقائق لا تلهيه عن الدراسة بل على العكس تعطيه نشاطا وقوة روحانية عجيبة للاشتياق للدراسة ، فهذه تعتبر فترة الراحة له ، حتى النظر في المصحف وفتحه فقط يعطيه الأجر ولكن الحفظ يوقفه ...
من الأشياء المهمة في هذا الموضوع أن لا تحفظ وقت الضجر والملل .. انتبه لأن الحفظ ينسى في هذا الوقت ، وحتى إذا كنت تحاضر .. وأحسست بالملل بدأ يسري في نفوس المحاضرين ، فأوقف المعلومات وابدأ بحكاية قصة أو طرفة أو موقف طريق تذكره .. لأن العقل أمام أكبر المحاضرين يستمع بفعالية لمدة عشرين دقيقة بعدها يبدأ بالعد التنازليّ فلا بد أ، تغيّر النعمة تفتح له ملفا ثانياً ، ثم بعد ذلك تعود إلى موضوعك الأساسي ... لابد من التنشيط..
2)) سئل الشيخ عن الطالب بهاء الدين الخطاب :(/7)
قال : بهاء الدين الخطاب قابلته قبل أربع سنوات وكان عمره ثمان سنوات ، كان يحفظ 21 جزء ، كانت أمه تعمل مساعدة لطبيب وكان يأتي معها بعض الأيام ، وفي أحد الأيام رآه الطبيب وسأله عن اسمه وعمره وحفظه.. وأعطاه لوحة مكتوب فيها أسماء الله الحسنى وقال له احفظها وارجع غداُ وسمعّها لي ، ففوجئ الطبيب أنه قد حفظها في اليوم الثاني كاملة .. ، قال : أعطيته جزء عمّ وقلت له إذا حفظته لك مكافأة ، فحفظها في فترة وجيزة جداً ، فاستمر على هذه الطريقة بشكل مدهش حتى حفظ 21 جزء وكان عمره ثمان سنوات قبل 4 سنوات ، وعندما قابلته أعطيته كتابي كيف تحفظ القرآن الكريم وأرشدت شيخه أن يحفظه أرقام الآيات .
قال الشيخ الغوثاني تجربة عجيبة جداً قبل أربع سنوات لم يكن أحد من البلاد العربية يحفظ الأرقام بهذا العمر وقد رأينا الطفل الطبطبائي الذي حفظ الأرقام بشكل عجيب وعمره سبع سنوات حتى كلامه كان بالقرآن حينما سئل عن المباراة المقامة في ذلك الوقت بين إيران وأمريكا من تتوقع أن يغلب ؟ قال : ( غلبت الروم في أدنى الأرض ) سألوه أيضا ما شعورك وأنت بين هذا الجمع الكبير والجميع يستمع إليك ؟ قال: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) حينما جلس عند النساء أيضاً سألوه ما شعورك وأنت تقرأ عليهن . قال : ( فتبسم ضاحكاً من قولها ) .. مع أنه لا يفهم التكلم باللغة العربية .. ويتكلم بلغة الإشارات يقول أبوه .. لقد اكتشفت لغة خاصة بيني وبين ابني ، لقد حفظ الأرقام .. وأرقام الصفحات .. والأحزاب والأرباع وحفظ الشاطبية بالقراءات كلها وحوالي 400 بيت من ألفية ابن مالك رحمه الله ويحفظ أكثر رياض الصالحين وكل ذلك ولم يبلغ السنة العاشرة من عمره ، الصيف الماضي كان هناك اختبار له وحوله أكثر من 220 حافظ ، يقول الشيخ يحيى : أمسكت المصحف أعلى صفحة 100 قلت اقرأ الآية من صفحة 100 فقرأها ... وقلت له اقفز خمس صفحات إلى الأمام وإذا به يقرأ قبل أن اقلب الصفحات الخمس !!!!!!! ، قلت له ارجع عشرة صفحات .. وإذا به يقرأ قبل أن أصل إليها !!!!!! ,, وكل ذلك مع أرقام الآيات .. سبحان الله ذاكرة عجيبة أسرع من الكومبيوتر فعلاً .. كذلك إذا سألنا عن أي موضوع تجده يسرد لك جميع الآيات المتعلقة بهذا الموضوع .. مثلاً الصبر .. جميع الآيات التي تتعلق بالصبر يذكرها لك بالترتيب .. وهكذا ، مشاء الله عليه
...
ويرجع الشيخ حفظه الله إلى المحاضرة : هل يمكن من أبناءنا من يستطيع الحفظ هكذا .. نعم إذا وجد من يهتم به طبعا ليس بالصعب يا أخي ...
اعترض أحد الحاضرين وقال : ما أظن هذا إلاّ معجزة أو موهبة ، ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء ، ما أظن أن ذلك إلا توفيقا من الله تعالى ..
أجابه : نعم صحيح ذلك ولكن وجد من يلقنه ومن يعلمه .. يوجد الكثيرين مثله .. ولكن إذا وجد من يعلمهم ويرشدهم ويكتشف مواهبهم .. طبعا إضافة إلى توفيق الله عز وجل ..
القاعدة الحادية عشر:
الحفظ البطيء الهادي أفضل من السريع المندفع :
البطيء معناه أن تحرك العين يميناً ويساراً ببطء شديد كأنك تصور بكاميرا فيديو تنظر هكذا على المصحف يميناً ويساراً .. ركّز على الآيات والأسطر
التي ستحفظها حتى أن بعض البصريين ينصح أن يضع ورقة على النص حتى لا تنتبه لغير المحفوظ .. أنظر إلى الآيات ثم أغمض عينيك مباشرة واقرأ ، لا تنظر إلى السقف والشبابيك والستائر والأنوار و... الخ .. لأنك ستحفظ أشكالاً ثانية غير الآيات..
وهذا خاص بالبصريين ولعل منهم الإمام الشافعي رحمه الله كان يغطي الصفحة الثانية لئلا يحفظها.. ( ساعة من تركيز خير من أسبوع من الفوضى ...) مهم جداً .
القاعدة الثانية عشر :
التركيز على المتشابهات يرفع الالتباس:
أفضل طريقة لحفظ المتشابهات وحتى تتركز في ذهنك أن تقرأ على شيخ تكون له خبرة بالمتشابهات في باقي الآيات .. مثال على المتشابهات :
( يقتلون النبيين بغير الحق )
( يقتلون الأنبياء بغير حق )
الأولى في سورة والثانية في سورة أخرى ... ونتساءل .. لماذا ذكرت بلفظين مختلفين ... فعمل الشيخ الحافظ هو توضيح ذلك للطالب حتى يسهل عليه الحفظ بدون أن يخلط بينها.. هناك كتب بهذا المجال منها :
البرهان في متشابه القرآن ... للكرماني .
فتح الرحمن ... للقاضي زكريا الأنصاري
ويوجد كتب اهتمت بالمتشابه بدون تعليل كثيرة منها : عنوان الرحمن في حفظ القرآن .. لأبي ذر القلموني .
تنبيه الحفاظ إلى متشابه الألفاظ ... محمد عبد العزيز .
متشابهات القرآن .... مصطفى الملائكة .
وكتب عديدة في هذه المواضيع ويوجد أيضاً منظومات شعرية كثيرة منها: منظومة متشابهات القرآن ... للدمياطي ..
وأجودها للسخاوي موجودة في المنتدى من أرادها فليطبعها ويأخذها ... تحتاج المتشابهات إلى ربط ، كل إنسان له عملية وطريقة خاصة به .. بالمعنى .. أو بالحروف مثلا :
( يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) ..(/8)
هنا حرف الزاي .. يزكيهم ، العزيز ..
أيضا ( فضلاً من ربهم ورضوانا ) وفي آية أخرى ( فضلاً من الله ورضواناً) الآية الأولى في المائدة والأخرى توجد في سورتي الحشر والفتح
نقول حرف الراء في كلمة ربهم يأتي في ترتيب الأحرف الأبجدية قبل اللام الموجودة في الآية الأخرى في كلمة الله ... يعني حسب الترتيب .. ستأتي الآية الأولى في سورة المائدة التي أيضا ترتيبها في القرآن قبل سورتي الفتح والحشر ...وهكذا ..
القاعدة الثالثة عشر :
ضرورة الارتباط بالشيخ المعلم
الذي يربطك عقلياً وتربوياً وعلمياُ ويعطيك أصول علم التجويد .. وتلتزم معه بطريقة معينة في الحفظ .. حتى لا يتشتت ذهنك من شيخ إلى آخر ومن طريقة إلى أخرى ...
القاعدة الرابعة عشر:
تركيز النظر أثناء الحفظ على الآيات لتنطبع على صفحات الذهن ، هناك فرق بين هذه القاعدة وبين قاعدة الحفظ البطيء الهادي
ما نقصد به من هذه القاعدة هو التركيز العميق ، اجعل عينيك تشبع من القرآن ....أولاً أجعلها كاميرا .. ثم بعد ذلك .. قرب الصورة أكثر لكي تدخلها في العمق ..
القاعدة الخامسة عشر:
اقتران الحفظ بالعمل ولزوم الطاعات وترك المعاصي .. وأضيف بيتاً من الشعر معروف تأكيدا على هذه القاعدة عندما قال الشافعي رحمه الله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ***** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نورٌ***** ونور الله لا يؤتى لعاصي
القاعدة السادسة عشر :
المراجعة :
الناس نوعان : إما حفاظ للقرآن كاملاً ، وإما حافظين لأجزاء محددة
الحفظ الجزئي يحتاج إلى قراءته دوماً .. بحيث لا يمر عليك الأسبوع إلا وقد مررت على كل حفظك ... خذ هذه قاعدة لك ..
وأما حفاظ القرآن الكريم كاملاً فلهم عدة أساليب في المراجعة منها :
التسديس : وهو أن تقسم القرآن الكريم كل يوم ستة أجزاء ,, أو التسبيع : له بيت شعر : بكرٌ عقودٌ يونسُ سبحانا **** الشعرا يقطين ق بانا
( حفظت هذا البيت من شيخ موريتاني )
يوم السبت : بكر وهي سورة (البقرة) ... إلى عقود وهي (المائدة)
يوم الأحد عقود وهي (المائدة) ... إلى ( يونس)
الاثنين (يونس) ..... إلى سبحانا وهي (الإسراء)
الثلاثاء (الإسراء) .... إلى (الشعراء )
الأربعاء (الشعراء) ... إلى يقطين وهي (الصافات)
الخميس من (الصافات) .... إلى (ق)
والجمعة من (ق) .... إلى آخر القرآن
نتمنى من الحفاظ والحافظات أن يتواصلوا ويتابعوا معاً مراجعة القرآن الكريم ... يتصل الحافظ بأخيه ويقول له اليوم الأربعاء .. المفروض أن نبدأ بالشعراء .. أين وصلت بالتلاوة ؟؟؟ وهكذا ... يجب علينا أن نتواصل حتى يذكر بعضنا بعضاً
من سورة البقرة ... إلى العقود 106 صفحة
من العقود إلى يونس 105 صفحة .. خمس أجزاء
ثم الباقي كله اقل من ذلك ...
القاعدة السابعة عشر:
الفهم الشامل يؤدي إلى الحفظ المتكامل وهو فهم معنى الآيات فهماً بحيث يؤدي إلى ترابط المعنى .
القاعدة الثامنة عشر :
قوة الدافع وصدق الرغبة في الحفظ .
القاعدة التاسعة عشر :
الالتجاء إلى الله بالدعاء وطلب العون منه .. عامل مهم لتسهيل حفظ القرآن فلا ننسى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لمعاذ : "والله إني لأحبك يا معاذ .. فلا تنسى إن تقول دبر كل صلاة ، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" .
التاءات الخمس :
هي ملخص الطريقة المثلى لحفظ القرآن الكريم ..
إذا كان عندك محاضرة أو درس في مراكز التحفيظ ، يمكنك أن تشرح لهم طريقة التاءات الخمس :
1) التهيئة النفسية : عليك أن تهيئ نفسك من الليل إذا أردت أن تحفظ القرآن الكريم وقبل أن تنام هيئ نفسك .. برمج نفسك وقل غداً أريد أن استيقظ الساعة الثالثة فجراً واحفظ كذا وكذا ..
- من التهيئة النفسية أن تختار المصحف المحبب لديك الأنيق المميز الذي ترتاح نفسك له ، وأنصح إخواني المؤمنين أن يهدوا بعضهم بعضا المصاحف المميزة وأن يكتبوا إهداء عليها ... وقد أهديت مصحفاً لأحد الأخوة فيقول لي ..كلما فتحت المصحف .. رأيت الإهداء فكان حافزاً لي أن استمر في الحفظ ... وقد حفظ القرآن الكريم كاملاًً .. ويقول لا يمكن أن أغيره أبدا
2) التسخين : أنت في الصباح حين تسخن السيارة قبل أن تذهب إلى عملك قد تحتاج إلى دقائق ليصل الزيت في مجاري الموتور بشكل جيد .. فنحن في دماغنا نحتاج إلى عملية تسخين من 6- 8 دقائق .. اقرأ شيئا من الحفظ الماضي .. أو على الحاضر كرره بصوت مرتفع هذا العمل يعطيك تشويقاً أكثر لتحفظه ...
تحضرني الآن قصة بهذا الخصوص : قصة الحكيم الهندي والكأس وكذلك قطعة الحلوى عندما تضعها في فم الطفل مباشرة دون تشويق .. شوّق دماغك على الحفظ .. راجع من الماضي 6 دقائق سخّن .. ثم سخّن .. كالعضلات .. مرّنها ثم ابدأ بالحفظ فإذا حفظت مباشرة قد يكون الدماغ غير مرتاح .. متعب...لا تحفظ وأنت متعب أبدا ...
3) التركيز : بعد التسخين وكما قلنا التركيز نوعان ..
أ - أفقي
ب – بؤري
4) التكرار وقد سبق ذكره
5 ) الترابط ..(/9)
نرجع إلى قصة الهندي الحكيم مع الكأس :
يروى أن شخصاً أراد أن يحصل على فائدة واحدة تفيده في حياته كلها .. فذكروا له حكيماً هندياً ينفعه بذلك .. فسافر من بلد إلى بلد .. ومن قرية إلى قرية يسال عنه .. إلى أن وصل إلى الحكيم .. دقّ باب بيته استقبلته عجوز قالت له تفضل .. دخل الرجل إلى غرفة الاستقبال .. وانتظر ساعة .. ساعتين .. ثلاثة . .. ما هذا ؟؟؟؟؟!!!! إلى العصر .. !! دخل الهندي وسلم عليه ببرود وجلس وسكت .. وسكت !!!! والضيف يفكر كيف يبدأ ،
والهندي ساكت ! ثم بدأ الرجل فقال : جئت من بلاد بعيدة لأحصل منك على حكمة تنفعني في الحياة .. قال الهندي طيب .. وسكت ... ثم سكت .. !!!! ثم قال الهندي : تشرب شاي ؟؟؟! قال الرجل على الفور نعم أشرب .. المسكين منذ ثلاث ساعات لم يضع في فمه شيء .. بعد قليل جاء الهندي بصينية فيها إبريق شاي وكأس وبدأ يصب في الكأس ويصبّ .. امتلأ الكأس والهندي يصبّ ويصبّ .. امتلأت الصينية .. والهندي يصب !!! فاض الشاي على المنضدة .. واستمر بالصبّ!! حتى نزل إلى الأرض .. فجأة قال الضيف .. بس ...... يكفي ايش هذا .. حكيم ولا مجنون ؟؟؟؟!!!! قال الهندي متسائل : يكفي ؟ .. قال الضيف نعم . وهنا قال الهندي ؟
انظر يا بنيّ .. إذا أردت أن تستفيد من هذه الحياة ينبغي أن تكون كأسك فارغة ، أرأيت الكأس كيف امتلأت وفاضت .. فأنا حين تأخرت عليك امتلأت كأسك .. ولم تستطيع أن تستقبل مني أي شيء .. فإذا أردت أن تستفد من أي شيء فرغ قلبك من الشواغل .. لتضع محله الفائدة .. فرغ قلبك من حقد النفس .. من الأفكار السلبية..
فإذا حضرت محاضرة .. وأنت فيها .. امتلأت نفسك بالمعلومات والأفكار التي أتتك منها .. ويجب أن تفرغ كأسك لتستوعب .. وإلا سيفيض الكلام إلى الأطراف كما فاض الشاي من الكأس .. فلا تستفيد منه .. وإذا أحس المحاضر أن الكؤوس بدأت تمتلئ .. فليتوقف عن إعطاء المعلومات .. وليحاول أن يفرغها بطريقة معينة .. نكتة مثلاً .. طرفة ..قصة .. تنفس عميق ..
قصة أم طه الأردنية مع حفظ القرآن الكريم وعمرها سبعون سنة
امرأة أردنية تعيش في مدينة الزرقاء وتعمل خياطة وهي أمية ولا تقرأ ولا تكتب كلمتني في الهاتف عن قصتها مع القرآن الكريم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب ..
وذات يوم طلبت من إحدى الفتيات اللواتي يترددن عليها أن تعلمها كيفية كتابة لفظ الجلالة قالت لي أريد أن أتعلم اسم ربي كيف يكتب وبالفعل تعلمت وأصبحت أتتبع لفظ الجلالة في القرآن من أوله إلى أخره وأعجبتني الفكرة وأحسست بمشاعر عالية جدا ..
فطلبت من الأخت أن تعلمني الحروف وتعلمت التهجي والتحقت بمركز لتحفيظ القرآن وبدأت أقرأ بالتهجي من المصحف واستمريت إلى أن ختمت القرآن كاملا ..
لم اصدق نفسي بعد كل هذا العمر أنني أصبحت قارئة ثم أقمت حفلة كبيرة لجميع الأخوات بمناسبة انتهائي من قراءة القرآن واهدوني كتابك كيف تحفظ القرآن وهذا الكتاب فجر عندي الرغبة في الحفظ حيث علمت منكم أن من لديه الهمة يمكن له أن يحفظ ولو كان فوق الأربعين .. فبدأت حفظ القرآن الكريم وأحسست بسعادة عجيبة جدا ..
وأنا الآن أحفظ 15 خمسة عشر جزءً وأخذت تدعو لي دعوات مباركات جزاها الله خيراً ووفقها كان هذا في صيف عام 2001 م ..
ودعوت الله لها وقلت بإذن الله ستكونين من الحفاظ .. فقالت : الله يسمع منك يا رب وقد وصلني خبر منذ مدة قريبة أن أم طه قد حفظت كامل القرآن الكريم والحمد لله ..
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ونسأل الله تعالى أن يرزق الجميع هذه الهمة العالية بالمناسبة لقد حكيت قصة أم طه في أكثر من دورة
فكان لها صدى كبير عن الأخوات وقالوا : ما دام أم طه وهي في السبعين من عمرها حفظت القرآن وحنا وش ورانا .(/10)
طرق المراجعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
نذكر في هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى- كيفيات وطرق المراجعة.
غير أنّنا قبل أن نذكر هذه الطرق نؤكد على أهمية المراجعة، بل قد يكون مراجعة المحفوظ أفضل من حفظ شيء جديد، وإتقان الموجود خير من تحصيل المفقود، وكما قيل: عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، والمراجعة للقرآن قد أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم – حيث قال: (تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)1.
كيفيات وطرق مقترحة للمراجعة:
أولاً: بالنسبة للطالب المطلوب منه المراجعة مع الحفظ في وقت واحد؛ إن كان حفظه ضعيفاً فيمكن للمدرس أن يكلفه بمراجعة وجه واحد يومياً، أما إن كان مستوى الحفظ لدى الطالب جيد فيمكن تكليفه بمراجعة ربع حزب وأكثر يومياً..
وفي حال كثرة الطلاب وضيق الوقت عن التمكن للاستماع لجميع الطلاب، فيمكن للمدرس أن يجعل قراءة الطالب للمراجعة عليه أحياناً وعلى أحد زملائه أحياناً أخرى.
ثانياً: من الممكن أن يجعل المدرس الأيام الثلاثة الأخيرة من كل شهر للمراجعة أو آخر يوم من الأسبوع الدراسي؛ وذلك لجميع الطلاب.
ثالثاً: إذا رأى المدرس أن مستوى طلابه في الحفظ سيء، فبإمكانه أن يخصص مرة أسبوع أو أسبوعين للمراجعة، وذلك حسب ما يراه كافياً.. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك بعد الانقطاع عن الدراسة كالإجازات والاختبارات..
بل إنه ينبغي للمدرس بعد كل فترة إجازة وانقطاع عن الدراسة أن يجري للطلبة اختبارات في المقدار المحفوظ، فمن كان حفظه جيداً: واصل الحفظ، ومن كان حفظه سيئاً: أوقف عن الحفظ وفرغ للمراجعة حتى يتقن المحفوظ سابقاً، مع محاولة إقناع الطالب بسبب ذلك؛ لئلا يسبب له ذلك إحباطاً..
رابعاً: على المدرس أن يكلف الطالب بمراجعة كل جزء أتم حفظه إن كان قديماً في الحلقة أو نصف جزء إن كان مبتدئاً فيها، سواء أكان ذلك على يد المدرس أم أحد الطلاب..
خامساً: مراجعة الطالب لما يحفظ من خلال إحدى الطرق الآتية:
أ - قراءة الطالب على نفسه وفق جدول خاص بالطالب، يقيده له المدرس شهرياً.. ويقترح أن يعد المدرس عدة استمارات للمراجعة تناسب عدة مستويات، يحدد فيها للطالب مقدار المراجعة اليومية، وأوقات إعادة نفس المقدار ثانية، كأن يراجع كل يوم ثمن جزء لمدة ثمانية أيام، وفي اليوم التاسع يعيد مراجعة الجزء كاملاً مرة واحدة، وإن احتاج مزيد تثبيت فبالإمكان مطالبته بإعادة قراءة الجزء كاملاً في اليوم العاشر، وهكذا، وهذا معين للطالب على التدرب على المحافظة على حزبه مع المراجعة مستقبلاً..
ب - الاستعانة بزميل للطالب، كأن يقرأ طالبان كل منهما على الآخر..
ت - قراءة الطالب على المدرس مباشرة.
سادساً: بالنسبة للطالب الذي أتم الحفظ وشرع في المراجعة فإنه ينبغي للمدرس أن يضع له برنامجاً خاصاً به يهدف إلى تحسين الأداء وإجادته، وتقوية الحفظ وإتقانه، ويمكن أن يكون من عناصره:
أ - قراءة نصف جزء فأكثر يومياً على المدرس أو أحد الزملاء المجيدين.
ب - تكليفه بالتسميع للطلبة عن ظهر قلب دون فتح المصحف إلا عند الحاجة..
سابعاً: يمكن للمدرس الاستفادة من المنزل في المراجعة، وذلك: عن طريق تكليف الطالب بالمراجعة على بعض ذويه أو على نفسه إن لم يوجد شخص مناسب لذلك.
هذه بعض الطرق والكيفيات لمراجعة القرآن الكريم..
والحمد لله رب العالمين،،،
المرجع: نحو أداء متميز لحلقات تحفيظ القرآن الكريم بتصرف
-------------
1 -رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا برقم (1317).(/1)
طريق المسلمة إلى السعادة
عبدالعزيز المقبل
دار الوطن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أختي المسلمة:
من أهم ما يتميز به المسلم والمسلمة اللذان تعلق قلباهما بالله وطبقا في حياتهما شرعه، وامتثلا أمره، تلك الراحة النفسية والاطمئنان القلبي، فلا تراهما إلا مبتسمين حتى في أحلك الظروف وأقسى الحالات، فهما يدركان أن ما أصابهما لم يكن ليخطئهما، وأن ما أخطأهما لم يكن ليصيبهما، فلا يتحسران لفوت محبوب،ولا يتجهمان لحلول مكروه، فربما كان وراء المحبوب مكروهاً، ووراء المكروه محبوباً [البقرة:216].
لا تغرهما زخارف الدنيا وإن كانا يتركان نصيبهما منها [القصص:77].
لمعرفتهما أن الدنيا يقصر عمرها وامتلائها بالغصص والنكد لا تستحق أن يغضب الإنسان من أجلها، ولا أن يتحسر لفوت شيء منها، فهي لا تساوي شيئاً مع الآخرة دار القرار، حيث النعيم الأبدي، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، للمؤمنين الصادقين.
أختي المسلمة:
لو صفت الدنيا من الأكدار، وخلت من المصائب – وذاك محال – فإن مجرد تذكر الموت يجعل حلوها مراً، وكثيرها قليلاً، وطويلها قصيراً، وصفوها كدراً، هذا لو ضمن الإنسان عمراً طويلاً، فكيف وهو إذا أصبح خشي ألا يمسي، وإذا أمسى خشي ألا يصبح، وإذا أنقشعت سحابة مصيبة أقبلت أخرى، يروعه فقد الأقربين، وموت الأصدقاء، وعندما يحس بألم عارض في عضو من أعضائه، أو يخيل إليه زيادة في خفقان قلبه، أو يحس بقلة شهية للطعام، يرتسم شبح الموت أمام ناظريه، فإذا هو يفزع ويخاف فيزداد مرضاً وتخيم عليه الوحشة، وكأن ذلك الخوف مانع من نزول الموت أو مبعد له.
يا لضعف الإنسان، ما أحقره وأقل شأنه. تراه شاباً مكتمل الحيوية والنضارة والنشاط، ممتلئ الجسم فلا يلبث العمر أن يطوح به إلى خريفه فإذا هو محدودب الظهر، متغضن الوجه، يتعبه أدنى جهد، ويهده أقل عمل.
وتراه غنياً يسكن القصر الشامخ، ويركب السيارة الفارهة، ويجلس على الفراش الوثير، ثم تنقلب به الأيام فإذا هو يسكن ما كان يأنف من سكناه، ويركب ما كان يزدري ركوبه، ويلبس ما كان يستخشن لبسه، ويأكل ما كان يعاف أكله.
إن لذة الحياة وجمالها، وقمة السعادة وكمالها، لا تكون إلا في طاعة الله التي لا تكلف الإنسان شيئاً سوى الاستقامة على أمر الله وسلوك طريقه، ليسير الإنسان في الحياة مطمئن الضمير، مرتاح البال، هادئ النفس، دائم البشر، طلق المحيا، يعفو عمن ظلمه، ويغفر زلة من أساء إليه، يرحم الصغير ويوقر الكبير. يحب قضاء حاجات الناس، ويكون في خدمتهم، ويتحمل أذاهم، ثم هو لا يفرط في صغير ولا كبير من أمر الله، بل يحرص على كل عمل يقربه إليه ويدنيه منه، فإذا نزلت به المصائب تلقاها بصبر ورضا، وإذا جاء الموت رأى فيه خلاصاً من نكد الدنيا، ورحلة إلى دار الخلود.
أختي المسلمة:
في هذه الصفحات مجموعة إرشادات، وثلة توجيهات عندما تطبقينها في واقع حياتك، وتحرصين على التشبث بها، وتندمين على فواتها، ستنقلب حياتك من شقاء إلى راحة، ومن تعاسة إلى سعادة، بل ستحسين للحياة طعماً آخر، وتنظرين لها نظرة أخرى، وقد دفع إلى كتابتها حب الخير وابتغاء الأجر والرغبة في الإصلاح، فإلى تلك الأزاهير وفقك الله.
الكلام
أختي المسلمة:
1. احذري الثرثرة وكثرة الكلام، قال تعالى: [النساء:114].
واعلمي أن هناك من يحصي كلامك ويعده عليك: [ق:17-18]. وليكن كلامك مختصراً وافياً بالغرض الذي من أجله تتحدثين.
2. اقرئي القرآن الكريم، واحرصي أن يكون لك ورد يومي منه، وحاولي أن تحفظي منه قدر ما تستطيعين، لتنالي الأجر العظيم يوم القيامة. عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي أن النبي : "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" } [متفق عليه].
5. إن لذكر الله تأثيراً عظيماً في حياة المسلم الروحية والنفسية والجسمية والاجتماعية، فاحرصي أختي المسلمة أن تذكري الله كل حين على أي حالة كنت، فقد مدح الله عباده المخلصين بقوله: [آل عمران:191].
وذكر عبدالله بن بسر حيث يقول: { وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والتشدقون والمتفيهقون } [صحيح الترمذي:1642].
7. ليكن لك أسوة برسول الله ؟ قال: نعم، فكان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه يذكرون الشعر وأشياء من أمورهم فيضحكون وربما تبسم } [المسند:5/86].
· وليكن حديثك – إن تحدثت – بخير وإلا فالصمت أولى بك ؛ قال رسول الله يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن : { المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم } [رواه مسلم].
10. إذا سمعت قراءة القرآن الكريم فاقطعي الحديث أياً كان موضوعه ؛ تأدباً مع كلام الله، وامتثالاً لأمره حيث يقول: [الأعراف:204].(/1)
11. اجتهدي على وزن الكلمة في نفسك قبل أن يقذفها لسانك، واحرصي أن تكون الكلمة صالحة طيبة في سبيل الخير، بعيدة عن الشر وما يوصل إلى سخط الله، فللكلمة مسئولية عظيمة، فكم من كلمة أدخلت صاحبها إلى الجنة، وكم من كلمة هوت بصاحبها في قعر جهنم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنة عن النبي صلى الله علية وسلم قال: { إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات،وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم } [رواه البخاري:6487].
وفي حديث معاذ رضي الله عنة عندما سئل النبي صلى الله علية وسلم: { و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال صلى الله علية وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم } [صحيح الترمذي:2110].
12. استعملي لسانك – وهو النعمة العظيمة من الله عليك – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، قال تعالى: [النساء:114].
التعلم
أختي المسلمة:
13. التعلم أمر محمود وسبيل كريمة،عن الشفاء بنت عبد الله قالت: { دخل علينا النبي صلى الله علية وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: "ألا تعلمين هذه – يعني حفصة – رقية النملة كما علمتيها الكتابة" } [رواه أحمد:6/372].
14. ليس المراد من التعلم نيل الشهادات وبلوغ الرتب والحصول على الوظيفة والعمل، بل معرفة أمور الدين، وإدراك أحكامة،وإجادة قراءة القرآن الكريم، حتى تعبد المرأة ربها على بصيرة،كما أن مقصودات، التعلم إدراك طرق التربية السليمة، كما تمثلها حياة الرسول صلى الله علية وسلم وحياة أصحابه وسلف هذه الأمة، لتعيش المرأة في سعادة وهناء.
15. ابتعدي كل الابتعاد عن الاستهزاء أو السخرية بغير المتعلمة من اخواتك، ومن الترفع على منهي دونك في التعلم، وليكن التواضع وخفض الجناح يزداد بارتقائك في سلم التعلم، وإلا فإن علمك وبال عليك، عن كعب بن مالك رضي الله عنة قال: { سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله النار" } [صحيح الترمذي:2138].
السمع
16. نزهي سمعك عن سماع الموسيقى والغناء والكلام الفاحش.
اللباس
17. أنت مسلمة فلابد أن يكون ثوبك داخلا تحت مواصفات الثوب الشرعي، فيكون فضفاضا لا يشف ولا يصف.
18. إن ما يسمى "نصف الكم وربع الكم" واتساع ما حول العنق "الدلعة" دعاية لتقليس الستر ؛ لأن المرأة أثناء ذهابها وإيابها وركوبها السيارة ونزولها ربما انكشف منها ذلك.
الاجتماعات
19. احذري – حفظك الله - من حضور مجالس السوء والاختلاط بأهلها،وسارعي - رعاك الله - إلى مجالس الفضيلة والخير.
20. إذا جلست مجلسا وحدك أو مع بعض أخواتك فليكن ذكر الله دائما على ألسنتكن حتى ترجعن بالخير وتحظين بالأجر.
قال رسول الله ولا يغتب بعضكم بعضا أي يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه عن النبي والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر : { إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً } [صحيح ابن ماجه:3117].
وإياك واستعجال الإجابة ؛ فقد قال رسول الله ، واختميه بذلك، وأقبلي على الله بصدق، قال رسول الله : { إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه } [رواه البخاري:6502].
36. إذا رأيت مسلمة متمسكة بدينها، مستجيبة لأمر ربها، معتزة بعقيدتها فأشعيرها بالحب واتخذيها خليلة، فللحب في الله منزلة عالية، قال رسول الله : { من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه } [متفق عليه].
39. لا يغرنك كثرة المخالفين لأمر الله والمهاونين بتطبيق شرعه، فسيأتي يوم يعض الظالم على يديه، ويفرح المؤمن بنجاته فرحاً كبيراً، وهو يرى أهوال القيامة فلا يملك إلا أن يقول وهو يمسك كتابه بيمينه [الحاقة:19-20].
40. ازرعي في قلبك الرحمة والعطف، فارحمي الصغير والكبير بل والدابة، قال رسول الله أن رسول الله قال: { عذبت امرأة في هرة، حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار } [البخاري:2365].
41. احذري دعاة السوء وأدعياء التقدم الذين يجلبون بخيلهم ورجلهم على إفساد المرأة المسلمة، وإخراجها من الصون والعفاف إلأى العري والإسفاف، مستخدمين مختلف الوسائل وشتى الطرق، وحذري أخواتك من الوقوع في براثنهم والانخداع بمقولاتهم.
42. كوني معتزة بدينك متعالية بعقيدتك [آل عمران:139]، وإياك والاستحياء من إظهار شعائر دينك والاستخفاء بها.(/2)
43. غذي ثقافتك الإسلامية باستماع المحاضرات الإسلامية والندوات المفيدة، ولو عن طريق الشريط، واحرصي على الاطلاع على المجلات الإسلامية النافعة.
44. ساعدي على نشر الخير والفضيله، والخلق الجميل، والعلم النافع في بيتك ومدرستك ولدى أقاربك وبين صديقاتك.
45. احرصي على مساعدة أمك في أعمال البيت، فإن في ذلك براً بها ورداً لبعض معروفها. كما أن فيه تدريباً لك حتى تكوني - بإذن الله - ناجحة في حياتك المستقبلية.
وإياك والإخلاد إلى الراحة والكسل باسم التفرغ للدراسة والذاكرة وأداء الواجبات المدرسية.
46. كوني مبتسمة دائماً، فإن هذا لا يكلفك شيئاً، وهو في الوقت نفسه يعود عليك بحب الآخرين كما تحظين بالأجر. قال رسول الله { أن رجلاً قال للنبي : { إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ } [رواه أحمد:4/226].
والغضوب لن يجد من يصبر عليه من الناس، فتزيني بالحلم وتحملي أخطاء الناس وهفواتهم.
48. احذري من تقليد الكفار في عاداتهم وتقاليدهم وطرائقهم في الأكل والشرب واللباس وغير ذلك، قال رسول الله فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" [الماعون:4-5]، أي يؤخرونها حتى يفوت وقتها.
50. للصيام منزلة عالية وأجر عظيم، كما أن له دوراً كبيراً في تطهير النفس وتهذيب الوجدان، فحبذا لو عودت نفسك على صيام التطوع كستة أيام من شوال، وثلاثة أيام من كل شهر.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=140 ...(/3)
طفلك والقرآن بعد رمضان ...
موقع لها أون لاين 29/11/2003 ...
أ . عطاف عيد محمد المنسي*
ها قد ودعنا رمضان فلا تكوني ممن يودع القرآن مع رمضان ، ولا تدعي من حولك يفعلون ذلك بل اجعلي من رمضان شحنة إيمانية تبنين عليها ، فمعايشة القرآن في رمضان يمكن أن تصلح أساسا لرفقة القرآن طوال العام لك ولأسرتك ولا تنسي الصغار منهم ؛ فقد كان من عادات المسلمين أن يبدؤوا بتعليم الصغير القرآن قبل كل شيء . سئلت أعرابية مسلمة عن ابن لها كان عجيب المنظر, حسن الهيئة, فقالت : " إذا أتم خمس سنوات أسلمته إلى المؤدب فحفظ القرآن فتلاه , فعلمه الشعر فرواه , ورغب في مفاخرة قومه , وطلب مآثر آبائه وأجداده , فلما بلغ الحلم حملته على أعناق الخيل فتمرس وتفرس ولبس السلاح " .
واستدل العلماء على استحباب تعليم الصغار القرآن الكريم بما يلي :
· النصوص العامة في فضل تعلم القرآن وحفظه ومنها : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} . وقوله صلى الله عليه وسلم :{ يجيء القرآن يوم القيامة فيقول : يارب حَلِّهِ , فيلبس تاج الكرامة , ثم يقول : يارب زده , فيلبس حلة الكرامة , ثم يقول : يارب ارض عنه , فيرضى عنه , فيقال له : اقرأ وارق , وتزاد بكل آية حسنة}.
· ما جاء من الأجر العظيم في تحفيظ الأولاد القرآن ومنه : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:{من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والده يوم القيامة تاجًا ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا وكانت فيه فما ظنكم بالذي عمل به}. وفي رواية أخرى: { من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس يوم القيامة تاجًا من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ويُكْسَى والداه حلتان لا يقوم بهما الدنيا فيقولان بما كسينا فيقال بأخذ ولدكما القرآن}.
وورد في الأثر : " كان يقال إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم, ويعني بالحكمة القرآن ".
· ما ورد عن بعض الصحابة في حفظهم القرآن الكريم في سن الصغر : عن ابن عباس رضي الله عنه قال:" توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم ", وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه حفظ القرآن وهو صغير.
قال ابن حجر:" وإنما يعلم الصغير القرآن وهو صغير؛ لأنه أدعى لثبوته ورسوخه عنده, كما يقال " التعلم في الصغر كالنقش على الحجر ".
· ماورد عن بعض العلماء من اجتهادهم في حفظ القرآن وطلب العلم في الصغر:
قال الشافعي حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين , وحفظت " الموطأ" وأنا ابن عشر . وقال لقمان الحكيم لابنه : " يابني ابتغ العلم صغيرًا فإن ابتغاء العلم يشق على الكبير ". وقال ابن الجوزي : " فإني أذكر نفسي ولي همة عالية , وأنا في المكتب ابن ست سنين , وأنا قرين الصبيان الكبار , وقد رزقت عقلاً وافرًا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ , فما أذكر أني لعبت في طريق الصبيان ولا ضحكت ضحكًا فارحًا, حتى أني كنت ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع فلا أتخير حلقة مشعبذ , بل أطلب المحدِّث , فيتحدث بالسير فأحفظ جميع ما أسمعه فأذهب إلى البيت فأكتبه ".
وقيل أن الأوزاعي كان يسأل الغلام الذي يأتيه يتعلم منه: يا غلام قرأت القرآن؟ فإن قال نعم , قال : اقرأ " يوصيكم الله في أولادكم ", وإن قال لا, قال : ( اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم ) لأن من تعلم القرآن واتبع ما فيه هداه من الضلالة , ووقاه يوم القيامة سوء الحساب .
· من فوائد تعلم الصغار للقرآن الكريم :
· أنه يربط قلب الصغير بالقرآن ويحببه فيه " إذا ارتبط قلب الولد بالقرآن وفتح عينيه على آياته فإنه لن يعرف مبدأ يعتقده سوى مبادئ القرآن الكريم ولا يعرف تشريعًا يستقي منه سوى تشريع القرآن ولا يعرف بلسمًا لروحه وشفاء لنفسه سوى التخشع بآيات القرآن , فعندئذ يصل الأب إلى غايته المرجوة في تكوين ولده الروحي وإعداده إيمانيًا وخلقيًا ".
· أنه يتربى على معاني القرآن الحقيقية , وليس فقط تجويده وإقامة حروفه .
· " التربية بالقرآن غايتها القريبة إتقان تلاوته , وحسن فهمه , وتطبيق تعاليمه , وهذا فيه كل العبودية والطاعة لله , والاهتداء بكلامه , والخوف منه , وتنفيذ أوامره والخشوع له أي أن دروس القرآن لو حققت غاياتها لكانت من أفضل الوسائل لتحقيق الهدف الأسمى للتربية الإسلامية , والأثر التربوي لجميع أسس التربية الدينية "
· أن القرآن في الصغر , يصقل مواهب الصغير وينميها , ويزيد من مهاراته وقدراته . وقد أظهرت نتائج الدراسات , أن تلاوة القرآن الكريم وحفظه ودراسته أسهمت في تنمية مهارات القراءة والكتابة لدى تلاميذ الصف السادس الابتدائي , مما مكن التلاميذ في مدارس تحفيظ القرآن الكريم من الحصول على درجات أعلى من متوسط أقرانهم في مدارس التعليم العام, وأظهرت دراسات أخرى تفوق طالبات تحفيظ القرآن الكريم على طالبات المدارس العادية في مهارتي القراءة والإملاء.(/1)
ولابد من مراعاة النقاط التالية مجتمعة , دون إخلال ببعضها حين تعليم الصغير القرآن الكريم :
· أن يربي لسان الناشئ ويقومه بحسن التجويد وعدم اللحن .
· أن يربي قلب الناشئ بالخشوع عندما يمر بآية تستوجب الخشوع أو الحنين إلى الجنة أو الشعور بمحبة الله .
· أن يربي سلوك الناشئ بأخذ العهد عليه وتعهده ليعمل بتعاليم القرآن الكريم .
· أن يربي عقل الناشئ بالاستدلال على ما استدل عليه القرآن في مخلوقات الله ويتأمل ما يدل على عظمة الله.
إن إهمال تعليم الأطفال العلوم الشرعية والقرآن وآدابه منذ الصغر ,سبب من أسباب العقوق في الكبر, "ومن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة, وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم , وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه, فأضاعوهم صغارًا, فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا".
· حكم مس المصحف للصغير
الصحيح أنه لا يمنع الصغير من حمل ومس المصحف؛ لأنه يحتاج إلى الدراسة فيه, ولا يلزم بالوضوء إذا مسه , لأن استصحاب الطهارة للصغار أثناء تعلمهم القرآن أمر تعظم فيه المشقة , وقد يؤدي بهم إلى ترك الحفظ . غير أنه ينبغي مراعاة ما يلي :
· تعويد الصغير توقير وإجلال المصحف؛ لأنه كلام الله تعالى, ولا يعبث به, ولا يستهين بشأنه .
· تعويده حسن الاستماع إلى تلاوته من المذياع أو من أحد أفراد الأسرة
· السبل المثلى لتدريس القرآن للصغار
من خلال عملي وتجاربي في مجال الأطفال تبين لي أنه يجب أن يكون المسؤول عن متابعة الطفل في الحفظ لمّاحا فيركز على الطريقة التي تناسب طفله فيستخدم التشجيع تارة ، والحزم تارة أخرى ، وأحيانا يتركه ليلهو عن الحفظ إذا كان محتاجا إليه حتى لا يسأم أو يمل من الحفظ .
ويمكن إتباع الآتي :
· استخدام الطريقة غير المباشرة في تحفيظ الصغير وذلك مثل استخدام جهاز التسجيل مع شريط القرآن ويوضع في البيت في غرفة نوم الطفل أو غرفة ألعابه ليسمع الطفل الآيات دائما وهو يلهو بأشياء أخرى . وقد جربت بعض الأمهات استخدام جهاز الكمبيوتر مع الأقراص المضغوطة للقرآن فيسمع الطفل الآيات مع تكريرها حسب ما يختار من خيارات ثم يختار ما يشاء من ألعاب الكمبيوتر وقد جاءت هذه الطريقة بنتائج ممتازة جدا مع الحفظ المتقن .
· نحتاج بعد استخدام الطريقة السابقة شيء من التأكيد على الحفظ بالترديد مع الطفل حتى نتأكد من حفظه .
· نحتاج إلى التشجيع المستمر فكل نتيجة مهما كانت صغيرة لابد أن نبالغ في دعم الثقة لدى الطفل .
· على الأم أو المربية أن تختار طريقة التشجيع التي يحبها الطفل ؛ يمكن أن تستخدم : الكلمات الحسنة / الهدايا / مع ملاحظة أن ألا تكون الهدية غالية وكبيرة الحجم ، فقطعة من الحلوى أو مبلغ زهيد من المال قد يكفي حسب ما تراه الأم . ويجب أن يستخدم كل ذلك بطريقة مجدية وفعالة وإلا انقلب ضررا على الطفل إذا كان هناك إفراط أو مبالغة .
· يجب أن نلغي تماما الضرب أو التهديد أو الإيذاء النفسي أو الكلام السيئ لأنه يأتي بنتائج سلبية .
· تجربة مضيئة
كانت عندنا في وحدة البراعم بالجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة تجربة في العام الماضي والحمد لله نجحت بشكل كبير وهي تحفيظ الأطفال ما بين 6:5 سنوات ثلاثة أجزاء من القرآن مع تدريس ( القراءة والكتابة ) بطريقة القاعدة النورانية خلال عام دراسي وقد نجحنا للأسباب التالية :
أولا : الاستعانة بالله
ثانيا : إصرارنا على الوصول إلى نتيجة فكانت توضع الكثير من الإمكانيات لهذا الفصل مثل :
· تقليل عدد الأطفال ( 10أطفال ) لدقة المتابعة .
· دعم المعلمة وتشجيعها ومتابعتها
· توفير هدايا وألعاب للأطفال
· مساعدة أهالي الأطفال للمعلمة وللمدرسة وتفاهمهم بشكل كبير .
وقد نشأت لجنة البراعم عام 1419هـ لتربية النشء على أسس مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .. وتهدف اللجنة إلى تحديد مناهج القرآن الكريم والأحاديث النبوية والأدعية التي تناسب أعمار الأطفال لتضع أقدامهم على صراط الله المستقيم منذ الصغر ، لذا أعدت للأطفال الكتب الشيقة والمناسبة لتحقيق الأهداف بأسلوب علمي تربوي وبألوان جذابة يحبها الطفل .
------------------------
* عضوة في المجلس الاستشاري لجمعية تحفيظ القرآن الكريم / بجدة
رئيسة لجنة براعم القرآن في جمعية تحفيظ القرآن الكريم / جدة
مديرة مدرسة دار التوفيق لتحفيظ القرآن الكريم بجدة .
دبلوم الماجستير في الدعوة والإعلام
ماجستير في الشريعة تخصص في الفقه المقارن
إجازة في القرآن الكريم عن طريق الشاطبية ...(/2)
طيب الكسب
26
الزهد والورع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
أهمية كسب الرزق الحلال وطلب العيش الطيب وفضله , والأمر به – ارتباط نزاهة اليد واللسان والقلب بالإيمان – التحذير من الكسب الخبيث وأثره على الفرد والمجتمع - أهمية الورع وترك المشتبه وحال السلف في ذلك
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه في أنفسكم وأهليكم، اتقوه في أعمالكم وأموالكم، اتقوه فيما تأكلون وما تدخرون: ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأرْضِ حَلَالاً طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:168].
عباد الله، كسب الرزق وطلب العيش شيء مأمور به شرعاً، مندفعة إليه النفوس طبعاً، فالله قد جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً. أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه. وقَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله، يَضْرِبُونَ فِى الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]. وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ((ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري[1]، ولقد قال بعض السلف: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة. وفي أخبار عيسى عليه السلام أنه رأى رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد. قال: ومن يعولك؟ قال: أخي. قال: وأين أخوك؟ قال: في مزرعة. قال: أخوك أعبد لله منك.
وعندنا – أهلَ الإسلام -: ليست العبادة أن تَصُفَّ قدميك، وغيرك يسعى في قوتك؛ ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد.
والاستغناء عن الناس ـ أيها الإخوة ـ بالكسب الحلال شرفٌ عالٍ وعزٌّ منيفٌ. حتى قال الخليفة المحدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي؛ أبيع وأشتري. ومن مأثور حكم لقمان: يا بنيَّ، استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحدٌ قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقةٌ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته.
إن في طيب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز.
ومن المعلوم ـ أيها الأحبة ـ أن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين؛ فقال عزَّ من قائل: ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً [المؤمنون:51] وقال عزَّ شأنه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
ومن أعظم ثمار الإيمان طيب القلب، ونزاهة اليد، وسلامة اللسان. والطيبون للطيبات، والطيبات للطيبين. ومن أسمى غايات رسالة محمد أنه يُحلُّ الطيبات، ويحرم الخبائث.
وفي القيامة يكون حسن العاقبة للطيبين الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي : ((من أكل طيباً وعمل في سنَّة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة))[2]. وأخرج أحمد وغيره بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفةٌ في طعمة))[3].
إن طلب الحلال وتحريه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. إن حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب، والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً وينفق في حلال. انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام: أتدري ما هو؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة: ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت. فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه[4]، وفي رواية أنه قال: ((لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها. اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالطه الأمعاء)). وشرب عمر لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. وتوصي بعض الصالحات زوجها وتقول: يا هذا اتق الله في رزقنا فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.
أولئك هم الصالحون يُخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم، وقد دخل عليهم من غير علمهم. وخَلَفَت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملأوا به بطونهم وبطون أهليهم.(/1)
أيها المسلمون، أرأيتم الرجل الذي ذكره النبي : ((يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء؛ يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك))[5]. لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، وتربت يداه، واشْعَثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول. أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبت لحمه من حرام، فردَّت يداه خائبتين.
بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟! لمثل هذا قال بعض السلف: لو قُمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.
وإن العجب كل العجب ـ أيها الأخوة ـ ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض ولا يحتمي من الحرام مخافة النار.
عباد الله، إن أكل الحرام يُعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويُظلم الفكر، ويُقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
إن للمكاسب المحرمة آثاراً سيئة على الفرد والجماعة؛ تُنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث. أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.
أيها المسلمون، ويل للذين يتغذون بالحرام، ويُربون أولادهم وأهليهم على الحرام، إنهم كشارب ماء البحر كلَّما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشاً، شاربون شرب الهيم، لا يقنعون بقليل، ولا يغنيهم كثير. يستمرئون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة؛ رباً وقمارٌ، وغصبٌ وسرقةٌ، تطفيفٌ في الكيل والوزن والذرع، كتمٌ للعيوب، سحرٌ وتنجيمٌ وشعوذة، أكلٌ لأموال اليتامى والقاصرين، أيمان فاجرة، لهو وملاه، مكرٌ وخديعة، زور وخيانة، مسالك معوجة، وطرق مظلمة، في الحديث الصحيح عند البخاري والنسائي: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام))[6]. زاد رزين: ((فإن ذلك لا تجاب لهم دعوة))[7].
أيها العمال والموظفون، أيها التجار والصناع، أيها السماسرة والمقاولون أيها المسلمون والمسلمات، حقٌ عليكم تحري الحلال والبعد عن المشتبه، احفظوا حقوق الناس، أنجزوا أعمالهم، أوفوا بالعقود والعهود، اجتنبوا الغش والتدليس، والمماطلة والتأخير، اتقوا الله جميعاً، فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصلح به الأحوال، وتصحُّ به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، ونسألك اللهم الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، وبارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، استجب اللهم يا ربنا دعاءنا.
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب البيوع – باب كسب الرجل وعمله بيده، حديث (2072).
[2] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة – باب حدثنا هنّاد... حديث (2520)، وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث إسرائيل... وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث إسرائيل، ولم يعرف اسم أبي بشر. اهـ. قلت: أبو بشر هذا قال فيه الحافظ في التقريب: مجهول. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (3520)، والحاكم (4/104)، قال ابن الجوزي: قال أحمد: ما سمعتُ بأنكر من هذا الحديث. فيض القدير (6/86)، وضعّفه السيوطي، الجامع الصغير (8522).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/177)، والحاكم (4/314) وسكت عنه، والبيهقي في شعب الإيمان (4801)، قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن (2/345)، وكذا قال الهيثمي في المجمع (10/295)، والحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف إلا أن رواية عنه هو عبد الله بن وهب وروايته عنه صحيحه كما ذكر الحافظ في التقريب. ورمز له السيوطي بالحسن في صحيح الجامع (912)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (733).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – أيام الجاهلية، حديث (3842).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة من الكسب الطيب... حديث (1015).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب من لم يبال من حيث كسب المال، حديث (2059).
[7] ذكر هذه الزيادة المنذري في الترغيب ()2/347) وسكت عنها.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أحلَّ لنا الطيبات، وحرَّم علينا الخبائث، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأوفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(/2)
أيها الإخوة المسلمون، خير سبيل للبعد عن المحرم ترك المشتبه، وسلوك مسالك الورع عند التردد، وفي الحديث: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس))[1]. رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب، ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) جزء من حديث رواه البخاري، ومسلم واللفظ له من حديث النعمان بن بشير[2]. ولقد قال الحسن البصري رحمه الله: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي العبد ربه؛ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً؛ حجاباً بينه وبين الحرام. ولتعلموا رحمكم الله أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها القلق والاضطراب الموجب للشك، والورِع هو الوقَّاف عند المشتبهات يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وأطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، واتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، اتقوا ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
[1] ضعيف، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة... باب ما جاء في صفة أواني الحوض، حديث (2451)، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب الزهد – باب الورع والتقوى، حديث (4215). وفي إسناده عبد الله يزيد الدمشقي، وهو ضعيف كما في التقريب.
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الإيمان – باب فضل من استبرأ لدينه، حديث (52)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة – باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث (1599).(/3)
طيب المساجد وزينة الصلاة
سلمان بن يحيى المالكي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن المساجد أماكن يشع فيها نور النبوة، ويلتئم فيها صف الأمة، منزهة عن كل لغو ودنس، ومحفوظة من كل ضرر ملكها بين المسلمين مشاع، وحقها عليهم المحبة والإكرام، وعمارتها بصالح الأعمال { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه } والمساجد من أحب البلاد إلى الله وأشرفها منزلة، من أحبَّها لأجل الله كان حبه لها دين وعبادة، وربح وزيادة، ومن تعلق قلبه بها أظله الله تحت عرشه يوم القيامة، صيانتها عن الأدناس قربة، وتنظيفها طاعة، وتطييبها عبادة، رأى الرسول نخامة في جدار المسجد فتغير وجهه، منكراً ذلك الفعل وآمراً بإزالته، ومن عظيم فضل العناية بالمسجد أن الجارية السوداء دخلت الجنة بسبب كنسها له..
أحبتي الكرام.. إن واقع كثير من المساجد اليوم تشكو حالها، وتبكي مآلها، لقلة وعي أكثر أهلها بأحكامها وآدابها، فهذا يرتادها بلباس نومه، وذاك بثوب حرفته، وآخر ببنطال، ورابع بكريه رائحته، وخامس بسوء فعله، كل هذا يدل على عدم الإحترام والتقدير للمسجد وللمصلين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من أكل الثوم والبصل فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) ( رواه البخاري ومسلم. ) فأربأ بنفسك أخي الكريم عن أذية إخوانك المصلين وملائكة الله المقربين.
إن حسن المظهر وجميل الملبس، وطيب الرائحة مطالب إسلامية رغبّ الشارع فيها عند أداء الصلاة وعند حضور الجمع والجماعات { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فجدير بالمؤمن أن يصرف شيئاً من زينته لله سبحانه وتعالى وذلك عند الوقوف بين يديه فيأتي إلى عبادة ربه على أحسن حال، وقدوتنا في ذلك نبينا محمد بن عبد الله حيث كان يلبس أحسن لباس ويتعطر بأزكى رائحة، بل كان عبق طيبه يفوح في طريقه، وقد أخذ بهذا المبدء خير القرون من بعده فنهجوا نهجه، وسلكوا هديه، فعظموا الدين فأعلى الله شأنهم وأبقى ذكرهم، فلنا مع أولئك الرجال الأفذاذ وقفات لمعرفة واقع المساجد في نفوسهم ومكانة الصلاة في قلوبهم لنقيس حالنا بحالهم، ونلتزم نهجهم ونحذر مخالفتهم، وإليكم هذه الوقفات لكم أحبتي يا أهل القلوب الحية، والنفوس الزكية، والأذان الصاغية، للإحتذاء والإقتداء والإهتداء، والله المستعان وعليه التكلان.
الوقفة الأولى: منزلة الطيب عند رسول الله:
الطيب من كل شيء هو مختار الله سبحانه وتعالى، لهذا فطر الناس عليه، وجمع أطيب الأشياء لنبيه فله من الأخلاق والأعمال أطيبها وأزكاها، ومن المطاعم أطيبها وأزكاها، ومن الروائح أطيبها وأزكاها، لذا كان من أخلاقه التطيب، يحبه ويكثر منه، بل هو إحدى محبوباته الدنيوية ففي الحديث " حُبب إلي من الدنيا، النساء والطيب، وجُعلت قُرة عيني في الصلاة " ( رواه أحمد وصححه الألباني ) ومن خصائصه طيب الرائحة فجسمه يفوح طيباً، فعن أنس بن مالك قال: (ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح الرسول) ( رواه مسلم ) بل إذا وضع يده على رأس الصبي عَرف أهله أنه قد مسّ ابنهم لطيب رائحة الصبي، ومع هذه الرائحة العطرة، فقد كان الرسول يكثر ويبالغ في استعمال الطيب حتى أنه ليوجد لمعان المسك في مفرق رأسه، ولربما استمر الطيب في رأسه أياماً لكثرته، وكان يُعرف بطيب رائحته إذا أقبل أو أدبر، فمن كانت هذه صفته فهو أبعد الناس عن الرائحة الكريهة، بل إنه ترك كثيراً من المباحات كالثوم والبصل والكراث ونحوها لرائحتها الكريهة، فهو طيب لا يقبل إلا الطيب، فهذه صورة مشرقة، وأدب رفيع، وحقيقة ثابتة نسوقها إلى كل مسلم ليرتفع في سلوكه وأدبه إلى مصافّ النفوس السليمة، مجانباً كل خلق قد يؤدي إلى أذية المسلمين عامة والمصلين خاصة.
الوقفة الثانية: طيب المساجد:(/1)
أخي المصلي.. اعلم أنه كلما شرف المكان وطاب كلما كان أولى أن يُشرف ويحترم، ولما كان الطيب والبخور من علامات الإكرام والتشريف كان حريّا أن نجدها في أماكن العبادة فهي أولى بالشذا، وأحرى بالندى، كيف لا..؟ والمسلم مأمور بأن يأخذ زينته عند كل مسجد { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فالمساجد أماكن عامة، تؤدى فيها أعظم عبادة، فهي بحاجة إلى كل عناية ورعاية، لتؤدي النفس عبادتها وهي مقبلة بخشوع وطمأنينة، أرأيت آكل الثوم والبصل لما آذى المصلين برائحته أمره الشارع بالخروج من المسجد تعزيراً له، إذاً; طلب الرائحة الطيبة للمسجد مطلب رفيع، وغاية مقصودة في دين الإسلام، فعن عائشة رضي الله عنها قالت " أمر رسول ببناء المساجد في الدور ( والدور: هي الأحياء. ) وأن تنظف وتطيب " ( رواه الخمسة إلا النسائي ورجاله ثقات وعند ابن ماجة " واتخذِوا على أبوابها المطاهر وجمّروها في الجُمع " ( والمطاهر هي محال الوضوء، والتجمير: هو التبخر لها ).
وتطييب المساجد عام لكل أحد من إمام ومؤذن وغيرهما، وإن أُوكل الأمر لأحد كان أفضل وأكمل، والتطيب يكون بعود البخور أو الندى وغيرهما مما هو مستحسن عُرفاً، وسواء كان مما يُتبخر به أو يُرش رشاً أو غيرهما، فالمقصود هو جلب الرائحة الزكية للمسجد، وهذه الخصلة غابت عن الكثير من المصلين، مع أنها قربة وعبادة وطاعة وامتثال، ويتأكد تطييب المساجد يوم الجمعة لما سبق، ولأن عمر كان يطيب مسجد الرسول كل جمعة قبل الصلاة، كما أن عبد الله بن الزبير كان يبخر الكعبة في كل يوم ويضاعف الطيب يوم الجمعة، وسار على هذه السنة السلف والخلف حتى أن معاوية أجرى وظيفة الطيب للكعبة عند كل صلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها " لأن أُطيّب الكعبة أحب إليّ من أن أُهدي لها ذهباً وفضة " وليعلم الجميع أن جلب الرائحة الزكية للمسجد تزيل كثيراً مما قد يعتريه من روائح، وتجلب السرور للمصلين، لأن من فوائد الطيب أنه يفرح القلب، ويغذي الروح، وكم هو جميل أن يتفق اثنان أو ثلاثة لتطيب المسجد كل أسبوع مثلا أو يوم الجمعة، فهكذا كانت المساجد الإسلامية محل عناية ورعاية وتطهير وتطييب، حتى اختلت الموازين وانقلبت المفاهيم في هذا الزمن عند كثير من الناس إلا ما رحم ربي فنتج عنه قلة الوعي بأحكام المساجد عند كثير من المصلين.
الوقفة الثالثة: حكم وضع مباخر العود في قبلة الصلاة:
قد يعتري بعض المصلين الحرج عند وضع مباخر العود في قبلة المصلين بحجة وضع الجمر فيها وذلك أثناء تطييب المسجد، وقد أجاب على هذا الإشكال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله فقال " لا حرج في ذلك، ولا يدخل هذا فيما ذكره بعض الفقهاء، في كراهة استقبال النار فإن الذين قالوا بكراهية استقبال النار علّلوا هذا بأنه يشبه المجوس في عبادتهم للنيران، فالمجوس لا يعبدون النار على هذا الوجه، وعلى هذا فلا حرج من وضع حامل البخور أمام المصلين ولا من وضع الدفايات الكهربائية أمام المصلين أيضاً، لا سيما إذا كانت أمام المأمومين وحدهم دون الإمام.
الوقفة الرابعة: صور من تطيب السلف للصلاة وعند ارتياد المساجد:
إن سلفنا الصالح قد استنار بسيرة المصطفى فسار على دربه، واهتدى بهديه، فمن ذلك خصلة الطيب والتطيب حتى أن بعضهم صار يُعرف بالرائحة الزكية في ذهابه وإيابه لتزينه بأطيب الطيب وحينما يقصد الصلاة والمسجد، وإليكم شيئاً من حالهم في هذا الأدب الرفيع لمن أراد أن يرتقي إلى مصافهم، لإيقاظ الهمم ودفع العزائم نحو ذلك فمن حالهم، ما كان من سلمة أنه إذا توضأ أخذ المسك فمسح به وجهه ويديه، وكان عبد الله بن مسعود يُعرف بريح الطيب، وكان يعجبه إذا قام إلى الصلاة الريح الطيبة، والثياب النقية، أما عبد الله بن عباس فقد كان إذا خرج إلى المسجد عَرف أهل الطريق أنه مر من هنا، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه " يتطيب للجمعة والعيدين، وكان يأمر بثيابه أن تجمّر كل جمعة، وعُرف عثمان بن عروة بن الزبير بكثرة وضع الغالية، وكان حين يقوم من مصلاه يأتي الناسُ إلى مكانه ويسْلُتون الغالية من على الحصباء مما أصابها من لحيته، قال عثمان بن عبيد الله: رأيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا قتادة وأبا أسيد الساعدي يمرون علينا ونحن في الكُتّاب فنجد منهم ريح العبير وهو الخلوق ( مصنف بن أبي شيبة (2/305) والآداب الكبرى (3/529) وموطأ مالك ) هكذا كانت مكانة الصلاة والمساجد عند سلفنا الأفذاذ لمعرفتهم حق المعرفة عظم تلك العبادة ولمعرفتهم أيضاً بين يدي من سيقفون فرحمهم الله رحمة واسعة.
الوقفة الخامسة: الصلاة وزينة اللباس:(/2)
لما كانت الصلاة عبادة ربانية، وصلةً بين العبد وربه، يلتقي فيها العبد مع معبوده، والحبيب مع محبوبه، ولما كان من تعظيم الله سبحانه وتعالى تعظيم الصلاة، تأكّدَ التزينُ لها بالملبس والتطيب وغيرهما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وعلى هذا الطريق سار صالح الأمة صغارُهم وكبارُهم فلا ترى في سيرهم إلا كل حسن وجميل، وقد استمر هذا الأمر حتى خفت بعض العقول، وتأثرت بعض النفوس بقبيح المنقول مما قد يُشاهد ويسمع، فغلب الجهل وقلّ الفهم، ونُسي البعض حقيقةَ الأمر فتجد من الصغار من تأثر بالكبار فجاء إلى المسجد على أسوء حال في هيئته ورائحته متأثراً بمن حوله كأبيه وأخيه في عدم الإهتمام بشأن الصلاة والمصلين، فإلى هؤلاء الفئة نسوق جانباً من آداب صالحِ الأمة وفْق هدي المصطفى معتبرين بحالهم حتى يعلو شأنُ المسجد في النفوس، ويعظم أمر الصلاة في القلوب وترتقي جماعة المصلين إلى معالي الأمور فمن ذلك:
أولاً: أن التجمل من محبوبات الله سبحانه وتعالى، فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول: (إن الله جميل يحب الجمال ) ( رواه مسلم ) وآكد الجمال ما كان عند مناجاة الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: التبذل ورثاثة الملبس ليست من الإسلام، فقد رأى الرسول رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: (أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه ؟) ( رواه أبو داوود وصححه الألباني ) لأن وسخ الثوب وكريه الرائحة ينفر الناس عنه، فمن كان على هذه الحال فقد آذى المصلين ونفّرهم عنه، فهل يعي أصحاب المهن، وأهل الثياب الرثة هذا الأدب الرفيع ؟
ثالثا: اختيار أحسن الثياب لصلاة الجمعة والعيدين: ففي الحديث ( من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيبٍ إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينةُ حتى يأتي المسجد ثم يركع ما بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامَه حتى يصلي كانت كفارة لما بينهما ) ( رواه أحمد وصححه الألباني ) ولقصة عمر عندما عرض على الرسول حُلّة من حرير ليتجمل بها للجمعة ويستقبل بها الوفود، وهكذا يحرص الإسلام على انتشال المرء من كل ما يشينه فيضفي عليه ما يزينه ويحببه إلى الآخرين زارعاً المحبة والألفة بين أبناء المجتمع الإسلامي، وقد كان عبد الله بن عمر من أطيب الناس ريحاً، وأنقاهم ثوباً، هذه حال ابن عمر وكثير من الصحابة في مساجدهم وعند صلاتهم، وكان تميم الداري قد اشترى حُلة بألف درهم ليصلي بها، ممتثلاً قوله تعالى : {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال أبو العالية رضي الله عنه " كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا " فإذا كانت هذه حالهم عند التزاور فيما بينهم، فهم عند الصلاة أجمل وأبلغ لعظم حق الله، وقال الشافعي رحمه الله " أُحِّب ــ الغسلَ والطيبَ والنظافةَ ــ للجمعة والعيدين وكلَّ مجتَمعٍ تجتمع فيه الناس " فهل هناك أعظم من الإجتماع للصلاة ؟ حيث إجابة نداء الحق، ويُروى أن الإمام أحمد رحمه الله من أنقى الناس ثوباً وأشدهم تعاهداً لنفسه وثوبه، وسئل إبراهيم النخعي رحمه الله ما ألبس من الثياب، فقال " مالا يُشهرك عند الناس، ولا يُحقرك عند السفهاء "
أيها الأحبة.. إن من دخل المسجد بلباس نومه، أو بلباس صنعته هل ترى سيَلقى الإحترامَ والتوقير، بل أنه عرَّض نفسه للنبز والإغتياب فرحم الله امرءاً كفّ نفسه عن الإغتياب، وأخيراً.. أسوق لكم حال الإمام مالك عند جلوسه لدرس الحديث وهي حال كثير من العلماء رحمهم الله تعالى ( كان رحمه الله يتهيأ ويلبس ثيابه وتاجه، وعمامته ثم يُطرِق برأسه فلا يتنخم ولا يبزق ولا يعبث بشيء من لحيته حتى يفرغ من القراءة إعظاماً لحديث رسول الله " هذه حاله مع حديث الرسول فكيف عند قرائته للقرآن ؟ وكيف عند وقوفه بين يدي الرحمن في الصلاة والقيام ؟
أخي المسلم.. بعد هذا كله أظنك قد عرفت شأن المسجد وأهميةَ الصلاة عند أولئك الأفذاذ، فهل لنا أن نقتفي أثرهم ونترسم خطاهم لغرس شأن المساجد والصلاة في نفوس أبنائنا ؟ أم نترك الحبل على الغارب لأبنائنا، فتقَّلبهمُ المؤثرات وتعصفُ بهم التيارات المختلفة ؟ مما يجعلهم في عزلةٍ عن مبادئهم وأخلاقهم وآدابهم فيكونوا عبءً على أمتهم ومجتمعهم.
الوقفة السادسة والأخيرة:
مع أهل النفوس السليمة والعقول المستقيمة. إن إحياء أهمية الصلاة، ومكانةَ المسجد لدى الناس مسئوليةُ الجميع لا يمكن أن تُغرس في النفوس إلا بتظافر جهود المخلصين من مربين ومعلمين، ودعاة ومحتسبين، ويأتي هذا عبر الكلمة الصادقة، والتوجيه السديد والقصة المؤثرة، أما الحوافز المادية مع الصغار فهي ذات أثر عجيب، وصدق من قال:
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
والنفس كالطفل إن تتركه شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
واللهَ أسأل أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأعمال، وأن يجنبنا سيئها، إنه أهل الجود والإكرام وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.(/3)
ظاهرة تبلد الإحساس
الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، و على آله و صحبه أجمعين، و على التابعين و من صار على هديهم إلى يوم الدين، أيها الإخوة، أيتها الأخوات، السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، نحن نعيش في هذه الأيام –و لا شك- حالاً عظيمة، و كرباً شديداً، و تسلطاً من الأعداء كبيرة، و إذا تلفت في المسلمين وجدت الحالة لا تبعث على السرور، مما أصابهم من التردي في كثير من الأحوال، و لولا حديث {إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم}، إذاً لقلنا لا فرج، و لكن الله رحيم يأتي بالفرج، و الناس فيهم رجاء، و في المسلمين خير، لكنه يحتاج إلى بعث، و لابد من العلاج لهذه الحالة. و من أمراضنا التي تحتاج إلى علاج: تبلد الإحساس. بعُد كثير من المسلمين عن دينهم، و أصابتنا الذلة لمّا تركنا الجهاد في سبيل الله، و تبايعنا بالعينة، و تعاملنا بالربا، و رضينا بالزرع، فسلط الله ذلاً لن ينزعه حتى نرجع إلى ديننا، و أصبح الحال كما قال الشاعر: نهارك يا مغرور سهوٌ و غفلةٌ و ليلك نومٌ و الردى لك لازمُ و شغلك فيما سوف تكره غِبهُ كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ لقد مات عند الكثير من الناس الشعور بالذنب، مات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أصلاً أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه ببعض الأركان و الواجبات ظن نفسه قد حاز الإسلام كله، و أن الجنة تنتظره، و نسي هذا المسكين مئات الذنوب و المعاصي التي يرتكبها صباحاً و مساء، من غيبة، و بهتان، و نظر لحرام، و شرب لحرام، و استماع لحرام، و لعب بالحرام، و أكل للحرام، و ترك لواجب، و فعل لمحرّم، و تأخر عن فريضة، و تهاون في حكم،......، و هكذا من المعاصي و المخالفات التي استهانوا بها، و التي تكون سبباً للهلاك و الخسارة في الدنيا و الآخرة، فضلاً عن الكبائر، و الموبقات، و الفواحش، و الرشوة، و السرقة، و العقوق، و الكذب، و قطع الأرحام، و الخيانة، و الغش، و الغدر، و غير ذلك. إن هؤلاء المساكين الغافلين السائرين في غيهم قد أغلقت المادة أعينهم، و ألهتهم الحياة الدنيا عن حقيقة مآلهم، و إذا استمروا على ما هم فيه فلابد من حصول الندم، إذا لم يتوبوا إلى ربهم و لم يفيقوا من غفلتهم فإن العذاب ينتظر، أما و الله لو علم الأنامُ لِمَ خلقوا لما غفلوا و ناموا لقد خلقوا لِمَا لو أبصَرَته عيون قلوبهم تاهوا و هاموا مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ و توبيخٌ و أهوالٌ عظامُ تبلد الإحساس ظاهرة عجيبة، التبلّد نقيض التجلّد، إنه ذل و استكانة، قال الفيروز أبادي: التبلد ضد التجلّد، و كذا قال ابن منظور، و الإحساس: العلم بالحواس، و في لسان العرب بليد الحس: ميت، و في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ.....) (الأنعام 60)، قال البيضاوي: ينيمكم و يراقبكم، سمي النوم وفاة لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس. هناك أناس عاشوا بحياة فيها أكل و شرب، لكن قلوبهم ميتة، الإحساس بالذنب، الإحساس بالتقصير غير موجود، الإحساس بما يصيب المسلمين مفقود، و هكذا تجد القلوب قاسية. إن لهذا التبلد في الإحساس مظاهر، و منها ما ذكره الله تعالى فيما عاتب فيه المؤمنين فقال (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ?) (الحديد 16)، إستبطىء الله قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية، و هكذا قسوة القلب بطول الأمد و بُعد العهد من النبوة و العبادة و الرسالة. أيها الإخوة، إن هذه الغفلة المستحكِمة و المسيطرة اليوم على الحال، لابد من علاجها، لابد من زوالها، إن هنالك بُعداً عن الدين، تبلد إحساس يعيشه البعض (يعيشون في عالم المنكرات و المحرمات، و ترك الواجبات) كثرة رؤية المنكرات يسلب القلب نور التمييز، و قوة الإنكار. المنكرات إذا كثرت على القلب لم يعد ينكرها، هذا التبرج، و هذا الاختلاط، و هذا الغناء، و هذا الفحش، و هذه الدعارة الفضائية، إن الخوف كل الخوف أن ينسلخ من القلوب كره المعصية و قُبحها، لأن المعاصي إذا توالت على النفوس، أنِسَتها و ألِفَتها و عاشت معها و تعايشت معها، و الواجب على كل مسلم و مسلمة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، {ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا} (رواه أبو داود و هو حديث حسن)، {والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم}. ما حال شبابنا؟ بناتنا؟ ما حال أسواقنا؟ ما حال بيوتنا يا عباد الله؟، هذا التبلد في الإحساس الذي(/1)
أصابنا حتى لم نعد ننكر كثيراً من المنكرات، كثير من المنكرات منتشرة، متفشية، موجودة لا تجد من يقاومها و لا من ينكرها، حتى النصيحة، حتى الدعوة قد خفّت عند الكثيرين، شغل بالتجارة، شغل بالوظائف، شغل بالدنيا، هكذا إذاً الأمور: نوم، طعام، ثم ألعاب إلكترونية و غيرها، صفق بالأسواق، معاكسات، مغازلات، ثم سهر على القنوات، ثم نوم، و هكذا. ثم نجد الكثير من التهاون و التفريط في الواجبات الشرعية و ارتكاب المحرمات، لدرجة أنه وجد في المسلمين شيء اسمه عبادة الشيطان، هل كان يُتَصور أن يوجد في المسلمين قوم يعبدون الشيطان؟!، هذه القضية أو هؤلاء القوم الذين ظهروا في بعض البلاد العربية (عبدة الشيطان) يروّجون للعلاقات الشاذة بين الرجال و الرجال، و يصفون أنفسهم بأنهم أبناء قوم لوط، و يعتبرون الشاعر العربي القديم أبو نواس هو نبيهم، و المهندس الذي أنشأ تلك المجموعة يعتقدون بأنه سيلعب دوراً في حماية أتباع الأديان السماوية الثلاثة، يمارسون الطقوس، طقوساً منحرفة، و حفلات ماجنة في المراكب و يتعاطفون مع اليهود باعتبارهم أصحاب دين سماوي، و كذلك فإنهم يعتزّون بنجمة داود، صلاتهم بالتوجه إلى البحر الميت تبرُّكاً بالاستحمام بماءه على أساس أنه يطل على أرض أسلافهم قوم لوط الأولين، يكرهون الإناث و يعتبرونهن مجرد مواعين للإنجاب، و هكذا (البحر الميت قبلتهم). من كان يتصور أيها الإخوة أنه سيوجد في المسلمين مثل هذا؟!، ستعود عبادة الشيطان المُمَارَسة بالتلطخ بالقاذورات و النجاسات، و هكذا من الطقوس العجيبة الغريبة التي تُمارس، ثم يأتي بعض من يعذر هؤلاء و يقول لا تُطبق عليهم حد الردّة، و هؤلاء لا يعاقبون، و إنما لابد من الرأفة بهم، أنهم شباب طائش، و لذلك فإن هذا الطيش لابد أن نقابله بالتقبّل و الرأفة بحال هؤلاء، فإذا قام بعض الذين عندهم غيرة على الدين بإنكار المنكرات، قالوا هؤلاء تطبق فيهم حد الحرابة، يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، هكذا تقلب الأمور، و تعكس القضايا، و يطيش الميزان، و كل ذي لب يرى كيف أن هؤلاء وصل بهم الأمر إلى هذه القضية، فلا بيان و لا قيام بحق الله في الدعوة و الإنكار، و تفشّي لهذه المنكرات حتى تصل إلى عبادة الشيطان. تبلد الإحساس حتى في الغفلة عن الموت و تَذَكره، و ما بعده، و لو سألت بعض الناس: ماذا سيكون في القبر؟، لجهل كثيراً مما يكون، و ماذا سيكون في الآخرة؟، لا يعرف كثيراً مما يكون، بل تراهم حتى في مواضع التذكّر في المقابر يضحكون و يمزحون مع بعضهم، و هكذا تبلد إحساس و جوالات تعمل بالموسيقى عند القبر، شباب لاهين في الشوارع، رافعين الأصوات الموسيقية، يرقصون على الأرصفة، تبرج النساء (تبلد إحساس)، لا هم أصحاب المنكر يرتدعون و يخجلون من أنفسهم، و لا من يقوم و يبين حرمة هذا الذي يفعلونه أو ينصحهم، و ترى الغفلة في هذا المنصوح لو نُصح، شباب لاهين من هؤلاء رافعين المنكر مجاهرين به، نصحهم شخص فيه شيء من الشيب، قالوا: نحن شباب يا شايب، يعني ولي عنا، نحن في هذا العمر نعمل، نمرح بهذا اللعب و هذه الأمور المحرمة. تبلد إحساس حتى في قضايا النعمة، ناس عندهم أموال، بيوت، أثاث، صحة، خير، عافية، وظائف، عندهم طعام، شراب، لباس، عندهم كماليات، عندهم أشياء عجيبة في بيوتهم، لكن الحقيقة {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ}. مَن الذين يتأثرون اليوم بسماع القرآن الكريم؟، يتبلد الإحساس عند الكثيرين إذا سمعوا القرآن، و هو عند كثير منهم أصوات من مقرئين ربما يعجبهم لحنها و جمالها في الظاهر، لكن ليس لقلوبهم منها نصيب. قال أبو موسى الأشعري في رسالته إلى قراء البصرة و كلامه معهم، لمّا أرسل إليهم فجاءوه، دخل عليه ثلاثمائة منهم قد حفظوا القرآن، قال: {أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة، كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة.....}. قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?) (الأنفال 2)، من صفاتهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يخشعون لذكره، و سماع آياته، و الأصل في المؤمن التدبّر و التفكّر و العلم بما أنزل الله، و العمل بهذا، أي أمر في الآية، أي نهي فيها، أيها الإخوة إن حال المسلم ينبغي أن يكون مع كتاب الله، اجتماع على تلاوته و مدارسته في مجالس و حِلق تنزل عليها السكينة و تغشاها الرحمة و تحفها الملائكة. هناك تبلد في الإحساس في قطاعات كثيرة من الناس، تبلد إحساس عند أركان الأسرة، الأب لا يهتم بتربية أولاده و لا بإيقاظهم للصلاة، لا يمنع المنكرات في البيت، تتصل المدرسة على الأب تستدعيه لأجل القضية خطيرة فيأتي و يقول: ما هي القضية هذه الخطيرة؟(/2)
قالوا: هذا ولدك ضبط في وضع مخل جداً بالدين و الأدب و الحياء في حمام المدرسة. قال: من أجل هذا قطعتم علي شغلي و أتيتم بي، و قام و انصرف.الأم، تبلد الإحساس، لا تقوم على حجاب بناتها، لا تمنع منكرات الحفلات، أساس الابن الذي تعود على شلة السوء، و سماع الغناء، و الألعاب المحرمة، و المعاصي داخل البيت و خارج البيت، مخدرات و فواحش. حتى بعض الذين هم في سدة التوجيه من معلم و نحوه، كم منهم ينكر المنكرات؟!، كم منهم يعلّم؟!، يوجّه؟ يربّي؟ يعظ؟ يقص القصص؟ يذكّر؟ قليل الذين يبذلون من أوقاتهم في هذا، حتى الطلاب تبلد إحساس كثير منهم، فهو لا يفيد و لا يستفيد. حتى رجل الشارع أحياناً تجد ليس لديه تفاعل مع قضايا المسلمين و ما يصيبهم من النكبات، و إذا وعظت الواحد فيهم في هذا، قال: يا أخي ما لنا و لهم، هؤلاء بعيدون عنا، هؤلاء في بلد بعيدة، ما لنا و لهم. أين مفهوم الأمة الواحدة و الجسد الواحد؟!، المصائب هذه التي تصيب المسلمين، أليس الذي لا يهتم بأمر المسلمين ناقص الإيمان؟، أليس الذي لا يحزن لما أصاب إخوانه المسلمين من المصائب ناقص الإيمان؟، أين حديث {مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى}، أجيوش الأعداء في البر و البحر و الجو و كثير من المسلمين نائمون؟، أالخطر يدق الأبواب و تبلد في الإحساس و لا كأن شيئاً يحدق و أخطار قريبة؟. لمّا دخل الصليبيون بلاد المسلمين، و عاثوا في الأرض فساداً من نهب و قتل، و قتلوا في بيت المقدس سبعين ألفاً في الحملات الصليبية الماضية، و ذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى بغداد مستغيثين بالسلطان، منهم القاضي أبو السعد الهروي، لمّا سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك و تباكوا، و نظم أبو سعد الهروي كلاماً قُرئ في الديوان و على المنابر فارتفع بكاء الناس، و ندب الخليفة الفقهاء للخروج إلى البلاد ليحرضوا الناس على الجهاد، و منهم ابن عقيل خرج مع الفقهاء فساروا في الناس -الرواية تقول- فلم يفد شيئاً، (همم ساقطة، نفوس مغلقة)، قال: فساروا في الناس و لم يفد شيئاً، فإن لله و إنا إليه راجعون. و يروي ابن تغري بردي أن قائلاً قال يستنهض الهمم و يصف الحال: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيبُ فحقٌ ضائعٌ و حماٌ مباحٌ و سيفٌ قاطعٌ و دمٌ صبيبُ و كم من مسلمٍ أمسى سليباً و مسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ أمورٌ لو تأملهن طفلٌ لطفّل في عوارضه المشيبُ أتسبى المسلمات بكل ثغر و عيش المسلمين إذاً يطيب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا و يضيف ذلك المؤرخ المسلم أن شعراء و خطباء استمروا يستثيرون الهمم و لكن دون نتيجة، ثم علق على ذلك بقوله: و المقصود أن القاضي و رفقته عادوا من بغداد إلى الشام بغير نجدة و لا حول و لا قوة إلا بالله. و تُقدم لنا المصادر الإسلامية صوراً أقبح من تقاعس بعض أولئك الذين تولّوا مقاليد الأمور في تلك الفترة أمام الفظائع التي ارتكبها غزاة الصليبين في السواحل الشامية في القدس و غيرها، و قد جمع أحد الوفود المستنجدة كيساً كبيراً (أنظر إلى أي درجة وصل تبلد الإحساس، مصيبة عظيمة) أحد الوفود المستنجدة من المسلمين جمع كيساً كبيراً مليئاً بقحف الجماجم (جماجم المسلمين جمعها و التقطها و وضعها في كيس) و شعور النساء و الأطفال، و نثروها بين أيدي بعض أولئك الرؤساء، فكان جواب السلطان لوزيره: دعني، أنا في شيء أهم من هذا، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام لم أرها. و قد كان يلهو بالحمام مولعاً به، و كان ذلك شائعاً بين الناس. (و هذا الخبر موجود في كتاب "النجوم الزاهرة"). لمّا دخل التتر بلاد المسلمين (مصيبة أخرى غير مصيبة الحملات الصليبية) و ارتكبوا من المذابح ما لم يُسمع به في التاريخ، و ذهب الناس يستنجدون برؤوس المسلمين هنا و هناك، و قدم الشيخ محي الدين ابن الجوزي إلى دمشق، رسولاً إلى الملك عيسى صاحب دمشق، فقال له إن التتار قد تغلبت على البلاد و قتلت المسلمين، فقال له: دعني، أنا في شيء أهم من ذلك، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام ما رأيتها، و هكذا. و لذلك لمّا سقطت بلاد المسلمين في الأندلس، لمّا نقرأ الشعر الذي كتب في وصف ذلك، كشعر أبي البقاء الرندي –رحمه الله- ستجد فعلاً حجم المأساة، و تبلد الإحساس الموجود عند بعض المسلمين الذين طُلبوا لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه و نصرة إخوانهم، يعني هناك أناس أرسلوا بهذه الرسائل (الاستنجادات) من سواحل الأندلس إلى سواحل المغرب و المسافة قريبة، يقولون لإخوانهم: هلموا إلينا، المصيبة كبيرة لكل شيء إذا ما تم نقصانُ فلا يُغَر بطيب العيش إنسانُ هي الأمور كما شهدتها دولٌ من سَرّة زمن ساءته أزمانُ فجائع الدهر أنواعٌ منوّعةٌ و للزمان مسراتٌ و أحزانُ و للمصائب سلوانٌ يهونها و ما لما حل بالإسلام سلوانُ دها الجزيرة أمرٌ لا عزاء له هوى له أُحدٌ و(/3)
إنهد ثهلانُ فاسأل بلنسيةً ما شأن مرسيةٍ و أين قرطبةٌ أم أين جيانُ و أين حمصٌ(كانوا يسمون مدن في الأندلس على أسماء بلاد الشام) و أين حمصٌ و ما تحويه من نزهِ و نهرها العذب فياضٌ و ملآنُ كذا طُليطلةٌ دار العلومِ فكم من عالمٍ قد سما فيها له شانُ و أين غرناطةٌ دار الجهاد و كم أسدٌ بها و هم في الحرب عُقبانُ قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبقى أركانُ و عالمٌ كان فيه للجهول هدىً مدرّسٌ و له في العلمِ تبيانُ و عابدٌ خاضعٌ للّه مبتهلٌ و الدمعُ منه على الخدين طوفانُ و أين مالقةٌ مُرسى المراكب كم أرست بساحتها فُلكٌ و غربانُ و كم بداخلها من شاعرٍ فطنٍ و ذي فنون له حِذقٌ و تبيانُ و كم بخارجها من منزهٍ فرجٍ و جنةٍ حولها نهرٌ و بستانُ و أين جارتها الزهرة و قبّتها و أين يا قومي أبطالٌ و فرسانُ تبكي الحنيفيةُ البيضاء من أسفٍ كما بكى لفراق الإلف هيمانُ حتى المحاريب تبكي و هي جامدةٌ (إذا تبلد إحساس الناس الجمادات لا تتبلد إحساسها) حتى المحاريب تبكي و هي جامدةٌ حتى المنابر تبكي و هي عيدانُ على ديارٍ من الإسلامِ خاليةٍ قد أكفرت و لها بالكفرِ عمرانُ (تحولت المساجد إلى كنائس) حيث المساجد قد أمست كنائس ما فيهن إلا نواقيسٌ و صلبانُ يا غافلاً و له في الدهر موعظةٌ إن كنت في سنةٍ فالدهر يقظانُ و سنعود لبعض أبياتها. إذا تبلد الإحساس، كيف ينبغي أن تُخاطَب النفوس؟ أيها الإخوة إن من تبلد الإحساس أيضاً أن تُفسَر الأشياء التي تجري في الواقع من أحداث و أمور يخلقها الله بتفسيرات طبيعية بحتة، يعني مثلا الزلازل، يقولون هذه ارتطام طبقات الأرض. ما أحد -إلا من ندر- يقول: هل هذا عذاب؟، هل هذا انتقام إلهي؟. كذلك في الأوبئة و الأمراض، يقولون هذا سببه كذا، و فيروس كذا، و دخل، و فعل، و حصل في الخليّة، و أثّر في المناعة. من الذي يفسر ذلك بأنه عقوبة إلهية لأهل الكبائر و المعاصي؟، و البشر لمّا ابتعدوا عن الشرع بماذا ابتلاهم الله؟، أحياناً تأتي ريح حمراء، ريح صفراء، لا يتفكرون فيها، و عندما تحدث الزلازل و يقوم بعض الدعاة بوعظ الناس، يأتي بعض هؤلاء المتبلدي الإحساس يقولون: تقولون لنا اتقوا الله، نحن ماذا فعلنا؟، هذه قشرة أرضية و صفحات في الأرض ترتطم ببعضها، ما دخل هذا...؟، سبحان الله العظيم!، إلى هذه الدرجة إذاً وصلت القضية في تبلد الإحساس. و لمّا يصير الكسوف، كاميرات، و ناس تصوّر، و نظّارات تقي من الأشعّة، أين أنت؟!، ما هذا التبلد؟ إلى هذه الدرجة، لماذا؟ لذلك أسباب منها: ضعف الإيمان بالله تعالى و اليوم الآخر، لو صح الإيمان بالله و اليوم الآخر ما غفل العبد. نظر الحسن البصري إلى أهل زمانه و قد تكالبوا، بعضهم انشغل بالدنيا و غفل عن الآخرة، مع أن ذلك زمن فضل و صحة في الأمة، قال: أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟ كلا، كذبوا و مالك يوم الدين. و كذلك فإن ما يصيب هؤلاء في الحقيقة نقص في العقل، لذلك يوم القيامة أهل النار يقولون: (.....لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ?) (الملك 10). ثم من أسباب تبلد الإحساس أيها الإخوة: طغيان المادة على الناس، حب الدنيا، الانشغال بها، الولوه في أوديتها، و هكذا صارت القضية مادة في مادة، و حتى إذا صارت المسائل في أمور دينية شرعية تدخل المادة فيها، صار صلة الرحم تُقطّع لأجل المادة، بر الوالدين يُنسى لأجل المادة، إطعام المسكين يُنسى، إكرام الضيف يُنسى، هناك أشياء كثيرة تحدث من التغيرات في حياة الناس، الرسول عليه الصلاة و السلام قال: {.....ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم}. إذاً هذه الدنيا تُلهي، و أشراط الساعة منها كثرة المال، هكذا ينشغلون بها {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم.....} لماذا سماه عبد للدينار؟ لأنه صار يرضى من أجله و يسخط من أجله، يحب من أجله و يبغض من أجله، يحيا من أجله، يعمل من أجله (عبد الدينار، عبد الدرهم)، و هناك أناس عبدوا الوظائف، و إنهم يتفانون فيها و يتأخرون فيها و ينسون أهليهم و دينهم، حتى الصلاة التهوا عنها بهذا الركض وراء التجارات و الصناعات و المُساهمات، و {لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب (متى يملأه؟ عند الموت، إذا أُدخل في القبر و أُهيل عليه التراب) ويتوب الله على من تاب}. ثم ثالثاً من أسباب تبلد الإحساس: كثرة المعاصي التي انسلخ من كثير من القلوب قبحها و استقباحها، حتى صارت عادة لكثير من العصاة الذين يحيون عليها و يعيشون من أجلها، و فيها يرتعون، و عليها يجتمعون. شخص دخل مستشفى (المريض في العادة يقترب من الله، لأنه مُبتلى) و هذا في المستشفى يوزع سجائر ماريجوانا و يبيع في المستشفى. إذاً إذا كانت المسألة وصلت إلى هذه الدرجة من استيلاء المعاصي على(/4)
هؤلاء، حتى في وقت الابتلاء يعصون الله، إذا كان على سرير المستشفى هو الآن يسمع الأغاني و يرى النساء المتبرجات و هو في حال الكربة، ما معنى هذا؟، أي حالٍ وصل إليه هؤلاء؟!، هذا الدرب من الناس هل يتوب؟، هل يعافى؟، إذا كان في الوقت الذي يؤمّل فيه أن يتوب، و يحتمل أن يرجع إلى الله هذا حاله، فما هي النتيجة المتوقعة؟. مسألة المجاهرة بالمعصية أيها الإخوة، الآن قضية المعاصي عند كثير من الناس ما صارت مستترة في البيوت، ما صار يغلق بابه على معصية، بل يجاهرون بها في الشوارع، في الأسواق، يعني النساء المتبرجات هؤلاء، التبرج هذا أمام الناس ما هو؟، أليس مجاهرة بالمعصية؟، و هؤلاء الشباب بهذه المناظر العجيبة من التشبّه بالكفار و تقليدهم، الذين يعملون المنكرات في الأسواق علانية، إذا كان هو يقترب من البنت في الشارع و في الأسواق علانية، يأخذ رقم، و يعطي، و يتكلم علانية، إذا كان يجلس في المطعم أمام الناس من وراء الزجاج علانية، و وُجِدت فواحش في مطاعم، ما معنى ذلك؟، أيها الإخوة تبلد الإحساس و المعاصي هذه وصلت لدرجة: رأيت الذنوب تُميت القلوب و قد يُورث الذل إدمانها و ترك الذنوب حياة القلوب و خيرٌ لنفسك عصيانها و لذلك فلابد من الحذر من المعصية و من التعود على المعصية، لأن التعود عليها مصيبة أكبر من اقترافها لأول مرة، (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ?) (الأعراف 100)، قضية الطبع و الختم هذه مصيبة، يتبلد الإحساس، الإنسان بعد ذلك لا يتأثر، لا يرعوي، لا يرجع، لا يتوب، لا يندم، لا يبكي، لا تدمع عينه، {تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا.....}، أرأيت توالي الأعواد في الحصير، كذلك المعاصي إذا جاءت على القلب متتالية ماذا يحدث؟، إذا قبلها و تشربها، تُحدث نُكَت سوداء، حتى يكون الران الذي ذكره الله، (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?) (المطففين 14)، فيصبح القلب مُجخِّياً مقلوباً، يصبح كالكأس المقلوبة لا يمكن ملئه بأي شيء مفيد، يصبح مثل الصخرة الصماء لا يقبل شيئاً من الخير، يصبح أسود، مِرباد لا يعرف معروفاً و لا ينكر منكرا، و لذلك بعض الناس تقول: و ماذا فيها؟، و كأنك تتكلم عن قضية عادية مثل أكل أو شرب، مع أنه مقيم على كبيرة من الكبائر. قال النووي: إن الرجل إذا تبع هواه و ارتكب المعاصي، دخل قلبه كل معصية (بكل معصية تعاطاها) ظُلمةٌ، و إذا صار كذلك افتتن و زال عنه نور الإسلام، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ?) (طه 124). الآن عصرنا عصر الإباحية و التعرّي و كشف العورات في هذه المواقع و هذه القنوات و هذه المجلات، ما هو أثر الإباحية في تبلد الإحساس؟، و دعونا ننتقل لكلام بعض الكفرة في هذا الموضوع لعله يكون عند بعض الناس أوقع. وجد عالم النفس دكتور إدوارد دورنستين من جامعة وسكنسون بأمريكا، بأن الذين يخوضون في الدعارة و الإباحية غالباً ما يؤثر ذلك في أنفسهم عدم الاكتراث لمصائب الآخرين و تقبّل جرائم الاغتصاب (هذا الكافر يلاحظ على قومه أن من انتشار الإباحية تصير نفوسهم فيها تقبُّل لجرائم الاغتصاب و تصير عندهم شيء طبيعي)، كما وجد عدد من الباحثين أن مثل هذه الإباحية تُورث عدم المبالاة لهذه الجرائم و تحقيرها، و قام الباحث الكندي جيمس شيك بدراسة عدد من الرجال الذين تعرضوا لمصادر مواد إباحية بعضها مُقتَرفة بالعنف و بعضها لا يخالطه العنف، و كانت نتيجة هذه الدراسة أن الباحث وجد في كلتا الحالتين تأثيراً ملحوظاً في مبادئ و سلوك هؤلاء، و تقبّلهم بعد ذلك لاستعمال العنف لإشباع غرائزهم، (هذا كلام أبحاث علمية من أناس كفار في رجال تعرضوا لتوالي صور و أفلام مكثفة من المواد الإباحية فكانت هذه النتيجة: تبلد الإحساس، يعني تقبُّل الجرائم، يعني تصبح الجريمة شيء عادي، ليست قبيحة، ليست مرفوضة، هنا الخطر، أن لا يصبح المنكر مرفوضاً، أن لا يصبح المنكر قبيحا) ثم الظلم من أسباب تبلد الإحساس، الإنسان إذا صار يظلم الخادم، و يظلم العامل، و يظلم شريكه، و يظلم أخاه، تعود على الظلم، يظلم مَن تحت يديه، تبلد إحساسه، الآن لو جاء شخص و قال له: ألا تخشى أن يخسف الله بك الأرض؟ ألا تخشى أن ينزل الله عليك عذاباً؟ ألا تخشى أن يأخذ الله روحك؟ إن الله يمهل و لا يهمل، يوجد تبلد إحساس في القضية، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ.....) (إبراهيم 42)، المسألة مسألة إمهال، إمهال ليزدادوا إثماً ثم يأخذهم، فإذا أخذهم كان الأخذ أليما شديدا، (.....أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ?) (هود 18). قضية إدمان المخدرات و شرب الخمور المنتشرة(/5)
الآن، ألا توجِد هذه تبلد في الإحساس؟!، الآن مدمني المخدرات هؤلاء هل عندهم إحساس مثلا بواقع المسلمين، و المعاصي، و انتشار الفساد، و قضية النهوض بالأمة، و وجوب النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف و الدعوة إلى الله، هل يحس هؤلاء بأهمية العلم الشرعي، و أهمية الإقبال على الله،...، المسألة هذه إذا انتشرت، و إذا صار نسبة كبيرة يتعاطونها (بلاء المخدرات بلاء عظيم)، الإحساس هذا ماذا سيكون حاله؟. ثم من الأسباب أن بعض العبادات تتحول عند بعض الناس إلى عادات و تمر مروراً عادياً جداً، مثل ما يحدث أحياناً نتيجة كثرة معاشرة بعض الأطباء للحالات الطارئة في أقسام الإسعاف و الحوادث، فلو جيء له بشخص مقطّع، قد لا يجد تفاعلات في نفسه، مثل مُغسّل الأموات، إذا كثر تغسيله للأموات في النهاية كما يخبرنا البعض يقول: في مغسلة الأموات في أحد المستشفيات يضحكون و هم يغسلون الميت يضحكون و يمزحون، إذا كثُر الإمساس قل الإحساس، لذلك لابد الواحد دائماً يعمل مراجعة دورية لهذه القضايا التي يمر عليها يومياً و ربما يكون له فيها موعظة و عبرة و هو لا يعتبر و لا يستفيد، لماذا قال النبي عليه الصلاة و السلام: {من رأى صاحب بلاء فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا إلا عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان ما عاش}، (و في رواية) {.....لم يصبه ذلك البلاء}؟، لو أنت كنت تراه كل يوم، -افترض يا أخي شخص يدرس في معهد الصم و البكم مثلا، و الناس هؤلاء الذين يعاشرون المعاقين يومياً- ربما يصير عندك تبلد إحساس في قضية نعمة البصر و السمع، بينما الذي يراها بين فترة و أخرى تُحدث في نفسه تفاعلاً فيرى نعمة الله عليه، و لذلك فلابد من مراجعة للنفس في هذه القضية. و هناك من أسباب تبلد الإحساس أيضاً الأعمال الآلية، لقد وجد من نتائج بعض الأبحاث العلمية، أن الأشخاص الذين يمارسون أعمال ورقية باستمرار أو أعمال متعلقة مثلاً بجهاز الكمبيوتر باستمرار يحصل عندهم شيء من التبلد، و قد يكون هذا التبلد ذهني أكثر ما يكون تبلد قلبي، و لذلك ذكر ابن حجر –رحمه الله- في كتاب "شجرات الذهب" في ترجمة أحد أهل العلم، و لا داعي لذكر اسمه قال: نشأ محباً في العلم و حفظ القرآن و عدة مختصرات، و تعانى الأدب فمهر فيه، قال ابن حجر عنه: و بالجملة كان عديم النظير في الذكاء و سرعة الإدراك، إلا أنه تبلد ذهنه بكثرة النسخ (يعني ما عاد تنقدح في ذهنه المسائل أو الاستنباطات، و تأتي في ذهنه هذه الأشياء بالمهارات هذه نتيجة أنه كان دائماً يتعاطى النسخ بطريقة معينة (آلية)، و هذه الأشياء الآلية أحياناً تُفقد الذهن طراوته). هذه المسألة قل إنها ربما لا تكون مباشرة في صلب موضوعنا لكن الإنسان عليه أن يجدد، حتى الذين يمارسون بعض الأعمال الوظيفية أو التجارية إذا وجد فرصة أن يجدد فليجدد لأن ذلك يثري خبرته و تجربته و يحيي ذهنه و يجعله و قاداً. لكن يا إخوان عودة إلى موضوعنا، عدم محاسبة النفس من أسباب تبلد الإحساس، طول الأمل و عدم التفكر في الموت من ذلك، الأمنيات الزائفة، التسويف، مخالطة البطّالين، كثرة الانشغال بالمباحات، عدم الاشتياق إلى الجنة و إلى لقاء الله، اللهو، المناصب، الأموال، الألعاب (الألعاب الإلكترونية)، صدّق بالله أن هذه السوني بلاي إستيشين جعلت عند أولادنا من تبلد الإحساس ما الله به عليم، فعلاً صار الولد إذا خاطبته، إذا كلمته، كأنه في كرة من زجاج هو في الداخل و أنت في الخارج، فهو يرى شخص يشير فقط، يشير بعينيه و أصابعه و شفتيه تتحركان، لكن لا يفقه و لا شيء من الأشياء، و ربما نحن أطلقنا لهم العنان في أشياء أضرّت بهم. ثم أن من نتيجة تبلد الإحساس أن المنكرات عند بعض الناس تخف شيئاً فشيئاً، فمثلاً كان بعض الناس يقول أن الذي لديه هذه القنوات المجاورة هذا يعتبر الآن شيء جيد، بالنظر إلى ماذا؟ إلى ما جاء بعد ذلك من قنوات عرب سات، و لما جاءت قنوات عرب سات صار يقول: هذا ليس عنده إلا قنوات عرب سات هذا طيب لأن هناك أشخاص لديهم الديجيتل، و هكذا كل حال أنسانا ما قبله، و كل ما جاءت قضية بعد قضية صار الذي كان يرتكب هذا المنكر من قبل جيد الآن، جيد بالنسبة للأسوأ منه، و صارت المقارنة بالأسوأ، و هذه قضية لا تنتهي، لأنك الآن لو قلت: فلان لا يصلي مع الجماعة، قالوا: هذا طيب، فهناك أناس لا يصلون الفجر أصلاً، و لو قلت: فلان لا يصلي الفجر، يقولون: هناك أناس لا يصلون الصلوات الخمس كلها، و لو قلت: فلان لا يصلي الصلوات الخمس، يقولون: لكن يعرف الله و هناك شيوعي لا يعرف الله. فإذاً صارت المسألة مقارنات بالأسوأ و هذا من تبلد الإحساس. ما هو حال نبينا –صلى الله عليه و سلم-؟ و ما هو حال سلفنا الصالح في هذه القضية؟، كيف كانت قلوبهم حية؟، كيف كانت نفوسهم مُقبلة؟، كيف كان عندهم هذا الانتعاش القلبي الإيماني؟، كيف كانوا يحيون هذه الحياة الكريمة؟، كيف(/6)
كان عندهم إقبال على الله و العبادة و الطاعة، و محبة أهل الخير و الصلاح، و المسارعة في الخيرات، و التباطؤ و البعد عن المعاصي؟. القلوب الحية قضية معاكسة لتبلد الإحساس، القلوب الحية إذا رأت مظاهر أو أشياء (حالات) تتفاعل معها، عن عائشة أنها قالت: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته (ما حصل أنها رأته يقهقه حتى ظهرت اللهوات أبداً) إنما كان يتبسم قالت وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقالت يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية قالت فقال يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا (.....هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا.....)} (عارض يزول، سحاب يمطر و يمشي، (.....بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ?) (الأحقاف 24)، إذاً كان هذا فزعه عليه الصلاة و السلام إذا رأى غيماً، غيم في المدينة النبوية التي فيها الرسول عليه الصلاة و السلام و الصحابة، و معقل الإيمان، دار الإيمان، عاصمة الإسلام، إذا رأى فيها غيم قال ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، و الآن أنظر تمر غيوم و تمر سحب و تراكمات، و ربما لا يخطر ببال الإنسان أصلاً أن يفكر من هذه الجهة، و قبل يومين لمّا تغير لون السماء، قالوا: هذا كيماوي. هنا المسألة: قضية الاهتمام بالدنيا بالصحة، أن يكون هذا مضر بالصحة لا سمح الله، طيب و الآخرة؟!، ممكن يكون هذا مثلاً فيه شيء من العذاب. النبي عليه الصلاة و السلام، مثلاً حديث أبي بكرة:{ خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام يجر ثوبه مستعجلا حتى أتى المسجد وثاب الناس فصلى ركعتين فجلي عنها ثم أقبل علينا وقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها}. و روى مسلم (هذه رواية مسلم مهمة هنا في توضيح المقصود و حال النبي عليه الصلاة و السلام) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: {كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ففزع فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه.....}. ما معنى ذلك؟ لمّا صار الكسوف فزع، لأن هذا الكسوف (زوال نور الشمس) متى يكون؟ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ?) (التكوير 1)، يعني يوم القيامة (لُفّت و ذهب نورها و ضوءها)، و هذا الكسوف تذكير بيوم القيامة، و أصحاب القلوب الحية أدنى تذكير عندهم بيوم القيامة، أدنى مناسبة عندهم شيء كبير، فقام إلى المسجد، ما معنى أخطأ بدرع؟ يعني من همه بالموضوع و سرعته و ذهابه للمسجد أخطأ و أخذ درع بعض أهله سهواً، يعني أخذ حجاب المرأة، من الاستعجال أخذ حجاب زوجته، فأُدرك بردائه (لحقه شخص بردائه)، يعني بدل ما يأخذ الرداء أخذ درع المرأة لاشتغال قلبه بأمر الكسوف. فوات الطاعات كيف كان عندهم؟ يعني الواحد من السلف إذا فاتته تكبيرة الإحرام مثلاً، كان يُعزّى عليها. قال حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجماعة فعزّاني أبو إسحاق البخاري وحده، و لو مات لي ولد لعزّاني أكثر من عشرة آلاف. إذاً هو يتأسف الآن أن الناس يعزّون على الأمور الدنيوية و لا يعزّون على فوات الدين. و لذلك كانوا يشتاقون للطاعات -حتى العصاة منهم- في ذلك الوقت، وقت عافية الأمة في الأول، حتى العاصي برغم من معصيته كان يشتاق للطاعة، هذا أبو محجن كان شجاع فارس لكن أبتُلي بالخمر، فأُتي به إلى سعد بن أبي وقاص و كان في وقت المعركة، فأمر به إلى القيد، يصعب الآن إقامة حدود في وقت المعركة، قال يُسجن، يُحبس، فلمّا التقى المسلمون و الفرس قال أبو محجن و هو ينظر من بعيد من بيت سعد، ينظر إلى مكان المعركة، قال: كفى حُزناً أن تُطرد الخيل بالقنا و أُترك مشدوداً عليّ وثاقيا كفى حُزناً أن الخيل الآن تعدو في ميدان المعركة و أنا مشدود الوثاق، فقال لامرأة سعد: أطلقيني و لك و الله علي إن سلّمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قُتلت استرحتم مني، فحلّته حتى التقى الناس، و كان بسعد جراح، سعد –رضي الله عنه- يراقب المعركة و هو جريح و صعدوا به ليشرف على الناس و يتابع سير المعركة من أعلى، فوثب أبو محجن على فرس لسعد -و سعد لا يدري- يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحاً ثم خرج، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، و جعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع، و جعل سعد يقول الصبر صبر البلقاء (هذه دابتي التي أعرفها صابرة في المعركة) و الطعن طعن أبي محجن، استغرب الصبر صبر البلقاء و الطعن طعن أبي محجن، و أبو محجن في القيد، إذاً كيف هذا؟!، ثم إن سعداً –رضي الله عنه- لمّا انتهت المعركة و هُزم العدو، و أبو محجن رجع حسب الوعد و وضع رجله في القيد، فسأل سعد فأخبرته امرأته بما كان، فقال سعد لا و الله لا أضرب اليوم رجلأً أبلى للمسلمين ما أبلى فخلّوا سبيله، قال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يُقام علي الحد و أُطهّر منها، أما إذ(/7)
بهرجتني فلا و الله لا أشربها أبداً. يعني كنت في الأول إذا شربتها جلدتموني، و الحد كفارة، و الآن تقول أنت لن تعاقبني، إذاً يعني كيف التطهير؟ فلا و الله لا أشربها أبداً. عبد الله بن مسعود ربّى تلاميذ، و كان من تلاميذه شخص يقال له الربيع بن خثيم –رحمه الله- هذا من كبار المحدثين العلماء الفقهاء العباد الزهاد، أهل الورع و الخشية، لمّا مرّوا تلاميذ ابن مسعود مع ابن مسعود على حداد، و الحداد عنده فرن نار لكي يُدخل فيه الحديد الخام ليزيل الشوائب، فجعل عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط مما تذكر من عذاب الله، ثم أتوا على تنور على شاطئ الفرات، فلمّا رآه عبد الله و النار تلتهب في جوفه (الآن إذا مررنا على خباز و رأينا فرن مثلا، و يوجد نار في الفرن، ما هي الموعظة من الموضوع؟، و ما هي الفكرة التي ستأتي في نفوسنا؟) عبد الله لمّا مر على فرن الخباز و التنور (الفرن) النار فيه تلتهب قرأ هذه الآية (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ? وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ?) (الفرقان 12-13)، فصُعق الربيع فاحتملناه فجئنا به إلى أهله (يعني مريضاً). و هكذا لمّا مر على الحدادين و نظر إلى كيرٍ و صُعق، قال الأعمش فمررت بالحدادين لأتشبّه به فلم يكن عندي خير (يعني ما أثّر علي مثل ما أثّر عليه). و الله تعالى يقول عن نار الدنيا (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ?) (الواقعة 73)، المسافرين يستفيدوا من النار، و نار الدنيا هذه ماذا أيضاً؟ (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً.....)، ما معنى تذكرة؟ يعني تذكّر بنار الآخرة، يعني المفترض نحن إذا رأينا نار الدنيا أن نقول في أنفسنا: كيف نار الآخرة؟، و هكذا كانوا حتى بعض الأطفال في عهد السلف، طفل من أطفالهم رأى أهله يوقدون ناراً للطعام، حطب، فلمّا نظر إليها جعل يبكي، فقالوا له لماذا تبكي؟ قال: وجدتكم تبدءون بصغار الحطب قبل كباره (هذا مستوى طفل) يعني يقول يمكن أنا يوم القيامة إذا مت يمكن أنا يُبدأ بي، الصغار قبل الكبار، مثل حطب الدنيا، أليس (.....نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.....) (التحريم 6)؟. الذي عنده يقظة يا إخوان تفكيره غير تماماً الذي عنده تبلد إحساس، المتبلد الإحساس هذا بعيد تماماً عن الموضوع و لا يفكر في أمور مثل هذه. كان هشام الدستوائي إذا فقد السراج يتململ على فراشه (لا يستطيع النوم)، يعني عند نومه لابد أن يكون هناك شيء من الإنارة في الغرفة، لماذا؟ قال: إني إذا فقدت السراج ذكرت ظلمة القبر (إذا كان لا يوجد نور أبداً في الغرفة ما أستطيع النوم) قالت زوجته: لماذا؟، قال: إذا تذكرت ظلمة القبر ما أستطيع النوم. أي أن الظلمة هذه تذكره بالقبر إذاً. و قال عمر بن ميمون: خرجت بأبي أقوده إلى منزل الحسن يريد لقاءه، لمّا خرج الحسن اعتنقا، قال ميمون: يا أبا سعيد (كُنية الحسن) إني قد أنست من قلبي غِلظة (يعني ليّن قلبي بشيء) فقرأ الحسن (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ? ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (يعني من العذاب) ? مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (النعيم هذا الذي مر بهم في الدنيا ماذا أغنى عنهم؟) ?) (الشعراء 205-207)، فسقط ميمون بن مهران مغشياً عليه، ثم أخذت بيد أبي فخرجت، فقلت: أبتي، هذا هو الحسن؟ (يذكرون عنه الحسن و الحسن)، قال: نعم، قلت: قد كنت أحسبه في نفسي أنه أكبر من هذا (يعني ماذا سمعنا من الحسن يعني؟)، قال: فوكز في صدري وكزة ثم قال: يا بني لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لألفيت لها فيه كلوماً (جراح) (لو فهمت الآية مضبوط لصار عندك جراح في القلب). و لذلك فإنهم كانوا في التفكّر يأخذون وقتاً طويلاً. يوسف بن أسباط يقول: قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المِطْهَرَة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه و وضع يساره على خده، فبقي مُفكراً و نمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المِطْهَرَة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع، قال: لم أزل منذ ناولتني المِطْهَرَة أتفكر في الساعة (يعني في قيام القيامة و الأهوال التي ستكون يوم القيامة، و هكذا). هذا يا إخواني يدل على أن الناس الذين عندهم تفكّر تصرفاتهم تختلف، أوضاعهم تختلف، أحوالهم تختلف، قلوبهم تختلف، سلوكهم يختلف، و لذلك الإنسان فعلاً يقارن حاله بالجمادات الآن لو آنس في نفسه و قلبه تبلد إحساس، أليس الحجر كان يُسلِّم بمكة على النبي عليه الصلاة و السلام، يقول: {.....السلام عليك يا رسول الله}؟، أليس {أحد جبل يحبنا ونحبه}؟، أليست النملة في جحرها و الحوت و كل الكائنات و الحيوانات و البهائم تدعو لمن يعلم الناس الخير؟، أليس الشجر و الدواب يستريحان من موت الفاجر؟، أليس الشجر و الحجر إذا صارت المعركة بين المسلمين و اليهود في زمن(/8)
عيسى عليه السلام سيقول الشجر و الحجر: {.....يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله.....}؟، أليس الله قال عن الحجارة (.....وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.....) (البقرة 74)؟، بعض الناس إذا قلت له حجارة تهبط من الجبل، قال نعم قال إسحاق نيوتن، يعني قوانين الجاذبية، يفسرون الأشياء بقوانين الطبيعة العادية، مع إن عندك آية في سورة البقرة لمّا الله ذكر قسوة قلوب بني إسرائيل أراهم آيات بينات، بقرة تُذبح، ميت يُضرب بميت، يحيا الميت بإذن الله (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى.....) (البقرة 73)، (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (يعني من بعد ما أراكم المعجزات و الآيات و البراهين) فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ (بل) أَشَدُّ قَسْوَةً (و إن من الحجارة ما فيه منفعة للناس) وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ (يسيل لكن دون النهر في التدفق) وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ.....) (البقرة 74)، يعني الحجارة تتدحرج من الجبل، هذا ليس فقط قوانين إسحاق نيوتن (.....يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ.....)، أليس كل شيء في الكون يسبح الله (.....وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.....) (الإسراء 44)؟، الصحابة ما سمعوا تسبيح الطعام و هو يُأكل بين يدي النبي –صلى الله عليه و سلم-؟، سبحان الله! البهائم تفهم أكثر من بعض الناس. سفينة، من هو سفينة؟ خادم النبي عليه الصلاة و السلام، (كان في بعض الأسفار حمل متاعاً كثيراً فسماه النبي عليه الصلاة و السلام سفينة لحمله هذا المتاع الكثير)، هذا سفينة جاء في قصة سندها صحيح، بعد وفاة النبي عليه الصلاة و السلام ذهب في رحلة بحرية انكسرت سفينته، تعلّق بلوح من ألواحها حتى طرحه الموج على جزيرة (مكان في غابة) ساحل فيه أجمة (أشجار ملتفة) دخل فيها وجد أسد قال: {.....فأقبل إلي يريدني (واحد طالع من أمواج كيف تكون حالته، هل يستطيع الهرب؟)، فقلت: يا أبا الحارث (كُنية الأسد عند العرب) أنا مولى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- (أُعرّفك بنفسي أنا مولى رسول الله –صلى الله عليه و سلم-) فطأطأ رأسه، وأقبل إلي، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة، ووضعني على الطريق، (دله على الطريق) وهمهم، فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به} (رواه الحاكم و صححه على شرط مسلم و رواه الطبراني و أبو نعيم و البيهقي). إذا كان البهائم تفهم، ماذا يفهم الكفار اليوم؟. و لذلك لابد أن نفكر كثيراً و ليس قليلاً أيها الإخوة بإحياء نفوسنا، إحياء القلوب، هناك عقوبات على تبلد الإحساس، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ? ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ?) (الأعراف 94-95)، قال الله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (يعني في حال الغفلة يأتيهم العذاب) ? أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ? أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ?) (الأعراف 97-99). هناك عقوبات بالطمس على الأموال و على القلوب، و لذلك قال موسى يدعو على فرعون و قومه: (.....رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ?) (يونس 88). و نحن نقول اليوم اللهم أطمس على دول الصليب و أشدد على قلوبهم و أطمس على أموالهم حتى يروا العذاب الأليم. أيها الإخوة إن الله سبحانه و تعالى جعل على قلوب بعض الناس أكنة، تُغلف تغليف، تُصفَح تصفيح، و لذلك من يهديه من بعد الله؟ أبداً لا يوجد أمل، و الإنسان عليه أن يتلمس الخطورة، يتلمسها و يحس بها. هذا الشاعر في عهد بني أمية لمّا كان دعاة بني العباس ينتشرون بين الناس و بينما بعض بني أمية غافلين لاهين قال: أرى خلل الرماد وميض جمرٍ و يوشك أن يكون لها ضِرامُ فإن النار بالعودين تُذْكى و إن الشر ينتجه الكلامُ أقول من التعجب ليت شعري أأيقاظٌ أميةُ أم نيامُ و لم يكونوا يدرون عما يُدبَّر لهم بالليل، و بعض المسلمين اليوم في غفلة تامة عما يُدبَّر لهم بالليل و النهار. و نحن ينبغي علينا أن نعالج نفوسنا في هذه القضية بإذهاب تبلد الإحساس بأمور كثيرة و من ذلك:(/9)
احتساب الأجر في الأعمال، {إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك} (حديث صحيح عن النبي عليه الصلاة و السلام)، فاحتسب الأجر يا أخي. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: و ينبغي أن يستحضر النية في جميع العبادات، فينوي مثلاً الوضوء و أنه توضأ لله امتثالاً لأمر الله (فهذه ثلاثة أشياء): واحد: نية العبادة يؤجر عليها. إثنين: نية أن تكون لله. ثلاثة: نية أنه قام بها امتثالاً لأمر الله. فهذا أكمل شيء في النية. كذلك التوبة لعلها تزيل تبلد الإحساس إن الله يحب التوابين، {.....يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.....}، التوبة سبب نور القلب، و محو أثر الذنب، و استجلاب محبة الرب و إغاثة الله للتائبين، (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ.....) (هود 52)، التوبة أول صفات المؤمنين (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ.....) (التوبة 112). ثم نتدبر القرآن العظيم، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ?) (محمد 24)، و ما تستطيع تتدبر إلا بمعرفة التفسير، و إذا قُلت التفاسير طويلة، خذ تفسيرا مختصراً على الأقل في معاني كلمات الآية لكي تستطيع أن تتدبر، و يلٌ لمن قرأها و لم يتدبرها، عشر آيات أخر سورة آل عمران، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.....) (آل عمران 190-191)، هذه قضية ثالثة مهمة جداً لكي تزيل التبلد و تحيي القلب: التفكر في السموات و الأرض، هذه السموات التي رفعها الله عز و جل بغير عمد ترونها، و هذه النجوم زينة للسماء و رجوم للشياطين و تهتدون بها في ظلمات البر و البحر و في الاتجاهات للعبادة. ثم لابد أن نعتني بالمواعظ لنوقظ هذا الإحساس، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ?) (الذاريات 55)، {وعظنا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رَسُول اللَّهِ كأنها موعظة مودع فأوصنا.....}. الموعظة حتى للمنافقين، قال الله لنبيه: (.....عِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ?) (النساء 63)، هذه الموعظة التي ينبغي أن تكون بالأسلوب المؤثر، إنها بالآيات و الأحاديث و ليست بكلام البشر فقط، إنها موعظة تحيي النفوس، لكن بعض الناس -سبحان الله- ممكن يسمع الموعظة يتأثر لحظياً و إذا غادر المكان رجع إلى ما كان، لماذا؟، قال ابن الجوزي يعلل: المواعظ كالسياط، و السياط لا تؤلم إلا عند وقوعها، أما بعد الانقضاء يذهب الألم. و هكذا يجب أن تكون الموعظة لها أثر لما بعدها، يعني اتعظنا و خرجنا، عملنا. ثم كذلك الجهاد في سبيل الله، قال النبي –صلى الله عليه و سلم-: {جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى باب من أبواب الجنة ينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم} (حديث صحيح) و كذلك الرحلة في طلب العلم، لقاء العلماء، لقاء طلبة العلم، هذه الرحلات العلمية فيها تغيير، و فيها مفاجئات، و فيها إذهاب لتبلد الإحساس، رحلات الطاعة عموماً: رحلة الحج (رحلة الحج تُذهب تبلد الإحساس)، رحلات العمرة، رحلات طلب العلم، رحلات صلة الرحم. قيل لأحمد –رحمه الله-: رجل يطلب العلم، يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل، قال: يرحل، يكتب عن علماء الأنصار فيشام من الناس و يتعلم منهم. و معناه: ينظر ما عندهم. قيل لأحمد: أيرحل الرجل في طلب العلم، قال: بلا شديداً، بلا و الله شديداً (يرحل رحلة طويلة). و لذلك قال يحيى بن معين: أربعة لا تؤنس منهم رشداً: رجل يكتب في بلده و لا يرحل في طلب الحديث (طبعاً كانت الرحلة مهمة جداً في جمع الحديث، الآن جُمع في كتب، و في هذه الأسطوانات المدمجة، لكن من الذي يقرأ). و أنشد السمعاني –رحمه الله- لأبي عبد الله المراغي الشافعي: إذا رأيت شباب الحي قد نشئوا لا ينقلون قِلال الحبر و الورقا (إذا رأيت الشباب لا يكتبون، و ليس معهم الأوراق و الأقلام يذهبون بها المحاضرات و الدروس و يرحلون في طلب العلم) و لا تراهم لدى الأشياخ في حِلقٍ يعون من صالح الأخبار ما اتسقا فذرهم عنك و أعلم أنهم همجٌ قد بدّلوا بعلوّ الهمة الحمقا إذاً لابد من محبرة، "مع المحبرة إلى المقبرة" شعار العلماء. يحضرون الدروس، يكتبون الفوائد، يراجعون، و يحفظون، و يسافرون، تَغَرّب عن الأوطان في طلب العلا و سافر ففي الأسفار خمس فوائدِ تفرّج همٍ و اكتسابُ معيشةٍ و علمٌ و آدابٌ و صُحبة ماجدِ لكن الأسفار الآن إلى أين؟،(/10)
قال: ذهب إلى دبي، و ماذا يعمل هناك؟ يطلب العلم! أيها الإخوة، الآن إعلانات ملونة و دورات علمية و حافلات تنقل، و عشاء و بوفيه بعد الدرس، و مسابقات و جوائز، و استراحة في الوسط، ثم حضور أحياناً قليل. كم حصّلوا من العلم الذي أخذوه؟ أحياناً يكون قليلاً. إذاً ينبغي أن نحيي الهمم في هذه المسألة، و أن يكون عندنا محاسبة للنفس (نحاسب أنفسنا)، و انتباه، المحاسبة: تتذكر ماذا قمت من حق الله؟، ماذا قمت من حق الوالدين؟، و حق الناس؟، و الجيران و الأرحام؟، حاسب نفسك، كم آية حفظت؟، كم حديثاً قرأت؟، كم مسألة علمية جديدة (مثلاً اليوم) تعلمت؟، كم ركعة ركعت؟، هل قرأت وردك من القرآن؟، إسأل نفسك. ثم الانتباه، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ?) (الأعراف 201)، يعني الإنسان يقع في معاصي، فهو بشر يخطئ، لكن إذا وقع تذكر، هذا الفرق بين معصية المؤمن و معصية الفاسق الفاجر، أو الكافر، أولئك إذا عصوا ما تذكروا، المؤمن إذا عصى تذكر فرجع. و كذلك النعم التي عندنا يجب أن تكون بالنسبة لنا مستعملة في الطاعة، و ليس أن تطغينا و تجعلنا نتبلد الإحساس، الواحد عنده سيارة، و جوال، و أثاث، و بيت، و شاشات، طيب يا أخي تفكر في هذه النعمة، {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس......} يسر الفتى طول السلامة و البقا فكيف ترى طول السلامة يفعلُ يُرَد الفتى بعد اعتدالٍ و صحةٍ ينوء إذا رام القيام و يُحملُ فكر في الصحة، الآن أنت شباب، الآن اعتدال و صحة، غداً إذا أردت أن تقوم، إذا أردت أن ترفع رجلك درجة السلم، مجهود، و ربما تحتاج إلى حَمل، ما يستطيع يصعد الدرج، و الآن يقفزون كل ثلاث أربع درجات مع بعض، لكن (.....إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ?) (الإسراء 37)، فكر. ثم نُكثر من ذكر الموت، الرسول عليه الصلاة و السلام قال: {أكثروا من ذكر هادم اللذات}، يقول سعيد بن الجبير: لو فارق الموت قلبي خشيت أن يفسد علي قلبي (لا أستطيع أن أعيش من غير تذكر الموت). لماذا قيل القيام للجنازة؟، النبي عليه الصلاة و السلام لماذا أمرهم أن يقوموا للجنازة، لماذا قال يعني {إذا رأيتم الجنازة فقوموا.....}، قيل في بعض الطرق {.....إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس}، و في رواية {.....إعظاما لله الذي يقبض الأرواح}، و في رواية {.....إنما قمنا للملائكة}. قال الحافظ بن حجر: لا تنافي بين هذه التعليلات لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، و تعظيم للقائمين بأمر الله و هم الملائكة الذين يقبضون الأرواح (فملك الموت له أعوان). سئل الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- عن من يرى الجنازة في المسجد إذا جيء بها هل يقوم؟ قال: ظاهر الحديث العموم، فهو إذاً مستحب و من تركه فلا حرج لأن القيام لها سنة، و النبي –صلى الله عليه و سلم- قام تارة و قعد أخرى فدل ذلك على عدم الوجوب. من الأشياء المهمة أيضاً أن تكون أسماعنا و أبصارنا مرتبطة بقلوبنا، و معنى ذلك على سبيل المثال {إذا سمعتم صياح الديكة (ممكن الإنسان يسمع صياح الديك و لا شيء) فسلوا الله تعالى من فضله فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا}. يعني أصحاب القلوب الحية إذا سمعوا أصوات مثل هذه البهائم، ليس القضية أنها لا تعني عندهم شيء، بل تعني عندهم شيئاً كثيراً و هناك أذكار لها، و أصلاً الأذكار تدور مع الإنسان، إذا الإنسان جُرح، مسته النار، ألم حرق، سقط، تعثر، ماذا يقول المسلم؟ "بسم الله". لسعه شيء، أول شيء "بسم الله" قبل أن يقول آه، قبل أن يصرخ "بسم الله"، هذه صرخته أصلاً، و لذلك لمّا أُصيب طلحة في يده قال: " حس " كلمة تقولها العرب للألم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: {.....لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة.....}. عبد الله بن الزبير {أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي (يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) [الرعد:13] ثم يقول: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض} (صححه في صحيح الأدب المفرد، موقوفاً عليه) ثم لابد أن يكون عندنا دعاء لله، حديث {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم} . يعني الحديث يحثنا على هذا، و نحن نقول: اللهم جدد الإيمان في قلوبنا، اللهم جدد الإيمان في قلوبنا، اللهم جدد الإيمان في قلوبنا. الصحابة، معاذ يقول لصاحبه: {اجلس بنا نؤمن ساعة}، قال النبي عليه الصلاة و السلام: {من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، (إذا إنسان قام في الليل و صلى بعشر آيات، أول شيء نفى عن نفسه الغفلة و تبلد الإحساس) و من قام بمائة آية كتب من القانتين، و من قام بألف آية كتب من المقنطرين (أي أصحاب الأجور العظيمة)} ثم زيارة المقابر لأنها تذكر بالآخرة، سئل الشيخ عبد العزيز –رحمه الله- عن حكم(/11)
اصطحاب بعض الغافلين إلى المقبرة في الدعوة و التأثير عليهم، قال الشيخ: ليس في ذلك مانع و ذلك حسن و جزاهم الله خيراً هؤلاء الذين يصطحبون بعض الغافلين لزيارة المقابر، قال: و هو من التعاون على البر و التقوى. ثم ينبغي أن ندرك يا إخوان حجم المأساة التي تعيشها الأمة، هناك أناس بالرغم من كل المصائب العظيمة ليس عندهم أي انفعال و لا تصرف، ليس عنده ردة فعل إطلاقاً لأنه لا يحس، إذا كان ما لجرحٍ بميت إيلام، فمهما وخزت فيه إذا كان ميت ماذا تنفع الوخزة إذا كان ليس هناك إحساس و لا شعور. و لمّا الإنسان يرى مثلاً هجوم أعداء الإسلام الآن على المسلمين، فهم ماذا يقولون؟ يقولون عن نبينا إرهابي، و القرآن كتاب إرهاب، و الإسلام دين إرهاب،....، الآن يقولون هذا علناً، و يصرّحون به في وسائلهم، فكل هذا الهجوم على الدين ما أنشأ عندنا غيرة مثلاً، تحركاً للدفاع عنه، هذا جيري في برنامج ستون دقيقة يصف الرسول محمد –صلى الله عليه و سلم- بأنه إرهابي، و قال: هذا كان رجلاً عنيفاً، رجل حرب،...إلخ، و باترو بارتسون هذا القائد اليميني المتطرف، (أصلاً كلهم متطرفين، و هل فيهم معتدل على الجادة أو على الوسط؟) إساءات بالغة في قناة فوكس في 18 سبتمبر الماضي يصف النبي –صلى الله عليه و سلم- بأنه مجرد متطرف ذو عيون متوحشة هكذا، و يقول عنه (يصفه): سارق، قاطع طريق. فهذا لابد من قتله لأنه يسب نبينا –صلى الله عليه و سلم-. إذا رأى الإنسان المسلم أن الدين هكذا يُعمل به، ماذا يجب أن يتحرك في نفسه؟، أنت لو كنت غير قادر على عمل شيء، الله يثيبك على نيتك و على إحساسك هذا يا أخي، يعني الأحاسيس هذه عليها أجر، إذا نحن حزنّا لما أصاب المسلمين، و فرحنا إذا انتصر المسلمون، هذا الفرح و الحزن نُؤجر عليه، أما أننا نمكث هكذا بلا شيء، فما المعنى بأن نحيا فلا نُحيي بنا الدينا و ما المعنى بأن نجتر مجداً ماضياً حينا و حيناً نُطلق الآهات ترويحاً و تسكينا إذا كان يمكن أن نعمل لابد أن نعمل، و هناك مجال كبير للعمل للإسلام، الدعوة باب مفتوح، (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ? قُمْ فَأَنذِرْ ?) (المدثر 1-2) (.....وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ?) (الأحقاف 29)، أين الإنذار؟! يعني ما يمكن أن نكلم أحد؟!، ما عندنا جيران، أصحاب، أصدقاء، أقارب، يحتاجون إلى الدعوة؟، ماذا بذلنا معهم؟، لكن أصحاب الهمم في الدعوة، قيل: صعدوا الناس إلى القمر، قالوا: و الله لو سكنوا في القمر و استطعنا أن نرسل إليهم دعاة لأرسلنا إليهم دعاة إلى القمر. قيل: برج بيزا هذا على وشك أن يسقط منذ متى في ميلان، قال: أتأسف، أنا مؤذن، أنا كان في نيتي إذا دخلنا تلك البلاد أن أؤذن فوق هذا البرج. هناك أناس مشاعرهم من الداخل مع الدين، يؤملون أن يفتحوا تلك البلاد و أن يرفعوا فيها ذكر الله عز و جل و ما ذلك على الله بعزيز، لكن المسألة تحتاج إلى عمل، و إذا سمع الإنسان التنصير ماذا يُنفَق عليه من ميزانيات ضخمة، لابد أن يكون في المقابل هناك انفعال لأن تعمل لهذا الدين، عام 99 فقط ميزانية التنصير 200 مليار دولار، و أشياء تحدث كثيرة من المؤتمرات و الجهود العظيمة، ثم المسألة الآن في هذا الخِضم من الهجمة الشرسة على الإسلام و بلاد الإسلام و أهل الإسلام، نرجع إلى تلك الأبيات التي قالها ذلك الرجل في الغافلين الذين تبلد إحساسهم يا غافلاً و له في الدهر موعظةٌ إن كنت في سِنةٍ فالدهر يقظانُ و ماشياً مرحاً يلهيه موطنه أبعدَ حمصٍ تغرُ المرءَ أوطانُ تلك المصيبةُ أنست ما تقدمها و ما لها مع طويل الدهر نسيانُ يا راكبين عتاقَ الخيل ضامرةً كأنها في مجالِ السَبْقِ عُقبانُ و حاملين سيوفَ الهندِ مرهفةً كأنها في ضلام الليلِ نيرانُ و راتعين وراءَ النهرِ في دعةٍ (فكر فيها هذه، و راتعين، شوف صاحب المصيبة يخاطب إخوانه المسلمين وراء الضفة الأخرى) و راتعين وراءَ النهرِ في دعةٍ لهم بأوطانهم عِزٌ و سلطانُ أعندكم نبأٌ من أمرِ أندلسٍ فقد سرى بحديث القوم ركبانُ كم يستغيث صناديد الرجالِ و هم أسرى و قتلى فلا يهتزُ إنسانُ ماذا التقاطعُ في الإسلامِ بينكم و أنتم يا عباد اللّه إخوانُ ألا نفوسٌ أبيّاتٌ لها هممٌ أما على الخيرِ أنصارٌ و أعوانُ يا من لنُصرةِ قومٍ قُسّموا فرقاً سطا عليهم بها كفرٌ و طغيانُ بالأمسِ كانوا ملوكاً في منازلهم و اليوم هم في قيود الكفرِ عُبدانُ فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثيابِ الذلِ ألوانُ و لو رأيت بكاهم (المسلمون أبنائهم يباعون، بناتهم يباعون عبيد عند النصارى) و لو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمرُ و استهوتكَ أحزانُ يا رُبَ طفلٍ و أمٍ حيلَ بينهم كما تُفرقُ أرواحٌ و أبدانُ و طفلةٌ مثل حُسن الشمسِ إذ طلعت كأنما هي ياقوتٌ و مرجانُ يقودها العِلجُ للمكروهِ مكرهةً و العينُ باكيةٌ و القلبُ حيرانُ لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ و إيمانُ هل للجهادِ(/12)
بها من طالبٍ فلقد تزخرفت جنةُ المأوى لها شانُ و أشرفَ الحورُ و الولدانُ من غُرَفٍ فازت و رَبٍ بهذا الخير شجعانُ ثم الصلاةُ على المختارِ من مُضَرٍ ما هب ريحُ الصَبا و اهتزَ أغصانُ و صلى الله و سلم على نبينا محمد، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الصوتيات والمرئيات الإسلامية(/13)
ظاهرة ضعف الإيمان
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) آل عمران /102 .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) النساء /1 .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) الأحزاب /70 ، 71 .
أما بعد :
فإن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين ، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم : " أحس بقسوة في قلبي " " لا أجد لذة للعبادات " " أشعر أن إيماني في الحضيض " ، " لا أتأثر بقراءة القرآن " ، " أقع في المعصية بسهولة " ، وكثيرون آثار المرض عليهم بادية ، وهذا المرض أساس كل مصيبة وسبب كل نقص وبلية .
وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم ، وقد سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه قال عليه الصلاة والسلام : ( إنما القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن ) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2364 . وفي رواية ( مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة الريح ظهراً لبطن ) . أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح : ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني 1/102 .
وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً ) المرجع السابق رقم 226 وإسناده صحيح : ظلال الجنة 1/102 . وفي رواية ( أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً ) رواه أحمد 6/4 وهو في صحيح الجامع رقم 5147 . والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) رواه مسلم رقم 2654 .
وحيث ( أن الله يحول بين المرء وقلبه ) وأنه لن ينجو يوم القيامة ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) وأن الويل ( للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) وأن الوعد بالجنة لـ ( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ) كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عله الران فيهلك والأمر عظيم والشأن خطير فإن الله قد حذرنا من القلب القاسي والمقفل والمريض والأعمى والأغلف والمنكوس والمطبوع المختوم عليه .
وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه وعلاجه ، أسأل الله أن ينفعني بهذا العمل وإخواني المسلمين وأن يجزي بالجزاء الأوفى من ساهم في إخراجه وهو سبحانه المسؤول أن يرقق قلوبنا ويهدينا إنه نعم المولى وهو حسبنا ونعم الوكيل .
أولاً : مظاهر ضعف الإيمان
إن مرض ضعف الإيمان له أعراض ومظاهر متعددة فمنها :
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات : ومن العصاة من يرتكب معصية يصر عليها ومنهم من يرتكب أنواعاً من المعاصي ، وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا ، وكذا ، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ) رواه البخاري : فتح 10/486 .
2- ومنها : الشعور بقسوة القلب وخشونته : حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء ، والله جل وعلا يقول : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) البقرة /74 ، وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز ، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب ، ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار .
3-ومنها : عدم إتقان العبادات : ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها ، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار ، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة هذا إذا حافظ عليها ، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء والله سبحانه وتعالى : ( … لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي رقم 3479 وهو في السلسة الصحيحة 594 .(/1)
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان : التكاسل عن الطاعات والعبادات ، وإضاعتها ، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها ، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) النساء /142 . ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فقد يؤخر الحج وهو قادر ويتفارط الغزو وهو قاعد ، ويتأخر عن صلاة الجماعة ثم عن صلاة الجمعة وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ( لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يخلفهم الله في النار ) رواه أبو داود رقم : 679 وهو في صحيح الترغيب رقم 510 . ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة ، وكذا لو فاتته سنة راتبة أو وِرْد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته ، وكذا يتعمد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية ، فربما لا يشهد صلاة العيد ( مع قول بعض أهل العم بوجوب شهودها ) ولا يصلي الكسوف والخسوف ، ولا يهتم بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها ، فهو راغب عن الأجر ، مستغن عنه على النقيض ممن وصفهم الله بقوله : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) الأنبياء /90 .
ومن مظاهر التكاسل في الطاعات ، التكاسل عن فعل السنن الرواتب ، وقيام الليل ، والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل فمثلاً صلاة الضحى لا تخطر له ببال فضلاً عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة .
5- ومن المظاهر : ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به ، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء ، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، الإيمان بقوله : ( الإيمان : الصبر والسماحة ) السلسلة الصحيحة رقم 554 ، 2/86 . ووصف المؤمن بأنه : ( يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) السلسلة الصحيحة رقم 427 .
6- ومن مظاهر ضعف الإيمان : عدم التأثر بآيات القرآن ، لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة ، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن ، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه .
7- ومنها : الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى : فيثقل الذكر على الذاكر ، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله المنافقين بقوله : ( ولا يذكرون الله إلا قليلاً ) النساء /142 .
8- ومن مظاهر ضعف الإيمان : عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها } أي : دخلت فيه دخولاً تاماً { نكت فيه نكتة سوداء } أي : نقط فيه نقطة { حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث : ( أسود مربادا { بياض يسير يخالطه السواد } كالكوز مجخياً { مائلاً منكوساً } لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ) رواه مسلم رقم 144 . فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي . بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقره كما ذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة أنكرها - كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) رواه أبو داود رقم 4345 ، وهو في صحيح الجامع 689 . فهذا الرضا منه وهو - عمل قلبي - أورثه منزلة الشاهد في الإثم .
9- ومنها حب الظهور وهذا له صور منها :
- الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر ، وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ) ( قوله : نعم المرضعة أي أولها لأن معها المال والجاه واللذات ، وقوله : بئس الفاطمة أي : آخرها لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة ) رواه البخاري رقم 6729 . وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي ، أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل ) رواه الطبراني في الكبير 18/72 وهو في صحيح الجامع 1420 . ولو كان الأمر قياماً بالواجب وحملاً للمسؤولية في موضع لا يوجد من هو أفضل منه مع بذل الجهد والنصح والعدل كما فعل يوسف عليه السلام إذاً لقلنا أنعم وأكرم ، ولكن الأمر في كثير من الأحيان رغبة جامحة في الزعامة وتقدم على الأفضل وغمط أهل الحقوق حقوقهم واستئثار بمركز الأمر والنهي .(/2)
- محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له ، وصدور المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب - ) رواه البيهقي 2/439 وهو في صحيح الجامع 120 .
- محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يمثل } أي ينتصف ويقوم { له عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار ) رواه البخاري في الأدب المفرد 977 انظر السلة الصحيحة 357 . ولذلك لما خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير { وفي رواية : وكان أرزنهما } فقال معاوية لابن عامر : اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) رواه أبو داود رقم 5229 والبخاري في الأدب المفرد 977 وهو في السلسلة الصحيحة 357 . ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب لو طبقت السنة فبدئ باليمين ، وإذا دخل مجلساً فلا يرضى إلا بأن يقوم أحدهم ليجلس هو رغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله : ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) رواه البخاري فتح 11/62 .
10- ومنها : الشح والبخل ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ) رواه النسائي : المجتبي 6/13 وهو في صحيح الجامع 2678 . أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ) رواه أبو داود 2/324 وهو في صحيح الجامع رقم 2678 . وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب ، ولا أبلغ من كلام الله في هذا الشأن قال عز وجل : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) سورة محمد /38 .
11- ومنها : أن يقول الإنسان ما لا يفعل قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف /2،3 . ولا شك أن هذا نوع النفاق ، ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله مكروهاً عند الخلق ، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه ، وينهاهم عن المنكر ويأتيه .
12- ومنها : السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة ، فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت ، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه .
13- ومن مظاهر ضعف الإيمان : النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط وغض البصر عن فعل المكروه ، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر وإنما يسأل : هل هذا العمل يصل إلى الإثم أم لا؟ هل هو حرام أم أنه مكروه فقط ؟ وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في شرك الشبهات والمكروهات ، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يوماً ما ، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرماً ، وهذا عين ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .. ) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم رقم 1599 بل إن بعض الناس إذا استفتى في شيء وأخبر أنه محرم ، يسأل هل حرمته شديدة أو لا ؟! وكم الإثم المترتب عليه ؟ فمثل هذا لا يكون لديه اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات بل عنده استعداد لارتكاب أول مراتب الحرام ، واستهانة بمحقرات الذنوب مما ينتج عنه الاجتراء على محارم الله ، وزوال الحواجز بينه وبين المعصية ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً ) قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلهم لنا ، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال : ( أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ) رواه ابن ماجة رقم 4245 قال في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات وهو في صحيح الجامع 5028 .(/3)
فتجده يقع في المحرم دون تحفظ ولا تردد ، وهذا أسوأ من الذي يقع في الحرام بعد تردد وتحرج وكلا الشخصين على خطر ، ولكن الأول أسوأ من الثاني ، وهذا النوع من الناس يستسهل الذنوب نتيجة لضعف إيمانه ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن وحال المنافق بقوله : ( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا ) أي دفعه بيده . رواه البخاري فتح 11/102 ، وانظر تغليق التعليق 5/136 المكتب الإسلامي .
14- ومنها : احتقار المعروف ، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي جري الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله ؟ إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطاً ) مسند أحمد 5/63 وهو في السلسلة الصحيحة 1352 . فلو جاء يريد أن يستسقي من بئر وقد رفعت دلوك فأفرغته له ، فهذا العمل وإن كان ظاهره صغيراً لا ينبغي احتقاره ، وكذا لقيا الأخ بوجه طلق ، وإزالة القذر والأوساخ من المسجد ، وحتى ولو كان قشة فلعل هذا العمل يكون سبباً في مغفرة الذنوب ، والرب يشكر لعبده مثل هذه الأفعال فيغفر له ، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال : والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأًدخل الجنة ) رواه مسلم رقم 1914 .
إن النفس التي تحقر أعمال الخير اليسيرة فيه سوء وخلل ويكفي في عقوبة الاستهانة بالحسنات الصغيرة الحرمان من مزية عظيمة دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أماط أذى عن طريق المسلمين كتب له حسنة ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة ) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 593 وهو في السلسلة الصحيحة 5/387 . وكان معاذ رضي الله عنه يمشي ورجل معه فرفع حجراً من الطريق فقال { أي الرجل } ما هذا ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رفع حجراً من الطريق كتب له حسنة ومن كانت له حسنة دخل الجنة ) المعجم الكبير للطبراني 20/101 ، السلسلة الصحيحة 5/387 .
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة ، فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث ، فيكتفي بسلامة نفسه ، وهذا نتيجة ضعف الإيمان ، فإن المؤمن بخلاف ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس ) مسند أحمد 5/340 وهو في السلسلة الصحيحة 1137 .
16- ومن مظاهر ضعف الإيمان : انفصام عرى الأخوة بين المتآخيين ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب { وفي رواية : ففرق بينهما إلا بذنب } يحدثه أحدهما ) البخاري في الأدب المفرد رقم 401 وأحمد في المسند 2/68 وهو في السلسلة الصحيحة 637 . فهذا دليل على شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها ، فهذه الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين إخوانه أحياناً هي نتيجة لتدني الإيمان بسبب ارتكاب المعاصي لأن الله يسقط العاصي من قلوب عباده ، فيعيش بينهم أسوأ عيش ساقط القدر زري الحال لا حرمة له ، وكذلك يفوته رفقة المؤمنين ودفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا .
17- ومنها : عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا لدين ، فلا يسعى لنشره ولا يسعى لخدمته على النقيض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسئولية على الفور ، وهذا الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل ؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه ، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى، والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله عز وجل .
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقومون بما يترتب على الدخول في الدين من معاداة الكفار والبراءة منهم ومفاصلتهم ، فهذا ثمامة بن أثال رضي الله عنه - رئيس أهل اليمامة - لما أسر وجيء به فربط إلى المسجد وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم وذهب إلى العمرة فلما وصل مكة قال لكفار قريش : " لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري فتح 8/87 . فمفاصلته للكفار ومحاصرته لهم اقتصادياً وتقديم كافة الإمكانات المتاحة لخدمة الدعوة حصلت على الفور ، لأن إيمانه الجازم استوجب منه هذا العمل .(/4)
18- ومن مظاهره الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة فتراه مرتعد الفرائص ، مختل التوازن ، شارد الذهن ، شاخص البصر ، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية فتنغلق في عينيه المخارج وتركبه الهموم فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت ، وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه ، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً ، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات .
19- ومنها : كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب ، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل ) رواه أحمد في المسند 5/252 وهو في صحيح الجامع 5633 . فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم ، وما أكثر جدال الناس اليوم بالباطل يتجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويكفي دافعاً لترك الخصلة الذميمة قوله صلى الله عليه وسلم : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ) رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
20- ومنه : التعلق بالدنيا ، والشغف بها ، والاسترواح إليها ، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن ، ويعتبر نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره ، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا ، وقد يحسده ، ويتمنى زوال النعمة عنه ، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد ) . رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
21- ومنها : أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً لنص من القرآن أو السنة أو كلام السلف رحمهم الله .
22- ومنها : المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً ، فتجده يهتم بالكماليات اهتماماً بالغاً ، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من اللباس ويزوق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات ، وهي مما لا ضرورة له ولا حاجة - مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه الأموال - ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعيم والترفه المنهي عنه كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال : ( إياك والتنعيم ، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ) رواه أبو نعيم في الحلية 5/155 وهو في السلسلة الصحيحة 353 وعند أحمد بلفظ إياي : المسند 5/243 .
ثانياً : أسباب ضعف الإيمان
إن لضعف الإيمان أسباباً كثيرة ومنها ما هو مشترك مع الأعراض مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا وهذا ذكر لبعض الأسباب مضافاً إلى ما سبق : -
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس ، يقول الله عز وجل : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) الحديد /16 . فدلت الآية الكريمة على أن : طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في القلب ، فمثلاً : الشخص الذي يبتعد عن إخوانه في الله لفترة طويلة لسفر أو وظيفة ونحو ذلك فإنه يفتقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله ، ويستمد منه قوة قلبه والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه ، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( إخواننا أغلى عندنا من أهلينا فأهلونا يذكروننا الدنيا ، وإخواننا يذكروننا بالآخرة ) وهذا الابتعاد إذا استمر يخلف وحشة تقلب بعد حين إلى نفرة من تلك الأجواء الإيمانية ، يقسو على أثرها القلب ويظلم ، ويخبو فيه نور الإيمان . وهذا مما يفسر حدوث الانتكاسة لدى البعض في الإجازات التي يسافرون فيها أو عقب انتقالهم إلى أماكن أخرى للعمل أو الدراسة .
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة ، فالشخص الذي يتعلم على يدي رجل صالح يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح وقوة الإيمان ، يتعاهده ويحذيه مما عنده من العلم والأخلاق والفضائل ، لو ابتعد عنه فترة من الزمن فإن المتعلم يحس بقسوة في قلبه ، ولذلك لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووري التراب قال الصحابة : ( فأنكرنا قلوبنا ) ، وأصابتهم وحشة لأن المربي والمعلم والقدوة عليه الصلاة والسلام قد مات ، وجاء وصفهم أيضاً في بعض الآثار ( كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة ) ولكنه عليه الصلاة والسلام ترك فيمن ترك وراءه جبالاً كل منهم يصلح للخلافة وصار بعضهم لبعض قدوة ، أما اليوم فالمسلم في أشد الحاجة إلى قدوة يكون قريباً منه .(/5)
3- ومن الأسباب : الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية التي تحيي القلب ، فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان ، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه وعلى رأسها كتاب الله تعالى وكتب الحديث ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ والذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب ، مثل كتب العلامة ابن القيم وابن رجب وغيرهم ، والانقطاع عن مثل هذه الكتب مع الإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط أو كتب الأحكام المجردة عن الأدلة أو كتب اللغة والأصول مثلاً من الأشياء التي تورث أحياناً قسوة القلب ، وهذا ليس ذماً في كتب اللغة أو الأصول ونحوها بل هو تنبيه لمن أعرض عن كتب التفسير والحديث ، فلا تكاد تجده يقرأ فيها مع أنها هي الكتب التي تصل القلب بالله عز وجل فعندما تقرأ في الصحيحين ( مثلاً ) تشعر أنك تعيش في أجواء العصر الأول مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة ، وتتعرض لنفحات إيمانية ، من سيرتهم ، وحياتهم ، وتلك الأحداث التي جرت في عصرهم :
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه ، أنفاسه صحبوا
وهذا السبب - وهو الابتعاد عن الكتب الإيمانية - آثاره بادية على أولئك الذين يدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع وغيرها من الموضوعات التي صيغت بمعزل عن الإسلام ، وكذا من يعشق قراءة القصص الخيالية وقصص الحب والغرام وهواة تتبع الأخبار غير النافعة من الصحف والمجلات والمذكرات وغيرها من الاهتمام بها والمداومة على متابعتها .
4- ومنها : وجود الإنسان المسلم في وسط يعج بالمعاصي فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها وثالث يدخن ورابع يبسط مجلة ماجنة وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم وهكذا ، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة .
وبعض الأوساط لا تذكّر إلا بالدنيا كما هو الحال في كثير من مجالس الناس ومكاتبهم اليوم ، فأحاديث التجارة والوظيفة والأموال والاستثمارات ومشكلات العمل والعلاوات والترقيات والانتدابات وغيرها تحتل الصدارة في اهتمامات كثير من الناس وأحاديثهم .
وأما البيوت - فحدث ولا حرج - حيث الطامات والأمور المنكرات مما يندى له جبين المسلم وينصدع قلبه ، فالأغاني الماجنة ، والأفلام الساقطة ، والاختلاط المحرم وغير ذلك مما تمتلئ به بيوت المسلمين ، فمثل هذه البيئات تصاب فيها القلوب بالمرض وتصبح قاسية ولا شك .
5- ومنها : الإغراق في الاشتغال بالدنيا حتى يصبح القلب عبداً لها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ) رواه البخاري رقم 2730 . ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب ) رواه الطبراني في الكبير 4/78 وهو في صحيح الجامع 2384 . يعني الشيء اليسير الذي يبلغه المقصود . وهذه الظاهرة واضحة في هذه الأيام التي عم فيها الطمع المادي والجشع في الازدياد من حطام الدنيا وصار الناس يركضون وراء التجارات والصناعات والمساهمات وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل قال : إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب ) رواه أحمد 5/219 وهو ففي صحيح الجامع 1781 .(/6)
6- ومن الأسباب أيضاً : الانشغال بالمال والزوجة والأولاد ، يقول الله عز وجل : ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) الأنفال /28 . ويقول عز وجل : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) آل عمران /14 ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء وفي مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله فإنه مستقبح مذموم صاحبه ، أما إن كان حب ذلك على وجهه الشرعي المعين على طاعة الله فهو محمود صاحبه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ) رواه أحمد 3/128 وهو في صحيح الجامع 3124 . وكثير من الناس ينساق وراء الزوجة في المحرمات وينساق وراء الأولاد منشغلاً عن طاعة الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة ) رواه الطبراني في الكبير 24/241 وهو في صحيح الجامع 1990 . قوله مبخلة : إذا أراد الإنسان أن ينفق في سبيل الله ذكره الشيطان بأولاده فيقول : أولادي أحق بالمال أبقيه لهم يحتاجونه من بعدي فيبخل عن الإنفاق في سبيل الله ، وقوله : مجبنة أي إذا أراد الرجل أن يجاهد في سبيل الله يأتيه الشيطان فيقول تقتل وتموت فيصبح الأولاد ضياعاً يتامى ، فيقعد عن الخروج للجهاد ، وقوله : مجهلة أي يشغل الأب عن طلب العلم والسعي في تحصيله وحضور مجالسه وقراءة كتبه . وقوله : محزنة أي إذا مرض حزن عليه وإذا طلب الولد شيئاً لا يقدر عليه الأب حزن الأب ، وإذا كبر وعق أباه فذلك الحزن الدائم والهم اللازم .
وليس المقصود ترك الزواج والإنجاب ولا ترك تربية الأولاد ، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات .
وأما فتنة المال فيقول عليه الصلاة والسلام : ( إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ) رواه الترمذي 2336 وهو في صحيح الجامع 2148 . والحرص على المال أشد إفساداً للدين من الذئب الذي تسلط على زريبة غنم وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الترمذي رقم 2376 وهو في صحيح الجامع 5620 . ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الكفاية دون توسع يشغل عن ذكر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله ) رواه أحمد 5/290 وهو في صحيح الجامع 2386 . وقد تهدد النبي صلى الله عليه وسلم المكثرين من جمع الأموال إلا أهل الصدقات فقال : ( ويل للمكثرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا أربع عن يمينه وعن شماله ومن قدامه ومن ورائه ) رواه ابن ماجه رقم 4129 وهو في صحيح الجامع 7137 . يعني في أبواب الصدقة ووجوه البر .
7- طول الأمل : قال الله تعالى : ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) وقال علي رضي الله عنه : ( إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ) فتح الباري 11/236 . وجاء في الأثر : ( أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) " ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى : ( فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) وقيل : من قصر أمله قل همه وتنور قلبه لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة … " فتح الباري 11/237 .
8- ومن أسباب ضعف الإيمان وقسوة القلب : ( الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة ، فكثرة الأكل تبلد الذهن وتثقل البدن عن طاعة الرحمن وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان وكما قيل : " من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً وخسر أجراً كبيراً " فالإفراط في الكلام يقسي القلب ، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها ، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه 4193 وهو في صحيح الجامع . وكذلك الوقت الذي لا يملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان .
وأسباب ضعف الإيمان كثيرة ليس بالوسع حصرها ، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر منها ، والعاقل يدرك ذلك من نفسه ، نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويقينا شر أنفسنا .
ثالثاً : علاج ضعف الإيمان(/7)
روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فأسالوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) رواه الحاكم في المستدرك 1/4 وهو في السلسلة الصحيحة 1585 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/52 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن . يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديماً ، وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم وهذه الصورة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر ، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم ، إذ تجلت عنه فأضاء ) رواه أبو نعيم في الحلية 2/196 وهو في السلسلة الصحيحة 2268 . فالقمر تأتي عليه أحياناً سحابة تغطي ضوءه ، وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء ، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحب مظلمة من المعصية ، فتحجب نوره ، فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة ، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب ، وعاد نور قلبه يضيء كما كان .
ومن المرتكزات المهمة في فهم قضية ضعف الإيمان وتصور علاجها هو معرفة أن الإيمان يزيد وينقص وهذا من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة ، فإنهم يقولون أن الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالجنان ( أي القلب ) وعمل بالأركان ( أي الجوارح ) يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان ، وقد دلت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة فمنها قوله تعالى : ( ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ) وقوله : ( أيكم زادته هذه إيماناً ) وقوله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) البخاري فتح 1/51 . وأثر الطاعة والمعصية في الإيمان زيادة ونقصاناً أمر معلوم مشاهد ومجرب فلو أن شخصاً خرج يمشي في السوق ينظر إلى المتبرجات ويسمع صخب أهل السوق ولغوهم ثم خرج فذهب إلى المقبرة فدخلها فتفكر ورق قلبه فإنه يجد فرقاً بيناً بين الحالتين فإذا القلب يتغير بسرعة.
وعن علاقة المفهوم بموضوعنا يقول بعض السلف : " من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه ، وما ينقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه ؟ أو ينقص ؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه ؟ " شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/140 .
ومما ينبغي معرفته أن نقص الإيمان إذا أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم فهذا فتور خطير مذموم يجب عليه التوبة إلى الله والشروع في علاج نفسه أما إذا لم يؤد الفتور إلى ترك واجب أو فعل محرم وإنما كان تراجعاً في عمل مستحبات مثلاً فعلى صاحبه أن يسوس نفسه ويسدد ويقارب حتى يعود إلى نشاطه وقوته في العبادة وهذا مما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لكل عمل شرة - يعني نشاط وقوة - ولكل شرة فترة - يعني ضعف وفتور - فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك ) رواه أحمد 2/210 وهو في صحيح الترغيب رقم 55 .
وقبل الشروع في الكلام عن العلاج يحسن ذكر ملاحظة وهي : أن كثيراً من الذين يحسون بقسوة قلوبهم يبحثون عن علاجات خارجية يريدون الاعتماد فيها على الآخرين مع أن بمقدورهم - لو أرادوا - علاج أنفسهم بأنفسهم وهذا هو الأصل لأن الإيمان علاقة بين العبد وربه وفيما يلي ذكر عدد من الوسائل الشرعية التي يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل وتوطين النفس على المجاهدة : -
1- تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء ونوراً يهدي به سبحانه من شاء من عباده ، ولا شك أن فيه علاجاً عظيماً ودواء فعالاً قال الله عز وجل : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) أما طريقة العلاج فهي التفكر والتدبر .
( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائم بالليل ، حتى إنه في إحدى الليالي قام يردد آية واحدة من كتاب الله ، وهو يصلي لم يجاوزها حتى أصبح وهي قوله تعالى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } سورة المائدة /118 ) رواه أحمد 4/149 وفي صفة الصلاة للألباني ص : 102 .(/8)
وكان عليه الصلاة والسلام يتدبر القرآن وقد بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً ، روى ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن عطارة قال : دخلت أنا وعبيد الله بن عمير على عائشة رضي الله عنها ، فقال عبيد الله بن عمير : ( حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي - تعني يصلي - فقال : يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي ، قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض … } آل عمران /190 ) السلسلة الصحيحة 1/106 . وهذا يدل على وجوب تدبر هذه الآيات .
والقرآن فيه توحيد ووعد ووعيد وأحكام وأخبار وقصص وآداب وأخلاق وآثارها في النفس متنوعة وكذلك من السور ما يرهب النفس أكثر من سور أخرى ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب ) السلسلة الصحيحة 2/679 . وفي رواية (هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) رواه الترمذي 3297 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 955 . لقد شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة التي ملأت بثقلها قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فظهرت آثارها على شعره وجسده ، ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) .
وقد كان صحابته صلى الله عليه وسلم يقرأون ويتدبرون ويتأثرون وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً أسيفا رقيق القلب إذا صلّى بالناس وقرأ كلام الله لا يتمالك نفسه من البكاء ومرض عمر من أثر تلاوة قول الله تعالى : ( إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) الأثر بأسانيده في تفسير ابن كثير 7/406 . وسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ قول الله عن يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) مناقب عمر لابن الجوزي 167 . وقال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله ، وقتل شهيداً مظلوماً ودمه على مصحفه وأخبار الصحابة في هذا كثيرة ، وعن أيوب قال سمعت سعيداً - ابن جبير - يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً عشرين مرة ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) سير أعلام النبلاء 4/324 . وهي أخر آية نزلت من القرآن وتمامها ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) . وقال إبراهيم بن بشار : الآية التي مات فيها علي بن الفضيل : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ) في هذا الموضع مات وكنت فيمن صلّى عليه رحمه الله . سير أعلام النبلاء 4/446 . وحتى عند سجدات التلاوة كانت لهم مواقف فمنها قصة ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) الإسراء /109 . فسجد سجدة التلاوة ثم قال معاتباً نفسه : هذا السجود فأين البكاء ؟ .
ومن أعظم التدبر أمثال القرآن لأن الله سبحانه وتعالى لما ضرب لنا الأمثال في القرآن ندبنا إلى التفكر والتذكر فقال : ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) وقال : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
تفكر أحد السلف مرة في مثل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه فجعل يبكي ، فسئل ما يبكيك ؟ فقال : إن الله عز وجل يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) العنكبوت /43 . وأنا لم أعقل المثل ، فلست بعالم ، فأبكي على ضياع العلم مني .
وقد ضرب الله لنا في القرآن أمثلة كثيرة منها : مثل الذي استوقد ناراً ، ومثل الذي ينعق بما لا يسمع ، ومثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل ، ومثل الكلب الذي يلهث ، والحمار يحمل أسفاراً ، والذباب ، والعنكبوت ، ومثل الأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، ومثل الرماد الذي اشتدت به الريح ، والشجرة الطيبة ، والشجرة الخبيثة ، والماء النازل من السماء ومثل المشكاة التي فيها مصباح ، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، وغيرها ، والمقصود الرجوع إلى آيات الأمثال والاعتناء بها عناية خاصة .
ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن فيقول : " ملاك ذلك أمران : أحدهما : أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها ، وتدبر وفهم ما يراد منه ، وما نزل لأجله ، وأخذ نصيبك من كل آياته ، وتنزلها على داء قلبك ، فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله " .(/9)
2- استشعار عظمة الله عز وجل ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، والتدبر فيها ، وعقل معانيها ، واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب فهو ملكها وسيدها وهي بمثابة جنوده وأتباعه فإذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت .
والنصوص من الكتاب والسنة في عظمة الله كثيرة إذا تأملها المسلم ارتجف قلبه وتواضعت نفسه للعلي العظيم وخضعت أركانه للسميع العليم وازداد خشوعاً لرب الأولين والآخرين فمن ذلك ما جاء من أسمائه الكثيرة وصفاته سبحانه فهو العظيم المهيمن الجبار المتكبر القوي القهار الكبير المتعال ، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ، وهو القاهر فوق عباده ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، عزيز ذو انتقام ، قيوم لا ينام ، وسع كل شيء علماً ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وقد وصف سعة علمه بقوله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) الأنعام /59 . ومن عظمته ما أخبر عن نفسه بقوله: ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) الزمر/67 . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " رواه البخاري 6947 . ويتضعضع الفؤاد ويرجف القلب عند التأمل في قصة موسى عليه السلام لما قال : ( رب أرني أنظر إليك ) فقال الله : ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ) الأعراف/143 . ولما فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قرأها وقال بيده : ( هكذا - ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فساخ الجبل ) الحديث رواه الترمذي برقم 3074 وأحمد 3/125 ، 209 وساق ابن كثير طرق الحديث في تفسيره 3/466 ، قال ابن القيم : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وخرجه الألباني وصححه في تخريج السنة لابن أبي عاصم حديث 480 . والله سبحانه وتعالى : ( حجابه النور ، لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) رواه مسلم برقم 197 . ومن عظمة الله ما حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير) رواه البخاري 7043 . والنصوص في هذا كثيرة والمقصود أن استشعار عظمة الرب بالتأمل في هذه النصوص وغيرها من أنفع الأشياء في علاج ضعف الإيمان ويصف ابن القيم رحمه الله عظمة الله بكلام عذب جميل فيقول : ( يدبر أمر الممالك ويأمر وينهى ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويقلب الليل والنهار ، ويداول الأيام بين الناس ، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى ، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو ، قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً .. ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه ، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها ، فلا يشغله سمع عن سمع ، ولا تغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات ، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية .. ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ) يغفر ذنباً ، ويفرج هماً ، ويكشف كرباً ، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً ، ويهدي ضالاً ، ويرشد حيراناً ، ويغيث لهفاناً ، ويشبع جائعاً ، ويكسو عارياً ، ويشفي مريضاً ، ويعافي مبتلى ، ويقبل تائباً ، ويجزي محسناً ، وينصر مظلوماً ، ويقصم جباراً ، ويستر عورة ، ويؤمن روعة ، ويرفع أقواماً ، ويضع آخرين ... لو أن أهل سماواته وأهل أرضه ، وأول خلقه وأخرهم ، وإنسهم وجنهم ، كانوا على أتقى قلب رجل منهم ، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً ، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه ، وأول خلقه وأخرهم ، وإنسهم وجنهم ، وحيهم وميتهم ، ورطبهم ويابسهم ، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا منهم ما سأله ، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة .. هو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس دونه شيء ، تبارك وتعالى أحق من ذكر ، وأحق من عبد ، وأولى من شكر ، وارأف من ملك ، وأجود من سئل … هو الملك الذي لا شريك له ، والفرد فلا ند له ، والصمد فلا ولد له ، والعلي فلا شبيه له ، كل شيء هالك إلا وجهه ، وكل شيء زائل إلا ملكه .. لن يطاع إلا بأذنه ، ولن يعصى إلا بعلمه ، يطاع فيشكر ، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل ، وكل نعمة منه فضل ، أقرب شهيد ، وأدنى(/10)
حفيظ ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار ، وكتب الآجال ، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، عطاؤه كلام وعذابه كلام ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) الوابل الصيب ص : 125 بتصرف .
3- طلب العلم الشرعي : وهو العلم الذي يؤدي تحصيله إلى خشية الله وزيادة الإيمان به عز وجل كما قال الله تعالى : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) فلا يستوي في الإيمان الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فكيف يستوي من يعلم تفاصيل الشريعة ومعنى الشهادتين ومقتضياتهما وما بعد الموت من فتنة القبر وأهوال المحشر ومواقف القيامة ونعيم الجنة وعذاب النار وحكمة الشريعة في أحكام الحلال والحرام وتفصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من أنواع العلم كيف يستوي هذا في الإيمان ومن هو جاهل بالدين وأحكامه وما جاءت به الشريعة من أمور الغيب ، حظه من الدين التقليد وبضاعته من العلم مزجاة ، ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
4- لزوم حلق الذكر وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان لعدة أسباب منها ما يحصل فيها من ذكر الله ، وغشيان الرحمة ، ونزول السكينة ، وحف الملائكة للذاكرين ، وذكر الله لهم في الملأ الأعلى ، ومباهاته بهم الملائكة ، ومغفرته لذنوبهم ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) صحيح مسلم رقم 2700 . وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم : قوموا مغفوراً لكم ) صحيح الجامع 5507 . قال ابن حجر رحمه الله : ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم . فتح الباري 11/209 . ومما يدل على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال : لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال : قلت نافق حنظلة ، قال : سبحان الله ما تقول قال : قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات - يعني المعاش من مال أو حرفة أو صنعة - فنسينا كثيراً ، قال أبو بكر فو الله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذاك ) قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كانا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ) ثلاث مرات صحيح مسلم رقم 2750 .
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمونه إيماناً ، قال معاذ رضي الله عنه لرجل : ( اجلس بنا نؤمن ساعة ) إسناده صحيح : أربع مسائل في الإيمان ، تحقيق الألباني ص : 72 .
5- ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها، وهذا من أعظم أسباب العلاج وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان ظاهر كبير ، وقد ضرب الصديق في ذلك مثلاً عظيماً لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصحابه ( من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ قال أبو بكر أنا ، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا ، قال، فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ، قال أبو بكر أنا ، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب 1 حديث 12 .
فهذه القصة ، تدل على أن الصديق رضي الله عنه كان حريصاً على اغتنام الفرص ، وتنويع العبادات ولما وقع السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم مفاجئاً دل ذلك على أن أيام أبي بكر رضي الله عنه كانت حافلة بالطاعات ، وقد بلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها مبلغاً عظيماً ، ومثال ذلك عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف منهم حماد بن سلمة قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي : " لو قيل لحماد بن سلمة : أنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً " سير أعلام النبلاء 7/447.
وينبغي أن يراعي المسلم في مسألة الأعمال الصالحة أموراً منها :(/11)
المسارعة إليها لقوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ) وقال تعالى : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) ومدلول هذه الآيات كان محركاً للمسارعة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك في قصة غزوة بدر لما دنا المشركون قال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ) قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال : نعم قال : بخ بخ - كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يحملك على قولك بخ بخ ) قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها قال : فإنك من أهلها ، فاخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه لحياة طويلة قال : فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل . صحيح مسلم 1901 . ومن قبل أسرع موسى للقاء الله وقال : ( وعجلت إليك ربي لترضى ) وامتدح الله زكريا وأهله فقال : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التؤدة في كل شيء - وفي رواية خير - إلا في عمل الآخرة ) رواه أبو داود في سننه 5/157 وهو في صحيح الجامع 3009 .
الاستمرار عليها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن ربه في الحديث القدسي : ( ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) صحيح البخاري 6137 . وكلمة ( ما يزال ) تفيد الاستمرارية ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تابعوا الحج والعمرة ) رواه الترمذي رقم 810 وهو في السلسلة الصحيحة 1200 . والمتابعة تعني كذلك الاستمرار وهذا المبدأ مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن ، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع . والمداومة على الأعمال الصالحة تقوي الإيمان وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ( أدومها وإن قل ) رواه البخاري فتح11/194. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا عمل عملاً أثبته . رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب 18 حديث 141 .
الاجتهاد فيها : إن علاج قسوة القلب لا يصلح أن يكون علاجاً مؤقتاً يتحسن فيه الإيمان فترة من الوقت ثم يعود إلى الضعف بل ينبغي أن يكون نهوضاً متواصلاً بالإيمان وهذا لن يكون إلا بالاجتهاد في العبادة . وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحولاً عدة فمنها : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ) . وقال الله تعالى عنهم : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . والاطلاع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين شيء يبعث على الإعجاب ويقود إلى الاقتداء فمن ذلك أنه كان لهم سُبُع من القرآن يختمونه كل يوم وكانوا يقومون الليل في الغزو والقتال ويذكرون الله ويتهجدون ، حتى في السجن ، يصفون أقدامهم ، تسيل دموعهم على خدودهم ، يتفكرون في خلق السموات والأرض ، يخادع أحدهم زوجته كما تخادع المرأة صبيها ، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام ، يقسمون الليل على أنفسهم وأهليهم ونهارهم في الصيام والتعلم والتعليم واتباع الجنائز وعيادة المرضى وقضاء حوائج الناس تمر على بعضهم السنون لا تفوتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام ينتظرون الصلاة بعد الصلاة يتفقد أحدهم عيال أخيه بعد موته سنوات ينفق عليهم ، ومن هذا حاله فإيمانه في ازدياد .(/12)
عدم إملال النفس : ليس المقصود من المداومة على العبادات أو الاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادات ما يطيق ويسدد ويقارب وينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقصد عند الفتور ، ويدل على هذه التصورات مجموعة من الأحاديث منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا .. ) صحيح البخاري 39 . وفي رواية : ( والقصد القصد تبلغوا ) صحيح البخاري 6099 ، وقال البخاري رحمه الله باب ما يكره من التشديد في العبادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ( ما هذا الحبل ) قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ) صحيح البخاري 1099 . ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً نهاه عن ذلك وبين السبب بقوله : ( فإنك إذا فعلت هجمت عينك - يعني غارت أو ضعفت لكثرة السهر - ونفهت نفسك - يعني كلت ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل ) رواه البخاري ، فتح 3/38 .
استدراك ما فات منها : فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نام عن حزبه من الليل ، أو شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه من الليل ) رواه النسائي وغيره ، والمجتبي : 2/68 ، صحيح الجامع 1228 . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها وكان إذا فاته القيام من الليل غلبته عيناه بنوم أو وجع صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار ) رواه أحمد 6/95 . ولما رأته أم سلمة رضي الله عنها يصلي ركعتين بعد العصر وسألته أجابها عليه الصلاة والسلام بقوله : ( يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ) رواه البخاري فتح 3/105 . ( وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده ) رواه الترمذي رقم 427 وصحيح سنن الترمذي رقم 350 . ( وكان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الظهر ) صحيح الجامع 4759 . فهذا الأحاديث تدل على قضاء السنن الرواتب ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان أولها : أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض " أي رمضان " تهذيب سنن أبي داود 3/318 ، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً . فتح الباري 4/285 .
رجاء القبول مع الخوف من عدم القبول ، وبعد الاجتهاد في الطاعات ، ينبغي الخوف من ردها على صاحبها ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) قالت عائشة : هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : ( لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات ) رواه الترمذي 3175 وهو في السلسلة الصحيحة 1/162 . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : " لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) تفسير ابن كثير 3/67 . ومن صفات المؤمنين احتقار النفس أمام الواجب من حق الله تعالى : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة ) رواه الإمام أحمد ، المسند 4/185 وهو في صحيح الجامع 5249 . فمن عرف الله وعرف النفس يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفي ولو جاء بعمل الثقلين ، إنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله .(/13)
6- تنويع العبادات : من رحمة الله وحكمته أن نوع علينا العبادات فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة ومنها ما يكون بالمال كالزكاة ومنها ما يكون بهما معاً كالحج ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة والفرائض تتنوع وكذلك السنن مثل الصلاة فيها رواتب ثنتي عشرة ركعة في اليوم ومنها ما هو أقل منزلة كالأربع قبل العصر وصلاة الضحى ومنها ما هو أعلى كصلاة الليل وهو كيفيات متعددة منها مثنى مثنى أو أربع ثم أربع ثم يوتر ومنها خمس أو سبع أو تسع بتشهد واحد ، وهكذا من يتتبع العبادات يجد تنويعاً عظيماً في الأعداد والأوقات والهيئات والصفات والأحكام ولعل من الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد، ثم إن النفس ليست متماثلة في انجذابها وإمكاناتها وقد تستلذ بعض النفوس بعبادات أكثر من غيرها ، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ) رواه البخاري رقم 1798 . والمقصود المكثرون من أصحاب النوافل في كل عبادة أما الفرائض فلا بد من تأديتها للجميع ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الوالد أوسط أبواب الجنة ) رواه الترمذي رقم 1900 وهو في صحيح الجامع 7145 . أي بر الوالدين ، يمكن الاستفادة من هذا التنوع في علاج ضعف الإيمان والاستكثار من العبادات التي تميل إليها النفس مع المحافظة على الفرائض والواجبات التي أمر الله بها ، وهذا ويمكن للمرء المسلم إذا استعرض نصوص العبادات أن يجد أنواعاً فريدة لها آثار ومعان لطيفة في النفس قد لا توجد في غيرها وهذان مثالان :
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يشنؤهم الله - أي يبغضهم - أما الثلاثة الذين يحبهم الله الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه ، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن ) مسند أحمد 5/151 وهو في صحيح الجامع 3074 .
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال له صلى الله عليه وسلم : ( أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ أرحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك وتدرك حاجتك ) الحديث رواه الطبراني وله شواهد ، انظر السلسلة الصحيحة 2/533 . وهذا شاهد مباشر لموضوع علاج ضعف الإيمان .(/14)
7- ومن علاجات ضعف الإيمان : الخوف من سوء الخاتمة ، لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب ، أما سوء الخاتمة فأسبابها كثيرة منها : ضعف الإيمان والانهماك في المعاصي وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك صوراً مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ - أي يطعن - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه - أي يشربه في تمهل ويتجرعه- في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) صحيح مسلم رقم 109 . وقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم وقائع من هذا فمنها قصة الرجل الذي كان مع عسكر المسلمين يقاتل الكفار قتالاً لم يقاتله أحد مثله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما إنه من أهل النار ) فتتبعه رجل من المسلمين فأصاب الرجل جرح شديد فاستعجل الموت فوضع سيفه بين ثديه واتكأ عليه فقتل نفسه . القصة في صحيح البخاري ، فتح 7/471 . وأحوال الناس في سوء الخاتمة كثيرة سطر أهل العلم عدداً منها ، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب " الداء والدواء " أنه قيل لبعضهم عند موته قل لا إله إلا الله فقال : لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ، وقيل لتاجر - ممن ألهته تجارته عن ذكر الله - لما حضرته الوفاة قل لا إله إلا الله فجعل يقول هذه قطعة جيدة هذه على قدرك هذه مشتراها رخيص حتى مات . طريق الهجرتين ص : 308 ، ويروى أن بعض جنود الملك الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له : قل لا إله إلا الله فقال : الناصر مولاي فأعاد عليه القول وأبوه يكرر الناصر مولاي ، الناصر مولاي ثم مات ، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا ، وقيل لأحد المرابين عند موته قل لا إله إلا الله فجعل يقول عشرة بأحد عشر يكررها حتى مات . الداء والدواء ص : 170 ، 289 . وبعضهم قد يسود لونه أو يتحول عن القبلة وقال ابن الجوزي رحمه الله لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة خير وهو يقول في ليالي موته " ربي هو ذا يظلمني " - تعالى الله عن قوله- فاتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت ثم قال ابن الجوزي رحمه الله : فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها هذا اليوم . صيد الخواطر 137 . وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً ؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم . الداء والدواء 171 .
8- الإكثار من ذكر الموت : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هانم اللذات يعني الموت ) رواه الترمذي رقم 2307 وهو في صحيح الجامع 1210 . وتذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ولا يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ومن أعظم ما يذكر بالموت زيارة القبور ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارتها فقال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هجراً ) رواه الحاكم 1/376 وهو في صحيح الجامع 4584 . بل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم : ( زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم 3/65. فزيارة القبور من أعظم وسائل ترقيق القلوب وينتفع الزائر بذكر الموت وكذلك ينتفع الموتى بالدعاء لهم ومما ورد في السنة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) رواه مسلم رقم 974 . وينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ويقصد بزيارته وجه الله وإصلاح فساد قلبه ثم يعتبر بمن صار تحت التراب وانقطع عن الأهل والأحباب فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم ومحا التراب محاسن وجوههم وافترقت في القبور أجزاؤهم وترمل بعدهم نساؤهم وشمل ذل اليتم أولادهم وليتذكر آفة الانخداع بالأسباب والركون إلى الصحة والشباب والميل إلى اللهو واللعب وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليتفكر في حال الميت كيف تهدمت رجلاه ، وسالت عيناه ، وأكل الدود لسانه ، وأبلى التراب أسنانه . التذكرة للقرطبي ص : 16 وما بعدها بتصرف .
يا من يصيح إلى داعي الشقاء وقد ******** نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ****** في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ********* لم يهده الهاديان العين والأثر(/15)
لا الدهر يبقي ولا الدنيا ولا الفلك ******** الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ************* فراقها الثاويان البدو والحضر
الأبيات لعبد الله بن محمد الأندلسي الشنتريني : تفسير ابن كثير 5/436 .
ومن أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة ، ومما يؤثر في النفس من مشاهد الموت رؤية المحتضرين فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويمنع الأجفان من النوم والأبدان من الراحة ويبعث على العمل ويزيد في الاجتهاد . دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه وشدة وما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم والله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه . التذكرة 17 .
ومن تمام الشعور بالموت الصلاة على الجنازة ، وحملها على الأعناق والذهاب بها إلى المقبرة ودفن الميت ، ومواراة التراب عليه وهذا يذكر بالآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة ) رواه أحمد 3/48 وهو في صحيح الجامع 4109 . وبالإضافة إلى ذلك فإن في اتباع الجنازة أجراً عظيماً ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( من شهد الجنازة من بيتها - وفي رواية : من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً - حتى يصل عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان من الأجر ) قيل يا رسول الله وما القيراطان قال : ( مثل الجبلين العظيمين ) ( وفي رواية كل قيراط مثل أحد ) . رواه الشيخان وغيرها والسياق مجموع من الروايات : أحكام الجنائز للألباني ص : 67 .
وكان السلف رحمهم الله يذكرون الموت عند نصح رجل يواقع معصية ، فهذا أحد السلف رحمه الله وكان في مجلسه رجل ذكر آخر بغيبة فقال واعظاً الذي يغتاب : " اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك " أي عند التكفين .
9- ومن الأمور التي تجدد الإيمان بالقلب : تذكر منازل الآخرة ، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب ، يبصر به الوعد والوعيد ، والجنة والنار ، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه ، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق ، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم ، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء ، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ، وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف ، واجتمعت الخصوم ، وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب ، وكثرة العطاش ، وقل الوارد ، ونصب الجسر للعبور ، ولز الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضاً تحته ، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين ، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة أنقضائها . مدارج السالكين 1/123 . والقرآن العظيم فيه ذكر كثير لمشاهد اليوم الآخر في سورة ق والواقعة والقيامة والمرسلات والنبأ والمطففين والتكوير ، وكذلك في مصنفات الحديث مذكورة فيها تحت أبواب مثل القيامة ، والرقاق ، والجنة ، والنار ومن المهم كذلك في هذا الجانب قراءة كتب أهل العلم المفردة لهذا الغرض مثل حادي الأرواح لابن القيم ، والنهاية في الفتن والملاحم لابن كثير ، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ، والقيامة الكبرى والجنة والنار لعمر الأشقر وغيرها ، والمقصود أن مما يزيد الإيمان العلم بمشاهد القيامة كالبعث والنشور ، والحشر ، والشفاعة ، والحساب ، والجزاء ، والقصاص ، والميزان ، والحوض ، والصراط ، ودار القرار ، والجنة أو النار .(/16)
10- ومن الأمور التي تجدد الإيمان : التفاعل مع الآيات الكونية روى البخاري ومسلم وغيرهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه ) فقالت عائشة : يا رسول الله ، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ، فقال : ( يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : ( هذا عارض ممطرنا ) رواه مسلم 899 . وكان صلى الله عليه وسلم يقوم فزعاً إذا رأى الكسوف كما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال : ( خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة ) . فتح الباري 2/545 . وأمرنا عليه الصلاة والسلام عند الكسوف والخسوف أن نفزع إلى الصلاة وأخبر أنهما من آيات الله التي يخوف بها عباده ، ولا شك أن تفاعل القلب مع هذه الظواهر والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويذكر بعذاب الله ، وبطشه ، وعظمته ، وقوته ، ونقمته ، وقالت عائشة : ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشار إلى القمر فقال : يا عائشة : استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ) رواه أحمد 6/237 وهو في السلسلة الصحيحة . ومن أمثلة ذلك أيضاً : التأثر عند المرور بمواضع الخسف والعذاب وقبور الظالمين ، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصلوا الحجر : ( لا تدخلوا عليهم هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ) رواه البخاري رقم 423 . هذا والناس اليوم يذهبون إليها للسياحة والتصوير فتأمل !!.
11- ومن الأمور بالغة الأهمية في علاج ضعف الإيمان ذكر الله تعالى وهو جلاء القلوب وشفاؤها ، ودواؤها عند اعتلالها ، وهو روح الأعمال الصالحة وقد أمر الله به فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) ووعد بالفلاح من أكثر منه فقال : ( واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) وذكر الله أكبر من كل شيء قال الله تعالى : ( ولذكر الله أكبر ) وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شرائع الإسلام فقال له : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) رواه الترمذي 3375 وقال حديث حسن غريب وهو في صحيح الكلم 3 . وهو مرضاة للرحمن مطردة للشيطان مزيل للهم والغم وجالب للرزق فاتح لأبواب المعرفة وهو غراس الجنة وسبب لترك آفات اللسان ، وهو سلوة أحزان الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فعوضهم الله بالذكر الذي ينوب عن الطاعات البدنية والمالية ويقوم مقامها ، وترك ذكر الله من أسباب قسوة القلب :
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم *********** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم******* وليس لهم حتى النشور نشور
ولذلك لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله قال تعالى : ( واذكر ربك إذا نسيت ) . وقال الله تعالى مبيناً أثر الذكر على القلب : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد /28 . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن العلاج بالذكر : " في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وقال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل و " الذكر شفاء القلب ودواؤه ، والغفلة مرضه وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى قال مكحول ذكر الله تعالى شفاء ، وذكر الناس داء " الوابل الصيب رافع الكلم الطيب 142 .
وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان . قال بعض السلف : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإذا دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين - أي يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يتقرب من قلب المؤمن - فيقولون ما لهذا ، فيقال : قد مسه الإنسي ! مدارج السالكين 2/424 . وأكثر الناس الذين تمسهم الشياطين هم من أهل الغفلة الذين لم يتحصنوا بالأوراد والأذكار ، ولذلك سهل تلبس الشياطين بهم .(/17)
وبعض الذين يشكون من ضعف الإيمان تثقل عليهم بعض وسائل العلاج كقيام الليل والنوافل فيكون من المناسب لهم البدء بهذا العلاج والحرص عليه فيحفظون من الأذكار المطلقة ما يرددونه باستمرار مثل : " لا إله إلا الله لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " و " سبحان الله وبحمده ، وسبحان الله العظيم " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " وغيرها ، ويحفظون كذلك من الأذكار المقيدة التي جاءت في السنة ما يرددونه إذا حان وقته زماناً أو مكاناً مثل أذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ والرؤى والأحلام والأكل والخلاء والسفر والمطر والأذان والمسجد والاستخارة والمصيبة والمقابر والريح ورؤية الهلال وركوب الدابة والسلام والعطاس وصياح الديكة والنهيق والنباح وكفارة المجلس ورؤية أهل البلاء وغيرها ، ولا ريب أن من حافظ على هذه سيجد الأثر مباشراً في قلبه . لشيخ الإسلام ابن تيمة رسالة مفيدة في الأذكار اسماها الكلم الطيب اختصرها الألباني باسم صحيح الكلم الطيب .
12- ومن الأمور التي تجدد الإيمان مناجاة الله والانكسار بين يديه عز وجل ، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعاً كان إلى الله أقرب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) رواه مسلم 482 . لأن حال السجود فيها ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات والأوضاع ، فلما ألزق العبد جبهته في الأرض - وهي أعلى شيء فيه - صار أقرب ما يكون من ربه . يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل بلسان الذلة والانكسار للتائب بين يدي الله : " فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني ، أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك عني وفقري إليك ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المساكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه " فعندما يأتي العبد بمثل هذه الكلمات مناجياً ربه فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة .
وكذلك إظهار الافتقار إلى الله مما يقوي الإيمان والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بفقرنا إليه وحاجتنا له فقال سبحانه : ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) فاطر/15 .
13- قصر الأمل : وهذا مهم جداً في تجديد الإيمان ، يقول ابن القيم رحمه الله : " ومن أعظم ما فيها هذه الآية ( أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) الشعراء /205 ( كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) فهذه كل الدنيا فلا يطول الإنسان الأمل ، يقول : سأعيش وسأعيش ، قال بعض السلف لرجل صلّي بنا الظهر ، فقال الرجل : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر ، فقال : وكأنك تؤمل أن تعيش لصلاة العصر ، نعوذ بالله من طول الأمل .
14- التفكر في حقارة الدنيا حتى يزول التعلق بها من قلب العبد قال الله تعالى : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً ، فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه ، قد علم إلى ما يصير ) رواه الطبراني في الكبير 1/198 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 382 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو علماً أو متعلماً ) رواه ابن ماجه رقم 4112 وهو في صحيح الترغيب والترهيب رقم 71 .
15- ومن الأمور المجددة للإيمان في القلب : تعظيم حرمات الله ، يقول الله تعالى : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) الحج/32 . وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى ، وقد تكون في الأشخاص وقد تكون في الأمكنة وقد تكون في الأزمنة، فمن تعظيم حرمات الله في الأشخاص القيام بحق الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ، ومن تعظيم شعائر الله في الأمكنة تعظيم الحرم مثلاً ، ومن تعظيم شعائر الله في الأزمنة تعظيم شهر رمضان مثلاً : ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) الحج/30 ، ومن التعظيم لحرمات الله عدم احتقار الصغائر وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها . رواه أحمد 1/402 وهو في السلسلة الصحيحة 389.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(/18)
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : " كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها هينة وهي تقدح في الأصول ، مثل إطلاق البصر في المحرمات ، وكاستعارة بعض طلاب العلم جزءاً لا يردونه ) وقال بعض السلف : " تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف " وهذا من تواضعه رحمه الله .
16- ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب : الولاء والبراء أي موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ، وذلك أن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً وتذوى معاني العقيدة فيه ، فإذا جرد الولاء لله فوالي عباد الله المؤمنين وناصرهم ، وعادى أعداء الله ومقتهم فإنه يحيى بالإيمان .
17- وللتواضع دور فعال في تجديد الإيمان وجلاء القلب من صدأ الكبر ، لأن التواضع في الكلام والمظهر دال على تواضع القلب الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( البذاذة من الإيمان ) رواه ابن ماجه 4118 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 341 ومعناه أراد التواضع في الهيئة واللباس انظر النهاية لابن الأثير 1/110 . وقال أيضاً : من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ) رواه الترمذي رقم 2481 وهو في السلسلة الصحيحة 718 . وقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله لا يعرف من بين عبيده .
18- وهناك أعمال للقلوب ، مهمة في تجديد الإيمان مثل محبة الله والخوف منه ورجائه وحسن الظن به والتوكل عليه ، والرضا به وبقضائه ، والشكر له والصدق معه واليقين به ، والثقة به سبحانه ، والتوبة إليه وما سوى ذلك من الأعمال القلبية .
وهناك مقامات ينبغي على العبد الوصول إليها لاستكمال العلاج كالاستقامة والإنابة والتذكر والاعتصام بالكتاب والسنة والخشوع والزهد والورع والمراقبة وقد أفاض في هذه المقامات ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين .
19- ومحاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان يقول جل وعلا : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) الحشر /18 وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " ويقول الحسن لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه، وقال ميمون بن مهران إن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح .
وقال ابن القيم رحمه الله : وهلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها .
فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلو فيه بنفسه فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها ، وماذا قدم من الزاد ليوم المعاد .
20- وختاماً فإن دعاء الله عز وجل من أقوى الأسباب التي ينبغي على العبد أن يبذلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/19)
عائدون إلى ربهم ... ...
د. عائض القرني ... ...
عائدون إلى ربهم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم تسليماً، وبعد:
فأخبار التائبين شائقة، وقصصهم رائقة، لأنها تروي لنا حياة البؤس والنعيم، والشقاوة والسعادة، والمخافة والأمن، والقلق والسكينة.
ما ذرّ شارق ولا لمع بارق غلا وعاد إلى الله صادق، وما أفل غارب ولا طرق نجم ثاقب إلا وأناب إلى الله تائب.
التائب منكسر القلب، عزير الدمعة، حي الوجدان، قلق الأحشاء...
التائب صادق العبارة، جم المشاعر، جيّاش الفؤاد، مشبوب الضمير...
التائب خليٌّ من العجب، فقير من الكبر، مقلّ من الدعاوي...
التائب بين الرجاء والخوف، والسلامة والعطب، والنجاة والهلاك...
التائب في قلبه حرقة، وفي وجدانه لوعة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسرار...
التائب يعرف الهجر والوصال، واللقاء والفراق، والإقبال والإعراض.
التائب له في كل واقعة عبرة، فالحمام إذا غرّد بكى، والطير إذا صاح ناح، والبلبل إذا شدا تذكّر، والبرق إذا لمع اهتز..
التائب يجد للطاعة حلاوة، وللعبادة طلاوة، وللإيمان طعماً، وللإقبال لذة...
التائب يكتب من الدموع قصصاً، وينظم من الآهات أبياتاً، ويؤلف من البكاء خطباً..
التائب كالأم اختلست طفلها من يد الأعداء.. وكالغائص في البحر نجا من اللجّة إلى الشاطىء.. وكالعقيم بشِّر بابن، وكالرجل البارز للإعدام عفى عنه.
التائب أعتق رقبته من أسر الهوى، وأطلق قلبه من سجن المعصية، وفك روحه من شباك الجريمة، وأخرج نفسه من كير الخطيئة.
التائب طالطائر الجريح لا يختال، وكالقمر الكاسف لا يتكلّم، وكالنجم الغابر في الغيهب لا يصيح.
وهذه بعض قصص التائبين كتبتها لمن تاب وأناب، ولمن عزم على التوبة، ولمن فكر في أن يتوب، ولمن أعرض عن التوبة، فعسى أن تنفع الجميع.
1. جندي عرف الله: حدثني هذا الرجل بقصته يوم تاب إلى الله تبارك وتعالى، إنها قصة عجيبة، إنها قصة الإنسان يوم يعيش حياتين وفترتين ومرحلتين.. يوم يعيش الظلام والنور.. الهدى والضلال.. الحفظ والضياع.. هذا الرجل لا أذكر اسمه، وهو مشهور بين أهل بلده بعبادته وبكائه وخشوعه وتلاوته، يحدّثك عن قصة عودته إلى ربه وعيناه تذرفان.
كان جندياً بإحدى المدن يحمل بندقيته في حراسة متقطعة، وكان في تلك الفترة قوي البنية، لكنه ميت القلب.. ريّان الشباب، لكنه مفلس الإرادة، عملاق الجسم، لكنه هزيل الإيمان.
أخبرني أنه كان لا يسجد لله سجدة، لا يعرف الصلاة، وما هي الصلاة، وما قيمة الصلاة، لا يدخل المسجد، إلا مجاملة إذا اضطر إلى ذلك مصانعة للناس ومراءاة لهم.
كان معروضاً تماماً عن الله عز وجل: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه مِنْ بعد الله أفلا تذكّرون " .( الجاثية: الآية 23)
قال لي بأنه كان يستهزىء بالدين الإسلامي، لا يحب الصلاح والصالحين.. إذا دعي إلى الله تعالى ردّد كلمته المشهورة: " كفر صراح ولا دين مخشخش "!
كان لا يغتسل من الجنابة، وربما يضطر لمصانعة الناس فيدخل المسجد بجنابته ليصلي، لا يعرف الوضوء، لأن القلب في سباتٍ عميق، وفي غمرة هائلة، يقف في نوبته فيشعل السيجارة من السيجارة.
أطلق لقلبه الهيام في أودية المعاصي والشهوات، وأطلق لعينه النظر إلى الحرام، وأطلق لسمعه التلذذ بالغناء الفاحش، وأطلق لجوارحه العبث بالقيم والمبادىء، يرى الفتاة فيتابعها بعينيه اللتين كأنهما رصاصتان.
أما ليله فمع ثلة من الشباب الحيران الضائع، يسهر معهم في المجون، في البذاءة، في الهيام والغواية، فإذا زاره النوم رمى بجثمانه على الأرض كالجثة الهامدة حتى يدعي لنوبته، ينام بلا طهارة، بلا صلاة، بلا قرآن، بلا ذكر.. ينام نومة الهائم الضّال الذي ما عرف الطريق.
كان ينفر من السنن، ومن أهلها الملتزمين بها، يرى أن الدين مسخرة، والتمسك به تخلّف ورجعية، وأن قضايا الدين عتيقة، أكل عليها الدهر وشرب.
كره الصالحين والأخيار، لا لشيء، إلا لأنهم متدينون صادقون.. بينه وبين والديه ما يقارب ثلاثمائة ميل، لكنه هجرهم وقاطعهم، ومن قطع حبله مع الله فحري به أن يقطعه مع الناس.
ومضت الأيام، والليالي، والساعات، والدقائق، يملؤها باللهو واللعب، ويحشوها بالمجون والاستهتار.
وأرسل الله تعالى إلى تلك البلدة بداعية عملاق، داعية مؤثر جد مؤثر، شيخ علم ورجل فضل، خطيب مصقع، ومتكلم قدير، وقد مات قبل سنوات رحمه الله، ولم تذكره الكتب، ولكن ذكرته القلوب، ولم تتكلم عنه الصحف، ولكن تكلمت عنه العيون بدموعها.(/1)
كان هذا الداعية إذا تكلم تسابقت دموعه وكلماته، يقول أحد الصالحين: رأيت في المنام كأني دخلت سوقاً قد احتشد فيه الناس، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قائم خطيباً في هذا السوق، وبكى في أثناء خطبته- بأبي هو أمي- فأغمي على بعض الناس من كثرة التأثر حتى رشوا بالماء، قال: وفي الصباح نزلت إلى سوق البلدة، فلما اجتمع الناس قام هذا الداعية يعظ، فارتفع صوته بالوعظ والبكاء حتى رأيت بعض الناس يسقطون في الشمس من التأثر، ويرشون بالماء، فكان هذا تأويل رؤياي من قبل.
هذا الداعية زار بلدة هذا الجندي، فدخل مسجداً صغيراً بجانب الإدارة التي يعمل بها هذا الرجل.
كان الجندي في حراسته بجانب المسجد، وقام الداعية بعد الصلاة، فتكلم، وسافر بالقلوب في رحلة إلى الدار الآخرة، تكلم، ولكنه أسر الأرواح، فأصحبت في يديه، فإمّا مناً بعد وإما فداءً، وأنصت الجندي بأذنيه لكلام الشيخ، وكان الشيخ يشرح قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظرْ نفسٌ ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ". ( الحشر: الآية 18)
وأفاض الداعية في ذكر الآخرة، وما فيها من عجائب وأهوال، وتحدث عن الجنة وعن النار، وسلم الجندي قلبه للداعية ليصله بالله عز وجل.
يقول الجندي عن نفسه: لقد أصبحت في حالة تشبه الذهول لا أدري أين أنا، لقد فقدت قوتي على القيام، فجلست على الأرض، وأتاني من البكاء ما الله به عليم.
لقد خاطب هذا الداعية الفطرة المودعة في هذا الرجل، فطرة الإيمان والتوحيد: " فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " . ( الروم: الآية 30)
لقد تذكر هذا الجندي أيامه السوداء البائسة، وتذكر وقوفه بين يدي ربه تبارك وتعالى، في يوم العرض الأكبر: " يؤمئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية " ( الحاقة: الآية 18)، حينها استفاق قلبه، واستيقظ إيمانه، وغلى وجدانه.
لا إله إلا الله، ما أقوى هذا الدين إذا تغلغل في الأرواح، ولا إله إلا الله، ما أنفذ سلطان التوحيد إذ تملك القلوب ؟
انتهى الواعظ من موعظته، ولكن هذا المذنب النادم لم ينته من بكائه ولن ينتهي، ولماذا ينتهي ؟
وجاءه زملاؤه يهرعون إليه، وهو في غيبوبة البكاء، ما لك يا فلان ؟ ما لك يا فلان ؟ ما لك يا فلان ؟ ماذا أصابك ؟... سلامتك..!! وما ردّ عليهم إلا بالبكاء.
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ
تبين منْ بكى مِمَّنْ تباكي
أخذوا سلاحه من يديه، وقام يتوكأ على زميله، ودخل غرفته يواصل نحيبه وحسرته، وفجأة انفجر كالبركان يعلن توبته أمام الله تعالى.. أتوب إلى الله، أستغفر الله.. يا رب تبت إليك.. غفرانك.. رحمتك يا رب..
" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ". ( الزمر: الآية 53)
ذهب فاغتسل من الجنابة وخلع ملابسه ولبس ملابس أخرى نقية طاهرة، واستهل أول حياته- حياة الإيمان- بصلاة المغرب، " أو مَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كَمَنْ مَّثله في الظلمات ليس بخارج منها ". ( الأنعام: الآية 122)
ولما انتهت صلاة المغرب ذهب التائب مع الشيخ الداعية إلى بيت مجاور للمسجد، ولما طاب المجلس اقترب صاحبنا من الشيخ وقصّ عليه قصة حياته: قصة الضياع، قصة الحرمان، قصة عدم المبالاة.
فانطلق الداعية الحكيم يصف له طريق الهداية، وسبيل السعادة، ويعلمه بمبادىء أمور الإسلام، وسنن الصلاة، وطلب من بعض الحاضرين تعليم هذا التائب كتاب الله عز وجل تجويداً وتلاوةً وحفظاً وعملاً.
قال لي هذا التائب: والله، ما نمت تلك الليلة من فرحي بالهداية والإقبال على الله، " أفمن شرح الله صدرَه للإسلام فهو على نورٍ مِن ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله ". ( الزمر: الآية 22)
واستمر هذا المقبل يعيش حياة الإيمان، وتالله لقد قال لي: حفظت القرآن في أربعة أشهر فحسب عن ظهر قلب.
لقد عكف على القرآن، ينام في الليل والنهار ساعتين فحسب، يقرأ القرآن قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وواصل النوافل، وصلح حاله وانشرح باله، وذهبت غمومه وهمومه، هو اليوم فوق الخمسين من عمره، وهو من أعبد من رأيت من الناس، يختم القرآن في كل ثلاثة أيام، وله أوراد من الأذكار الشرعية، أما دموعه فما أسرعها من دموع، طلق المحيّا، بشوش، ترى الولاية ظاهرة عليه.
وهذه القصة سجلتها منه، وإنني أعرف أن كثيراً من الأحبة يعرفونه، وإن في قصته لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. " ربَّنا إنَّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربِّكم فآمنّا ربَّنا فاغفر لنا ذُنوبنا وكفِّر عَنَّا سيئآتنا وتوفَّنا مع الأبرار ". (آل عمران: الآية 193)
2. شاب أدركته عناية الله: هو شاب تنكّر لدينه، ونسي ربه، وغفل عن نفسه، كان يضرب به المثل في التمرد والعناد، حتى لقد بلغ من أذيته للناس أن دعا عليه الكثير بالهلاك ليريح الله الناس من شره.(/2)
وعظه بعض الدعاة فما قبل، نصحوه فما سمع، حذروه فما ارتدع، كان يعيش في ظلمات من شهواته، دخل عليه أحد الدعاة، وكان هذا الداعية مؤثراً صادقاً، فوعظ هذا المعرض حتى أبكاه، وظن أنه استجاب لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن دون جدوى عاد كما كان، وكأنه ما سمع شيئاً أبداً.
لا يعرف المسجد حتى يوم الجمعة، يخرج من بيته بعد العشاء مع عصابة من الأنذال، ولا يعود إلا قليل الفجر، ثم ينام النهار كله.
ترك الوظيفة وهجر العمل، فأفلس في الدين والدنيا، وكانت أمه تنوح بالبكاء مما ترى من واقع ولدها، بل تمنت كثيراً أن يموت.
ينام على الأغنية ويستيقظ عليها، وعنده من صور الخلاعة والفجور والمجون ما يهدم إيمان أهل مدينة، بل ثبت عنه تعاطي المخدرات فأصابه سكار في العقل والروح.
طال شذوذه عن الله، وحلم الله يكتنفه.
طال تمرده والله يمهله، وكثرت معاصيه ونعم الله تحوطه.
يسمع كل شيء إلا القرآن، ويفهم كل شيء إلا الدين، ويحب كل شيء إلا ذكر الله وما والاه.
سبحان الله، كيف يرتكس القلب إذا لم يعرف الله، وسبحان الله، كيف يتبلد الإحساس يوم يعرض عن الله عز وجل.
وتمر أيامه المسودة بالمعصية، المغبرة بالمخالفات، ويفكر أحد الصالحين من الدعاة في طريقة طريقة لانتشال هذا العاصي من المعصية، إنها طريقة إهداء الشريط الإسلامي، وإدخاله بيوت الناس وسيارات الناس، الشريط الإسلامي الذي ينقل علم المتكلم ونبرته وتأثيره.
وتم إهداء هذا الشاب مجموعة من الأشرطة المؤثرة، أخذها ووضعها في سيارته، ولم يكن له اهتمام بسماعها.
ثم سافر عن طريق البر إلى الدمام، وطال الطريق واستمع إلى ما شاء من غناء وسخف، ثم جرب أن يزجي وقته بسماع شريط إسلامي ليرى كيف يتكلم هؤلاء الناس، وما هي طريقتهم في الكلام.
وابتدأ الشريط يبث ذبذبات الإيمان حية على هواه الصدق مباشرة، عبر أثير الإخلاص بذبذبة طولها الرسالة الخالدة لمستمعيها في مدينة المعرضين وما حولها.
أنصت الشاب للشريط، وكان الحديث عن الخوف من الله تعالى، وأخبار الخائفين، ووصلت الكلمات إلى قلب الشاب، فاستقر هناك، في قرار مكين، وانتهى الشريط وقد استعد الشاب واستنفر قواه الذهنية، وراجع حسابه مع الله جلَّت قدرته.
وفتح الشريط الثاني، وكان الحديث عن التوبة والتائبين، وارتحل الشاب بفكره إلى ماضيه المحزن المبكي، فتتابع الشريط والبكاء في أداء عرض من النصح أمام القلب، وكأن لسان حال الموقف يردد: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون ". ( الأنفال: الآية 24)
واقترب من مدينة الدمام، وهو لا يكاد يتحكم في سيارته من التأثر، لقد دخل جسمه تيار الإيمان يهزه هزاً: " وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السحاب صُنعَ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء ". ( النمل: الآية 88)
ووصل المدينة فدخلها، وقد دخل قبلها مدينة الإيمان، تغيّرت الحياة في نظره، وأصبح ينظر بنظرة العبد التائب بعد أن كان ينظر بنظرة المعرض المتمرد.
بدأ بالمسجد وتوضأ بالدموع مع الماء:
إذا كان حب الهائمين من الورى
بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي
سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى
ودخل المسجد، فاستفتح حياته بالصلاة، وبدأ عمراً جديداً:
" وقُل جاء الحقُّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ". ( الإسراء: الآية 81)
وعاد إلى أهله سالماً غانماً: سالماً من المعاصي غانماً من الطاعات دخل البيتَ بوجه غير الوجه الذي خرج به، لأنه خرج بوجه المعصية والذنب والخطيئة، وعاد بوجه أبيض بنور الطاعة والتوبة والإنابة.
وتعجب أهله!! ماذا جرى لك يا فلان ؟ ما حدث ؟ قال لهم: حدث أعظم شيء في حياتي، عدت إلى الله، تبت إلى الله، عرفت الطريق إلى الله.
ودمعت عيناه، فدمعت عيونهم معه فرحاً، ومن الدموع دموع تسمى دموع الفرحة:
طفح السرور عليّ حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وأشرقت أنوار البيت، وتسامع الناس، وأخذوا يدعون للتائب المنيب، فهنيئاً له بتوبة ربه عليه: " أولئك الذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحب الجنة وعدَ الصدقِ الذي كانوا يوعدون ". ( الأحقاف: الآية 16)
3. امرأة ترد زوجها إلى الله: كان هذا الرجل يسافر إلى الخارج للمعصية، فيعصي الله في الداخل والخارج، وفي الليل والنهار، والسر والعلن.
ظن أن الحياة كأس وامرأة، فسقط في الملذات، وهو في الظلمات، وأوقع نفسه في ورطات ونكبات.
آخر سفرة له كانت إلى فرنسا- البلد المظلم المتهتك- سافر إلى هناك، ومكث مدة في حياة بهيمية، يأنف من بعض صورها الحيوان، إنها حياة أعداء الله، أولئك " الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً ". ( الكهف: الآية 104)
ثم عاد إلى أهله، ودماغه ممتلىء بأخبار تلك البلاد وقصصها.
فالعظماء عنده عظماء الغرب، والأدباء عنده أدباء الغرب، والدنيا كلها الغرب.(/3)
وكان قد تزوج بامرأة صالحة، امرأة عرفت الله عز وجل: " ربَّنا هبْ لنا من أزواجنا وذرِّياتنا قرة أعين ". ( الفرقان: الآية 74) ولقد كانت هذه المرأة قرة عين، خرجت من بيت يعيش الإسلام حقيقة، وينعم بالإيمان.
بيت، أهله مصلّون، ذاكرون، متصدقون، بيت يشرف بالحجاب والحشمة والعفاف.
هذا البيت لم يعرف الأغنية، وما رأى المجلة الخليعة، والفيلم الهدّام.
وبدأت هذه المرأة مع زوجها حياة جديدة، كانت تجذب زوجها إلى الله جذباً ليّناً، كلما وجدت فرصة تكلمت معه عن الإيمان والهداية، يراها مصلية ذاكرة عابدة، تدخل بيتها بذكر الله، وتحضر طعامها باسم الله، وتنهي أمره بحمد الله.
تدعو زوجها إلى نجاته، وتدعو له بالنجاة.
وبدأ الزوج يصلي في البيت لا في المسجد، فكانت تذكره بفضل الجماعة، وتدعوه برفق ونصح وإشفاق، فبدأ أحياناً يصلي في المسجد، وحضر أول يوم إلى المسجد في صلاة الفجر، فأثنت عليه زوجته خيراً بما فعل، وأظهرت السرور والفرح، فواصل كل الصلوات في المسجد جماعة وترك المسكر، وبغّضت له زوجته قرناء السوء، وحبّبت إليه الصالحين، فهجر أصحابه المعرضين عن الله عز وجل.
وأهدت له مصحفاً فسر بتلك الهدية وأخذ يتلو، هجر الدخان وأطلق ليحته، وانتهى من إسبال ملابسه، تكاملت شخصيته الإسلامية.
بدأ نور الإيمان يلوح على محياه، أخذ يحضر دروس العلم، ومجالس الخير، وندوات الإيمان. زار الصالحين وزاروه، حج واعتمر والحمد لله، هجر الغناء، والمجلة الخليعة، والأفلام الهدامة، " فمَن يُرد الله أن يهديه يشرحْ صدره للإسلام ". ( الأنعام: الآية 125)
هو الآن، يعيش حياة المسلم العامر قلبه بشكر ربه، الرطب لسانه بذكر مولاه.
حفظ الآن كثيراً من القرآن الكريم، وهو مثل المؤمن الصادق.
فسلام على تلك الزوجة، ورفع الله منزلتها، وأخرج من النساء من أمثالها، وسلام على هذا الرجل وثبَّته بالقول الثابت، وزاد في الرجال من أمثاله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى: " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ".(1)
4. التائب من الحجاز: لما عزمت على كتابة هذه القصص، طلبت من بعض المحبين إفادتي بقصص التائبين لهم ولغيرهم، فجاءتني مكالمة هاتفية من مهبط الوحي، وتكلم معي شاب عاد إلى الله بعد غربة، واستأنس بعد وحشة، وعرف بعد إنكار.
هذا الشاب خاض غمار الحرب الأفغانية بعد أن هداه الله. فسبحان من يهدي المعرض ليكون مجاهداً، ويدلّ المتمرد ليكون عابداً، ويرد الغاوي ليكون داعية: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يُزكّي مَن يشاء ". ( النور: الآية 21)
كان هذا الشاب في سبات عميق – كما يصف نفسه-، كان له أصحاب يدعونه إلى كل رذيلة، فترك الدراسة فترة طويلة، كان عنده عود يعزف عليه كلمات الخسارة والسخف، وما درى أنه سوف يعزف على القلوب بكلمات النور والإيمان، فقد كان صوته جميلاً لكن بالغناء، فأصبح جميلاً بالقرآن.
عاقر المسكرات، وتناول المخدرات، وأضاع الصلاة، كان يجمع الصور الخليعة، ويحتفظ بها، لأن إدراك المعرض عن الله ضعيف، وبصيرة الشارد عن الإيمان مظلمة، وأكثر الفاشلين في الدراسة والوظيفة والكسب هم: أهل المعاصي، " ومن لم يجعل اللهُ له نوراً فما له من نورٍ ". ( النور: الآية 40)
ولكن مفاتيح الهداية عند الله تعالى يفتح بها القلوب، متى شاء، وأنى شاء، وقد يكون مفتاح القلب كلمة، أو خاطرة، أو نظرة، أو عظة، أو مشهداً مثيراً، أو تأملاً للعواقب.
أما حبيبنا هذا، فلم تكن عودته مفاجأة، بل تدرّج في العودة شيئاً فشيئاً، حتى تم له الخير، فاستغلظ فاستوى على سوقه، وعلى رغم مجونه ومعصيته إلا أنه كان مرحاً، ودعوباً، خلوقاً، يسمح للآخرين أن يتحدّثوا معه ويستمع لما يقولون.
فقد سمح لبعض الشباب الملتزمين بزيارته، وكانوا أخياراً.
دخلوا بيته بهدوء، ولم يخاطبوه بشيء بادىء ذي بدء، إنما كانت زيارة عابرة فيها مرح وحديث عام، لتكون مقدمة لغيرها من الزيارات.
ودعوه لزيارتهم فأجاب الدعوة وألفهم وألفوه، وحدثوه كثيراً عن الهداية، وأعطوه كتباً، وأشرطة. فبدأ يصلي، ثم حافظ على الجماعة، وارتقى به الحال إلى أن التزم بسنن محمد صلى الله عليه وسلم: " والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم ". ( محمد: الآية 17)
وأصبح الآن ينعم بالهداية، وقد شرف نفسه بالرباط في سبيل الله حيث شارك مع المجاهدين الأفغان جهادهم، وذاق طعم الذب عن دين الله تعالى، وهو يسير من خير إلى خير، ثبتنا الله وإياه على الحق حتى نلقاه.
5. عائد من جيران الحرم: هذا الشاب قصته شبيهة بقصة " تائب من الجحاز "، وقد كتب قصة توبته بيده وأرسلها إليّ وافرفقها بقصيدة فيها أكثر من أربعين بيتاً.(/4)
وملخص قصته: أنه أبصر الحق بعد عمى، ورأى الطريق بعد ضلال، ورزقه الله التوبة. وقد ذهب إلى أفغانستان للجهاد وعاد، وهو عاكف على بعض البحوث القيمة، وقام بجمع أدعية القرآن.
كتب إليّ في رسالته يوصيني بالزهد في الدنيا، وبذل العلم والتواضع، فشكرت ذلك له، وأعجبني فيه حبه للصالحين، ومرافقته لهم، وحرصه على الفائدة، وفيه مرح ودعابة تحببه إلى إخوانه.
التائبون إلى رحابك أقبلوا
عافوا بحبك نومهم فسجدوا
أبواب كل مالك قد أوصدت
ورأيت بابك واسعاً لا يوصد
كلمات التائبين صادقة، ودموعهم حارة، وهممهم قوية، ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان، ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة، وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب، " قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعضٍ عدوٌ فإمّا يأتينَّكم مِنِّي هُدًى فمن اتبع هداىَ فلا يضلُّ ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشرهم يوم القيامة أعمى ". ( طه: الآيتان 123-124)
6. شاعر يتوب: هذا الشاعر المسلم المجاهد له أجم قصيدة تتحدث عن الرثاء في تاريخ الأدب الإسلامي، عاش قبل أن يتوب هائماً في أودية الشقاوة والحرمان، عاش غافلاً عن حياته ومستقبله، رافق عصابة من أهل الإجرام مهمتهم السلب والنهب ونصب الكمائن للمسافرين: يسرقون ويفتكون ويقتلون، قد ماتت الرقابة في أنفسهم، فلا تمر قافلة إلا سرقوا متاعها.
ليلهم: سهر ضائع، ونهارهم: دمار وتخريب، والقلب إذا صد عن منهج الله عمي وضل.
واستمرت بهذا الرجل هذه الحالة زمناً طويلاً، ولكنْ..مهما طال الحرمان، فلا يأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً
ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه
جلاله عن العطا لذي الخطا
وفي يوم جميل من أيام الله عز وجل المباركة، ويوم يولد فيه الإنسان مولداً جديداً، هو يوم التوبة والإقبال على الله عز وجل.
في هذا اليوم تمر بهذا الرجل سرية من الجيش الإسلامي تريد الجهاد في سبيل الله، يقود هذه السرية ( سعيد بن عثمان بن عفان).
فيرى بعينه هؤلاء الشباب الذين باعوا أنفسهم من الله، فاشتراها منهم بالجنة بعقد وميثاق. فأتوا إلى الأعداء ليسلموا السلعة ويأخذوا الثمن، رآهم وقد ظهرت على وجوههم أنوار الطاعة وإشراقات العبادة.
عباد ليلٍ إذا جنَّ الظلام بهم
كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسْد غاب إذا نادى الجهاد بهم
هبّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
فتفكر هذا المذنب في نفسه وتأمل حياته وقارن بين حالته وحالة هؤلاء الفتية.
ليله غناء ومكاء وتصدية، وليلهم بكاء ودعاء ودموع.
نهاره سلب ونهب وفتك، ونهارهم في جهاد وتضحية ودعوة.
قلبه هائم في أودية الشهوات، ومسافر في بحار الملذات، وقلوبهم مليئة بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، مشرقة بنور القرآن والسنة، فيا بعْد ما بين الحياتين والمنهجين ؟
فاستفاق الرجل، وأشرقت بنور الله عز وجل، وتقدم إلى القائد ووضع يمينه في يمينه، وأعلن التوبة والعودة إلى الله، لقد نالت الكرامة يمناه، وأبصرت الحق عيناه.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين
تراها بحق في مغيب ومطلع
سامحْ عيوناً أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
وسافر مع الجيش غازياً في سبيل الله تعالى بائعاً نفسه من ربه.
لقد أقبل بقلبه على الله عز وجل، ولقد عرف الصراط المستقيم. ولقد صدق مع الله: " والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلنا وإنَّ الله لمَع المُحسنين ". ( العنكبوت: الآية 69)
وفي طريقه إلى الجهاد لدغته حية، فاضطرب جسمه ودنت منيته وتيقن بالفراق من هذه الحياة، وتذكر أيامه السالفة وتسلى بتوبته. ثم ذكر أمّه وإخوته وزوجته، وملاعب الصبا، ومراتع الطفولة، فانفجر باكياً بقصيدة، وانتح بأبيات ما سمع الشعراء مثلها.
قصيدة فيها السحر الحلال، قصيدة تحمل الأسى واللوعة والشجى الحرقة، قصيدة فيها إعلان التوبة والعودة إلى الله تعالى، فاسمع إليه وهو يقول:
فالله دري يوم أترك طائعاً
بنيَّ بأعلى الرقمتين وداريا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى
وأصبحت في جيش ابن عفان غازياً
7. تاب إلى الله قبل الغروب: هذا الشاب من أهل أبها يعرفه كثير من الإخوة والمحبين، وكان كبير الجسم عملاق البنية، درس الابتدائية فكان مثلاً ونموذجاً لعالم العفاريت! بقلب الكراسي على الطاولات، والطاولات على الكراسي.
دخل الثانوية فملأها رعباً، وضجيجاً، وصخباً، امتلأ ملفه بالعناد والسباب والشتائم والملاكمات، يصل بيته في الظهر ضارباً أو مضروباً.
لنا في كل يوم من معدّ
سباب أو قتال أو هجاء
انتظم في كلية الشريعة، فكانت الشريعة مشرقة وهو مغرب! دعاه القائمون على الشريعة، فوعظوه فما أفاد، وخوفوه فما استفاد، ورغبوه فما استجاب، وأرهبوه فما أجاب، وفي الأخير دعاه أحد المسؤولين فسلمه ملفه، وأخبره أن الكلية لا تستطيع تحمل تبعاته.
ذهب من الكلية هائماً بلا عمل، فارغاً بلا شغل، يتعرض للشباب فيصدهم عن سبيل الله، ويستهزىء بالصالحين.(/5)
كان يتعمد جرح مشاعر المسلمين، فكان يقف عند أبواب المساجد يشعل السيجار، وكان كما قال عن نفسه: يريد من ينهاه ليبطش به.
وتطاول به الزمن، وذهب إلى مدينة أخرى، فسكن السكن الجامعي، ولقيه زميل له كانت بينهما صداقة قديمة، فدله على شريط إسلامي مؤثر، فأخذه تزجية للوقت ونزولاً عند رغبة زميله.
ولما سمعه، قلب موازينه، وغير حياته، وبدَّل مستقبله، فقام إلى المسجد واستهل حياته بصلاة المغرب، وأقبل إلى الإيمان، فملأ به قلبه، وعاشر الأخيار وأنس بهم، وصاحب القرآن آناء الليل وأطراف النهار.
تراه بعد الهداية سهلاً ليناً قريباً منك، وهو اليوم يعزم على الذهاب إلى أفغانستان للجهاد ليتقرب إلى الله بدماء الملاحدة.
ومثله في شجاعته وإقدامه مكسب لهذا الدين، " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّتْ أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحُسنَ ثوابِ الآخرة والله يحبُّ المُحسنين ". ( آل عمران: الآيتان 147-148)
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا
أعظم بقوم بايعوا الغفارا
فأعاضنا ثمناً ألذ من المنى
جنات عدن تتحف الأبرارا
8. شابان بتوبان في زمن واحد: هذان الشابان من منطقة واحدة، في سن واحدة، أحدهما يعمل أستاذاً في مدرسة، والثاني موظف بمستشفى.
تنكرا لهذا الدين، ورفضا أوامره ونواهيه.
أحدهم سهر مع زملائه في لعب الورق من بعد صلاة العشاء إلى ما بعد صلاة الظهر من اليوم الثاني.
فيا حسرتا كيف انطوى العمر مسرعاً
صرفناه في عود ولهوٍ ومرقص
كان المسجد بجوار بيته، لكن قلبه ليس بجوار المسجد، كانت تمر عليه فترات من العناد يستهزىء فيها بالدين وأوامره من صلاة وذكر وأذان وسنن.
نام ليلة من الليالي بطيئة النجوم، وارفة الأنداء، طيبة السحر، فانتابته، وهو في نومه حالة من الاختناق والرعب، أشرف منها على الموت، واستيقظ، ولا يزال الاختناق يزاوله ويطارحه.
وأحسّ بالموت حقيقة، وذاق طمعه.
وفي أثناء هذا الصراع تذكر القدوم على الله عز وجل، تذكر حياته وأيامه، تذكر خطاياه وسيئاته، نسي كل لذة، وذهب عنه كل متاع وتخلى عنه كل حبيب، وأخذ يعاهد الله تعالى لئن أنجاه من الموت ليعودن إليه، وليتوبن من إصراره وفجوره.
واستفاق، وقد أطلق عنه الخناق، فما كان منه إلا أن صرح بالتوبة وانفجر باكياً.
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
وقام فتوضأ، وأخذ في صلاته، ينتحب، ويناجي مولاه حتى أظله الفجر، فذهب إلى بيت الله عز وجل، منشرح الصدر، حيّ القلب، عامر الوجدان، ولسان حاله يقول:
اليوم ميلادي الجديد وما مضى
موت بليت به بليل داج
أنا قد سريت إلى الهداية عارجاً
يا حسن ذا الإسراء والمعراج
أما الشاب الثاني، والفارس التالي، فكزميله تماماً في الغواية والانحراف، بل عرف عنه تعاطي المخدرات بجسارة، والسقوط في المحرمات بجدارة، ولكن دعاة الإسلام وقفوا على الطرقات وأفواه السكك، يصيدون القلوب، يعتقون الرقاب من أسر الشيطان وجنوده.
ومر هذا الشاب بداعية، فحياه الداعية، وتبسم في وجهه، وأهدى له كتاب " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " لابن القيم، فانطلق الشاب فرحاً بشيئين:
الأول: اللقاء الحار الباسم من الداعية.
الثاني: الهدية الثمينة التي تبني في القلب قصور الأمل والود.
وبدأ الشاب مع ابن القيم في رحلة ممتعة عبر كتابه، لكن ابن القيم لم يتركه يفلت من يديه حتى أعلن توبته وعودته وإنابته.
ثم واصل مع ابن القيم في كتبه حتى امتلأ حباً للإسلام، وشوقاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وعبودية لله الواحد الأحد. وأصبح هذا الشاب في عداد الأخيار على المثل العليا والمبادئ الأصيلة.
" أفمن يمشي مُكبّاً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سويًّا على صراط مستقيم ". ( الملك: الآية 22)
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من التائبين الصادقين، وأن يعيد الأمة إليه عوداً حميداً، والله أعلم.
(1) أخرجه مسلم ( 2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقد سبق.
المراجع د. عائض القرني، للشباب خاصة، ص 173-192 ... ...(/6)
عاشوراء أحكام وبدع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن يوم العاشر من شهر محرم له منزلة ومكانة في ديننا، وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل هذا اليوم وفضل صيامه، وسنذكر في هذا الدرس بعض أحكام هذا اليوم كما سنتطرق في الدرس القادم. لبعض البدع التي ترتكب في هذا اليوم من قبل الشيعة وغيرهم حتى يحذرها الناس فلا يقعوا فيها..
تسمية عاشوراء وتحديده:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: عاشوراء بالمد على المشهور، وحكى فيه القصر وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية، ورد ذلك عليه ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء، وبقول عائشة رضي الله عنها: إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه. أ.هـ.
وقد اختلف أهل الشرع في تحديد يوم عاشوراء هل هو التاسع من محرم أوالعاشر، ذكر هذا الخلاف الحافظ في الفتح، ونقل قول القرطبي وهو: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علماً على اليوم العاشر. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر من شهر الله المحرم وهذا قول الخليل وغيره، وقال الزين ابن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والسمية.
فضله ومكانته:
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء. فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم – يعني يوم عاشوراء- .
إن يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفاً بين الأنبياء عليهم السلام وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام.
وكان أهل الكتاب يصومونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه. قال دلهم بن صالح: قلت لعكرمة: عاشوراء ما أمره؟ قال: أذنبت قريش في الجاهلية ذنباً فتعاظم في صدورهم فسألوا ما توبتهم؟ قيل: صوم عاشوراء يوم العاشر من محرم.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع حالات في صيام عاشوراء:1
الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه. فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره.
الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه، وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه حتى كانوا يصومونه أطفالهم. ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم)، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه). وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء، فقال: ما هذا من الصوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله عز وجل موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم)، فأمر أصحابه بالصوم، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من أسلم: أن أذن في الناس: من أكل فليصم بقية يومه، من لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء).
وفيهما أيضاً عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء، إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه) فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار. وفي رواية فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم بها حتى يتموا صومهم، وفي الباب أحاديث كثيرة جداً.(/1)
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجباً أم كان سنة متأكدة؟
على قولين مشهورين: ومذهب أبي حنيفة أنه كان واجباً حينئذٍ؛ وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وأبي بكر الأثرم. وقال الشافعي رحمه الله: بل كان متأكد الاستحباب فقط.
الحالة الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه، وسبق حديث عائشة في ذلك. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك ذلك. وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وفي رواية لمسلم: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه). وفي رواية أيضاً: (فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ومن كره فليدعه). وفي الصحيحين أيضاً عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر).
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في يوم عاشوراء: هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل شهر رمضان ترك)... فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه. فإن كان أمره صلى الله عليه وسلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم، وإن كان أمره للاستحباب المؤكد. فقد قيل: إنه زال التوكيد وبقي أصل الاستحباب، ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله، وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد، وممن روى عنه صيامه من الصحابة عمر وعلى وعبد الرحمن بن عوف وأبو موسى وقيس بن سعد، وابن عباس، وغيرهم. ويدل على بقاء استحبابه ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان، وابن عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بآخره، وإنما عقل منه صلى الله عليه وسلم من أمره آخر. وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه؟ فغضب صلى الله عليه وسلم ثم سأل عمر رضي الله عن أنواع من صيام التطوع؛ وصيام الدهر، وصيام يوم وفطر يوم، وصيام يوم وفطر يومين، يوم عرفة.. والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه ثم قال في جملتها عن صيام عاشورا: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)، فدل ذلك على أن الرجل وعمر رضي الله عنهما لم يريدا السؤال عن صيام الفرض وإنما سألا عن التطوع عن صيام.
أما"سَبَبُ غَضَبِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ مَسْأَلَتَهُ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُجِيبَهُ وَيَخْشَى مِنْ جَوَابه مَفْسَدَةً , وَهِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا اِعْتَقَدَ السَّائِل وُجُوبه أَوْ اِسْتَقَلَّهُ أَوْ اِقْتَصَرَ عَلَيْهِ , وَكَانَ يَقْتَضِي حَاله أَكْثَر مِنْهُ , وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشُغْلِهِ بِمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ وَحُقُوقهمْ وَحُقُوق أَزْوَاجه وَأَضْيَافه وَالْوَافِدِينَ إِلَيْهِ , لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فَيُؤَدِّيَ إِلَى الضَّرَر فِي حَقّ بَعْضهمْ , وَكَانَ حَقّ السَّائِل أَنْ يَقُول : كَمْ أَصُوم أَوْ كَيْف أَصُوم ؟ فَيَخُصّ السُّؤَال بِنَفْسِهِ لِيُجِيبَهُ بِمَا تَقْتَضِيهِ حَالُهُ , كَمَا أَجَابَ غَيْره بِمُقْتَضَى أَحْوَالهمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" .قاله النووي في شرح مسلم
وأخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر).(/2)
الحالة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفرداً بل يضم إليه يوماً آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه. ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع). قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر). يعني عاشوراء. وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا يوم عاشوراء خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر)، وعلل بخشية فوات عاشوراء.
قال الإمام أحمد: أنا أذهب إليه. وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس: أنه كان يصوم عاشوراء في السفر، ويوالي بين اليومين خشية فواته. وكذلك روي عن ابن إسحاق أنه صام يوم عاشوراء ويوماً قبله ويوماً بعده، وقال: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني.
وروى ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطاً.
وروى عن ابن عباس والضحاك أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم. قال ابن سيرين: كانوا لا يختلفون أنه اليوم العاشر، إلا ابن عباس فإنه قال: إنه التاسع. وقال الإمام أحمد في رواية الميموني: لا أدري هو التاسع أو العاشر، ولكن نصومهما، فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيام احتياطاً. وابن سيرين يقول ذلك، وممن رأى صيام التاسع والعاشر: الشافعي وأحمد وإسحاق وكره أبو حنيفة إفراد العاشر وحده بالصوم.
ومن أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصومه الوحش والهوام. وقد روي مرفوعاً: أن الطير أو طير صام عاشوراء). خرجه الخطيب في تاريخه وإسناده غريب. وقد روي ذلك عن أبي هريرة وروي عن فتح بن شخرف قال: كنت أفت للنمل الخبز كل يوم فلما كان يوم عاشوراء لم يأكلوه. وروي عن القادر بالله الخليفة العباسي أنه جرى له مثل ذلك، وأنه عجب منه فسأل أبا الحسن القزويني الزاهد فذكر له أن يوم عاشوراء تصومه النمل.
وقد روي: إن يوم عاشوراء، كان يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيداً لهم. ويروى أن موسى عليه السلام كان يلبس فيه الكتان، ويكتحل فيه بالأثمد. وكان اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيداً، وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك وكان يسترون فيه الكعبة.2
وهنا قد يسأل سائل ويقول: هل يجوز أن يتخذ يوم عاشوراء عيداً؟ يجيب عن ذلك الإمام ابن رجب في كتابه لطائف المعارض 3، فيقول: ولكن شرعنا ورد بخلاف ذلك ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود وتتخذه عيداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموه أنتم). وفي رواية مسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نسائهم فيه حليهم وشارتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوهم فصوموه) وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيداً، وعلى استحباب صيام أعياد المشركين. فإن الصوم ينافي اتخاذه عيداً فيوافقون في صيامه مع صيام يوم آخر معه كما تقدم، فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضاً. فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية. أ.هـ.
وإلى هنا ونكتفي بهذا القدر في هذا الدرس، حتى الملتقى في الدرس القادم، بمشيئة الله تعالى، وصلى الله ل نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
0000000000000
1 لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب ص53.
2- لطائف المعارف ص 58.
3- ص 59(/3)
عاشوراء:
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: أي الأيام هو؟
1- أنه اليوم العاشر.
2- أنه اليوم التاسع.
ثالثاً: ما ورد في صيامه.
رابعاً: حكم صيامه.
1- حكمه قبل أن يفرض رمضان.
2- حكمه بعد أن فرض رمضان.
خامساً: الحكمة من صيامه.
سادساً: مسائل متفرقة.
1- هل يكره إفراده بالصوم؟
2- إذا وافق عاشوراء يوم سبت.
3- إذا نوى صيام عاشوراء مع قضاء أو نذر.
4- هل يقضي من صام التاسع والعاشر ثم تبين له أنه ليس هو يوم عاشوراء؟
سابعاً: بدع ومخالفات.
1- بدعة الحزن.
2- بدعة الفرح.
3- تخصيصه بإخراج الزكاة فيه.
4- زيارة القبور فيه.
5- من بدع النساء في هذا اليوم.
ثامناً: ما جاء في كسوة الكعبة في عاشوراء.
تاسعاً: مساجلة علمية لطيفة حول التوسعة على العيال في يوم عاشوراء.
أولا: تعريف وبيان:
قال ابن منظور: "عاشوراء وعشوراء ممدودان اليوم العاشر من محرم، وقيل: التاسع"([1]).
وذكر الحافظ أنه بالمد على المشهور، وحكي فيه القصر، وردَّ قول من زعم أنه اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية([2]).
قال القرطبي: "هو معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم"([3]).
وما ذُكر([4]) من أنه سمي بذلك لأن الله تعالى أكرم فيه عشرة من الأنبياء بعشر كرامات أو لأنه عاشر كرامة أكرم الله بها هذه الأمة لا دليل صحيح عليه.
ولم يُسمع على هذا المثال فاعولاء إلا هذا، والضاروراء الضراء، والساروراء السراء، والدالولاء الدلال. وقال ابن الأعرابي: الخابوراء موضع، وقد ألحق به تاسوعاء([5]).
([1]) لسان العرب (5/2952-2953) مادة (ع ش ر ).
([2]) فتح الباري (4/245).
([3]) انظر: فتح الباري (4/245).
([4]) ذكر ذلك المناوي في الفيض (4/299).
([5]) انظر: لسان العرب (5/2952-2953) مادة (ع ش ر )، وفتح الباري (4/245)، والمزهر في علوم اللغة (2/47).
ثانياً: أيُّ الأيام هو؟
اختلف أهل الشرع في تعيينه على قولين:
القول الأول: أنه اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو قول جماهير العلماء من السلف والخلف، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق, وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ([1]).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء، يوم العاشر([2]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((عاشوراء يوم العاشر))([3]).
قال القرطبي: "هو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها, فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة, إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علَما على اليوم العاشر"([4]).
وقال الزين بن المنير: "الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم, وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية"([5]).
القول الثاني: أنه اليوم التاسع من المحرم، وهو ظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه يكون اليوم مضافا لليلته الآتية.
فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن يوم عاشوراء, قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما, قلت: أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه؟! قال: نعم([6]).
قال النووي: "هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا"([7]).
وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: وردنا عِشرا بكسر العين, وكذلك إلى الثلاثة([8]).
وخرَّج الزين بن المُنَيِّر كلام ابن عباس فقال: "قوله: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح) يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة".
قال الحافظ ابن حجر: "ويقوِّي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))([9])، فمات قبل ذلك. فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر، وهمَّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك"([10]).(/1)
وذكر ابن القيم توجيها آخر لكلام ابن عباس، فقال ـ مستنبطا من قوله رضي الله عنهما: (صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود) ـ: "وهو يبين أن قول ابن عباس: (إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائما) أنه ليس المراد به أن عاشوراء هو التاسع، بل أمره أن يصوم اليوم التاسع قبل عاشوراء. فإن قيل: ففي آخر الحديث قيل: كذلك كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم، فدل على أن المراد به نقل الصوم لا صوم يوم قبله. قيل: قد صرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))، فدل على أن الذي كان يصومه هو العاشر، وابن عباس راوي الحديثين معاً، فقوله كان يصومه محمد أراد به – والله أعلم – قوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) عزم عليه، وأخبر أنه يصومه إن بقي. قال ابن عباس: هكذا كان يصومه، وصدق رضي الله عنه، هكذا كان يصومه لو بقي، فتوافقت الروايات عن ابن عباس، وعلم أن المخالفة المشار إليها بترك إفراده، بل يصام يوم قبله أو يوم بعده"([11]).
([1]) انظر: شرح النووي على مسلم (8/12).
([2]) أخرجه الترمذي في الصوم (755) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح السنن (603). وأخرج البزار عن عائشة رضي الله عنها مثله، قال الهيثمي في المجمع (3/189): "رجاله رجال الصحيح".
([3]) عزاه السيوطي في الجامع الصغير للدارقطني والديلمي ورمز له بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3968).
([4]) انظر: فتح الباري (4/245).
([5]) انظر: فتح الباري (4/245).
([6]) أخرجه مسلم في الصيام (1133).
([7]) شرح النووي على مسلم (8/12).
([8]) انظر: فتح الباري (4/245).
([9]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([10]) فتح الباري (4/245).
([11]) تهذيب السنن (3/323-324).
ثالثاً: ما ورد في صيامه:
1- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشّهر, يعني رمضان([1]).
قال الحافظ ابن حجر: "هذا يقتضي أنّ يوم عاشُوراء أفضلُ الأيّام للصّائم بعد رمضان, لكنّ ابن عبّاس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرُدُّ علم غيره, وقد روى مُسلم من حديث أبي قتادة مرفُوعًا: ((إنّ صوم عاشُوراء يُكفّر سنةً, وإنّ صيام يوم عرفة يُكفّر سنتين))، وظاهره أنّ صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشُوراء... وإنّما جمع ابن عبّاس بين عاشُوراء ورمضان - وإن كان أحدُهُما واجبًا والآخر مندُوبًا - لاشتراكهما في حُصُول الثّواب, لأنّ معنى (يتحرّى) أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرّغبة فيه"([2]).
2- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه))([3]).
3- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة, وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضان قال: ((من شاء صامه ومن شاء تركه))([4]).
قال النووي: "اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنّة ليس بواجب... وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه"([5]).
وقال الحافظ ابن حجر: "وأمّا صيام قريش لعاشوراء فلعلّهم تلقّوه من الشّرع السّالف، ولهذا كانوا يعظّمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك. ثمّ رأيت في المجلس الثّالث من مجالس الباغنديّ الكبير عن عكرمة أنّه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهليّة فعظم في صدورهم, فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفّر ذلك. هذا أو معناه"([6]).
4- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظّمه اليهود وتتّخذه عيدا, فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((صوموه أنتم))([7]).
قال النووي: "والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكدًا، ثم بقي صومه أخف من ذلك التأكيد، والله أعلم"([8]).
وقال أيضًا: "قال المازري: خبر اليهود غير مقبول، فيُحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به. قال القاضي عياض ـ ردًا على المازري ـ: قد روى مسلم أن قريشًا كانت تصومه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال"([9]).(/2)
5- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء, فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى, قال: ((فأنا أحقّ بموسى منكم)), فصامه وأمر بصيامه([10]).
قال الحافظ: "قوله: (قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم) في رواية لمسلم: (فوجد اليهود صيامًا)... وقد استُشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنّه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، وإنّما قدم المدينة في ربيع الأوّل، والجواب عن ذلك أنّ المراد أنّ أوّل علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة لا أنه قبل أن يقدمها علم ذلك، وغايته أن في الكلام حذفا تقديره: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السّنين الشّمسيّة, فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليومَ الّذي قدم فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام؛ لإضلالهم اليوم المذكور وهداية الله للمسلمين له ولكن سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل، والاعتمادُ على التأويل الأول... قوله :(وأمر بصيامه)... استُشكل رجوعه إليهم ـ أي: اليهود ـ في ذلك، وأجاب المازريّ باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك, زاد عياض: أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام, ثمّ قال: ليس في الخبر أنّه ابتدأ الأمر بصيامه, بل في حديث عائشة التّصريح بأنّه كان يصومه قبل ذلك, فغاية ما في القصّة أنّه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم, وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أنّ أهل الجاهليّة كانوا يصومون كما تقدّم, إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السّبب في ذلك، قال القرطبيّ: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل ذلك أن يكون ذلك استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك، وعلى كلّ حال فلم يصمه اقتداء بهم, فإنّه كان يصومه قبل ذلك, وكان ذلك في الوقت الّذي يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه"([11]).
وقال في عون المعبود في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ أولى بمُوسى)): "أي نحنُ أثبت وأقرب لمُتابعة مُوسى صلّى اللّه عليه وسلّم منكُم، فإنّا مُوافقُون لهُ في أُصُول الدّين، ومُصدّقُون لكتابه، وأنتُم مُخالفُون لهُما بالتّغيير والتّحريف"([12]).
6- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى, فقال: ((إذا كان عام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم([13]).
قال الشوكاني: "قوله: (تعظّمه اليهود والنّصارى) استشكل هذا بأنّ التّعليل بنجاة موسى وغرق فرعون ممّا يدلّ على اختصاص ذلك بموسى واليهود، وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم النّصارى أنّ عيسى كان يصومه, وهو ما لم ينسخ من شريعة موسى; لأنّ كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وأكثر الأحكام إنّما يتلقّاها النّصارى من التّوراة، وقد أخرج أحمد عن ابن عبّاس أنّ السّفينة استوت على الجوديّ فيه, فصامه نوح وموسى شكرا للّه تعالى, وكأن ذكر موسى دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار نجاتهما وغرق أعدائهما"([14]).
7- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه, ومن لم يكن أكل فليصم, فإنّ اليوم يوم عاشوراء([15]).
8- وعن علقمة أنّ الأشعث بن قيس دخل على عبد اللّه رضي الله عنه وهو يطعَم يوم عاشوراء, فقال: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ اليوم يوم عاشوراء! فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان, فلمّا نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرا فاطعَم([16]).
9- وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام, ومن شاء فليفطر))([17]).
10- وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))([18]).(/3)
قال ابن القيم: "إن قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل: فيه وجهان:
أحدهما أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام، بخلاف عاشور.
الثاني أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم. والله أعلم"([19]).
وقال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل"([20]).
وقد استشكل بعضهم هذا الحديث بأنه إذا كان دأب العبد صيام يومي عرفة وعاشوراء، فماذا عسى أن يكفر صيام عاشوراء وقد تقدمه صيام يوم عرفة الذي يكفر سنة ماضية وأخرى آتية؟! وقد أجاب عن ذلك ابن القيم فقال: "وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرا كاملا، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: ((إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة))، قالوا: فإذا كان دأبه دائما أنه يصوم يوم عرفه فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كلَّ سنة؟! وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات، ويا لله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه، فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها، فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوَفّ حقّه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا؟! فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه، من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمن به أو يطلب من العباد تعظيمه به أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه"([21]).
11- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده([22]).
12- وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه))، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار. وفي رواية: ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم([23]).
قال النووي: "العهن: هو الصوف مطلقًا، وقيل: الصوف المصبوغ... وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين"([24]).
13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عاشوراء عيد نبي كان قبلكم، فصوموه أنتم))([25]).
قال المناوي: "روي أنه يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيدا لهم، قال ابن رجب: وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا، وعلى ندب صوم أعياد الكفار"([26]).
([1]) أخرجه البخاري في الصوم (2006) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1132).
([2]) فتح الباري (4/249).
([3]) أخرجه البخاري في الصوم (2000) مختصرًا، ومسلم في الصيام (1126) واللفظ له.
([4]) أخرجه البخاري في الصوم (2002)، ومسلم في الصيام (1125).
([5]) شرح صحيح مسلم (8/4).
([6]) فتح الباري (4/246).
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (2005)، ومسلم في الصيام (1131).
([8]) شرح صحيح مسلم (8/9).
([9]) شرح صحيح مسلم (8/10-11).
([10]) أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130).
([11]) فتح الباري (4/247 ـ 248).
([12]) عون المعبود (4/78 ـ 79).
([13]) أخرجه مسلم في الصيام (1134).
([14]) نيل الأوطار (4/244).
([15]) أخرجه البخاري في الصوم (2007)، ومسلم في الصيام (1135).
([16]) أخرجه مسلم في الصيام (1127).
([17]) أخرجه البخاري في الصوم (2003)، ومسلم في الصيام (1129).
([18]) أخرجه مسلم في الصيام (1162).(/4)
([19]) بدائع الفوائد (4/211).
([20]) فتح الباري (4/249).
([21]) الوابل الصيب (ص 19-20).
([22]) أخرجه مسلم في الصيام (1128).
([23]) أخرجه البخاري في الصوم (1960)، ومسلم في الصيام (1136) واللفظ له.
([24]) شرح صحيح مسلم (8/14).
([25]) قال الهيثمي في المجمع (3/185): "رواه البزار، وفيه إبراهيم الهجري وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة"، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (3672).
([26]) فيض القدير (4/299).
رابعا: حكم صيامه:
1- حكمه قبل أن يفرض رمضان:
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه كان واجبا، وهو قول أبي حنيفة ووجه عند الشافعية([1])، وروي عن أحمد([2]).
واستدلوا: بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه, ومن لم يكن أكل فليصم, فإنّ اليوم يوم عاشوراء([3]).
وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة, وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضان قال: ((من شاء صامه، ومن شاء تركه))([4]).
وذلك من وجهين: أولهما أن الأمر في قوله: (فليصم) وفي قولها: (وأمر بصيامه) للوجوب، والثاني أن قولها: فلمّا فرض رمضان قال: ((من شاء صامه، ومن شاء تركه)) يشعر أن صيامه كان واجبا قبل فرض رمضان.
القول الثاني: أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، وهو أشهر الوجهين عند الشافعية([5])، وإليه ذهب القاضي وقال: هذا قياس المذهب([6]).
واستدلوا: بحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام, ومن شاء فليفطر))([7]).
وردَّ ذلك الحافظ فقال: "قوله: ((ولم يكتب الله عليكم صيامه...)) إلخ استدل به على أنه لم يكن فرضًا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خُصَّ بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح, والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني, ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدل على أن المتروك وجوبه.
وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر))، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟!"([8]).
فائدة الخلاف: قال النووي: "وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء، ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه، وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار"([9]).
والحقيقة أنه لا يلزم من القول بأنه كان واجبا صحة صيام الفرض بنية من النهار، قال ابن قدامة: "وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه فيحتمل أن نقول: من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه، كما قلنا فيمن أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان"([10]).
2- حكمه بعد أن فرض رمضان:
نقل النووي الاتفاق على أنه اليوم سنة وليس بواجب([11]).
وقال: "قال القاضي عياض: وكان بعض السلف يقول: كان صوم عاشوراء فرضا، وهو باق على فرضيته لم ينسخ، قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب، وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للأحاديث، وأما قول ابن مسعود: (كنا نصومه ثم ترك) فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب"([12]).
وضعَّف الحافظ قول من قال: إن المراد بالترك في كلام ابن مسعود ترك تأكُّد الندب، والصحيح أن المتروك هو الوجوب، وأما تأكد الاستحباب فباق، والله أعلم([13]).
([1]) انظر: شرح صحيح مسلم (8/4).
([2]) انظر: المغني (4/442).
([3]) أخرجه البخاري في الصوم (2007)، ومسلم في الصيام (1135).(/5)
([4]) أخرجه البخاري في الصوم (2002)، ومسلم في الصيام (1125).
([5]) انظر: شرح صحيح مسلم (8/4).
([6]) انظر: المغني (4/441-442).
([7]) أخرجه البخاري في الصوم (2003)، ومسلم في الصيام (1129).
([8]) فتح الباري (4/247).
([9]) شرح صحيح مسلم (8/4).
([10]) المغني (4/442).
([11]) شرح صحيح مسلم (8/4).
([12]) شرح صحيح مسلم (8/5).
([13]) فتح الباري (4/247).
خامسا: الحكمة من صيامه:
يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكرا لله تعالى، وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال: ((نحن أحقّ بموسى منكم)).
فرسول الإسلام والمسلمون هم أولى الناس وأحق الناس بموسى عليه السلام وبسائر الأنبياء والمرسلين، لأنهم آمنوا بما جاءت به الرسل ولا يفرقون بين أحد منهم، يؤمنون بهم جميعا، ويحبونهم ويعظمونهم ويحترمونهم، وينصرون دينهم الذي هو الإسلام لله رب العالمين.
فصيام يوم عاشوراء سنَّه نبينا صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ورغَّب فيه، وفي ذلك من الحكم هذه الحكمة العظيمة، وهي أن دين الله تعالى واحد، ونبينا صلى الله عليه وسلم بُعث لإقامته، فهو ليس بدعا من الرسل، بل جاء مصدِّقا لما قبله من الكتاب، وأن الرسل إخوة لعلات، دعوا إلى الإسلام الذي أساسه توحيد الله تعالى والإخلاص له، وأنه لا عصبية في الإسلام، وفي ذلك أيضا أكبر علامة على عالمية هذا الدين وسعة رحمته، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
سادسا: مسائل متفرقة:
1- هل يكره إفراده بالصوم؟
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى, فقال: ((إذا كان عام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم([1]).
قال ابن تيمية: "لا يكره إفراده بالصوم, ومقتضى كلام أحمد أنه يكره، وهو قول ابن عباس وأبي حنيفة"([2]).
قال الحافظ: "ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه: أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح, وبه يشعر بعض روايات مسلم, ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود؛ صوموا يوما قبله أو يوما بعده)), وهذا كان في آخر الأمر.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان, فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح, فهذا من ذلك, فوافقهم أولا وقال: ((نحن أحق بموسى منكم)), ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم... وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)) يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع.
والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم, فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم"([3]).
وقال ابن القيم: "والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر لا نقل اليوم، لما روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خالفوا اليهود؛ صوموا يوما قبله أو يوما بعده))، وقال عطاء عن ابن عباس: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. ذكره البيهقي... ويدل عليه أن في رواية الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع – يعني لصوم عاشوراء – وخالفوا اليهود فصوموا قبله يوماً وبعده يوماً)) فذكرُ هذا عقب قوله: ((لأصومن التاسع)) يبين مراده وبالله التوفيق"([4]).
وقال: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم. وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
وقد سلك بعض أهل العلم مسلكا آخر فقال: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع، أو بصيامهما معا، وقوله: ((إذا كان العام المقبل صمنا التاسع)) يحتمل الأمرين، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبين لنا مراده، فكان الاحتياط صيام اليومين معا، والطريقة التي ذكرناها أصوب إن شاء الله، ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل"([5]).(/6)
وجاء في أجوبة اللجنة الدائمة للإفتاء ما نصه: "يجوز صيام يوم عاشوراء يوما واحدا فقط، لكن الأفضل صيام يوم قبله أو يوم بعده، وهي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني مع العاشر)"([6]).
وقال الشيخ ابن باز: "صوم التاسع مع العاشر أفضل، وإن صام العاشر مع الحادي عشر كفى ذلك لمخالفة اليهود، وإن صامهما جميعا مع العاشر فلا بأس لما جاء في بعض الروايات: ((صوموا يوما قبله ويوما بعده))، أما صومه وحده فيكره، والله ولي التوفيق"([7]).
2- إذا وافق عاشوراء يوم سبت:
عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه))([8]).
قال ابن القيم: "وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديما وحديثا:
فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به، فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه ذلك الحديث حديث الصماء، يعني: حديث ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)).
قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم.
قال الأثرم: حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر:
منها حديث أم سلمة حين سئلت: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها؟ فقالت: السبت والأحد.
ومنها حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((أتريدين أن صومي غدا؟!)) فالغد هو يوم السبت.
وحديث أبى هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا مقرونا بيوم قبله أو يوم بعده، فاليوم الذي بعده هو يوم السبت.
وقال: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال))، وقد يكون فيها السبت.
وحث على صيام الأيام البيض، وقد يكون فيها السبت، ومثل هذا كثير.
فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به على الكراهة، وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد وكان ينفيه وأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده، وعلى هذا تتفق النصوص.
وهذه طريقة جيدة لولا أن قوله في الحديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) دليل على المنع من صومه مفردا أو مضافا؛ لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض، ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده، كما قال في الجمعة، فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها.
وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: ((إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده))، فدل على أنه غير محفوظ وأنه شاذ، وقد قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب، وذكر بإسناده عن الزهري أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت يقول: هذا حديث حمصي، وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتما له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا.
وقالت طائفة منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ.
وقالت طائفة وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه. قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه فأجاب بالحديث، وقاعدة مذهبه أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به؛ لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معا، قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث، قالوا: وإسناده صحيح، ورواته غير مجروحين ولا متهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه؛ لأنها تدل على صومه مضافا، فيحمل النهي على صومه مفردا كما ثبت في يوم الجمعة.
ونظير هذا الحكم أيضا كراهية إفراد رجب بالصوم، وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده، ونظيره أيضا ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان، أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول فلا يكره.(/7)