ولا شك أن هذا الثواب الجزيل .. لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط .. وإنما لا بد أن يتأدب بآداب الصوم ..
* * * * * * * *
فالصائم المتقي .. يحفظ اللسان .. كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري : ( من لم يدع قول الزور والعمل به .. فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه ) ..
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : ( الصوم جنة .. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل .. فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم ) ..
وقد كان السلف يحذرون من فلتات اللسان .. في غير صومهم فكيف بهم إذا صاموا ..؟!!
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد .. وقالوا : نحفظ صيامنا ..
وهذا هو حال العاقل .. فلماذا يغتاب الناس فيعطي حسناته لغيره ..
قال عبد الله بن المبارك لسفيان الثوري : يا أبا عبد الله .. ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ..
فقال سفيان : هو أعقل من أن يسلط على حسناته من يذهب بها ..
بل كان بعضهم يحاسب نفسه على الكلام المباح فضلاً عن غيره ..
ذكر ابن قدامة في الرقة والبكاء .. عن :
مالك بن ضيغم عن أبيه قال :
جاءنا رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر .. فقلنا : هو نائم ..
فقال : أنوم بعد العصر ؟ هذه الساعة ؟ هذا وقت نوم !!
ثم ولى .. فقلنا للخادم : الحقه .. فقل : نوقظه لك ؟ فذهب الخادم .. فلم يرجع الخادم إلا بعد المغرب .. فقلنا : أبلغته ..
فقال : هو كان أشغلَ من أن يفهم عني .. أدركته وهو يدخل المقابر .. وهو يوبخ نفسه .. يقول : يا نفس أقلت : أي نوم هذا ..
لينم الرجل متى شاء .. تسألين عما لا يعنيك ..
أما إن لله عز وجل على عهداً .. أن أصلي كذا وكذا ..
* * * * * * * *
نعم دقق على نفسك .. ولا تحتقرن شيئاً ..
جلست عائشة يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكرت له صفيه – إحدى زوجاته .. وتعلمون ما يقع بين الضرائر من الغيرة - قالت عائشة :
يا رسول الله .. حسبك من صفية كذا وكذا .. تعني قصيرة ..
فقال صلى الله عليه وسلم : لقد قلت كلمة .. لو مزجت بماء البحر لمزجته .. رواه الترمذي وقال حسن صحيح ..
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال :
إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار .. أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ..
* * * * * * * *
أيها الصائمون والصائمات ..
ومن أفضل الأعمال .. في هذا الشهر الكريم ..قيام الليل ..
في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) ..
ومدح الله المؤمنين فقال : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً * والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ) ..
وقد كان قيام الليل دأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..
ففي الصحيح عن حذيفة قال :
صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة .. فافتتح البقرة .. فقلت :
يركع عند المائة .. ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة ..
فمضى .. فقلت : يركع بها .. ثم افتتح النساء .. فقرأها ..
ثم افتتح آل عمران .. فقرأها ..
يقرأ مترسلاً .. إذا مر بآية فيها تسبيح .. سبح ..
وإذا مر بسؤال .. سأل .. وإذا مر بتعوذ .. تعوذ ..
ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم .. فكان ركوعه نحواً من قيامه .. ثم قال : سمع الله لمن حمده .. ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ..
ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه ..
* * * * * * * *
أما أبو بكر رضي الله عنه .. فكان يصلي من الليل ما شاء الله .. ويبكي ..
وأما عمر رضي الله عنه .. فكان يصلي من الليل ما شاء الله .. حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ثم يقول لهم : الصلاة ، الصلاة .. ويتلو هذه الآية : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) ..
نعم كان أحدهم يصلي لربه .. صلاة عبد مشتاقٍ إليه .. معترفٍ بفضله عليه.. متذللٍ منكسرٍ بين يديه ..
فيزداد محبة إلى محبته.. وشوقاً إلى دخول جنته..
يود أن ظلام الليل دام له * وزيد فيه سواد القلب والبصر
وهكذا كان من بعدهم ..
كان محمد ابن خفيف .. رحمه الله به وجع الخاصرة ..
فكان يشتد عليه حتى يقعده عن الحركة ..فكان إذا نودي بالصلاة..
يحمل على ظهر رجل إلى المسجد .. فقيل له : إن الله قد عذرك ..
فلو خففت على نفسك .. فقال : كلا .. إذا سمعتم حي على الصلاة .. ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة ..
لله درهم من مرضى.. بل والله نحن المرضى..
وكان منصور بن المعتمر .. إذا جن عليه الليل .. يلبس من أحسن ثيابه .. ثم يرقى إلى سطح بيته .. ويصلي ..
فلما مات .. قال غلام جيرانهم لأمه : يا أماه .. الجذع الذي كان ينصب في الليل في سطح جيراننا .. ليس أراه ..
فقالت : يا بني .. ليس ذاك جذعاً ذاك منصور كان يصلي .. وقد مات..
* * * * * * * *
وكانوا يستشعرون عظمة ربهم إذا وقفوا بين يديه ..(/5)
كان أبو زرعة الرازي إماماً في مسجد قومه عشرين سنة ..
فجاءه يوماً .. قوم من طلاب الحديث ..
فنظروا فإذا في محرابه كتابة .. فقالوا له : ما حكم الكتابة في المحاريب ؟ فقال : قد كرهه قوم ممن مضى .. فأنا أنهى عنه وأكرهه ..
فقالوا : هو ذا في محرابك كتابة .. أو ما علمت بها ..!!
فقال : سبحان الله !! رجل يقف بين يدي الله تعالى .. ويدري ما بين يديه ..
* * * * * * * *
أما سفيان الثوري.. فقد حدث عنه عبد الرزاق .. أحد طلابه .. قال : قدم عليَّ سفيان الثوري .. بعد العِشاء .. فوضعت له العَشاء .. والزبيب والموز .. فأكل أكلاً جيداً ..
فلما فرغ .. قام .. وتوضأ .. ثم شد على وسطه إزاره .. واستقبل القبلة وقال .. يا عبد الرزاق !! يقولون : اعلف الحمار ثم كده ..
ثم صف قدميه يصلي حتى الصباح ..
وقال ابن وهب : رأيت سفيان الثوري في الحرم بعد المغرب .. صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء ..
* * * * * * * *
نعم .. كانوا يتسابقون على الخير ..
قام أبو مسلم الخولاني ليلة .. فتعبت قدماه فضربهما بالسوط .. وأخذ يقول : أيظن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه ؟ والله لنزاحمنهم عليه .. حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً ..
وكانوا يجدون في الصلاة خشوعاً .. وفي السجود خضوعاً ..
ذكر الذهبي عن بعض أصحاب شعبة بن الحجاج قال :
كان شعبة يطيل الصلاة .. وما رأيته ركع في الصلاة قط إلا ظننت أنه نسي .. ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي ..
وفي الحلية : أن عبيدة بن مهاجر .. كان عابداً شاكراً .. متخشعاً ذكراً .. وكان له أم مجوسية .. فكان يبرها أشد البر .. ويدعوها إلى الإسلام فتأبى عليه ..
فرجع من صلاة العصر يوم الجمعة .. فبشرته أنها أسلمت .. ونطقت الشهادتين .. فخر ساجداً لله .. يبكي ويناجي .. فما رفع رأسه حتى غابت الشمس ..
* * * * * * * *
ولم يكن العباد من الرجال فقط ففي النساء نصيب ..
فمعاذة العدوية كانت تصلي أكثر الليل .. وتقول :
عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور .. وتبكي ..
وكانت حفصة بنت سيرين تسرج سراجها من الليل ثم تقوم في مصلاها .. وكانت تقرب كفنها .. لتذكر الموت في صلاتها .. فتخشع ..
* * * * * * * *
نعم .. كانوا يركعون ويسجدون .. ويصلون ويقومون .. حتى صار ذلك لهم عادة ..
كان للحسن بن صالح جاريةٌ فاشتراها منه بعضهم .. فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد قامت تصيح في الدار :
يا قوم ..الصلاة ..الصلاة .. فقاموا فزعين .. وسألوها : هل طلع الفجر ؟ فقالت : وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة ؟! ثم قامت تصلي ..
فلما أصبحت رجعت سيدها الأول ..
وقالت له : لقد بعتني إلى قوم سوء لا يصلون إلا الفريضة ولا يصومون إلا الفريضة فردني فردها ..
فليت شعري .. ماذا تقول تلك الجارية لو رأت فريقاً من مسلمي زماننا .. الذين تمر عليهم الأيام تترى .. وهم على فرشهم يتقلبون ..
فلا الليلَ يقومون .. ولا صلاةَ الفجر يشهدون ..
فكانوا كما قال الله { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً } ..
* * * * * * * *
وكانوا في رمضان أشدَّ منهم اجتهاداً ..
فكان الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة .. ويختمون القرآن مراراً في رمضان ..
وفي الموطأ عن ابن هرمز قال : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان .. فكان القارىء يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات .. فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعةً .. رأى الناس أنه قد خفف ..
وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال : كنا ننصرف من القيام في رمضان .. فنستعجل الخادم بالطعام مخافة الفجر ..
وفي شعب البيهقي عن خالد بن دريك قال : كان لنا إمام بالبصرة يختم بنا في شهر رمضان في كل ثلاث .. فمرض فأمنا غيرُه .. فختم بنا في كل أربع .. فرأينا أنه قد خفف ..
وقال السائب بن زيد : كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام .. وما كنا ننصرف إلا عند الفجر ..
فقارن حالهم بحالنا اليوم ..
* * * * * * * *
ومن فضل الله تعالى .. أن من صلى التراويح كاملة مع الإمام ..
فكأنما قام الليلة كاملة .. كما في السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) ..
نعم .. قوم عبدو ربهم .. فخافوا من عقوبته .. ورغبوا في معاماته .. وتعلقت قلوبهم بمحبته ..
فكثر في الدنيا اجتهادهم .. حتى علت بين الناس رتبهم .. فأحبهم أهل السماء .. ووضع حبهم في الأرض ..
قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } ..
* * * * * * * *
شهر رمضان هو شهر القرآن ..
وكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ..
وكان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة ..(/6)
وكان الزهري إذا دخل رمضان .. يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم .. ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف ..
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن ..
وكان قتادة في غير رمضان .. يختم القرآن في كل سبع ليال مرة .. فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة .. فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة ..
وكان إبراهيم النخعي يختم في العشر الأواخر كل ليلة .. وفي بقية الشهر في ثلاث ..
* * * * * * * *
وكانوا يتدبرون القرآن ..
ففي البخاري عن بن مسعود رضي الله عنه قال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً : ( اقرأ علي ، فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، قال : فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال : حسبك .. فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) ..
وفي رمضان يجتمع الصوم والقرآن..فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان
يشفع له القرآن لقيامه .. ويشفع له الصيام لصيامه .. كما صح في المسند أنه صلى الله عليه وسلم قال :
( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.. يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار .. فشفعني فيه .. ويقول القرآن : رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ) ..
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يجيء القرآن يوم القيامة فيقول : يارب حلّه.. فيُلْبس تاجَ الكرامة.. ثم يقول : يارب زدهُ.. فيُلبس حلةَ الكرامة..
ثم يقول : يارب ارض عنه فيرضى عنه .. فيقول إقرأ وارق .. ويُزاد بكل آيةٍ حسنة ) .. رواه الترمذي وهو حديث حسن .
وروى ابن ماجة وأحمد بسند قال فيه الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ..أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب .. فيقول : هل تعرفني ؟
فيقول: ما أعرفك .. فيقول : أنا صاحبك القرآن .. الذي أظمأتك في الهواجر .. وأسهرت ليلك .. وإن كل تاجر من وراء تجارته ..
وإنك اليوم من وراء كل تجارة ..
فيعطى الملكَ بيمينه ..والخلدَ بشماله ..
ويوضع على رأسه تاج الوقار .. ويكسى والداه .. حلتين لا تقوم لهما الدنيا .. فيقولان : عمَّ كسينا هذا ؟
فيقال : بأخذ ولدكما القرآن .. ثم يقال : اقرأ .. واصعد .. في دُرَج الجنة .. وغرفها .. فهو في صعود .. ما دام يقرأ .. حدراً كان أو ترتيلاً ..
وقال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده أنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه .. فإذا كان مؤمناً .. كانت الصلاة عند رأسه .. والزكاة عن يمينه .. والصوم عن شماله ..
وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس من قبل رجليه ..
فيؤتي من قبل رأسه فتقول الصلاة : ليس قبلي مدخل ..
فيؤتى عن يمينه .. فتقول : الزكاة ليس قبلي مدخل ..
ويؤتى من قبل شماله .. فيقول الصوم : ليس قبلي مدخل ..
ثم يؤتى من قبل رجليه .. فيقول فعل الخيرات إلى الناس : ليس من قبلي مدخل ..
الحديث .. رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي : إسناده حسن .
نعم .. كان القرآن عند السلف الصالحين .. مسهراً لليلهم .. مدراً لدموعهم ..
قال عبيد بن عمير .. سألت عائشة :
أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فسكتت ثم قالت :
لما كان ليلة من الليالي .. قال : يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي ..
قلت : والله إني أحب قربك .. وأحب ما يسرك ..
فقام فتطهر .. ثم قام يصلي .. فلم يزل يبكي .. حتى بل لحيته ..
ثم بكى حتى بل الأرض ..
فجاء بلال يؤذنه بالصلاة .. فلما رآه يبكي .. قال :
يا رسول الله .. تبكي !! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ..
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً .. لقد نزلت علي الليلة آية .. ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها { إن في خلق السموات والأرض } .. رواه ابن حبان وصححه الألباني ..
أتانا رسول الله يتلو كتابه ..كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ..به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه .. إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
* * * * * * * *
نعم كانوا يقرؤون ويبكون ..
أما بعض المسلمين اليوم .. فقد تحول القرآن عندهم إلى زخارف في البيوت .. والمتاجر .. والسيارات ..
فصاحب المتجر يعلق آيات القرآن .. وهو يتعامل بالربا .. ويحلف كاذباً ..
بل .. تشاهد الآيات في السيارات.. وأصحابها يحملون الخمر .. وعلب السجائر .. ويحين عليهم وقت الصلاة ولا يصلون ..
وتذهب إلى بعض الإدارات فتجد آيات القرآن معلقة .. وبين جدران هذه الإدارة تؤكل الرشوة .. ويحتال على المسلمين ..
بل ترى المرأة المتبرجة .. تعلق في عنقها قلادة على صورة مصحف .. وهي سافرة متكشفة .. والقرآن يقول لها : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } ..
* * * * * * * *
ولتلاوة القرآن آداب :
منها أن يتلوَه على طهارة .. والتسوك قبل التلاوة ..
والبداية بالاستعاذة والبسملة ..(/7)
وتحسين الصوت والترتيل .. لما في المستدرك وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً ) ..
ومن الآداب أن لا يجهر أحد على أحد بالقراءة فيرفع صوته ..
قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا كلكم مناجٍ لربه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا .. ولايرفع بعضكم على بعض في القراءة ) ..
وعلى الشخص الذي يجد صعوبة في التلاوة أن يصبر..
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة .. والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران ) ..
ومن الآداب : محاولة البكاء والخشوع عند التلاوة .. قال تعالى ممتدحاً المؤمنين { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } ..
أما ظاهرة إرتفاع الأصوات بالبكاء والصياح كما يقع في بعض المساجد في رمضان .. بحيث يكون الوضع مزعجاً جداً ..
وهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه .. فلم يكن بكاؤهم صياحاً ولا زعيقاً ..
ومن الآداب محاولة فهم القرآن .. والقراءة في كتب التفسير ..
ومن تأمل واقع المسلمين وجد جهلاً عاماً بمعاني القرآن ..
فلو سألت أحدهم : هل تحفظ سورة { قل هو الله أحد } .. لقال لك : نعم .. فاسأله : ما معنى الله الصمد ؟ ..
أو ما معنى الفلق ؟ ما معنى : غاسق إذا وقب ؟ { والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحاً }.. ما معناها .. هذه قصار السور ..
ما سألته عن آية في سورة البقرة وآل عمران .. وإنما عن سور يقرؤها يومياً أو تقرأ عليه .. ومع ذلك يجهل معانيها ..
فما الذي يضره لو تعلم تفسيرها ساعة من نهار ..
فينبغي على قارئ القرآن أن يحاول جاهداً أن يتفهم ما يقرؤه ..
* * * * * * * *
ومن أفضل العبادات في هذا الشهر الكريم ..الدعاء ..
ويستحب في كل وقت .. وله أوقات يتأكد فيها ..
فعند الإفطار .. للصائم دعوة لا ترد ..
وفي ثلث الليل الآخر .. حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول : ( هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ) ..
وقد مدح الله المستغفرين بالأسحار : فقال ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ) .
ويستحب للداعي أن يتحرى أوقات الإجابة .. كما بين الأذان والإقامة .. وساعةِ يومِ الجمعة .. ودبرِ الصلواتِ المكتوبةِ ..وغيرِها ..
والمرأة في ما ذكرنا ..شقيقة الرجل .. في الحرص على الطاعات .. واغتنام الأوقات ..
وبعض النساء .. يقصرن في ذلك .. فإذا أقبل رمضان .. كثر خروجهن إلى الأسواق ..
تخرج إحداهن وقد حسرت ذراعيها.. وأبدت عينيها.. أو لبست عباءة مطرزة أو مزركشة.. وقد تخرج زينة أكثر من هذه..
ورائحة العطر تفوح منها..
وبعض شبابنا يصومون في النهار.. فإذا أقبل الليل.. جمل أحدهم هندامه.. وزين ثيابه..
ثم جعل يتعرض للنساء في الأسواق .. يرمق هذه .. ويشير إلى تلك .. عجباً .. بالنهار نيام .. وبالليل لئام ..
الناس في صلاة وخشوع .. وهو يتصيد الأعراض ..
فيا لفداحة الفاجعة .. ويا للنظرات المسعورة .. والكلمات المعسولة .. فأين الرجال عن أعراضهم.. أين الغيرة على الحرمات .. أين الشهامة ..
إن لم تصُن تلك اللحوم أسودها أُكلت بلا عوض ولا أثمان
* * * * * * * *
ومن أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم .. الجود والإحسان ..
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس .. وكان أجود ما يكون في رمضان .. كان أجود بالخير من الريح المرسلة ..
فكم من حسنة إلى منكوب .. وصدقة على مكروب .. غفر الله بها الذنوب .. وستر بها العيوب ..
والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار..
والصدقة تطفئ غضب الرب..
ذكر في تاريخ بغداد.. أن فقيراً جاء إلى عبد الله بن المبارك .. فسأله أن يقضى عنه ديناً عليه .. فناوله عبد الله كتاباً .. إلى وكيل ماله ..
فذهب به الفقير .. فلما قرأه الوكيل .. قال للفقير : كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك ؟
قال : سبعمائة درهم .. فكتب الوكيل إلى عبد الله .. أن الرجل سألك أن تقضي عنه سبعمائة درهم .. وكتبت له سبعة آلاف ..
وسوف تفنى الأموال أو فنيت ..
فكتب إليه عبد الله : إن كانت الأموال قد فنيت .. فإن العمر أيضاً قد فني .. فأجز له ما سبق به قلمي ..
* * * * * * * *
وفي السير : أن ابن المبارك .. كان كثيراً ما يسافر إلى الرقة .. وينزل في خان فيها ..
فكان شاب يأتي إليه .. ويقوم بحوائجه .. ويسمع منه الحديث ..
فقدم عبد الله الرقة مرة .. فلم ير ذلك الشاب ..
فسأل عنه .. فقالوا : إنه محبوس .. لدين ركبه ..
فقال عبد الله : وكم مبلغ دينه ؟ فقالوا : عشرة آلاف درهم ..
فلم يزل عبد الله يستقصي .. حتى دُلَّ على صاحب المال .. فدعا به ليلاً وأعطاه عشرة آلاف درهم .. وحلفه أن لا يخبر أحداً ..ما دام عبد الله حياً .. وقال له : إذا أصبحت .. فاخرج الرجل من الحبس .. ثم خرج عبد الله من ليلته من الرقة ..(/8)
فلما خرج الفتى من الحبس .. قيل له : عبد الله بن المبارك كان هاهنا .. وكان يسأل عنك .. فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة .. فلما قابله .. قال له عبد الله : يا فتى .. أين كنت ؟ لم أرك في الخان ! قال : كنت محبوساً بدين ..
قال : فكيف كان سبب خلاصك ؟ قال : جاء رجل فقضى ديني .. ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس ..
فقال له عبد الله : احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك .. ثم فارقه ومضى ..
* * * * * * * *
والصدقة في رمضان لها صور متعددة ..
فمنها : إطعام الطعام :
قال تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً * وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً ) ..
وأخرج الحاكم وصححه .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( يا أيها الناس : أفشوا السلام .. وأطعموا الطعام .. وصلوا الأرحام .. وصلوا والناس نيام .. تدخلوا الجنة بسلام ) ..
وكان الصالحون يعدون إطعام الطعام من العبادات ..
وقد روى الترمذي بسند حسن .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ) ..
ومن إطعام الطعام .. تفطير الصائمين :
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين ..
وقد روى أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ) ..
* * * * * * * *
ومن أفضل الطاعات ..
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس
فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس ..
وصح عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) ..
هذا الفضل في كل الأيام فكيف بأيام رمضان ؟
* * * * * * * *
ومن الأعمال الفاضلة في رمضان : العمرة ..
ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) .. وفي رواية ( حجة معي ) ..
* * * * * * * *
ومن أفضل الطاعات أيضاً ..
تلك العبادة التي يخلو المرء فيها المرء بربه .. فيناجيه خاشعاً .. معترفاً خاضعاً ..
يدع الدنيا وراءه .. إنها العبادة التي حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم عليها طوال حياته.. إنها سُنّة الاعتكاف .. وهو لزوم المسجد وعدم الخروج منه تقرباً إلى الله تعالى .. ولا يخرج من المسجد إلا لحاجه ضرورية لابد منها .. وإلا بطل اعتكافه ..
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام .. فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً .. كما عند البخاري ..
والاعتكاف المطلوب .. ليس الاعتكاف الذي يجعل المساجدَ مهاجعَ للنائمين .. أو مجالسَ للمتزاورين .. وموائدَ للأكل .. وحلقاتٍ للضحك وفضول الكلام ..
فهذا اعتكاف لا يزداد به صاحبه إلا قسوة في قلبه ..
إن الاعتكاف المطلوب .. هو الذي تسيل فيه دموع الخاشعين .. وترفع فيه أكف المتضرعين المخبتين ..
إنه الاعتكاف الذي يسعى فيه المرء جاهداً .. أن لا يصرف منه لحظة في غير طاعة..
وعلى المعتكف .. بل على الصائم عموماً .. أن يجعل لسانه رطباً من ذكر الله ..
فقد قال صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم .. وأزكاها عند مليككم .. وأرفعها في درجاتكم ..
وخير لكم من إعطاء الذهب والورق .. وأن تلقوا عدوكم .. فتضربوا أعناقهم .. ويضربوا أعناقكم .. قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله عز وجل .. أخرجه الحاكم وصححه ..
وذكر ابن رجب في اللطائف أن أبا هريرة كان يسبح في اليوم والليلة أكثر من اثني عشر الف تسبيحه .. فسئل عن إكثاره لذلك فقال : أفتك بها نفسي من النار ..
وعند الحاكم وصححه .. أن أعرابياً قال : يا رسول الله .. إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ..
فأنبئني بشيء أتشبث به .. فقال صلى الله عليه وسلم : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ..
وقد قال تعالى : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ..
فينبغي للصائم .. أن يكون مشتغلاً بالذكر والأذكار ..
فمن كانت هذه حاله في في صيامه .. أو اعتكافه وقيامه .. رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه ..
وأفضل الذكر قراءة القرآن .. فإن بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها .. والقرآن يشفع لأصحابه يوم القيامة ..
ولا شك أن الاكتفاء بختمة واحدة في هذه الأيام العشرة تفريط كبير
* * * * * * * *
كما ينبغي على المعتكف الإكثار من الصلاة .. والنوافل المطلقة والمقيدة .. كالسنن الرواتب .. وصلاة الضحى .. وغير ذلك ..(/9)
فقد روى مسلم أن صلى الله عليه وسلم قال لثوبان رضي الله عنه : عليك بكثرة السجود لله .. فإنك لا تسجد لله سجدة .. إلا رفعك الله بها درجة .. وحط عنك بها خطيئة ..
وروى مسلم أيضاً عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته .. فقال : لي سل .. فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة .. قال : أو غير ذلك ؟
قلت : هو ذاك .. قال : فأعنى على نفسك بكثرة السجود ..
والاعتكاف والصلاة ..لهما فضل عظيم ..
روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال :
( صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته.. وفي سوقه خمساً وعشرين درجة ..
ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء.. ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة.. وحط عنه بها خطيئة.. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه.. اللهم أرحمه..
ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ) ..
فإذا كان المشي إلى الصلاة وانتظارها يرفع المرء ويرقيه .. فكيف بالمكوث في المسجد .. والاعتكاف فيها أياماً وليال .. وانتظار الصلاة بعد الصلاة ..
قال الزهري : ( عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف.. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله ) ..
ومن نوى اعتكاف العشر الأواخر فإنه يدخل معتكفه قبل غروب شمس العشرين من رمضان .. ويخرج بعد غروب شمس ليلة العيد ..
ومن اجتهد في العشر الأواخر فهو حري بأن يدرك ليلة القدر ..
وهي أعظم ليالي رمضان .. بل هي خير من ألف شهر ..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ..
وكان صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر .. ويأمر أصحابه بتحريها .. وكان يوقظ أهله في ليالي العشر .. رجاء أن يدركوا ليلة القدر .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )
* * * * * * * *
أيها الصائمون والصائمات.. إننا نعبد رباً عفواً يحب العفو .. رحمته تسبق غضبه .. ومغفرته أعجل من عقوبته ..
يحب من عباده أن يسارعوا إليه إذا أذنبوا ..
فالتوبة هي شعار المتقين ..ودأب الصالحين .. رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة \"..
ولله في كل ليلة عتقاء من النار .. فاجتهد أن تكون واحداً منهم !!
فرمضان فرصة لمن فرط في صلاته .. ليتدارك نفسه ..
فبين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة ..
ورمضان فرصة للمدخن أن يتوب ..
ورمضان فرصة لمن قطع رحمه أن يصلها .. ولا يدخل الجنة قاطع..
وقد أمر الله بصلة الرحم في تسع عشرة آية .. ولعن قاطع الرحم في ثلاث آيات ..
فمن كان بينه وبين أحد من أرحامه أو أحد من المسلمين .. بغضاء أو شحناء .. فليسارع إلى الإصلاح ..
وإذا صامت بطوننا عن الغذاء .. فلتصم قلوبنا عن الشحناء ..
* * * * * * * *
نعم رمضان فرصة لهؤلاء .. وهو فرصة أيضاً ..
لمن يتاجر بالحرام .. فيبيع المحرمات من دخان .. ومجلات فاسدة .. ومعسل وجراك .. أو أشرطة غنائية ..
أو يبيع العباءات والنقابات المحرمة .. أو الملابس الفاضحة ..
ليتوب من ذلك .. وليعلم أن الله يحاسب على النقير والقطمير ..
وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ..
ولن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟
* * * * * * * *
إن رمضان فرصة لنا جميعاً ..أن نتخلص من ذنوب لعلّ بعضها .. تتبعنا إلى قبورنا ..
نعم .. ذنوب تدخل معنا قبورنا .. نموت نحن .. وتعيش هي بعدنا .. تصب علينا السيئات ..
إنها تلك الذنوب التي يجمعها من ينشر الفساد في الأرض عن طريق بيع أجهزة محرمة .. أو فتح مقاهٍ يجتمع فيها الفساق .. أو محلات ينشر بها مجلات فاسدة .. أو مسكرات ودخان ..
فمن أعان على هذه المعاصي فهو شريك لأصحابها في الإثم ..
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ..
قال أبو حامد : طوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه .. والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه .. مائةّ سنة .. ومائتي سنة .. أو أكثر ..
يعذب بها في قبره .. ويسئل عنها إلى آخر انقراضها ..
وقال تعالى : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } ..
أي نكتب ما أخروه من آثار أعمالهم .. كما نكتب ما قدموه ..
* * * * * * * *
ولكن .. لا تقنط من رحمة الله ..
فأبواب الرحمات مفتوحة ..
فكن من الذين تفتح لهم أبواب الجنان ..وتغلق عنهم أبواب النيران .. الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورة ذنوبهم .. مكفرة خطاياهم ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم : رغم أنفه .. ثم رغم أنفه .. ثم رغم أنفه .. من أدرك رمضان ولم يغفر له ..
* * * * * * * *
أيها الصائمون والصائمات ..
ومن أهم ما ينبغي أن نستغل به هذا الشهر المبارك ..(/10)
نصح الناس .. ودعوتهم إلى الله ..
فقد أقبل الناس على الخير .. وانتهى الكثيرون عن معاص كانوا مقيمين عليها فيما قبل رمضان ..
فهل نغتنم هذه الفرصة السانحة ..
وكم من عاص كانت توبته في رمضان .. بسبب آية طرقت سمعه .. أو موعظة أثرت في قلبه ..
وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) ..
وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله .. وملائكته .. وأهل السماوات .. والأرضين .. حتى النملة في جحرها .. وحتى الحوت .. ليصلون على معلم الناس الخير ) ..
ورب كلمة يتكلم بها الداعية .. تكون سبب هداية لمن يسمعها ..
وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً .. يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه ..
ذكر ابن قدامة في التوابين .. عن عبد الواحد بن زيد قال :
كنت في مركب .. فطرحتنا الريح إلى جزيرة ..
وإذا فيها رجل يعبد صنماً .. فقلنا له :
يا رجل .. من تعبد ؟ فأومأ إلى الصنم .. فقلنا : إن معنا في المركب من يصنع مثل هذا .. وليس هذا إله يعبد ..
قال : فأنتم من تعبدون ؟ قلنا : الله .. قال : وما الله ؟
قلنا : الذي في السماء عرشه .. وفي الأرض سلطانه .. وفي الأحياء والأموات قضاؤه .. فقال : كيف علمتم به ..
قلنا : وجه إلينا هذا الملك رسولاً كريماً .. فأخبر بذلك ..
قال : فما فعل الرسول ؟ قلنا : أدى الرسالة .. ثم قبضه الله ..
قال : فما ترك عندكم علامة ؟ قلنا : بلى .. ترك عندنا كتاب الملك ..
فقال : أروني كتاب الملك .. فينبغي أن تكون كتب الملوك حساناً ..
فأتيناه بالمصحف .. فقال : ما أعرف هذا ..
فقرأنا عليه سورة من القرآن .. فلم نزل نقرأ ويبكي .. حتى ختمنا السورة ..
فقال ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى ..
ثم أسلم .. وحملناه معنا .. وعلمناه شرائع الإسلام .. وسوراً من القرآن ..
وأخذناه معنا في السفينة .. فلما سرنا وأظلم علينا الليل .. أخذنا مضاجعنا
فقال لنا : يا قوم .. هذا الإله الذي دللتموني عليه .. إذا أظلم الليل هل ينام ؟
قلنا : لا يا عبدالله .. هو عظيم قيوم لا ينام ..
فقال : بئس العبيد أنتم .. تنامون ومولاكم لا ينام .. ثم أخذ في التعبد وتركنا ..
فلما وصلنا بلدنا .. قلت لأصحابي : هذا قريب عهد بالإسلام .. وغريب في البلد .. فجمعنا له دراهم وأعطيناه ..
فقال : ما هذا ؟ قلنا : تنفقها في حوائجك ..
فقال : لا إله إلا الله .. أنا كنت في جزائر البحر .. أعبد صنماً من دونه .. ولم يضيعني .. أفيضيعني وأنا أعرفه .. !! ومضى يتكسب لنفسه ..
وكان بعدها من كبار الصالحين ..
* * * * * * * *
ووالله ما أقلت الغبراء .. ولا أظلت الخضراء .. أكرم خلقاً .. ولا أزكى نفساً ..
ولا أحرص على هداية الناس من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ..
لقد دعا صلى الله عليه وسلم; إلى الله في كل مكان .. وحال .. وزمان ..
دعا من أحبوه .. ومن أبغضوه .. ومن أحسنوا معه .. ومن آذوه ..
ولم يكن اهتمامه صلى الله عليه وسلم مقتصراً على كبار الناس المؤثرين في المجتمع .. بل اعتنى بالصغار والكبار .. والعبيد والأحرار ..
فيا أيها الصائمون والصائمات ..
هل نغتنم أيام شهرنا في ذلك ؟ ..
إن اغتنمه التجار في التجارة .. والممثلون في التمثيل .. والمغنون في الغناء .. أفلا نغتنمه نحن لهداية الناس ..
بالابتسامة .. والكلمة .. والرسالة .. والكتاب .. والشريط ..
والدعوة الصادقة .. لعل الله تعالى أن يفتح بسببك القلوب ..
أسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعاً في طاعته .. وأن يجعلنا هداة مهتدين ..
* * * * * * * *
وفي الختام .. أسوق لكم بعض المسائل الهامة حول الصيام ..
المسألة الأولى :
الصوم هو الإمساك بنية عن المفطّرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ..
ومن أفطر شيئاً من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة ..
وقد صحَّ أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرؤيا التي رآها \".. ثم انطلق بي ..
فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم .. مشققة أشداقهم .. تسيل أشداقهم دماً .. قلت : من هؤلاء ؟
قال : الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم \" أي قبل وقت الإفطار ..
ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس ..
ويستحب أمر الصبي بالصيام ..
لما في البخاري عن الرُبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنه قالت : كنا نصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار ..
والمجنون لا يجب عليه الصوم ..
فإن كان يجنّ أحياناً ويُفيق أحياناً .. لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه..
وإن جُنَّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره لأنه نوى الصيام وهو عاقل .. ومثله الحكم في المصروع..
* * * * * * * *(/11)
وتُشترط النية في صوم الفرض من الليل .. ولو قبل الفجر بلحظة .. لما روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل \" ..
أما صوم النفل المطلق .. فلا تُشترط له النية من الليل ..
لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنه قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ فقلنا : لا .. فقال : فإني إذا صائم ..
وأما النفل المعيّن كعرفة وعاشوراء فالأحوط أن ينوي له من الليل ..ليكون أكملَ لأجره ..
* * * * * * * * *
المسألة الثانية :
من الصيام ما يجب فيه التتابع .. كصوم رمضان .. والصومِ في كفارة القتل الخطأ .. والظهار .. والجماع في نهار رمضان .. وكذلك من نذر صوماً متتابعاً لزمه ..
ومن الصيام ما لا يلزم فيه التتابع .. كقضاء رمضان .. وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي .. وصوم كفارة اليمين .. وصوم الفدية في محظورات الإحرام .. وصوم النذر المطلق لمن لم ينو التتابع ..
* * * * * * * *
وصيام التطوع كعاشوراءَ وعرفةَ والإثنينِ والخميسِ وغيرِها.. يجبر النقص في صيام الفريضة ..
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إفراد الجمعة بالصوم كما عند البخاري.. فمن أراد صوم الجمعة فليصم يوماً قبله أو يوماً بعده..
ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة .. إلا لمن لم يجد الهدي فيصومها بمنى ..
* * * * * * * *
المسألة الثالثة :
المسافر يجوز له سواء كان قادراً على الصيام أم عاجزاً عنه ..وسواء وجدت المشقة أم لم توجد .. وإذا أراد أن يفطر فيُشترط أن يُجاوز بنيان البلد ..
وإذا وصل المسافر بلده أثناء النهار وهو مفطر .. ففي وجوب الإمساك عليه خلاف .. والأحوط أن يمسك بقية يومه مراعاة لحرمة الشهر ..
* * * * * * * *
أما المريض .. فكل مرض لا يستطيع معه الصوم .. أو يشق معه الصوم .. فيجوز له الفطر ..
ولا يجوز الفطر لمجرد التعب المحتمل .. أو خوف المرض ..
ولا يجوز التساهل بالفطر لأجل الامتحانات .. ونحوها ..
والمريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ..
أما المريض مرضاً مزمناً لا يُرجى برؤه .. والكبير العاجز .. فيُطعمان عن كل يوم مسكيناً ..
ويجوز أن يجمع ثلاثين مسكيناً فيطعمهم في آخر الشهر .. أو أن يطعم مسكيناً كلّ يوم ..
ومن مرض ثمّ شفي .. وتمكن من القضاء .. فتكاسل حتى مات ..
فيقضي عنه أحد أقاربه .. لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : \" من مات وعليه صيام صام عنه وليّه \" ..
أو يُخرَج من ماله طعام مسكين عن كل يوم ..
أما العجوز .. والشيخ الفاني .. الذي يعقل .. لكنه يعجز عن الصوم .. فيطعم عن كل يوم مسكيناً ..
وأما من سقط تمييزه وبلغ حدّ الخَرَف .. فلا يجب عليه صيام ولا إطعام .. فإن كان يميز أحياناً .. ويهذي أحياناً .. وجب عليه الصوم حال تمييزه .. ولم يجب حال هذيانه ..
* * * * * * * *
المسألة الرابعة :
وإذا طلع الفجر وجب على الصائم الإمساكُ فوراً ..
وأما الاحتياط بالإمساك قبل الأذان بعشر دقائق ونحوها .. فهو بدعة .. بل يمسك عند الأذان ..
وإذا غابت الشمس أفطر الصائم .. والسنّة أن يعجّل الإفطار ..
وصح في المستدرك .. أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي المغرب حتى يُفطر ولو على شربة من الماء ..
فإن لم يجد الصائم شيئا يُفطر عليه نوى الفطر بقلبه ..
* * * * * * * *
ومن أفطر في نهار رمضان بعذر .. وكان سبب فطره ظاهراً .. كالمريض الذي يعلم من رآه أنه مريض .. فلا بأس أن يجاهر بالأكل والشرب .. ومن كان سبب فطره خفياً .. فالأولى أن لا يجاهر بالأكل لكيلا يتهم ..
* * * * * * * *
المسألة الخامسة :
المفطّرات سبعة :
أولها : الأكل والشرب ..
وهو معروف ..
• ومن المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب كالأدوية والحبوب عن طريق الفم والإبر المغذية وكذلك حقن الدم .
وأما الإبر التي لا تغني عن الأكل والشرب .. ولكنها للمعالجة كالبنسلين والأنسولين أو إبر التطعيم .. فلا تضرّ الصيام .. سواء عن طريق العضلات أو الوريد .. والأولى أن تكون بالليل ..
• أما غسيل الكلى الذي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى .. مع إضافة مواد كيماوية وغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم يعتبر مفطّراً .. كما في فتاوى اللجنة الدائمة ..
• أما قطرة العين والأذن .. وقلعُ السنّ .. ومداواةُ الجراح .. فلا يفطر ..
• وبخاخ الربو لا يفطّر .. والسواك وفرشاة الأسنان .. إذا لم يبلع شيئاً .. وكذلك ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات ..
• وإذا نسي الصائم فأكل أو شرب فليتم صومه .. فإنما أطعمه الله وسقاه .. ولا قضاء عليه ولا كفارة ..
ولكن يجل على من رآه أن يذكّره .. لعموم قوله تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتقوى } .. وعموم قوله صلى الله عليه وسلم :\"فإذا نسيت فذكّروني \" ..(/12)
• ومن احتاج إلى الفطر .. لإنقاذ معصوم من مهلكة .. فإنه يُفطر ويقضي ..كما قد يحدث في إنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق
* * * * * * * *
الثاني من المفطرات : الجماع ، أو إخراج المني بشهوة بفعل من الصائم :
ومن وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامداً .. فقد أفسد صومه وعليه : التوبة .. والإمساك بقية اليوم .. والقضاء .. والكفارة المغلظة ..
وهذا عام في جماع الزوجة ، ومثله الزنا واللواط وإتيان البهيمة ..
وقد أفتت اللجنة الدائمة أن من جامع مرات في أيام متعددة من رمضان نهاراً .. فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها ..
* * * * * * * *
ومن أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومَه .. ويجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر .. لكن عليه المبادرة لأجل الصلاة ..
ومن احتلم وهو نائم فصومه صحيح .. ومن استمنى فأنزل فسد صومه ..
* * * * * * * *
وثالث المفطرات : التقيؤ عمداً :
فمن تقيأ عمداً بوضع أصبعه في حلقه .. أو عصر بطنه .. أو غير ذلك فعليه القضاء .. ولو غلبه القيء بدون إرادته فصومه صحيح ..
والبلغم إن ابتلعه وهو في حلقه .. فلا يفسد صومه ..
فإذا ابتلعه عند وصوله إلى فمه .. فإنه يُفطر عند ذلك ..
* * * * * * * *
ورابع المفطرات : الحجامة :
وفي حكمها تعمد الصائم إخراج الدم الكثير وهو صائم ، كالتبرع بالدم ، أما سحب الدم القليل للتحليل لا يُفسد الصوم ..
أما خروج الدم من غير اختياره .. كالرعاف .. والجروح ونحوها .. فلا يؤثر في الصوم .. وإن كثر ..
* * * * * * * *
وخامس المفطرات : الحيض والنفاس :
وهو خروج الدم المعتاد من المرأة ..
والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلاً .. فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فصومها صحيح ..
والأفضل للمرأة أن لا تتعاطى ما تمنع به الدم ..
فإن تعاطت ما تقطع به الدم وانقطع فعلاً .. فصامت أجزأها ذلك ..
والنفساء إذا طهرت قبل الأربعين .. صامت واغتسلت للصلاة ..
* * * * * * * *
والحامل والمرضع تقاسان على المريض فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم : \" إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة .. وعن الحامل والمرضع الصوم \" .. رواه الترمذي وحسَّنه ..
* * * * * * * *
وهذه الأمور كلها لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة :
• أن يكون عالماً غير جاهل..
• ذاكراً غير ناس..
• مختاراً غير مضطر ولا مُكْرَه..
السواك سنّة للصائم في جميع النهار ..
ولا بأس بشمّ الطيب .. واستعمال العطور ودهن العود والورد ونحوها .. والبخور لا حرج فيه للصائم إذا لم يستنشقه مباشرة ..
* * * * * * * *
المسألة الأخيرة :
من آداب الصوم :
الحرص على السحور وتأخيرُه .. ففي البخاري : \" تسحروا فإن في السحور بركة \" ..
وتعجيل الفطر ففي البخاري : \" لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر \" ..
وكان صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات .. فإن لم تكن رطبات فتميرات .. فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء \" رواه الترمذي ..
ويقول بعد إفطاره : ذهب الظمأ .. وابتلت العروق .. وثبت الأجر إن شاء الله \" كما رواه أبو داود وحسن الدار قطني إسناده ..
* * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لصيام رمضان وقيامه ..إيماناً واحتساباً..
وأن يجعلنا ممن يقبل صيامه .. ويغفر زلَلَهُ وإجرامه ..
وأن يمُنّ علينا بالعتق من النيران .. والفوز بالجنان ..
وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين ..والله تعالى أجل وأكرم وأعلم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ..
* * * * * * * *
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه القدير
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
في 27/7/1422هـ/ الرياض(/13)
رحلة للآباء
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله الغر الميامين، وصحابته الراشدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
على إمام المسجد أن يبذل ما بوسعه في سبيل كسب قلوب أهل الحي وجيران المسجد، وذلك للحصول على ثقتهم أولاً به فهو إمام المسجد، وله دروس وأنشطة دعوية، وإن لم يثقوا به فلن يتم له أي نشاط لعدم موافقتهم عليه، وربما كانوا أكبر عائق في طريقه، لذلك تظهر أهمية الاحتكاك بهم ومجالستهم، وتحسين العلاقة معهم، وإزالة الحواجز التي قد تمنعهم عن الاستفسار والاستفتاء مثلاً، أو تبعدهم عن أنشطة المسجد، وكأنما المسجد ملك للإمام.
إن الأفضل في تدارك مثل هذه الحال أن تقام علائق حميمة معهم، ذات رسوخ وإخاء، ويتأتى ذلك غالباً بإقامة أنشطة مشتركة معهم، وأبلغ نشاط أن يكون من النوع الذي تظهر فيه حقائق الرجال لما فيه من مساس ظاهر لأخلاقهم، وعاداتهم وتقاليدهم؛ ليظهر كل على طبعه، ويمتنع الحرج بينهم وتترسخ المعرفة، ويشعر الكل بالقرب من الكل، وهذا غير منطبق على نشاط كما هو منطبق على سفر، - ولا حرج في أن تجمع تكاليفها الجميع - المقصود هو اشتراك الجميع في مثل هذا السفر؛ لأن السفر يسفر عن صاحبه، ولأن المقصود أيضاً التعرف الحقيقي، والشعور في السفر بالقرب أعظم من الحضر.
ولا شك أن مثل هذه الرحلة لا بد أن تكون هادفة، ومن تلك الأهداف:
1. تغيير بعض السلوكيات الخاطئة بالتي هي أحسن، مثل: التأخر عن الصلاة، والمداومة على الأذكار.
2. تنمية حب الالتزام في أنفسهم، وفي أبنائهم.
3. تحسين صورة الملتزم عند كثير من الناس الذين ينظرون إلى المسلم المستقيم بعين السخط.
4. التنبيه على أخطاء في تربية الأولاد.
5. بعض الدروس المهمة في تربية الأولاد.
6. عرض مشاريع المسجد - الخيرية، الدعوية، العلمية،... - عليهم، وإنماء روح البذل في خدمة الدين.
7. مناقشة أوضاع الحي من حيث الأبناء، والمشاكل، والعلاقات وغيرها.
8. توثيق العلاقة بين أفراد الحي، وبناء أخوَّة ذات أواصر عميقة فيما بينهم.
9. يمكن في الرحلة تبني مشاريع معينة، قد لا يمكن طرحها عليهم في الحضر مثل: السعي والتعاون في القضاء على المفسدين.
10. الاهتمام بالسنن في السفر - كدعاء السفر والنوافل - وتعويدهم عليها يجعل من الشخص غير المواظب عليها شخصاً معتاداً عليها داعيا إليها.
وغير هذه المقترحات ينبغي أن تهدف إليها مثل هذه الرحلة، والمقصود أن الإنسان قد يتقبل في السفر ما لا يتقبله في الحضر، والرجل الذي لا يُلقى في الحضر ولا يأتي إلى المسجد قد يتفرغ لهذه الرحلة فيسهل التواصل معه، وإنشاء العلاقة معه في الرحلة، وهكذا بقية الحالات التي ينبغي استغلالها في رحلة للآباء.
والحمد لله رب العالمين.(/1)
رحم الله أخي " الحبيب"
د. الحبر يوسف نور الدائم*
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم الذي قيل له ( إنك ميت وإنهم ميتون) وكفى بالموت واعظا ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ( وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وما المال والأهلون إلا ودائع ** ولا بد يوما أن ترد الودائع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ولقد استقبلت مقابر "حمد النيل" بأمدرمان شهابا ساطعا ، وعلما خافقا ، ذلكم هو الأخ الكريم ، صاحب الفضل العظيم "الحبيب أحمد الطيب" له من الله الرحمة الواسعة ، والمغفرة السابغة، والرضوان العميم ...عرفته منذ سنوات خلت فألفيته –ما علمت- سيدا ضخما ، وقامة سامقة تتعلق بالمعالي وتتجانف عن السفاسف ، وترنو إلى التي هي أقوم ببصرة نافذة ، وقريحة مشتعلة ، وعزيمة ماضية.
بسط الله له في الرزق ، وأكرمه ونعّمه فعلم-وكان حريصا على مدارسة العلم ، ومجالسة العلماء- أنها الفتنة والابتلاء والامتحان فلم يطغه مال ، ولم تستفزه نعمة. لم يكن "الحبيب" رحمه الله شحيحا بخيلا اقطع ، ولم يك كز الأنامل بل كان أبيض فياضا يداه غمامة ينفق في وجوه الخير والبر والإحسان. ذكر له بعض طلاب كلية الآداب بجامعة الخرطوم أنهم في حاجة إلى مصلى فتبرع تبرعا سخيا يدل على سماحة وكرم وأريحية ولم يحوجهم إلى مطاردة أو ملاحقة أم مماطلة. وإنما هذا مثال والأمثلة كثيرة يعرفها عنه أهله وأصدقاؤه ومن له به فضل معرفة أو اتصال أو تعامل.
لقد كان رحمه الله ممن يرتاد المساجد ، ويحرص على صلاة الجماعة حتى وهو مريض منهوك.عرفته المساجد في وطنه ، وعرفته في خارج وطنه وكم قد زار أم القرى وطيبة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
زار تلك البقاع الطيبة حاجا ومعتمرا وفي مرة من المرات سمعنا النداء من المسجد الحرام وكنا قد حضرنا لتونا إلى فندق من الفنادق ولمّا نضع رحالنا بعد فاقترح رحمه الله أن نمضي إلى المسجد فورا فقلت له " دا فقهك ؟! " الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يريحون الرواحل قبل أن يقوموا للصلاة " فاتخذها –رحمه الله- مكان تندر ومفاكهة وكان يقول لبعض أصحابنا وهو يبتسم ضاحكا "قال لي دا فقهك ؟" . رحمك الله أخي الحبيب فقد كنت سمحا متواضعا ذا مكارم ...وفي جلسة من تلك الجلسات العامرات بالآداب وطيب الكلام سألني أحدهم مازحا ما تقول في رجل زيّن ظاهر بيته بالرخام ؟ فقلت له ما أرى في هذا الذي فعله إلا مبالغة وشططا غير مرغوب فيه ، فأردف قائلا أخونا فلان دا –وبيني وبين فلان هذا مودة ومحبة- هو الذي زيّن ظاهر بيته بالرخام فقلت له أو تريده أن ( يليس) بيته في كل عام ؟ يكفى أن يكون المطر في الخريف غاسلا للرخام ! فقال أخي الحبيب "حبيب" ( انت آشيخنا فتاويك دي مفصلة على أفراد الناس واللا شنو ؟!
ويا رعى الله ذلك العهد وسقاه :-
ذكرت بها وصلا كأن لم أفز به
وعيشا كأني أقطعه وثبا
وإذا أضفت إلى تواضعه وحسن أدبه وسماحة نفسه وعلو همته وجود يديه ، وهذا ما ذكرنا آنفا ....إذا ذكرت إلى ما ذكرناه شجاعته وصبره ، وحسن توكله ، وقلة شكواه وهذا مما أظهره في مرضه الذي أصابه –ونسأل الله أن يثقل ميزانه ، وأن يكفر سيئاته ، وأن يزيد في حسناته- إذا أضفت هذا إلى ذاك علمت أي رجل كان "الحبيب أحمد الطيب " الذي مضى طيبا بإذن الله ونسأل الله أن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته...والعزاء فيه عزيز ...وعزاؤنا لأهله وزوجه وذريته وذويه ولإخواننا وإخوانه أحمد البدوي ، وسعود البرير ، وعبد الحي يوسف ، ومالك علي دنقلا ، وفيصل حسب النبي ، ومحمد البخيت ، وعبد الرحيم محمود وسائر من ذكرنا ومن لم نذكر من أحبائه وعارفي فضله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون وصل اللهم وبارك على نبيك وصفوة خلقك ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/1)
رحمة للعالمين
يحيى بن موسى الزهراني
الحمد لله الأحد الواحد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وهو المستعان على ما نرى ونشاهد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد عظم البلاء وقلّ المساعد ، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد عظم الخطب والكرب زائد ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل أسوة وأكرم مجاهد ، صلى الله عليه وعلى آله أولي المكارم والمحامد ، وصحبه السادة الأماجد ، والتابعين ومن تبعهم بأحسن السبل وأصح العقائد ، وسلم تسليماً كثيراً . . . أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ، فاتقوا الله رحمكم الله ، فالتقوى حياةٌ في القلب ، ويقينٌ بالغيب ، وحالةٌ في النفس ، تتبينُ منها اتجاهات الأعمال ، وتتوجه بها المشاعر الباطنية والتصرفات الظاهرية ، ويتّصِل بها العبد بربه سراً وعلانية ، من تأمّل خطوب الأيام ، استغنى عن خطب الأنام ، ومن سلك مسالك الاعتبار ، أضاءت له مصابيح الاستبصار ، فتأملوا رحمكم الله في دروب المسير ، وتذكَّروا أين المصير ، وبادروا قبل هجوم الفاقرة ، وشمّروا لعمل الآخرة .
أيها الأخوة في الله : قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةَ رضيَ اللّه عنه قال: قبَّلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الحسنَ بن عليٍّ وعندَهُ الأقرعُ بن حابس التميميُّ جالساً فقال الأقرعُ : إنَّ لي عشرةً من الوَلَدِ ما قبَّلتُ منهم أحداً ، فنظر إليهِ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال : " من لا يَرحمُ لا يُرحَم " ، رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، تعدت بني الإنسان ، إلى الطير والحيوان ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم في سَفَرٍ ، فانطلَقَ لحاجتِه ، فرأينا حمامة معَها فرْخانِ ، فأخذْنا فرخَيها ، فجاءَتِ الحُمَّرةُ وهي فجعة ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : " مَنْ فجَّعَ هذِه بوَلدِها ؟ رُدُّوا ولدَها إِليها " ، ورأى قريةَ نمْلٍ قد حُرَّقت ، قال : " مَنْ حرَّقَ هذِه ؟ إِنَّه لا ينبغي أنْ يُعذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ ربُّ النَّارِ " [ أخرجه أبو داود وصحح إسناده النووي في رياض الصالحين ] ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار ، فإذا جمل فلما رأى النبيّ حن إليه وذرفت عيناه ، فأتاه النبيّ فمسحه فسكن فقال : " لِمَنْ هاذا الْجَمَلِ ؟ " فجاء فتى من الأنصار ، فقال : هو لي يا رسول الله ، فقال : " أَلا تَتقي الله في هاذِهِ البَهيمَةِ الّتي مَلَّكَكَ الله إِيّاها ، فَإِنَّهُ شَكا لي أَنَّكَ تُجيعُهُ وَتُتعبه " [ أخرجه أبو داود وغيره وصححه الحاكم ] ، يالها من رحمة نبوية عامة ، وشفقة إنسانية هامة ، عن جابر رضي الله عنه قال : " رأى النبي صلى الله عليه وسلم حِمَار قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ " [ أخرجه مسلم ] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ " [ أخرجه أبو داود والترمذي ] ، هذا غيض من فيض من رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان والطير ، فأين منظمات الرفق بالحيوان عما يحصل للحيوانات في دول الكفر ، من تعذيب وقتل ، كمصارعة الثيران ، وضربها بالسيوف ، والتحريش بين بعض الطيور كمصارعة الديوك ، واتخاذ بعض الحيوان والطير غرضاً للتنافس ، حيث توقف وترمى بالرصاص أو السهام ، أين منظمة الرفق بالحيوان ، عن الصعق الكهربائي للحيوانات ، وضربها بالهراوات ، حتى الممات ، أم أن ذبح المسلمين للأضاحي ، وتقربهم إلى الله في الحج بالهدي ، هي الشغل الشاغل لتلكم المنظمات ، هذه شعيرة من شعائر الله ، وسنة من سنن الأنبياء والمرسلين ، ولن يتخلى عنها المسلمون طال الزمن أم قصر ، لأنها تشريع إلهي ، وأمر رباني ، قال العليم الجليل ، في محكم التنزيل : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } .(/1)
أمة الإسلام : بلغ من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وزهده ، أنه ما شبع من تمر أو بر في يوم من أيام حياته ، أخرج البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط بطنه بحجر من الجوع ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي ، مَا يَجِدُ دَقَلاً ـ تمراً رديئاً ـ يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ " [ أخرجه مسلم ] ، ولم يتنعم بالنوم على الفراش الوثير في حياته ، مع أنه كان يحكم أكبر دولة في العالم آنذاك ، دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه الشريف ، وفي خزانته صاع من شعير ، فبكى عمر ، قال : " ما يُبْكيك يا بن الخطاب " ؟ قلت : يا نبيّ الله ، ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبك ، وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرى ، في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفْوَتُه ، وهذه خِزانتكا فقال : " يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا " ، قلت : بلى " [ متفق عليه ] ، وكان صلى الله عليه وسلم يسلم على الأطفال ويمازحهم ويداعبهم ، ويقضي حاجة الفقير وذا الحاجة ، بعيداً عن الكبر والأنفة ، والشدة والغلظة ، بل كان رفيقاً رقيقاً ، متواضعاً لله ولعباده ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : " مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ خَادِماً " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، قَالَ : كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللّهِ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللّهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " [ أخرجه مسلم ] ، فأين دول الكفر عن تواضعه صلى الله عليه وسلم للمسلم والكافر ، وهي تقتل الناس معصومي الدماء ، وتنتهك الأعراض ، وتعتدي على المقدرات ، ولا ترضخ لقوانين الأمم المتحدة ، ولا لمجلس الأمن الدولي ، وتدعي الديمقراطية والتحررية ، وهي أبعد ما تكون عن ذلك ، ثم تأتي عبر صحفها بتزوير الوثائق ، وقلب الحقائق ، وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصويره على أنه إرهابي ، ويدعو إلى قتل الأبرياء ، وتعذيب السجناء ، وهو صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الانتقام ممن أساء إليه ، وعفى عنهم وصفح ، ورحم وتجاوز ، فأفيقوا أيها الناس ، أيها البشر ، في كل بقعة من بقاع العالم ، فقد جاءكم النذير عن صدق محمد السراج المنير ، صلى الله عليه وسلم ، فما عليكم إلا أن تقرءوا سيرته العطرة ، لتعرفوا حقيقته البيضاء الناصعة ، فهو أرحم بالناس من أنفسهم ، فكم كانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالكفار ، وتأسيه لموت إنسان وهو على الكفر ، بل كان يدعوهم إلى الإسلام ، حتى وهم على فرش الموت ، لعله ينقذهم من النار ، عن أنَسٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال : " كان غُلامٌ يهوديٌّ يَخدُمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فمَرِضَ ، فأتاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعودُهُ ، فقعَد عندَ رأسهِ فقال لهُ : أسلِمْ ، فنظَرَ إلى أبيهِ وهوَ عندَهُ ، فقال له : أطِعُ أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم ، فأسلمَ ، فخَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمدُ للّهِ الذي أنقَذَهُ منَ النار " [ أخرجه البخاري ] .(/2)
أمة الإسلام : لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع المثل في العفو والتصافح ، والتجاوز والتسامح ، والإعراض عن الجاهلين ، والإحسان إلى الغافلين ، عن عائشةَ رضيَ الله عنها قالت : " استأذنَ رهطٌ من اليهود على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : السامُ عليكَ ـ الموت عليك ـ فقلتُ : بل عليكم السامُ واللعنة ، فقال : " يا عائشة إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرفقَ في الأمر كله " قلتُ : أَوَ لم تسمَعْ ما قالوا ؟ قال : " قلتُ وعليكم " [ متفق عليه ] ، وكذبه قومه ، واتهموه بالأباطيل والأكاذيب ، وطردوه من بلده ، وأخرجوه من أهله ، فذهب حتى وصل قرن الثعالب ، فإذا هو بجبريل وملك الجبال عليهما السلام ، قَالَ : فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ! إنَّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، فَمَا شِئْتَ ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ ـ الجبلين ـ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً " [ متفق عليه ] ، وعندما أحاط بهم يوم فتح مكة العظيم ، وتمكن من رقابهم قال لهم : " مَا تَرَوْنَ أَنِّي صانعٌ بِكُمْ ؟ ، قالُوا : خيراً ، أَخٌ كريمٌ ، وابنُ أخٍ كريمٍ ، قالَ : " اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ " ، أي رحمة هذه ، وأي شفقة تلك ، مقابلة للإساءة بالإحسان ، ومقابلة الظلم بالغفران ، لقد مُلأ قلبه صلى الله عليه وسلم عفواً عظيماً ، وإحساناً كبيراً ، حتى عفا عمن كذبوه واتهموه ، وتجاوز عمن طردوه وأدموه ، وصدق الله العظيم القائل : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ، فويل للكفار والنصارى ، واليهود الحيارى ، من مشهد يوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم تزل القدم ، ولا ينفع الندم ، إن لم يعودوا إلى رشدهم ، ويؤمنوا بربهم ، ويصدقوا نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هاذِهِ الأُمَّةِ ، يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ " ، ويصدق ذلك قول الله جل وعلا في حق القرآن : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } .(/3)
أيها المسلمون : مساكين أولئك الكفار ، لم يعرفوا حقيقة النبي المختار ، ذو الرفعة والإكبار ، المؤيد بربه الواحد القهار ، لم يدركوا أنهم نبي هذه الأمة جمعاء ، عرب وعجم ، بل لجو في عتو ونفور ، وزهو وغرور ، غفلوا عن سيرته ، وتعاموا عن سجيته ، وتغافلوا عن رحمته ، وأيم الله لقد بلغت شفقة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورحمته كل شيء ، حتى نالت الكفار ، وهم يقعون فيه ويسبونه ، ويسيئون إليه ويشتمونه ، ويستهزءون به ويرسمونه ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة ، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً " [ أخرجه البخاري ] ، وصلى الله عليه وسلم : " ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً ، أوْ انْتَقَصَهُ ، أوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ أخرجه أبو داود وغيره ، وصححه الألباني برقم 2655 في صحيح الجامع ] ، فهل بعد هذه الرحمة من رحمة ، وهل بعد تلك الشفقة من شفقة ، ولكن الكافرين لا يعلمون ، رحمة لو بلغت أعداء الله ، لما تخلف منهم أحد عن ركب الإسلام ، سأل النجاشي عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ، واليوم عميت الأبصار ، وتشتت الأنظار ، ومن تأمل السيرة النبوية الشريفة ، والأحاديث الصحيحة الكريمة ، ليدرك شفقة هذا النبي الكريم على جنس بني آدم ، فهو صلى الله عليه وسلم لا يكذب ، ولا يخلف الوعد ، ولا يخون ، ولا يقتل ، ولا يدعو إلى ذلك ، بل ينهى عنه ، ويحذر منه ، عن أنس رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بعث جيشاً قَالَ : " انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، لاَ تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً ، وَلاَ طِفْلاً صَغِيراً ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ تُغْلُوا ، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا ، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [ أخرجه أبو داود ] ، نهى نبي الرحمة ، ورسول الرأفة ، عن قتل أطفال الكفار ، إذ لا ذنب لهم ، ومنع قتل نسائهم إذ لا جرم لهم ، فأين دول الاحتلال اليوم عن هذه الرحمة العالمية الأبوية ، والشفقة النبوية ، في العراق وفلسطين وغيرهما ، قتل وانتهاك لأعراض المسلمات من النساء ، وقنص وتشتيت ويتم للأطفال الرضعاء ، والله لقد بلغ حقد الكفار على المسلمين أوجه ، ووصل حسدهم آخره ، دنسوا كتاب الله ، وشوهوا بيوت الله ، ومثلوا بعباد الله ، فأين القوانين الدولية ، والأعراف العالمية ، أم أنها سراب وخداع ، وتمويه وضياع ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ : " اخْرُجُوا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، لاَ تَغْدِرُوا ، وَلاَ تَغُلُّوا ، وَلاَ تُمَثِّلُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ ، وَلاَ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ " ، فأين العنف وأين الشدة والتطرف التي زعم الكفار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إليها ، أو حث عليها ، فليأتوا بدليل على زيفهم ، وبينة على زيغهم ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً ، فأذاقهم الله عذاباً وبيلاً ، جزاءً وفاقاً ، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً ، بارك الله لي ولكم في الوحيين ، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنه كان للأوابين غفوراً .
الحمد لله مصرِّف الأمور ، ومقدِّر المقدور ، { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ } أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وهو الغفور الشكور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنفع يوم النشور ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والنور ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، فازوا بشرف الصحبة وفضل القربى ، ومضاعفة الأجور ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الآصال والبكور .(/4)
أيها المسلمون : إن الإرهاب والإرعاب هو ما تفعله دول الكفر بمواطنيها ، وما تقترفه من انتهاك لحقوق الإنسان في كل بلد إسلامي ، واستهانة بالجسد البشري ، والحق الإنساني ، ولقد أوردت وسائل الإعلام المختلفة على مدى سنوات عديدة ، ما يحصل للمسلمين العزل على أيدي الكفرة ، من قتل وذبح وتمثيل وتقطيع وتشويه واغتصاب وتعذيب وأذية ، ووالله لا ينكر ذلك حتى الكفار أنفسهم ، وما لقيه المسلمون في كوسوفا والبوسنة والهرسك على أيدي الصرب لهو أعظم دليل ، ثم تبعه ما حصل للشيشان على أيدي الروس ، وما يحصل للمسلمين في الفلبين والنيجر ونيجيريا وإندونيسيا لهو أمر فظيع ، وخطب وجيع ، مقابر جماعية ، واغتيالات عدوانية ، وتعصبات دينية وطائفية ، وما تبثه وسائل الإعلام اليوم من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في أفغانستان ، والعراق ، وفلسطين ، لهو أمر تدمع له المقل ، وتموت له قلوب العقل ، كل ذلك حقداً دفيناً على الإسلام وأهله ، ألا وإن ما ينادي له الغرب الكافر ، من تحرر من قيود الشريعة الإسلامية ، أو ما يسمونه بالحرية الديمقراطية ، كنبذ الحجاب ، وخلع الجلباب ، وقتل الحياء ، وزرع البذاء ، وخروج المرأة كاسية عارية ، ودعوة إلى الدعارة ، وشرب الخمور ، لتموج الأمور ، وتغيير المناهج ، وانتشار الفضائيات ، ومشاهدة مناظر المجون والرقص ، وترهات الغناء والمسلسلات الفاضحة ، والبرامج الفاسدة ، لهو ضربة قاسية في عقر دار المسلمين ، كل ذلك لإبعاد الناس عن دينهم ، حتى تصبح الحرية العامة المطلقة هي شعار سكان الكرة الأرضية ، فإن حصل ذلك ، ولن يحصل بحول الله وقوته ، فهناك سيغضب الله على أهل الأرض كلهم ، ويمقتهم جميعهم ، وينزل بأسه بهم ، وعقوبته عليهم ، فوالله ليس بينهم وبين الله واسطة ولا رحم ، إلا الخوف منه سبحانه ، وتقواه ظاهراً وباطناً ، واسمعوا قول الله عز وجل لما عذب قوم لوط على فعلتهم الشنيعة ، وأنزل بهم عقوبة رادعة فظيعة ، قال سبحانه : { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } ، وقال سبحانه : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ، فعلى جميع المسلمين أن يعودوا إلى دينهم ، وينفضوا عن رؤوسهم غبار تقليد الكفار ، واتباع الفجار ، فذلك طريق الفلاح والفوز برضى الله عز وجل .
أمة الإسلام : يقول المولى جل وعلا : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ، بشر عيسى بن مريم ومن قبله من الأنبياء والرسل ، بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، في كتبهم وصحفهم ، وبشر به بحيرى راهب من أهل الكتاب ، لديه خبر التوراة والإنجيل ، وعلم من التأويل والتنزيل ، فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الثانية عشرة من عمره يفقده ، ويتخلله وتأمله ، فقال لأبي طالب وأكابر قريش : " هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين " ، قالوا : وما علمك بذلك ؟ قال : إني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه ، وإنا نجده في كتبنا ، وهكذا عرف علماء اليهود والنصارى ، أن محمد بن عبد الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه خاتم النبيين ، وآخر المرسلين ، قال تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـ?نَ? وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا } ، فلما أرسله ربه ، عربياً هاشمياً ، ولم يكن من جنس اليهود والنصارى ، كذبوه وكادوا له العداء(/5)
رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء
حبه صلى الله عليه وسلم للنساء :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حُبِّبَ إليَّ : النساء والطيبُ ، وجُعل قرة عيني في الصلاة )) رواه النسائي وأحمد واللفظ لهما حديث حسن ..
عن أنس رضي الله عنه قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مُقبلين قال : حسبت أنَّهُ قال : من عُرسٍ ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مُمثِلاً فقال : (( اللهم أنتُم مِن أَحبِّ النَّاس إِليَّ )) قالها ثلاث مرار " رواه البخاري ، ولولا هذا الحب منه صلى الله عليه وسلم لما أكثر من توصيته بهم ولما رفع من قدرها بعد أن كانت ضعيفة وليس لها حق في الجاهلية ، فكان هذا مناسباًَ أن تجد المرأة مكاناً عظيماً في قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم وياله من شرف كبير تميزن به ..
حق الأم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك " رواه البخاري ..
حق الأرملة والمسكين :
أخرج أبو يعلى ما رواه أبو هريرة رفعه : (( أنا أول من يفتح باب الجنة ، فإذا امرأة تبادرني فأقول : من أنت ؟ فتقول : أنا امرأة تأيمت على أيتام لي )) ..
وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة وقال عنهم في حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو القائم الليل ، الصائم النهار )) رواه البخاري ..
والساعي هو الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين من معونة ونفقة ، والأرملة بالراء المهملة التي لا زوج لها سواء كانت تزوجت أم لا، وقيل هي التي فارقت زوجها، قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج ، يقال أرمل الرجل إذا فني زاده ، والمسكين هو من لا شيء له، وقيل من له بعض الشيء ..
بكاء الطفل سبب في تخفيف الصلاة :
عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنه قال: قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( إني لأقومُ في الصلاةِ أُريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأَسمعُ بكاءَ الصبيِّ فأَتجوَّزُ في صلاتي كراهِيةَ أن أشُقَّ على أُمِّهِ ) رواه البخاري ..
حق الجار والنساء :
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا )) رواه البخاري ، فجعل هنا من أساس الإيمان بالله واليوم الآخر وسبباً رئيسياً له أن لا تؤذي جارك بأي شئ كان سواء بالقول والسب والشتم ، أو بالفعل بوضع الأذى أمام بيته أو بتسليط أبناءك يؤذون أبناءه أو بإزعاجه في نومه أو غير ذلك ، وتحسن إليه إلى أبعد الحدود وتترفق به .. والجار هنا ليس فقط الذي يفصل بينك وبينه جدار واحد إنما قال العلماء فيه أنه قد يصل إلى أربعين بيتاً من كل جهة ، وإذا كان هذا الجار قريباً لك فإن له حقان : حق الرحم وحق الجار وقال في رسول الله : " مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ، وحتى وإن كان يهودياً فلا يسقط عنه حق الجار فإنه قد كان لرسول الله جاراً يهودياً وكان هذا الجار يؤذيه كثيراً وفي يوم من الأيام استفقد أذاه فلم يجده فلما ذهب إليه وجده مريضاً وعاده .. وكان هذا سبباً في إسلام الجار اليهودي ..
وبعد هذا العرض لأهمية حق الجار قرن معه حق النساء ووصى بهن ليُظهر عظم حقهن أيضاً فالمرأة هي الأم والأخت والخالة والعمة والجدة والبنت والحفيدة .. فالنساء خلقن من أصل معوج ، وهي عوجاء مثل الضلع لكون أصلها منه .. فعلى الرجل أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة ، ويعمل على مداراتها لاستمالة النفوس وتألف القلوب، ويأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه ، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها..
من وصاياه للسرايا التي يبعثها للقبائل المشركة :
عن أنَسُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « انْطَلِقُوا باسْمِ الله وَبالله وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ الله ، وَلا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلاَ طِفْلاً وَلا صَغيراً وَلا امْرَأةً ، وَلا تَغُلُّوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُم وَأصْلِحُوا وَأحْسِنُوا إنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنِينَ » رواه أبو داود ..
رفقاً بالقوارير :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له ، فحدا الحادِي فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( ارْفقْ يا أَنجَشهُ ، ويحك بِالقَوَارِير )) رواه البخاري .(/1)
بساطته وسماحته بالنساء :
عن سعدَ بنَ أبي وقاص قال : « استأذنَ عمرُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعندَهُ نساءٌ من قُريشٍ يُكلِّمنَهُ ويَستكثرنَهُ عاليةً أصواتهنَّ ، فلما استأذنَ عمرُ قمنَ يبتَدرْنَ الحجابَ ، فأذنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يضحكُ ، فقال عمرُ: أضحَكَ اللهُ سِنَّكَ يارسولَ الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَجِبتُ من هؤُلاء اللاتي كنَّ عِندي ، فلما سمِعنَ صوتكَ ابتدَرنَ الحجابَ ". قال عمرُ: فأنتَ يا رسولَ اللهِ كنتَ أحقَّ أن يَهبْنَ ، ثم قال : أي عدوّاتِ أنفُسِهنَّ ، أتهبننَي ولا تَهبنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنَ: نعم، أنت أفظُّ وأغلظُ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيدهِ، ما لِقَيكَ الشيطانُ قطُّ سالكاً فجّاً إِلاّ سَلكَ فجّاً غيرَ فجك » رواه البخاري ..
لم يضرب أحداً قط :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بيده قط ، ولا امرأة ، ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل من شئ قط ، فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيئا من محارم الله ، فينتقم لله )) رواه ابن حبان في صحيحه ..
ينصح أهل بيته بالرفق :
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : (( يا عائشة أرفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً دلهم على باب الرفق )) وفي رواية :" إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " رواه أحمد والمنذري وقال رواتهما رواة الصحيح ..
نساء قريش :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نساء قريشٍ خيرُ نساءٍ ركِبنَ الإِبل : أحناهُ على طِفلٍ ، وأرعاهُ على زوجٍ في ذات يدِه » رواه البخاري .
برحمتها لأولادها دخلت الجنة :
عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت : جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا. فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ. فَأَعْطَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً. وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلُهَا. فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا. فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا، بَيْنَهُمَا. فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا. فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللّهِ . فَقَال َ: « إِنَّ اللّه قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ. أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ » رواه مسلم ..
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني ، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة ، فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته ، فقال : (( من يلي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار )) رواه البخاري ..
رحمة الأم بولدها :
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: « قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبي تحلب ثَديَها تَسقي ، إذا وَجدَت صَبيّاً في السبي أَخَذَته فألصَقَتْه ببَطنها وأرضَعَتْه. فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أتُرَونَ هذهِ طارحةً وَلدَها في النار؟ قلنا: لا، وهي تَقدِر على أن لا تَطرَحهُ. فقال: اللّهُ أرحمُ بعبادِه من هذهِ بولَدِها» رواه البخاري ..
وصيته بالبنات :
عن محمد بن المنكدر قال: حدثني جابر يعني ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلاَثُ بَنَاتٍ يَؤْويِهُنَّ، وَيَرْحَمْهُنَّ، وَيُكَفُلهُنَّ، وَجِبَتْ لَهُ الجَنَّةُ البَتّة» قال: قيل: يا رسول الله فإن كانت اثنتين؟ قال: «وَإنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ» قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة لقال: «وَاحِدَة» رواه أحمد ..
وزاد ابن ماجه ” وأطعمهن وسقاهن وكساهن ” وفي حديث ابن عباس عند الطبراني " فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن " وفي حديث جابر عند أحمد وفي الأدب المفرد ” يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن ” ..
حديث ابن مسعود رفعه ” من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه ” أخرجه الطبراني بسند واه .. وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال ..
فضل تربية البنات :(/2)
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من آوى يتيماً إلى طعامه وشرابه أوجب الله الجنة البتة ، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر. ومن عال ثلاث بنات أو مثلهن من الأخوات فأدبهن ورحمهن حتى يغنيهن الله أوجب الله له الجنة )) فقال رجل : يارسول الله واثنتين ؟ قال : واثنتين - حتى لو قالوا أو واحدة لقال واحدة - ، ومن أذهب الله بكريمتيه وجبت له الجنة " قيل : يارسول الله ! وماكريمتاه ؟ قال : عيناه )) رواه في شرح السنَّة واسناده حسن ..
ترغيب المسلمين بحب البنات :
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ولدت له ابنة فلم يئدها ، ولم يهنها ، ولم يؤثر ولده عليها ـ يعني الذكر ـ أدخله الله بها الجنة » مسند الإمام أحمد .(/3)
رد الأذى والمقاومة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :ـ
فان الله تعالى جل قدره وعلا مكانه وعظم شأنه فطر الإنسان على عدم القبول بالظلم والضيم ، وعدم الرضوخ للعدو مهما ضغط ، ومهما بلغت قوة ذلك العدو أو الظالم ومهما بلغ ضعف صاحب الحق أو المظلوم ،بل أن الله سبحانه وتعالى رفع الإثم والحرج عمن سعى لانتصاره لظلمه ، وحاول الوصول إلى حقه فقال جل جلاله (( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ))
عباد الله من عجائب هذا الزمن الذي نعيش أنا أصبحنا نستكثر على الضحية ألمها أو محاولتها الدفاع عن نفسها وفي ذات الوقت يبارك للمعتدي عدوانه وللظالم ظلمه وللمجرم إجرامه ، فالمطلوب في هذا الزمن أن يذبح المسلم دون أن يئن وأن تقطّع أوصاله دون أن يتألم وأن يباد عن الوجود دون أي تذمر ، وما يحدث على الساحة الفلسطينية خير دليل لما يقال وقيل 0
أخوة الإسلام في الوقت الذي يمعن فيه الاحتلال الإجرامي الصهيوني بإخواننا في فلسطين تقتيلا وتشريدا واعتقالا واغتيالا وذلا وتضييقا في كل شيء وعلى كل شيء في هذا الوقت نجد العالم أجمع يسارع للضغط على شعبنا الفلسطيني فمنهم من يهدد ويضغط ومنهم من يبارك الضغط عليه ويتفرج دون اكتراث لما يحصل ، فهذا العدو المجرم يقوم بهدم البيوت ويغتال القادة والمجاهدين ويأسر الأطفال والشيوخ ولما يقوم المجاهدين برد بسيط لا يذكر مع عظم جرائم العدو نجد المنافقين من الأعراب قبل الموالين من النصارى يسارعون إلى أرض الإسراء والمعراج ينددون ويطبلون ويزمرون ويهرولون إلى العدو يقدمون التعازي والى المجاهدين يرهبون ويتوعدون 0
أخوة الإسلام : لو رجعنا إلى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم والى منهاج ربنا لوجدنا الحل المناسب لما نعيش فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما حاول المجرمون اليهود كشف عورة امرأة مسلمة فاستغاثت فهب لنجدتها مسلم فقتله اليهود ، لم يقبل صلى الله عليه وسلم التهدئة ولم يعلن هدنة بل انه أعلن الحرب على المجرمين فقام بإجلاء ومحاربة بني قينقاع من اليهود والحاقدين وعندها سارع المنافقون للتوسط إلىالنبي صلى الله عليه وسلم ومدوا أيديهم إليه لإنقاذ اليهود كما يفعل الكثير من الأنظمة المنافقة لثني المجاهدين عن الانتقام لدماء شهدائهم؛ ولكن دون جدوى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرجهم من المدينة 0عباد الله من العدل في حياة الناس أساس المعاملة بالمثل وأنهم قالوا قديما لا يفل الحديد إلا الحديد والله سبحانه قال في كتابه (( وان عاقبتهم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )) ويقول جل جلاله (( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور)) فالعقاب لا بد أن يكون من جنس الجريمة وكما أخبر الله سبحانه وتعالى ستجد قوما يبغون على المظلوم إذا حاول الانتقام لنفسه إلا أن العاقبة للمتقين وان الله سبحانه وعد المظلوم بالنصر فكان من أسمائه جل جلاله المنتقم 0
أخوة الإسلام لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسوله الحارث بن عمير إلى ملك بصرى فقتله ذلك الملك فان النبي صلى الله عليه وسلم جهز جيشا وأرسله إلى ذلك الملك لقتاله انتقاما لدم ذلك الصحابي الجليل فكانت معركة مؤتة التي روى بها صحابة رسول الله بدمائهم أراضي الشام 0 فمن لدماء شعبنا في فلسطين؟! من يجهز الجيوش انتقاما لدماء قادة المقاومة؟! من ينتقم لنزيف الأطفال في غزة؟! ومن يدفع الظلم عن المحاصرين في الضفة وغزة؟! ومن يرد صواريخ الغدر والخيانة الأمريكية الصنع الصهيونية الإطلاق عن أشلاء شعبنا وأهلنا في فلسطين؟! أليس أهلنا في فلسطين مسلمون دماؤهم أعظم حرمة عند الله من الكعبة التي يتوجه إليها ملايين المسلمين للعبادة ؟! أليس دماء أهلنا في فلسطين بحاجة إلى من يدافع عنها ويحقنها ويحميها من هذا المجرم المتعطش للدماء في فلسطين ذلك السفاح شارون .؟! أم عربنا ومسلمينا أصبحت دماء اليهود أغلى عليهم من دماء إخوانهم المسلمين في فلسطين ؟!
عباد الله يقول مولانا الذي هو أعلم بمن خلق في محكم تنزيله (( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ))
فان العدو المجرم المعتدي ليس له في ديننا وعقيدتنا إلا القتال والسيف والحرب لانه لن يرده عن غيه وعدوانه إلا أن يذوق الألم الذي يؤلم به أهلنا وشعبنا وهاهم الذين يتسولون ويتوسلون منذ سنين يقبلون الأيدي والأقدام ماذا حققوا لشعبنا وأهلنا بل انهم كلما زادوا في توسلهم وتسولهم زاد العدو في استكباره وعربدته 0 ووالله الذي لا اله غيره أن ذلك العدو المجرم ليحسب للاستشهادي الواحد حسابا لا يحسبه للجيوش العربية مجتمعة 0(/1)
أخوة الإسلام : لا بد للإنسان المسلم أن يكون واضح الصورة والتصور وأن يدور مع الحق حيث دار وأن يقف مع المجاهدين الصادقين الذين يصدق دمهم أقوالهم ، لا مع الذين يتاجرون في دماء أهلنا وإخواننا وأرضنا وعرضنا فان هؤلاء عدهم الله سبحانه في صف العدو وسماهم منافقين وأمر بجهادهم مع العدو فقال سبحانه وتعالى (( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير )) أما بقية المسلمين فإنهم مأمورون أن يقفوا في خندق المقاومة والشهادة قولا وفعلا بالنفس والمال والجهد والدعاء ومن هنا قال الحق جل جلاله (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )) فالمرء عباد الله سيقف بين يدي الله و سيحاسب وسيأتي عليه يوم ويسأل في أي صف وقفت في حياتك الدنيا 0مع الذين يحرصون على دماء عدونا بغض النظر عن دماء أهلنا وإخواننا سعيا منهم لمصالح شخصية ومنافع دنيوية أم مع الذين يشترون الآخرة ويبيعون الدنيا بأرخص الأثمان سعيا لرضى الله تعالى ونيلا للشهادة 0
أيها المسلمون : لما أمرنا الله سبحانه وتعالى بقتال عدونا أمرنا بتعليمهم الدرس الذي يجب أن يتعلموه لما يعتدوا على المسلم وألا تأخذنا فيهم الهوادة والرحمة بل لا بد من إيلامهم أشد الألم وإيذائهم أكبر الأذى حتى يعلموا أن دم المسلم غالي الثمن وليس برخيص خاصة إذا كان ذلك المسلم قائدا مسلما متوضئا ذاكراعبدا لله0
واسمع إذا شئت قول الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ))؛ لا كما يريد بعض المتخاذلين أن نثور ثورة سلمية وأن نعلن شجبنا واستنكارنا وتنديدنا وتوعدنا بأقسى العبارات وإدانتنا بأشد الجمل ، فلو كان هذا الأسلوب يرجع حقا لما ضاعت فلسطين أكثر من خمسين سنة ولو أن عبارات الشجب والاستنكار تجدي لا انتهى عدونا منذ زمن بعيد ، ولكنها وحدها المقاومة ووحده السلاح هو الذي يرجع الحق لأصحابه ويردع الظالم عن ظلمه .
أخوة الإسلام : لما كان يعتدى على عرض أو دم أو بيت مسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يجيشون الجيوش ويحركون الجنود دفاعا عن المسلم وأرضه وعرضه وماله وكلكم يعلم قصة المعتصم الذي استغاثت به امرأة في الأسر ماذا فعل لم يطارد أولئك القادة المجاهدين ولم يعملوا على جمع السلاح ولم تظهر رجولتهم على أفراد أمتهم بل انهم شدوا على أيدي المجاهدين وصدوا عدوان الطاغين فكانت الغلبة دائما للمسلمين . وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه )) فلماذا نظلم إخواننا المجاهدين في فلسطين ؟!
لماذا نخذلهم رغم رجولتهم ؟! لماذا نسلمهم لأعدائهم رغم تحملهم الواجب عنا ؟!
أخوة الإسلام : إن الذي يجري على أرض فلسطين في هذه الأيام مؤامرة عظيمة يشارك فيها القاصي والداني للخنوع للعدو ولبيع المقدسات ولتضييع الأمة بأكملها إرضاء للأعداء وحفاظا على مصالح بعض المتخاذلين ، فالله الله على الرافضين للخيانة ، الله الله على الواقفين وقفة الرجولة فان الله لن يضيع جهد المخلصين .
أيها الأحبة في الله قديما روي لنا قصة العصفورين اللذين كان يذبحهما الصياد في البرد القارس وكانت دموعه تسيل من البرد فقال أحد العصفورين أنظر إلى رحمة الصياد بنا تنزل دموعه حزنا علينا وهو يذبحنا فقال له الآخر لا تنظر إلى دموع عينيه ولكن انظر إلى فعل يديه . فلماذا يصّر الكثيرون منا إلى النظر فقط إلى دموع أعدائنا؟ ولماذا يفتحون أعينهم فقط على بعض أفعال أبطالنا انتقاما لشهدائنا ؟ ولماذا لا تسمع آذانهم إلا نحيب العدو وصراخه؟! أفي آذانهم صمم لما يحل بنا وبأهلنا أم في أعينهم عمى عمّا يصيب إخواننا؟ ، أم أن تآمرهم وتواطؤهم أعمى أبصارهم وبصائرهم وأصم آذانهم وأقفل قلوبهم فلم يعودوا يحلوا حلالا أو يحرموا حراما!!!
أيها المجاهدون في فلسطين إن تخلى عنكم البشر فان الله تعالى معكم بقوته وعنايته ، وان خذلكم الأهل والأصحاب فان الله مولاكم وناصركم ، كفاكم عزا أنكم تقارعون أذل وأنجس خلق الله من اليهود ، كفاكم فخرا أنكم تحملون راية الحق بأيديكم مجاهدين ومرابطين ومدافعين.
فلا تنظروا ورائكم أيها الأسود ، سيروا بدربكم جهادا وبمبادئكم رجالا والله ورائكم حافظا ومعينا ، كفاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفكم بأنكم أهل الحق فقال عليه الصلاة والسلام (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، قيل أين هم يا رسول الله قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )) .(/2)
اعلموا أيها الرجال في زمن كثر فيه الذكور أنكم لعدوكم قاهرين وعلى المنافقين منغصين ولقلوب المؤمنين شافين ومفرحين ولا تأخذهم في الله لومة لائم وحسبكم أنه معكم وهنيئا لمن أثخن في عدوه انتقاما لدماء إخوانه هنيئا لمن اختاره الله شهيدا من بين المليارات والملايين فالشهادة رتبة واتخاذ من الله جل جلاله وما كل من تمنى الشهادة نالها بل إن الله يختار؛ وكفاكم أن الله اختاركم شهودا وشهداء على الأمة بأسرها وحسبكم أن يكون الله معكم فهو نعم المولى ونعم النصير ، وحسبنا الله على كل ظالم ومنافق ومتخاذل وصدق الله تعالى (( إن ينصركم الله فلا غالب لكم )) وحسبنا الله ونعم الوكيل.(/3)
... ... ...
رسائل أخوية إلى الشباب ... ... ...
مازن التويجري ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الشباب عماد الأمة. 2- أمثلة من التاريخ القديم لإقبال الشباب ودورهم. 3- أسئلة محاسبة للشباب. 4- من تصاب أيها الشاب. 5- لماذا لم يسلم أبو طالب. 6- الاهتمامات الوضيعة. 7- معيار الرجولة عند شبابنا. 8- التحذير من سوء الخاتمة. 9- أين تجد السعادة الحقيقية. 10- دعوة للتوبة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
ما من أمة بادت .. وأخرى قامت، إلا ولها شعار ترفعه، ووسام تفتخر به، به ترتقي وتزدهي، وبه تجالد أعداءها وخصومها، كان وما زال محط أنظار الدول والممالك، ومصدر قوتها وعزتها، هم شريحة من أي مجتمع عماده، وسلاحه، بدونهم لا تقوم لأمة قائمة، وبفقدانهم حسًا أو معنىً تبقى الأمة حبيسة التخلف والضعف، قابعة في مؤخرة الركب، لابسة أثواب الذل والصغار ..
إنهم .. الشباب .. عماد الأمم، وسلاح الشعوب، يؤثرون في الأمة سلبًا أو إيجابًا، يدفعون عجلة التأريخ نحو أمل مشرق، ومستقبل مضيء، أو يديرونها إلى الوراء جهلاً وحمقًا .
والتاريخ يشهد على هذه الحقيقة، وأيام الزمن صور وعبر ..
إبراهيم عليه السلام .. واجه قومه وأنكر عليهم عبادة الأوثان بل وكسرها وهو شاب يافع قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء:60].
ومؤمن آل فرعون يصدح بالحق وينادي وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ [غافر:28]. يقولها في وجه فرعون كبير المتغطرسين المتجبرين ..
والفتى الداعية غلام الأخدود يسعى للموت، ويطلب القتل، ترخص عليه روحه إذا كان في إزهاقها إيمان أمة، وصلاح شعب وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج:1-6].
وفي خبر أصحاب القرية يرسل الله إليهم ثلاثة من الأنبياء فكذبوهم وقتلوهم، فأضحى من آمن من قومهم يخفي إيمانه خوفًا على نفسه وأهله، واحتوى الرعب نفوس البشر، وتمكن الذعر من القلوب، واكتسى الأفق ثوب الصمت والوجوم، إذا بصوت حافي يقطع ذلك الصمت الرهيب، ويشق سماء الركود والهدوء، ليقشع غيوم الكفر والفسوق وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:20-22].
وهكذا يكون الشباب قوة الأمم، وفخارها وذخرها وسندها، ولذا كان لا بد من حديث خاص نخاطب فيه الشباب، شعاره الصدق والمحبة، وعنوانه الصراحة والتجرد ..
فإليك أيها المبارك .. إليك يا أمل الأمة .. إليك يا سليل المجد .. يا حفيد العز ..
كلمات ملؤها الصدق والوفاء، دفعني لها حبك وحب الخير لك، وجعلني أتطفل وأكسر تلكم الحواجز الوهمية، كرمك الفطري، وعقلك الثاقب ..
فأملي أن تعيرني منك مسمع، ليكون الحديث حديث القلب إلى القلب، ونداء الروح للأرواح، يسري في الأعماق بين الجوانح، فتعال معي إلى هناك .... هناك بعيدًا عن الأصدقاء بعيدًا عن التعلق برواسب الدنيا وملذاتها، دعنا نتحدث بكل وضوح وصراحة وموضوعية ..
الرسالة الأولى:
لماذا خلقت؟ ما الغاية من وجودك؟ .. اعلم أن الإجابة واضحة بدهية، خلقنا لعبادة الله.. ولكن السؤال الأهم، هل حياتنا، أفعالنا، أقوالنا، أخلاقنا، مشاعرنا، أفراحنا، وأحزاننا، آلامنا، وآمالنا .. هل هي لله، وفي مرضاة الله؟..
هل مسألة العبودية حكرًا على المساجد والطاعات فحسب أم أن القضية لها أبعاد أخرى وآفاق أرحب؟..
اسمع إلى الحكم الفصل في ذلك قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
انظر في نفسك .. ماذا يملئ قلبك؟ ماذا تحب؟ ومن تحب؟ ولماذا تحب؟ متى تفرح وتسر؟.. ولماذا ولمن؟ ..
أين تحب الجلوس؟ مع من؟ ماذا تسمع؟ بماذا تتحدث؟ أقوالك أفعالك.. لمن تصرفها؟ وما الذي يحركها؟ ...
أسئلة كثيرة تحتاج منك أيها المبارك وقفة جادة للمحاسبة والاسترجاع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60-61].(/1)
كن مع الله يكن الله معك .. أحبب لله يحبك الله .. اعبده، اذكره، اشكره، ناده وقل: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
قل وردد: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي في يدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وغمي)).
الرسالة الثانية:
قل لي من تصاحب؟ أقول لك من أنت؟ ..
إنها قاعدة عظيمة تقرها فطرة الإنسان وطبيعته، فالنفس تؤثر وتتأثر سلبًا أو إيجابًا، وكلما كثرت الخلطة وطالت .. كثر ذلك التأثر وزاد ..
والناس على اختلاف، فمن مقل ومكثر، أوما سمعت إلى قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))..
ومن ينكر هذه الخصلة في بني البشر أو يشككها فيها .. فهو مكابر، إنما يخالف عقله وفكره..
وإذا كان لا بد من دليل، فانظر إلى نفسك، نفسك أنت، كم من الخصال والطباع التي لم تكن عليها من قبل ..
ها أنت ذا تمارسها شيئًا فشيئًا حتى غدت عادة لك ..
فالمدخنون .. مثلاً .. كان أول عود أحرقوه تقليدًا ومحاكاة، إن لم يكن أُحرق لهم من جليس أو صاحب، والآن أضحت عادة وطبعًا ..
وإن السؤال الذي يتحرج من طرحه كثير من الشباب على نفسه، ولا يرغبون سماعه، ويتهربون منه حتى في صراعهم مع أنفسهم، هل أصدقاؤك أحبابك، خلانك ؟ أصدقاء سوء أم صلاح..؟
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)).
ماذا يقولون؟ ماذا يفعلون؟ آراؤهم .. طباعهم .. هل توافق الشرع؟ هل ترضي الله؟ هل جلوسك معهم يقربك من ربك مولاك؟ أم على العكس من ذلك؟ .. إضاعة للصلاة .. رقص وغناء .. تسكع في الشوارع .. إيذاء لخلق الله .. شتم ولعن ..
نعم .. أيها الحبيب .. قد تعلو مجالسكم الضحكات والنكات، ولكنك توافقني أن بعدها من الهموم والحسرات، والغموم والآهات ما لا يعلمه إلا رب الأرض والسموات.
وأخيرًا .. أقول لك وأجبني بكل تجرد ووضوح، من تحب؟ من تجالس؟ من تصاحب؟ أولئك الذي تعلق قلبك بهم .. هل ترضى أن تحشر معهم يوم القيامة؟ .. أن تكون في منزلتهم وحزبهم ...؟؟
أترك الجواب لك .. ولكني أذكرك وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
أبو طالب حُرم الإيمان وجنة الرحمن بسبب رفقة السوء والفسوق .. فتصور حال النبي صلى الله عليه وسلم وهو فوق رأسه يقول: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله))، والشياطين يرددون: أترغب عن ملة عبد المطلب ..
فتمثل نفسك وقد تحشرجت روحك وأنت عند رفقائك .. هل سيذكرونك الشهادة أم ستبقى تصارع خروج الروح دون مذكر أو معين؟.
الرسالة الثالثة:
أي الاعتزاز بدينك وشخصيتك ..
لم نزل نراك في موقف تلو موقف يفت الفؤاد فتًّا وأنت تتنازل عن دينك ومبادئك وما عليه أهلك وقومك.
ها نحن نراه يخرج في كل أسبوع أو أقل .. إلى ذلك الحلاّق السمج، ليصفصف شعيراته بطريقة مزرية، يلبس البنطال الضيق، والقميص الناعم، يمشي بتكسر وتميع .. لماذا كل هذا...؟
ماذا جرى ... ؟ أسفي أن تكون الإجابة .. لأن مغنيًا قص تلكم القصة، أو راقصًا لم يستبن إلى الآن .. هل هو ذكر أم أنثى؟ لبس قميصًا، وشدّ عصابة على رأسه ... أسفي .. أن تكون الإجابة: أمشي كما يمشي ذلك اللاعب، وأتكلم كما يتحدث الممثل .. أين شخصيتك؟ أو مروءتك ؟..
أنت الذي لا ترضى أن يمس كيانك، أو تؤذى مشاعرك، أنت صاحب الشخصية القوية، والعزم الأكيد، الذي إذا قررت شيئًا فعلته، تحركك كلمات مغني، وتقودك تصرفات راقص، وتأسرك طباع لاعب أو ممثل ....
أنت سفلي الاهتمام .. ضعيف الإرادة، لا هدف لديك، حقير الشخصية، تُقاد ولا تقود .. أترضى هذا؟ أترضى أن توصف به؟ .. أنا والله لا أرضاه لك !، ولكن كيف وقد حكى الواقع آلامًا، وروى أحزانًا ..
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لتتبعنَّ سننَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: ((فمن!)) ..
أيها الشاب المسلم:(/2)
أنت والله العزيز وهم الأذلون .. أنت الشريف وهم الوضعاء وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. فأنت على مر العصور قائدٌ لا مقود، رأسٌ لا ذنب.
الرسالة الرابعة:
عشيقتك؟!
في ليلة هادئة تسير في سيارتك إذا بهم من كل صوب، تجمعوا، تسارعوا، تراقصوا، صفقوا، يرفعون أعلامهم، ينشدون أحلامهم، تعالى صياحهم، ترامى صراخهم، توقفوا، ترجلوا، أغلقوا الطرقات، تعالت هتافات، وتوالت رقصات ... ماذا يجري؟! ..
أعاد القدس .. كلا .. أنُصر الإسلام ..؟ كلا .. أهُزم الأعداء ..؟ كلا .. تلي القرآن ..؟ عاد الناس ..؟ عمرت المساجد ..؟ كلا ... كلا ... كلا !!
ولكن هزمنا المنافس وحزنا الكأس الغالية!..
يا شباب الأمة .. يا أيها العاقل، رفقًا بنفسك، شيئًا من التعقل .. هل يصح هذا؟ وهل الرياضة بهذه المنزلة .. حتى نصرف كل هذا؟ هل انتهت الهموم والغموم؟ وهل تقضت الآمال والأفراح، حتى تعلق بفوز فريق أو خسارته؟ إذا كان لذلك النادي الحب، وللاعبيه التعلق، إذا ربح، دامت الأفراح وزالت الأتراح، وبُلغ المنى، وراج السعد في الربوع، وإذا خسر سكبت العبرات، ونزلت الهموم، وأحاطت الغموم ...
ناهيك عن معاني الحب تصرف لمن أحب فريقي، وشباك العداء تنصب لمن عشق المنافس..
أيها الناس: لست مبالغًا إنه واقع مرير نعيشه ..
فإن لم تصدق فسلهم عن الحب والبغض والتفكير والنقاش .. عن ماذا؟ وفي ماذا؟ ..
فعند جهينة الخبر الأكيد .
ثم تذكر أيها الأخ الحبيب .. يا صاحب الفطرة النقية، والقلب الرقيق، هل ترضى أن تأتي يوم القيامة بصحيفة أعمال، صرف فيها الحب والبغض والولاء والبراء .. صرف فيها الجهود والطاقات والمشاعر والعلاقات .. لأجل كرة وفريق ..
أترك الجواب لك .. يا من تريد النجاة وترجو الفوز والفلاح. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الرسالة الخامسة:
هل أنت رجل بحق؟
عذرًا أيها الحبيب .. فقد يكون السؤال ثقيلاً نوعًا ما، ولكن هذه هي الحقيقة ..
ما هو معيار الرجولة عندك، وكيف تقيسها من وجه نظرك ..؟
ما هي الرجولة في قاموس فهمك ..؟
هل الرجولة في الاهتمام بالملبس والمظهر، والوقوف أمام المرأة لتصفيف شعرك ..؟
هل هي في ملاحقة الطاهرات العفيفات، ورمي الأرقام، والأحاديث الوردية في آخر الليل..؟
هل الرجولة في سماع الأغاني ورفع صوت جهاز التسجيل والتراقص بالسيارة ..؟
هل الرجولة في التفحيط والتهور ..؟
هل هي في تقليب القنوات والنظر إلى ما حرم الله ..؟
هل هي في السفر إلى بلاد العهر والضلال والتبجح بالحديث عن المغامرات والموبقات..؟
اسمع أين هي الرجولة ؟ في ماذا تكون؟
لا أحكم بها أنا ولا أنت .. بل هي حكم أحكم الحاكمين سبحانه فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَارُ [النور:36-37].
يا حبيبي .. أيسرك أن تقبض روحك وأنت تقلب قنوات الفضاء ..؟!
أترضى أن يفجأك ملك الموت وأنت ممسك بسماعة هاتفك تخاطبها وتغرر بها ..؟!
ماذا لو أتاك الموت وأنت تسمع الغناء .. وأنت ترقص .. وأنت ترى فلمًا أو تنظر في مجلة..؟!
ماذا لو نزل بساحتك ويراعك تسطر رسالة الحب والغرام إلى عشيقة أو عشيق ..؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ x الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51].
الرسالة الأخيرة:
أيها الأخ المبارك .. يا أمل الأمة ويا كنزها الغالي:
هل أنت راضٍ عن نفسك، عن واقعك، عن علاقتك بربك، عن أصدقائك، عن تعاملك، هل تجد طعم الراحة والسعادة ..
أخبرنا .. هل وجدتها في الملهيات، في السهر والمعاكسات في الضحك والسمر في الذهاب والسفر ...؟
دُلّنَا بصرنا .. هل وجدت الطمأنينة والأنس في السيارات، في المال، في الغناء، في رفقاء السوء ..؟
ماذا عن نومك، يقظتك .. ليلك .. نهارك؟.
هل تشعر بالراحة والسرور، هل تشعر بانشراح الصدر وأمن النفس ...؟
لو قلت فصدقت .. لقلت: لا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124]. فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء [الأنعام:125].(/3)
إني أُراك جربت كل شيء .. كل شيء تبحث عن السعادة والراحة ..
اسمعها .. إن السعادة والفرح في سجدة لله تبكي بها على ذنوبك وتندب تقصيرك ..
إن السعادة الحقة في التوبة النصوح ..
إنها هناك .. في المسجد حيث الهدى والنور، في الصلاة، في الدعاء والخضوع، في رفقة الصلاح، فلا هموم إلا هم الإسلام، لا تسمع إلا حقًا، ولا تمشي إلا إلى خير، تجد الضحك ممزوجًا بالحب الصادق، والأنس متعلقًا بالنصح والإنابة ..
فمتى .. متى تكون أكثر جرأة في اتخاذ القرار، أعظم قرار في حياتك؟ متى ستطلّق حياة اللهو والعبث بلا رجعة لتجرب حياة الإيمان والسعادة ..؟.
ماذا تنتظر؟ .. قلها واسمعها الدنا .. أنا مؤمن، لله حياتي، كلماتي، حركاتي، سكناتي، خفقان قلبي، وجريان الدم في عروقي.
عد إلى الله .. وتب إليه، مهما كانت ذنوبك، أو عظمت عيوبك ...
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وعند ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم)).
وفي الخبر الذي رواه البخاري ومسلم عن الرجل الذي قتل مائة نفس فولّى إلى قرية ليعبد الله مع أهلها حتى إذا بلغ نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة.
فاقبل وأمل وتب فالله يفرح بتوبتك. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
رسائل تنديد وصواعق تهديد
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
رسائل تنديد وصواعق تهديد عزمت أن أرسلها منذ الجمعة الماضية إلى كل من يصد عن دين الله ، ويحارب دين الله ، ويؤذي عباد الله ، وينتهك حرمات الله ، ويعتدي على محارم الله ؛ فإنه - لا شك - معرّضٌ نفسه في دنياه قبل أخراه لأوخم النتائج ، وأعظم المصائب ، وشر ما ينتظر المرء في دنيا أو في أخرى .
ذلك أن أوضاع أمتنا اليوم قد صار فيها كثيرٌ من أبناء جلدتنا وممن لهم الأمر في أمتنا يقومون تحت حجة محاربة الإرهاب بمحاربة الإسلام ، وزاد الطين بلة تلك الجرائم المتزايدة ، والفظائع المتعاظمة ، والإرهاب المتواصل الذي تجددت أحداثه في أرض العراق على أيدي المحتلين الأمريكين المجرمين حتى أصبح المرء لا يدري عن أي شيءٍ يتحدث !!
هل سمعتم غضبةً عمرية أو صيحةً مضرية ؟ إنني لم أسمع من الدول الإسلامية والعربية حتى التنديد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ! والأمم المتحدة والعصب المفترقة لم يكن لها حتى مجرد وقفةٍ لتقول إن هذا لا يتفق مع ما تقول به من حقوق الإنسان أو الحيوان !
وإن الإنسان لو يعجب وهو يرى هذه الأحوال في ظل هذا الإجرام المتعاظم ، والقصف المتواصل للناس في بيوتهم وفي أرضهم وديارهم ، والنساء تقتل ، وأرواح الأطفال تزهق ، والأمم المتحدة غضبى لما يجري على أرض السودان ، من تطهيرٍ عرقيٍ كما تزعم ! حَوَلٌ في البصر ، أو عماً في البصيرة ، أو هو كما قال القائل :
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ *** ولا يستأذنون وهم شهود
إن الأحوال التي تمر بأمتنا اليوم في أوضح صور شدتها وقسوتها وفظاعتها ، وهي اليوم في الوقت نفسه تعري كل متسترٍ بستارٍ يستر به نفسه زوراً وبهتاناً ، فلم يعد اليوم أحدٌ يشك فيمن يحارب دين الله عز وجل ، ولم تعد تنطلي على أحدٍ - حتى الحمقى والأغبياء - حيلٌ من تلك الأقاويل والأراجيف التي نسمعها صباح مساء ، تروجها وسائل الإعلام ، وتصمّ بها آذاننا أقوال الساسة والمسؤولين في شرق الأرض وغربها من أبناء ملتنا ومن غيرهم .
ومن ذا الذي يستطيع أن يندد بهذا ، وماذا نملك حتى نهدد بتلك القوى العظمى والأمم المجتمعة على الباطل الراضية بشريعة الغاب " البقاء للأقوى " ؟ هل أملك أنا أو أنتم أن يندد بذلك ؟ وماذا في أيدينا حتى نهدد ؟ وبأي شيءٍ نستطيع أن نواجه مرةً أخرى وثانيةً وثالثة ؟
ينبغي أن نوقن أننا على أرضٍ صلبةٍ قوية ، وأننا على يقينٍ وإيمانٍ راسخٍ ثابت ، وأننا على وعدٍ وأملٍ صادقٍ لا يتخلف متى كنا مؤمنين بالله ، مسلمين حقاً ، ملتزمين أمر الله ، متبعين لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
نعم ! سنندد ونهدد بآيات الله ، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن على يقينٍ من أمرنا ، وعلى بينةٍ من نهجنا ، وعلى ثقةٍ من وعد ربنا .. نرى حقائق الأمور ببصيرة الإيمان ، ونبصر في ظلمات الشبهات أنوار القرآن .
ينبغي أن نرجع إلى تلك المنهجية التي ما زلنا نكرر أهميتها ، واليوم عندما نقول هذا التهديد والوعيد ؛ فإننا وإن كنا نخص به أعداء الله أولاً ، والمرجفين والظالمين والطغاة والبغاة من أبناء ملتنا ثانياً ؛ فإننا لا نستثني منه أنفسنا ، فقد جاءنا من آيات الله ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يواجه تقصيرنا وتفريطنا ، وغض أبصارنا عن الظلم ، ورضا قلوبنا ونفوسنا بالانحراف ، ووقوع المنكرات .. فكلنا ذاك المفرط والمتخلف عن أمر الله والذي لا يقوم بالواجب في حقه إزاء دين الله عز وجل ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } .
وإن حشد الكفار القوات والطائرات ، والجيوش المتحالفة ، والقوى المتعاظمة لن يضر الله شيئا وسيحبط أعمالهم ، ستدور الدائرة عليهم يقيناً لا شك فيه ، وسيحيق المكر السيئ بأهله صدقاً لا كذب ولا مراء فيه ، وسيحبط أعمالهم ، ونحن نؤمن بما يقول الله - جل وعلا - ولا نؤمن بما يقوله الكذبة من الساسة والمنافقين من غير المسلمين ومن المستسلمين .
ثم يلتفت النداء القرآني إليكم معاشر المؤمنين كيف تواجهون ذلك قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .(/1)
لا قدرة لكم على المواجهة ، ولا أمل لكم في القدرة على المغالبة إلا بالاستمداد من الله .. إلا باتباع هدي رسول الله .. إلا بالعمل على سنة الله .. إلا بالتحقق والتحقيق لوعد الله ؛ وإلا فإن أعمالكم هباء ، وإن جهودكم ليس فيها غناء ، وإن أقوالكم حججٌ عليكم وليست لكم !
كم سمعنا من الأقوال ؟ كم سمعنا من البيانات ؟ كم رأينا من المؤتمرات تأتلف أو لا تأتلف تجتمع أو لا تجتمع كلها لا قيمة لها ؛ لأنها ليست على منهج الله .
ثم يخبرنا الحق جل وعلا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } .
ومرةً أخرى يلتفت الحق - جلّ وعلا - في آياته إلينا : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }
استمعوا إلى هذه النداءات القرآنية ، والتوجيهات الربانية .. { سيحبط أعمالهم } ، قال السعدي : " أي مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل ، بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران " ، ألم يقولوا في كثيرٍ من مواجهاتهم إنها أوقاتٌ قصيرة ، وإنها معارك هزيلة ، ما زال الحر من نارها ، والشرر من رجالها يحرقهم ، يقذف الرعب في قلوبهم ، يفرق صفوفهم ، وسيحبط الله - جل وعلا - أعمالهم فلا تهنوا .
قال ابن كثيرٍ : " أي لا تضعفوا عن الأعداء { وتدعوا إلى السلم } أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعدتكم " .
قال السعدي : " أي لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف، بل اصبروا واثبتوا، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد، طلبا لمرضاة ربكم، ونصحا للإسلام، وإغضابا للشيطان .
ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم، طلبا للراحة، والحال أنكم الأعلون " .
ثم ذكر الله عز وجل أموراً ثلاثة من تحقق بها لا يخشى قوى الأرض مجتمعة ، ولا يتراجع قيد أنملةٍ إلى الوراء ، ولا يستطيع أحدٌ أن يوصل إلى قلبه خوف ، أو إلى نفسه يأس .
{ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } بالاستعلاء بالإيمان ومنهج الإسلام ، وأنتم الأعلون بما توفرون من أسباب القوة والقدرة على مواجهة أعدائكم ، والله معكم { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } ، { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } .
ألم يقع ذلك في بدر ؟ ألم يحصل مثله في الأحزاب ؟ ألم نره عبر تاريخ أمة الإسلام في كل المواقع والمعارك والمواجهات ؟ هل صار المسلمين اليوم في شكٍ من دينهم ، وفي ضعف إيمانٍ بآيات ربهم ، والآيات كثيرة في كل من يصد عن دين الله ، ويحارب دين الله .
{والله معكم ولن يتركم أعمالكم }لن ينقص أجوركم وثوابكم ، حتى وإن لم تتحقق النتائج على أيديكم ، { ولن يتركم أعمالكم } أي لن يجعلها حابطةً كغيرها ، بل ستثمر اليوم أو غداً أو بعد غدٍ ؛ لأن الله - عز وجل - وعد كل عاملٍ بالخير ومحققٍ لوعده أن ينجز له سبحانه وتعالى ما وعده .
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ }
ما كان لأولئك من قوةٍ إلا بسبب ضعفنا ، أولئك لا يعجزون الله وقدرته وقوته سبحانه وتعالى ، وهو الذي أمره بين الكاف والنون ،إذا قال للشيء كن فيكون .
ونحن نعلم كذلك أن هذه الوعود الربانية لا تخلف أبداً { ما كان لهم من دون الله من أولياء } مهما جاءوا بقوى من هنا أو هناك ، وحلفاءٍ من شرقٍ أو غرب ، فلن يثبت ولن يقف أمام قوة الله ولا أمام قوة المؤمنين بوعد الله قوةٌ مهما عظمت ، فثقوا بدين الله ، واعلموا أن كل ما يواجهوننا به إنما يتحقق فيما أثره لما أخللنا به من منهج الله عز وجل ، وتخلينا به من الاستمساك بدينه سبحانه وتعالى .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
آياتٌ قاطعة ، كلماتٌ بالحق ناطقة ،ولكنها لا تكون إلا بأسبابنا وإلا بتخلينا عن نهج ربنا ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }(/2)
والآيات تخبرنا بصيغة المضارع المتحقق الوقوع ، قال ابن عطية في معنى [ الكبت والمكبوت ] :" يكون حزنان ؛ لأنه يرى ما يكره ولا يقدر على رده ، سيأتيهم اليوم الذي يذوقون فيه مثلما يفعلون من هذه الجرائم ، وهم لا يملكون دفعاً ولا نصراً بإذنه سبحانه وتعالى " .
تلك هي الوعود الربانية ، والتهديدات الإلهية ، ونحن عندما نوقن بذلك نعلم أننا لا نحتاج إلى تنديد أهل الأرض ، وإلى تهديد القوى الفارضة التي لا تقوم ولا تنطلق من قاعدة الإيمان بالله ، ولا ترتبط بمنهج الإسلام ، ولئن كان ذلك غيضٌ من فيض آياتٍ كثيرة ، ومواقف وقصصٍ عظيمة ذكرت في كتاب الله ؛ فإن لنا كذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنديده وتهديده لصورٍ كثيرة ليست في أعداء الله ، بل هي فينا معاشر المسلمين ، من الذين لهم الصدارة في أمتنا - ولاةً وحكاماً وقادةً - إلى من دونهم من كل من له ولاية ، ومن في يده سلطة وغير ذلك من وجوهٍ لا يكاد يخرج عنها أحدٌ منا بحالٍ من الأحوال ، وحينئذٍ نقولها ونحن بقلوب ثابتة ، وبصوتٍ عالٍ ؛ لأن الناطق بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، وهل يستطيع أحدٌ مهما علا وعظم أن يرد قوله عليه الصلاة والسلام ، أو أن يستهين بتهديده ووعيده وهو صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى { إن هو إلا وحيٌ يوحى } ؟
هذا حديث أنس رضي الله عنه يخبر في أوله عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأئمة من قريش ، وأن له عليه الصلاة والسلام حق ، وأن لهم حقاً كذلك ، ثم يقول عليه الصلاة والسلام في شأنهم - أي شأن الأئمة - : (ما حكموا فعدلوا،وما عاهدوا فوفوا،وما استرحموا فرحموا،فمن لم يفعل ذلك منهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) .
رواه أحمد في مسنده بسندٍ جيدٍ ورجاله ثقات ورواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه .
وفي حديث أبي هريرة يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( ما من أمير عشرةٍ إلا يؤتى به مغلول يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يبقيه الجور ) رواه البزار في مسنده ورجاله رجال الصحيح .
( ما من أمير عشرةٍ ) فكيف بأمير الملايين المتولي أمرهم باسم الله ، وبا ادعاء القيام بأمر الله ، والذبّ عن شريعة الله ، والحفظ لحقوق ؟!
عباد الله :
أفلا يرعوي كل من يسمع ذلك ! أفليس في هذا أعظم تهديد تنخلع قلوب من في قلوبهم ذرة إيمانٍ أو بقية أثرٍ من إسلام ! إن الأمر أعظم مما نتخيله ونتصوره .
وهذا دعاءٌ من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ودعاءه مجاب ، تروي هذا الدعاء عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيء فرفق بهم فارفق به ) رواه مسلمٌ في صحيحه .
إلى الذين يشقون عن عباد الله ، ويتعنتون معهم ، ويسرفون في تعذيبهم وإيذائهم ، وإلحاق الضر والشر بهم على كل مستوياتهم المختلفة وفي كل مسؤولياتهم المتنوعة ، فليعلموا أن الله عز وجل يجازيهم من جنس عملهم ، وأنه يلحق بهم عاجلاً أو آجلاً مثلما فعلوا بغيرهم ، ومن لم يجد شيئاً في الدنيا من مثل هذا ؛ فإنما ذلك والعياذ بالله دليلٌ على عظمة سخط الله عليه ، وأنه ادخر له العذاب فلم يعجله له في الدنيا فجعله له وسيجعله له مضاعفاً في الآخرة .
ومعقل بن يسارٍ رضي الله عنه يروي الحديث الذي يسمعه ولا يحفظه كثيرٌ من الناس : ( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌ رعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) .
وفي الرواية الأخرى : ( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً فلم يحطها بنصحه ، إلا لم يرح رائحة الجنة ) متفقٌ عليه .
أفلا يستمع إلى ذلك قادة الأمة وحكامها ؟ وأحوال أمتنا في أكثر بلادها تستحق أن ينطبق عليها مثل هذه الأحاديث التي قالها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، أفيخشون من أمريكا أو غير أمريكا ولا يخشون من الله عز وجل ؟ أفيرضون أن يعملوا قوتهم وقدرتهم في سخط الله عز وجل ، ويخشون أن يفعلوا أقلّ القليل مما يظن أنه يسخط أعداء الله ؟ أفلم يسمع الناس جميعاً حديث أم المؤمنين عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ابتغى رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن ابتغى سخط الله برضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) ؟
إن الأحوال لا تقتصر على من بيده الأمر أو الحكم أو السلطان ! بل تعمّ كل أحدٍ في مسئوليته حتى تعمّ الفرد الذي ليس له مسؤوليةٍ عن غيره ؛ لأن له مسؤوليةً عن نفسه .
ولذلك استمعوا إلى هذا أيضاً الحديث وما فيه من التهديد والوعيد : ( صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي : إمامٌ ظلومٌ غاشمٌ وكل غالٍ مارق ) رواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله ثقات .
( كل ضالٍ مارق ) كم فينا نحن معاشر المسلمين من يصدق فيه ذلك !
وهكذا كلنا يعلم أن الظلم منه ما هو يسيرٌ ومنه ما هو ، ومنه ما هو حدود الدائرة ، ومنه ما هو واسع ، والنصوص كلها تتناول ذلك قليلاً كان أو كثيراً .(/3)
عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليمٌ شديد } ) .
من يستطيع أن يفلت من قبضة وغبضة الله - جل وعلا - إذا ظلم ، وقد حرم الله الظلم وإذا بغى ، وقد وعد الله عز وجل أن ينتصر لمن بُغيَ عليه ، كل من يظلم حتى من يظلموا زوجته أو من يظلم الموظف الذي تحته فضلاً عمن يظلم رعيته ..
وهكذا نرى الصور المختلفة التي تمضي بنا إلى تفصيلٍ وتحديد ، وتصور لنا الواقع كأنما هذه الأحاديث - وهي التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم - تخترق حجب الغيب ، وتتجاوز آفاق الزمان ؛ لتكون في كل وقتٍ وآنٍ ، تكشفٌ للناس ولعموم المسلمين خصوصاً كيف يعرفون واقعهم ؟ وكيف يعرفون أين يضعون موطئ أقدامهم قبل أن تزل الأقدام ، وقبل أن يحصل لهم ما لا يرجونه من السخط والغضب الرباني .
عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدقٍ ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد الله به غير ذلك ، جعل له وزير سوءٍ ، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه ) ، وهذا واقع حال كثيرٍ من أوضاع أمتنا .
وهذا هشام بن حكيم يروي أنه مرّ في بلاد الشام ، ورأى بعض الأنباط من غير المسلمين وهم في حرّ الشمس ، ويوضع عليهم شيء من الزيت عقاباً لهم ؛ لأنهم لم يؤدوا الجزية -، وربما كان ذلك عن غير إمكان - فقال : أشهد الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ) رواه مسلمٌ في صحيحه .
فليخشى الذين يعذبون عباد الله ، والدعاة إلى دين الله ، والعلماء الناطقين بالحق ، المبينين لشرع الله وليخشى كل من يظلم أحداً دونه في القوة ؛ فإنه ما من شيءٍ إلا وله عقوبته دنيا أو أخرى ، نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك .
بل قد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من ضرب بسوط ظلما ، اقتص منه يوم القيامة ) ، ولو في سوطٍ واحدٍ فكيف بما هو أعظم من ذلك ؟!
أيها الأخوة المؤمنون :
إن الأحوال التي تجري ينبغي أن تزيدنا يقيناً بوعد الله عز وجل ، وبصيرةً في سنن الله سبحانه وتعالى ، وينبغي أن تردنا بقوةٍ أكثر إلى دين الله وشرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وينبغي أن تدعونا إلى التشبث والاعتزاز والاستعلاء بدين الله ، وينبغي في آخر الأمر أن تكشف لنا حقائق أعداء الله ، وأن تبين قوتهم الدنيوية على حقيقتها شيئاً لا يعبئ به ولا يخشى منه من كان مع الله { والله معكم ولن يتركم أعمالكم } .
أسأل الله عز وجل أن يكشف الغمة ، وأن يرفع البلاء عن الأمة ، وأن يعيدنا ويردنا إلى دينه رداً جميلا ، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فهي أعظم زادٍ يقدم به العبد على مولاه ، وإن من تقوى الله بغض أعداء الله وعدم الذلة لهم ، وفي الوقت نفسه الانتصار لعباد الله والموالاة لهم ، وبذل ما في الوسع لنصرتهم - ولو بما يستطاع من أقل القليل - فإن التهديد والوعيد قد تناول ذلك أيضاً ، كما جاء في حديث جابرٍ وأبي طلحه رضي الله عنهما ن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمٍ يخذل مسلماً في موضعٍ تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته ، وما من امرءٍ ينصر مسلماً في موضعٍ ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته ) رواه أبو داود في سننه والطبراني بإسنادٍ حسن .
وقد رأينا الأحداث كثيرةً مستمرةً في أرض فلسطين وفي العراق ، ورأينا الأحداث الأخيرة التي فيها أعظم بغيٍ وظلم ، فأين الذين عندهم الأموال والقوات والجيوش والمؤتمرات ؟ أين هم من نصرةٍ ولو بكلمة ! من نصرة ولو بإعانة ! من نصرةٍ ولو بإدانة ! وأين بقية المسلمين من حزنٍ يعتصر قلوبهم وكثيرٌ منهم يضحك ملء شدقيه ، ويأكل ملْ مضغيه ، وينام ملء جفنيه ، وكأن شيئاً لم يكن ؟! وكأن حزناً لم يخالط قلبه ؟! وكأن كرباً لم يقع له ؟!
إنها نصوصٌ عظيمة ، وتهديداتٌ خطيرة ، وليس لأولئك إلا الله نسأل الله عز وجل أن يثبتهم ، وأن يفرّج عنهم ، وأن يعينهم .(/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رجاءً فيما عند الله ، أقدم هذه الكتابات من رسائل ومقالات وأفكار دعوية ،،
وهي عبارة عن كتابات كتبتها في فترات متفرقة ،، أقدمها بعد المراجعة والحذف والإضافة والتنسيق ....
أقدمها بين أيديكم ؛ وحقوق النسخ محفوظة لكل مسلم يريد الفائدة ونشر الخير شريطة نقلها كما هي بالمصدر المذيل في نهاية كل موضوع .
أسأل الله لي ولكم الرشاد وحسن العاقبة والمآل . وجزاكم الله خيراً .
أخوكم : مشرف موقع طريق الدعوة
م ... الموضوع ... ملاحظات
1 ... هل حدثتك نفسك بالتوبة ؟! ...
2 ... إنها المحبوبة ...
3 ... رسالة إلى مطرب - مطربة ...
4 ... لماذا أيها الشاب ؟! ...
8 ... حسنات جارية بعمل بسيط ...
9 ... عندما لا يستساغ العسل !! ...
10 ... ياله من أمر عجيب حقاً ! ...
11 ... رجولة ...
12 ... تعزية حارة وعاجلة لمن ... ...
13 ... أهذا هو الحب ؟! ...
14 ... الفن والشعر والإحساس المزيف ...
15 ... ماذا يعجبك في الأغاني ؟! دعوة للمصارحة ...
16 ... إلى كل كاتب ومتصفح .. احذر السيئات الجارية !! ...
17 ... مزالق خطرة في الكتابة في الإنترنت ...
18 ... جدول لاغتنام رمضان بالأعمال الصالحة ...
19 ... كلمة عملية في الترغيب في تحري ليلة القدر ...
20 ... رسائل لتطهير البلد من محلات الفساد ... 10 رسائل لـ10 محلات
21 ... أيمكن لمثلي أن يتوب ؟! ...
22 ... إلى من يحمل خلقاً متناقضاً !!! ...
23 ... نخافُ عليكِ (خواطر غيور) ...
24 ... إلى كل شاب تعلق بفتاة أو العكس ...
25 ... نتيجة التصويت : 79 مليون صوت تافه ...
26 ... يا كتاب المنتديات الإسلامية : لا .. للتبذل وتهشم الحواجز بين الجنسين ...
27 ... نشاطات الحي ( مهام موزعة وخطة مجدولة ) ...
28 ... الدعوة في المنتديات الشبابية ...
29 ... الدعوة في المنتديات الشبابية ضوابط ومميزات ...
30 ... حتى تنتصر على الشيطان ...
31 ... إذن ... سافر ولا تتردد ... بمناسبة السفر أيام الإجازات
32 ... مليارات الحسنات في لحظات
33 ... من يخبرهم أو يوصل لهم رسالتي ... بشأن المواقع والمجموعات والتشات والمنتديات .. التي تحتوي على مخالفات شرعية
34 ... 25 خطوة عملية في بناء الثقة في النفس
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل حدثتك نفسك بالتوبة ؟!
أخي الغالي .... أختي الغالية :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إني لأستبطأ الأيام متى تزف إلي جميل الخبر ؟
متى أرى دموع التوبة من مقلتيك تنهمر ؟
متى تقوى على كسر القيود وتنتصر ؟
إني بفارغ ذاك الصبر انتظر؟
فهل فكرت بالتوبة ؟
لهفي على لحظة سماع عودتك إلى الله
وانضمامك إلى قوافل التائبين العائدين
أريد أن أفرح لفرحك !
قد لا تتصور سعادتي بك تلك اللحظة .
لست أنا فقط ، بل الله تعالى الغني العلي الكبير سبحانه يفرح بهذه الأوبة والرجوع إليه ، جعلنا الله من التائبين الصادقين .
قلي بربك من مثلك إذا فرح الله بك ؟
لقد جاء في الحديث (( إن الله يفرح بتوبة أحدكم )) ... الله أكبر، فهل تريد في هذه الليلة أن يفرح بك الله . والله إن أحدنا يريد أن يفرح عنه أبوه أو أمه، و يرضى عنه زميله فكيف برب العالمين تبارك وتعالى .
نعم إن الأمر صدق هو كذلك (( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )) البقرة .
وإذا احبك الله فما عليك ولو أبغضك من في الأرض جميعاً .
من مثلك ... يفرح بك الله و يحبك . الله الذي له مقاليد السماوات والأرض المتصرف الوهاب ، الذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون .
ومن كان الله معه فما الذي ينقصه ؟! إن يكن معك الله فلا تبالي ولو افتقدت الجميع فهو سبحانه (( نعم المولى ونعم النصير )) الأنفال .
معك من لا يهزم جنده ، معك الذي يعز من أطاعه ويذل من عصاه ، الذي لا يُقهر سلطانه ، ذو الجبروت والكبرياء والعظمة ، معك الكريم الواسع المنان الملك العزيز القهار سبحانه وتعالى 0
أيها الغالي والغالية :
ما أتعب الناس الذين هم يلهثون وراء الشهوات والمحرمات بزعمهم أن في ذلك السعادة والفرح إلا بعدهم عن الله ، وإلا لو عرفوا الله حقاً ما عرف الهم والضيق طريقاً إليهم ولأيقنوا أن السعادة لا تستجلب بمعصية الله .
أيها الغالي والغالية : أين نحن عن قوله تعالى :
(( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ))
وعن قوله (( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ... )).(/1)
أتجد في نفسك تردداً إلى الآن ؟! كن عاقلاً فلا تشري حطام الدنيا الزائل بنعيم الآخرة الدائم حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول في روضات الجنة يتقلب ساكنها وعلى الأسرة يجلس وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئ وبالحور العين يتنعم وبأنواع الثمار يتفكه ويطوف عليه من الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون و فاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعلمون . ويطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، في قصور الجنة ينظرون إلى الرحمن تبارك وتعالى ويمتعون أنظارهم . ويلتقون بصفوة البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .نعيم لا يوصف لا هم ولا كدر . لا عرق ولا أذى ولا قذر ولا حيض ولا نفاس ولا نصب ولا تعب ولا نوم لكي لا ينقطع النعيم بنوم . و لا عبادة تنشأ إلا لمن أراد أن يتلذذ بها فهي دار جزاء لا دار عمل
هل تملكك في يوم شعورصادق بالتوبة ؟
ما الذي يمنعك تكذيب أم تردد أم هي قيود المعاصي التي تستعذب لظاها ؟!
أعلنها من الآن توبة إلى الله ، فك قيود المعاصي وتسلط الشيطان والنفس عليك ، ألجأ إلى الله واعتصم به وانطرح بين يديه ، هاهم العائدون إلى الله تراهم سلكوا طريق النجاة فعلام التقهقر والتردد ؟ ألا تعلم أن ماعند الله خير وأبقى ، أتبيع الجنة بالنار ؟ّ! ألم تستوعب إلى الآن حقيقة الدنيا ، وأنها دار ممر وليست دار مقر ، وأنها ميدان عمل و تحصيل ثم توفى كل نفس ما عملت ‘إن خير فخير وإن شراً فشر ، أتظن أنك وحدك القادر على ارتكاب الحرام أتظن أن الذين لزموا الطاعة وصبروا على شهوات الدنيا لا يقدرون على ارتكاب الملذات من الحرام ؟
بلى هم يستطيعون ذلك لا يمنعهم شيء لكنهم يخافون الله ويرجون ثوابه ويصبرون قليلاً ليرتاحوا كثيراً فكن معهم تجد السعادة في الدنيا قبل الآخرة .
قل للنفس يكفي ما كان واعزم على هجر الذنوب واسلك طريق العودة .فإن لم تتب اليوم فمتى ستتوب وإن لم تندم اليوم متى ستندم ؟
هل تنتظر أن تتوب عند الموت ؟ّ فالتوبة لا تقبل حينئذ .هل تنتظر أن تندم حين لا ينفع الندم ؟! حين تقول ياليت وياليت ! قال تعالى (( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولَ ، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلَ ، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً )) .!
أو هل تنتظر حتى تدخل النار فتتوسل إلى الله يوم لا يجدي التوسل يوم يتوسل أهل النار أن يخرجهم الله منها ليعودوا ليعملوا صالحاً ولكن هيهات (( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون )) فيجيبهم المولى سبحانه (( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون )) .
عد إلى الحق واستجب له ما دمت في زمن الإمهال قبل أن تكون من الذين يتمنون الموت من فرط العذاب فلا يستجاب لهم أتدري لماذا ؟ لأنهم أتاهم الحق فما استجابوا له قال الله تعالى (( وقالوا يا مالك ليقضي علينا ربك قال إنكم ماكثون ، لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ))
أخي ، أختي أرجو الله أن تجد كلماتي قبولاً لديك سائلاً المولى تعالى أن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . وقبل أن أودعك أجد نفس أقول لك إني لأستبطأ الأيام متى تزف إلي جميل الخبر ؟ متى أرى دموع التوبة من مقلتيك تنهمر ؟متى تقوى على كسر القيود وتنتصر ؟ إني بفارغ ذاك الصبر انتظر؟
أخوك المنتظر عودتك
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
إنها المحبوبة
وهكذا هي الدنيا .... سريعة الارتحال ومآلها للزوال ، حلالها يعقبه حساب وحرامها يعقبه عذاب. شباب يبلى وعمر يفنى وملك يزول و حبيب يُهجر .
المغرور من غرته ، والمحروم من ألهته عن العمل حتى وافاه الأجل . قال الله تعالى (( وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ))
هذه الدنيا ... قال صلى الله عليه وسلم مبيناً حقارتها : (( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع )) [ رواه مسلم ]
فلاحظ إلى حجم الدنيا وقدرها في الآخرة إنها ليست بشيء .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافراً منها شربة ماء )) [ رواه الترمذي وصححه الألباني ] 0 فإن وجدت الكافر والعاصي ومن لا يعرف الله حق المعرفة يتقلب في شيء من النعيم في هذه الدنيا فلا تعجب إنما أعطاه الله شيء لا يساوي جناح بعوضه ، ويقوم القيامة يكون وبالاً عليه .
هذه الدنيا .... سعد والله من عد فيها العدة وتزود ليوم الرحيل ويوم الفزع الأكبر و العرض على الله ، يوم تطاير الصحف ونصب الميزان والعبور على الصراط ، وخسر وخاب من غرته وأخلد إليها وتجاذبته الشهوات وانكب على المعاصي والخطيئات ونسي أنها دار امتحان فخرج منها وقد باء بالخسران .(/2)
قال الله تعالى (( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )) .
هذه الدنيا .... ما أسرع ما تنصرم أيامها فكأنها بأعوامها الطويلة ما هي إلا يوم مضى أو ساعة من نهار ، فتطوى السجلات على ما فيها من الحسنات وقبيح العمل والزلات .
قال تعالى: (( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ))
وقال تعالى : (( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ))
فمسكين .. والله مسكين .. من غلبته أغنية واستهواه فيلم وقيدته قناة فاتنة ، وأطلق السمع و البصر وأجهد الفكر لهثاً ليرضي شهوته ويُسخط ربه ، فبئس من كان هذا فهمه وشقي من كان هذا همه ، ما كأنه خُلق للعبادة فعاش ومات ولم يدرك سر الحياة والغاية من وجوده .
حتى إذا جاء ت اللحظة التي لا ينفع نفس إلا ما قدمت في حياتها اختلق الأعذار وتمنى على الله الأمنيات قال الله تعالى (( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )) .
وقال الله تعالى (( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ... ))
وقال تعالى (( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّين . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ 0 قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ . إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ . فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ . إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُون ))
إنها الدنيا ... يا من تُمَتِعُ فيها جوارحك بالحرام ، عد العدة ليوم تشهد عليك هذه الجوارح بما كنت تعمل . قال تعالى (( حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ... ))
قال جبريل عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( يا محمد , عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به ) .
إنها الدنيا ... خاض فيها من خاض وغنِم فيها من غنِم وكل مرتهن بما بقدم .
ولو أنا إذا متنا تُركنا ........... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بُعثنا ............. ونُسأل بعدها عن كل شيء
ثبت في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا وقف على القبر بكى , وكان إذا ذُكرت له الجنة والنار لم يبكِ كبكائه للقبر , فقالوا له :
تذكر الجنة والنار ولا تبكي ؟!
قال : أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم أن القبر أول منزل من منازل الآخرة.
والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، وإنما ذلك بحسب ما قدمته في دنياك من العمل .
مر علي رضي الله عنه بالمقابر فقال بعد السلام والدعاء لهم :
يا أهل القبور , أما الأزواج فقد نُكحت , وأما الديار فقد سُكنت , وأما الأموال فقد ُقسّمت , هذا خبر من عندنا , فما خبر من عندكم ؟
مالي أراكم لا تجيبون ؟
ثم التفت إلى أصحابه رضي الله عنه فقال :
أما إنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا أن خير الزاد التقوى .. فبكى رضي الله عنه وأبكى أصحابه.
ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا ، فتب علينا واغفر لنا وارحمنا برحمة من عندك وتقبلنا في التائبين . (( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ))
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
رسالة إلى مطرب – مطربة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ / ------------------------ وفقه الله
أخ الإسلام ،،،،، ارعني سمعك أخي الحبيب لأبث لك ما في نفسي من كلمات ، كلمات جمعتها من أجلك أنت وحباً فيك ، وحسبي أني ناصح لك ومحب فلا تبخل أن تعيرني من وقتك دقائق لتقرأ ما دونته لك
أخي لننطلق أولاً من نقطة اقتناع ... فهذه وقفة في تحريم الغناء بالأدلة من الكتاب والسنة :
1- قال تعالى : " و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " . ( سورة لقمان / آية 6 ) .(/3)
لهو الحديث في الآية المراد به الغناء ، قال ابن عباس و ابن مسعود .. و هو قول مجاهد و عكرمة و روى عن ابن مسعود .. أنه قال و الله الذي لا إله غيره ( هو الغناء ) - يعني لهو الحديث - .
2. قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف " . ( أخرجه البخاري ) .
وجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها لاخلاف بين أهل اللغة في ذلك ، ( انظر كتاب اغاثة اللهفان ص260 الجزء الأول ) و قوله يستحلون أي أنها كانت حراما فأباحوها و استحلوها .
3. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - : "يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة و خنازير ، قالوا يا رسول الله : أليسوا قد شهدوا أنه لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ، قال بلى .. و يصلون و يصومون و يحجون ، قيل : فما بالهم ؟ ، قال : اتخذوا المعازف و الدفوف و القينات فباتوا على شربهم و لهوهم ، فأصبحوا و قد مسخوا قردة و خنازير " . ( اغاثة اللهفان ص262 ج1 ) .
4. قال تعالى : " و ما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية " ( سورة الأنفال ) قال ابن عباس ، و ابن عمر ، و عطية ، و مجاهد ، و الضاحاك ، و حسن ، و قتادة : المكاء هو التصفير و التصدية هي التصفيق .
5- قال تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } الإسراء :63،64
عن مجاهد رحمه الله قال : استنزل منهم من استطعت ، قال : وصوته الغناء والباطل .
6- وقال تعالى : " أفمن هذا الحديث تعجبون ، وتضحكون ولا تبكون ، وأنتم سامدون "
قال عكرمة رحمه الله : عن ابن عباس السمود هو الغنا، يقال : اسمدي لنا أي غني .
كما قال رحمه الله : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وقوله تعالى " وأنتم سامدون " قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال : اسمد لنا تعني غنِّ لنا .
وإليك هذه وقفة مع أقوال بعض العلماء في الغناء :
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" و من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الأغاني و الملاهي ، و هو سماع المشركين : قال الله تعالى : " و ما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية " ، قال ابن عباس ، و ابن عمر ، و غيرهما : التصدية : التصفيق باليد ، و المكاء الصفير ، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة و أما النبي - صلى الله عليه و سلم - و أصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة و القراءة و الذكر و نحو ذلك ، و لم يجتمع النبي - صلى الله عليه و سلم - و أصحابه على استماع غناء قط لا بكف و لا بدف ، ثم قال عن مستمع الغناء : و حال خوارقه تنقص عند سماع القرآن و تقوى عند مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا ، فإذا جاءت الصلاة .. صلى و هو قاعد أو ينقر الصلاة نقر الديك ، و هو يبغض سماع القرآن و ينفر منه و يتكلفه ، ليس له فيه محبة و لا ذوق و لا لذة عند وجده ، و يحب سماع المكاء و التصدية و يجد عنده مواجيد ، فهذه أحوال شيطانية و هو ممن يتناول قوله تعالى : (( و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " . ( من كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام
( مجموع الفتاوى 11/576 ) وكل ما يعرض اليوم من غناء إنما تكون بالآت وقد زاد الحال مما عليه في السابق فاليوم قد عمت وطمت .
* و قال ابن القيم الجوزية رحمه الله :(/4)
" و من مكايد عدو الله و مصايدة التي كاد بها من قل نصيبه من العقل و العلم و الدين و صاد بها قلوب الجاهلين و المبطلين سماع المكاء و التصدية و الغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن و يجعلها عاكفة على الفسوق و العصيان .. فهو قرآن الشيطان و الحجاب الكثيف عن الرحمن و هو رفية اللواط و الزنا و به ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى كاد به الشيطان النفوس المبطلة و حسنه لها مكرا و غرورا و أوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه و اتخذت من أجله القرآن مهجورا فلو رأيته عند ذياك السماع و قد خشعت منهم الأصوات و هدأت منهم الحركات و عكفت قلوبهم بكليتها عليه و انصبت انصبابة واحدة عليه فتمايلوا و لا كتمايل النسوان و تكسروا في حركاتهم و رقصهم أرأيت تكسر المخانيث و النسوان و يحق لهم ذلك و قد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعلة حميا الكؤوس فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق و أموال في غير طاعة الله تنفق .. قضوا حياتهم لذة و طربا و اتخذوا دينهم لهوا و لعبا .. مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن ، لو سمع أحدهم القرآن لما حرك له ساكنا و لا أزعج له قاطنا حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان و ولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد عن قلبه علو عينيه فجرت و على أقدامه فرقصت و على يديه فصفقت و على سائر أعضائه فاهتزت و طربت و على أنفاسه فتصاعدت ...
فيا أيها الفاتن المفتون و البائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون .. هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن ؟ و هذه الأذواق و المواجيد عند قراءة القرآن المجيد ؟ و لكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه و يميل إلى ما يشاكله " . ( باختصار من كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ) ...
· وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله .. :
" الاستماع إلى الأغاني حرام و منكر و من أسباب مرض القلوب و قسوتها و صدها عن ذكر الله و عن الصلاة و قد فسر أكثر أهل العلم قوله تعالى : " و من الناس من يشتري لهو الحديث " بالغناء و كان عبدالله بن مسعود الصحابي الجليل - رضي الله عنه - يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء ، و إذا كان مع الغناء آلة كالربابة و العود و الكمان و الطبل صار التحريم أشد ، و ذكر بعض العلماء أنا الغناء بآلة لهو محرم اجماعا ، فالواجب الحذر من ذلك ، و قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم .. أنه قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف " . ( أخرجه البخاري ) .
وتحريم الغناء أخي وفقك الله : إنما هو بالكتاب والسنة وقد قال بذلك كثير من علماء الأمة الأفذاذ في السابق وفي هذا العصر ، وأما من خالف وأباح الغناء ففتواه مردودة ولا يأخذ بها في وجود الأدلة الصريحة للتحريم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهاهو ابن باز رحمه الله علامة زمانه وإمام أهل عصره يرد على من يزعم إن الغناء ليس بحرام ،
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عددها السابع والستين والثامن والستين بقلم أبي تراب الظاهري تحت عنوان : [الكتاب والسنة لم يحرما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها] وتأملت ما ذكره في هذا المقال من الأحاديث والآثار وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعا لإمامه أبي محمد بن حزم الظاهري ، فتعجبت كثيرا من جرأته الشديدة تبعا لإمامه أبي محمد على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي ، بل على ما هو أشنع من ذلك ، وهو القول بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة ، وعجبت أيضا من جرأتهما الشديدة الغريبة على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم ، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم ، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان ، ولقد أنكر أهل العلم قديما على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة وعابوه بها ، وجرى عليه بسببها محن كثيرة فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن سائر المسلمين .
ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان ، وأخبر عز وجل أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه
(( وهذا هو الرابط لرد الشيخ ابن باز السابق ))
http://www.ibnbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=366(/5)
أخي وفقه الله لكل خير : أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً)) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال بأي وجه تستبيح أخذه وأنت تعلم مصدره ، وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له)) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له.
وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به )) . وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام ، نعوذ بالله من سخط الله .
إني أنادي فيك إسلامك و أخاطب فيك عقلك فتأمل بارك الله فيك أن من جرم الغناء و أخطاره على المغني ما تلحقه من السيئات الجارية عليه في الحياة و حتى بعد الممات .
وهل تستطيع أن تحصي ...... كم من شخص استمع إليك وشاركته الإثم في ذلك ، هل تستطيع حصر كم من العمر أمضوه يستمعون فيه إليك ، كم شريط تصدر في السنة الواحدة كم من مدينة في الخليج والعالم العربي يصلها توزيع الشريط وكم تقدر عدد بيع الشريط في كل مدينة ، وكم من سنة وأنت على هذا الحال ، ولاحظ أن الذي المستمع للشريط سوف يسمعه أكثر من مرة بل قد يشاركه السماع أهله أو زملاؤه ، وهذه الآثام تشاركهم فيها ولك مثلها ، و لقد حاولت أن أجرئ عملية حسابية لذلك فوجدت أن وقت الاستماع يفوق عمر المغني .
ولاتنس ..... ما يبث في القنوات الفضائية وكم مجالس عمرت بذلك إضافة إلى ما يسمع في المحطات الإذاعية ، ولا تنس الأموال التي صرفوها أصحابها في شراء الأشرطة وأموال القنوات والمحطات في ذلك ، والمرء يوم القيامة سيحاسب على عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، فما بالي أراك تفني عمرك وأعمار فوق عمرك من الذين تشاركهم آثامهم . وتكون سبباً في إضاعة أموالك وأموال هؤلاء فيما حرم الله أيسرك أن تلقى الله بهذه السيئات العظام ؟!
وكيف إذا أضيف على كل ذلك ما تحرك به المشاعر وتكون سبباً لإثارة الشهوات والوقوع في الفواحش وكم كانت سببا في الانحراف والصد عن ذكر الله ؟
قال الله تعالى (( وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم )) . وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (( من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)). وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي قال: (( ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل)).
وأنا إذ أذكر لك ذلك ، أذّكرك بأن باب التوبة مفتوح والله يفرح بالتائبين ويحبهم فسارع إلى رحمة الله واصدق في توبتك تكن من المفلحين فقد قال الله تعالى (( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ))
فهل ستنضم إلى قوافل التائبين من أهل الفن ، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
قال النبي صلى الله عليه وسلم (( التوبة تجب ما قبلها )) أي تمحو ما قبلها . وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ))
الله الله بالمسارعة يا أخي ومجاهدة النفس للتغلب على المعاصي والصدق مع الله واللجوء إليه
والدعاء قال تعالى (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )) هذا وعد من الله ومن أصدق من الله قيلاً . (( ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعاً ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله إليه باعاً ومن أتاه يمشي أتاه هرولة..)) كما جاء في الحديث القدسي .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---
لماذا أيها الشاب ؟!(/6)
الشباب بطبعه يحب روح التحدي وأنا أدعو كل قارئ وخاصة الشباب أن لا تنثني عزاؤهم إزاء قراءة هذا المقال وأنا على يقين بأنكم لن تخسروا .
لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟
تتعجب عندما تراه يركض في المعلب ويجوبه طولاً وعرضاً جرياً وراء الكرة .. ولا يقوى على أداء الصلاة . لماذا أيها الشاب ؟ !
يدّعي الإسلام ؛ و المسجد عنه خطوات و لا تراه في صفوف المصلين !
فلماذا أجبني .... لماذا ؟!
يهتز طرباً ونشوة عند سماع الأغاني وهي وحي الشيطان ومزاميره ولا يحتمل أن يسمع القرآن وهو كلام الله وشفاء القلوب ورحمة وهدى للناس !! . قلي لماذا ؟
أسماء المغنين والفنانين واللاعبين يحفظهم عن ظهر غيب ويعرف ميولهم ورغباتهم وأخبارهم بل ويعرف أسماء زوجاتهم وأبناءهم ولا يعرف الله ، وهو ما خالق لهذا ولن يُسأل عنه إذا لاقى الله ! . فلماذا ، لماذا ؟ !
يقرأ في كتب الشعر الماجن والروايات الهدامة ويطالع عشرات المجلات وتمضي الشهور وهو ما لمس القرآن . لماذا أيها الشاب ... لماذا ؟
يسمع الموعظة ولا يتعظ ويرى الحق ولا يتبعه ويصغي للناصح ولا يطبق ما يقوله !!
فلماذا .... أجبني أخي لماذا ؟
لا تتحجج بالنفس فأنت تستطيع أن تطوعها للخير وتخالف هواها حتى تسيطر عليها ، ولا تقل ؛ لا أستطيع دفع الشيطان لأن الله أخبرنا بأن كيده كان ضعيفاً .
ولا تقل لا أستطيع تغيير جلساء المعصية . فإن من رام الخير وصل إليه بإذن الله .
أتدري ما الجواب عن لماذا في الاستفسارات السابقة ؟
الجواب : لأن النفس غير متصلة بالله والقلوب متعلقة بحب الحرام وكل شهوة والإيمان ضعيف إن لم نقل معدوماً .
وهذه قاعدة الإيمان الضعيف لا يقدر على إزالة حب المحرمات والتعلق بها لأنه ضعيف . وضعف الإيمان في القلب لا يقاوم قوة المعصية فيه .
فيأتي هنا سؤال متوقع وهو كيف نستطيع تقوية الإيمان ليكون قادراً على إزالة المحرمات وتجنبها ؟
وللجواب على هذا السؤال وحتى نصل إلى قطف ثماره وجني الفائدة بدلاً من قراءة السطور وأنت مسافر البال ومشغول الذهن .
أقول لك هل فعلاً أنت مهتم بهذا الأمر هل صحيح تعي لماذا خلقت ؟
هل تحرص على رضا ربك والفوز برضوانه ، والهرب من غضبه ونيرانه ؟!
هل فكرت بالنار أم أنها خلقت لغير البشر ؟! أ
أم أنك قد ضمنت دخول الجنة ووعدت بها ؟!
هل تريد الإجابة على التساؤل السابق ( كيف تتغلب على متعلقات القلب والشهوة المحرمة )
الحل بسيط ومقدور عليه إن شاء الله ولكن قبل ذلك أقول لك قف مع نفسك وقفة صدق ومحاسبة .
قل لنفسك إلى متى العصيان إلى متى يا نفس وإنت تسمعين أنه في كل يوم يقال فلان مات ، والله يا نفس ليأتي اليوم الذي يقولون فيه الناس أني مت .
قل للنفس أن الجنة تحتاج إلى صدق مع الله .
قل للنفس ما سبب أن فلان اهتدى.؟ !
قل للنفس ماذا ينقصني حتى أحرم الرجوع إلى الله والتلذذ بطاعته .؟!
وإليك الحل بمشيئة الله :
1- الزم الدعاء وأسأل الله أن يعينك على الهداية والقبول وأن يتقبلك تائباً وانكسر بين يدي الله وابك على خطيئتك ، وعليك تحين أوقات الإجابة مثل الثلث الآخر من الليل ، وحين السجود ، وما بين الأذان والإقامة .
2- تخلص من كل شيء يذكرك بالمعصية واحتسب الأجر أن ذلك لوجه الله ، تخلص من أشرطة الغناء ، من الدش ، اعتزل الإنترنت إن كان استخدامك له استخدام خاطئ ، تخلص من المجلات والصور و... وتذكر أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .
3- احرص على قراءة القرآن يومياً وحافظ على الأذكار فهي حفظ من الله ضد الشيطان مع القيام بالفرائض ونوافل الطاعات .
4- لا بد أن تجالس الأخيار فهم خير معين ، كذلك الفتاة تلتزم الخيرات فالشيطان مع الواحد ، وأسألهم عما قد يعترض في طريقك .
5- تجنب أصحاب الماضي فهم يذكرونك بالمعصية واهجرهم تماماً ، ثم مسألة دعوتهم لطريق الهداية تأتي في مرحلة متقدمة بعد أن يشتد عودك في الدين وتقوى حجتك وتستطيع الرد على الملابسات ، و يكون ذلك بتحين الفرص المناسبة وتخولهم بالموعظة كل على حدة .
6- اجعل لنفسك وقتاً للاستماع إلى الأشرطة الدينية ففيها تقوية للإيمان وربط بالله وتقوية الصلة به مع زيادة معلوماتك الدينية والتفقه في دين الله .
7- إذا وجدت تثبيطاً ممن حولك فاشفق على حالهم أنهم ضلوا الطريق السوي وأسأل الله الهداية للجميع .
وتذكر أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى (( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ... )) واعلم أن أمامك موت ثم حساب فإلى جنة أو إلى نار .
جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---
حسنات جارية بهذا العمل البسيط !
كم في الحي من محب للخير ومحبة للخير ؟
كم في الحي من موظف وموظفة ؟
كم في الحي من موظف وموظفة يستلم راتبه عن طريق البنك ؟(/7)
احضر ورقة وقلم وسجل أسماءهم ثم اعرض عليهم المساهمة في إحدى الجهات الخيرية
ولا يستلزم من المتبرع إلا زيارة واحدة لكتب رقم حسابه [ إن كان يستلم الراتب عن طريق البنك ] و مبلغ المساهمة وتعبئة بقية بياناته .
وتقوم الجهة الخيرية باستقطاع المبلغ من الراتب شهرياً . دون مشقة من المتبرع ويجري عليه من الأجر ما الله به عليم .
والمبلغ يسير لا يكاد يؤثر على المتبرع ومن أراد الاستزادة فالأمر له (( وما عند الله خير للأبرار ))
وهذه الجهات مثل مراكز تحفيظ القرآن– مكاتب دعوة الجاليات – الندوة العالمية للشباب الإسلامي –- دور العجزة والمسنين ...... الجمعيات الخيرية والنسائية
وتذكر أن لك مثل أجورهم بإذن الله كما قال صلة الله عليه وسلم (( الدال على الخير له أجر فاعله ))
ماذا تنتظر أبدأ من الآن ......
كما أن نشر هذا الموضوع دلالة على الخير الموصل للحسنات الجارية !
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
عندما لا يُستساغ العسل !!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لحظة رعاك الله !!
في تصور البعض أنه لا يوجد من لا يستسبغ العسل وإن وجد فإنه نادر
والحقيقة أن أغلب البشر لا يستسيغ العسل !
لا تعجب من ذلك .... وتعال لتحكم بنفسك فربما كنت أنت أحدهم !
يأنف المريض من أمور عادة لا يأنف منها حال صحته وذلك لتقلب مزاجه وعجزه وقلة تحمله ؛ وفي خضم ذلك تختل لديه ملكة الإحساس ببعض الأشياء من حوله فلا يهنأ بلذيذ الطعام وحلو الشراب ، ولو كان المطعوم عسلاً ؛ فإنه يجد مرارة تجعله لا يستسيغ له طعماً و ينفر منه اشمئزازاً .
ولا ريب أن العلة في جسده وجوفه المريض لا في العسل .
وفي الجانب الآخر نجد مريض القلب المتعلق بالشهوات والمنكرات ينفر من العبادة ويستثقل الطاعة و لا يتحمل سماع القرآن رغم أن العبادة لذة وراحة واطمئنان والقرآن شفاء ورحمة إلا أنه لا يستلذ بهذه القربات وينفر منها .
وبين المريضين تشابه أحبتي في الله ...
فكما أن العلة ليست في العسل بل هي في جوف مريض الجسد ، فالعلة ليست في القرآن( وحاشا لله ) بل إن العلة في القلب البعيد عن الله وإلا فاقرأ قول الله تعالى [[ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ]]
وما هذا الخلل في الحكم على ثوابت الأمور إلا لمرض حل به جعله يجد العسل ( القرآن الذي هو وحي الرحمن ) علقماً ، والعلقم ( الأغاني التي هي صوت الشيطان ) عسلاً ، وكذلك ( الصلاة والهداية ومجالسة الصالحين ) يجدها علقماً ، وأما ( السخرية والغيبة والأنس بأصحاب المنكر ) يجدها عسلاً .
فلله ما أنكس هذه القلوب التي جعلت من الحق باطلاً ومن الباطل حقاً ومن المعروف منكراً ومن المنكر معروفاً .
فلم إذاً لا يُستساغ العسل ؟! أعني الهداية ؟!
إجابة عن هذا التساؤل أقول أحبتي .. ما هذا الإعراض إلا نتيجة لمرض حل بالقلوب وغير فطرتها وإلا فالقلوب السليمة لا تهنأ إلا بالله ولا تأنس إلا بذكره ،
قال تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وجلت قلوبهم وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
ومن الأمراض التي طمست على القلوب وأعمت بصيرتها فأصبحت لا ترى معها نور الهدى مرض النفاق والرياء والشك كما في هذه الآية (( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً )) فزادهم الله مرضاً يعني نفاقاً ورياءً وشكاً والعياذ بالله .
ومن الأمراض كذلك مرض الشبهة ، قال الله تعالى (( وَإِذْ يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض مَا وَعَدَنَا اللَّه وَرَسُوله إِلَّا غُرُورًا ))
قال الذي في قلبه مرض بما يجده في نفسه من الشبهة بأنه ما وعدهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا غروراً .
ومن الأمراض مرض الشهوة ، قال الله تعالى (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوًْلاً معروفاً ))
(( فلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ )) يَعْنِي بِذَلِكَ تَرْقِيق الْكَلَام إِذَا خَاطَبتْنَ الرِّجَال وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : " فَيَطْمَع الَّذِي فِي قَلْبه مَرَض " وهو مرض الشهوة " وَقُلْنَ قَوًْلاً مَعْرُوفًا " أي حَسَنًا جميلاً مَعْرُوفًا فِي الْخَيْر .
فهل أدركت الآن لم لا يُستساغ العسل ؟!
فإن أردت العلاج فهاك هو بإذن الله :
[ 1- المعرفة بالله تعالى :
فمن عرف ربه حق المعرفة رق لبه ، ومن جهل ربه قسا قلبه ، وما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل وأبعدهم عن المعرفة به ، وكلما عظم الجهل بالله كلما كان العبد أكثر جرأة على حدوده ومحارمه ، وكلما وجدت الشخص يديم التفكير في ملكوت الله ، ويتذكر نعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى ، كلما وجدت في قلبه رقة .
2- تذكر الموت وما بعده :(/8)
من سؤال القبر وظلمته ووحشته وضيقه ، وأهوال الموت وسكراته ، ومشاهدة أحوال المحتضرين وحضور الجنائز ، فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدها ، وينبهها من غفلتها ، فتعود إلى ربها وترق ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول : (( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه )) (رواه البيهقي وحسنه الألباني ) ويقول سعيد بن جبير رحمه الله : لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي .
3- زيارة القبور ( للرجال ) والتفكر في حال أهلها :
وكيف صارت أجسادهم تحت التراب وكيف كانوا يأكلون ويتمتعون ويلبسون مالذ وطاب فأصبحوا تراباً في قبورهم ، وتركوا ما ملكوا من أموال وبنين ، ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم ، وأن مآله هو مآلهم ، ومصيره هو مصيرهم ، فزيارة القبور عظة وعبرة ، وتذكير وتنبيه لأهل الغفلة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ؛ فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هُجراً )) ( رواه الحاكم وصححه الألباني ) ، ومن نظر إلى القبور وإلى أحوال أهلها انكسر قلبه ورق ، وذهب ما به من القسوة ، وأقبل على ربه إقبال صدق وإخبات .
4- النظر في آيات القرآن الكريم :
والتفكر في وعده ووعيده وأمر ونهيه ، فما قرأ عبد القرآن وكان عند قراءته حاضر القلب مفكراً متأملاً إلا وجدت عينه تدمع ، وقلب يخشع ، ونفسه تتوهج إيماناً من أعماقها تريد السير إلى ربها ، وما قرأ عبد القرآن أو استمع إلى آياته إلا وجدته رقيقاً قد خفق قلبه واقشعر جلده من خشية الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر.
5- تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها :
والجنة وما أعد الله فيها للطائعين من النعيم المقيم ، والنار وما أعد الله فيها للعاصين من العذاب المقيم ، فإن ذلك يذهب النوم عن الجفون ، ويحرك الهمم الساكنة والعزائم الفاترة ، فتقبل على ربها إقبال المنيب الصادق ، وعندها يرق القلب .
6- الإكثار من الذكر والاستغفار :
فإن للقلب قسوة لا يذيبها إلى ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى ، وقد قال رجل للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي . قال : أذِبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ن فما أذيبت قسوة القلب بمثل ذكر الله تعالى . يقول ابن القيم رحمه الله : (( صدأ القلب بأمرين : بالغفلة والذنب ، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر ...)).
7- زيارة الصالحين وصحبتهم ومخالطتهم والقرب منهم :
فهم يأخذون بيدك إن ضعفت ، ويذكرونك إذا نسيت ، ويرشدونك إذا جهلت ، إن افتقرت أغنوك ، وإن دعوا الله لم ينسوك ، ورؤيتهم تذكر بالله وتعين على الطاعة ، قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }( الكهف : 28) ويقول جعفر بن سليمان : كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع .
8- مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها :
وإذا لم يعرف حقيقة المرض فكيف يتمكن من العلاج ؟! لهذا لا بد من تذكير النفس بضعفها وافتقارها إلى خالقها ، وإيقاظها من غفلتها ، وتعريفها بنعم الله عليها ، ومراقبتها ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة حتى يسهل عليه قيادها والتحكم فيها . ] ( * )
ما بين المعكوفتين منقول من موضوع لماذا تقسوا قلوبنا – دار الوطن .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---
يا له من أمر عجيب حقاً !
ماذا لو ....... كان أحد الطلاب أخذ يستذكر مادة غير التي سيمتحن فيها غداً ؟!
فأوقد فكره وأسهر ليله ، ثم جاء من الصباح ووجد نفسه غريباً بين زملائه !
ماذا لو ....... وجد الكل يستعد لخوض الامتحان ، هذا يطرق برأسه مسترجعاً بعض معلومات المادة ، وهذا يسأل زميله في أمر أشكل عليه ، وهؤلاء الطلاب يتناقشون في بعض النقاط ، وذاك يقلب صفحات الكتاب في هدوء ، وآخر بدأت عليه علامات الاضطراب ... وصاحبنا يدور في فلكه الخاص شاذاً عن بقية المجموعة .
ماذا لو .... لم ينتبه صاحبنا إلا وقد قُُرع جرس دخول قاعة الامتحان وقد فاته استدراك الأمر ؟(/9)
مما لا ريب فيه أنه في حال عصيب لا يحسد عليه .
لكن أحبتي مهلاً ......
ماذا لو ...... كان صاحبنا فعل ما فعل عن إرادة وتعمد ؛ وكان يعلم أن المادة التي استذكرها
ليست هي مادة الغد ؟!
هنا بماذا يمكن أن نصف فعلته تلك ؟
طبعاً بدون أدنى تردد ... سنصفها بالسذاجة ، وأن هذا تصرف لا يصدر إلا عن شخص قد خف عقله ، أو على أحسن احتمال أنه شخص مستهتر لا يبالي بما هو ذو بال ، وإلا فما فائدة أن يستذكر مادة لن يسأل عنها بل سيسأل عن غيرها .
وبينما نحن نتعجب لذلك بالغ العجب ..... هناك من هو أسوأ حالاً من صاحبنا هذا !
ومن لا تنبئ أفعاله عن عقل ألبته !
وقبل أن نعرف من هو ؛ تعالوا بنا نقرأ هذه الآية ... لنسبر حالنا على ضوئها .
قال الله تعالى (( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ))
حسنأ إذاً .... نحن موقنون بأننا سنسأل هذا السؤال : ماذا أجبتم المرسلين ؟
وليس ماذا أجبتم المطربين أو الممثلين أو اللاعبين .....
فيا من تعلقت بالأغاني وقطعت بها عمر من عمرك ، هل تدرك أنما قضيته ما كان إلا هباءً وأنك لن تسأل غداً عن أغاني الفنان فلان ولا ألحانه وأخباره التي حفظتها عن ظهر غيب .
فإذا كان كذلك ... فلم أشغلت نفسك اليوم فيما لن تسأل عنه غداً ؟
ويا من ألهتك مشاهدة المباريات فحفظت أسماء اللاعبين وأنديتهم في الشرق والغرب وتتبعت ركضهم في كل قناة وفوق كل صفحة فدفعت باهض الثمن من عمرك مقابل ما هو أزهد من الزهيد فكسدت تجارتك وخاب مسعاك في تلك الصفقات ...
ويا من غرتك مشاهدة الحرام من أفلام ومسلسلات وبرامج .... ويا من شغلتك أموالك ... ويا من غرك منصبك وجاهك .... وأنت يا من فتنت بتقليد الغرب والتشبه بهم .... وأنتِ يا من سحرتك الموضة و أزياء العاريات وتفاهة الفارغات .... أما علمت أن الله سيسألك عن هذه الجوارح ... قال الله تعالى (( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا )) .
وأنه تبارك وتعالى سيسأل كل منا عما قدم من عمل في هذه الدنيا .. قال الله تعالى : (( فوربك لنسألنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون ))
وكل فرد منا.... سيسأل غداً عن عمره وماله وشبابه ؟
فلم تركنا ما سوف نسأل عنه وانشغلنا بما سوف نحاسب عليه ؟!
فوالله إنه لفرق بين إساءة تصرف صاحبنا التي لا يتعدى أثرها محيطها الضيق وبين من إساءته تجره إلى سخط الله وعقابه في الدنيا والآخرة.
وإني لا أظنك إلا وقد عقلت ذلك الفرق البين فماذا أنت صانع ؟
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---
رجولة
كل إنسان يتمنى أن يتصف ببعض الصفات الحميدة الرفيعة ، لسمو تلك الصفات وغور أصالتها وشرف محامدها ، ومن هذه الصفات صفة الرجولة .
فما معنى الرجولة ؟
عند طرح هذا السؤال نرى تباين واختلاف في مفهوم الرجولة عند الكثير منا ...
فمن مفسر للرجولة بالقوة والشجاعة ، ومن مفسر لها بالزعامة والقيادة والحزم ، ومن هم يفسر الرجولة بالكرم وتضييف الضيوف ، ومنهم يقيسها بمدى تحصيل المال والاشتغال بجمعه ، ومنهم من يظنها حمية وعصبية جهلاء ، ومنهم من يفسرها بالبروز في المواقف الحرجة والأزمات لمد يد العون ، ومنهم من يفسرها ببذل الجاه والشفاعة وتخليص مهام الناس بأي الطرق كانت ...
فحدث إفراط في استعمال هذه الكلمة العظيمة ، والحقيقة أن الرجولة تحمل شيئاً من بعض تلك المعاني لكنها بالتأكيد ليست بالمعنى الذي يرمي إليه الكثير من الناس .
فالرجولة بمفهومها الصحيح الملائم لهذه الكلمة العظيمة هو ما ذكره الله تبارك وتعالى في ثنايا كتابه الذي (( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )) .
ويخطئ الكثير في عدم التفريق بين الرجل والذكر ، فكل رجل ذكر ، ولا يعتبر كل ذكر رجل ، لأن كلمة ( ذكر ) غالبا ما تأتي في المواطن الدنيوية التي يجتمع فيها الجميع ، مثل الخلق وتوزيع الإرث وما أشبه ذلك ، أما كلمة رجل فتأتي في المواطن الخاصة التي يحبها الله سبحانه وتعالى .
* يقول الله سبحانه وتعالى (( من المؤمنين [رجال] صدقوا ما عاهدوا الله عليه )) صدقوا وأوفوا بعهد الله ورسوله ومستمرين عليه . والرجال هم الذين يصدقون ويوفون بوعودهم .
* قال الله تعالى (( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال [ رجال] لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار )) ومن يستطيع أن يتصف بهذه الصفات إلا الرجال . الذين هم من أهل المساجد الذين يذكرون الله ويسبحونه ، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة في أوقاتها و أداء الزكاة المفروضة ويخافون من يوم القيامة وإلى أي مصير يصيرون .(/10)
* ويقول الله سبحانه وتعالى (( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ،فيه [رجال] يحبون أن يتطهرون ، والله يحب المتطهرين)) أي يتطهرون بالوضوء والغسل ، ويحرصون عليه عند عروض موجبه ، والله يحب الذين يتطهرون من الحدث ومن الذنب ، فالرجال يرغبون عن كل ما يدنسهم ظاهراً وباطناً فكانوا أهلاً ليكونوا رجالاً عن حق .
* و قال الله تعالى (( وجاء من أقصى المدينة [رجل] يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ))
الله أكبر .. رجال يحرصون على دعوة الناس إلى إتباع طريق الأنبياء وإنقاذهم من الشرك والوقوع في المعاصي ، إلى التوحيد وطاعة الله . فلما سمت مقاصدهم ، وعلت هممهم استحقوا أن يتصفوا بالرجولة .
* وقال الله تعالى ((وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ))
إنه مؤمن في زمن الطاغية فرعون ويجهر بالحق !
ياله من رجل ، نعم ؛ فمن علامات الرجولة الثبات على المبدأ الحق فلا نكوص ولا تذبذب ولا زعزعة بل شموخ وثبات .
ولو قسنا ( رجولة اليوم ) بمقياس الرجولة الحقيقي ، لما رأينا ما ننشده إلا من رحم الله ، مياعة وتكسر وتشبه بالنسوة ، و بالكفرة ، أحلام سافلة وهموم تافهة ، النهار في تضييع الواجبات والليل في فعل المنكرات ، والله المستعان .
وأخيراً ... فالرجولة ليست ثوباً يستعار ، وليس كل من ادعاها صدق .
أسأل الله أن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
تعزية حارة وعاجلة لمن ....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعزية ...... إلى من يصوم !
تعزية ...... إلى من يتصدق !
تعزية ...... إلى من يساعد محتاجاً !
تعزية ....... إلى من يحسن إلى الجار !
تعزية ...... إلى من ينفق على أهله وذويه ويقوم على خدمتهم !
تعزية ...... إلى من يوقر كبيراً و يرحم مسكيناً !
تعزية ...... إلى كل من يصنع معروفاً أو يعين على نوائب الخير وهو مضيع للصلوات
أقدم له تعزية حارة وأعلم أنها لن تجبر مصابه فله العذر مني تلو العذر فالموقف عسير والخطب أدهى والمصاب عظيم .
فأقول يا من حالك كذلك فاعلم هديت ووفقت أن هذه الأعمال لن تنفعك وأنت تارك للصلاة ومضيعاً لها .
فإن قلت لي : وما مصيرها ؟
قلت لك : إن نفعها قاصر على الحياة الدنيا فتجزى بها لأن الله ليس بظلام للعبيد لكن في الدنيا فقط .
فإن قلت وماذا عن مصيرها في الآخرة ؟
قلت لك : هاهو القرآن يجيبك :
قال الله تعالى (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ))
وهذا الحديث يجيبك أيضاً (( وَأَمَّا الْكَافِرُ ، فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ للَّهِ تعالى ، في الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلى الآخِرَة لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا )) . فهل أدركت أن المصاب عظيم ؟
فإن قلت : الآية والحديث السابقين إنما هما في شأن الكافر !
قلت لك : صحيح ، وهذا عين المراد ، فتارك الصلاة كافر مارق من الملة ، وأذكر لك طرفاً من ذلك ، قال الله تعالى (( ما سللكم في سقر ؟ قالوا لم نك من المصلين ... ))
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( العهد الذي بنينا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) .
قال عبد الله بن شقيق رحمه الله وهو أحد التابعين (( ما كان أصحاب رسول الله يرون شيء تركه كفر إلا الصلاة )) قال بعض أهل العلم هذا إجماع من الصحابة على كفر تارك الصلاة .
والصحابة أعلم الناس بمقتضى ومدلولات القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم .
وقد قال عمر رضي الله عنه (( لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة )) لاحظ أي لا نصيب .
والأدلة كثيرة مستفيضة ويكفي ما ذكر إشارة .
فإذا علمنا أن تارك الصلاة كافر ، فإن الكافر لا تنفعه أعماله الحسنة لأنه فاقد أهم شرط قبول العمل وهو الإسلام ، فقد قال الله تعالى (( وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ ))
وليس الحل أن تُجهز على الدنيا وتفسدها بل العلاج إصلاح ما فسد منها والرجوع إلى الله والإنابة إليه ليُكفر عنك ما مضى ولتصلح ما بقي من العمر وكن عاقلاً ممتثلاً شرع الله تفلح
في الدنيا والآخرة .
وكن متمثلاً قول الله تعالى (( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ))
وفقني الله وإياك سبل الرشاد .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---(/11)
أهذا هو الحب ؟!
زرعه الغرب وأثمر حنظلاً ... بل هو أمر
ثم غرسوه في بلاد المسلمين وسنبل الشر شر
وتعاهدوه المفسدون وجناه الجيل بعد الجيل .
فمتى نقتلعه من جذوره ؟
نجحوا في إفهام الكثير منا على أنه البراءة والعطاء وسر النجاح !
صوروه في الكم الهائل من الأغاني والمسلسلات والقصص والأفلام والأشعار والروايات
ولأن أسلحة الإيمان لدينا ضعيفة لا تقاوم جيوش الباطل لديهم ، ولحب الهزيمة في نفوسنا وضعف العزيمة تمكن الداء وعز الدواء .
هل تعرفون ماذا أقصد ؟!
أقصد الحب الذي يسري في أوساط شبابنا وفتياتنا إلا ما رحم ربي ، و الحب كغيره من المفاهيم التي انتكست موازينها عند البعض لأن المنكر أصبح معروفاً والمعروف منكراً وهذه من علامات الساعة التي نعيشها فإلى الله المشتكى .
والله ما عرفوه ، والله هم أجهل الناس به ، وكما قيل : الإنسان عدو ما جهل .
مخلفات الغرب المظلم حب ؟! أي حب يا عقلاء هذا الذي يبدأ بغضب الله وينمو في الظلام ويسقى بعصيان الله ؟!
أليس معظم كلام الحب في هذا الزمان يوحي بل يصرح بعلاقات محرمة بين الجنسين ، ولوم على الهجر وبكاء على غياب المحبوب ، وشوق رؤية وتمني خلوة ، ..........
و الأمر في نهايته دعوة للرذيلة ومعصية الله . والمضحك المخزي أحياناً فيه مناشدة بالله للوصال المحرم ، ناهيك عن عبارات الشرك والاعتراض والجرأة على مخالفة الدين .
والمتأمل يعي ذلك حقاً والمتعامي في غيه يمضي !!!
هذه شهوة وليست حباً ..... هذه رذيلة وانحطاط وخسة ، فتفطن إلى أين تذهب بنفسك
أما علموا هؤلاء الناعقين والناعقات أن كل محبة محرمة وباطلة يوم القيامة تسقط وتتحول إلى عداوة ؟!
ألم يقرؤوا قول الحق تبارك وتعالى (( الْأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين )) ولاحظ تعبير القرآن لم يقل الأحباب بل الإخلاء فهذا أبلغ وأعظم فالخلة هي المحبة التي تخللت القلوب ، ورغم تلك العلاقة القوية في الدنيا التي كانت تربطهم إلا أنهم أصبحوا أعداءً لأنها محبة بنيت على باطل والباطل نتيجته مثله والجزاء من جنس العمل وما ربك بظلام للعبيد .
الحب شعور يدفعك على عمل كل ما يقرب إلى الله ، الحب عبادة قلبية ، امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه في علاقتك مع الخالق والمخلوق .
حب يسمو بالنفوس وليس حب الشهوة والمعصية .
حب سماوي يشمخ بالنفوس وليس دنئ أرضي يذلها ويجلب لها الهوان .
حب ينشد : حب لأخيك ما تحب لنفسك
قطافه وينعه : المتحابون يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلى ظله .
المحبون قدموا مهجهم قدموا دماءهم ودموعهم وأعمارهم نصرة وعزة لهذا الدين وتنافساً للجنان والنعيم المقيم . قال تعالى (( والذين آمنوا أشد حباً لله )) .
إخواننا في القدس يقتلون وفي أفغانستان يموتون برداً وجوعاً و الشيشان تصرخ وكشمير تبكي والعراق تنوح ، وهذا يتبجح ويقول مجروح من الحب وما به داء إلا الغفلة عن الله وأعظم بها من داء عافانا الله وإياكم ، وذاك السفيه يردد هجرني حبيبي ، وذلك بوقاحة يقول لوعة الحب وحرارة الشوق . (( قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون )) التوبة .
أيها الحبيب : قد هيئوك لأمر لو فطنت له **** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وتبقى الحقيقة هي الحقيقة وإن أوهمنا أنفسنا بغيرها ، وإن استطلفنا الكذب وحياة الخداع فإن ذلك لا يغني من الحق شيئاً ، ولا يغير حقيقة الأشياء تغير مسمياتها !
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
الفن والشعر والغناء والإحساس المزيف
ثم ماذا وراء ما يبث وراء الشاشات ويذاع على مدار كل هذه السنوات ؟!
ماذا خلفت لنا تلك لمسلسلات والأفلام والبرامج ؟!
ما ذا بعد جمود الوعي وتزييف الإحساس ؟!
ما ذا عن العاطفة ؟! كيف صوروها ؟! وما ذا عن الحب كيف مثلوه لنا ؟!
إن الانحراف في متابعة ما يبث في وسائل الإعلام المشاهد والمسموع والمقروء ؛ وتراكم ذلك عبر الوقت كون تصوراً خاطئاً للعاطفة ومفهوماً مزيفاً للحب الذي يعيش أوهامه البعض .
وذلك من خلال المسلسلاتِ المنحلة ِ، والأغاني الماجنة ، والمجلات الفاتنة والقصص الجوفاء ذات البطولات المشوهة والمغامرات السخيفة ، والروايات الهدامة ، والشعرِ والأدبِ الخاليين من الأدب ؛ الذي يعرف بشعر الحب ، وشعر الغزل ، والشعر الغنائي .... وما إلى ذلك ؛ الذي ما هو إلا تصوير للرذيلة وتهوين لما يستقبحه الشرع وتمجه الفطر السوية ؛ من النظرة الحرام ووصف المفاتن واللقاء المحرم والعلاقة المحرمة
.
فتنشأ عن ذلك عاطفة وأحاسيس تحاكي ذلك الغثاء ، وتصبح العفة والحياء سلوكاً متخلفاً شاذاً ! .
وبالطبع خَلَفَ هذا التراكم استجابات وردود أفعال مستوحاة من نفس الحمأة التي عاش فيها ذلك المتلقي وتأثر بالأجواء الموبوءة في محيطها القذر .
متدفق الإحساس اليوم ؛ من يستمع لأغنية بل ينصت لها ويخشع ويعيشها بكل ذراته .(/12)
ورقيق المشاعر ؛ من يتأثر بالغ التأثر لقصيدة أو رواية أو قصة ؛ الأدب والدين فيها غريبان
ومرهف الوجدان ؛ من يتأثر من مشهد مسلسل فتدمع عيناه !
لكن كيف من هذا حاله لو استمع للقرآن الذي هو شفاء ورحمة هل تراه يخشع قلبه وتذرف عيناه ؟!
كلا ... لأن القرآن حق ولا تتأثر به إلا القلوب الحية المتعلقة بالله ، أما القلوب المتعلقة بالباطل فقد ماتت وفقدت الإحساس - وما لجرح بميت إيلام -
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت " . وذكر الله يكون باللسان والجوارح والقلب ، فاحكم على نفسك بالحياة أو الممات .
لقد تأثرت الجامدات ولم تتأثر وأنت صاحب الإحساس !
قلي .... أين أنت من الحجر الذي يهبط من خشية الله ؟!
وأنت تعصي الله ولا تخشاه . حجر يتأثر وأنت لا تتأثر ؟! فأي إحساس تدعي ؟!
أين أنت من الجبل الأصم الذي لو أنزل عليه القرآن لتصدع ؟1
أين أنت من الأشجار والأحجار والدواب وكل من الكون يسبح بحمد الله
( وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .
أترضى بأن تكون الدواب والأحجار خير منك وأنت صاحب الإحساس ؟!
بل إن الأمر أشد من ذلك !
ألا تعلم أن الحجر والشجر والدواب يستريح من موت الفاجر ؟
وأنت تأنس بالفسقة والفجار وربما أحببت بعضهم و " يحشر المرء مع من أحب "
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وإعجابك بهم حقيقة هو إعجاب بالمعاصي والسفور والاختلاط وألوان المعاصي التي يقدمونها
أم أنك لا تعلم حرمة ما يقدمون ؟!
ألست تعلم أن الغناء محرم بالكتاب والسنة ؟!
وأنه يورث النفاق وهو رقية الزنى والحجاب الكثيف عن الرحمن ؟!
ألست تعلم أن الأذن تزني وزناها السمع ؟!
ألست تعلم وأنت تقلب عينيك في النساء من خلال الشاشات أن العين تزني وزناها النظر ؟!
وهم يتفننون في اختيار الفتيات الجميلات خبثاً لتسويق عفنهم .
أين عاطفتك التي تزعم والأمة تنهش والعدو يجتاحنا صباح مساء
يقتل وييتم ويرمل ويهدم وينتهك الأعراض
إن لم تتحرك اليوم فيك الأحاسيس فقل لي يربك متى تتحرك ؟!
ألا يشدك في بلادنا المكلومة ..
منظر الدماء وصرخات الرضع ؟!
وأنات الثكالى ودموع في خدود مسنة ؟!
ألا تصفعك الحقائق يا من تعيش الخيالات ؟!
كبف تدعي الإحساس وأنت غريب عن موطنه ؟!
ألم يتبين لك زيف تلك المشاعر التي تكونت لديك من تراكم ذلك العفن ؟!
فوالله إن هذه المشاعر الباردة لمشاعر الكسلان الذي أخلد إلى توافه الأمور فأخذ يصطنع التبريرات لقبيح ما يصنع .
وقبل أن أتركك تراجع نفسك ..... أذكرك بأن المداومة على المعاصي تفقد القلب نور التمييز فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً كما جاء في الحديث الصحيح .
وقد قال الله تعالى : (( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) أي غطى على قلوبهم وحجبها ما كانوا يكسبون من الآثام .
فأزل عن قلبك هذا الران وعن عينيك هذه الغشاوة وانظر بمنظار المنهج القويم ؛ لترى مدى بعدك عن الحق ، وتعلقك بالسراب ، وانشغالك عما خلقت له .
أسأل الله أن تجد كلماتي المتواضعة طريقها إلى قلبك . والله يرعاكم ؛؛؛؛
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---
ماذا يعجبك في الأغاني ؟! دعوة للمصارحة
نعم إخوتي ..... ما أحوجنا إلى المصارحة ؛ فما أكثر ما تمضي بنا أيام هذه الدنيا الفانية دون مصارحة أو عتاب !
ألا ينبغي لنا من وقفة ولو لدقائق معدودة من مئات الدقائق المهدرة
نقتطعها لنتصارح بلطيف الخطاب وجميل العتاب ؟!
فهل تستكثرون على أخيكم الناصح لكم المشفق عليكم
هذه الدقائق المعدودة ؟!
أخي .. أختي ..... أناديكم ، بل أناشدكم لما أرجوه من خير لكم
أن لا تقولوا : لن نستفيد ولو كررت النصح وأكثرت الموعظة .
ولكن بثبات الواثق قولوا : نعم سننصت لداعي الحق ، فالعاقل من أحق الحق وقبله والجاهل من أغمض عينيه ورده ، والحق أبلج والباطل لجج .
حسناً فلنبدأ ....
أخي – أختي ... ألا تلاحظون يا من تستمعون للغناء أنه : قد يصغي أحدكم لساعات لمجموعة من الأغاني ، وقد يهتز جسده كله وتتفاعل نفسيته مع تلك الأغاني ، ولكنه في الوقت نفسه يصعب عليه للغاية أن يجلس نصف أو ربع ساعة مع كتاب الله عز وجل !
مع أنه شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة ، وهو كلام الله العلي الأعلى والغناء كلام بشر ضعفاء قاصرون ! ولا سبيل لمقارنة البتة .
هل سألتم أنفسكم : لماذا تحلو الأغاني في عين أحدكم ، ويستمتع بها بينما يصعب عليه جلوسه في تدبر مع القرآن ..؟
لأن الله قال : " وزين لهم الشيطان أعمالهم "
هذه الحقيقة وهذا بارك الله فيكم ما دعوتكم للمصارحة من أجله .
أحبابي ..... مصيبة أن نخدع أنفسنا . مصيبة عظمى ، والمصيبة الأعظم إقناعها بأن هذا الخداع ميزة ومجد وفضيلة !
فأين نذهب بأنفسنا ؟! ولمصلحة من نخدعها ونغشها ؟!(/13)
الأغاني هم وضيق ، بل وحياة ضنك لأنها إعراض عن ذكر الله ، وقد قال الله : " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى " .
الأغاني حقيقتها حسرة وألم ، وإن كانت هناك نشوة فإنها نشوة مزيفة من فعل الشيطان ما تلبث أن تطير وتذهب في الهواء ؛ لكن الذنب لن يطير في الهواء بل سيدونه الملك في كتابك .
اسمعوا إخوتي ... هذا الخطاب الرباني لإبليس اللعين .. قال تعالى " وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً "
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وقوله تعالى " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك .
وقال العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى - : ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة ، ليصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان ، فهو قرآن الشيطان ، والحجاب الكثيف عن القرآن ، وهو رقية اللواط والزنى ، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى ، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراَ وغروراً ، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه ، فقبلت وحيه ، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً .. انتهى كلامه رحمه الله .
ثم ما ذا يعقب ذلك ؟! تزول تلك النشوة الباطلة والفرح الموهوم وتبقى حسرة المعصية و تذهب الفرحة المزعومة ويبقى الذنب مسجلا في صحيفة الأعمال
وبعض الناس يفخرون بالغناء ويهمهمون به مفتخرين به شامخين به الرأس وهذا هو واقعهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأي فخر ... أيفخرون بمعصية الله ؟!
بل من تفاهة ما يقرأ و يسمع الإشادة بالفنانين والفنانات وأنهم نجوم !
ولقد علمنا أن النجوم علية المكان ويستهدى بها ، وهولاء القوم إنما يضلون ولا يهدون .
ويحشر الناس يوم القيامة كل مع من يحب . أفيسرك والناس يحشرون مع الأتقياء أن تحشر مع المطربين الزمارين ، فإن المرء يحشر مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم .
ولقد تلاعب الشيطان بهؤلاء الغافلين من الفنانين والفنانات ... فإنهم يرون الفن رسالة وتربية للأجيال !
وهي فعلاً رسالة ولكن رسالة دمار وتربية على العار ، ... فإذا سمعت فقط كلماتها أدركت أنها رسالة شيطان وإنها تدعو للقاء المحرم بكل وضوح وبأي طريقة ، وتدعو إلى التطاول على كل نبيل وتسعى نحو تمزيق الفضيلة كل ممزق .. فوالله صدق من أسماها رقية الزنا .
أيها الأحباب ... أما قرعت أسماعكم هذه الآية العظيمة ؛ قال الله تعالى " وَمِنَ اَلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث ِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اّللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمِ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ "
قال بعض المفسرين لهذه الآية يشتري لهو الحديث بدينه وماله ووقته .
وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو من أعلم الصحابة رضي الله عنهم ، على أن (( لهو الحديث )) هو الغناء .
وقد قال صلى الله عليه وسلم مبيناً ومحذراً من هذا الداء الذي يستلطفه الكثير اليوم ... قال عليه الصلاة والسلام " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير و الخمر و المعازف " فيدل هذا على أنها أشياء محرمة و سيأتي زمن يستحل فيها الناس هذه المحارم ، وهو واقعنا اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال صلى الله عليه وسلم: " ليشربن أقوام من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات ، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير ". قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى عن هذا الحديث أنه صحيح .
إخوتي ... تعالوا لنتصارح حول هذا الموضوع من جهة أخرى
المال المنفق في شراء تلك الأشرطة الغنائية والوقت الذي قضي في الاستماع أليس يسأل عنه العبد يوم القيامة ؟!
قال صلى الله عليه وسلم : " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه " . وأنت تعلم أنه لن ينفعك ذلك اليوم العظيم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ؛ لن ينفعك لا مطرب ولا مطربة إلا ما قدمت من صالح العمل ... فهل أعددت العدة لملاقاة الله وهل حسبت لذلك حساب ؟
وماذا عساك أن تقول يومئذ : إن قلت لا أعلم أنها حرام فأول من تكذب عليه نفسك ، ولا عذر لك لأن الأدلة أقوى من أن ترد ، وإن قلت أعلم فهل تداركت الخطأ وتبت أم أنك تماديت ؟ .
فكن عاقلاً فطناً واختر لنفسك اليوم ما تحب أن يكون جواباً لغدٍ .(/14)
وربما كان البعض دالاً على الشر والعياذ بالله فيعير الشريط غيره أو يسمعه أحداً معه في بيته أو في سيارته وربما كانوا مجموعة يستمعون لهذا المحرم ، وقد قال الله تعالى " وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم " .
وقال صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا " .
فانظر عبد الله ، وأنت أمة الله إلى أين تسير بكم الخطا !
وهذه بشرى أسوقها في أثناء مصارحتنا
لكل من نوى التوبة والرجوع للحق أزف له هذه البشرى ... إلى من عزم على الإقلاع عن الغناء وتطهير أذنيه من هذا الهراء ... فإليك هذه البشرى :
قال تعالى: { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} والحبرة هي اللذة والسماع. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الحور العين لتغنين في الجنة ، يقلن : نحن الحور الحسان .. خبئنا لأزواج كرام " . قال الألباني حديث صحيح .
وقد نظم ابن القيم رحمه الله قول ابن عباس رضي الله عنهما في أبيات در رائعة :
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
واهاً لذياك السماع فكم به للقلب من طرب ومن أشجان
نزه سماعك إن أردت سماع ذياك الغنا عن هذه الألحان
حب الكتاب وحب الحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
والله إن سماعهم في القلب والإيمان مثل السم في الأبدان
والله ما انفك الذي هو دأبه أبدا من الإشراك بالرحمن
فالقلب بيت الرب جل جلاله حبا وإخلاصا مع الإحسان
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبداً لكل فلانة وفلان ..
وعند مشارف ختام هذه المصارحة قد يسأل أحدكم … كيف أتخلص من سماع الأغاني ؟
فإنني قد تعودت عليها و لا أستطيع تركها بسهولة ؟؟
فإليكم هذه الخطوات جواب على سؤاله ، فمن فعلها فاز بإذن الله :
1) أولاً الصدق في التوبة .. وأن تكونوا أصحاب همة عالية و شجاعة كي تتخذوا هذا القرار الشجاع . والآن وقد علمت فاعمل بما علمت .
2) القيام بتحطيم كل ما تملكون من أشرطة .
3) إذا أحسستم برغبة ملحة في سماع الأغاني …. فسارعوا بفتح المصحف والقراءة منه فهو يطمئن النفس و يقمع رغبتها في المعصية وإذا كنتم لا تستطيعون ذلك فاستمعوا لقراءة في مصحف لأحد المشايخ أو شريط محاضرات .
4) إذا استهزأ بكم أحد على ترك سماع الأغاني فلا تردوا عليه بل أشفقوا على حاله وانصحوه ، وإن أبى أشغلوا ألسنتكم بذكر الله حال مجادلته لأحدكم و قولوا له إذا انتهى "جزاك الله خيرا و هداك الله " فإن هذه الكلمة تؤنب نفسه و تهدئ أنفسكم .
5) إذا كان أحد الوالدين أو من في البيت يستمع الأغاني وضحوا لهم حكمها بكلمات مهذبة أو إهداء شريط قرآن أو محاضرة أو كتيب قيم ....وناصحوهم باللين والرفق و أخبروهم أنكم تتضايقون من هذه الأغاني لحرمتها وأنها تفرق بينكم .
وخير معين لك على تركها أن تتفكر لما خلقت وتشتغل به ، وتجد بالطاعة وتقلع عن المعاصي وتصحب أهل الخير ، مع إتباع الخطوات السابقة .
أخيرا أخي أخيتي في ختام هذه المصارحة التي أرجو أن تكون خالصة لوجه الله لطيفة عليكم … أقول أخوتي ..
أعلموا أن هذه الخطوات التخلص من هذا الداء سهل جدا جدا إذا صدقتم في التوبة إلى الله وإذا سددتم كل منافذ الشيطان عليكم … ولا تسوفوا و يقول أحدكم بعد هذا الشريط الجديد سأتوب … ولا تقولوا بعد يوم .. بعد شهر.. بعد سنة … فالشيطان يجعل اليوم يومين و الشهر شهرين و السنة سنوات وكم من أخ وأ خت كا نوا هائيمن غافلين لا يكاد لسان أحدهم يسكت عن ترديد أغنية ، وهم الآن يلهجون بذكر الله ، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خير منه .
أخي ... أخيتي إذا كان أحد الأقارب أو الأصدقاء يسمع الأغاني فانصحوه فإن لم يستمع لكم فيجب أن تفارقوه فوراً و لا يقول أحدكم يكفي أن أتوب أنا و لن يؤثر علي . بل سيؤثر عليك وعلى أعمال وحديثك وسلوك ؛ لأن كما يقال الصاحب ساحب ، بل إنه صلى الله عليه وسلم يقول " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . ولا بد من شغل النفس بالطاعة لأن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية .
و المسارعة المسارعة إلى التوبة حال قراءة هذه المقالة - المصارحة - ولا تسوفوا لأن سوف من جنود إبليس .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
إلى كل كاتب ومتصفح .. احذر السيئات الجارية !!
عن أبي هريرة أن رسول الله قال " من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا “ وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي قال ” ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل”(/15)
أخي .. أخيتي احذروا ..... من اقتراف السيئات الجارية عليك في حياتك ، وبعضاً من تلك السيئات جارية حتى بعد الممات فبادر بالفكاك منها قبل أن تأسرك عقوبتها .
ومن أمثلة لسيئات الجارية المنتشرة عبر الإنترنت نذكر :
• (1) الدعوة إلى المعتقدات و الطوائف الباطلة ونشر ضلالهم وبدعهم ونقل أفكار و مزاعم العلمانية المحاربة لدين الله والمخالفة لمنهج الله القويم ، ونقل أفكار الذين تأثروا بمنهجهم الخبيث .
• (2) ذم أو النيل من العلماء علماء الحق والهدى وولاة أمور المسلمين والدعاة إلى الله وأهل الاستقامة والطعن فيهم ومحبة إظهار عيوبهم وانتقاص قدرهم و تشكيك الناس بهم ، ومن زعم النصح فليناصح سراً فإن تعذر عليه ذلك شخصباً أو عبر الإنترنت لمن يريد نصحه ، أخبر من يثق به لتقديم تلك النصبحة ، كالنصح لولاة الأمور يكون عبر ممن يصل نصحه لهم أمثال علماء الشريعة .. بدلاً من الإشهار وإيغار الصدور بلاجدوى ؛ بل لتحصيل السيئات .
• (3) نقل الأحاديث المكذوبة أو الضعيفة ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وعدم التأكد والتحري في النقل .. ولقد وجدت من الأحاديث المنكرة والضعيفة في ( مواضيع دعوية ) في الإنترنت .... فلا يجرنا التساهل والكسل إلى أن ننسب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وننشره . وكذلك لا بد من التثبت في نقل الآثار المروية عن السلف وكلام العلماء ، ونقل الأخبار الثابتة الصحة على كل حال .
• (4) أبراج الحظ و ما تجر إليه .. فالقارئ لهذه الأبراج كالمستمع للكاهن فجزاؤه أنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً والدليل “ من أتى عرافا فسأله عن شيء ، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة )) صحيح [الألباني – شرح الطحاوية .
قال أهل العلم لا تقبل له صلاة أربعين يوماً أي لا ترفع مع كونها واجبة ولا تسقط عنه . والمصدق لما جاء في هذه الأبراج كمن صدق كاهناً أو ساحراً فهذا جزاؤه أنه كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم والدليل " من أتى عرافا أو كاهنا ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد” صحيح [الألباني – شرح الطحاوية .
ولا يقول أحد أني أقرأ الأبراج وأنا مكذب لها فلا إثم علي .. لأنه من قرأها كمن ذهب للكاهن وأخذ يسمع ما يقوله فهذا لا تقبل له صلاة أربعين يوماً هذا إن كان مكذباً وأما إن كان مصدقاً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كلام وتقرير من بعض أهل العلم
• (5) التوقيع وما فيه من صور خاصة صور النساء ووجه المرأة عورة ويكون ثابتاً يراه من أراد ذلك والآثام جارية .
• (6) تنزيل صور النساء في موضوع معين أو كخلفية لقصيدة أو لغير ذلك .
• (7) شعر يدعو إلى التلاقي المحرم أو يصوره أو يأجج الفتنة بين الجنسين . وهذا طبعاً يؤدي إلى شر وفحش ... وهذا لاشك في تحريمه لأن الوسيلة لها حكم المقصد وبعض الكلمات تحرك إلى سلك المقصد المحرم فتكون بذلك محرمة .
• (8) وضع ملف غنائي والغناء محرم بالكتاب والسنة ، ويُعصى الله ويجاهر بالمعصية ويدعى إليها ثم نجد من يشكره على ما قدم ولو يعلم ما ذا قدم له ما شكره !
• (9) كتابة موضوع عن أهل الفن والطرب ويتعرض لشيء من أخبارهم والاحتفاء بالفسقة مروجي الضلال والمعاصي .
• (10) الكتابة عن الممثلين والممثلات أصحاب الاختلاط وكشف العورات وأهل والكذب و هدم القيم وإضلال الناس .
• (11) الدلالة على موقع فيه منكرات أو صور خليعة وأشياء محرمة ، يظن بأنه قدم خدمات نافعة للأعضاء والزائرين ، وهو حقيقة قدم سيئات لهم ، تجري عليه بقدر ما دل على هذا الضلال .
• (12) إيراد النكت وهذا مما يشاع وينتشر وتعمر به مجالس ويسميه البعض (بالمزاح) وحقيقته كذب يقال لقصد إضحاك الناس وقد قال صلى الله عليه وسلم (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له )) ومن أراد المزاح فليفعل بلا كذب وبدون محاذير شرعية وأن يقلل منه ولا يستكثر ، بل يفعله على الصفة المشروعة وقد قال صلى الله عليه وسلم (( إني لأمزح ، و لا أقول إلا حقا )) صحيح الجامع 2494
أثر تلك المشاركات على صاحبها :
إن كل من يسمع أو يرى المنكر أو يوزعه وينشره في المنتديات وغيرها فإنه يكتب على صاحب ذلك الموضوع آثامهم كاملة ..
فكم من عضو وزائر ستضل ؟ وقد يُنشر إلى مواقع آخرى وتزداد عليك السيئات وقد يفتتن البعض بصورة أو كلمة أو معنى ... ويذهب لمقارعة الفواحش فهل تتحمل كل ذلك ؟! .
و ينتشر موضوعك بين الأعضاء وكم من عضو مشارك في أكثر من منتدى ، وقد تأخذ هذه المشاركة زمناً طويلاً وهي تتنقل من بين منتدى إلى آخر ، ومن بريد إلى آخر وهكذا ، ويجري إثمها عليك وأنت في بيتك وفي عملك وكذلك و أنت نائم . .. وقد يرسل موضوعك عبر مجموعات بريدية ذات الأعداد الهائلة ... ومتى يكتب لهذه المشاركة التوقف عبر هذه الشبكة العنكبوتية الله أعلم .
فهل تستطيع أن تحمل آثامهم جميعاً ..(/16)
ثم هل تعلم أن الذنوب تورث التثاقل عن العبادة وكراهيتها وحب المعصية وإدمانها ونسيان الآخرة ، لأن المعاصي تجر إلى معاصي بعكس الطاعات .. وهل تعلم أن سيئة واحدة يوم القيامة قد ترجح بالميزان ويدخل صاحبها النار والعياذ بالله . فما بالي أراك من الذنوب تستكثر .
ثم كم من الساعات والأوقات صرفوها أولائك في موضوعك الداعي للمحرم ، وهل تعلم أن المرء يوم القيامة سيحاسب على عمره فيما أفناه ، فما بالي أراك تفني عمرك وأعمار فوق عمرك من الذين تشاركهم آثامهم .
وكم من الأموال ستصرف وقت التصفح والمشاهدة والاستماع ، أم أن كهرباء الجهاز والاتصال الهاتفي لا تستهلك مالاً ؟! أما علمت أن المرء في يوم القيامة سيحاسب عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه و لقد كنت سبباً في إضاعة أموالك وأموال هؤلاء فيما حرم الله أيسرك أن تلقى الله بهذه السيئات العظام .
فالأمر جد خطير ، وأنت لم تبال في كتابته أو نقله !!!
إذا لم تستطع على فعل الخيرات وإرشاد الناس إليه فلا تظلم نفسك وتتعدى على غيرك ... ثم كيف تتجرأ على إعلانها وحث الناس عليها ولا ترى بذلك بأساً ؟!
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي 1/37 "حتى يفتخر أحدهم بالمعصية ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها فيقول يا فلان عملت كذا وكذا وهذا الضرب من الناس لا يعافون وتسد عليهم طريق التوبة وتغلق عنهم أبوابها في الغالب كما قال النبي " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " .
وقفة للمتأمل :
قال تعالى في الحديث القدسي " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " رواه مسلم 2577
وقفة قبل الندم :
هل تحدث نفسك بعد ذلك بسلوك نفس الطريق وأنت تعلم ما منتهاه وما ذا سيجر عليك من وبال لا يعلم مدى ذلك إلا الله ..
أم أنك ستستغفر الله وتقلع وتعلنها توبة إلى الله .. ،،، وفقنا الله وإياكم طريقه القويم .
وأعذروني فما نحن إلا إخوة والتناصح بيننا واجب .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
مزالق خطرة في الكتابة في المنتديات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إلى كل كاتب قبل أن يخط حرفاً واحداً .... وإلى كل زائر مرتاد للشبكة العنكبوتية قبل أن يقرأ أو ينقل لا بد أن يكون على بصيرة تجاه ما يقرأ وينشر ...
هذه بعض النصائح أقدمها لي و إلى إخوتي في الله .... أسأل الله أن ينفع الجميع بما يكتب ويوفقنا لعمل ما يحب ويرضى وأن يجنبنا ما يكره ويأبى .(( وأرجو قراءة الموضوع لمنتهاه )) .
1* وجوب تقوى الله ومراقبته ومن ذلك ما تخطه أناملك في كتابة جميع المشاركات .فأنت تكتب والملائكة تكتب فاكتب ما يسرك رؤيته يوم القيامة.
2* الكتابة وفق الضوابط الشرعية وعلى مقتضى الكتاب والسنة ومفهوم السلف الصالح ومن سار على طريقتهم بإحسان.
3* الحذر من كتابة أخبار الفتن والنزاعات التي حدثت في هذه الأمة فمعتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة السكوت وعدم الخوض في ذلك.
4* الحذر من مزالق النيل من العلماء فهم ورثة الأنبياء وهم أخشى عباد الله بعد الأنبياء لله وأعلمهم به. والاعتقاد في ضلالهم أو مداهنتهم ثلم في عقيدة المعتقد ، والعلم بأن لحومهم مسمومة والغيبة فيهم أشد مما هي في سواهم، بل ومعرفة فضلهم بعد الله وبعد فضل النبي صلى الله عليه وسلم في هداية البشر ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، والذب عن أعراضهم أن يدنسها شئ والذود عنهم من الأقلام المغرضة .
5* عدم الخوض في ولاة الأمور بالكلام الصريح أو بالتلميح والرد على من يقوم بذلك إذ لاحق له في هذا التعدي. وغيبة ولاة الأمورالمسلمين كغيبة العلماء من عظائم الأمور ، والدعاء لهم ، ومحبتهم وطاعتهم في المعروف ..
وسأقف على أمر تكثر الكتابة حوله بل وينتشر على ألسن كثير من العامة .. ولعل الإنترنت أحد روافده ؛ ألا وهو الطعن والسب في ولاة الأمور ورميهم بأبشع الكلام وقبيح الصفات ، ووصل الأمر بإطلاق الكفر عليهم دون تخصيص ، وهذا والله ناتج عن الجهل الشنيع الذي نعاني ويلاته ، وهذه نقاط مختصرة حول هذا الأمر :
أ - وجوب السمع والطاعة لولاة المسلمين في المعروف .
ب - عدم الخروج عليهم مادام أنهم تحت مسمى الإسلام وإن ضربوك وأكلوا حقك ، جاءت بذلك النصوص فيا من ترضى بشرع الله وهدي نبيه فهذا هو شرع الله وهذا هدي نبيه فظلم وجور من الحاكم في ظل وجود سلطته أحسن من الفوضى والنزاع و كل يعبث ويخرب وينهب ويتسلط الناس ويقتل بعضهم بعضا ، فمفهوم الشرع أوسع وأرحب والله أعلم بما يصلح لنا " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "
ج- الغيبة محرمة ومن كبائر الذنوب وغيبة ولاة الأمور من أعظم الغيبة لأنهم ولاة أمور تنفيذين والعلماء ولاة أمور شرعيين .(/17)
والبعض يغتاب تحت ستار " لا غيبة لفاسق " ولكن لا يجوز هذا على كل حال كما يتوهم البعض بل للمصلحة وعلى قدر الحاجة والنظر فيالمصالح والمفاسد ، وعلى هذا يحمل كلام أهل العلم في قول الحسن البصري رحمه الله ( لا غيبة لفاسق ) .. ولنتنبه لذلك لخطره وانتشاره .
د - بغضهم على كل حال و تحريض الناس عليهم نوع خروج .
هـ - أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لهم فإن لم تستطع .... فليس هناك نصاً يقول اشتموهم واغتابوهم وحرضوا عليهم الناس .. والسب والشتم و الرمي بشنيع الكلام لا جدوى من وراءه ولن يساهم في إيجاد حلاَ سوى ما يلحق صاحبه من الذنوب .
و- جاء في ترجمة الذهبي رحمه الله للحجاج الثقفي ( قال الذهبي عن الحجاج أن له من الحسنات ما يذوب في بحر سيئاته ) رغم ذلك انظر كيف كان يتعامل معه ابن عمر وأنس رضي الله عنهما بالنصيحة ووفق ما أمرنا به الله ونبيه صلى الله عليه وسلم لفهمهم النصوص وامتثالهم لمراد الله! ورسوله صلى الله عليه وسلم . فهل نعتبر ؟!
ز- أما من يقول بكفرهم فعليهم بأن فعلهم كفر وكفر بواح ( لا مجال للإجتهاد فيه ) وعندك فيه من الله برهان . والله المستعان .
ح- هذا الكلام محرر عن أهل العلم ومن أراد التثبت فليرجع لكلام ابن باز وابن عثيمين وغيرهم من العلماء الثقات للتوصل إلى الحقيقة وهذا ما يفتي به أهل العلم الثقات .. وأعتقد أن كلفة السؤال عن مثل هذا الأمر من العلماء الثقات أهون من عواقب ما يجر إليه الكلام والكتابة خبط عشواء .
ومن يتوصل إلى الحقيقة فليتذكر قول الله تعالى (( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها )) .
فتوى للشيخ ابن باز رحمه الله فيمن ينقد ولاة الأمور على المنابر .
http://www.binbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=2109
6* حسن الظن في المسلمين والأصل في المسلم السلامة والنصيحة له وحرمة التعدي عليه ومن ذلك التعدي بالتطاول عليه بالكتابة. قال صلى الله عليه وسلم (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده( .
7* البدء بالسلام في كل مشاركة وعدم إغفال هذه التحية وما يترتب عليها من أجر ومحبة .. والكتابة بلغة القرآن وبلغة أهل الجنة وترك العامية ما أمكن ، وتلين الجانب للإخوان بالكلمة الرفيقة والعبارة اللطيفة والنصيحة القيمة ، والحرص على منفعتهم .وخير الناس أنفعهم للناس .
8* الإخلاص لله في الكتابة وفي الأمور كلها واحتساب الأجر من المولى الوهاب .
9* رد الإساءة بالإحسان وتجاهل الرد عن المكابر المجادل ، وخسة الانتصار للنفس بالباطل والانتصار لمجرد الانتصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد ه جهل الجاهل إلا حلماً .
10* نصرة المسلمين ورفع كلمة التوحيد كل بوسعه والرد على المغرضين وأهل البدع والأهواء وغيرها بالرد المرتكز على علم وحسن تصرف وإلا فأخبر من يقوم بذلك حسن القيام . .
11* هجر الكذب المصور في قالب المزاح والنكت .... فذلك لا يخرجه عن كونه كذباً محرماً .
12* شرف الدعوة إلى الله وحمل الرسالة وخدمة الدين .. وترك الكثير من مباح وفضول الكلام .
13* تطبيق ما يكتب ويقرأ حتى لا يكون هذا العلم حجة علينا والتفاعل مع قضايا الأمة والدعاء للمسلمين عموماً وعلى من ألمت بهم النكبات خصوصاً.
هذا والله أعلم .......
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
---
جدول لاغتنام رمضان بالأعمال الصالحة
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ، فهذه جملة من الطاعات لاغتنام شهر الصوم ، وقد فصلت في بعض النقاط لتكون عامة للجميع بإذن الله ، وكل واستطاعته وتشميره في الطاعة ،،،،،
أسأل الله أن ينفعنا بها وأن يبلغنا رمضان ويتقبله منا كاملاً كما يحب ويرضى .
صلاة الفجر
الترديد مع الآذان ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لورود الحديث ، ثم ذكر دعاء الوسيلة (( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته )) رواه البخاري وأحمد . - ثم الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد . - قبل فريضة الفجر أداء السنة الراتبة ( ركعتان ) والسنن الرواتب مجموعها 12 ركعة ( من غير الفريضة ) وهي : قبل الفجر ركعتان وقبل الظهر أربع وبعد الظهر ركعتان وبعد المغرب ركعتان وبعد العشاء ركعتان ، وفضلها كما في الحديث ( بنى الله له بيتاً في الجنة ) وأداء السنن الرواتب في المنزل أفضل .
بعد أداء فريضة الفجر – أذكار ما بعد السلام من الصلاة ( راجع كتيب حصن المسلم للشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني ) - بعد أداء الصلاة المكوث في المسجد ( والمرأة في مصلاها ) حتى تشرق الشمس لإدراك سنة الإشراق وفضلها حجة وعمرة تامة ، ويشغل هذا الوقت بقراءة الأذكار الصباحية والقرآن ثم صلاة ركعتي الإشراق ( يحدد زمن الإشراق من التقويم أو غيره ).
ذهاب الناس إلى أعمالهم :(/18)
وأنت تذهب إلى عملك أنت في عبادة فاحتسب الأجر حتى تؤجر طيلة زمن العمل ، واتق الله واحفظ لسانك وجوارحك ، وإذا كانت هناك فرصة فراغ اغتنمه بقراءة القرآن ولا تنسى صلاة الضحى وفضلها التصدق ب360 صدقة ( أقلها ركعتان وإذا رغبت الزيادة صل ركعتان أخرى وهكذا إلى ماشاء الله .
صلاة الظهر
سنة الترديد مع الآذان ( كما سبق ) - الدعاء بين الأذان والإقامة -
أداء السنة الراتبة القبلية أربع ركعات ( ركعتان ثم ركعتان ) قبل الصلاة
- شغل الوقت بقراءة القرآن حتى تقام الصلاة ( يفضل اصطحاب مصحف صغير ليكون معك في مصلى العمل أو المدرسة ...) - بعد الصلاة أذكار ما بعد السلام من الصلاة - أداء السنة البعدية ركعتان بعد فريضة الظهر .
بالنسبة للذين ليس عندهم أعمال في هذا الوقت يغتنمون الوقت بالقيام قبيل الساعة العاشرة ويشغلونه مختلف الطاعات كصلاة الضحى وقراءة القرآن والإكثار منه .
نوم القيلولة سنة ( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل(
صلاة العصر
سنة الترديد مع الآذان ( كما سبق ) - الدعاء بين الأذان والإقامة
ليس للعصرسنة قبلية ولا بعدية ، لكن قال صلى الله عليه وسلم (( رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً )) ( تصلى ركعتان ركعتان قبل قيام الصلاة ) فمن منا لا يطمع في رحمة الله ، بعد ذلك قراءة القرآن حتى تقام الصلاة – بعد الفريضة أذكار ما بعد السلام من الصلاة ، وإن كان هناك درس في المسجد فحبذا الاستماع إليه وأفضل العبادات في رمضان قراءة القرآن لكن من استطاع أن يجمع معه أنواعاً من الخير فهذا حسن .
بعد درس المسجد يمكث في المسجد لقراءة القرآن ( والمكث بعد أداء الفرائض من مكفرات الذنوب _ انظر حديث اختصام الملأ الأعلى (
قبل أذان المغرب بربع ساعة تقريباً يعود للمنزل ويتوضأ ( من السنة تجديد الوضوء لكل صلاة . (
قال تعالى (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) فاحرص على أذكار المسلم في هذا الوقت وكثرة الاستغفار والتسبيح وللصائم دعوة عند فطره لا ترد ، فاغتنم هذه الأوقات الغالية.
لا تنس قبيل المغرب المشاركة في إفطار الصائمين فمن فطر صائماً فله مثل أجره واحرص أن يكون هذا الإفطار يومياً .
وبالنسبة للمرأة في فترة العصر تحتسب الأجر في إعداد الطعام فإن في كل كبد رطبة أجر ، ولا تسرف في الإعداد وتحفظ وقتها وتقرأ القرآن وتستمع إلى أشرطة الذكر فهذا من العبادات ، وفترة عملها في المطبخ تحتسب الأجر و أوصيها بالاستماع إلى إذاعة القرآن أثناء العمل في المطبخ وفي ذلك خير .
صلاة المغرب
سنة الترديد مع الآذان ( كما سبق ) - الدعاء بين الأذان والإقامة
عند الأذان يستحب التبكير بالإفطار (أي عند موعد الإفطار مباشرة ) ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم(لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور). - الترديد مع المؤذن -إتباع السنة عند الإفطار، وذلك بالإفطار على رطب، فإن لم تجد فعلى تمر ، فإن لم يجد فماء ، واجعل على السفرة طعام خفيف جداً يساعدك في التبكير للصلاة – أداء السنة الراتبة بعد المغرب ركعتان .
وقت للأكل والراحة ( واحتسب الأجر في الأكل والراحة بأنك تتقوى بذلك على الطاعة ليكون ذلك عبادة وتقرب إلى الله )
أذكار المساء ( راجع حصن المسلم – أو كروت الأذكار )
صلاة العشاء
التبكير لصلاة العشاء واغتنام الوقت في قراءة القرآن – الترديد مع الآذن – الدعاء بين الآذان والإقامة - أداء فريضة العشاء – أذكار ما بعد السلام – سنة العشاء الراتبة ( ركعتان ) – صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف لحديث ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) فاحرص على أجر قيام ليلة كاملة بتطبيق هذا الحديث ولا تنصرف قبل الإمام. والمرأة التي ترى نشاطاً من نفسها في القيام في المسجد مما إذا صلت في بيتها ؛ فتصلي التراويح في مصلى النساء مع الحرص على الاحتشام ومرافقة الخيرات .
اقض بقية الوقت في بعض الطاعات مثل : صلة الأرحام – قراءة في التفسير – قراءة في السيرة النبوية – مراجعة علمية - الدعوة إلى الله – زيارة المرضى – مساعدة المحتاجين – مجلس ذكر ....
وأذكر الله في أحوالك كلها أثناء الذهاب والإياب من وإلى المسجد وفي الطريق
واحرص على ذكر الأحوال والمناسبات كالخروج من المنزل أو الدخول إليه ولبس الثوب وأذكار النوم ... ( راجع حصن المسلم ) ونم الساعة الحادية عشر تقريباً واحتسب النوم لله تقوياً على طاعته لينقلب النوم من عادة إلى عبادة تؤجر عليه .
***** لا تنس ******(/19)
الابتعاد عن المحرمات واللغو واحذر كل ما لا نفع فيه ، احرص على صيام وقيام رمضان والاجتهاد طيلة الشهر وخاصة في العشر الآواخر لإدراك فضل ليلة القدر - تعجيل الفطور وقول ( ذهب الضمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ) عند الإفطار – من السنة السحور على تمرات فاجعلها في سحورك ، ومن السنة تأخير السحور - عمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم – السواك والطيب من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم فحافظ عليهما ، والمرأة لا تتطيب عند خروجها من بيتها – سنة الاعتكاف في العشر الأواخر .
ولا تنس الترويح المباح ، والانبساط مع الأهل والأخوان المنضبط عمل تؤجر عليه إن حسنت النية ، وفيه راحة وتجديد للنشاط لاستكمال بقية الطاعات .
جعلنا الله وإياكم من الذين يصومون رمضان ويقومونه على الوجه الذي يرضيه عنا .
احرص على نشرها فالدال على الخير كفاعله .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
كلمة عملية في الترغيب في تحري ليلة القدر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين
أما بعد .... فقد جاء في فضل ليلة القدر عدة نصوص منها ؛ قوله تعالى " ليلة القدر خير من ألف شهر "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقال صلى الله عليه وسلم " .... لله فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم "
وسأجري بعض التطبيقات كأمثلة أحث فيها نفسي وإخوتي في الله على الاجتهاد بالطاعة تحرياً لموافقة ليلة القدر :
" ليلة القدر خير من ألف شهر " ، و ألف شهر : أي ( 1000 X 30 يوماً ) = 000 , 30 يوماً
وبالأعوام = 000 , 30 / 360 = 83 عاماً و 3 أشهر ...
وإليك تطبيقاً مختصراً لبعض العبادات لتقف على شيء يسير من عظيم الأجور التي قد يستغرق تحصيلها دهراً طويلاً
ولكنك بفضل الله يمكنك تحصيلها بالاجتهاد في عشر فقط أو تسع ليال .
نوع العبادة العبادة الموأداة أجر العبادة بفضل من الله
القيام قيام ليلة القدر خير من قيام 83 سنة و3 أشهر
صلاة التطوع 10 ركعات 000 , 300 ركعة = صلاة 49 سنة
صلاة الجنازة صلاتين ( كما لوكنت في الحرم ) 000 , 60صلاة = 000 , 60 جبلاً من الحسنات
قراءة القرآن جزأين أقل احتمال 2000 ختمة
الصدقة 10 ريالات 000 , 300 ريالاً
......
والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم ، وشهر رمضان شهر تضاعف فيه الحسنات لشرف الزمان ، فكيف لو اجتمع شرف المكان أيضاً كمن يتحرى ليلة القدر معتكفاً في الحرم المكي أو النبوي .
وماذا لو إذا تنوعت العبادات من صلاة الفريضة و الدعاء لك ولوالديك والمسلمين والاستغفار والأذكار بمافيها من فضائل . وحضور درس كما هوالشأن في الحرم ، وتوزيع الأوراق الدعوية من المطويات والكتيبات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتهيأ فعله ، وإفشاء السلام ، والوضوء ، والسواك ، والطيب ، وغير ذلك من السنن والآداب .
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من صام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه "
عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " (أخرجه البخاري ومسلم) . قال العلماء : الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها ، بخلاف لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها .
روى الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ! أرأيت إن علمت ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال " قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ".
وأخيراً !!!! ماذا لو عمل أناس بما جاء في هذه الورقة وكنت أنت دالاً على الخير فيحصل لك مثل أجورهم .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
رسائل لتطهير البلد من محلات الفساد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه (( رسائل لتطيهر البلد من محلات الفساد )) أسأل الله أن ينفع بها .
طريقة العمل : تشكيل حملة من الأخيار كل فرد يتخصص بنوع معين من المحلات ، تقدم الرسالة داخل مظروف مع نصيحة وكلمات طيبة ، وقبل ذلك الإخلاص والدعاء . أسأل الله أن يهدينا ويهدي بنا إنه قريب مجيب الدعاء .
الرسائل الدعوية :
1- إلى كل من أجر محلاً يباع فيه المنكر .
2- إلى أصحاب البقالات لتي تبيع المجلات + الدخان .
3- إلى البقالات والمكتبات التي تبيع المجلات .
4- إلى محلات بيع الأغاني .
5- إلى محلات بيع أشرطة الفيديو .
6- إلى محلات بيع الشيش والمعسل .
7- إلى أصحاب مقاهي الإنترنت .
8- إلى الكازينوهات ( المقاهي والاستراحات ).
9- إلى محلات الخياطة ( رجالي ) .
10- إلى محلات بيع الدشوش .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة(/20)
http://www.tttt4.com
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،
إن تأجيرك المحل لشخص يتاجر بالحرام أمر محرم لأنه من التعاون على الإثم والعدوان ومشاركة له في الآثام . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2] .
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال الذي هو قيمة الإيجار ما مصدره ؟
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وإن كنت تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق ؛ أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك بسبب هذا التأجير المحرم ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،
إن بيعك للمجلات التي تحوي صور النساء والافتتان بها وهدم الأخلاق وتزيين الباطل وترويجه من الغناء والفن وكل مفسد للمسلمين ، وكذلك بيعك للدخان المحرم أمر منكر وحرام ، وتعاون على الإثم والعدوان ومشاركة لغيرك في الآثام . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2](/21)
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال ما مصدره ؟! وأعد أيا أخي لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وإن كنت تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن نكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره ، وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،
إن بيعك للمجلات التي تحوي صور النساء والافتتان بها وهدم الأخلاق وتزيين الباطل وترويجه من الغناء والفن وكل مفسد للمسلمين ، لهو أمر منكر وحرام ، وتعاون على الإثم والعدوان ومشاركة لغيرك في الآثام . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2]
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال الذي ما مصدره .؟!
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وإن كنت تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .(/22)
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،،
إن بيعك لأشرطة الغناء أمر محرم وباب عليك من السيئات الجارية بعدد من يستمع إليها ، فهل تحصي عدد ذلك ، وكل ما يترتب عليها من انحراف أو افتتان أو وقوع في فاحشة يجري عليك من إثم كل ذلك ، وأمر السيئات الجارية خطير فهي تلحقك حتى بعد مماتك إن لم تتب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2] .
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال الذي
ما مصدره ؟ وأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وإن كنت تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .(/23)
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،،،،،
إن بيعك للأفلام التي تعرض صور النساء والافتتان بها وهدم الأخلاق وتزيين الباطل وترويجه من الغناء والفن وكل مفسد للمسلمين ، أمر منكر وحرام ، وتعاون على الإثم والعدوان ومشاركة لغيرك في الآثام . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2]
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال ما مصدره ؟
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وإن كنت تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .(/24)
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،
إن بيعك للشيشة والمعسل وأدواتها المحرمة أمر منكر ومحرم وتعاون على الإثم والعدوان ومشاركة لهم في الآثام . وقد قال صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2] .
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال
ما مصدره ؟
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
ويا من تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .(/25)
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،
إن بيعك لمستخدمي الإنترنت في الحرام أمر محرم وباب عليك من السيئات بعدد المستخدمين وكل ما يترتب عليها من انحراف أو افتتان أو وقوع في فاحشة يجري عليك من إثم كل ذلك . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } .
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال
ما مصدره ؟
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
وإن كنت تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،(/26)
إن الشيشة والمعسل التي تقدومنها لمرتادي هذا المقهى أمر محرم وباب عليك من السيئات بعدد المرتادين ، والأموال والأوقات التي تصرف في هذه المحرمات أعلم بأنكم تشاركونهم إضاعتها في معصية الله لأنه من التعاون على الإثم والعدوان .. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2] .
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال ما مصدره ؟
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
ويا من تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ... أخي بارك الله فيك ،،،،،
إن حلق اللحى حرام ، والواجب إعفاؤها وعدم الأخذ منها . وقص الشعر على طريقة الكفار هو محرم لأنه تشبه بهم ، وكذلك القزع كل تلك الأمور منكرة محرمة ، فاحذر أيها الفطن من التعاون على الإثم والعدوان والمشاركة في الآثام . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2] .(/27)
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال
ما مصدره .
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
ويا من تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
******* *******
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....... أخي هذه رسالة من أخ لك ناصح محب ، ووالله إني لأحب لك الخير فتأمل وفقني الله وإياك ماجاء في رسالتك أخيك المحب ...
أخي بارك الله فيك ،،، إن إسبال الثياب حرام بل من الكبائر لما جاء من توعد فاعله بالنار فقد قال صلى الله عليه وسلم (( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )) ، فاحذر أيها الفطن من التعاون على الإثم والعدوان والمشاركة في الآثام . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن اللَّهَ إذا حَرَّمَ شيئاً حَرَّمَ ثمنَه )) فالمتاجرة في الحرام ثمنها حرام و الإعانة على الحرام حرام مثله قال الله تبارك وتعالى { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ } [ المائدة:2] .
أيها الأخ المسلمُ ، المشفقُ على نفسه ، الموقنُ بلقاءِ ربِّه ، المصدقُ بقولِ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم (( إنَّكُمْ ملاقو اللَّهِ حفاةً عراةً غرلاً )) ـ لقد جاءَك عنْ رسولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى خبرٌ صادق : أنك موقوف فمسئول عن مالك ، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه )) . فسأل نفسك عن هذا المال ما مصدره .
فأعدَّ أيُّها المسلمُ لذلك السّؤالِ جواباً مادمت في دارِ المهلة ، فاليوم عملٌ ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
ويا من تظن أن بيع المحرم سبباً في توسع الرزق أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .(/28)
وأذكرك بأنَّ أَكلَ الحرامِ شُؤْمٌ على صاحِبِهِ ، وعذابٌ في الدُّنيا والآخرةِ ، وآكلُ الحرامِ لا يجاب له دعاءٌ ، فانظر ـ وفقكَ اللَّهُ ـ أيَّهما تختارُ : أنْ يجابَ دعاؤُك وتوفَّقَ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، أو أنْ تُغْلَقَ أبواب السّماءِ دون دعائك فلا تُسْمَعُ لك دعوة ، ولا يحالفك توفيق في الدنيا ولا في الآخرة ، وتحرم الخير بسبب هذا الكسب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( أيُّها النّاسُ ، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً وذكر في هذا الحديث .. أن الرّجل يطيلُ السّفَرَ أشعثَ أغبرَ ، يَمُدُّ يديه إلى السّماءِ ،يا رب، يارب ، ومطعمُهُ حرامٌ ، وملبسُهُ حرامٌ ، وغُذِّيَ بالحرامِ ، فأنَّى يُسْتجاب له )) قال النّووي رحمه الله : أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. وأَكْلُ الحرامِ بأيِّ وجْهٍ موجبٌ دخولَ النّارِ. قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يَرْبُو لحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلا كانتْ النّارُ أولى به ((. وفي رواية (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فالنّار أولى به )) وفي رواية (( لن يدخلَ الجنَّةَ لحمٌ نبتَ من سُحْتٍ )) . فانظر إلى ما جر إليه المال الحرام .
فاقطع صلتك أخي بهذا الحرام وكل توابعه فإلى متى يا أخي وأنت تضع من الذنوب فوق ظهرك ، فقم وفقك الله من الآن لتصحيح هذا الخطأ ولا يأتيك الشيطان أو أعوانه من شياطين الأنس فيزين لك المعاصي ويبرر لك الأخطاء ، ولا يغرنك ما ترى من تهافت النّاس على الأموال من حل ومن حرام . فاحذر أن تكون ممن يجني على نفسه وعلى غيره وتأمل في قول الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ } .
فأنت سوف تحاسب على ما قدمته يديك أنت فاترك غيرك وانظر إلى نفسك . قال الله تعالى في الحديث القدسي (( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . ثم إذا تبت عن هذا العمل وفقني الله وإياك وتخلصت منه فأبشر بإذن الله بكل خير فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " و " قوله صلى الله عليه وسلم " و" من تاب تاب الله عليه " .
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ............ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أيمكن لمثلي أن يتوب ؟!
( أخطاء في طريق التوبة )
وصل اليأس حده بأناس وبلغ بهم كل مبلغ ، حتى حطوا رحال التفكير وقطعوا باليأس كل بادرة أمل ، ورفعوا راية الاستسلام ، وسلموا زمام أمرهم لعدوهم الشيطان اللعين ، ولسان حال أحدهم يقول : أيمكن لمثلي أن يتوب ؟!
ربما كان هذا اليأس - في نظرهم - لم يأت اعتباطاً ، بل أنه كان نتيجة محاولة ، أو أكثر ولكن دون جدوى أن يكونوا من التائبين ، ربما لأنهم جربوا وبعزم لكن المشي كان لخطوات ثم فترت الهمم وخارت القوى .
وبعد أن خاض بعضهم غمار التجربة نكص حاملاً في نفسه قناعات تلك التجربة !
حسناً ..... أنا لا أشك بأنك موقن أن الله لا يستصعبه أمر وأنه على كل شيء قدير ، تعال معي الآن مستصحباً هذا اليقين واقرأ هذه الآية بقلبك لا بمجرد نظرك ، وأمهل نفسك فرصة لتتذوق معناها . قال الله تعالى " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " . الحديد . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :
" فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُلِين الْقُلُوب بَعْد قَسْوَتهَا وَيَهْدِي الْحَيَارَى بَعْد ضَلَّتهَا وَيُفَرِّج الْكُرُوب بَعْد شِدَّتهَا فَكَمَا يُحْيِي الْأَرْض الْمَيِّتَة الْمُجْدِبَة الْهَامِدَة بِالْغَيْثِ الْهَتَّان الْوَابِل كَذَلِكَ يَهْدِي الْقُلُوب الْقَاسِيَة بِبَرَاهِين الْقُرْآن وَالدَّلَائِل وَيُولِج إِلَيْهَا النُّور بَعْد أَنْ كَانَتْ مُقْفَلَة لَا يَصِل إِلَيْهَا الْوَاصِل ..." انتهى .
في هذه الآية أمل وبشارة بحياة القلوب من الموت الذي هو الضلال إلى الحياة المتمثلة في الهدى والتقى ، ثم إن هذه الآية جاءت مباشرة بعد قول الله تعالى " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قبْل فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ "
نعم ... فالذي أحيا الأرض بعد موتها تبارك وتعالى لا يعجزه أن يحي القلوب الميتة من آثار الغفلة والمعاصي والضلال .
حسناً ...... الآن أظن أن وهج البيان من كلام الله عز وجل أزال ذلك التصور المعتم من قناعات سابقة ، التي
ما هي إلا وساوس و حيل شيطانية نفثها الشيطان في نفسك .
ثم لعل الفشل والتعثر في طريق الهداية يرجع لأسباب أخرى لم تتفطن لها ، ومنها .....(/29)
إن الهداية نور ، وأنت قد كنت وضعت خطواتك الأولى في موضعها الصحيح ولكنك ما تلبست إلا بقدر يسير من النور ، فتقهقرت منهزماً !
وكيف تريد بنور يسير أن تنقشع سحب الظلام الذي تراكمت في قلبك ولسنين ؟!
سنين مضت في اللهو والغفلة وتفريط في جنب الله ، ثم تريد أن تهزم الباطل بسلاح إيمان ضعيف ، فقد يلزمك مزيد من النور والثبات في طريق الحق لتهاجر أسراب الباطل من قلبك التي سكنت وعشعشت فيه أعواماً .
فالتزام طاعة الله بالأعمال الصالحة واجتناب المحرمات أمور تقوي الإيمان وتجعله يقاوم شهوات النفس وشبهات الشيطان وسفاسف الدنيا .
عندها يرحل الباطل ولا يجد له مكاناً في قلبك بعد ما عمرته الهداية .
أجل ... فجنود الشر ؛ النفس والشيطان والهوى والدنيا ..... تسلطت عليك لأنك لا تحمل عزم وإصرار وثبات على المبدأ المقتنع به تماماً ، كذلك ربما كان إيمانك ضعيفاً ، ولم ترع اهتماماً لأن تتزود بما يقوي إيمانك لتقاوم هجمة أعدائك ، ولم تتفطن لذلك فأصبحت كالذي ينزل ميدان المعركة بلا سلاح أو بسلاح هزيل ، وكانت النتيجة أن أسهم المعاصي من عدوك ، أصابتك و صرعتك فما أفقت إلا وأنت مأسوراً لشهواتك ونزواتك الدنيوية ، وعندها قلت : أيمكن لمثلي أن يتوب ؟!
ثم لعلك وأنت تتلمس الهداية بقيت على بيئتك الأولى ، واكتفيت بتغيرك أنت ولم تربأ بمن حولك ، ولم تتفطن أن استدامتك في بيئتك الماضية أمر يجرك إلى أن تعايش حياة المعاصي وتسايرها حتى تألفها ثم تواقعها ! ثم تدريجاً تعود إلى ما كنت عليه من حال ! والسبب أن البيئة غير ملائمة .
هلا تأملتم إخوتي .... الحكمة من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه رضي الله عنهم أن يهاجروا الحبشة . وحكمة أمر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من مكة ؟
نعم لابد لنبتة الإيمان من مكان طيب تنمو فيه وتثمر .
وليس المعنى أن يهاجر الإنسان من بلده المسلم ، لا ، ولكن المقصود هَجر الصحبة التي تربطك بالمعاصي إلى صحبة تربطك بالعبادة وأجواء الطاعة وبها يشتد عود دينك ويقوى جناب إيمانك .
أما من يقعد قبالة النار فإنها يتأذى بدخانها . فهل تريد الثبات على الاستقامة وأصحابك هم أنفسهم أولئك الذين سولوا لك المعصية وزينوها ؟!
أتريدهم عوناً لك على الطاعة وهم باقون على ذلك الغي ؟!
قد يقتنع بعضهم بأنك على صواب لكن لا يمكن له نفعك إذ هو أولى منك بهذا النفع ، وقد تجد بعضهم يقلل لك من عِظَمِ الباطل ويستصغر لك شأنه أو يغيريك به !!
قال الله تعالى " ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما "
لقد فاتك معرفة الفرق بينك وبين من آثر حياة الغفلة على حياة التقى .
هم لم يذوقوا حلاوة الإيمان التي ذقتها ، ولم يأنسوا بقرب الرحمن مثلك ، لم يقم في أنفسهم وجل يوم الحساب ، والقصاص ؛ في يوم العرض على من لا تخفاه خافية .
وآسفا ه .... أبعد ما قدحت شرارة الإيمان وأنارت لك الطريق تطفأها بفيك ، ثم تأتي لتقول أيمكن لمثلي أن يتوب ؟!
وقد ترقب الهداية وتسعى لها ، ومازلت متشبثاً بأدواتك المحرمة التي تحاصرك ؟ من أشرطة أغاني أو قنوات فضائية أو مجلات ، أو مواقع مفسدة في شبكة الإنترنت ؟! وهذا مزلق شر ربما لم تتفطن إليه أيضاً .
كان الأجدر بك ، بل الذي يجب على عمله استبدل ذلك بقراءة القرآن ، والأذكار ، والدعاء ، وحضور مجالس العلم والمحاضرات ، والاستماع إلى الأشرطة الإسلامية ، والقراءة النافعة ، ومصاحبة الأخيار ، ونوافل الطاعات .....
فطالما أنك استشعرت ضرورة التغير فلا بد أن يشمل التغير كل جوانب حياتك المظلم منها . فأنت دخلت عالم جديد ، عالم نوراني ، فلا التفات لماضي منحط و لا وقت لإعماره بالتوافه .
واندب زمانا سلفَ سودت فيه الصحفَ
ولم تزل معتكفا على القبيح الشنع
كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها
لشهوة أطعتها في مرقد ومضجع
وكم خطاً حثثتها في خزية أحدثتها
وتوبة نكثتها لملعب ومرتع
وكم تجرأت على رب السماوات العُلا
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي
والآن الآن ..... لعلك تصحح ما كان منك من خطأ ، وتسلك طريق التوبة عن بصيرة ، وتملأ قلبك توكلاً على الله ويقيناً بنصره إياك ، قال الله تعالى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وٍإن الله لمع المحسنين " سورة العنكبوت .
وطالما أنك تشعر بتقصيرك وضرورة ترك ما أنت عليه فهذه بشارة خير .. فأقبل .. أقبل ... وسر على بركة الله فإنك على الحق ولا تركن إلى العاجزين ولا تتبع الغافلين فتكن من النادمين .
وهاهو باب التوبة مفتوح فيا سعادة الوالجين ، ويا تعاسة المتكبرين ضلوا بعدما هُدوا للحق فضلوا عن علم .نعوذ بالله من الخذلان ومن الحرمان .
فلنبادر قبل أن يغلق هذا الباب كما أغلق دون غيرنا ، فوالله إن أغلق فلا دموع تجدي ولا عذر يقبل ،(/30)
فإن كنت نادماً فاللحظة اللحظة قبل أن تندم ولات حين مندم . وإن كنت حقاً للجنة خاطباً فهذا زمن المهر فتقدم وقدم ، قبل أن تقول ... (( ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله ))
أو تقول (( ربِ ارجعون لعلي أعمل صالحاً )) أو تقول (( يا ليتني قدمت لحياتي ))
أو تقول ((ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ))
أو تقول (( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون )) أو تقول (( يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ))
أو تقول (( ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً ))
وبعدما هبت نسائم صدق العزيمة على التوبة ونفحات الأوبة إن شاء الله ؛ اترك لكم إخواني وأخواتي بعض التوصيات التي أرجو الله أن تكون عوناً على الرجوع والتوبة .
جعلنا الله وإياكم من التائبين ومن عباده المهتدين ، وإليكم بعض التوصيات .
1- سارع من الآن بهجر المعاصي .. التي كم أودت بهلاك الأمم قال تعالى (( مما خطيئاتهم أُغرقوا )) ، وقال تعالى (( فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها )) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم (( إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على قلب المرء حتى تهلكه )) هذه محقرات الذنوب فما بالك بكبيرها ؟! ، ولأن الذنوب فتاكة تسري في الأعمال حتى تدمر دين صاحبها وعلاجها التوبة . قال تعالى (( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) (( ران )) أي غطى (( يكسبون )) ما يكسبونه من الذنوب والخطايا فإذا غطت الذنوب القلب فلا تسل عن سبب غشيان المعاصي ومداومتها والتكاسل في أداء العبادة وحب المعصية وألفها وفتور العزيمة ، فنور الإيمان لا ينفذ قلباً محجوباً بالذنوب مغطى بغشاء المعصية (( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ))
فالعلاج يكون بإزالة تلك الذنوب بالتوبة لينقى القلب ويتقبل الطاعة عن انشراح .
2- لكي تكون التوبة صادقة فلا بد من تحقق شروطها وهي : الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه ، والعزم على عدم الرجوع إليه وهذه الثلاث فيما بين العبد وربه ، والرابع فيما بين العباد وهو رد المظالم إلى أهلها من الحقوق كالمال والظلم والغيبة ....
3- لزوم الدعاء وسؤال الله أن يعينك على هجر المعاصي ودوافعها من آلات اللهو وأجهزة الباطل وصحبة السوء ... وأن يريك الحق حقاً ويرزقك اتباعه ويريك الباطل باطلاً ويرزقك اجتنابه وأن ينور بصيرتك ويشرح صدرك لقبول الحق والأخذ به وأن يتقبلك تائب ، فا نطرح بين يدي الله وتضرع بالدعاء ، وعليك تحين أوقات الإجابة كالثلث الآخر من الليل ، وحين السجود ، وما بين الأذان والإقامة ، ودعاء الوالدين لك ...
4- التخلص حالاً من كل شيء يذكرك بالمعصية واحتسب الأجر أن ذلك لوجه الله فيهون الأمر ، اعتزل الإنترنت تماماً إن كان استخدامك له استخدام خاطئ ، وتذكر أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه . وأنك ما تركته إلا تقرباً لله وطمعاً فيما عنده وخوفاً من سخطه .
5- الحرص على قراءة القرآن يومياً والمحافظة على الأذكار فهي حفظ من الله ضد الشيطان وأعوانه من الجن والأنس ومن شرور النفس مع القيام بالفرائض ونوافل الطاعات .
6- مجالسة الأخيار فهم خير مُعين بإذن الله فالشيطان مع الواحد ، وسؤال أهل العلم عما قد يعترض في طريقك ويشكل عليك .
7- تجنب أصحاب الماضي فهم يذكرونك بالمعصية واهجرهم تماماً ، ثم مسألة دعوتهم لطريق الهداية تأتي في مرحلة لاحقة بعد أن يشتد عودك في الدين وتقوى حجتك وتستطيع الرد على الملابسات ، و يكون ذلك بتحين الفرص المناسبة وتخولهم بالموعظة كل على حدة وما إلى ذلك من طرق الدعوة .
8- اجعل لنفسك وقتاً للاستماع إلى الأشرطة الدينية ففيها تقوية للإيمان وربط بالله وتقوية الصلة به مع زيادة معلوماتك الدينية والتفقه في دين الله .
9- إذا وجدت تثبيطاً ممن حولك فاشفق على حالهم أنهم ضلوا الطريق السوي وأسأل الله لنفسك الثبات ولهم الهداية .
10- ولا تنسى الترويح عن النفس بما هو مباح لفترات يسيرة ، فإنه يريح النفس ويدفعها نحو الخير بانشراح بال وطيب نفس .
جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
حفظك الله ورعاك وثبتنا الله وإياك على طريق الحق .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
إلى من يحمل خلقاً متناقضاً !!!
يتصور بعضهم أنه قادر على الجمع بين المتناقضات ، وأنه صاحب فكر حصيف ، وبصيرة مدركة يتستطيع بها مسايرة كل الأذواق ! والجمع بين الأقطاب المتنافرة !!
يتجسد هذا السلوك الملتوي فيمن يقيم علاقاته مع ألوان من الناس مختلفي المفاهيم والأطروحات !
فيبرز صاحب هذا الخلق بصور شتى ؛ صور متقلبة تلائم تماًما تلك المواقف المتقلبة التي يتعايش معها .
فإذا جالس أهل الصلاح والاستقامة تجده ينكر ويدعو ويغار ويقترح بما لا يتمثله منهجاً وحقيقة !(/31)
وإذا انتهى به مجلسه إلى أقوام سوء فهو ذو اللسان السليط ، والقلب المريض ، يأنس بحديث الشهوات و ولا يكترث باقتراف المحرمات !
فمسكين متذبذب لا مبدأ له .
يظنها حنكة ودهاء !
لا يعلم أنه يتقلب في نفاق ، فيظهر خلاف ما يبطن ، ويسر ما لا يعلن !
فيا من تحمل خلقاً متناقضاً بين جنبيك
ألا ليت شعري ... أي قلب تحمل ؟!
كيف يحمل هذا القلب حباً وكرهاً بنفس القدر للشيء ذاته ؟ !
وعجباً لك .. كيف تطوع نفسك وتؤزها على ذلك ؟!
أم أنه التملق والنفاق !!
فإن الجمع بين النقيضين ضرب من المحال !!
هل تعلم أن الإيمان بالله عز وجل لا يتحقق إلا مع الكفر بما يعبد من دون الله ، لأنه لا يكون إيمان بالله مع وجود الكفر في قلب موحد .
قال تعالى " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى "
وهل تعلم أن الحق لا يجتمع مع الباطل . قال تعالى " وقل ظهر الحق وزهق الباطل "
هل علمت الآن ...... أنه ما كرِه الحقَ من كرهه إلا لأنه محب للباطل ؟!
فخير لك من ذلك .... أن ترسم هدفك وتحدد وجهتك ، فأنت لست بمكره على تصنع المشاعر ، ولن تطيق الجمع بين المتناقضات ؛ بل ستعجز ولن تستطيع لذلك سبيلاً .
ولله در ابن القيم رحمه الله حين قال :
حب الكتاب وحب ألحان الغنا *** في قلب عبد ليس يجتمعان
هذا في حب القرآن وحب الغناء ، فقس عليه كل متناقضين !!
وختاماً ... أذكر حديثاً أسوقه في معرض التذكير والتحذير - سائلاً الله تبارك وتعالى أن تكون الرسالة قد وصلت إلى أصحابها ووقعت موقعها من النفوس - .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه . " صحيح مسلم .
غفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين ،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
نخافُ عليكِ ( خواطر غيور)
نخاف عليكِ جدول ماء .... يعكر صفوه كدر الضفاف
نخاف عليكِ عبير ورد .... يغادر بستان العفاف
نخاف عليك ونبتهل بالدعاء
يكلؤك رب البرية المعبود ... من كل شر على هذا الوجود
نخاف عليكِ * * نخاف عليكِ
يا تاج وقار فوق الرؤوس ... يا عفة سمت بها النفوس
نخاف عليك من الفتن العريضة
و من أهل القلوب المريضة
نخاف عليك . . شعارات الطريق
بهرجوها لك .. ليخدعك البريق
نخاف عليك ونبتهل بالدعاء
يكلؤك رب البرية المعبود .من كل شر على هذا الوجود
نخاف عليك ** نخاف عليك
نخاف عليك من قول وإشارة
وابتسامة مغرضة وأمارة
ومن كذبة تسمى حضارة
نخاف عليك ونبتهل بالدعاء
يكلؤك رب البرية المعبود ... من كل شر على هذا الوجود
نخاف عليكِ * * نخاف عليكِ
نخاف عليكِ ... كلمة إطراء قيلت بخبث
ووراء الأكمة ما وراءها من مكر وغث
نخاف عليكِ .... أن يغريك الحديث
فهم لا يسأمون في دأب حثيث
يصورن القبح حسناً
وزيف أباطيلهم فناً
والفضيلة صارت رذيلة
وعاريتهم هي الجميلة
ولكنك أنتِ الجميلة
وأنت الملكة الجليلة
أنت حسنك الباهر الأخاذ
سنة ونيل علم من الأفذاذ
وجمالك حجاب ... أغلى من التيجان
فوق رأسك حشمة قد ازدان
وعباءة ستر محتشمة ... في أعين الكل محترمة
لا عري وتكلف .... لا سخافات وتبذل
فأنت لست لهم فرجة ولا زينة حائط مخجل
ولا ماء حيائك منسكب في كل محفل
مسلمة أنت ... للأعراق منهل
أنت كرامة خلق وصفو نبل .. صدقاً وعدلاً إنك الأفضل
نخاف عليك ونبتهل بالدعاء
يكلؤك رب البرية المعبود ... من شر ما على هذا الوجود
نخاف عليكِ * * نخاف عليكِ
نخاف عليكِ * * نخاف عليكِ
لماذا نخاف هل تعلمين ؟
لأنك أنت الأمل وأنت الغد
أنت صانعة المحامد والمجد
نخاف عليك ونبتهل بالدعاء
يكلؤك رب البرية المعبود ... من كل شر على هذا الوجود
نخاف عليكِ * * نخاف عليكِ
لماذا نخاف هل تعلمين ؟
لأنك أنت الحصن الحصين
وكل خوفنا أن يخدش الحائط المتين
نخاف عليك .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
إلى كل شاب تعلق بفتاة أو العكس
إخوتي في الله ...
أشعر بما أنتم فيه من معاناة ، وإني لأعلم أن منكم من يستلطف هذه المعاناة أحياناً إلا أن القلق والشعور بالذنب يختلج القلوب مؤشراً صادقاً على الإحساس باستهجان هذه العلاقة وبغضها ، وأن منكم من يشعر بذلك و يعيش خداع الذات ، وآخرون يحملهم ذلك على استنكار تصرفاتهم وحساب أنفسهم ..... أليس كذلك ؟!
أحبتي في الله ... لنملأ قلوبنا ثقة بالله بأنه تبارك وتعالى أرأف بعباده من أن يأمرهم ما لا يستطيعون فعله ؛ أو ينهاهم عن شيء لا يستطيعون تركه ، فلقد قال الله تعالى (( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها )) ، فيا من أجريت علاقة محرمة مع تلك الفتاة فوالله إنك تستطيع التخلص من هذه العلاقة لأن الله ينهاك عنها ، والله لا ينهاك عن شيء لا تستطيعه . فهذا قول الله فهل ستصادمه ؟!
وأنت يا أخت الإسلام ... هذا قول الله وهو أصدق القائلين فلا أظنك تعارضينه .(/32)
اخوتي في الله ألا ترون عجباً عندما تتأملون حال المرأة في المسجد ؛ وذلك عندما يسهو الإمام في صلاته فإنه يشرع في حق المرأة التنبيه بالتصفيق لا بالكلام أما الرجل فيقول سبحان الله ،، لاحظوا معي أن الأمر في صلاة والإنسان في العبادة أبعد عن المعصية ، ثم أنهم في بيت من بيوت الله له احترامه وتكريمه عن دناءة الأخلاق ، مع ذلك فقد يفتن الرجل بصوت المرأة إذا تكلمت ، فلا يجوز لها أن تتلفظ بقولة " سبحان الله " ، ولاحظوا أيضاً أن لفظة سبحان الله ذكر مجرد من أي مغزى يجر للرذيلة ! لا تصريحاً ولا تلميحاً !
فإذا كان صوتها قد يفتن المصلين وهي في بيت من بيوت الله ولأمر من مصلحة الصلاة فكيف بغير ذلك أيها الفطناء ؟! فكيف بالمحادثات التي تمدد إلى الساعات وفي الخلوات ؟!
وقال الله في كتابه العزيز مخاطباً أمهات المؤمنين (( ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفا )) فهذا أمر من الله لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الخضوع في القول والتكسر في الحديث وعلل ذلك لئلا يطمع الذي في قلبه مرض ، والمرض هنا مرض الشهوة كما جاء في تفسير هذه الآية .
فلا حظوا أيها الأعزاء .... أن هذا الخطاب موجه للتقيات العفيفات أبعد الناس عن لوثة المعاصي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف بغيرهن أيها الفطناء ؟!
لماذا أعرض لكم هذا الحديث ؟1 رداً على من يتظاهر بالثقة في نفسه ، فما الرجال في هذا الزمن بأكثر يقظة وثقة وأمانة وعدالة من الصحابة رضي الله عنهم ، وأما نساء اليوم فلسن والله بأطهر من نساء النبي صلى الله عليه وسلم .
فليعرف كل منا حجمه ، فرضي الله عنهم وأرضاهم شعارهم سمعنا وأطعنا وشعارنا مخادعة النفس وجدل الآخرين إلا من رحم الله
قال الله تعالى " و لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن " أي على المرأة أن تمشي بهدوء حتى لا يسمع الرجال صوت خلخالها فيفتنون ، فإذا كان إظهار صوت الخلخال لا يجوز فكيف بصوت المرأة المصحوب بالتميع والتكسر والضحكات والهمسات ؟!
ثم يأتي البعض ويقول بأنه حسن المقصد ، يجري المحادثة الشيطانية ويزعم بأنه سليم النية وطاهر القلب ولقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما في الباطن ينعكس على الظاهر ولا بد فأعطانا قاعدة جليلة فقال صلى الله عليه وسلم (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
فهذا الحديث رد قاطع على من يعمل أعمالا باطلة ويزعم بأنه سليم المقصد وأن قلبه ذو صفاء ونقاء ، كما يزعم البعض ويلطف فعلته بأن نواياه حسنة ومقصده سليم ، فيتحدث ويقطع الأوقات بالكلام المسموم ويرضي شهوته ويشبع نهمته بالحرام ثم إذا أفاق من سكرته زعم أن قلبه طاهر نقي !! .
و لو كان قلبه سليم نقي لرأينا صلاحاً في الأعمال والأقوال ؛ لأن القلب أمير الجوارح لو صلح القلب صلحت الأعضاء ، ولكن لما كان قلبه فيه خلل وفساد ظهر ذلك على الأعمال والأقوال .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
ثم - أيها العابثون بالأعراض - لو زعمتم أن علاقتكم تلك لا تتعدى مجرد الحديث لكان ذلك كافياً في على إدانتكم وشاهداً على جريمتكم لأن اللسان يزني وزناه الكلام والسمع يزني وزناه الاستماع : فلقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( كتب الله تعالى على كل نفس حظها من الزنى )) وجاءت زيادة حكم عليها الشيخ الألباني بالصحة : (( فالعين تزني وزناها النظر واللسان يزني وزناه الكلام واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والسمع يزني وزناه الاستماع ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه )) .
ولقد أودع الله سبحانه وتعالى شهوة في الجنسين ليميل كل إلى الآخر لحكم يعلمها الله منها التكاثر و حفظ النوع البشري ، وجعل هذه العلاقة يحددها ضابط شرعي وهو الزواج ، وحرم الزنى وكل الطرق الموصلة إليه من السمع والنظر . فقال تعالى (( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا )) .
وقال تعالى : " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن "
فأمر الله بقطع الطرق الموصلة للزنى ، والعلاقة المحرمة من محادثة الجنسين من الطرق الموصلة لذلك كما معلوم للجميع .
ومما يساهم في إيجاد الرغبة لتكوين العلاقة بين الجنسين بعد عدم الخوف من الله ومراقبته ما يكون من رؤية النساء في القنوات و المجلات وما يحدث من الاختلاط ، كذلك خروج بعض النساء إلى الأسواق متعطرات متبرجات ، تتكسر الواحدة منهن في الكلام مرتدية ما تسميها عباءة تكشف عن بعض مفاتنها . فتبدو في كلامها ومشيتها وزينتها وكأنها بغي تعرض نفسها !!(/33)
وأيضاً ما يكتب في ساحات المنتديات و حوارات الشات والماسنجر يكتبون ويتحدثون ما كأن الله يعلم جهرهم وسرهم بل ونجواهم وما يكتمون ، وما كأنهم محاسبون على ما يعملون !
قال تعالى (( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )) .
كذلك مما يغري ويرغب في تكوين تلك العلاقات : الاستماع إلى الغناء ، وأكاد أجزم بأنه لا يوجد من يستمع للأغاني إلا ويحدث نفسه بالنساء والزنى ، لأن الغناء رقية الزنى وبريده ، والداعي صراحة للفجور ، و لا يخرج موضوع الغناء غالباً عن إطار هذه العلاقة المحرمة ، من التغني بصفات المرأة ومحاسنها ، والمواعيد واللقاءات المظلمة ، وإظهار اللوعة والتحسر على فوات الفاحشة أو بنياتها ! .
ولا يغرنا احتفاء الأعلام من القنوات والصحف والمجلات بالمغنين والمغنيات فإنهم من أراذل الناس وأفسقهم وإن لمعهم الإعلام الساقط ووصفهم بالنجومية ، فإننا نعرف أن النجم يهدي الساري الطريق ، وهؤلاء المغنون الغافلون إنما يُضلون ولا يهدون ، وإن الألفاظ لا تغير من الحقائق شيئاً ، وكان الأجدر بالإعلام أن يوقف شر هذا السرطان الذي سرى في شباب الأمة وفتياتها فوأد الحشمة ونحر العفة فلله المشتكى و " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ " .
ويسهل الغناء من فظاعة الأمر ويصور الأمر على أنه محبة لا بأس بتبادلها والتعبير عنها ، ولقد أخبرنا الله أن كل محبة ستنقلب إلى عداوة يوم القيامة إلا محبة المتقين فقال الله تبارك وتعالى (( الأخلاء ُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا الْمُتَّقِينَ)) .
فما فائدة المحبة المزعومة عندما تنقلب إلى عداوة وتفتضح الأسرار وتبدو الفضائح على مسمع ومرأى الأولين والآخرين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان ابن فلان " رواه مسلم وغيره .
بما ستحتال أخي حينها ؟! و بأي عذر أختي ستبررين ذلك الموقف العصيب ؟!
لا سبيل للجحود والتبريرات ، قال الله تعالى (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) .
فهذا ما تجر إليه هذه العلاقات من خزي في الآخرة نعوذ بالله من ذلك المصير .
وقبل ذلك الخزي خزي ونكال في الدنيا قال الله تعالى ( الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .
قال الإمام أحمد رحمه الله [ لا أعلم ذنباً أعظم بعد الشرك والقتل من الزنى ] .
أيضاً من جملة الخزي والعذاب ما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم من عذاب الزناة أنهم يكونون رجالهم ونساءهم عراة في تنور أسفله واسع وأعلاه ضيق يعذبون ؛ يصالون النار ولهم صراخ جزاء بما كانوا يصنعون ولا يظلم ربك أحداً .
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة .
وأخيراً .... تذكروا إخواني وأخواتي ... أن الدنيا مهر الجنة ، وأن الدنيا دار امتحان فطبيعي أننا سنرى أشياء مغرية ومفتنة ، ولو أن الله ما أودع فينا رغبة وشهوة لما أصبح لأحد منا ميزة عن الآخر ، ولكن الله جعلنا نرغب ونشتهي فإذا امتنع أحدنا لله ، خوفاً منه وطمعاً فيما عنده ، يكون هو الفطن الذي علم بأن هذا الدار إنما دار تحصيل ، والعاقل لا يبيع الجنة من أجل لذة تنقضي ويبقى إثمها وألمها وحسرتها ، ولكنه بعيد الأفق يعيش في الدنيا وقلبه معلق بالآخرة ونعيم الجنة حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ، قال الله تعالى :
(( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون )) في روضات الجنة يتقلب وعلى الأسرة يجلس وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئ وبأنواع الثمار يتفكه ويطوف عليه من الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون و فاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعلمون ، .... ويطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، في قصور الجنة ينظرون إلى الرحمن تبارك وتعالى ويمتعون أنظارهم . ويلتقون بصفوة البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء وصحبهم الكرام . نعيم لا يوصف ، لا هم ولا كدر ، لا عرق ولا أذى ، لا قذر ولا حيض ولا نفاس ، لا تعب ولا نصب ، قال الله تعالى (( لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين )) ولا نوم لكي لا ينقطع النعيم بنوم . و لا عبادة تنشأ إلا لمن أراد أن يتلذذ بها فهي دار جزاء لا دار عمل .(/34)
فنزهوا النظر إخوتي في الله وطهروا السمع واحفظوا الفروج ليكون الجزاء من جنس العمل لتسعدوا بالحور العين ونساء الجنة التي نصيفها ( خمارها ) خير من الدنيا وما فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها )) و لو بزغت في البحر الأجاج لجعلته عذباً ، وأن مخ سوقها ليرى من شدة الحسن .. ولقد جاء في القرآن والسنة وصف الحور العين بما يعجب له المرء من الحسن والبهاء واللطافة والتغنج والتغني .
وأنت أختي تذكري أن المرأة في الجنة سيدة الحور العين ، فإذا انبهرنا بجمال وحسن الخادمات فكيف بسيدتهم ؟!
فهل سننتهي ونعلنها توبة إلى الله ، أم أننا سوف نسوف أيضاً ؟!
فكم من محدث نفسه للتوبة مات قبل أن يدركها وهو يظن أنه سيتوب قبل الممات .
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن الريح من عادتها السكون .
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر وإذا ذكر اتعظ .
وأستودعكم الله ،،
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
نتيجة التصويت : 79مليون صوت تافه
بمناسبة برنامج سوبر ستار
أحبتي في الله
وصلتني هذه الإحصائية المفزعة عبر البريد :
( بلغ مجموع عدد الاتصالات الهاتفية على برنامج سوبر ستار حوالي : 79 مليوناً و خمسمائة وخمسون ألف اتصال (
======
فسبحان الله ،، حقاً إذا كانت الغاية تافهة فإن الهمم تافهة
أكثر من 79 مليوناً و خمسمائة وخمسين ألف اتصالأ
فكم إذاً عدد المتابعين لهذه السخافات ؟
ما هذه الأحلام السافلة ؟! نسأل العافية
والله لا أجد إلا أن أقول ما أتفه هذه العقول
و يا من تتابع مثل هذه الأمور ألا تشعر بالخجل من ربك وأنت تتابع ما يسخطه
الأمة تنهش والعدو يجتاحنا صباح مساء
يقتل وييتم ويرمل ويهدم
وينتهك الأعراض
ألا تستحي من نفسك ؟!
أهذه اهتماماتك ؟!
ألأن بلدك لا تعاني ويلات الحروب ؛ نسيت إخوانك
أين يقظتك ؟!
كان بالإمكان أن يكون بلدك هو الذي تدور عليه رحى الحروب والخطوب
وأنت الذي تذل ووالدك يلاقى صنوف العذاب وأمك تهان وأختك تغتصب
ألا يشدك في بلادنا المكلومة
منظر الدماء وصرخات الرضع ؟!
وأنات الثكالى ودموع في خدود مسنة ؟!
أما أنها رخصت في ناظريك لما تعالى الحقير فيهما ؟
أين الإحساس يا أهل الأحاسيس المرهفة ، بل الجامدة المزيفة ؟!
ألا تصفعك الحقائق يا من تعيش الخيالات ؟!
وفي كل يوم للعدو في أراضينا اجتياحات
* * * * * * * *
أهذه آمالك ؟!
أيكون للتافهين انتماؤك ؟!
لمن دمر الأمة بصوت الشيطان
ودنس الأجواء بمعصية الرحمن
وكسر تيجان الشرف
ونكس الرؤوس بعد الشموخ الذي كان
فأنتنت بعده القلوب من صديد العصيان
* * * * * * * *
أتطرب خبالاً وأمتك منكوبة مكلومة ؟!
بئس المشاعر يا من تزعم رقة المشاعر !
وهل للهو خلقت ؟!
وهل ستترك عبثاُ دون سؤال ؟!
يا مغرور .. ستسأل عن مثاقيل الذر .
في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها
* * * * * * * *
ولمن يا ترى صوّت ؟
أو لمن تعاطفت ؟
لمن حمل على عاتقه هم الفساد وتضليل العباد
ينهق بكبير الإثم ويزعم أنه صانع للأمجاد
أم للنصارى الذين يقولون أن لله ولد
وينسبون له قبيح الصفات
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
قال بعض السلف رحمهم الله:
لا تزهد في الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين.
وصدق الله إذ يقول " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله "
علك تراجع نفسك وتتأمل إلى أي الطريق تسير
فإن النَفس معدود والعمر محدود
وإن وراءك يوم ذو أهوال وعقبات
فاستثمر الأيام واللحظات
قبل السكرات والزفرات
فحينها لا ينفعك إلا ما قدمت من حسنات .
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
لا ..... للتبذل وتهشم الحواجز بين الجنسين
منطلقاً من الحب في الله والتناصح فيه
وقبل أن يتفاقم الأمر وتتسع الهوة
وتستحسن النفس الأمارة بالسوء أمراً
أقول : لنقف وقفة صدق وننبذ (( بعض (( السلبيات من (( بعض )) الكتابات
فكما أنه ليس بصديقك الذي يعاديك فأحرى أن لا يكون صديقك الذي يغريك
وآن الأوان أن نقول لمن تجاوز بقلمه الحد المقبول شرعاً وعرفاً : عذراً قف فقد تجاوزت .
فكم من كذب صريح خرج مخرج المزاح والكذب ما خالف الواقع وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يمزح لكن لا يقول إلا حقاً .
وكم مشاركة لم تسلم من التبذل ، وكم من مداخلات ساخرة وسطور عبثاً كتبت .
وكم من تعليق جر سخرية واستهزاء . وأما المجاملات فما أكثرها ، والله المستعان .
وكم من حوار لا فائدة فيه ترتجى ويقد يطول النقاش في توافه من الأمور
ورب موضوع لا علاقة للمرأة به لامن قريب ولا من بعيد تقحم نفسها فيه إقحاماً ، وليس ذلك تحكماً في حق أخواتنا ؛ معاذ الله ؛ لكن تبقى للخصوصية مزيتها وحتى تحفظ الأنثى عليها مكانتها . ونفس الأمر يقال لنا نحن الرجال .(/35)
وإني لا أعجب من رجل يسطر موضوعاً يعد من (( خصوصيات المرأة )) ، ولعله أحياناً يذكر أشياء مزرية من باب ( الإيضاح ) وأن هذا مما تأنف منه الطباع السوية . والأمر نفسه لكن أخواتي يقال .
) و أؤكد هنا أني لا أقصد الأمور المشروع فيها تخاطب الجنسين ) ولا إنكار على من يكتب عن قضيه لا تمس أفراد جنسه إن كان هناك مسوغاً لها ، فكلامي على ما يتعلق بالكتابة في خصوصيات الجنس المقابل .
وقد يتحدث ملاطفة بين الجنسين انتبه أو لم ينتبه لها كاتبها خرجت مخرج الأخوة ؛ ففرح بها الشيطان . نسأل أن يعافينا أجمعين.
وأحياناً هناك ردود بين الجنسين خارجه عن الموضوع تظهر البعض وكأنه في مجلس يتبادل مع قريباته الضحكات وهذا لا يقبله الرجل وتنفر منه الأنوثة فضلاً عن مجانبته للدين .
كما أنه لابد أن لا يغيب عن الأذهان أن النفس الأمارة بالسوء والشيطان للمرء يكيدان للمرء أيما كيد ....
فلا بد أن يكون هذا منا على بال .
وأحياناً نكون نحن سبب حدوث بعض التجاوزات بسبب ترك الإنكار وإحساسنا بأن الإنكار يولد البغض والتنافر وهذا كله من باب التساهل المذموم .
والسلامة لا تتأتى إلا عند نبذ الخطأ من أصله والقول (لمن تجاوز الحد المسموح به ) : عذراً قف فقد تجاوزت .
ولا أبرئ نفسي ، غفر الله لنا ولكم ولنحتاط مستقبلاً ... والله يتولانا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
نشاطات الحي ( مهام موزعة وخطة مجدولة )
جدول رقم (1) نشاطات على مدار الأسبوع
المهام ...
زمن التنفيذ والمسندة إليه المهم ...
توضيح و ملاحظات
الزيارة الدعوية ...
أسبوعياً لكل مجموعة
أفراد مجموعة ( أ ) ...................................
أفراد مجموعة (ب ) ................................. ...
مجموعتان أو أكثر حسب دعاة الحي ولكل مجموعة قائد ومنسق
مجموعة ( أ ) مجموعة معاذ بن جبل رضي الله عنه : يوم ...........
مجموعة ( ب) مجموعة مصعب بن عمير رضي الله عنه : يوم .....
نزهة أطفال الحي ...
مرتان في الأسبوع أو أسبوعياً
( مسندة إلى .............. ) ...
للطلاب المنتظمين في حلقة تحفيظ القرآن
تخصيص أحد المنازل لإلقاء كلمة ...
أسبوعياً ( مسندة إلى ................ ) ...
يقام درس أسبوعي منتظم أو منوع لبعض الدعاة ( يكون هناك مكان معد للنساء لسماع الدرس )
دروس الخاصة بأسرة الداعية ...
درسان في الأسبوع ( لكل داعية ) ...
درس أو قراءة من كتاب .........
الدعوة الفردية ...
أسبوعياً ... فكرة هذا النشاط أن يحدد كل داعية ثلاثة أشخاص يحدد وقت معين لزيارتهم ؛ كل أسبوع شخص كي لا يملوا ولا ينفروا ، ويستمر معهم . ويتعاهد كل داعية من اختاره من الأشخاص بالزيارة والنصيحة والهدية وتذكيره بالمحاضرات وأخذه لمجالس العلم أو المخاضرات ..
الاجتماع الأسبوعي لدعاة الحي
...
أسبوعياً لجميع الدعاة ...
تحديد وقت لجميع الدعاة في منزل المشرف العام للدعوة في الحي لمناقشة سير النشاطات ويتم دفع مبلغ التبرع للصندوق الدعوي في آخر أسبوع أو أول أسبوع من كل شهر
جدول رقم (2) نشاطات على مدار الأشهر
الشهر ...
الأول
( ) ...
الثاني
( )
...
الثالث
( )
...
الرابع
( )
...
الخامس
( ) ...
السادس
( )
المهام
... مسابقة الشريط
دعوة الجاليات
دعوة مرافق الحي
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري
...
توزيع الأشرطة لأصحاب السيارات
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ... مسابقة الشريط
دعوة عشاء
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ...
الرحلة الدعوية
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ... مسابقة الكتيب
دعوة الجاليات
دعوة مرافق الحي
توزيع الأشرطة لأصحاب السيارات
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ...
دعوة عشاء
تطهير المنازل من وسائل الشر
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري
الشهر ...
السابع
( )
...
الثامن
( )
...
التاسع
( )
...
العاشر
( )
...
الحادي عشر
( ) ...
الثاني عشر
( )
المهام
... مسابقة الشريط
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ...
توزيع الأشرطة لأصحاب السيارات
الرحلة الدعوية
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ... مسابقة الشريط
دعوة الجاليات
دعوة مرافق الحي
دعوة عشاء
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ...
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ... مسابقة الكتيب
توزيع الأشرطة لأصحاب السيارات
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري ...
تطهير المنازل من وسائل الشر
دعوة عشاء
الرحلة الدعوية
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
التبرع الشهري
ملاحظة ( 1 ) : على ضوء الخطة في الجدولين السابقين 1 ، 2 يتم سير الأنشطة وكذلك تتم متابعتها من قبل المشرف العام على نشاط الحي
ملاحظة ( 2 ) : يلاحظ تقصد توزيع الأنشطة بهدف السير على خطة منظمة ولتجنب العشوائية ولتقنين الدعوة كي لا يتضجر المدعوين
توزيع المهام على أفراد المجموعة(/36)
النشاط على مدار الأشهر ...
المسند إليه النشاط ...
ملاحظات
مسابقة الشريط / مسابقة الكتيب
...
عضو مسئول عن إحضار الأشرطة أو الكتيبات و إعداد أسئلة المسابقة وتجهيز الجوائز ... مع تجهيز جوائز قيمة
اقتراح : بعد فرز أسماء الفائزين
يختار عشوائياً 7 أسماء و3 جوائز تعمداً للتشيع على المشاركة أو لأنه لم تخرج أسماؤهم من الفائزين لوقت طويل لكي لا يتركوا المسابقة ... وهكذا
دعوة مرافق الحي
... ...
صالون حلاقة – مستوصف – بقالة – بوفية – مطعم
محلات أخرى ....
دعوة الجاليات
... ... بعد ما يتم حصر الجاليات من الخدم والسائقين والعمالة وجنسياتهم
دعوة عشاء
... ترتيب مهام لأفراد المجموعة ... عشاء خارج الحي يستهدف تأليف جذب القربين من الاستقامة . إعداد برنامج
دعوي بسيط مع عشاء
الرحلة الدعوية
... تجهيزات الرحلة وإعداها
بإشراف ............
تجهيز البرنامج الدعوي
بإشراف .......... ...
كل مشرف له أعضاء
توزيع الأشرطة لأصحاب السيارات في الحي ... ...
يعطى الشخص الشريط أثناء وجوده في السيارة لتوفير احتمال أكبر لسماعه في السيارة
تطهير المنازل من وسائل الشر ...
جميع الدعاة ... اختيار وسيلة شر وتفعيل حملة دعوية توعوية منسقة للقضاء عليها
استدعاء الدعاة لمسجد الحي
...
اثنان من المجموعة
يتم عن طريقهما التنسيق مع المشايخ وطلبة العلم ... مثلاُ كل شهر داعية ويختار الداعية اليوم المناسب له ، أو تحديد درس شهري منتظم لأحد المشايخ ، ولا بد من جلب طلبة العلم وتفيل دورهم بين حين وآخر لمسجد الحي
التبرع الشهري
...
كل مقتدر ... يتم في اللقاء الأسبوعي للدعاة ، في آخر أو أول أسبوع من الشهر
تجهيز الجوائز والهدايا من الأشرطة والمطويات ...... ... ...
أشرطة مختارة للتوزيع والتهادي
1- أين دارك غداً – خالد الراشد
2- دار المتقين – سعد البريك
3- المحرومون – إبراهيم الدويش
4- خدعوها – ناصر الأحمد
5- 40نصيحة لإصلاح البيوت – محمد المنجد
6- فتنة المسيح الدجال - منصور السماري
7- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله - محمد الشنقيطي
8- الحياة الطيبة – محمد الشنقيطي
9- ولو ترى إذ وقفوا على النار – سعيد مسفر
10- المشتاقون إلى الجنة - محمد العريفي
11- محرمات استهان بها الناس - محمد المنجد
12- من أخلا ق المؤمنات – محمد الشنقيطي
13- حدائق الموت – محمد العريفي
14- كيف تقوي إيمانك – نبيل العوضي
15-أختي في الثانوية – عادل العبد جبار ( هذا خاص للمعنيين به )
16- الأماني والمنون
17- قرع لأبواب السماء - بدرالمشاري
18- من حال إلى حال خالد الراشد
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
الدعوة في المنتديات الشبابية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه . وبعد ،،،،،،
تعلمون بُعد كثير من أبناء وبنات المسلمين عن المنهج الصحيح ، وركوبهم أمواج الشهوات ، في وقت كثر فيه أعوان الشر والتضليل ونشر الرذيلة وتغريب بنات المسلمين . وفي حين أصبح الحصول على الحرام من أسهل ما يكون وفي الوقت الذي أصبح شباب المسلمين في عزلة عن أجواء الإيمان ، و غاب فيه الرقيب ، وضعفت فيه همم البعض في المجال الدعوي .
إن الذي يتصفح ما يسمى (( بالمواقع الشبابية )) ، ليجد عظيم الأسى في نفسه لما آل إليه حال المسلمين ....
كلام يعج بالغفلة واللهو ، موضوعات ومشاركات غالبيتها تعكس صوراً من الجهل و تكشف عن محاذير شرعية وكبائر وتميع وتكسر وشهوات واختلاط وغرور من الأماني ..نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين .
وفي المنتديات الإسلامية نلمس بعض المشاركات الدعوية والأفكار الإصلاحية من البعض ، وهذا توفيق من الله فجزاهم الله خيراً .
لكن أين الكثير منهم عن المنتديات التي تعلوها سمات الغفلة والضياع.
رغم وجود دواعي الإصلاح الملحة في مثل هذه المواقع ، هناك حيث يحتاجون إلى كلمة صادقة وتذكير بالمعروف وعبارة رفيقة و موعظة مؤثرة وإزالة لبس وكشف شبهة وقد يكون لوقع دعوتك أثراً في نقلهم من الكفر إلى الإيمان ، ومن البدعة إلى السنة ، ومن المعصية إلى الطاعة .... فأين المشمرون ، أين المتلهفون لرحمة الله والدرجات العلى فالمجال كما ترون خصباً ، وذلك لمن يجد في نفسه القدرة على الدعوة بعلم وبصيرة وبضوابط الدعوة ، ويأمن على نفسه من الشبهات ومزالق الفتن والشهوات .
وأسأل الله أن يستعملنا لخدمة دينه وأن يلهمنا الصواب وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يغفر لنا عظيم تقصيرنا وزللنا .
أين تجد هذه المنتديات :
http://www.raddadi.com/montadayat.html
موضوعات للدعوة في المنتديات الشبابية
http://saaid.net/mktarat/shabab/index.htm
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
الدعوة عبر المنتديات الشبابية [ ضوابط ومميزات ]
* مقدمة :(/37)
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسوله و مصطفاه محمد بن عبد الله و على آله و صحبه و من والاه و بعد ... فإن الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة هي أشرف ما قضى الإنسان به وقته و هي وظيفة الأنبياء و المرسلين عليهم السلام ... قال الله تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) (فصلت:33) و قال تعالى : (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف:108) و قال النبي صلى الله عيه و سلم: (( لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم )) فمن هذا المنطلق القرآني الكريم وجب على المسلم اتباع سبيل الأنبياء و المصلحين و الدعاة الصادقين . و مع تغير أسلوب الحياة و تطورها في مجالات عديدة اختلف أسلوب الاحتكاك المباشر بالناس عما مضى ... فقد كان في السابق ينزل المصلحون إلى الناس في منتدياتهم و مساجدهم و أسواقهم لدعوتهم إلى الله تعالى و قد اختلف هذا الأمر اليوم بتطور الوسائل الحديثة ( التكنولوجية) فصار الداعية يتكلم إلى الملايين عبر المذياع أو التلفاز أو عبر طباعة الكتب و المجلات و الأشرطة وغير ذلك .. وحديثنا في هذه المقالة عن إحدى الوسائل الدعوية العصرية وهي الدعوة عبر الإنترنت وشبكته العالمية من خلال جزئية من أجزاء ذلك العالم ، وهي ما يسمى بـ)) المنتديات الشبابية ((
أهداف الدعوة عبر المنتديات الشبابية :
هي تلك الأهداف والمقاصد من الدعوة بمفهومها العام * فالمقصود والهدف الأعظم من الدعوة هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار، وينجوا من غضب الله، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة:257). فالرسل بعثوا ليخرجوا من شاء الله من الظلمات إلى النور، ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها لإخراج من شاء الله من الظلمات إلى النور، ومن العذاب إلى المغفرة والجنة، ومن طاعة الشيطان، والهوى إلى طاعة الله ورسوله.
* الواجبات التي يجب توفرها في الداعي إلى الله:
1) العلم بما يدعو إليه: قال الله تعالى:{هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} (يوسف:108) فالبصيرة العلم، وكذلك قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل:125)
2) العمل بما يدعو إليه ، وفي هذا المجال ( أن يكون مثالاً وقدوة صالحة ): قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:2-3) وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } (البقرة:44). وقول الله تعالى عن شعيب: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } (هود:81) وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه .
3) احتساب أجر الدعوة إلى الله: يجب على الداعي إلى الله أن يكون محتسباً لا يطلب على دعوته أجراً. قال تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ } (ص:86) وحتى لا يتهم في دعوته، وأنه لم يدع إلا للدنيا، ولذلك أمر الله جميع رسله أن يقولوا {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:109).وأتباع الرسل والأنبياء يجب أن يأتسوا بهم في دعوتهم إلى الله فتكون دعوتهم إلى الله من أجل دينه، واحتساباً لله، وبهذا تجد دعوتهم القبول، وتنتفي عنهم الظنة ويكونون بعيدين عن الشبهة.(/38)
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة في أماكن متعددة من كتابه الكريم منها الإخلاص: فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً لله عز وجل لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } (يوسف:108) .. وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } (فصلت:33) فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة\" (الدعوة وأخلاق الدعاة ص/36-37).
4) الصبر على الأذى: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (الفرقان:31).وقال صلى الله عليه وسلم: [أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل] (رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الجامع 993). والأذى في هذا المجال صوره أهون بكثير منه الأذى في المجالات الدعوية الأخرى .
5) الحرص على هداية من يدعوه: الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه فإذا كان من يدعوه كافراً كان حريصاً على إيمانه ساعياً في ذلك بكل سبيل، وقد كان سيد الدعاة والمهتدين وهو نبينا صلى الله عليه وسلم ليحزن أشد الحزن حتى يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته..قال تعالى معزياً ومعاتباً له: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6).. وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس. قال تعالى:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة:128).. وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } (النحل:37).. والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه سعى إلى ذلك بكل سبيل ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة، وأزال كل عقبة تصده عن الحق. وأما إذا اتصف بضد ذلك أهمل في دعوة من يدعوه، ولم يكترث لهدايته أو ضلاله..
6) اتخاذ الحكمة منهجاً وسبيلاً: أمر الله سبحانه وتعالى أن تكون الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى، قال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله-: " ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر" (من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص/64).
* أهمية اتخاذ الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رفيقاً كما قال صلى الله عليه وسلم: [ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه] (رواه مسلم). وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف]. ولهذا قيل: [ ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر] (رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد).
من مميزات الدعوة عبر (( المنتديات الشبابية )) :
1- تواجد المدعوين بفئاتهم في مكان واحد يوفر على الداعية تكلف البحث عنهم .
2- قلة التكلفة المادية للوسيلة الدعوية مقارنة بالدعوة الموجهة لكل فرد بعينه بواسطة المطبوعات والأشرطة ، كذلك من حيث الزمن فهي تختصر الأوقات .
3- الدعوة عبر المنتديات يمكن وصفها بأنه شبه مستمرة خلاف الدعوة التي تنظم خلال فترات زمنية متفاوتة .
4- حدوث التواصل بين الداعية والمدعو بلا عناء ولا سفر و على اختلاف بلدان المدعوين .
5- إمكانية تأجيل الرد فيما لو استلزم الأمر ، للبحث والسؤال بخلاف الدعوة الميدانية .
6- بقاء الموعظة والنصيحة ، بعد انصرافك لقضاء أعمالك الشخصية واليومية .
7- إمكانية إنشاء جسور من الثقة لإتاحة المجال لقبول الدعوة عن اقتناع .
8- الوقوف على بعض الأخطاء من قريب لعلاجها أو الحد منها .(/39)
9- إمكانية إرسال رسائل خاصة لا يمكن للأعضاء الآخرين الاطلاع عليها ، واستخدام هذه الخاصية في الإنكار السري أو الحث والتشجيع .... .
10- تكوين علاقة أخوية عبر البريد الخاص لمن يغلب على مشاركاته الصلاح ومن ثم إذا وجد منه التوجه الصحيح يرغبه في الدعوة إلى الله بهذا يمكن الحد من المنكرات أو كسبه في دعوة غيره.
11- تكوين مجموعة دعوية داخل المنتدى تتفاهم فيما بينها على سلوك طريق مناسب في الدعوة وتنسيق العمل فيما بينهم ، وذلك بعد ملاحظة مشاركات الأعضاء والحكم على شخصيات أصحابها وقد تكون هذه المرحلة متقدمة و لكن يمكن تشكيلها على فترات .
ملحوظة ينبغي التنبه لها : من تستقيم كتاباته أو يصلح حاله من الأعضاء من الطبيعي أن أغلب ضوابط وشروط الدعوة إلى الله لا تتوفر فيه ، لكن قد يدعو إلى الله في بداية الأمر عن طريق اختيار المواضيع الدينية الموجهة لتلك الفئات مع أهمية إرشاده إلى طرق التثبيت على دين الله حتى يقوى عوده في دين الله ، ويرشد أيضاً إلى زيارة المنتديات الإسلامية الموثوق بها .
قبل البدء في المشاركة في المنتديات الشبابية : يفضل دخول أكثر من داعية في المنتدى الواحد لتقوية الجانب الدعوي فيه مع ملاحظة أهمية التنسيق فيما بينهم إزاء ذلك .
نقاط ينبغي التنبه لها أثناء الدعوة عبر هذه المنتديات .
1- تجنب مواطن الزلل والحذر من شوائب الفتن وميل النفس والهوى .
2- تثبت فيما تكتب ، ولا تكتب شيئاً يحمل على محمل لا تريده أو يفهم منه مفهم سيئ أو رغبة في شيء أنت لا تقصده فأنت تتعامل مع فتيات وأناس أغلبهم ليس حالهم الصلاح .
3- الحذر بعض الاطراءات وعبارات الشكر والتعامل معها وفق ما يرضي الله .
4- لا تكتب بصيغة الكاتب المتفضل وتجنب الرد الغليظ واظهر لهم الخوف عليهم وإرادة الخير لهم .
5- اتخاذ الطرق السليمة في الإنكار و النظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة .
6- التنوع في طرح المشاركات وتجنب كثرة المشاركة أو تطويلها الممل .
7- إشعارهم بضرورة النصح والتذكير وأن البركة في الجماعة وأن المسلم قوي بإخوانه .
8- شكر من يتجاوب مع مشاركتك وكذلك شكرك لأصحاب المشاركات الجيدة .
9- تقوى الله في الأمر كله والاستعانة به وطلب العون منه والتضرع إليه .
أين تجد هذه المنتديات :
http://www.raddadi.com/montadayat.html
موضوعات للدعوة في المنتديات الشبابية
http://saaid.net/mktarat/shabab/index.htm
أسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يستعملنا في طاعته إنه ولي ذلك والقادر عليه
أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
حتى تنتصر على الشيطان بإذن الله :
1-التوكل على الله وهو صدق الاعتماد على الله وتفويض الأمور إليه . والتعلق به ، مع الأخذ بالأسباب دون التعلق بها .
2- ترك المعاصي ومفسدات القلب من كثرة النظر المباح ، وفضول الكلام ، والأكل الكثير ، والنوم الكثير .. فضلاً عن ترك المعاصي ، التي هي شؤم على العبد وحاجز عن نور الله .
3 – قراءة القرآن :
أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في شهر ، فالسنة أن تختم القرآن في شهر ومقتضى ذلك أن يكون كل يوم جزء ، ولكن هذا ليس يشرط ولكن شرط السنية أن تختم في شهر ولو تفاوت القراءة في يوم عن يوم .
والمهم أن يقرأ الإنسان من القرآن كل يوم ، يجعله ورداً وهذا على كل مسلم ينبغي له ذلك لأنه هو شفاء القلوب وهو جلاء الهموم وهو مثبت عظيم على الإيمان وله تأثير قوي في دفع كيد الشيطان .
2- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم : بقول (( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه )) وهذا جاءت به السنة . والهمز جنونه ، والنفخ كبره ، والنفث شعره .
وكذلك بقول (( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) .
ولا حظ أن الاستعاذة بالله ذكر سببي منوط بمسببه ، ففي أي وقت جاز لك هذا الذكر ما دام تشتكي كيد الشيطان .
3- الدعاء : وخاصة في أوقات الإجابة كعند السجود بعد قول سبحان الله ، وفي التشهد الأخير ، وفي الثلث الآخر من الليل ، وعند الفطر في الصيام ، وفي السفر ، وعند نزول المطر ، ودعاء الوالدين لك ، وبين الأذان والإقامة ....
وآخر ساعة من اليوم الجمعة وأرجح ما قيل فيها :
أ - أنها من صعود الإمام حتى ينصرف الإمام من الصلاة
( فتدعو بين الخطيتين وبعد انتهاء الخطبة وأثناء نزول الإمام وفي أثناء الصلاة ) .
ب – آخر ساعة من يوم الجمعة : فإذا صليت الجمعة اشتغل بالذكر وقراءة القرآن فإذا أدركت آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب شمس يوم الجمعة اشتغل بالدعاء . وقال ابن باز رحمه الله لعل ساعة الجمعة كليلة القدر لا تثبت في ليلة معينة بل تتنقل من ليلة إلى أخرى .
فأنت إذا دعوت في هذين الوقت أدركت ساعة الإجابة بإذن الله .
ولا تتعجل ولا تقنط وأعلم أنك على خير ومجرد الدعاء عبادة وأنك مثاب عليها بكل حال كما صح في ذلك الخبر .(/40)
4- مع القيام بالواجبات ؛ الاشتغال بنوافل الطاعات مثل صيام الأيام الفاضلة ، قيام الليل ، صلاة الضحى ، التبكير للصلاة ، إجابة المؤذن ، الصدقة فإنها تطفي غضب الرب .....
5- لزوم الاستغفار فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم مخرجا .
6- طلب العلم وهذا ما يخشاه الشيطان ويخافه فهو سلاح المسلم وطريق عبادة الله على بصيرة .
7-- أذكار اليوم والليلة وأذكار الأحوال والمناسبات : وخير مرجع مناسب هو حصن المسلم لشموله وسهولة تبويبه وخفة حمله .
قال صلى الله عليه وسلم سبق المفردون ، فقالوا من يا رسول الله ، قال : الذاكرين الله كثيراً والذاكرات . فالذكر حصن حصين من الله ضد الشيطان ..
أذكار الأحوال والمناسبات ، وقد تقدم ذكرها ، ولكن لمزيد اهتمام بها أوردها هنا . وركزت على مايحفظ الله به المسلم من كيد الشيطان
فمن ذلك :
دعاء الدخول إلى الخلاء :
" بسم الله ، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول : بسم الله ))
********
عند الدخول إلى المنزل
" إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لامبيت لكم ولاعشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت ..." رواه مسلم
********
عند الخروج من المنزل
" اللهم إني أعوذ بك أن أضِل أو أُضَل أو أزل أو أُزل ، أو أظلِم أو أُضلم ، أو أجهَلَ أو يُجهل علي ". صحيح ( صحيح سنن أبي داود 959/3 )
من قال حين يخرج من بيته :" بسم الله ، توكلت على الله ، لاحول ولاقوة إلا بالله ، يُقال لهُ : كفيت ووفيت ، وتنحى عنه الشيطان ". صحيح ( صحيح الترمذي 151/3 ( والخير أن يجمع بينهما . .
********
بعد صلاة الصبح والمغرب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين ينصرف من صلاة الغداة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير"، عشر مرات أعطي بهن سبعاً: كتب الله له بهن عشر حسنات، ومحا عنه بهن عشر سيئات، ورفع له بهن عشر درجات، وكان له عدل عشر نسمات، وكان له حفظاً من الشيطان وحرزاً من المكروه، ولم يلحقه في ذلك اليوم ذنب إلا الشرك بالله. ومن قالهن حين ينصرف من صلاة المغرب أعطي مثل ذلك ليلته. [قال المنذري رواه ابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد حسن واللفظ له].
ملاحظة :
وبدل - بيده الخير - تقول : يحي ويموت ويستحب التنويع مرة بهذا ومرة بهذا
وهذا الذكر يقال بعد الصلاة من الفجر والمغرب بعد الفريضة وقبل أن يثني رجليه وأن يكلم أحداً كما جاء بذلك الخبر المثبت .
************
" أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " ثلاث مرات في الصباح وثلاثاً في المساء
********
عند الخروج من المسجد
" بسم الله [ والصلاة ] والسلام على رسول الله ، اللهم اغفر لي ذنوبي " صحيح ( صحيح ابن ماجه 128/1) الزيادة لابن السني وحسنه الألباني " اللهم إني أسالك من فضلك " (رواه مسلم 494/1)" اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم " صحيح ( صحيح ابن ماجه
********
قراءة قل هو الله أحد " ، " قل أعوذ برب الفلق " ، " قل أعوذ برب الناس " ثلاث مرات حين تصبح وحين تمسي تكفيك في كل شئ . حسن صحيح الترمذي
(( لاحظ تكفيك من كل شيء )) .
********
مامن عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة :" بسم الله الذي لايضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم " . ثلاث مرات فيضره شئ . حسن ( صحيح الترمذي 141/3 ) وفي رواية أبي داود " لم يصبه فجأةُ بلاءٍ . (( لا حظ أخي لم يضره شيء وهذا عام ضرر الشيطان وكل ذي ضرر ))
********
" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " ( كذكر مسائي ثلاث مرات وكذكر عند المكان المخوف مرة واحدة ولا يقال هذا الذكر في الصباح بمقتضى الدليل )
********
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال حين يصبح وحين يمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة .
(( لا حظ أخي كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة ))
********
من قال حين يصبح : " لاإله إلاالله وحده لاشريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل ، وحط عنه عشر خطيئا ت ، ورفع له عشر درجات وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي وإذا أمسى حتى يصبح . صحيح ( صحيح سنن ابن ماجه 331/2 )
وفي رواية لمسلم من قال ذلك عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل . وفي رواية أخرى لمسلم من قال ذلك مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب . وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة . وكانت له حرزاً من الشيطان ، يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك . مسلم
********(/41)
قال صلى الله عليه وسلم: " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه "
(( لا حظ كفتاه يعني من كل شيء كما قال بذلك بعض أهل العلم ))
********
· قراءة آية الكرسي عند النوم يكون قائلها في حرز من الشيطان حتى يصبح
********
إذا رأى مايكره في منامه فيفعل مايأتي :
- " ينفث عن يسارهِ ثلاثاً ".
- " يستعيذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات ".
- " لايُحدثُ بها أحداً ".
- " يتحول عن جنبه الذي كان عليه ". (رواه مسلم
*********
عند إتيان الأهل
" لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان مارزقتنا ، فإنه يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً ". ( متفق عليه .
إعداد أخوكم في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
إذن .... سافر ولا تتردد
[ آمل أن تقرأ أخي المسافر هذه الكلمات ... وأنت أختي المسافرة .. ، وآمل أن توصلها أيها القارئ الكريم لمن نوى سفراً ،،، داعياً الله لكم التوفيق في الحل والسفر ] أخوكم ..... مشرف موقع طريق الدعوة
حالتان .... تستطيع أن تسافر فيها بدون تردد ؛ الحالة الأولى ...
إن كنت قصدت في سفرك طاعة الله ؛ فسافر عندها ولا تتردد ..
والحالة الثانية ... إن كنت تنوي في سفرك معصية الله !!! فأيضاً سافر ولا تتردد !
لكن بشرط ! أن لا تجعل الشهود الأربعة - الذين هم معك - يسجلون عليك أخطاءك !!!
شهود أربعة !!! أمعي شهود أربعة ؟! نعم ...... شهود يحصون عليك ما تفعل ....
تعرف عليهم أولاً ، فإن استطعت إيقافهم عن مراقبتك ، أو استطعت كفهم عن تسجيل أخطائك ... فسافر ، وبدون أي تردد
الشاهد الأول :
الأرض ..... قال تعالى " يومئذ تحدث أخبارها " أي تخبر بما فعل عليها ... فمهما تخيرت مكان لتسافر إليه ، فلن يكون إلا لأرض الله
.... فكيف تهرب من شهادة الأرض عليك ... كيف بك إذا شهدت عليك وقالت : علي شرب الحرام ، وعلي وقع في الفاحشة . وعليها
تهاونتِ أختي في الحجاب ، ولم تبالِ بالخلوات المحرمة مع السائق أو غيره ..... سوف تحدث الأرض أخبارها يوم القيامة ، فكيف إذا
انكشف ما كان مستوراً ! وبدت فضائح مخفاة .... في يوم مشهود ..." يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية " .
الشاهد الثاني :
الملائكة الموكلون بك ، فمهمتهم إحصاء أعمالك وتدوينها . قال الله تعالى " وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون "
يسجلون عليك تضيعيك للصلوات والواجبات ، يسجلون نظراتك التي أطلقتها ترتع في ما حرم الله ، يسجلون حديثك الفاحش ، يسجلون
معاصيك في ليالي الرقص والغناء ومسامرة المنكرات ... وسفرك أختي بلا محرم ، وتوسعك في الاختلاط ، وخروجك سافرة أو متعطرة ليجد الرجال رائحة عطرك ، و تكسرك في حديثك مع الرجال كل ذلك في كتاب .....
قال الله تعالى " ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجودا ما عَمِلوا حاضراً ولا يظلمُ ربك أحداً "
فكم من معصية حُجبت عن أنظار الناس ...... وأغلقت دونها الأبواب ..... لكنها رصدت في كتاب
الشاهد الثالث :
الأعضاء والجوارح ... التي تسخرها اليوم بإرادتك في المحرمات ، والله لا تدري فقد تفضحك وتشهد عليك غداً
وبدون إرادتك !
ألا تنظر بعين عقلك وحيائك .... هذه الأعضاء جعلها الله عوناً لك فيما يرضيه ، فجعلتها عوناً على معصيته !!!
وهل تظن أنك تستطيع كف شهادتها عليك ؟! كيف وقد قال الله تعالى " الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ " فعندها تسقط كل حيلك وتفشل كل مبرراتك . قال تعالى " وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
فبم تجب ؟! إذا قالت الرجل أنا للحرام مشيت ، وإن نطقت العينان وقالت أنا للحرام رأيت ، وإذانطق جلدك وقال أنا للحرام استمتعت وبالحرام تلذذت . كبف بك والكرب عظيم ، والموقف عسير ، والفضائح تنشر في موقف يشهده الأولون والآخرون ؟!
الشاهد الرابع :
الله عزوجل ..... سبحانه ونعالى .... تبارك رب العالممين ..... ولولم يشهد عليك إلا هو فكفى به شهيداً .. الذي وسع سمعه
المسموعات ووسع بصره المشاهدات .. قال الله تعالى " أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " ... الذي أحاط بكل شيء علماً ... يعلم ما توسوس به النفوس ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .....
فإن نويت شراً في سفرك ....فعليك - إن استطعت ! - أن تقصد مكاناً لا يراك الله فيه فافعل مابدالك !
وإن كنت تعلم أنه يمكنك التخفي عن نظر الإله إليك حتى لا يشهد عليك وأنت تعصيه !!! فسافر ولا تتردد !
فوالله ياإخوتاه ... إن الأمر عظيم ... وإلا .. لم يكن علينا من الله شهود أربعة !!!(/42)
فاللهم جنبنا الزلل ومنكر العمل ،،، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ... آمين .
أخوك في الله
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
مليارات الحسنات في لحظات
إخوتي في الله ......
بداية اسمحوا لي أن أوضح لكم ما دعاني لكتابة هذا السطور !
كم من مرة مر بكم هذا الحديث " من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة "
وهو حديث رواه الطبراني وحسنه الألباني .
مثلكم أنا .. قد مر بي هذا الحديث ، لكن الذي استوقفني هذه المرة ، و ما لفت انتباهي هو زهدنا في
تطبيقه ، وزهدنا في نشره وتعميمه !!
فلو طبقت هذا الحديث بإذن الله ستكسب مليارات الحسنات وفي لحظات !!!
حسناً .... لو نشرت هذا الحديث في مجالسك ومجتمعك ومسجدك وعملك ... وصفحات الإنترنت .... كم ستكسب ؟!
لو أنك كلما دعوت لنفسك دعوت للمؤمنين والمؤمنات .... فكيف سيكون
رصيد ك من الحسنات ؟!
ألا تلاحظ .... تهافت الناس على شراء الأسهم ( مثالاً لما يحصل اليوم في واقعنا ) وهي لا تعدل
لا في الكم و لا في الكيفية ولا في الوقت ولا في المؤنة ... أثر تطبيق الحديث السابق .
علمتم الآن حجم تفريطنا ؟!
لكن اليوم ...... وأنا أتصفح صفحات الإنترنت وجدت هذا الحديث ، فقرأته .. لكن لا كالمرات
السابقة ! قرأته واندهشت إخوتي لما فكرت في الخير الذي حرمنا أنفسنا منه !
فقلت سأنشر هذه السطور ؛ علي أفوز وإخوتي بملايين الحسنات في ثوان معدودات .
إنها الحسنات الجارية أيها الكرام ... إنها الغنائم الباردة ،، فالحمد لله حمداً حمداً .
قال صلى الله عليه وسلم " من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة " .
وأفضل صيغ الدعاء ؛ أن تدعو بما جاء في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة .
من ذلك ما جاء في كتاب الله العزيز : (( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين
والمؤمنات )) ويصح بأي صيغة صحيحة مثل : اللهم اغفر لي وللمسلمين أجمعين . ونحو ذلك ...
وأخيراً ..... كم لأصحاب المواقع من ملايين الملايين من الحسنات إزاء نشر هذا الموضوع
و تمكين زوار مواقعهم من تطبيق ما جاء فيه ؟!
وكم من ملايين الحسنات تنتظرك أيها القارئ إن نشرت هذا الموضوع في مجتمعاتك الخاصة ، والمواقع
والمنتديات والمجموعات على الشبكة العنكبوتية ؟!
لا تنس : (( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات )) .
أخوكم / مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
من يخبرهم أو يوصل لهم رسالتي !!
تعاوناً على الإصلاح ... أسأل الله أن تلقى هذه الرسالة أكفاء
من المشمرين الغيورين لتذهب لطريقها الصحيح
استراحة لالتقاط الأنفاس
( رسالة لأصحاب المواقع والمجموعات )
إلى كل صاحب منتدى أو موقع أو مجوعة بريدية أو شات .....
إلى صاحب أي موقع مهما كان نشاطه .... أقول :
كم هو جميل أن نسعى لتحقيق هدف رسمناه لأنفسنا .
وكم هو جميل أن نجني ثمرة جهدنا ، ونتفيأ ظلال غرسنا بعد أن أصبح الحلم واقعاً
فيا صاحب الموقع - أيا كان نشاطه ومجاله – هل من استراحة بعد هذا الجهد
استراحة لالتقاط الأنفاس ، وقد يعقبها انطلاق بحماس !
أتتلطف وتخبرني علام حرصت في موقعك ؟
وما ذا يحوي من مضمون ؟
هنيئاً لك .... وشكر الله لك سعيك إن كنت تحرص على تقديم الخير خلال موقعك
أما لو اشتمل موقعك على شيء - مما سأذكر - فكلي رجاء أن ترعني سمعك لأبث لك حديثي
الأخوي النابع من حرصي عليك ، وتأكد أني لن أتركك في نهاية الأمر حائراً بل سأمد لك يدي مرشداً .
ولعلك الآن تتساءل ما الأشياء التي تخشى أن يحويها موقعي ؟
حسناً ، فهذه بعض المخالفات التي قد توجد في بعض المواقع من منتديات أو مجموعات بريدية أو مواقع الدردشة أو مواقع شخصية ( سنذكرها ثم نرجع لحديثنا الأخوي كما اتفقت معك ) :
1- ترويج عقيدة باطلة ومنهجاً يخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، أو تحقير شيء جاء به الشرع أو الاستهزاء به أو بفاعليه من الصالحين والصالحات سواء كان مباشراً من الموقع نفسه أو إعطاء الغير المجال لذلك .
2- عرض صور النساء ، وقد حرم الله نظر الرجل للمرأة إذ هو مأمور بغض النظر وكذلك المرأة لا يجوز لها النظر للرجل إذا صحبت نظرتها إعجاب أو شهوة . وقد تكون الصور في توقيع ثابت أو خلفية ؛ يراه من أراد ذلك والآثام جارية على كل من تسبب في هذا المنكر .
3- كلمات الشعر والغرام الذي يدعو إلى التلاقي المحرم أو يصوره أو يأجج الفتنة بين الجنسين . وهذا طبعاً يؤدي إلى شر وفحش ... وهذا محرم فالوسيلة لها حكم المقصد وبعض الكلمات تحرك إلى سلك المقصد المحرم فتكون بذلك محرمة .(/43)
4- نشر وترويج الأغاني بالدعوة إليها أوالحديث عنها أو وضع وصلة غنائية ، والغناء محرم بالكتاب والسنة . قال تعالى " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن لهو الحديث هو الغناء . والأدلة في ذلك كثيرة .
5- الكتابة عن أهل الطرب والفن الهابط عموماً والتعرض لشيء من أخبارهم والاحتفاء بالفسقة مروجي الضلال ، ولو رضينا بصنيع هؤلاء المغنين أو الممثلين لكان ذلك حرام علينا ؛ لأن الرضا بالمنكر وإقراره لا يجوز ، فكيف بالإشادة بفاعليه !! .
6- الدلالة على موقع فيه منكرات أو صور خليعة أوأشياء محرمة عموماً ، ويظن أنه قدم خدمات نافعة للأعضاء والزائرين ( والله أعلم بهدف صاحب الموقع ) وهو على كل حال قد قدم سيئات لهم ، تجري عليه بقدر ما دل على هذا الضلال .
7- إيراد النكت وهذا مما يشاع وينتشر وتعمر به مجالس ويسميه البعض مزاحاً وحقيقته كذب ؛ يقال لقصد إضحاك الناس ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له )) ومن أراد المزاح فليكن ذلك بلا كذب وبدون محاذير شرعية وأن يقلل منه ولا يستكثر . وقد قال صلى الله عليه وسلم (( إني لأمزح ، و لا أقول إلا حقا )) صحيح الجامع 2494 . وقد إفردت مساحات للنكت في بعض المواقع ؛ فسبحان الله .
8- بسط الحديث بين الجنسين على شكل يأجج الغرائز ويسهل الفاحشة كما يحدث في مواقع الدردشة وبعض المنتديات تتطور إلى حديث عبر الماسنجر أو تبادل أرقام الجوال وإنشاء علاقة محرمة قد تسبب في إحداثها صاحب الموقع ، شعر بذلك أم لم يشعر .
والآن ...... دعني أحدثك عن عكس ذلك ... فلطالما شاهدت مواقع أسست للخير وطمعاً فيما عند الله
" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " بل إن في الإنترنت كتابا يبحثون عن الأجر عن طريق الدلالة عليه فتجدهم يكتبون ؛ هل تريد أن تصوم رمضان أكثر من مرة فيذكرونك بإفطار الصائمين وأن لك أجر صيام من تفطره .
ويذكرونك بصيام بعض الأيام كيوم عرفة وعاشوراء و .... وغير ذلك من المناسبات حرصاً منهم في نهاية الأمر على حصول الأجر من الله تعالى .
فلماذا يحرص بعض أصحاب المواقع على المعاصي ومن أجل ماذا ؟!
أم من أجل تحصيل شهرة أم تجارة أم مجرد نشوة تحقيق حلم أم إعجاب الناس وثنائهم .....
سبحان الله لماذا نحن في أحيان كثيرة نبعد بتفكيرنا عن أن هذه الدنيا ما هي إلا امتحان ، هي فترة امتحان فإذا قضيت هذه الفترة حُوسبنا على ضوء حياتنا في تلك الفترة .
سبحان الله ... كيف يصر البعض على الخطأ ويلازمه ، وهو يعلم علم يقين أن وراءه يوم يسأل فيه عما اقترفته يداه ؟!
فيا صاحب الموقع كن عاقلاً وتأمل ... ما قيمة المال أو الشهرة أو إعجاب الناس أو، أو .... ما قيمة كل ذلك على حساب دينك ؟!
ما قيمة ثناء الناس مقابل غضب الله رب الأرباب ؟!
تعلم أنه لو رضي عنك أهل الأرض جميعاً ما نفعك ذلك مقابل سخط الله عليك
إذن ما قيمة عمار علاقتك مع الناس وأنت تهدم علاقتك مع رب الناس ؟!
إلى متى هذا الإصرار وأنت تعلم أن أنفسنا في صدورنا إنما هي ودائع لله ، ولا بد لرب الوديعة أن يأخذ وديعته !!!
عن أبي هريرة أن رسول الله قال " من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا “ وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي قال ” ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل”
فكم من عضو وزائر ستضل ؟ وقد يفتتن البعض بصورة أو كلمة أو معنى ... أو تكون أنت من خلال موقعك هذا جسراً سهلاً لوصول الشاب بالفتاة ! .
وها أنا أخوك في الله ... أذكرك وأقول لك ما قاله صلى الله عليه وسلم " التائب من الذنب كمن لا ذنب له "
نعم كأنه لم يذنب بتاتاً ، فارجع إلى الله واستغفر من ذنوبك وأقلع يغفر الله لك ما مضى .
ولا تكابر . فإن فرعون استكبر عن الحق فما نفعه استكباره . ولا تحاول أن تغمض عينيك عن هذا الكلام أو تضع أصابعك في أذنيك ، فإن هذا ليس حلاً فقوم نوح عليه السلام استغشوا ثيابهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم فلم يسلموا من العذاب .
فإن الحق قد جاءك فهل تريد أن تعرض عنه ؟! وتتحمل عواقب ذلك
أم أنك ستعلنها توبة إلى الله ، وتغلق هذا الموقع الذي جعلته بوابة للمعاصي تأتيك من كل صوب ؟!
قال الله تعالى " إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً "
فكن ذا عزيمة وأرحم نفسك بقطع دابر هذا الموقع ، وتذكر أن من ترك شيئاً لله ؛ عوضه الله خيراً منه .
وإن كنت ذا إمكانيات فسخر إمكانياتك في طاعة الله وافتح لنفسك باب خير ونعيم عند الله لا ينفد
فتستطيع بإمكانيتك هذه أن تنشئ موقعاً يخدم الإسلام والمسلمين ويغدق عليك من الحسنات ما تنشرح به صدرك في الدنيا وتسعد به في الآخرة إن شاء الله .
فهذه نصيحتي لك تمت وأسأل الله لي ولك التوفيق .
أخوك(/44)
مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com
25 خطوة عملية في بناء الثقة بالنفس
1- ثق بنفسك أو على الأقل تعايش مع نفسك بالثقة حتى تصبح حقيقة .
2- لا تردد كلمة أنا فاشل تجاه ما لم تستطع إنجازه .
3- لا تعط فرصة أبداً للوهم أن يخلخل عزيمتك وللوهن أن يثني إرادتك .
4- اشغل نفسك بالتفكير في أي شيء نافع خوفاً من تسلق الأفكار الهدامة إلى مخيلتك .
5- اشغل نفسك بالعمل لقتل كل وقت يمكن أن يأتيك فيه الإحساس بالفشل .
6- لا تنقل إخفاقك للآخرين وحافظ على هدوئك .
7- تذكر أن الشيطان حريص ليحزن المرء المسلم بأي شكل من الأشكال فإذا أحسست بهجماته فاستعذ بالله منه .
8- شارك في صياغة العمل الخيري ، نظم وقتك ، جدول أعمالك ، تنزه ، زر صديقاً ، اقرأ ، أكتب ، أبرز قدراتك ..........
9- اصرف نظر تماماً عن فكرة وقوعك تحت مراقبة الآخرين .
10- لا تعطي الأشياء أكبر من حجمها وتهول الأمور فوق طبيعتها لئلاً تجعل فشلك أمر فيك لازم والخسارة حليف لك دائم .
11- تذكر أن الانغماس في التفكير بأنك لا تستطيع التغلب على مشاكلك يجعل فشلك أمر مسلم به في أي قضية تحاول علاجها ، وتصبح واقفاً على أرضية مهزوزة لا تثبت عليها وتتملكك الأفكار التسلطية .
12- شعورك بالضعف أو ترديدك لعبارة ( أنا فاشل ) يجعل ذلك جزء من شخصيتك تنبني عليه أسباب مواقفك السلبية مستقبلاً .
13- خوفك من حصول موقف خلاف المعتاد ، يلومك عليه الآخرون يشل قدرتك ويخدر طاقاتك .
14- لا تتذكر عبارات التوبيخ ، وكلمات النقد الجارحة ، والمواقف السيئة في حياتك .
15- تجاهل المصادر الخارجية التي حولك واصنع أنت القرار .
16- تأكد بأنك لك هدفاً وغاية عظيمة لا تستوقفها توافه الأمور وعوارض الحوادث .
17- أحب نفسك ولا تحتقرها ولا تجعل من نفسك جلاداً لنفسك !
18- أزل فكرة أنك مظلوم ، أو أنك مهمش ، أو أنك ناقص عن غيرك ، بل أشعر نفسك بالاعتزاز والإرادة القوية والعزيمة الماضية .
19- لا تصنع لنفسك محيط عداوة ، وجو من الشكوك وسوء الظن بالآخرين ، وترصد مكيدة ، وتحين انتقام ، بل غض الطرف و تجاوز .
20- لا تقف عند التجربة الأولى ، وأعلم أنك على خير مادام أنك تجاهد نفسك ، وأعلم أن المثوبة على قدر النصب .
21- أن لم تصل لهدفك فاجعل دأبك التحدي واتخذه طريقاً يوصلك إليه .
22- الزم الدعاء وتحين أوقات الاستجابة .
23- " احرص على ما ينفعك واستعن بالله " كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم .
24- لا تنس أن قوة علاقة المسلم بالله حبل متين وحصن منيع " ومن يتق الله يحعل له مخرجاً "
25- أداء الفرائض والإكثار من نوافل الطاعات تخلق فيك العزيمة والثبات ، وطمأنينة الحاضر وتفاؤل المستقبل .
والله أعلم ،،،،
أخوكم / مشرف موقع طريق الدعوة
http://www.tttt4.com(/45)
رسالة إلى السائح المسلم
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فهذه كلمات أبثها إليك أخي المسلم، يا من أراد التفكر في ملكوت الله، يا من أراد إدخال السرور إلى قلبه، يا من يعجبه التجوال في البلدان والسياحة في الأرض، خذ مني هذه الوريقة وتقبلها بقلبك، وأرعها سمعك وبصرك - حفظك الله - .
هل تريد أن تربح في سياحتك؟ وهل تريد أن يغبطك الناس على ما أنت فيه؟ وهل تريد أن تشعر بأنك تقوم بعمل عظيم؟ هل تريد أن تكون حامل رسالة؟
إليك إجابة ذلك مجملاً، ما عليك إلا اتباع بعض إرشادات السياحة:
1. التزم بآداب السفر.
2. غض بصرك عما حرم الله.
3. إياك والتبذير، واعلم أن سفرك إن كان مباحاً فإنه قد يكون حراماً في حالة إسرافك بالمال فوق الحاجة، أو تقصيرك في أداء واجبات.
4. احرص على الدعوة إلى الله في سفرك، وبهذا تكون داعية متنقلاً، تجوب الأرض في سبيل الله - تعالى - .
5. إياك و التقصير في حق أهلك ومن تعول.
6. اجعل من سفرك انطلاقة للخير.
7. أكثر من ذكر الله وتطبيق سنن السفر.
8. اختر المكان المناسب وليكن بعيداً عن أماكن الاختلاط والعري، والفساد.
9. لتكن دائما أماكن سياحتك مناظر خلابة، وأراض بديعة الخلقة؛ ليكون أدعى للتفكر في مخلوقات الله، ولتتذكر نعمة الله عليك.
10. تذكر نعمة الله عليك وأدِّ شكرها ليمدك الله بمثلها وأزيد منها، فغيرك مريض لا يقدر أن يغادر فراشه، وغيرك حبيس لا يقدر أن يجاوز سور السجن أو يرى دون ظلمات الحبس.
11. كن دليل خير أين ما نزلت، وقاصد خير أينما رحلت.
12. احمل معك كتباً ومنشورات تقرأها عند أوقات انتظارك وفراغك، أو تهديها عند تعرفك على صديق جديد.
13. خذ تجربتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا نزلت السواحل أو المنتزهات، أو أي مكان؛ لتعرف قدر نعمة الله عليك بالهداية، ولا تيأس ولا تقنط، واعلم أنك ستجد لذة الدعوة إلى الله عندما تجد من يصغي لك، وترى من هو بحاجة إلى كلامك الشفيق.
واعلم أخي السائح أنك في الحقيقة سائح في هذه الدنيا، فلا خير في سياحة خاسرة، لا هم لصاحبها إلا التجوال في الأرض، وإمتاع بصره ونفسه!!.
اللهم متعنا بأبصارنا وأسماعنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا، يا رب العالمين.(/1)
رسالة إلى الملوك والرؤساء العرب
بقلم :المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
الأستاذ مصطفى مشهور
فى عام الفيل وفى شهر ربيع الأول ، ولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من أسرة معدنها أصيل ، لها شأنها فى جزيرة العرب ، نسبها عريق ، اجتمع لها كل ما فى العرب من فضائل ، ولد صلى الله عليهم وسلم من نكاح طاهر ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم أى الناس أكرم ؟ قال فعن معادن العرب تسألونى ؟ قالوا نعم، قال : فخيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا) البخارى ومسلم ، ولقد تكفل الله بحفظه ، وظل طوال حياته النموذج الكريم ، والطراز الرفيع ، والأسوة والقدوة الحسنة ، قبل النبوة وبعدها قال تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ولقد أراد الله له أن يحمل أثقل رسالة من ناحية التكاليف فى تاريخ البشرية ، فقال سبحانه وتعالى له (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) المزمل ، وقال له (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) سورة هود ، وقال له (يا أيها المدثر قم فأنذر) فقام يدعو ويبلغ ويجاهد ، وقال لخديجة "مضى عهد النوم يا خديجة" وظل كذلك حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم .
إن فى سيرته وفى حياته صلى الله عليه وسلم وفى صبره وتحمله الأذى من قريش ومن العرب ، ثم شجاعته وقوته فى مواجهة الباطل والمبطلين لدروس وعبر ، تحفظنا من الحيرة والإحباط الذى قد يشعر به البعض من غريب ما ينزل بالمسلمين وما يحيط بهم من نكبات ، وما يحاك لهم من فتن ، بل من شأن القرب من حياة الرسول أن يوقظ الهمم ويقوى عزائم الشعوب المغلوبة على أمرها ، فلا تستكين للظلم ، وتأبى الضيم ، وترفض اليأس أو القنوط .
إن وقفته صلى الله عليه وسلم أمام قريش ، وأمام عمه حين ظن أنه سيخذله وقوله له "والله يا عم لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ، ما تركته" لهى وقفة يجب أن نتأملها وأن نتأسى بها .
كما أن قوله صلى الله عليه وسلم لخباب بن الأرت رضى الله عنه ، وقد جاءت به قريش ووضعوا ظهره على الحجارة المحماة وقت الظهيرة حتى اكتوى ظهره فجاء إلى النبى يشكو ما أصابه ، فماذا قال سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم قال "لقد كان الرجل من قبلكم يمشط بأمشاط من الحديد ، حتى يخلص ما دون عظمه من لحم وعصب ، ويشق بالمناشير ، فلا يرده ذلك عن دينه ، ولكنكم تستعجلون ، والله ليمضين الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" توجيهه للثبات والاحتمال ، وتبشيره بالمستقبل الكريم لهذا الدين .
إن الشعوب العربية والإسلامية ، يجب أن يحدوها الأمل فى أن المستقبل للإسلام وأن أعداء الإسلام يحفرون قبورهم ويضعون نهايتهم بأيديهم والحق سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد، وأن نهاية يهود قد دنت فقد اقترب الوعد الحق (وإن عدتم عدنا) وأن دماء الشهداء فى فلسطين هى التى تنزلق فيها أقدام الصهاينة المجرمين فتهوى بهم إلى القاع وبئس المصير.
وبمناسبة ذكرى المولد النبوى الشريف ، أذكر ملوك وحكام العرب ، بان الإخوان المسلمين دعاة الإسلام الخالد ، والسلام الحقيقى ، وهم يتشرفون بحمل الرسالة الإنسانية التى جاء بها سيد الخلق صلى الله عليهم وسلم ، والتى حملت النور والعدل للعالم ، فأضاءت أرجاءه وأقرت بالأمن والطمأنينة أوضاعه ، ونشرت فى جنبات العالم وبين شعوب الدنيا الحب والأخوة ، وأقامت حضارة ساوت فيها بين مختلف الأجناس والألوان ، تقوم على خشية الله ، والإنصاف للغير من النفس .
وأن الإخوان من سبعين سنة يحملون هذه الرسالة بكاملها بعد أن تخلى عنها الكثيرون ، والحقيقة نحن نشفق على الملوك والحكام ، من تأثرهم بالدعايات الكاذبة والمغرضة ، ضد الصحوة الإسلامية، والتضليل الذى يصل إلى حد تشويه الإسلام وتصويره كدين للعنف ويولد الإرهاب ، ومن المعلوم أن الإسلام هو دين السلام ورسالة الرحمة والعدل والأمن والأمان للعالمين حيث يقول الحق سبحانه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ،والإسلام ليس نظاما جديدا على العالم ، أو غريبا عليه ، وليس تجربة جديدة ، بل هو نظام سبق تطبيقه عدة قرون على شعوب من جميع قارات الأرض ، التقت تحت رايته ، وسعد به الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين، وساهم فى الحفاظ على النافع من الحضارات التى سبقته ، وانتفع بما فيها من خير ، والإخوان المسلمون يطلبون الحوار الجاد المخلص ، ويرحبون به مع كل من يريد أن يتعرف على الإسلام ، أو يريد أن يعرف المشروع الإسلامى الحضارى الذى ينادى به الإخوان لإنقاذ البشرية ، ويريد أن يتعرف على منهجهم فى التعامل مع الآخرين ، من أجل التعاون فى سبيل تحقيق السلام والعدل ، والمساهمة فى بناء الإنسان بناء حضاريا راقيا.(/1)
ولكن للأسف الشديد : فنحن فى واقعنا اليوم لا نجد إلا الصدود من الجميع ، ولا نرى حكومة من حكومات الدول العربية والإسلامية ، تعامل غير المسلمين بالعنف أو الاضطهاد ، أما المسلمون فهم الذين يسلبون حريتهم بدون ذنب ارتكبوه، ويتعرضون للتعذيب والإيذاء والسجن والاعتقال ، وكل ألوان العنت والتضييق ، فهل تجاوز الإخوان المسلمون الحدود ، حين قالوا للمسلمين أطيعوا ربكم واعبدوه والتزموا بدينكم وشرع ربكم؟ وهل الشعور بمسئولية الإخوان عن دعوة الناس جميعا إلى هذا الدين ، وتوضيح حقيقته لكل من يريد التعرف عليه ، وإزالة الشكوك ، والشبهات التى تثار حوله جريمة يعاقب عليها ؟
أين حرية الكلمة فى بيوت الله؟
لقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم عمله ببناء المسجد إيمانا منه فى بناء الأمة وقد أثبت التاريخ أن المسجد فى الإسلام انطلقت منه الجيوش الإسلامية لنشر رسالة الإسلام ، ومنه انبعثت أشعة الهداية للمسلمين، وجميع الصحابة ومن جاء من بعدهم تلاميذ المسجد ، إن هذا المكان الطاهر تنبعث منه كل أسبوع كلمة الحق عالية ، على لسان خطيبه ، فى إنكار منكر أو الدعوة إلى معروف ، أو دعوة إلى الخير ، أو إيقاظ المسلمين من غفلتهم ، المساجد كانت مراكز الانطلاق للحركات الوطنية ، يلجأ إليه زعماء الجهاد ضد الاستعمار ، وضد الصهيونية ، أكثر المساجد اليوم لا تقوم بوظيفتها ولا تؤدى دورها فى بناء المجتمع على أساس إسلامى فمن المسئول عن هذا الواقع المؤلم؟
أين نصيب الإنسان من الرعاية؟
ضرورة الاهتمام بالإنسان ، فإهماله وتركه للتيارات الضالة والعواصف القاتلة تدمره من داخله ، وتضربه من أعماقه ، وتطمس عقيدته ووجدانه ، هذه العواصف إذا هبت وتركت من غير مقاومة ، لن تبقى ولن تذر سيتحول الناس والشباب بالذات إلى مسوخ شائهة ، وأشباح تافهة وإلى فقاعات بشرية ، تذوب من أول نفخة ، وتتلاشى من أضعف لمسة وهنا مكمن الخطر ، وعلة العلل ، وبداية النهاية للغافلين ، عن حقائق الحياة وللأسف هذا من أهداف الصهيونية المعلنة ، فهل نفيق ؟
وسائل الإعلام :
ينسى القائمون على وسائل الإعلام فى البلاد العربية ، أنهم يخاطبون ويبثون ما عندهم لشعوب مسلمة ، ولبيوت مسلمة ، ولشباب مسلم ، ينسون هذا دائما أو يتعمدون نسيانه ، فوسائل الإعلام ، تحتاج إلى ترشيد وإصلاح والأصل أن يكون للإعلام فى بلاد المسلمين ، منهج واضح وقوى وصريح ، مأخوذ من تراث هذه الأمة ودينها وعاداتها وتقاليدها ، ورسالتها بالدرجة الأولى أن تحذر من الاتجاهات الهدامة وتعمل على كشفها، وبيان وجه الإسلام الصبوح فى كل الأحداث ، لكن الواقع غير ذلك فمن المسئول ؟
أمريكا وإسرائيل :
لماذا لا تصارحوا أمريكا بأن مواقفها وسياستها المنحازة لليهود تركت بصماتها آلاما فى نفوس ومشاعر العرب والمسلمين ، بل تركت جروحا تنزف دما ، وهذه الأعمال لا يمكن أن تستمر دون أن تحرك كوامن الغضب والثورة للحقوق المسلوبة ، وضد الإحساس بالعدوان ، المسلط على الديار ، وأصحاب الديار ، مع الانحياز الكامل والمزرى للمعتدين المستعمرين والقتلة ، وهم ليسوا أصحاب حق ولا دعاة سلام ، وإن هذا التأييد الجارف للعدوان الصهيونى الغادر ، على قلب العروبة والإسلام "فلسطين" وصب الحقد والغضب على الشعب الفلسطينى المسلم الأعزل يعمل الرصاص والدبابات والطائرات والصواريخ ، فى قتل النسا والأطفال والرجال وهدم البيوت ، ويرغم المسلمين على الفرار أو الموت تحت الأنقاض ، والسلاح والمال والطائرات من عمل أمريكا ، لهو عودة إلى عهود البربرية والهمجية والإجرام ، فى أحط صورة وأن تجاهل ما يحدث اليوم داخل أراضى العرب والمسلمين، وغض الطرف الأمريكى صار مخزيا وملحوظا ومكشوفا وواضحا أمام الجميع .
إن الشعوب العربية المسلمة ، تريد أن تتحرك ، تريد أن تفعل شيئا للأمة الفلسطينية المعذبة ، وإن كثيرا من الناس يبكون من شدة الألم ، ومنعهم من مساعدة إخوانهم ، ومد يد العون إليهم ، تريد أن ترفع عنها الضغوط ، وأن تعطى جانبا من حريتها فى العمل والحركة ، فلماذا هذا العنت الذى تعيش فيه الأمة ؟ ولمصلحة من ؟(/2)
يا أهل فلسطين الحبيبة الغالية ، اصبروا وصابروا ورابطو ، واتقوا الله فإن عاقبة الصبر الفلاح ، إن شاء الله ، والحمد لله فإن الانتفاضة المباركة واستمرارها ، وأحداث الاستشهاد البطولى تفاعل معها اليوم الجميع فى العالم العربى والإسلامى ، وموقفكم المشرف رد عملى على حاخامات يهود وغيرهم الذين يقولون (نريد شبابا يهوديا يدرك رسالته الوحيدة ، وهى تطهير الأرض من المسلمين) ويقولون (القرآن أكبر عدو يواجه دولة إسرائيل) ويقولون (هذا ليس سلاما ، إنما هو مسرحية كاذبة ، لا يمكن أن يكون هناك شريك لنا فى العالم العربى ، لأنهم ببساطة ، يهتمون بما هو نقيض لما يضمن وجودنا ، لا سلام إلا فى حالة تخلى العرب عن مصادر التطرف لديهم التى يمثلها القرآن) ويقولون (إذا استمر ارتفاع الآذان الذى يدعو المسلمين للصلاة كل يوم خمس مرات فى القاهرة وعمان ، فلا تتحدثوا عن السلام)
هذا كلام : الحاخام إبراهام – ومردخاى ، والهاريس ، وإسحاق بيرتش ، هذا هو تفكير اليهود ، وفهمهم لمعنى السلام ، وهو إزالة العرب والمسلمين وإبطال الصلوات ، ورمى القرآن بالتطرف ، وليس هذا بغريب عليهم فهم أعداء الأنبياء وقتلتهم ، إنما العيب فى أمة العرب وفى حكامها الذين لم يدركوا بعد جوهر الصراع الإسلامى اليهودى .
لقد عرف الصهاينة مصدر قوتنا وسر عزتنا ، والقوة القاهرة التى نملكها ، وهى القرآن والمسجد والصلاة ، فالواجب والغرض علينا أن نتمسك بديننا وقرآننا ، وشريعة الله تكون دستورا لحياتنا ، وأن نكون دائما مع الله ، ومن كان مع الله كان الله معه ، ومن كان الله معه ، فلن يغلب أبدا ، ولن يهزم أبدا (ألا إن حزب الله هم الغالبون)(/3)
رسالة إلى الموظف المسلم
• يا من عليه الإخلاص والإتقان والدقة .
• يا من بيده قضاء بعض مصالح المسلمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فإن الوظيفة وسيلة للعيش الشريف ، والكسب النظيف ، وما من موظف ، إلا وهو مؤتمن على مصلحة من مصالح المسلمين في مجتمعهم ، لذا كان على كل موظف مسلم أن يجعل من وظيفته طاعة لمولاه جل وعلا ، وعبادة يتقرب بها إليه سبحانه وتعالى ... وهنا أوجه هذه الرسالة إلى الموظف المسلم راجياً أن ينفع الله بها فأقول مستعيناً بالله وحده :
• عليك – أخي الموظف – باختيار العمل الشريف الطيب المباح الذي لا يتعارض مع تعاليم الدين الحنيف حتى يكون عملاً مباركاً وكسبه طيباً . قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ] .
وإياك والعمل الحرام أو العمل الذي فيه شبهة فإن خيره قليل وكسبه خبيث مهما كان كثيراً . صلى الله عليه وسلم : (( إن الحلال بِّين وإن الحرام بِّين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) متفق عليه
• اتق الله في عملك وراقبه جل وعلا واحرص على أدائه بالشكل الذي يرضاه الله سبحانه ، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )) رواه البيهقي .
ولا تنس أن جلوسك في مكتبك ، وقضائك لحاجة مراجعيك أمانة وعبادة متى احتسبت ذلك عند الله سبحانه . يقول أحد دعاة الإسلام : (( إن المسؤولية في الإسلام مغرم لا مغنم ، فاصرف نظرك أن تظن أن المنصب وسيلة لك إلى السعادة ، فلن يكون إلا إذا جعلته لله سبحانه )) .
• حافظ على مواعيد الحضور والانصراف ، وإياك أن تتأخر أو تتغيب بغير عذر يجبرك على ذلك فكل راع مسؤول عن رعيته ، ولا تنس أن من عَطَّل مصالح المسلمين ولم يقض ِ حوائجهم وهو قادر على ذلك واقع تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين ، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة )) . رواه أبو داود والترمذي .
فالله الله في الحرص على قضاء حوائج المسلمين وعدم تأخيرهم أو تعطيلهم ، واعلم بأن في قضاء حوائج الناس تفريجاً لكربهم ، وتيسيراً لأمورهم . وما أحسن قول القائل :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس
• كن سهلاً ليناً حبيباً لطيفاً في تعاملك مع مرؤوسيك ومراجعيك ، وعليك بمساعدة من تستطيع منهم ومد يد العون له في حدود النظام ودونما ضرر أو ضرار ، وتذكر أن من يَسَّرَ على مسلم ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا : (( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً ، فشق عليهم ، فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به )) رواه مسلم .
• احرص على حسن الخُلق مع من يراجعك بأن تحييه وتستقبله بكلمة طيبة ، وتودعه بأحسن منها ، وأن تُنزل كل إنسان منزلته احتراماً لسنة أو لعمله أو لفضله ، وأن تبش في وجهه .
وإياك أن تعده فتخلف وعدك له ، وحاول قدر استطاعتك أن لا يخرج من مكتبك إلا وهو راض ٍ عنك داعياً لك بالخير حتى وإن لم تقض حاجته . ولا تنس قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق )) رواه مسلم .
وما أحسن قول الشاعر :
• الحذر الحذر من الانشغال بأي عملٍ مهما كان مهماً متى حان وقت الصلاة ، وعليك أن تعوِّد نفسك على إجابة النداء مبكراً ، وأداء الفريضة في وقتها حتى يكون عملك – بإذن الله – عوناً لك على الطاعة . وتذكَّر أنه لا خير في عمل يؤخر المسلم عن أداء الفريضة أو يمنعه من إجابة داعي الله جل في علاه .
فإذا ما فرغت من ذلك فعد مباشرة إلى عملك حتى لا يتعطل سير العمل .
تذكَّر – أخي الموظف المسلم – أن جلوسك في مكتبك أو مكان عملك ، ومحافظتك على مواعيد الحضور والانصراف ، وحرصك على أداء عملك بالشكل المناسب ، عبادة من العبادات ، وطاعة من الطاعات التي تتقرب بها إلى الله سبحانه متى صَلُحت نيتك ، واحتسبت ذلك عند الله جلَّ وعلا .
أسأل الله لي ولك التوفيق والسداد والحمد لله رب العباد ....(/1)
رسالة إلى من تنتظر فارس الأحلام
عبدالحكيم بن علي السويد
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال رسول الله : { تنكح المرأة لأربع: لدينها، وجمالها، ومالها، وحسبها. فاظفر بذات الدين تربت يداك } فركز النبي على ذات الدين؛ لأهميته. والحياء من الدين.
وقال رسول الله مخاطباً الشباب: { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج }، وهذا فيه حث للشباب على المبادرة إلى الزواج؛ لأنه هو الطريقة الشرعية التي يمكن من خلالها إلتقاء الجنسين وما يترتب على ذلك من سكن ومحبة ومودة. قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. وكذلك في الزواج تكثير للنسل وبقاؤه وأيضاً مباهاة النبي للأمم يوم القيامة، فقد قال : { تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة }، وفي رواية: { فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة }.
فأي فتاة تريد ذلك الشاب الذي تعيش في كفنه ويحقق أحلامها ويكون ذلك الرجل العاقل صاحب الدين والخلق الذي يحس بهمومها ويتألم بآلامها ويسعى إلى إسعادها، ويخشى الله فيها.
اعلمي يا أخية أن الشاب عندما يريد أن يحقق هذا المطلب الضروري، لابد له من الطرف الآخر وهي شريكة حياته ورفيقة دربه المتمسكة بدينها المعتزة به، الرفيع خلقها، تلك الزوجة الودودة الآن، والأم الحنونة مستقبلاً صاحبة الإحساس المرهف والعواطف الجياشة التي يحيطها الحياء من كل جانب حتى أنها متى فارقها ذلك الحياء اعتبرت الحياة مفارقة لها من شدة تمسكها به، فالحياء أمره عظيم، وهو محمود كذلك عند الرجال، فهذا أشرف الخلق نبينا محمد أشد حياء من العذراء في خدرها، وكذلك الصديق كان يضع رداءه على نفسه إذا ذهب للخلاء لقضاء الحاجة حياء من الله، ولهذا جميع الرجال على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم يبحثون عن ذات الحياء عند بدء التفكير في الزواج، وكلما ازداد الحياء عند المرأة كلما زادت الرغبة في الارتباط بها لمن فكر في الزواج، ويزداد تمسكه بها بعد الزواج، فهو من أقوى العوامل التي تجعل الرجل يبحث عنك ويطرق بابك ويتمنى أن تكوني شريكة حياته ورفيقة دربه، وقد يظن كثير من النساء أن الحياء قبل الزواج فقط وهذا خطأ كبير، فالحياء بعد الزواج مطلوب كذلك، فهو بإذن الله يجعل نهر المحبة بين الزوجين دائم الجريان، وحبل المودة دائم الاتصال، ومزرعة الحب يانعة الثمار، فالحياء بالنسبة للمرأة كالرائحة الزكية بالنسبة للوردة، كالماء للسمكة متى خرجة منه هلكت.
ولذلك يجب أن تحرص كل فتاة منذ نعومة أظفارها على هذه الصفة الرائعة الجميلة، وأن تعرض ما يصدر منها سواء كان فعلاً أو كلمة على ميزان الحياء فإن كانت موافقة فالحمد لله، وإن كانت مخالفة فتتركها بلا ندم وتبحث عن الصحيح الموافق للشرع، وقد قال رسول الله : { لا يأمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به } حديث حسن صحيح.
فكم فتاة جميلة قامت بعمل تراه حسناً في نفسه، جلب لها الحسرة والندامة، فكان الأزواج يتركون التقدم إليها، أو يتراجعون عن خطبتها إذا علموا بأعمالها وبحثوا عن أخرى ذات حياء ودين.
فكم فتاة جمعت من الصفات الحسنة التي يرغبها الشباب الشيء الكثير، ولكن عندما يعلم هذا الشاب الراغب للزواج عن بعض التصرفات الغير مدروسة، من قبل الفتاة، وقد قامت بها من قبل، فينصرف عنها بغيرها وهو يتمثل قول الشاعر:
وتجتنب الأسود ورود الماء *** إذا كان الكلاب يلغن فيه
وكم من فتاة اجتمعت فيها من الصفات الحسنة التي يرغب بها الشاب المقدم على الزواج الشيء الكثير، ولكن عندما يعلم أن خلق الحياء ضعيف عند هذه الفتاة، يتراجع عن نيته بالزواج منها وهو يتمثل قول الشاعر:
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء(/1)
أخيتي لا يخفى عليك كثرة الفتن في هذا الزمان، وأكثرها موجه ضدك أنت، نعم أنت لأنك ستكونين أماً عن قريب إن شاء الله لعدد من البنين والبنات، فإن ضعفت حتماً سيكون أبناؤك ضعفاء وبالتالى يكون المجتمع ضعيفاً هشاً أعلى اهتماماته شهواته، من مأكل ومشرب وملبس، فاعلمي أخيتي أنك من أقوى الوسائل التي يريد الأعداء التمكن منها، وذلك بأن يستغلوا الفتاة المسلمة بإنشغالها بنفسها، وجعل أكبر اهتماماتها طريقة لبسها وشكل عباءتها، وقصة شعرها ولون حذائها، ومكان سفرها وغير ذلك مما بالغت به المرأة المسلمة في هذه الأيام، حتى إن بعض الفتيات وللأسف أصبحت فتنة في نفسها ولغيرها من شباب المسلمين، وقد قال النبي : { ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء } ومن ثم تنسى الفتاة ما الهدف الذي خلقت من أجله، و تنسى أن أنفاسها معدودة، وآمالها مقطوعة، بعد ذلك تتهاون في أمور دينها، حتى تتفاجأ في نهاية المطاف وعند قرب خروج الروح وتحشرجها في صدرها أنها شاركة أعداء الإسلام من حيث لا تعلم في محاولاتهم لهدم الدين والعفة، وهذه هي الحسرة، وإن ما نشاهده هذه الأيام من مناظر غريبة على ديننا ومجتمعنا وتقاليدنا من بعض النساء المسلمات هو بسبب أن الحياء قد نزع منهن حتى أصبحنا نرى تبرج المرأة في السوق وكثرة الذهاب له بلا حاجة، وإظهار بعض مفاتنها لغير محارمها، والتهاون في حجابها، والتخاطب مع الرجال. عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله : { استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق } فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. [صحيح أبي داود].
واللبس العاري عند الخروج من المنزل، وسفرها بلا محرم، وركوبها مع السائق بمفردها، والمشي وسط الطرقات وترك جوانبها، وقد قال : { ليس للنساء وسط الطريق } [رواه البيهقي]. وقال النبي : { إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت } [رواه البخاري].
أخيتي اجعلي من نساء السلف قدوة لك، ثم تنبهي لما يحاك ضدك، واعلمي أنهم يريدون إخراجك من هذه القلعة الحصينة العالية وهي قلعة الحياء لتسقطي في أوحالهم التي يعدونها، فتمسكي بحيائك تسعدي في الدارين، ففي الدنيا أي رجل يتمنى أن يبني عشه معك لأنك ستكونين نعم المعينه بعد الله سبحانه وتعالى على أمور دينه ودنياه، ويكون لك نعم الزوج الذي يبذل الغالي والنفيس من أجل سعادتك.
وقد قال النبي : { لا يأتي الحياء إلا بخير } فصاحبة الحياء:
- متمسكة بدينها فخورة به.
- اهتماماتها عالية أخروية.
- عدم اغترارها بمظاهر الدنيا البراقة.
- تخشى الله في سرها وعلانيتها.
- تخاف الله بزوجها بقيامها بحقوقه التي عليها.
- تراعي مشاعر زوجها فهي تفرح لفرحه وتحزن لحزنه.
- محتشمه في لبسها ومظهرها ومعتدلة في إنفاقها.
وأما في الآخرة فأعد الله لك من الأجر ما لا رأته عينك ولا سمعته أذنك، ولا خطر على قلبك، فتمسكي أخيتي بهذا الخلق الجميل، خصوصاً في هذا الزمن الذي كثرت فيه منابر الإفساد على اختلاف مللها ونحلها، والتي تعمل ليل نهار على هدم هذا الصرح الشامخ والقلعة الحصينة والسور المتين في كل فتاة مسلمة ألا وهو الحياء.
وفي الختام.. أذكرك بحديث النبي : { إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم } فمتى تقدم الشاب لخطبتك وانطبق وصف النبي ، فلا تترددي في قبوله بعد التثبت من ذلك، واجتهدي في الدعاء الخالص لله بأن يهب لك الرجل الصالح صاحب الدين والخلق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=71(/2)
رسالة لمن لا يصلي في المسجد مع جماعة المسلمين
أخي العزيز..
عفواً ..
في البداية أريدك أن تعلم أنني لا أريد منك مصلحة ولا أي غرض دنيوي , غير أنني أحبك في الله .
ولو أنك لم تهمني ما كلمتك ولا أضعت وقتي وجهدي في كتابتي لك ، وكيف لا تهمني وأنت مسلم مثلي ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » ( متفق عليه ) .
يجب أن تعلم أننا كلنا مقصرون لربنا , وكلنا معرضون للخطأ ، ومن منا لم يذنب ولم يعصي ولم يهمل في دينه قال صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» ( رواه مسلم )
ولكن العاقل هو الذي يتوب من ذنوبه ولم يصرعليها ولا يستمر على عصيانه .. أتدري لماذا ؟
لأن كل انسان يتمنى أن يموت على حسن الخاتمة ، ويموت على الحق ويدخل الجنة , ولايتمنى أن يموت على المعاصي والفجور ويدخل النار , وأن الله تبارك وتعالى يمهل للعاصي ويزيد في عمره حتى إذا كان على معصيته قبضه عليها .
قال رسولَ صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْلِي - وَرُبَّمَا قال يُمْهِلُ - الظَّالِمَ حَتَّى إذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
أخي العزيز..
ولابد أن تعلم شيئاً ثانياً: لماذا خلقنا الله في هذه الدنيا ؟هل للعب واللهو؟
كلا . خلقنا الله لعبادته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}
وخلقنا أيضاً ليبتلينا ، هل نصبر ونشكر ، أم نعصي ونكفر ؟
ألا ترى أن الفرق بين الإنسان والحيوان ( أعزك الله ) هو العبادة ؟ بالطبع العبادة .
لأن الإنسان يأكل والحيوان يأكل , والإنسان ينكح والحيوان أيضاً ,
والإنسان ( أجلك الله) يتبرز والحيوان أيضاً , والإنسان ينام والحيوان ينام أيضاً , وغيره...
ولكن الفرق بين الإنسان والحيوان ( العقل ) إن الله ميزنا بالعقل لكي نفكر ، وإذا لم نضع هذا التفكير في مكانه الصحيح - وأرجو أن لاتنزعج من هذه الكلمة - أصبحنا ( غير أسوياء ) مثل البهائم , لأننا ظلمنا أنفسنا وذلك لأننا لم نستغل هذا العقل الذي ميزنا الله بها عن باقي المخلوقات على الأرض في المكان الصحيح , قال تعالى :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ....} الآية .
أخي العزيز..
إن مما أردت الوصول إليه هو ( الصلاة ) . هي عماد الدين , وأي بناء بدون عمود ينهار , والإسلام عموده الصلاة , وبدون الصلاة يهدم الإسلام .
هل تعلم إن الله شرع جميع الفرائض على وجه الأرض , إلا الصلاة فرضت وشرعت ليس من السموات , وإنما شرعت في السدرة المنتهى , تحت عرش الرحمن من هناك , عندما عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السموات السبع وعند وصوله إلى سدرة المنتهى ، أمره الله بالصلاة أن تفرض علينا ,
ومن لطف الله علينا أن خفف بدل من خمسين صلاة إلى خمس صلوات في اليوم واليلة , ومن كرمه سبحانه وتعالى أن جعل خمس صلوات بأجر خمسين صلاة ، أي كل صلاة تصليها بأجر خمسين صلاة .
أيها الإنسان .. بكل صراحة إذا لم تصلي ، قل ما فائدتك في هذه الدنيا ؟
بصراحة .. لا شيء .
وإذا كنت تصلي فهذه نعمة كبيرة يفقدها غيرك من المسلمين.. وهم كثيرون .
ولكن تخيّل لو أن هؤلاء المسلمين الذين يؤدون الصلوات الخمس كل يوم في المساجد , تقاعسوا وتكاسلوا وراحوا يهجرون المساجد وأخذ كل واحد يصلي في بيته , بإعتقادك ماذا يصبح ؟
بالطبع تغلق المساجد , ويكون حال المسلمين في ضياع وغربة ولا أحد يعرف الآخر , إذاً بماذا يعرف الأخ أخيه المسلم ؟ سأقول لك : يعرف الجار والصديق والغريب والقريب بالصلاة في المساجد ، وبها تقوى روابط المحبة والألفة والأخوة والتناصر والتناصح والتزاور , وبدون الصلاة في المساجد نصبح غرباء .
أخي في الله , ألم تسأل نفسك يوماً , لماذا جاري فلان يذهب ويصلي في المسجد يومياً ؟
ما غرضه وما حاجته ؟ ولماذا يصحو من النوم في ساعة متأخرة يقطع نومته ولذته ويذهب لصلاة الفجر ؟ ألم تسأل نفسك ؟
بالطبع طمعاً في رضى الرحمن , ونيل الأجر وتثقيل الميزان ، والفوز بنعيم الجنان .(/1)
إذاً يا أخي .. لا عذر لديك بالصلاة في البيت ، ولا بد من الصلاة في أقرب مسجد لك ، وأحمد الله على أن منَّ عليك نعمة الصحة والعافية ، غيرك ينام في المستشفى على الأسرة البيضاء ، ويتمنى المشي إلى المسجد ليركع بعض ركعات ، وإذا لم تصلي الآن وأنت في نعمة وعافية ، فمتى تصلى ؟ هل تصلي في الكبر ، عندما ينحني ظهرك ، ويشل ساقيك ؟
عن ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ، «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَارسولَ الله إِنِّي رَجُلُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِيَ قَائِدٌ لا يلائمُنِي، فَهْلْ لِي رُخْصَةٌ أَنْ أُصَلِّيَ في بَيْتِي؟ قال: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قال: نَعْمْ: قال: لا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً » ( رواه أحمد وأبو داود )
وهذه فتوى للشيخ ( ابن عثيمين) عن ترك صلاة الجماعة :
وأما من لا يصلي مع الجماعة ويصلي في بيته فهو فاسق وليس بكافر ،
لكنه إذا أصر على ذلك التحق بأهل الفسق وانتفت عنه صفة العدالة .
وقال الألباني في كتابه (صحيح الألباني) :
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان يرى أن حضور الجماعات فرض ، عطاء وأحمد بن حنبل وأبو ثور وقال الشافعي رضي الله عنه : لا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر .. انتهى
وقال الخطابي بعد ذكر حديث ابن أم مكتوم : وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو كان ذلك ندبا لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرورة والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم .
وكان عطاء بن أبي رباح يقول : ليس لأحد من خلق الله في الحضر وبالقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة .
وقال الأوزاعي : لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات .. انتهى
ولو علمت الأجور العظيمة التي تعطى للذاهب إلى المسجد والمصلي فيه ، لما جلست تصلي في بيتك , وسأذكر لك بعضها وليس كلها :
1- أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (مسلم)
صلاة الفذ : أي صلاة المنفرد .
2- وعن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَم إلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه الترمذي وأبوداود)
3- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صلى لله أربعين يوماً في جماعةٍ يدرك التكبيرةَ الأُولى كُتِبَ لهُ براءَتَان : بَراءَةٌ مِنْ النَّارِ، وبراءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» (رواه الترمذي)
4- وقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : « لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (متفق عليه)
5- أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّل، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا ( أي لعملوا القرعة ) . وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً» حبواً : أي جاء يحبو على ركبتيه ويديه) (متفق عليه)
6- وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ» (أبو داود)
ميامن الصفوف : الصف اليمين .
7- وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ وَصَلَ صَفَّا وَصَلَهُ الله وَمَنْ قَطَعَ صَفَّا قَطَعَهُ الله » (رواه أحمد وأبوداود)
8- أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ: آمِينَ. وَالْمَلاَئِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى. غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (متفق عليه)
9- أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو الله بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ علَى الْمَكَارِهِ. وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسْاجِدِ. وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ. فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ»
( الرباط : أي الجهاد ). (رواه مسلم)(/2)
10- وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَضْعُفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ، خَمْساً وَعِشْرِينَ ضِعْفاً، وَذلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إلاَّ الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَة َ». (رواه البخاري)
هل رأيت كل هذه الأجور ، لو قارنتها بصلاتك في بيتك , هل تحصل عليها ؟ كلا .. ولا أظن أن هناك إنسان عاقل يقول : أنا مستغني عن الأجور، ولدي ما يكفيني للآخرة ، وأنا قلبي طيب ونظيف ، وهذا يكفي.
أقول لك : هذا من عمل الشيطان ، لأنه لا يريدك أن تعمل الخير ، ولو كان كلامك صحيحاً ، لما بكى الصحابة خوفا من النار ، وهم أفضل الناس على وجه الأرض بعد الأنبياء والرسل .
إذاً هذه الأجور سبباً لدخول الجنة .
وبعد كل هذا إذا لا تريد أن تستجيب لداعي الله ورسوله ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذرمن ذلك :
1- قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ. ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» (متفق عليه)
وفي رواية لأحمد : « لَوْلاَ مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ أَقَمْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ، وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ».
2- وقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَداً مُسْلِماً فَلْيُحَافِظْ عَلَى هؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى ، وَإنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ هذِهِ الْمَسَاجِدِ إلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا، وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ» (رواه مسلم)
3- وقال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ في قَرْيَةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقامُ فيِهِمُ الصَّلاةُ إِلا اسْتَحْوذَ عَلَيْهِمُ الشَّيطانُ، فَعَلَيْكَ بالْجَماعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ القاصِيَةِ» (رواه الحاكم )
أخي في الله ..
هل تصبر على حر ونار الآخرة ؟
إن نار الدنيا لتفر من نار الآخرة , وإنها فضلت عليها بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ مرة ، إَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «نَارُكُمْ هذِهِ، الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ، جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ». قَالُوا: وَاللّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللّهِ ، قَالَ :
« فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءاً. كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» (متفق عليه)
أخي اطفىء نار آخرتك بالصلاة في الدنيا , والصبر على الطاعات , وتحمل الأذى ، وأعطف على الفقراء ، وألن قلبك للناس ، وإذا رأيت على أهلك وأولادك معصية فعليك إنكارها وعدم السكوت عليها ، لأنك محاسب عليها ، ومن المنكرات التي تفشى في مجتمعنا والعياذ بالله : ( سماع الأغاني ، وتبرج النساء ، والتشبه بالغرب في اللباس والاحتفال بالأعياد ، وقصات الشعر ، ومن المصائب التي حلَّت علينا ، إدخال الدش في البيوت ، وغيرها ... )
قال صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ. وَكُلُّكُمْ مَسْوولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْوولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَالرَّجُلُ رَاعٍ
عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْوولٌ عَنْهُمْ » (مسلم)
أخي في الله ..(/3)
الموت .. هذا الشيء المخيف ، سيأتي سيأتي ، ولابد منه ، وأنه نازل بك لا محالة . قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
سؤال : لو كنت تعلم أن الموت سيأتيك بعد يوم أو يومين ، ماذا تتمنى أن تكون أو على أي هيئة تريد أن تموت وتقبض روحك ؟
جواب : مما لاشك فيه كنت تتمنى أن تكون صائماً أو تقرأ القرآن ، أو أنك تصلي ، أو أن تكون ساجداً، وفوق هذا كله كنت تتمنى أن تكون تائباً إلى الله توبة نصوحاً ، ثم يقبض روحك.
إذاً لما هذا الغرور والتمسك بالدنيا ، والجري وراء الملذات ؟
ماذا لو أن الموت جاءك على حين غرة ، وأنت في مجد عزك وقوتك ، وفي طيش شبابك ، وغارق بملذاتك وشهواتك .. ماذا أنت قائل حينها ؟
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم .. أن يهدينا إلى الصراط المستقيم ، ونسأله حسن الخاتمة ، والثبات على الحق ..
اللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين .. آمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
* لا تنسونا من دعاءكم الصالح ...
أنشرها .. ولك الأجر والثواب (الدال على الخير كفاعله)(/4)
رسالة مفتوحة إلى رئاسة المحاكم الصومالية
هيثم بن جواد الحداد
تواردت الأنباء عن سيطرة رئاسة المحاكم الصومالية على أنحاء العاصمة (مقاديشو)، ولا شك أن هذا خبر مفرح للغاية، إذ لا شك أن كل طالب للأمن يتمنَّاه لغيره، ويسعد به إن تحقق في أي بقعة من الأرض. ناهيك عن أن هذا الأمن إذا تحقق، فإنه أمن حقيقي يجلب سعادة الدنيا والآخرة للبشر، إنه أمن الإسلام، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 - 127].
وقد يقول قائل: إنه من المبكر الحديث عن تداعيات هذا الخبر ونتائجه. إلا أن خطورة الموقف، وحجم النتائج المتوقعة عليه تُوجب سرعة التحرك مع شيء من العجلة في إبداء الرأي الذي إن لم ينفع فإنه لن يضر بإذن الله ـ تبارك وتعالى ــ... والمسلمون في الصومال بأشد الحاجة إلى نصحٍ من إخوانهم المسلمين في كل مكان؛ لترشيد المسيرة، والمحافظة على هذه المكتسبات التي أُريق دونها دماء كثيرة خلال ما يقارب العقدين من الزمن.
وهذه بعض معالمٍ، مساهمة في النصح عسى الله أن يكلل هذه الجهود بالنجاح.
1 ـ لا شك أن الشعب الصومالي شعب مسلم أبِيُّ، لا يقبل بغير الإسلام ديناً مهما عادت عليه العوائد وطحنته الحروب، بل إن المحن التي تمر به ـ كما هي الحال في كل بلد مسلم ـ لا تزيده قناعة إلا بأن الإسلام هو الحل لنيل سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وهذا هو شعب الصومال يفصح عن هذه الحقيقة بكل جلاء ووضوح، فقوات المحاكم لم تكن لتبسط سيطرتها على العاصمة، ولم تكن لتكسب جولات القتال الذي استمر قرابة الأربعة أشهر؛ دون دعم لوجستي ومعنوي من أبناء الصومال، وهذا فيه دلالة أكبر من دلالات نتائج الانتخابات على أن الشعب لا يريد إلا الإسلام، ولا يثق إلا بالعلماء والدعاة وأهل الصلاح، فهذا الدعم الذي قدَّمه لهؤلاء العلماء والدعاة لا يقتصر على مجرد ورقة يضعها في صندوق الاقتراع، بل إنه يعكس رغبة الشعب الصومالي (على الأقل في مدينة مقاديشو) في التضحية بالنفس والمال من أجل أن يحكمه الإسلام.
2 ـ يبدو بعد هذه الحوادث ـ ومثلها دلالات وصول حركة حماس للسلطة ـ أنّ أكبر مشكلة يواجهها الإسلاميون ليس كسب الثقة، وليس الوصول إلى سدة الحكم؛ ولكن كيفية المحافظة عليه في ظل عالم تحكمه قوى تعمل بكل ما تستطيع لإفشال أي مشروع إسلامي صادق، وهذا تحدٍ شرعي سياسي يتطلب قدراً عالياً من العلم بأصول السياسة الشرعية، وكيفية تنزيلها على هذا الواقع المعقد... ولهذا فإن أي حركة إسلامية تتأهل إلى مثل هذا المنصب لا بد أن تراجع حساباتها بكل دقة وصراحة لتكشف لنفسها أولاً: عن درجة استيعابها لهذا العلم، فهماً وتطبيقاً... وهنا لا بد أن نقول بأنه: قد لا يكفي أن تعتمد الحركة على المصادر الخارجية أو الأجنبية من علماء ومشايخ عند التعامل مع قواعد السياسة الشرعية فيما يتعلق بما تواجهه من مشكلات وتوازنات صعبة، بل لا بد أن يكون منها نفسها علماء في هذا المجال يجمعون بين العلم بقواعد الشريعة لاسيما علم أصول الفقه، مع العلم بالواقع الذين يعيشون فيه.
3 ـ قد يكون من السياسة الشرعية في ظل الواقع المعاصر، ولمرحلة مؤقتة أن يتجنب الإسلاميون الوصول إلى السلطة، أو الاستمرار فيها إن وصلوا إليها؛ لأن حجم المؤامرات التي ستحاك ضدهم، وحجم المعاناة التي ستواجههم، وحجم المسؤوليات التي ستناط بهم من الضخامة بحيث تجعلهم عرضة ـ من ناحية ـ إما للتنازل عن بعض ثوابتهم التي بسببها منحهم الشعب ثقتهم فوصلوا إلى السلطة، وعندئذ سيكون الفرق بينهم وبين مخالفيهم يسير، بل إن الشعوب ستنظر إلى المشروع الإسلامي بعين الريبة؛ إذ قد تستدل بذلك على فشله في مواجهة الواقع... وإما ـ من ناحية أخرى ـ قد تجعلهم عرضة للفشل في إدارة البلاد في ظل هذه الأعباء والصعوبات المتزايدة... والخروج بحكم أو قرار نهائي في هذه المسألة ليس بالأمر الهيّن، ويحتاج إلى مشورة واسعة، وفهم عميق، ومن قبل ومن بعد استعانة بالباري ـ جلّ وعلا ـ للهداية إلى سواء السبيل، وهو لا شك من أمور الاجتهاد التي لا يثرب فيها على المخالف، لكن سلوك جانب السلامة وعدم المخاطرة في مثل هذه الأمور هو المتعين.(/1)
وعليه فقد يكون من السياسة الشرعية في الشأن الصومالي ـ وأي شأن مشابه له مشترك معه في مناط الحكم ـ أن يعمد الإخوة القائمون على حركة المحاكم الإسلامية بالتنازل عن السلطة، أو بتسليم مقاليد الأمر للحكومة المؤقتة أو من يقوم مقامها، ولو كمرحلة أولى، بعد أخذ الضمانات الكافية في عدة أمور، من أهمها: التأكيد على هوية البلاد الإسلامية من خلال الدستور، وكذا التأكيد على نص الدستور لتحكيم الشريعة الإسلامية، ومنح ميزات للجهاز القضائي من أهمها استقلاله ـ بنص الدستور كذلك ـ، ووضع الضمانات الكافية لعدم اختراق أهل الحل والعقد ـ وهم العلماء والقضاة ـ لضمان استقلاليتهم، ومقدرتهم على الأخذ بزمام المبادرة إذا ما عصفت بالبلاد العواصف.
وعليه فقد يكون من السياسة الشرعية كذلك، أن يعمل الإخوة هناك بقاعدة التدرّج في تطبيق بعض الأحكام الشرعية. ومسألة التدرج هذه من أعوص المسائل وأشكلها، وتحتاج إلى بحث مستقل، حبذا أن ُتبحث من قبل أهل الحل والعقد الذين يواجهون مشكلات قد تتطلب إناطة كيفية تطبيق الأحكام بها. فمنع المنكرات ـ مثلاً ـ لاسيما هذا القات الذي ابتلي به كثير من أهل الصومال، لا يمكن أن يتم دفعة واحدة، فقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد هنا توجب التَّرّوي في منع هذا المنكر بالكلية وعلى البت، وهذا يُعمل به حتى مع القول بعدم الأخذ بالتدرّج في تطبيق أحكام الشريعة بعد المرحلة المكية، فيمكن مثلاً ـ وأنتم لا شك أعلم بذلك ـ وضع رسوم باهظة على بيع القات، ووضع عقوبات على من ارتكب جرماً بسببه، ولنا في الطريقة القرآنية في منع الخمر خير مثال، فيمكن ـ مثلاً ـ منع تعاطي القات في أوقات معينة مع ما تقدم، وهكذا...المقصود ألاَّ يأخذنا الحماس في تطبيق الشريعة، أو منع المنكر لفعل ما يؤدي إلى منكر أعظم، وهذا ممّا اتفقت عليه كلمة العلماء، وقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «إنما نزل أول ما نزل من سورة المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا نترك الخمر أبداً. ولو نزل «لا تزنوا» لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.». ومن خير الأمثلة التي تشبه واقعنا ووصول الإسلاميين إلى الحكم في بعض البلاد؛ وصول الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز إلى سدة الحكم بعد فترة من الابتعاد ـ النسبي ـ عن نهج النبوة في الحكم، فقد قال له ابنه عبد الملك يوماً: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق» وكأنه قال له: لِمَ لا تطبق الشريعة تطبيقاً فورياً؟ بصرف النظر عن النتائج! فجاءت إجابة فقيه مسدد حكيم: «لا تعجل يا بني! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة».
ولنتذكر جميعاً أن الشعب الصومالي رزأَ أزمنة في ظل أوضاع ومؤثرات تفرز خليطاً غريباً من الشخصيات، فقد عاش الجيل مدة طويلة تحت حكم طاغية، ثم نشأ جيل آخر منه لا يعرف إلا العَوَز، ولا يفهم إلا لغة العنف والأخذ بقوة، الأمر الذي يوجب صبراً طويلا في التعامل مع هذا الجيل، والعمل بقاعدة {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، لاسيما مع الأفراد... وربما تحتاجون لدراسة شرعية عميقة تتعلق بأحكام المظالم والدماء التي وقعت بين الناس أثناء فترات الحروب تلك.
ثم ليُعلم أن تطبيق أحكام الشريعة لا يقتصر على منع المنكرات، وإقامة الحدود، وتطبيق العقوبات الشرعية، كما يساء فهمه؛ بل الأمر أعم من ذلك بكثير، فهناك توفير احتياجات الناس الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، فالتوزيع العادل للثروة، وأخذ الزكاة وصرفها على المستحقين، ومنح الناس الحرية المضبوطة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم، وحتى عن نقدهم للحكام والمسؤولين، وتوفير آليات فعَّالة للتظلم، والسهر على مصالح الخلق، كل ذلك من تطبيق الشريعة... ولا شك أن الأمر أوسع من أن يحويه مقال كهذا.
4 ـ لا يخفى ـ على ما شرَّفكم الله به من علم وفقه ـ أن انتصاركم هذا ليس مجرد انتصار محدود في شأن داخلي؛ بل إنما هو حدث قد يكون مفصلياً في تاريخ القرن الأفريقي، فالصومال تمثل دولة من أهم دول هذا القرن، لعدة أمور لا تخفى على أحد؛ فنسبة المسلمين المقاربة لـ 100% ومساحة البلاد الشاسعة، وموارده التي حباها الله له، وسواحله التي تعتبر أطول سواحل لبلد إفريقي، وقربه من منطقة البحيرات، ومنابع نهر النيل، وقربه كذلك من (السودان) بتوجهه الإسلامي، والذي يمكن أن يمثل معكم فكَّيْ كماشة لكل من (إريتريا) و(الحبشة) وربما (كينيا)، وكل ذلك يجعل أعين القوى الصليبية يقِظة كل اليقَظة لجميع ما يجري فيه، وغير بعيد عنكم الوجود الأمريكي في بلادكم، الأمر الذي يوجب يقَظَةً غير عادية في التعامل مع ما وصلتم إليه، وما ينتظركم.(/2)
5 ـ حذارِ كل الحذر ـ وأنتم خير من يعلم؛ وإنما هي من باب فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ـ من التصريحات العنترية التي تثيرها أحياناً نشوات النصر والتي اعتاد بعض الإسلاميين على استعمالها في خطاباتهم لاسيما عند الحديث عن العلاقة مع الغرب، أو مع أعداء الله، فدولة ناشئة لا تريد أن تفتح جبهات كثيرة عليها، ويكفيها تحدي تلك الجبهة الداخلية التي تواجهها، ولا أقصد بالجبهة الداخلية هنا مجرد الجبهة العسكرية، ولكن ثمَّت ما هو أكثر صعوبة من تلك الجبهة العسكرية؛ فالمصاعب الاقتصادية الداخلية، وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين قد تكون أكبر من التحديات الخارجية، بشقَّيْها العسكري والسياسي، وعليه فلا داعي أبداً لما يثير كل من يتربص بكم وبالإسلام، والعمل بالمداراة والتروية أصل شرعي عند الحاجة إليه، وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها عشرات الأمثلة على ذلك... فلا داعي ـ مثلاً ـ للحديث عن الجهاد في خارج حدود حكمكم في هذا الوقت، ولا داعي ـ أيضاً ـ للحديث عن الانتصار للمستضعفين من المسلمين مثلاً... وهكذا، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتحدث عن الجهاد أبداً في مرحلته المكية، و صبر على رؤية صحابته وهم يعذبون أثناء تلك المرحلة.
6 ـ لا شكّ أن الحديث عن الوحدة أخذ حظاً وافراً ممَّا يصلكم من كتابات، ولو لم يكن إلا قول الله ـ جلَّ وعلا ـ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} مذكراً وواعظاً لكفى بذلك كل صاحب لب، وفي ضوء ذلك فإنه يجب على الجميع أن يتذكر أن النزاع في مثل حالتكم، والعدو يتربص بكم الدوائر يعد خيانةً لله ورسوله وللأمة، ولا يقوم به إلا خائن عميل، حيث لا مجال لإحسان الظن بنية من يقوم به، ولذا فإن الواجب على أهل العقد والحل فيكم نبذ كل وسيلة تؤدي إلى النزاع، ومن وجد في نفسه رفضاً لاتجاه الجماعة أو الأمير، فعليه إمَّا أن ُيلِزم نفسه بالعمل بما لم يقبله رأيه، وإما أن يعتزل ولا يُحِدث أي فتنة أو شق للصف، وليحتسب في ذلك الأجر، هذا هو السبيل العملي للوحدة، ولا بد لنا جميعا أن نتعلم التنازل عما نراه الحق ـ ولو ظننا أن الأدلة دامغة عليه ـ في مقابل المصالح العليا للأمة، فإنْ عَجَزنا عن مثل هذا الموقف، فلا أكثر من أن ننسحب بهدوء.
7 ـ لا شك أن هذا الانتصار التي حققته تلك القوى الإسلامية سيفصح عن رسالة صارمة وقوية لكل القوى التي تحارب الإسلام في هذه الأيام: بأن الأمة المسلمة لا ترغب إلا في الإسلام، ولن تسلم رقبتها إلاّ إلى للإسلام، وأنها لا تمانع يوماً من الأيام أن تضحي بحياتها وكل ما تملك من أجل الإسلام. فعلينا أن تعترف بالإسلام، وعليها أن تحترم ـ وهنا نحن نخاطبها بلغتها ـ رغبة الشعوب، وعليها أن تدرك أن الإسلام قادم لا محالة، فبرغم جميع المحاولات الصليبية لدحر الإسلام وأهله، إلا أنه يعود وبصورة أقوى ممَّا كان عليه قبل، فتجويع الشعوب وإدخالها في حروب طاحنة أعادها إلى الإسلام وبقوة، كما أن المحاولات العكسية من إغراق الشعوب في الترف أعادها إلى الإسلام، فلتعترف القوى الصليبية بهذا، ولتكفَّ عن مزيد من استثارة الإسلام وأهله، وإلا ستكون العاقبة وخيمة عليها، وعلى من يدور في فلكها.
8 ـ وهنا لا بد من التذكير ـ أيها الفضلاء ـ أن الغرب لا يفهم إلا لغة القوة، فحذار حذار من الانبطاح له بحجة الحكمة وما يسمَّى بفقه الاستضعاف، ففرق بين الاستعداء وبين الانبطاح، وما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منبطحاً للكفر، وحاشاه أن يفعل ذلك، بل على العكس من ذلك، فلا بد أن تكون رسالتكم للغرب واضحة، بأنكم لستم طرفاً في أي صراع دولي، ولستم امتداداً لجهة معينة، لكنكم مع ذلك لن تقفوا مكتوفي الأيدي عن أي تدخل في شؤونكم، وستدفعون كل ما تملكون من مال ونفس لصيانة كرامتكم، وحفظ بلدكم، فلا بد أن تطالبوا الغرب باحترامكم، والكف عن استثارتكم وإيقاد نار الفتنة بين شعبكم، ولا بد أن يعلم الغرب أنه سيخوض معركة خاسرة بكل المقاييس إذا ما حاول التدخل في الشأن الصومالي، فشعب خاض أكثر من ستة عشر عاماً من الحرب الأهلية أعتى على المحتل من شعب مسالم لا يعرف الحرب، وشعب خسر كل شيء لن يكون لديه ما يحرص على ألاَّ يخسره، وسيحاول جهده إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالطرف الآخر.(/3)
9 ـ لا شك أن ثمة رسالة قوية تنبعث من ثنايا هذا الانتصار لتصل وبطريقة غير مباشرة إلى أهل العلم، والقضاة، والدعاة، وأهل الخير، بأنهم هم القادة الحقيقيون للأمة المسلمة مهما عدت عليها العوائد، وإنه والله لأمر يثير عشرات الأسئلة أن نرى هذا الشعب الذي طحنه الاقتتال والقبلية، والفقر، وربما الجهل، طحنه ذلك لأكثر من ستة عشر عاماً بل ربما أكثر ـ ولا نريد أن ننسى فترة حكم الهالك زياد بري ـ يقرر أن الحل يكمن في تسليم رقبته لحفنة من «المشايخ، التقليدين، الذين لا يفقهون في السياسة، ولا في الأمور العصرية» كما يُوصَمون دائماً... إنها رسالة قوية وبليغة لكل عالم، وقاضٍ، وداعية، وشيخ، أنه ـ شاء أو أبى ـ من قادة الأمة، وأن مسؤوليات ضخام ستلقى على عاتقه يوماً ما، وأن الشعب يوماً سيمنحه ثقته، وأن هذا ليس ببعيد في ظل عالم إسلامي عرضة للحرب والدمار في أي وقت من الأوقات، إنها رسالة صريحة، ومباشرة، وصارمة، فعليهم أن يعوا مضمون هذه الرسالة، وأن يكونوا بقدر تلك المسؤولية... والله من قبل ومن بعد محاسبهم.
نسأل الله بكل اسم هو له سمَّى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علَّمه أحداً من خلقه أن يُكَلِّل هذا النصر بالنجاح، وأن يحُفَّه بانتصارات أخرى من قبل مسلمين آخرين، والله يتولى الجميع بحفظه، ورعايته، هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى والرحمة.(/4)
رسول المساكين
1439
الشمائل
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
ملخص الخطبة
1- نبينا رسول لكل البشر لكن له شأن خاص مع المساكين. 2- كفار قريش يعيبون على النبي جلوسه مع الفقراء والمساكين. 3- الميزان في وزن الرجال هو التقوى. 4- ذو البجادين. 5- صاحب هيئة رثة لكن لو أقسم على الله لأبره. 6- البراء بن مالك. 7- الضعفاء هم أتباع الأنبياء. 8- تفقد رسول الله للضعفاء. 9- حديث عن ظلم العمال الفقراء ومطالبة برفع الظلم عنهم.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة: رسول المساكين، وهو عليه الصلاة والسلام، رسول إلى كل البشر، إلى الملوك والمملوكين، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الكبار والصغار، إلى الرجال والنساء.
لكنني أريد اليوم أن أقف معه، عليه الصلاة والسلام، وهو يتعامل مع المساكين، يقف معهم، يرحمهم، يعلمهم، يرفع من شأنهم، يعيش مأساتهم وظمأهم وجوعهم، ودموعهم، ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [الأنعام:52].
وهل كان عليه الصلاة والسلام، يطرد الفقراء؟ وهل كان عليه الصلاة والسلام، يبعد المساكين؟ لا، ولكن للآية قصة.
أتى كبراء مكة وصناديدها من الذين عششت الجاهلية في رؤوسهم، فرأوا الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً في الحرم، وحوله بلال، وصهيب، وعمار، وابن مسعود، وكلهم مساكين وفقراء، فقال أبو جهل: يا محمد، إن كنت تريد أن نجلس معك، فاطرد هؤلاء الأعبد، حتى نجلس معك، فهمّ الرسول أن يفعل طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عليه هذه الآية[1].
إن هؤلاء الفقراء والمساكين المنكسرين خير من أولئك العظماء المتكبرين، إن أقفية هؤلاء المؤمنين أشرف من وجوه أولئك الكفرة، إن أقدام هؤلاء خير من رؤوس أولئك، لأن هؤلاء مؤمنون، موحدون، طائعون، وأولئك مكذبون، متكبرون، محادون لله ورسوله.
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف:28].
قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي : مرّ رجل على النبي ، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيت في هذا))؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع.
فسكت رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم مرّ رجل آخر، فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا))؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا))[2].
ما هو الميزان إذن؟ ما هو المقياس؟ ما هي المؤهلات التي ترفع الإنسان وتخفضه؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم))[3].
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ((اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين))[4].
وليس معنى هذا أن نترك الدنيا، أو نرمي المال، وإنما المعنى أن نعيش منكسرة قلوبنا لله ، ففي بعض الآثار أن الله عز وجل يقول: أنا مع المنكسرة قلوبهم لي.
والذي انكسر قلبه لله، هو من يعيش عبداً لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه.
لنقف اليوم مع نماذج من الفقراء والمساكين والمستضعفين، أحياها رسولنا عليه الصلاة والسلام، ورفعها، ووقف معها موقف شرف لا تنساه، بل لا ينساه التاريخ.
أتاه شاب من شباب مكة، وقد أخذ أهله كل شيء عنده، لأنه أسلم، جريمته الكبرى أنه أسلم، أخذوا ماله، وخلعوا ثيابه، فما وجد إلا شملة قسمها نصفين: نصف لأعلاه، ونصف لأسفله، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام، أجهش بالبكاء في وجهه، وقال: رأيته من أغنى شباب مكة، ومن أطيب شباب مكة، ثم ترك ذلك كله لله، إنه عبد الله ذو البجادين، وسمي بذي البجادين، لأنه قسم الشملة على نصفين ليستر بها جسده، وأتى جائعاً طريداً معذباً، يحمل لا إله إلا الله، محمد رسول الله.(/1)
وتمر الأيام، والرسول عليه الصلاة والسلام، يملأ قلبه حباً وحناناً وعطفاً ورحمة، ويخرج معه في غزوة تبوك، وينام الجيش وعدده أكثر من عشرة آلاف، وفي وسط الليل يستيقظ ابن مسعود فيرى ناراً تضيء في آخر المعسكر، فيلتمس الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يجده في مكانه، ويبحث عن أبي بكر فلا يجده، ويبحث عن عمر فلا يجده، فيذهب إلى مكان النار، فإذا الرسول عليه الصلاة والسلام حفر قبراً ونزل في القبر وسط الليل، وإذا أبو بكر وعمر يحملان جنازة يدليانها في القبر، فقال ابن مسعود: من هذا يا رسول الله، قال: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين، توفي هذه الليلة، ويجعل عليه الصلاة والسلام، ساعده تحت خد عبد الله، ودموعه تتقاطر على خد عبد الله في ظلام الليل، فلما أنزله قبره، رفع كفيه واستقبل القبلة وقال: اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، فبكى ابن مسعود وقال: يا ليتني كنت صاحب تلك الحفرة[5].
أيها الناس:
أي فوز أعظم من هذا الفوز، وأي شيء أفضل من أن يرضى الله ورسوله عن عبد، ولكن مع هذا فكثير من الناس رضوا بالبدائل الدنيوية، من المناصب والأموال والقصور ولم يعبئوا بغضب الحي القيوم، فأي عقول هذه العقول، وهل هناك عاقل يستطيع أن ينام ليلة وقد غضب الله عليه، وغضب عليه رسوله، ؟ لأنه يتعدى حدود الله، وينتهك شرعه، ويستهزئ بسنة نبيه .
اختصمت امرأتان في عهد النبي، عليه الصلاة والسلام، فأتت إحداهما واسمها الربيّع أخت أنس بن النضر، فقلعت سن المرأة الأخرى، ورفع الأمر إلى الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقال: كتاب الله، والسن بالسن.
فأتى أنس بن النضر، بطل المعارك، الذي قتل من الكفار مبارزة مائة، غير المئات التي صفى حسابهم تصفية جسدية، في بدر وأحد والأحزاب، فقال: يا رسول الله، أتريد أن تقلع سن أختي الربيّع؟ قال: نعم، كتاب الله. قال: والله لا تقلع سن أختي. ما معنى هذا القسم، هل هو اعتراض على الشرع؟ هل هو اعتراض على حكومة النبي ؟ كلا، ولكن أقسم أنس هذا القسم، رجاء في الله أن يبرّ قسمه، كأنه دعاء.
فلما أقسم أنس قال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا إلى أهل المرأة فإن رضوا بالأرش فلا بأس. فذهبوا إليهم فرضوا بالأرش، وكانوا قبل ذلك لم يرضوا به أبداً، وأقسموا لا يرضون إلا بسن الربيّع.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ ينظر إلى ثياب أنس بن النضر الممزقة وإلى جسمه النحيل ثم قال: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره))[6].
كأنه يقول له: أصبحت في منزلة إذا حلفت على الله، أبر الله قسمك!!
أي منزلة هذه، أن يقسم الإنسان الضعيف على الملك الجليل فيلبي قسمه!!.
وهذا البراء بن مالك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا ذهبوا إلى المعارك، أخرجوه وقالوا: أقسم على الله أن ينصرنا.
حضروا معركة تستر في الشمال، وحاصروها ورفض الكفار أن ينزلوا من القلعة، وكانت محصنة، وما كان الصحابة يملكون صواريخ، ولا مدافع، ولا حتى منجنيق إلا أنهم كانوا يملكون ما هو أعظم من هذا كله، يملكون الدعاء، الذي يتجاوز حدود الأرض فيصل إلى السماء فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
حاصر الصحابة القلعة، ثم قالوا للبراء نسألك بالله أن تقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم، قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل وتحنط وتطيب، ثم رفع سيفه، والتفت إلى السماء ليخاطب ربه مباشرة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك. هذا أول مؤهلات البراء.
وليسأل كل منا نفسه، هل يحب ربه؟ هل صحيح أننا نحن المسلمون نحب ربنا، فنمتثل أوامره، ونجتنب نواهيه، ونحب دينه وشرعه، ونقدم أنفسنا ودماءنا وأموالنا رخيصة لإعلاء كلمة الله.
لا أعني بمحبة الله – عز وجل – تلك المحبة المزعومة التي يدعيها كل الناس بألسنتهم، وليس لها في عالم الحقيقة وجود، فإن قوماً ادعوا محبة الله – عز وجل – فابتلاهم الله بهذه الآية: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. فظهر كذبهم، وبان عوارهم ودجلهم.
إنني لن أجيب عن هذا السؤال، فكل يجيب عليه في نفسه، أما البراء فقد كان صادقاً، كان جسمه يتقطع وهو يتبسم لأنه يحب الله.
قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا، وأني تجعلني أول قتيل، ودارت المعركة، فوالذي لا إله إلا هو كان أول قتيل في المعركة، وكان فوزاً ساحقاً للمسلمين، ودكّت القلعة دكاً، وقتل الكفرة، ورفعت راية لا إله إلا الله.
فأين هذه القلوب، وأين هذه النماذج التي تحب الله – عز وجل – وتعيش مع شرعه؟ فكان جزاؤها أنها تقسم على الله – عز وجل – فلا يردها، بل يبّرّ قسمها، ويلبي دعاءها.
وفي مناظرة ساخنة بين هرقل ملك الروم وبين أبي سفيان، الذي كان آنذاك عدّواً لدوداً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول هرقل: يا أبا سفيان أضعفاء الناس يتبعونه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال: أولئك أتباع الرسل[7].(/2)
ولا يعني هذا أن كل من جمع مالاً أو اغتنى، أو ولاّه الله أمراً أو منصباً أن يلغى، لا، لأن الأمة لا تستغني عن هؤلاء أيضاً، ولكن المعنى أن نرحم أولئك المساكين، وأن نعيش مأساتهم، وأن نحبهم، وأن نقف معهم ونلبي طلباتهم، لأن صوتهم ضعيف لا يصل، وخطوتهم قصيرة فلا تمتد، وتغلق الأبواب في وجوههم لأنهم مساكين، والأعطيات لا تنالهم لأنهم مساكين، فحق على المسلم أن يشفع لهم، وأن يعيش قضيتهم.
أيها الناس:
كان عليه الصلاة والسلام، يزور عجائز المدينة، ولعل أحداً يسأل، ولماذا لم يرسل أحداً من أصحابه، ويبقى هو في بيته؟
فنقول: إن زيارته لعجوز في طرف المدينة خير من ألف محاضرة، وألف كتاب، وألف تصريح، وألف خطبة.
يزور عليه الصلاة والسلام العجوز فيسألها عن حالها، ويمسكه الأعرابي في الطريق فيوقفه حتى ينتهي من حاجته، ويحمل الأطفال ويداعبهم، كان الفقير والمسكين والضعيف يأخذ بيديه عليه الصلاة والسلام، فينطلق به حيث شاء، فزكّاه ربه بتاج من الوقار والمديح والثناء، لا يعدله شيء وإنك لعلى خلقٍ عظيم [القلم:4].
إن القلوب القاسية ترفض هذا السلوك وتسميه تنازلاً وتدميراً للشخصية، وبعضهم يزعم أنه إذا زار الفقراء أو وقف مع المساكين، سقطت هيبته، وانهار كبرياؤه، ولذلك تجده يضيف على نفسه حالة من الكبر والعبوس والغلظة، فيمقته الله، ويسقطه من العيون، فلا تحبه القلوب، ولا تدعو له الألسنة، ولا تعشقه الأرواح، ولا يجد قبولاً في الأرض، بل بغضاً ومقتاً وكرهاً.
وقد ذكر عليه الصلاة والسلام؛ أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطؤهم الناس بأقدامهم[8].
نعوذ بالله من الكبر والمتكبرين، ومن الجبروت والمتجبرين، ونسأله تعالى أن يرحمنا برحمة المساكين، وأن يعفو عنا كما يعفو عن المذنبين.
عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: الدر المنثور (3/25، 26).
[2] أخرجه البخاري (6/123).
[3] أخرجه أبو داود (3/32) رقم (1594) ، والنسائي (6/46) رقم (3179) والترمذي (4/79) رقم (1702) ، وقال الترمذي: حسن صحيح ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع ، رقم (41).
[4] أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن أبي سعيد ، والطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1261).
[5] قال الهيثمي في المجمع (9/372) رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد ، وهو متروك.
[6] أخرجه أبو داود (4/197) رقم (4595) ، وابن ماجه (2884 ، 885) رقم (2649) ، وأحمد (3/128 ، 167 ، 284).
[7] أخرجه البخاري (1/5) ، ومسلم (3/1393-1397) رقم (173).
[8] أخرجه الترمذي (4/565) رقم (2492) وقال:حسن صحيح، وأحمد (2/179) وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (8040).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المعلم الأمين، والبشير النذير، والقائد النحرير، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس:
العمل والعمال قضية كبرى تحتاج إلى بسط من الحديث، وإلى مقام أطول من هذا المقام، لكنني أشير إليها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هؤلاء العمال قصتهم المأساوية تبدأ من يوم أن ترك أحدهم أطفاله وزوجته، وترك جيرانه وأهله، وترك بيته الذي كان يألفه، ومراتع الصبا التي عاش فيها، ترك كل ما يعرف، وكل ما يألف، وكل ما يحب، وسافر مئات الأميال، إلى بلاد هي غريبة عنه، لا يعرف فيها أحداً، ولا يألف فيها شيئاً، ولماذا أتى؟ هل أتى للسياحة؟ هل أتى ليجمع معلومات عن هذه البلاد؟ لا، إنما أتى طلباً للقمة العيش له ولأطفاله.
إنني أتكلم عن العمال المسلمين الموحدين، أما غير المسلمين، فقد أفتى كثير من أهل العلم أنه لا يجوز استقدامهم إلى جزيرة العرب، إنما أتكلم عن العمال المسلمين المساكين الفقراء، الذين أتوا من أنحاء الأرض يطلبون الرزق الحلال.
فتصور ماذا يحدث لبعضهم: أول ما يأتي إلى هذه البلاد، يجبره كفيله أن يدفع كل ما أنفق في الرحلة من بلاده إلى هنا، وهو مسكين لا يقدر على ذلك، فيجعل ذلك ديناً عليه، يؤديه إليه كل شهر، فيبقى المسكين شهوراً طويلة، يدفع ثمن التذكرة، وثمن التنقل، وثمن الفيزة، وغير ذلك.
ثم ماذا يحدث؟ اسألوا أصحاب المؤسسات وأصحاب المشروعات التجارية عن ذلك.
إن العامل من هؤلاء يتقاضى أربعمائة ريال، أو خمسمائة ريال أو ستمائة ريال، وبعضهم أقل من ذلك، ثم يأتي هذه الجبار الذي لا يرحم المستضعفين، فيطالبهم بحقوقه، ولا يدفع لهم حقوقهم، فإذا انتهى الشهر ماطلهم على هذا الراتب الزهيد البسيط الذي يصرفه الواحد منا في يوم واحد!!
ثم إذا طلب المسكين إجازة لم يعطه، يطلب أن يذهب إلى أطفاله فيرفض، فلا هو بالذي حصل على مالٍ لأهله، ولا أراح جسمه من العمل والظلم والعتو والجبروت.
فأين الإسلام؟ وأين ما تعلمناه من سيرة الرسول، عليه الصلاة والسلام ورحمته بالمساكين؟(/3)
هل يتصور أن يأتي صاحب الملايين فيأكل حقوق العمال المساكين، ويمنع عنهم أجورهم البسيطة؟
يأكل الطعام الشهي، ويطعمهم الخبز اليابس، يتعامل معهم كما يتعامل مع الدواب تماماً، فأين الإسلام؟ أين معنى الصلاة؟ أين أثر الإيمان الخالد؟
لماذا لا نسأل أنفسنا، أليس الله بقادر على أن يحوّل الحال فيصبحون هم الأغنياء، ونحن الفقراء، ويجعلهم هم الأثرياء ونحن المساكين وتلك الأيام نداولُها بين الناس [آل عمران:140]. فلابد أن نضع في حسابنا أنه يمكن في مرحلة من مراحل القضاء والقدر أن نصل إلى هذا المستوى، فنسافر إلى بلادهم طلباً للرزق.
وهناك سؤال آخر، ألا نسْتبْقِ نعمة الله علينا، ألا نشكره أن جعلنا في هذا الوضع وفي هذه المعيشة الهنية والحياة الرغيدة؟
رجل عنده الملايين يمارس الظلم والجبروت على هؤلاء العمال المساكين ألا يسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من استرعاه الله رعية فمات هوه لها غاش حرم الله عليه الجنة))[1].
فلا حيّا الله تلك الثروات الطائلة، إذا كانت مبنية على الظلم والكبر والعتو.
فيا أيها الناس:
ارفعوا الظلم عن هؤلاء المساكين، من كانت عنده مؤسسة، أو شركة، أو كان لديه عمال تحت كفالته فليتق الله فيهم.
ارفعوا الظلم فإن الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: ((الظلم ظلمات يوم القيامة))[2]. ويقول: ((وفي كل كبد رطبة أجر))[3]. إن أطعمت كلباً يمكن أن يكون ذلك سبباً لدخولك الجنة.
زنت امرأة من بني إسرائيل وأسرفت على نفسها وعصت ربها، وفي يوم مرت بكلب يلهث من العطش، يأكل الثرى، يمد لسانه إلى الطين، فدلت الدلو في البئر ونزعته وسقت الكلب، فغفر الله لها[4].
هذا مع الكلاب في عالم الكلاب، فكيف بعالم البشر، وكيف بعالم المسلمين.
وفي صحيح مسلم قال النبي : ((دخلت امرأة النار في هرّة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا سقتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض))[5].
وهذا في عالم القطط، فكيف بالذي يترك الإنسان بلا طعام ولا شراب ولا مأوى.
ثم إن هؤلاء العمال لماذا نتركهم يعملون أثناء الصلوات المفروضة، ألا نتقي الله فيهم، أليسوا مسلمين؟ أليسوا مطالبين بالصلاة؟ نمر بكثير من العمارات التي تُبنى، فنرى العمال يحملون آلاتهم ثم لا يلبون ذلك النداء العظيم، من المسؤول عن هذا؟ إن هذا جرح لمشاعر المسلمين، وانتهاك للمنهج الرباني الخالد.
ألا فارفعوا الظلم عن هؤلاء، ((الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))[6]. قفوا مع هؤلاء المساكين، لبوا طلباتهم، عيشوا مأساتهم، أحسنوا إليهم، فإن ربكم – تبارك وتعالى – مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [النحل:128].
اللهم صلّ على المعصوم، وبلغه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي العشرة المبشرين، وعن سار الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك ومنّك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري (8/107) ومسلم (1/125) رقم (142).
[2] أخرجه البخاري (3/99).
[3] أخرجه البخاري (3/77) ، ومسلم (4/1761) رقم (2244).
[4] أخرجه مسلم (4/1761) رقم (2245).
[5] أخرجه البخاري (3/77) ، ومسلم (4/1760) رقم (2242 ، 2243).
[6] أخرجه الترمذي (4/285) رقم (1924) قال الترمذي : حسن صحيح ، وأبو داود (4/285) رقم (494) ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3522).(/4)
رسولنا الذي لم يعرفوه؛ صلى الله عليه وسلم
إعداد/ اللجنة العلمية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:
فلقد عمد أعداء الإسلام والحاقدون عليه والحاسدون له والكارهون للهدى ودين الحق إلى مهاجمته في جولة جديدة من جولات الظلم والعدوان، والكراهية والبهتان، تمثلت هذه الجولة في الاستهزاء بسيد البشر، سيد ولد آدم، وإن ما فعلوه سيندمون عليه في الدنيا والآخرة ولن ينفعهم الندم، فمن ندمهم في الدنيا؛ تلك المكاسب والمغانم العظيمة للمسلمين التي لا تعدلها الملايين من الأموال، والممثلة في تميز المسلمين بعد ذوبانهم في غيرهم، وانحيازهم إلى نبيهم بعد أن أهملوا كثيرًا من سيرته وسنته، فضلا عن الحجم الباهظ من المؤلفات والمقالات والرسائل والكتب والإذاعات المرئية والمسموعة والخطب والدروس التي تعرّف بالنبي صلى الله عليه وسلم وتحث الأمة على طاعته واتباع هديه، إضافة إلى ترسيخ الكراهية في قلوب المسلمين تجاه أهل الضلال والانحراف، وشحنها إيمانيًا بتعظيم اللَّه ورسوله، ومعه احتقار الباطل والكفر به، بل من النتائج والمكاسب أيضًا تفتح عيون اللادينيين والمنصرفين إلى دنياهم ليعرفوا الكثير عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان المجرمون الذين أساءوا للإسلام والمسلمين بالاستهزاء بنبيهم يعلمون أن كل ذلك سيحدث لما فعلوه، ولو أعطيناهم أغلى ما يملكه أهل الإسلام من مال ودنيا، ومن النتائج أيضًا؛ تلك الخسائر الفادحة في اقتصادهم وأموالهم ودنياهم التي هم أحرص الناس عليها، مما يورث الفتن والشحناء بينهم والبأس الشديد، قال تعالى: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [الحشر:14]، ومن النتائج أنهم استجلبوا مزيدًا من سخط اللَّه عليهم وتعجيلاً لتنكيل اللَّه تعالى بهم، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم [البقرة]، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [العنكبوت].
عند هذا كله يعرف المسلمون جيدًا ما قاله اللَّه تعالى في أمثال هؤلاء المنحرفين من قبل: لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم [النور: 11].
إنهم وإن كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم على الإجمال كما أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكنهم لطول الأمد وقسوة القلوب وامتلائها بالحقد والكراهية والتعصب الأعمى البغيض نسوا الجوانب الهامة العظيمة التي أودعها اللَّه تعالى في أخلاق هذا النبي الكريم وشخصيته.
لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين ليبين لهم هدفًا من أهداف بعثته فيقول: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». [السلسلة الصحيحة (54)]، تلك الأخلاق التي يتشدقون بحمايتها ويزعمون كذبًا صيانتها ويسمونها حرية وحضارة، وهم في الحقيقة أعداء الحرية والحضارة، جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليريح المظلومين من شبح العنصرية المبنية على اختلاف الأديان والأوطان والألوان والألسنة، فيعلن النبي وهو عربي للبشرية جمعاء «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى». [غاية المرام (803)] ويذيع لهم خبر السماء الذي انطلق منه وبه: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات] ثم يعرفهم الأصل الذي ينتمون إليه ليلتفوا حوله جميعًا: «الناس ولد آدم وآدب من تراب». [السلسلة الصحيحة (9001)] ويزيح ستار الظلم والبغي: «إن اللَّه أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد». [السلسلة الصحيحة (075)]
هذه المعاني وأكثر منها لو ذكرت أمام الغربيين الحاقدين لقالوا نحن الدعاة إليها، بل يحاولون عند احتلالهم لقطر من الأقطار أن يذيعوا ويشيعوا أنهم جاءوا حماة لهذه المبادئ، فكيف لو عرفوا أن الداعية الأول إليها هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بدون احتلال، ولا خداع واحتيال، فمن كان يؤمن بذلك بعد توحيد اللَّه تعالى فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، دمه وماله وعرضه حرام على من طمع فيه.
وهذه نماذج مشرفة ومواقف خالدة لهذا النبي العظيم في معاملة المنافقين وغير المسلمين:
أولها: موقفه صلى الله عليه وسلم من كبير المنافقين ابن سلول لمَّا أهانه(/1)
عن أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يُسلم عبد اللَّه بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد اللَّه ابن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خَمَّر عبداللَّه بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى اللَّه وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللَّه بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد اللَّه بن رواحة: بلى يا رسول اللَّه، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟»- يريد عبد اللَّه بن أبي - قال كذا وكذا. قال سعد بن عبادة: يا رسول اللَّه، اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء اللَّه بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى اللَّه ذلك بالحق الذي أعطاك اللَّه شَرِق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صلاته صلى الله عليه وسلم على ابن سلول عند موته وكان قد أسلم
لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ النبي قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ؟ قَالَ: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم. فَقَالَ سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ» قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون. [رواه البخاري]
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع من تعاهد معه من المشركين
قال حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلا الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: «انْصَرِفَا؛ نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ». [مسلم]
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم بالعهود مع أهل الذمة من المشركين
ما حدث مع بني عامر:
ذكر الطبري في تاريخه قال: خرج عمرو بن أمية (رجل من المسلمين) حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر (من الكفار) حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية وقد سألهما حين نزلا ممن أنتما؟ فقالا: من بنى عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بنى عامر بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين، لادينهما». يعني أن يدفع الدية. [تاريخ الطبري]
والموقف الثالث هنا وفاؤه لقريش بعهدها
الذي عاهدته إياه في صلح الحديبية
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: آت محمدًا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح.(/2)
فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب (العهد)، وثب عمر فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بلى. قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنِية في ديننا ؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال: بلى، قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى. قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى. قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.
وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا.
قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال: فقال سهل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب «باسمك اللهم» فكتبها، ثم قال: اكتب «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو».
فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك.
ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فقال رسول الله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل ابنه قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين. القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم " قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه. قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون. [البداية والنهاية لابن كثير]
منعه صلى الله عليه وسلم الغدر بالكفار
وكثيرًا ما منع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في كل مواقفهم من الغدر ولو بالمشركين.(/3)
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ.
[مسلم]
وينهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والأطفال
عن نافع أن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أخبره أن امرأة وُجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان.
[البخاري]
عفوه صلى الله عليه وسلم عن أعدائه بعد قدرته عليهم
عند فتح مكة وغيرها
عندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال: «يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». [البداية والنهاية]
وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أخبره أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر فنزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ثم نام فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي فقال من يمنعك ؟ قلت: اللَّه، فشام السيف فها هو ذا جالس». ثم لم يعاقبه. [البخاري ومسلم](/4)
رضاع الكبير
إعداد/ زكريا حسيني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين، وبعد:
أخرج أبو داود في سننه عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا وأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهو مَوْلًى لاَمْرَأةٍ مِن الأنصار، كما تَبَنَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان مَنْ تَبَنَّى رَجُلاً في الجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ الناسُ إلَيه وَوَرِثَ مَيراثَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في ذَلِكَ: ادعوهم لآبائهم إلى قوله: فإخوانكم في الدين ومواليكم [الأحزاب: 5]، فَرُدُّوا إلى آبَائِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وأخًا في الدِّين، فَجاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو القُرَشِيِّ ثُمَّ العَامِرِيِّ وَهي امْرَأَةُ أبي حُذَيْفَةَ، فَقَالَتْ: يَا رسولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلدًا فَكانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أبي حُذَيْفَةَ في بَيْتٍ وَاحدٍ وَيَراني فُضُلاً، وقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهم مَا قَدْ عَلِمْت فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فقالَ لَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ» فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضعاتٍ، فَكَانَ بمنزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ عائِشَةُ تَأْمُرَ بَنَاتِ أَخَواتِها وبَنَاتِ إخوانِها أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا. وأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجٍ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحدًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ. وقُلْنَ لِعَائشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي، لَعَلَّهَا كَانتْ رُخْصَةً مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِسالِمٍ دُونَ النَّاس.
وأخرج هذا الحديث من حديث عروة بن الزبير الإمام مالك في الموطأ في كتاب الرضاع، وعنه الإمام الشافعي في الأم، ولقد رُوي هذا الحديث مختصرًا بحذف بعض ألفاظه، وبسياق دون هذا السياق، فقد أخرجه الإمام البخاري في المغازي وفي النكاح، والإمام مسلم في الرضاع، والنسائي في كتاب النكاح، باب رضاع الكبير، وابن ماجه في النكاح باب رضاع الكبير وهؤلاء ثلاثتهم أخرجوه من حديث القاسم عن عائشة، وأخرج الخبر في إباء (أي رفض) سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما فعلته عائشة رضي الله عنهن أجمعين، على أن ذلك كان رخصة لسالم وحده؛ مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الإمام أحمد في المسند (6/255، 269، 270)، والدارمي وعبد الرزاق عن عائشة رضي الله عنها.
شرح الحديث
قوله: «إن أبا حذيفة تبنى سالمًا» التبني معروف، وهو أن يلحق الرجل بنفسه ابنا ليس له، وقد كان في الجاهلية قبل الإسلام يُلحق الرجل بنفسه الابن ويعده من أبنائه حتى إنهما ليتوارثان، فأبطل الإسلام ذلك، وأمر أن يُردَّ كل رجل إلى أبيه، وأن يُدْعى به، والذي لا يُعْلَمُ له أب يصير من موالي الشخص ومن إخوانه في الدين.
قوله: «وأنكحه ابنة أخيه» هذا الفعل من أبي حذيفة دليل على تبنيه سالمًا وشدة عنايته به. على أن العربي كان يفرق في المعاملة بين المولى وغيره، فأبو حذيفة عملا منه بالتبني زوَّجَ سالمًا ابنة أخيه ولم يأنف من ذلك لأنه عده ابنه على الحقيقة، ولو كان يعده مولى ما زوجه ابنة أخيه كما هي عادة العرب في جاهليتهم.
قوله: «فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي حذيفة فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالمًا ولدًا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فُضُلاً، وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟» فأما قولها: كنا نرى سالمًا ولدًا فلأنهم تبنوه، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد. وفي رواية: وليس لنا إلا بيت واحد، وقولها: ويراني فُضُلاً: أي متبذلة في ثياب مهنتها، أو في ثوب واحد لا إزار تحته.(/1)
قوله: «أرضعيه». وفي رواية: «أرضعيه حتى يدخل عليك». وفي رواية: «أرضعيه تحرمي عليه». وفي رواية أخرى لما قالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه». فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير، فتبسَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: «قد علمت أنه كبير». وفي رواية أخرى: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لعائشة رضي الله عنها: إنه يدخل عليك الغُلامُ الأيْفَعُ الذي ما أحب أن يدخل عليَّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: أما لك في رسول الله أسوة؟ إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالمًا يدخل عليَّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه حتى يدخل عليك». والغلام الأيفع في قول أم سلمة: أي الغلام الذي لم يبلغ الحلم.
مذاهب العلماء في رضاع الكبير
قال أبو عمر بن عبد البر: وهو مذهب عائشة من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن القول بهذا الحديث وهو حديث سالم مولى ابي حذيفة، أخذت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال: حملت عائشة حديثها هذا في سالم على العموم، فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر وبنات إخوانها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها.
قال: ورأى غيرها هذا الحديث خصوصًا في سالم- أي خاصًا به لا يقاس عليه غيره.
ثم قال رحمه الله تعالى: واختلف العلماء في ذلك كاختلاف أمهات المؤمنين:
فذهب إلى القول بأن رضاعة الكبير تحرم كل من: الليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح وابن علية، قال الشوكاني وحكاه النووي عن داود الظاهري، وإليه ذهب ابن حزم، وقال أيضًا: وهو مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما حكاه عنه ابن حزم، وأما ابن عبد البر فأنكر الرواية عنه وقال: لا يصح.
ونقل ابن عبد البر عن مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت عطاءً يُسأل: قال له رجل: سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلاً، أفأنكحها؟ قال: لا، قلت: ذلك رأيك؟ قال: نعم.
قال أبو عمر عقب ذلك: هكذا يكون رضاع الكبير- كما ذكر عطاءٌ- يحلب له اللبن ويسقاه، وأما أن تلقمه ثديها كما يصنع بالطفل فلا؛ لأن ذلك لا ينبغي عند أهل العلم.
ثم قال: وقد أجمع أهل العلم على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة وإن لم يمصه من ثديها، وإنما اختلفوا في السعوط به وفي الحُقنة والوَجُورِ وفي جُبْنٍ يصنع له منه: (الوَجُورُ: الدواء يصب في الحلق).
وهؤلاء- القائلون بالتحريم برضاع الكبير- عمدتهم حديث عائشة رضي الله عنها الذي معنا.
ولقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن ابن أبي مليكة بعد أن ساق حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها: فَمَكَثْتُ سنةً أو قريبًا منها لا أحدث به رهبة له، ثم لقيت القاسم، فقلت له: لقد حدثتني حديثًا ما حدثت به بعد، فقال: ما هو؟ فأخبرته، فقال: حدِّث به عني فإن عائشة أخبرتنيه.
قال ابن عبد البر: هذا يدل على أنه حديث ترك قديمًا، ولم يُعْمَلْ به، ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه، بل تلقوه بالخصوص.
من لم ير رضاع الكبير من العلماء
ثم قال: وممن قال: إن رضاع الكبير ليس بشيء: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأبو هريرة، وابن عباس، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة، وجمهور التابعين وجماعة فقهاء الأمصار منهم مالك وابن أبي ذئب وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد والطبري. اهـ.
واستدل هؤلاء بقوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [البقرة: 233]، كما استدلوا بأحاديث وآثار، منها:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعندي رجلٌ فقال: من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة. قال: يا عائشة انْظُرْنَ مَنْ إخْوانُكُنَّ فإنَّما الرَّضَاعَةُ مِن المجَاعَةِ.
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه]
2- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا يُحَرِّمُ من الرَّضَاعِ إلاَّ مَا فَتقَ الأمعَاءَ وكان في الثَّدْيِ، وكان قبل الفطامِ».
[أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه]
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين».
[رواه الدارقطني]
4- عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع بعد انفصال ولا يُتم بعد احتلام».
[رواه أبو داود الطيالسي في مسنده]
5- وعن ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه: «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم». أخرجه أبو داود.(/2)
6- روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن رجلاً سأل أبا موسى الأشعري فقال: إني مصصت عن امرأتي من ثديها لبنًا، فذهب في بطني، فقال أبو موسى: لا أراها إلا قد حرمت عليك، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: انظر ماذا تفتي به الرجل؟ فقال أبو موسى: فماذا تقول أنت؟ فقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لا رضاعة إلا ما كان في الحولين، فقال أبو موسى: يا أهل الكوفة لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم.
7- جاء رجل إلى عبد الله بن عمر يسأله عن رضاعة الكبير، فقال عبد الله بن عمر: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني كانت لي وليدة وكنت أطؤها، فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلت عليها، فقالت: دونك، فقد والله أرضعتها، فقال عمر: أوجعها وَأْتِ جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. [أخرجه مالك في الموطأ]
قال أبو عمر بن عبد البر: قد ذكرنا أنَّ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب كانا لا يريان رضاعة الكبير شيئًا، فيمن ذكرنا من الصحابة في هذا الباب، وقال أيضًا: وقد ذكرنا أن أبا موسى رجع إلى قول ابن مسعود في هذه المسألة من رضاع الكبير، ولولا أنه بانَ له أنَّ الحقَّ في قول ابن مسعود ما رجع إليه، ولا يزال الناس بخير ما انصرفوا إلى الحق إذا بان لهم.
[اهـ من الاستذكار بتصرف]
ولقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد مناظرة بين القائلين برضاع الكبير وبين القائلين بالحولين وأطال فيها ونحن نورد هنا ما تلخص من هذه المناظرة: قال المتعلقون بحديث عائشة بخصوص قصة سالم مولى أبي حذيفة:
هذا الحديث رواه من الصحابة أمهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع، ورواه عن هؤلاء الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة، ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وابن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم، قال الشوكاني بعد أن نقل هذا الكلام: وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر. [اهـ من نيل الأوتار]
ذكر ابن القيم بعد ذلك ردود القائلين بثبوت التحريم برضاع الكبير على أصحاب الحولين مفندين لأدلتهم، وفي آخرها قال: قالوا: وقد صح عنها أنها كانت تدخل عليها الكبير إذا أرضعته الرضاع المحرم أخت من أخواتها، ونحن نشهد بشهادة الله، ونقطع قطعًا نلقاه به يوم القيامة، أن أم المؤمنين لم تكن لتبيح ستر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهكه من لا يحل له انتهاكه، ولم يكن الله عز وجل ليبيح ذلك على يد الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سماوات، وقد عصم الله تعالى هذا الجناب الكريم والحمى المنيع والشرف الرفيع أتم عصمة، وصانهُ أعظم صيانة، وتولى صيانته وحمايته والذَّبَّ عنه بنفسه ووحيه وكلامه. إلى آخر كلامهم.
ثم ذكر رحمه الله تعالى أن القائلين بالحولين اختلفوا في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك:
أحدها: أنه منسوخ، وهذا مسلك كثير منهم، قال: ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث، ولو قلب أصحاب هذا القول عليهم الدعوى، وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة لكانت نظير دعواهم.
المسلك الثاني: أنه مخصوص بسالم دون من عداه، وهذا مسلك أم سلمة رضي الله عنها ومن معها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهن، قال: وهذا المسلك أقوى مما قبله- أي أن مسلك التخصيص أقوى من مسلك النسخ- ثم ذكر أقوال أصحاب هذا القول إلى أن قال:
قالوا: ويتعين هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه لَزِمَنَا أحد مسلكين، ولابد منهما، إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم، وإما نسخها به، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ، ولعدم تحقق المعارضة ولإمكان العمل بالأحاديث كلها.
ثم قال رحمه الله تعالى فيما أورده من ردود أصحاب الحولين: وأما حديث الستر المصون والحرمة العظيمة والحمى المنيع، فرضي الله عن أم المؤمنين، فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يثبت المحرمية، فسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخالفنها في ذلك، ولا يرين دخول هذا الستر المصون والحمى المنيع بهذه الرضاعة، فهي مسألة اجتهاد، وأحد الحزبين مأجور أجرًا واحدًا، والآخر مأجور أجرين، وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة.
فكلٌ من المُدْخِل للستر المصون بهذه الرضاعة، والمانع من الدخول فائز بالأجر، مجتهد في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذ حكمه، ولهما أسوة بالنبيين الكريمين- داود وسليمان- اللذين أثنى الله عليهما بالحكمة والعلم، وخص بفهم الحكومة أحدهما.(/3)
المسلك الثالث: أن حديث سهلة ليس بمنسوخ، ولا مخصوص، ولا عام في حق كل أحد، وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصص هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له، والله الموفق. [اهـ. من زاد المعاد (ج5)]
ويظهر فائدة الأخذ بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مثل الحالات التي تقوم فيها أسرة بتربية طفل يتيم أو نحوه ثم يعسر عليهم بعد ذلك الاحتجاب عنه وقد تربى معهم كواحد من أولاد الأسرة، فحينئذ يرتضع هذا الغلام ويصبح محرمًا يدخل بلا حرج عليه ولا على للأسرة، والله المستعان.
وبعد، فهذه أحكام شريعتنا بيضاء ناصعة، ليلها كنهارها، كما تَرَكَنَا عليها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، نرى فيها الطهر والعفاف، وتحري الحق والبحث عن الصواب بكل طريق، وقد علمت أخي المسلم قول بعض علمائنا كابن عبد البر: وهكذا يكون رضاع الكبير بأن تحلب المرأة لبنها في كوب ويشربه، لا أن تلقمه ثديها كما يفعل بالصغير، ولقد قال أيضًا في شرح كلمة «فُضُل» وقال ابن وهب: فُضُلٌ: مكشوفة الرأس والصدر. وقيل: الفُضُل التي عليها ثوب واحد ولا إزار تحته، قال: وهذا أصح إن شاء الله تعالى، لأن انكشاف الصدر لا يجوز أن يضاف إلى ذوي الدين عند ذي محرم ولا غيره، لأن الحرة عورة (مجتمع على ذلك منها) إلا وجهها وكفيها.
فالعجب ممن ينطلي عليه تشكيك أعداء الإسلام وما يلقونه من شبهات حول ديننا الحنيف دين العفة والطهر والنقاء، أولئك الذين لا يعرفون فضيلةً ولا حياءً ولا سترًا بل يعيشون متكشفين مختلطًا رجالهم بنسائهم كالأنعام أو كالحيوانات الضالة، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ثم يتهجمون على ديننا وهم لا يعقلون، والعيب ليس فيهم، لكن العيب فيمن ينساق وراءهم من جهلة المسلمين الذين لا يميزون بين حق وباطل ولا بين هدى وضلال، أو ينطلي عليهم أقوال الروافض الذين اتخذوا من سب الصحابة دينًا ولا سيما خيارهم كالصديق والفاروق وابنتيهما كأمثال هؤلاء المستهزئين السافرين الذين يقولون: إذن؛ من كان عنده سائق أو خادم فلترضعه امرأته ويدخل عليها!! ونحن بدورنا نسأل هؤلاء: وهل عندكم ستر أو حجاب بين نسائكم وبين خدمكم أو سائقيكم؟! ولكن البهتان والإفك والزور له أهله الذين لا يعرفون حياءً ثم يتهكمون بأهل الحياء والفضيلة والستر.
والحمد لله رب العالمين(/4)
رمضان بين الطاعات والآفات رياض يحيى الغيلي ...
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين ...
اللهم لك الحمد حتى ترضى .. ولك الحمد بعد الرضى .. ولك الحمد في الآخرة والأولى .
اللهم لك الحمد على كل نعمة أنعمت بها علينا .. في قديم أو حديث .. أو عامة أو خاصة .. لك الحمد بالإسلام .. ولك الحمد بالإيمان .. ولك الحمد بالقرآن .. ولك الحمد بالمعافاة ..
اللهم إياك نعبد .. ولك نصلي ونسجد .. وإليك نسعى ونحفد ... نرجو رحمتك ونخشى عذابك .. إن عذابك الجد بالكفار ملحق .
وأشهد ألا إله إلا الله ... لا إله إلا الله ... لا إله إلا الله ..
ولا نعبد إلا إياه .. ولا نرجو سواه .. عظيم السلطان والجاه .. افلح من دعاه .. وسعد من رجاه .. وفاز من تولاه .
لا إله إلا الله : عبد الله :
إذا دعوت فقل : يا ألله ... إذا رجوت فقل : يا ألله .... إذا أصابك كرب فقل : يا ألله ... وإذا أصابك ضر فقل : يا ألله ... يا ألله ... يا ألله .
هي أجمل الكلمات قلها كلما ضج الفؤاد وضاقت الأزمان
وأشهد أن نبينا ورسولنا وعظيمنا وقائدنا وقدوتنا محمداً .. رسول الله ..
أشرح الناس صدراً ... وأرفع الناس ذكراً ... وأعظم الناس قدراً ... وأعلى الناس شرفاً .. وأكثر الناس صلاة وصوماً .
إن البرية يوم مبعث أحمد *** نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار *** من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة *** جبت الكنوز فحطمت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه *** لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
صلى عليك الله يا خير الأنام ... يا من هديت لنا فقه الصيام ...
أما بعد : فيا حملة القرآن .. ودعاة الرحمن : ماذا أقول .. وعن أي شيئ أتحدث .. ونحن بين يدي ضيف كريم عزيز على القلوب ؟
ماذا أقول ونحن بين يدي سيد الشهور ... شهر القيام والطهور .. شهر الصيام و السحور .
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام *** يا حبيباً زارنا في كل عام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا *** ثم زدنا من عطاياك الجسام
أيها المؤمنون الأعزاء : لعلكم سمعتم الكثير عن رمضان .. ولعلكم قرأتم الكثير عن رمضان .. لعلكم عرفتم أن رمضان : شهر التوبة والإحسان ... شهر الصلاح والإيمان ... شهر الصدقة والإحسان ... شهر مغفرة الرحمن .. شهر تزيين الجنان ... وتصفيد الشيطان ..
ولعلكم علمتم أن رمضان : شهر العتق .. وشهر الصدق .. وشهر الرفق .
ولعلكم علمتم أن رمضان شهر القران : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون ) .
أيها المؤمنون الأوفياء : رمضان في هذه الأعوام غنيمة .. لأنه يأتي في فصل الشتاء ، الذي قال عنه بعض السلَف : الشتاء ربيع المؤمن قَََصُرَ نهارُهُ فصامَه ، و طالَ ليلُه فقامَهُ ، و هذا مصداق لقول النبيّ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: ( الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة ) .
ولهذا أجدني اليوم مضطراً للحديث عن رمضان ... حديثاً ذا شجون ... أتناول فيه بعضاً من الأخطاء التي يقع فيها الناس خلال رمضان .. وسوف أسميها في هذا الحديث (رمضان بين الطاعات والآفات) .
أيها المؤمنون الأعزاء :
الطاعة الأولى : التوبة ... التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها .. توبة خالصة نصوحا ...
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فبادر أيها الأخ الحبيب إلى التوبة .. ولا تيأس من رحمة الله .. فاليأس والقنوط سلاحٌ لإبليس يمضيَه في العاصي حتى يستمر على عصيانه ... مهما عمل العبد من المعاصي والفجور ... فالإسلام لا يأس فيه من رحمة الله ... فالتوبة تهدم ما قبلها ... والإنابة تجب ما سلفها... فمن كان مبتلى بمعصية ... فرمضان موسم التوبة والإنابة، الشياطين مصفّدة ، والنفس منكسرة ، والله تعالى ينادي: (قُلْ يعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ).
ُويقول في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))(/1)
في هذا الشهر قوافل من التائبين يقصدون عفو الله ... فكن أحدهم ... فما أجمل أن يكون رمضان بداية للتوبة والإنابة .. فكم فيه من التائبين إلى الله ... وكم من المستغفرين من ذنوبهم ... النادمين على تفريطهم.
أنا العبد الذي كسب الذنوبا *** وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا *** على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد المسئ عصيت سراً *** فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمر *** فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر *** أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا *** وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا الغدّار كم عاهدت عهداً *** وكنت على الوفاء به كذوبا
فيا أسفي على عمر تقضى *** ولم أكسب به إلا الذنوبا
ويا حزناه من حشري ونشري *** بيوم يجعل الولدان شيبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي *** اذا ما أبدت الصحف العيوبا
ويا حذراه من نار تلظى *** اذا زفرت أقلقت القلوبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا *** خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا
تقابل هذه الطاعة العظيمة آفة جسيمة : هي استغلال ما تبقى من شعبان في الإقبال على المعاصي
فالظالم يزيد من ظلمه ... والغاش يزيد في غشه ... وآكل الربا يزداد له أكلاً .. والسفيه يزداد سفهاً ...والفاجر يزداد فجوراً ..
هؤلاء يقبلون بشغف على محارم الله فينتهكونها بين يدي هذا الشهر الفضيل .. فيختمون شعبان بالمعاصي التي سيُحال بينهم و بينها بالصيام في رمضان ... و حالهم كما قال قائلهم :
إذا العشرون من شعبان ولت *** فواصل شرب ليلك بالنهار
و لا تشرب بأقداح صغار *** فإن الوقت ضاق عن الصغار
و لهؤلاء و أمثالهم من المقيمين على المعاصي ، و يغفلون عن علاّم الغيوب ، نصيب من قوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ و لا تشرب بأقداح صغار *** فإن الوقت لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُون).
الطاعة الثانية : الإمساك عن الطعام والشراب : وهو المرتبة الدنيا من مراتب الصيام .. ويسمى " صوم العموم"
وهي طاعة يقول عنها الحبيب محمد ( صلى الله عليه وسلم) : ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه من أجلي كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به))
كما أنها طاعة تدرب النفس على كسر شهواتها ... وكبح جماحها ... وتشعر المسلم بألم الجوع والحرمان الذي يعانيه الفقراء والمساكين ... بل وفيها من الفوائد الصحية ما يغني عن كثير من الأدوية ..
يقابل هذه الطاعة العظيمة آفة خطيرة : هي أن الكثير من الناس جعلوا رمضان موسماً للأكل والشراب ..
فتجد الكثير من الناس يأكل في رمضان ضعف ما يأكله في غير رمضان .. وينفق على شراء الأطعمة في رمضان أضعاف ما ينفق في بقية الأشهر ...
تجدون هؤلاء الناس يتسابقون على معارض الشهر الكريم ... تلك المعارض التي تجمع فيها أصناف المآكل والمشارب ... فلا يأتي رمضان إلا وقد ملئت المخازن
ثم إذا ما جاء رمضان .. تعال وانظر إلى حال صاحبنا .. وهو يوصي أهله بإعداد الأصناف المختلفة من المطاعم والمشارب ... ويظل يتردد طول نهاره بين البقالات والمطاعم .. ليجمع منها كل ما لذ وطاب .. من طعام وشراب ... فإذا ما أذن مؤذن المغرب .. تراه منكباً على طعامه وشرابه دون حساب ... هؤلاء وأمثالهم صدق في وصفهم من قال :
وأغبى العالمين فتى أكول *** لفطنته ببطنته انهزام
ولو أني استطعت صيام دهري *** لصمت فكان ديدني الصيام
ولكن لا أصوم صيام قوم *** تكاثر في فطورهم الطعام
فإن وضح النهار طووا جياعا *** وقد هموا إذا اختلط الظلام
وقالوا يا نهار لئن تجعنا *** فإن الليل منك لنا انتقام
وناموا متخمين على امتلاء *** وقد يتجشئون وهم نيام
فقل للصائمين أداء فرض *** ألا ما هكذا فرض الصيام
الطاعة الثالثة : صوم الجوارح : وهو المرتبة الوسطى من مراتب الصيام .. ويسمى " صوم الخصوص"
تصوم اليد عن المعاصي ؛ فلا تبطش .. ولا تسرق .. ولا تضرب ..
وتصوم الرجل عن المشي إلى المعاصي ...
و يصوم اللسان عن الكذب .. وقول الزور .. والنميمة والغيبة .. والسب .. والجدال ..
وتصوم الأذن عن سماع الغناء .. وتصوم العين عن النظر إلى العورات .
وصدق رسول الله حيث قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))
وقال عمر بن الخطاب: ليس الصوم من الشراب والطعام وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو.
وقال جابر بن عبد الله: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأتم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء).(/2)
يقابل هذه الطاعة الجليلة آفة كليلة : هي أن كثيراً من الناس لم يفقهوا حقيقة الصيام .. فامتنعوا عن الطعام والشراب في نهار رمضان .. ولم يمنعوا جوارحهم من الخوض فيما يجرح الصيام ..
العجب كل العجب : أن تجد صائماً يكذب .. ويقول الزور .. ويسعى بالنميمة ... ويأكل لحم أخيه ويدعي أنه صائم ...
يظلم ... ويغش .. يضرب ويسب ... يبطش و يسرق .. يتتبع العورات .. وينظر إلى المحرمات ..
إذا لم يكن في السمع مني تصامم *** وفي مقلتي غض،وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما *** وإن قلت : إني صمت يوما فما صمت
يا مديم الصوم في الشهر الكريم *** صم عن الغيبة يوما والنميم
وصلِّ صلاة من يرجو ويخشى *** وقبل الصوم صم عن كل فحشا
الطاعة الرابعة : استغلال الوقت في العبادات والطاعات .. من صلاة وقيام .. وصدقة وإطعام ..وقراءة القرآن ..وذكر الواحد الديان ...
ذلك لمن عرف قدر رمضان ... وعرف خصائص رمضان ..
فالمسلم يعلم أن : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه )
والمسلم يعلم أن : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )
والمسلم يعلم أن من عمل خصلة من خصال الخير في رمضان كان له بها أجر فريضة .
والمسلم يعلم أن في رمضان ليلة هي خير الليالي ، وأن عبادة فيها تعدل عبادة ألف شهر .
والمسلم يعلم أن عمرة في رمضان كحجة مع الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) .
كل هذا يعلمه المسلم .. ويعلم غيره الكثير من فضائل هذا الشهر الكريم ... لذا تجد هذا المسلم حريصاً على وقته في رمضان .. لا تضيع عليه لحظة من لحظاته في غير عبادة أو طاعة ..
وفي مقابل هذه الطاعة آفة : تضييع الأوقات في رمضان .. بين نوم و جولات في الشوارع نهاراً ..ولعب ولهو وسمر أما الأفلام والمسلسلات والمسابقات والأغاني ليلاً ..
كيف لا وقد قامت نخبة من أبناء هذا الوطن المعطاء ..بل من سفها ء الإعلام .. همها إسعاد هذا المواطن .. وإدخال السرور على قلبه ..بأبي هو وأمي ...
قامت بجهود جبارة ... سهرت على إعدادها الليل والنهار ... وأنفقت على إخراجها الملايين من قوت الفقراء والمساكين ... لا لشئ .. إلا ليعيش هذا المواطن المسكين الذي حرم نفسه من الطعام والشراب نهاراً .. في سعادة غامرة في الليل ..
فأعدت له مجموعة من المسابقات المباشرة .. والمسلسلات الفارغة ... والأغاني الماجنة ... والأفلام الفاضحة ..
إنها نخبة تستحق المكافأة على هذه الجهود الجبارة .
لأنها لم تدع وقتا لهذا المواطن يضيعه في صلاة التراويح ... أو تلاوة القرآن ... أو ذكر الملك الديان .
أيها المؤمنون الأعزاء : هنا مدرسة محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول فيها الحبيب : البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت ..
إعمل ما شئت كما تدين تدان ... كل غبن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون .
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ... ولا عدوان إلا على الظالمين .
أشهد ألا إله إلا الله .. ولي الصالحين ...
واشهد أن محمداً عبد الله ونبيه ورسوله ... إمام المتقين .. وخاتم الرسل أجمعين ... صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين .. وأصحابه أجمعين .
أما بعد : أيها الإخوة المؤمنون .. أيتها الأخوات المؤمنات : أعود لأبث على حضراتكم .. طاعات في رمضان تقابلها آفات ...
الطاعة الخامسة : الإقبال على المساجد وإعمارها بالصلوات .. وتلاوة القرآن .. والاعتكافات .. والذكر ..
(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر .. وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله .. فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وليس المقصود بإعمار المساجد .. بناءها فقط .. وإنما إعمارها بملئها أثناء الصلوات .. ودوام ارتيادها ... واحترامها .. والسكينة والخشوع فيها ... فالمساجد بيوت الله ... وبيوت الله أحق البيوت بالاحترام .
بيوت الله أحق البيوت بالاعمار .. وبيوت الله أحق البيوت بالنظافة ..
ولكن ما يؤسف له أن تقابل هذه الطاعة أفة : هي انقطاع الناس عن المساجد بعد رمضان ... وعودتهم إلى ما كانوا عليه قبل رمضان من هجر المساجد والقرآن .
بل إن بعضاً ممن يرتادون المساجد في رمضان ... تجدهم وكأنهم سجناء في بيوت الله ... يتحرقون شوقاً للخلاص من هذا السجن .... فيا فرحتهم حين انقضاء الصلاة .. يتزاحمون على الأبواب أيهم يخرج أولاً .. ويا ويح المؤذن إن تأخر عن إقامة الصلاة ... و يا ويل الإمام من ألسنتهم إن أطال قليلاً في الصلاة .
وبلغ ببعضهم التهاون في بيوت الله مدى بعيداً ... ترى البعض منهم يحضر مائدة عريضة على الفطور ... ويفترش المسجد أو صوح المسجد ... ويأكل حتى تنتفخ بطنه .. من الثوم والبصل .. والمرق ..
فاذا انتظم في الصف للصلاة لا يتورع من أن يتجشأ بملئ فيه ... فإذا تجشأ كانت الكارثة الكبرى على من بجواره ... وهربت ملائكة الرحمن متأذية من ريح هذا الرجل ...(/3)
ثم يغادر المسجد بعد انقضاء صلاة المغرب لينتقل إلى مائدة أخرى أكثر عمراناً من سابقتها ... تاركاً فضلات طعامة في المسجد دون تنظيف ...
فيا أيها المسلم : مهلاً ... كان من هدي الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) الفطور على تمرات .. فإن لم يجد فشربة ماء .. فالزم هديه تفلح وتنجح ..
الطاعة السادسة : تصيد أوقات الإجابة في رمضان ... وأقصد بالإجابة .. إجابة الدعاء ...
فمن أفضل الأوقات للدعاء :
1) ليلة القدر.
2) جوف الليل الآخر ووقت السحر.
3) دبر الصلوات المكتوبات ( الفرائض الخمس ).
4) بين الأذان والإقامة .
5) ساعة من كل ليله .
6) عند النداء للصلوات المكتوبات .
7) عند نزول الغيث .
8) ساعة من يوم الجمعة وهي على الأرجح آخر ساعة من ساعات العصر قبل الغروب .
9) السجود في الصلاة .
10) دعاء الصائم حتي يفطر.
11) دعاء الصائم عند فطره .
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب .. أجيب دعوة الداع إذا دعان .. فليستجيبوا لي وليؤمونا بي لعلهم يرشدون )
ولكن يقابل هذه الطاعة أفة : هي ضياع هذه الأوقات في القيل والقال ... والضحك والمزاح ..
قبل الإفطار خاصة ... تجد البعض من الناس .. إما يضحكون ... وإما في الغيبة والنميمة يخوضون ... وإما على المؤائد ينبطحون ... يقلبون في الأطعمة .. فيقدمون هذا الصنف .. وذاك يؤخرون ... وهم عن الدعاء غافلون ...
الطاعة السابعة : كثرة قراءة القران
شهر رمضان هو شهر القرآن.. فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته ..
وقد كان حال السلف العناية بكتاب الله ... فكان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان .
وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يختم القرآن كل يوم مرة .
وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال .
وبعضهم في كل سبع ليال .
وبعضهم في كل عشر ليال .
كانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها .
فكان للشافعي في رمضان ستون ختمه ، يقرؤها في غير الصلاة .
وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان .
وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف .
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
ولم يكن هدي السلف قراءة القرآن دون تدبر وفهم ، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل ويحركون به القلوب .
فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرأ علي . فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال إني أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) قال : حسبك ، فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) .
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت ( أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون ) بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يلج النار من بكى من خشية الله).
والآفة التي تقابل هذه الطاعة : هي تلاوة القرآن دون تدبر أو تفكر ...
( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )
تجد البعض من الناس يقرأ القران ... فيمر على الأيات مر السحاب ... بلا تدبر .. وبلا تمعن ... وبلا تفكر ...
كانما يقرأ قصة بوليسية ... أو مقالاً في جريدة ..
ربما يختم الواحد من هؤلاء المصحف عشرين ختمة في رمضان ... بل ربما ختمه ثلاثين مرة ... ولكن لم يفهم منه آية واحدة ... فمثله كمثل الحمار يحمل أسفارا ...
أيها المؤمنون الأعزاء : أيتها المؤمنات الفاضلات : رمضان طاعات ... أضاعتها آفات ...
فلنحذر من هذه الآفات أشد الحذر ... ولنجعل من رمضان هذا العام شيئأً آخر ..
فلعله يكون آخر رمضان في العمر إن بلغناه بفضل الله ..
أيها المؤمنون : إرفعوا أكف الضراعة إلى الله وأمنوا على دعائي ......
الدعاء
الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)
اسم الخطيب : رياض يحيى الغيلي
إمام وخطيب مسجد الأوقاف
صنعاء – اليمن
صيد الفوائد ...(/4)
رمضان شهر القرآن
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون
رمضان شهر القرآن، ولذا تعظم في هذه الأيام الصلة بكتاب الله - جلَّ علا- تلاوةً واستماعاً وتدبُّراً وانتفاعاً، ونجد أن من المناسب أن نتحدث في هذا الموضوع العظيم، الذي نحتاج فيه إلى تأملٍ وتدبُّر، وإلى محاسبةٍ ومراجعة .
لأن هذا القرآن العظيم دستور الأمة ، الذي جعله الله - عز وجل - ضياءً لها يبدد لها كل الظلمات ، وجعله منهجاً لها يعصمها عن الانحرافات ، وجعله حياةً لقلوبها ، ونوراً لعقلوها ، وتقويماً لسلوكها ، وجعل فيه خير الدنيا ، ويكون به نعيم الآخرة بإذن الله –عزوجل -... يقول الحق - جلَّ وعلا - في هذه النعمة العظيمة والمنة الكبيرة { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا }.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم على إطلاق هذا اللفظ ، فهو يهدي للتي هي أقوم في شأن الفرد ، وفي شأن المجتمع والأمة، يهدي للتي هي أقوم في شأن الاقتصاد ، وفي شأن الحكم ، وفي شأن الحياة الاجتماعية ، وفي شأن الحياة التعليمية ، وفي كل ضربٍ من ضروب الحياة، يهدي للتي هي أقوم فيما يتصل بالقلوب ، وفيما يتصل بالعقول، وفيما يتصل بالألفاظ والكلمات، وفيما يتصل بالحركات والسَكَنَات، يهدي للتي هي أقوم في كل شيءٍ يتصل بالإنسان في هذه الحياة، يهدي للتي هي أقوم في التصورات التي يدرك بها المؤمنون قيمة الحياة وما وراء الحياة فهو كتاب هدايةٍ كاملةٍ شاملةٍ تامة تتناول أعماق القلوب ، وخفايا النفوس ، وواقع الحياة ومستقبل الأيام وما بعد هذه الحياة الدنيا كلها .
ويقول الحق - جل وعلا - في سياق المنة على هذه الأمة المحمدية : { وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين } هو شفاءٌ للأمراض والأسقام الحسيَّة المادية ، وهو شفاءٌ لأمراض القلوب وعلل النفوس وأخطاء الأهواء .
فهكذا جعله الله سبحانه وتعالى لمن آمن به واتصل به وتدبَّر معانيه وأخذ بأحكامه، وهو رحمة الله - سبحانه وتعالى - لهذه الأمة ، بل لهذه البشرية كلها لأنه - سبحانه وتعالى - هو العليم بخلقه { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } فهو العليم بخلقه ، أنزل لهم ما يصلح حياتهم من شرعه ، ولذلك كانت الرحمة العظمى بهذا القرآن العظيم كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما من نبيٍ إلاَّ وأوتي ما على مثله آمن قومه وكان الذي أوتيته وحياً يُتلى إلى يوم القيامة ) .
معجزةٌ خالدةٌ على مدى الأزمان ، معجزةٌ محفوظةٌ بحفظ ربنا الرحمن : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ويقول الحق - جلَّ وعلا - : { يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا } .
القرآن هو النور والضياء الذي يكشف ظلمات الشبهات ، والذي يبدد بهرج الشهوات ، هو النور الذي تعرف به مقياس هذه الحياة ، وتعرف به القيم الربانية التي جعلها الله - عز وجل - في هذا الكتاب العظيم { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . به تزن الناس، وبه تعرف تقويم الأشخاص ، والعمل به ينير لك كل أمرٍ يخفى عليك بعضه أو كله ، به تعرف أمر الله - جل وعلا - وحكمته في كل ما تحتاج إليه وقال الله -سبحانه وتعالى -: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء } .
هذا القرآن هو روح الأجساد .. فما قيمة الجسد إذا سُلبت منه الروح ، إن الجسد إذا فارقته الروح أنتن وأصبح جيفةً تعافها النفوس، وتوقف فلا حركة ولا انطلاق ولا عمل ولا إنتاج والقرآن حقيقةً هو حياة القلوب، إذا سُلب القرآن من القلب فإن الإنسان يغدوا ميتاً وإن كان يدبُّ دبيب الأحياء ، ويفتقد الحركة البصيرة .. لأنه حينئذٍ يخبط خبط عشواء ويتردى في الظلمات ، ويوغل في الشهوات والمحرمات ، ويغرق في الانحرافات ،ويغوص في الملذات ، فيُغشي ذلك على قلبه، ويعمي بصيرته ، ويطفئ نور الإيمان في نفسه ، فيغدوا حينئذٍ كما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( قلبه كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلاَّ ما أُشرب من هواه ) .
إذاً هذا هو القرآن العظيم، في بعض ما وصف الله - جل وعلا - لنا فهو الهداية ، وهو كما أخبر - عز وجل – الشفاء ، وهو الرحمة ،وهو النور ، وهو الحياة .. فكيف يمكن لنا أن نحيا في هذه الدنيا بلا حياةٍ وبلا نورٍ وبلا رحمةٍ وبلا هدايةٍ وبلا شفاء ؟! إننا حينئذٍ نحكم على أنفسنا وعلى حياتنا بالتعاسة والشقاء ونحكم على واقعنا بالظلم والظَلْماء ، وهذا هو سر ما يتخبَّط فيه المسلمون بقدر ابتعادهم عن كتاب الله - جلَّ وعلا - .
لننظر أيها الاخوة الكرام - ونحن في شهر القرآن - إلى المصطفى – صلى الله عليه وسلم - كيف تلقَّى هذا القرآن ! وكيف كانت صلته به ! وكيف نقل ذلك إلى أصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - أجمعين .(/1)
في صحيح البخاري ما يخبرنا به النبي - عليه الصلاة والسلام -عن أول نزول الوحي، عن اللحظة التي اتصلت فيها الأرض بالسماء ،عن أول شعاعٍ لتبديد الظَلْماء .
يخبرنا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن جبريل جاءه وهو في غار حراء ، حيث كان يخلوا بنفسه يتأمل في ملكوت الله - جلَّ وعلا - حيث كان يخلوا بنفسه ، يتحنَّث الليالي ذوات العدد ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - فجاءه جبريل - عليه الصلاة والسلام – فقال له : " اقرأ " فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ما أنا بقارئ - أي لا أعرف القراءة –قال: فأخذني فضمني فَغطَني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني أي أطلقني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني ثانيةً حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال لي اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم } .
فكان إشراق النور القرآني الرباني ،من كلام الله - سبحانه وتعالى - وهذا النزول الأول يدل على عظمة ما في هذا القرآن من رسالة ، وعلى عظمة ما فيه من دستور ، وعلى عظمة ما فيه من آدابٍ وأحكامٍ وتعليماتٍ وإرشادات ، ولذلك نزل على هذه الصورة من الشدة والقوة حتى يتهيأ قلب المصطفى – صلى الله عليه وسلم - لحمل هذا الكلام الرباني العظيم .. لحمل هذه الرسالة الخالدة التي يخالف بها الخلق أجمعين ، والتي يواجه بها جميعاً الكفار والمعتدين ، هكذا كان كما قال الله -عز وجل - :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } فليس أمر القرآن هيناً سهلاً حتى نتهاون فيه .
هكذا بذرت البذرة الأولى في رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مَن قَدَح في قلبه التعلق بالقرآن فإذا به من شدة لهفته ، ومن عظيم حرصه عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه الوحي ، ونزل عليه جبريل بالقرآن يسابق الوحي بتَرداد الآيات رغبةً في حفظه وضبطه ، وتعلقاً به من أعماق قلبه ، حتى نزل قوله -جل وعلا -: { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يكتفي بذلك التلَقِّي ، وإنما كان ينشر هذا القرآن فيتلوه في الصلوات ، ويعلمه للصحابة ، كما قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه – " حفظت من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - سبعين سورةً من القرآن " .
النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - قائد الأمة والذي كانت عنده المهمات العظيمة . كان يجعل من وقته جزءاً يعلم فيه أصحابه كتاب الله - جل وعلا - ثم إن تعلقه العظيم بهذا القرآن لم يقتصر فيه على هذا ، وإنما كان يحب أن يستمع القرآن، لقد امتلاء به قلبه ونطق به لسانه فأراد أن يشنِّف به آذانه - عليه الصلاة والسلام - .
روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لقيه وقال له : ( لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) كان يأتي وينصت إلى قراءة أبي موسى ، لأنه كان حسن الصوت ، جيد التلاوة . وفي بعض الروايات قال أبو موسى : " أما إني لو علمت أنك تسمعني لحبَّرته لك تحبيرا " - أي لزدت في الإتقان وفي حسن الصوت وجمال التلاوة - .
ثم هاهو النبي – صلى الله عليه وسلم - يلقى ابن مسعود فيقول له : ( اقرأ عليَّ القرآن ) فيقول : أقرأ عليك وعليك أُنزل يا رسول الله ؟ قال : (نعم فإني أحب أن أسمعه من غيري ) فقرأ عليه ابن مسعود من أول النساء حتى إذا بلغ قول الحق - جل وعلا- { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذٍ يودُ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } قال ابن مسعود : فقال لي : ( حسبك .. حسبك ) فنظرت فإذا عيناه – صلى الله عليه وسلم - تذرفان بالدموع . وفي حديثٍ آخر أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لقي أبيَّ ابن كعبٍ فقال له : إني أمرت أن أقرأ عليك قل يا أيها الكافرون . قال أو قد سمَّاني الله لك . قال : نعم فبكى أبيّ ابن كعب من هذه الفضيلة العظيمة ، وهذا الشرف العظيم الذي كان له بفضل الله - جل وعلا - ثم بفضل ما حمل من القرآن وأتقن منه .
هكذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم -متعلقاً في التلقي ، يعلِّم أصحابه .. يسمع منهم ، يتدارسه معهم ، يحيي به هذه الحياة كلها. ثم إن النبي - عليه الصلاة والسلام - ربط أصحابه والأمة من بعدهم بهذا القرآن ربطاً وثيقاً قويا، حتى لا تنفصم عرى صلتهم به ، وحتى لا يضعف تلقِّيهم له ، فلذلك جعل الخيرية المطلقة في هذه الأمة مرتبطةً بكتاب الله - عز وجل- كما في صحيح البخاري من حديث عثمان ابن عفان – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال : ( خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه ) .(/2)
خير هذه الأمة من كان مشتغلاً بالقرآن، وإن كان عظيما، وإن كان ذا جاهٍ أو سلطان ، فسنذكر من سيرة الأصحاب - رضوان الله عليهم - أن شرف هذه الخيرية ما شغلهم عنه شاغل، ولا صرفهم عنه صارف ، وإن قادوا الجيوش، وإن حكموا الديار والبلاد فإن ارتباطهم بالقرآن ، وحرصهم على هذه الفضيلة العظيمة ، ما قعد بهم عنها شيءٌ مطلقا، ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم - جعل التقديم في أعظم أمرٍ من أمور هذا الدين مرتبطاً بالقرآن العظيم، أعظم ركنٍ بعد الشهادتين ركن إقام الصلاة قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله ) ولذلك جُعلت هذه الفضيلة شرفاً، وجُعلت خصيصةً ، وجُعلت حكماً فقهياً يُقدَّم به الأولى في حفظ كتاب الله - جل وعلا - حتى ترتبط الأمة بكل ما يتعلق به الأجر والثواب ، وكل ما يتعلق به الشرف في هذه الحياة الدنيا بالنسبة لهذا الدين، ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم- ربط الأمر في أعظم أمور الدنيا وهي أمور الولايات أيضا بالقرآن وفَهمه وتلقِّيه .
ورد في صحيح مسلم أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه- لقي أميره أو واليه على مكة في موسم الحج فقال: من خلَّفت على أهل مكة ؟ قال: خلَّفتُ فيهم ابن أبزا . قال: ومن ابن أبزا هذا؟ قال : مولى من موالينا- أي كان أصله من العبيد والرقيق - فقال عمر – رضي الله عنه - : خلَّفت على أمر مكة مولى - أي ما وجدت غيره كأنه لم يرضى ذلك أول الأمر - فقال له : يا أمير المؤمنين إنه ... وبدأ يسرد له قائمة المؤهِلات والشهادات ، فلم يذكر إلاَّ شيئاً واحدا أنه قارئٌ لكتاب الله تعالى . فقال عمر - مؤيِداً ومؤكداً ومدللاً على صحة هذا النهج - : أما إني سمعت نبيكم – صلى الله عليه وسلم- يقول : ( إن هذا الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين ) .
فالرفعة في الحياة الدنيا، والرفعة في أمور الدين مرتبطة بهذا القرآن العظيم .
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم- في أمور الحياة العادية التي مرَّت به بين أصحابه بيَّن لهم الفضيلة والعظمة في هذا القرآن، ففي الحياة الاجتماعية يأتينا المثل الذي ورد في الصحيحين وغيرهما عن المرأة التي جاءت تهب نفسها للنبي – صلى الله عليه وسلم- ليتزوجها والنبي جالسٌ في بعض أصحابه ، ولم يكن للنبي - عليه الصلاة والسلام - بها حاجة فظلَّت المرأة واقفة والنبي – صلى الله عليه وسلم- ساكتٌ .ثم قام رجلٌ من الناس وقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : التمس شيئاً - يعني تقدِّمه مهراً لهذه المرأة - فذهب فقال: يا رسول الله لا أجد شيئاً فقال له - عليه الصلاة والسلام - : التمس ولو خاتماً من حديد قال : يا رسول الله ولا خاتماً من حديد - ليس عنده شيءٌ - أبدا فسكت النبي – صلى الله عليه وسلم - حتى انصرف الرجل ثم قال : ردُّوه عليَّ فقال : هل معك شيءٌ من القرآن قال: نعم معي سورة كذا وكذا . فقال -عليه الصلاة والسلام- : زوجتكها على ما معك من القرآن . فكان مهرها أن يعلمها كتاب الله - جل وعلا -.
وحتى عند الوفاة والموت كان النبي يعلِّم الأمة التقديم بهذا القرآن فقد ورد أنه - عليه الصلاة والسلام -عندما انجلت معركة أحد وجاء يدفن شهداء الصحابة، كان يضع الرجلين والثلاثة في القبر الواحد . فإذا جيء بهم سأل: أيهم كان أقرأ للقرآن؟ فإذا دُلَّ عليه قدَّمه في اللحد والقبر، ليُعلِّم الأمة ويربطها بهذا القرآن وفضيلته وشرفه .فأي شيءٍ انعكس على الصحابة حينئذٍ ! وأي أمرٍ ظهر في حياتهم من أثر القدوة في سيرته - عليه الصلاة والسلام - ومن أثر هذه التوجيهات التي تشدُّ القلوب ، وتربطها بالقرآن، وتجعل مسيرة الحياة كلها تبعٌ لهذا القرآن.
انظر إلى صحب محمد – صلى الله عليه وسلم- كيف كانت صلتهم به في ملامح سريعة، وفي ومضات قليلة، هذا عبد الرحمن السُلَمي يحكي سيرة الأصحاب - رضوان الله عليهم - يقول : كان الذين يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل فتعلَّمنا العلم والعمل جميعا .
هذه المنهجية التي تربَّى عليها الأصحاب الكرام، والتي نقلوها للتابعين من بعدهم آياتٌ تُتلى ، وتفسيرٌ يُروى ، وعملٌ يُحكى في واقع الحياة . هكذا كانوا ولذلك يقول أنس – رضي الله عنه - : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا - أي صار في أعيننا عظيماً شريفاً- لا لجاهٍ ولا لمالٍ ولا لسلطانٍ وإنما بما يجمع من كتاب الله عز وجل بما يتقدَّم في هذا الشرف العظيم .(/3)
ولذلك أيضاً كان من سيرة الصحابة أنهم طبَّقوا هذا المنهج ، فهذا أبو موسى الأشعري أحد كبار الولاة الذين ولاَّهم عمر – رضي الله عنه - على البصرة وفي بلاد العراق . يروي عنه أصحابه وهو أميرٌ يمارس الحكم والقضاء بين الناس أنه كان يجلس في مسجد المدينة يُقرأ القرآن أربعين سنة، أربعون سنة والحاكم معلِّمٌ لكتاب الله عز وجل ! أربعون سنة والصحابي الجليل ما نسي قولة النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( إنك أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) . ما شغلهم عن ذلك شاغل، ولذلك كانوا وقَّافين عند حدود الله عز وجل فهذا عيينة ابن حِسنٍ الفزاري يأتي إلى ابن أخيه الحُرِ بن قيس ويقول له : إن لك عند هذا الرجل - أي عمر- رضي الله عنه مكاناً فاستأذن لي عليه ، فيستأذن له على عمر وكان عيينة شديداً جافياً غليظا فدخل على عمر وقال هيه يا ابن الخطَّاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، كلماتٍ قاسية جافية مُباعدةٍ للحق، فغضب عمر - رضي الله عنه - وهمَّ أن يبطش به ، وحسبك ببطش عمر بطشا فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين إن الله أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم- فقال: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين . قال الحر بن قيس : فوا الله ما تجاوزها عمر – رضي الله عنه - وكان وقاَّفاً عند حدود كتاب الله -جل وعلا- هكذا كانت الآية تردُّهم عن الفعل الذي يُقدمون عليه وتنهضهم عن الفعل الذي يُقصِّرون فيه . كان القرآن يحدو حياتهم ويسيِّر مسيرتهم ولذلك انطلقوا بهذا القرآن أعظم انطلاق كما ورد في الحديث عن البراء – رضي الله عنه - أنه قال: - لنرى كيف كانت قلوب الصحابة وتعلُّقهم بالقرآن - كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وفرسه إلى جواره مربوطةٌ ، فلما قرأ القرآن نزلت سحابة فتغشته وأضلته - أي اقتربت منه - فجعل فَرَسُه ينفر منها فسكت ، ثم أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال : ( تلك الملائكة تنزَّلت تستمع لقراءتك ) وفي غير الصحيح - أي في غير صحيح البخاري - أن هذا القارئ كان أسيد ابن حضير – رضي الله عنه - وأنه سكت فسكنت ، ثم قرأ فتحرَّكت ثم سكت فسكنت فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( تلك الملائكة تنزلت تستمع لقراءتك ولو قرأت لأصبحت والناس يرونها في الطرقات ) . هكذا كان صحب النبي – صلى الله عليه وسلم- .
وانظر إلى الصور العظيمة ، التي تبين لك أن القرآن كان هو روح هذه الحياة في عصر الصحابة - رضوان الله عليهم - هذا الخبر في صحيح البخاري عن الأشعريين قومِ أبي موسى - رضي الله عنه - قومِ الذي أوتي مزماراً من مزامير آل داود ، يخبر عنهم الراوي أنهم كانوا إذا نزلوا المدينة ، علم الناس الذين لم يرون قدومهم . قال : إني أعلم قدوم الأشعريين ومنازلهم بالمدينة ولمَّا أرهم، كيف يعرف أنهم جاءوا ولم يرهم ولم يسمع بذلك ؟ قال : كانوا يدوّوُن بالقرآن كدويِّ النحل في الليل . فعلامتهم التي يعرف الناس قدومهم بها إذا جاءوا من بلادهم اليمن ونزلوا المدينة ليلقوا النبي – صلى الله عليه وسلم- يعرف الناس قدومهم بهذه التلاوات التي يضجون بها في الليل يحيون بها ليلهم ويعبدون بها ربهم .
وجاء المبعوث من سعد ابن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - إلى عمر الفاروق يبشِّره بفتح القادسية وجاء له بخطابٍ من سعد يقول له -في شأن من استشهد من المسلمين- : مات فلانٌ وفلانٌ من الناس ممن لا تعلمهم ، والله بهم عالم كانوا يدوّوُن بالقرآن في الليل كدويِّ النحل، أين هذا ؟! في أوقات المعارك عند اهتدام القتال وعند تلاحم الصفوف !
كانت حياتهم بالقرآن واستعانتهم به بعد الله -جل وعلا - ليَنْشَطوا وليتذكروا كلام الله -جل وعلا - وكان قوَّاد جيوش المسلمين يجعلون لكل كتيبةٍ قارئا، فإذا حمي الوطيس كان يقرأ سورة الأنفال لتحيا معاني الإيمان في القلوب ولتشتدَّ الحمية لهذا الدين في النفوس .
هذه صورةٌ لِما كان عليه مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم - لنرى ما نحن فيه وما كانوا عليه ونٍسأل الله - عز وجل- أن يلحقنا بهم، وأن يجعلنا مقتدين على آثارهم ونسأله أن يجعلنا ممن يرتبطون بالقرآن تلاوةً وتدبراً وعملاً ودعوة إليه أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقبل به العبد على مولاه وأن منبع التقوى كتاب الله جل وعلا فتزودوا منه فإن خير الزاد التقوى .
لننظر - أيها الاخوة - في هذه الوقفة الوجيزة عن صلتنا وواقعنا مع كتاب ربنا في هذه الأوقات .(/4)
لننظر ما خاطبنا الله -عز وجل - به وما أمرنا به وكيف حالنا مع كتاب ربنا ، وإنها لفرصةٌ أن نتذاكر هذه المعاني في هذه الأوقات الفاضلة في شهر رمضان ، شهر القرآن لنؤكد هذه المعاني في واقع حياتنا العملية ، علَّها أن تكون عوناً لنا على أن نثبت عليها وأن نمضي في إثرها لا نرجع عنها ولا نتوقف فيها بإذن الله عزوجل .
هذا الأمر القرآني الرباني للرسول الكريم ولأمته من بعده { وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن } أول أمرٍ تلاوة هذا القرآن، وقد يقول بعض الناس إنهم لا يحسنون التلاوة فنقول إن الله -جل وعل-ا قال : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر } ثم ما عليك - يا أخي - ألست تُفرِّغ جزءً من وقتك لعملك الذي تكسب به رزقك ؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأهلك لتقضي حوائجهم ؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأصحابك لتزورهم وتأنس بهم ؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأشياء وأشياء وأشياء كثيرة ؟! أفتفريغ الوقت لتلاوة القرآن الكريم ولتعلمه يكون أهون عليك من كل هذه الأمور العارضة ؟ استمع إلى حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي يرويه عقبة ابن عامر يقول فيه:جاء إلينا النبي – صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفَّة - أهل الصفَّة الذين كانوا يلازمون مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- وكانوا من الفقراء - فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يبين لهم الغنى ، وأن يدلهم على طريق الغنائم ، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( أيكم يحب أن يغدوا كل يومٍ إلى بُطحان - وهو واديٍ في طرف المدينة - أو العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين من غير إثمٍ ولا قطيعة رحم ) .
أيكم يحب أن يذهب مسافة قصيرة ويأخذ ناقتين سمينتين عظيمتين من غير إثم ؟ فلا هو سارق ولا قطيعة رحم . ليست لغيره ولا شيء وكانت الإبل هي رأس مال العرب مَن كانت تقدَّر ثرواتهم بعدد ما يملكون من الإبل، وهؤلاء فقراء ( أيكم يحب أن يغدوا إلى بُطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين من غير إثمٍ ولا قطيعة رحم ) قالوا : كلنا يحب ذلك يا رسول الله - من لا يحب هذا الثواب وهذه الغنائم - قال : ( فلأن يغدوا أحدكم إلى المسجد كل يومٍ فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خيرٌ له من ناقتين كوماوين وثلاثٌ خيرٌ من ثلاث وأربعٌ خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل ) . انظر إلى هذا فكيف تضيع هذا الأجر وتفوِّت تحقيق الأمر الذي أُمرت به كما أُمر به النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو أمر تلاوة القرآن . هل تلقى في ذلك مشقَّة ؟هل تجد فيه صعوبة ؟ خذ بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة في الصحيح ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به - أي متقنٌ له - مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) .
فأنت في غنيمة هنا أو هناك كيفما كان الحال، فينبغي أن تحرص على أن تؤدي هذا الأمر وهو أمر الصلة بكتاب الله عز وجل بتلاوة القرآن . واستمع الى الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( من قرأ القرآن فله بكل حرفٍ يقرأه حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألفٌ حرف ولامٌ حرف وميم حرف ) فأي آيةٍ تقرأها فعدَّ ما فيها من الحروف واحسب الحسنات وضاعفها إلى العشرات بل لا تحسب شياً فإن الله -عز وجل - يعطي عطاءً عظيماً.
والأمر الثاني يقول الله - جل وعلا – { وهذا كتاب أنزلنه مباركٌ ليدَّبَّروا آياته وليتذكَّر أولوا الألباب } فما نزل هذا القرآن لنهذَّ به هذَّاء الشعر ، كما قال ابن مسعود في صحيح مسلم : " لا تهذُّوا القرآن هذَّاء كهذِّ الشعر، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة " كما قد نفعل اليوم فنقرأ حتى تختلط الحروف ونسرع حتى ننتهي في أقلِّ وقت، كلا ! بل لا بدَّ أن يكون لنا حظٌ من التدبُّر فإن الله - جل وعلا - أنزل هذا الكتاب للتدبُّر ونعى على من لا يتدبَّرُ فيه فقال جل وعلا : { أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها } { أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا } وبعد التدبُّر - الذي هو التفَّهم وإدراك المعاني ومعرفة الأحكام والوقوف على الآداب - يأتي الأمر الأهم وهو العمل بهذا القرآن ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود في سننه : ( من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والده تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيهم ) فما ظنُّكم بالذي عمل بهذا ! .
وأهل الله هم أهل القرآن الذي كانوا يعملون به في الدنيا كما ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- فإنما جاء هذا القرآن ليُطبَّق ولينفَّذ في واقع الحياة ، وكانت عائشة قد أوجزت إيجازاً بليغاً عظيماً عندما قالت عن النبي – صلى الله عليه وسلم- : "كان خلقه القرآن " كنت ترى القرآن في حياته كلها بألفاظه، وكلماته ، وأفعاله ، وجهاده ، ومعاملته لأهله ، وفي كل شيءٍ من الشؤون.(/5)
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنون عاملون بكتاب الله سبحانه وتعالى ومَن كان على هذا فإنه بإذن الله -عز وجل - ينال الطمأنينة والسكينة واللذَّة والسعادة في هذه الحياة الدنيا، فيشرق قلبه بأنوار الإيمان، ويشيع في نفسه أثر القرآن ، وهكذا ينال هذه السكينة في هذه الحياة الدنيا ، ثم يكون مآله يوم القيامة كما ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( يقال للقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر تقرؤها ) رواه الترمذي بسندٍ صحيح .
وكذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- في جمعٍ نحتاج إلى تذكُّره في هذه الأيام يقول : ( الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة يقول القرآن أسهرته في الليالي ويقول الصيام أظمأته في الهواجر ) فكيف بنا لا نجمع بين هذين الخيرين !نريد أن نبقى مع القرآن في رمضان على هذا النحو ، وكذلك بعد رمضان أن نديم التلاوة وأن نجتهد في الفهم والتدبُّر ومعرفة معاني الآيات وتفسيرها وأن نحرص غاية الحرص على العمل بموجب كتاب الله عز وجل .
إنه لا ينبغي أن يكون بين حياتنا وبين هذا الكتاب الكريم تصادمٌ ، ولا معارضةٌ ، ولا مخالفة كما هو حال كثيرٍ من المسلمين - إلاَّ مَن رحم الله - في كل الأمور نجد أن القرآن ينادي وأن الآيات تتلى { قل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم } { وقرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرُّج الجاهلية الأولى } فأين هذا في واقع الحياة ؟ انظر إلى الأوامر القرآنية ، انظر إلى التوجيهات الربَّانية ، وانظر إلى واقع الأمة الإسلامية . فكلما كان البون شاسعاً فكلما كان الاختلاف كبيراً كلما كانت البلايا والرزايا والمشكلات والمعضلات وكلما كان الأمر هيناً ، وكلما كان التقارب عظيماً والانطباق كاملاً وتاماً كلما تحققت أسباب النصر وتنزَّل الخير من عند الله عز وجل .
ولنحذر مما قال الله - عز وجل - على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم- { وقال الرسول يا ربِ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } هجران القرآن خرابٌ للقلوب ، والنبي – صلى الله عليه وسلم- قد قال : ( إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب ) ، كبيت الخرابة لا نفع فيها، ولا نظر إليها، ولا اهتمام بها ولا فائدة منها مطلقاً ، ولذلك يخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم- عن حال ما يقع بعده كما في حديث عمران ابن حصين – رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : ( مَن قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيأتي أقوامٌ يقرءون القرآن يسألون به الناس ) . رواه الترمذي وقال حديث حسن،
فلم يعد القرآن مبتغاهم به معرفة أمر الله وطلب رضوان الله والحرص على ثواب الله ، بل صرفوا ذلك إلى أشياء أخرى وإلى تبريرات ، وإلى جعل القرآن مطيَّةً للأهواء ومطيَّةً لما يُراد من الأحكام ذلك كل هو أعظم انحرافٍ عن كتاب الله عز وجل .
فالله الله في كتاب الله ، والله الله في القرآن الله الله في هذه الأيام المباركة والليالي العاطرة أن نحيي قلوبنا بالقرآن أن نديم التلاوة ، وأن نحرص على التدبُّر وأن نجتهد في العمل ، وأن نُشيع أخلاق القرآن فيما بيننا وأن نتواصى ونتعاهد أن نجدِّدَّ سيرة أسلافنا، وأن نحكي ما كان عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - فنقدِّم مَن قُدِّم بالقرآن ونُجلَّ مَن أُجلَّ بالقرآن ونجعل لأهل القرآن منزلتهم ونسعى إلى أن نحقق حياة القرآن ، وحكم القرآن ، وأخلاق القرآن ، وآداب القرآن في نفوسنا وفي أسرنا أولاً ، ثم بعد ذلك أن نُشيع ذلك فيمن حولنا من جيراننا وأقربائنا وسائر مجتمعنا .(/6)
رمضان فرصة للإقبال على الله
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد :
مرحبا ً أهلا ً وسهلا ً بالصيام *** يا حبيبا ً زارنا في كل عام
هذا هو شهر رمضان الذي قال الله تعالى عنه :
" شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان "
فاختصه الله جل وعلا بنزول النور والضياء ، نزول القرآن الكريم ، نزول هداية الله لأهل الأرض كلام رب العالمين والذكر الحكيم ، وهل هناك نعمة أعظم من تلك النعمة ؟ نعمة الهداية التي لا تعدلها نعمة .
ومن عظيم منة السلام ِ *** ولطفه بسائر الأنام ِ
أن أرشد الخلق إلى الوصول ِ *** مبينا ً للحق بالرسول ِ
هذه النعمة العظيمة اختار الله لبداية نزولها شهر رمضان ، وتلك دلالة لها مغزاها حيث يعيها من وعاها ويغفل عنها من صرف عنها .
رمضان سبب لتكفير الذنوب والخطايا :
ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .
فالله أكبر أين نحن من تلك النعمة ؟ أين أصحاب الذنوب والعيوب ؟
هذا هو رمضان فنقبل على الله فمن يدري لعلله يفوز فيه برضى الله فتكفر ذنوبه ويسعد سعادة لا شقاء بعدها .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم دعى على ذلك الشقي المحروم الذي يقبل عليه رمضان ثمهو لايريد أن يغفر له ، فيخرج منه كما دخل فيه بل لعله أسوء نسأل الله العافية .
ثبت في صحيح ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر ، فقال آمين .. آمين .. آمين قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين .. آمين .. آمين ، فقال : إن جبريل أتاني ، فقال : من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار ، فأبعده الله قل آمين ، فقلت آمين ... الحديث .
فيا خسارة هذا التعيس رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه .
تعرض عليه فرصة المغفرة ثم يعرض عنها ! ! .
إنها فرصة . .
تأمل في هذا الحديث . .
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين .
فأي فرصة أعظم من تلك الفرصة ؟
إنها الجنة تنادي أين المشمرون ؟ يا باغي الخير أقبل . . ويا باغي الشر أقصر .
إنها النار مغلقة ، فيا باغي الخير أقبل . . ويا باغي الشر أقصر .
إنها مردة الشياطين مسلسلة ، فيا باغي الخير أقبل . . ويا باغي الشر أقصر .
ولذا فإن رمضان فرصة للتوبة ، وكم من تائب عاد إلى الله في رمضان ، وانظر في نفسك وإلى من حولك تتقين فعلا ً أن رمضان فرصة كبرى للتوبة .
هذا شاب يقال له أبو خالد كتب قصته بنفسه وأرسلها إلى صاحب كتاب العائدون إلى الله وأوردها المؤلف في الجزء الثالث من كتابه : يخبر أبو خالد عن معاص ٍ كان يرتكبها حتى من كثرة معاصيه واشتهاره بها ـ والعياذ بالله ـ دعاه أحد الصحفين ليجري مقابلة معه لكن الله وفقه لتغير طريقه ، وكان بداية الخير في شهر الخير شهر رمضان ، ومهما حاولت أن أكتب لك ماذا تساوي كلماتي أمام كلمات من أحس بسعادة غامرة حين أقبل على الله وعايش أيام رمضان ولياليه مقبلا ً على الله ؟ أتركك مع كلماته كما خطها هو بنفسه يقول أبو خالد :
[ ذهبت بالأهل إلى مكة في شهر رمضان المبارك ، وفي العشر الأواخر من رمضان عشت حياة جديدة أقلعت فيها عن كثير من المعاصي واستبدلت بالدخان السواك : هذه هي السعادة الحقيقية التي أبحث عنها طوال عمري حياة ٌ طاهرة ٌ زكية ما أحلاها من لذة عندما تشعر أنك تنتصر على نفسك الأمارة بالسوء وتدحض الشيطان وترضي الرحمن 00 ] انتهى المقتطف من كلامه .
وهو كلام مجرب ، فأين أصحاب الذنوب والعيوب ؟
إنها فرصة لنا جميعا للعودة .
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر
أعظم الأشياء في جنب عفو الله يصغر
وفقني الله وإياكم لاغتنام هذا الشهر الفضيل وأعاننا جميعا على الصيام والقيام و جعلنا جميعا من عتقائه من النار ومن التائبين المقبلين المقبولين إن ربي سميع مجيب الدعاء .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/1)
رمضان فرصة للتغيير
تأليف
محمد بن عبدالله الهبدان
إمام وخطيب جامع العز بن عبدالسلام
إصدار المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالربوة
الحمد لله الذي هيأ لعباده أسباب الهداية ، ويسر لهم دروب الاستقامة ،وفتح لهم أبواب رحمته ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين .
أما بعد : فهاهو رمضان قد أقبل بنوره وعطره ، و جاء بخيره وطهره ، جاء ليربي في الناس قوة الإرادة ورباطة الجأش ، ويربي فيهم ملكة الصبر ، ويعودهم على احتمال الشدائد ، والجلد أمام العقبات ومصاعب الحياة .
فرمضان مدرسة تربوية (يتدرب بها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء ، والتسليم لحكمه في كل شيء ، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء ، وترك ما يضره في دينه أو دنياه أو بدنه من كل شيء ، ليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعاً عن كل ما لا ينبغي بتدربه الكامل في هذا الشهر المبارك ، ليحصل على تقوى الله في كل وقت وحين ، وفي أي حال ومكان ، وذلك إذا اجتهد على التحفظ في هذه المدرسة الرحمانية بمواصلة الليل مع النهار على ترك كل إثم وقبيح ، وضبط جوارحه كلها عما لا يجوز فعله . . لينجح من هذه المدرسة حقاً ، ويخرج ظافراً من جهاده لنفسه ، موفراً مواهبه الإنسانية وطاقاته المادية والمعنوية لجهاد أعدائه .) فحري بهذا الشهر أن يكون فرصة ذهبية ، للوقوف مع النفس ومحاسبتها لتصحيح ما فات ، واستدراك ما هو آت ، قبل أن تحل الزفرات ، وتبدأ الآهات ، وتشتد السكرات.
رمضان هلْ لي وقفة أستروحُ الذكرى وأرشف كلها المعسولا
رمضان ! هل لي وقفة أسترجع الماضي وأرتع في حماه جذولا
فأذن - لي قارئي الكريم - أن أستقطع من وقتك الثمين جزءاً يسيراً لنتذاكر جميعاً ونتساءل: هل يمكننا أن نغير من أحوالنا ، ونحسن من أوضاعنا ، فنفكر في مآلنا ومصيرنا بعد فراق حياتنا ، فنمهد لأنفسنا قبل عثرة القدم ، وكثرة الندم ، فنتزود ليوم التناد بكامل الاستعداد .
فأسأل الله تعالى أن يبدل من أحوالنا ، ويقلب من شأننا ، حتى يصبح يومنا خيراً من أمسنا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وكتبه : محمد بن عبدالله الهبدان
1/8/1421هـ
ص .ب 120969 الرمز : 11689
البريد الإلكتروني : ahabdan@emel.com
لماذا رمضان ؟!!
لأن رمضان فرصة العمر السانحة وموسم البضاعة الرابحة والكِفة الراجحة ولماحباه الله تعالى من المميزات فهو بحق مدرسة لإعداد الرجال وهو بصدق جامعة لتخريج الأبطال .
هنا مصنع الأبطال يصنع أمةً *** وينفخ فيها قوة الروح والفكر
ويخلع عنها كل قيد يعوقها *** ويعلي منار الحق والصدق والصبر
ولما يسر الله تعالى فيه ، من أسباب الخيرات ، وفعل الطاعات ، فالنفوس فيه مقبلة ، والقلوب إليه والهة .
ولأن رمضان تصفد فيه مردة الشياطين . فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان ، وفي رمضان تفتح أبواب الجنان ، وتغلق أبواب النيران ، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار ، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فما أعظمها من بشارة ، لو تأملناها بوعي وإدراك لوجدتنا مسارعين إلى الخيرات ، متنافسين في القربات ، هاجرين للموبقات ،تاركين للشهوات.
• ورمضان فرصة للتغيير . . لما حصل فيه من الأحداث التي غيرت مسار التاريخ ، وقلبت ظهر المجن ، فنقلت الأمة من مواقع الغبراء ، إلى مواكب الجوزاء ، ورفعتها من مؤخرة الركب ، لتكون في محل الصدارة والريادة ففي معركة بدر الكبرى التقى جيشان عظيمان ، جيش محمد صلى الله عليه وسلم ، وجيش الكفر بقيادة أبي جهل في السنة الثانية من الهجرة وذلك في اليوم السابع عشر من رمضان ، وانتصر فيها جيش الإيمان على جيش الطغيان ، ومن تلك المعركة بدأ نجم الإسلام في صعود ، ونجم الكفر في أفول ، وأصبحت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، يقول الله تعالى:{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آل عمران:123] .
أبطال بدر ياجباهاً شُرعت *** للشمس تحكي وجهها المصقولا
حطمتم الشرك المصغر خده *** فارتد مشلول الخطى مخذولا
وفي السنة الثامنة ، وفي شهر رمضان ، كان الفتح العظيم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس به في دين الله أفواجا ، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجا .(/1)
وفي سنة ستمائة وثمانيةً وخمسين ، فعل التتار بأهل الشام مقتلة عظيمة ، وتشرد من المسلمين من تشرد ، وخربت الديار ، فقام الملك المظفر قطز ، بتجهيز الجيوش ، لقتال التتار ، حتى حان اللقاء في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وأمر ألا يقاتلوا حتى تزول الشمس ، وتفيء الظلال ، وتهب الرياح ، ويدعوا الخطباء والناس في صلاتهم ، ثم تقابل الصفان ، واقتتل الجيشان ، وحصلت معركة عظيمة ، سالت فيها دماء ، وتقطعت أشلاء ، ثم صارت الدائرة على القوم الكافرين ، وقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين .
كل هذه الأسباب جعلتنا نوقن بأن رمضان فرصة سانحة وغنيمة جاهزة ، لمن أراد التغيير في حياته . فالأسباب مهيأة ، والأبواب مشرعة وما بقي إلا العزيمة الصادقة ، والصحبة الصالحة ، والاستعانة بالله في أن يوفقك للخير والهداية .
رمضانُ أقبل قم بنا يا صاح *** هذا أوان تبتل وصلاح
واغنم ثواب صيامه وقيامه *** تسعد بخير دائم وفلاح
رمضان فرصة الجميع للتغيير
• فرمضان فرصة للتغيير .. ليصبح العبد من المتقين الأخيار ، ومن الصالحين الأبرار . يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فقوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تعليل لفرضية الصيام ؛ ببيان فائدته الكبرى ، وحكمته العظمى . وهي تقوى الله والتي سأل أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه الصحابيَ الجليل ؛ أبيَ بن كعب رضي الله عنه عن معنى التقوى ومفهومها ؟ فقال يا أمير المؤمنين : أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال : بلى .. قال : فما صنعت ؟ قال : شمرتُ واجتهدت .. أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه ، قال أبي: فذلك التقوى .
إذن فالتقوى : حساسيةٌ في الضمير ، وشفافيةٌ في الشعور ، وخشيةٌ مستمرة ، وحذرٌ دائم ، وتوق لأشواكِ الطريق ؛طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ الرغائبِ والشهوات ، وأشواكُ المخاوفِ والهواجس ، وأشواكُ الفتنِ والموبقات ، وأشواكُ الرجاءِ الكاذب فيمن لا يملكُ إجابةَ الرجاء ، وأشواكُ الخوف الكاذب ممن لا يملكُ نفعاً ولا ضراً ، وعشراتٌ غيرُها من الأشواك ..
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبالَ من الحصى
هذا هو مفهوم التقوى .. فإذا لم تتضح لك بعد .. فاسمع إلى علي رضي الله عنه وهو يعبر عن التقوى بقوله : هي الخوفُ من الجليل ، والعملُ بالتنزيلُ ، والقناعةُ بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل . هذه حقيقة التقوى ، وهذا مفهومها .
فأين نحن من هذه المعاني المشرقةِ المضيئة ؟ .. لقد كان المجتمعُ الإسلاميُ الأول مضربَ المثل في نزاهتهِ ، وعظمةِ أخلاقه ، وتسابقِ أفرادهِ إلى مرضاةِ ربهمِ جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، وكانت التقوى سمةً بارزة في محيا ذلكِ الجيلِ العظيم الذي سادَ الدنيا بشجاعتهِ وجهاده ، وسارت بأخلاقهِ وفضائلهِ الركبان مشرقاً ومغرباً ، فقد كان إمام المتقين عليه الصلاة والسلام قمةً في تقواه وورعهِ ، وشدةِ خوفهِ من ربهِ العظيمِ الجليل ، فكان يقومُ الليل يصلي ويتهجد حتى تفطرتْ قدماه الشريفتان ، وكان يُسمعُ لصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجل من النشيجِ والبكاء ، وهو الذي غُفر له ذنبه ما تقدم وما تأخر .
وأما صاحبهُ المبجل ، وخليفته العظيم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان يقول : يا ليتني كنت شجرةً تعضدُ ثم تؤكل !! وكان له خادمٌ يأتيه بالطعام ، وكان من عادةِ الصديق أن يسأله في كل مرة عن مصدرِ الطعام ؛ تحرزاً من الحرام !! فجاءه خادمُه مرةً بطعامه ، فنسي أن يسألَه كعادته فلما أكلَ منه لقمة قال له خادمُه : لمَ لم تسألني - يا خليفةَ رسولِ الله - كسؤالكِ في كلِ مرة ؟ قال أبو بكر : فمن أين الطعامُ يا غلام ؟ قال : دفعه إليَّ أناسٌ كنتُ أحسنتُ إليهم في الجاهلية بكهانةٍ صنعتُها لهم ، وهنا ارتعدتْ فرائصُ الصديق ، وأدخلَ يده في فمه ، وقاء كلَّ ما في بطنهِ وقال : واللهِ لو لم تخرجْ تلك اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها ، كل ذلك من شدةِ خوفه وتقواه وتورعهِ عن الحرام ، وأما خوفُ عمر رضي الله عنه وشدةِ تقواه فعجبٌ من العجب ، سمع قارئاً يقرأُ قولَه تعالى: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } [الطور:13] فمرض ثلاثاً يعودهُ الناس . بل إنه قرأ مرةً قولَه تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات:24] فمرض شهراً يعودُه الناسُ مريضاً ، وأما عليٌ رضي الله عنه فكان يقبض لحيته في ظلمة الليل ويقول : يا دنيا غُري غيري أليَّ تزينتِ أم إليَّ تشوقتِ طلقتك ثلاثاً لا رجعةَ فيهن زادُك قليل وعمرُك قصير ، وخرج ابن مسعود مرة في جماعة فقال لهم ألكم حاجة ؟! قالوا : لا ؛ ولكن حبُ المسيرِ معك !! قال : اذهبوا فإنه ذلٌ للتابع ، وفتنةٌ للمتبوع .(/2)
دعنا من الخلفاء الراشدين المكرمين ، ولنتجاوز الزمن سنين عدداً ، فهاهو هارون الرشيد الخليفةُ العباسيُ العظيم الذي أذلَّ القياصرة وكسرَ الأكاسرة والذي بلغت مملكته أقاصي البلاد شرقاً وغرباً يخرج يوما في موكبهِ وأبهته فيقول له يهودي:يا أمير المؤمنين : اتق الله !! فينزل هارونُ من مركبه ويسجدُ على الأرض للهِ ربِ العالمين في تواضعٍ وخشوع ، ثم يأمرُ باليهودي ويقضي له حاجته ، فلما قيل له في ذلك !! قال : لما سمعت مقولتَه تذكرتُ قولَه تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [البقرة:206] فخشيت أن أكون ذلك الرجل ، وكم من الناس اليوم من إذا قيل له اتق الله احمرتْ عيناه ، وانتفختْ أوداجه ، غضباً وغروراً بشأنه ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : كفى بالمرء إثماً أن يقال له: اتق الله فيقول:عليك نفسَك !! مثلكُ ينصحنُي !!
إذن فيوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى ، جمعهم اللهُ بعد فرقة ، وأعزهم بعد ذلة ، وفُتحت لهم البلاد ومُصرت لهم الأمصار كل ذلك تحقيقا لموعودِ الله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف:96] فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى ؛ ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر:54-55].
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى *** تجرد عريانا وإن كان كاسيا
وخير خصال المرء طاعة ربه *** ولا خير فيمن كان لله عاصيا
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان مفرطاً في صلاته ، فلا يصليها مطلقاً ، أو يؤخرها عن وقتها , أو يتخلف عن أدائها جماعة في المسجد . ليعلم المتهاون في صلاته ، أنه يرتكب خطأً قاتلاً ، وتصرفاً مهلكاً ، يتوقف عليه مصيره كله ، و إن لم يتدارك نفسه ، فهو آيل لا محالة إلى نهاية بائسة ، وليل مظلم ، وعذاب مخيف ، جاء في الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال :" أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة " رواه البخاري (1143).
إن التهاون بأمر الصلاة والاستخفاف بها ، خطأ فادح بكل المقاييس ، وجناية مخزية بكل المعايير . لا ينفع معها ندم ولا اعتذار عند الوقوف بين يدي الواحد القهار ، إني أدعوك بكل شفقة وإخلاص ، أدعوك والألم يعتصر قلبي خوفاً عليك ورأفة بك ، أدعوك في مثل هذا الشهر المبارك إلى إعادة النظر في واقعك ، ومُجريات حياتك ، أدعوك إلى مراجعة نفسك ، وتأمل أوضاعك قبل فوات الأوان ، إني أنصحك ألا تخدعك المظاهر ، ولا يغرك ما أنت فيه ، من الصحة والعافية والشباب والقوة ، فما هي إلا سراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماءً ، أو كبرق خُلب ، سرعان ما يتلاشى ، و ينطفئ ويزول ، فالصحة سيعقبها السقم ، والشباب يلاحقه الهرم ، والقوة آيلة إلى الضعف ، ولكن أكثر الناس لا يتفكرون .
أخي الكريم : إن أصحابك الذين غروك بالتهاون بشأن الصلاة ، وزينوا لك إضاعتها ، إنهم لن يذرفوا عليك سوى دموع التماسيح ، يعودون بعدها ، إلى مزاميرهم وطربهم وأنسهم ، غير مكترثين بك ، ولا بألف من أمثالك ، إنهم أنانيو الطباع ، ميتو الإحساس ، لا همّ لهم إلا أنفسهم وملذاتهم ، ولو فقدوا الآباء والأمهات ، فضلاً عن الأصحاب والخِلان ، فاستيقظ يا هذا من غفلتك ، وتنبه من نومتك ، فالحياة قصيرة وإن طالت ، والفرحة ذاهبة وإن دامت ، واجعل من رمضان فرصة للمحافظة على هذه الصلاة العظيمة ، فقد وفقك الله للصلاة مع الجماعة ، وإلف المساجد ، وعمارتها بالذكر والتسبيح ، فاستعن بالله ، واعزم من الآن أن يكون هذا الشهر المبارك بداية للمحافظة على الصلاة ، والتبكير إليها يقول الله تعالى في وصف المؤمنين:{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ } [المعارج: 24] .
ويقول سبحانه : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } [المعارج:34-35] .(/3)
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن ابتلاه الله تعالى بتعاطي الحرام ، من خمر ومخدرات ، أو دخان و مسكرات ، أن لا يفعل بعد إفطاره ما يخل بهذه العزيمة القوية ، أو يوهنها ، أو يقلل من شأنها ،تلك العزيمة التي جعلته يمسك طوال ساعات النهار ، فيهدم في ليله ما بناه في نهاره من قوة الإرادة التي صبر بسببها عن محبوباته ومألوفاته . فما أحزمه لو استغل شهر الصيام كمدرسة يتدرب بها على هجر ما يكرهه هو ، أو يكرهه الشارع ، من مألوفاته التي اعتاد أكلها ، أو شربها ، أو مقاربتها . تالله ما أحزمه لو واصل هذه الحمية عن ذلك بالليل ، كما عملها في النهار .
أخي الصائم : إني أشجع فيك إيمانك العظيم ، ويقينك بالله تعالى . فمن الذي جعلك تمتنع عن تعاطي هذه السموم في وقت الصيام إلا خوفك من الجبار ، ومراقبتك للواحد القهار . وإلا فمَنْ مِنَ الناس يعلم أنك صائم أو لا ؟!! ولكن شعورك بنظر الله إليك ، ومراقبته لك ، صرفك عن تعاطي الحرام في وقت الصيام
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب
وإني أتساءل بصدق . . الإرادة التي استطاعت أن تصوم لأكثر من اثنتي عشرة ساعة ، أتعجز عن مواصلة مسيرتها الإصلاحية ؟!! والعزيمة التي صمدت عن تعاطي هذا البلاء ، لهذه الفترة الطويلة أثناء النهار . . أتنهار في آخر لحظات الإسفار ، وإرخاء الليل الستار ؟!!
أين الهمة التي لا تقف أمامها الجبال الشامخات ؟ وأين العزيمة التي لا تصدها العاتيات !! استعن بالله تعالى على ترك هذا البلاء ، فالنصر صبر ساعة ، والفرج قريب ، وإن الله مع الصابرين .
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان مقصرًا في نوافل العبادات ؛ فلم يجعل له منها نصيباً ، ولم يأخذ لنفسه قسماً مفروضاً ، فيغير من حاله ، ويبدل من شأنه ، ففي رمضان تتهيأ النفوس ، وتقبل القلوب ، وتخشع الأفئدة ، فينتهز هذه الفرصة ، فيحافظ على شيء منها ، فهي مكملة لفرائضه ، متممة لها ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما يحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك " رواه ابن ماجه (1425) .
وأقل الوتر ركعة ، وأقل الضحى ركعتان ، وعدد السنن الرواتب ثنتا عشرة ركعة ، ركعتان قبل الفجر ، وأربع ركعات قبل الظهر ، وركعتان بعدها ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة أو إلا بني له بيت في الجنة " رواه مسلم ، ويقول صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " رواه مسلم .
ولماذا لا تجعل من رمضان فرصة ، لأن يكون لك أيام تصومها لله رب العالمين فمن صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً ، فهذه ستة من شوال ، ويوم عاشوراء ، وعرفة ، وصوم الإثنين والخميس ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر . فلا تحرم نفسك الدخول من باب الريان ، عندما ينعم عليهم المنان بدخول الجنان . . فبادر شبابك قبل هرمك . . وصحتك قبل سقمك . . وحياتك قبل موتك . . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " رواه البخاري .
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن هجر القرآن قراءة وتدبراً ، وحفظاً وعملاً حتى أصبح القرآن نسياً منسياً ، أن يكون هذا الشهر بداية للتغيير ، فترتب لنفسك جزءاً من القرآن ، لا تنفك عنه بأي حال من الأحوال ، ولو كان هذا الجزء يسيراً ، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ، وقليل دائم ،خير من كثير منقطع ، ولا تنس الفضل الجزيل لمن قرأ كلام الله الجليل يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " رواه الترمذي (2910) وقال هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه .
والقرآن يشفع لك يوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربي إني منعته الطعام والشهوة ، فشفعني فيه ، ويقول القرآن : رب منعته النوم بالليل ، فشفعني فيه ، قال : فيشفعان " رواه أحمد . قال الألباني ـ رحمه الله ـ : ( أي يشفعهما الله فيه ويدخله الجنة ) .(/4)
ولقد أدرك سلفنا الصالح عظمة هذا القرآن ؛ فعاشوا معه ليلاً ونهاراً . . قال وهيب بن الورد : قيل لرجل ألا تنام ؟ قال : إن عجائب القرآن أطرن نومي ، وقال أحمد بن الحواري : إني لأقرأ القرآن ، وانظر في آية ، فيحير عقلي بها ، وأعجب من حفاظ القرآن ، كيف يهنئهم النوم ، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله ، أما إنهم لو فهموا ما يتلون ، وعرفوا حقه ، وتلذذوا به ، واستحلوا المناجاة به ، لذهب عنهم النوم فرحاً بما رزقوا .
ومن المفارقة العجيبة ، أن يدرك أعداؤنا من عظمة هذا القرآن ، ما لا ندركه ، وأن يعملوا جاهدين على طمس معالمه ، ومحو آثاره في العباد والبلاد ، لخوفهم الشديد من عودة الأمة إلى هذا القرآن الذي يؤثر في النفوس ، ويحييها ، ويبعث فيها العزة والكرامة . يقول غلادستون : مادام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين ، فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق ، ولا أن تكون هي نفسها في أمان ، وكان نشيد جيوش الاستعمار ،كان نشيدهم :أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة ، لأحارب الديانة الإسلامية ، ولأمحو القرآن بكل قوتي .(1)
فما موقفك أنت يا رعاك الله ؟ أدع الإجابة لك ، وأسأل الله أن يوفقك للخير وفعله .
• ورمضان فرصة للتغيير .. للمرأة المسلمة التي أصبح حجابها مهلهلاً ، وعباءتها مطرزة ، وثيابها فاتنة ، وعطرها يفوح و في كل يوم إلى الأسواق تروح . . قال صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية " رواه أحمد .
ويزداد الأمر سوءاً ، إذا كان الخروج بلا محرم . . فتركب مع السائق وحدها وما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فليكن - يا أخية - رمضان فرصة لأن تتربى نفسك على البقاء ، في المنزل وعدم الخروج منه إلا لحاجة ماسة ، وبضوابط الخروج الشرعية ، وليكن رمضان فرصة لضبط النفس في قضايا اللباس ، والموضة والاعتدال فيهما ، بدون إفراط ولا تفريط ، وليكن رمضان فرصة للحفاظ على الحجاب الشرعي ؛ طاعة لله ، وإغاظة للشيطان وحزبه .
• ورمضان فرصة للتغيير .. للرجل والفتاة اللذين عبثا بالهاتف طويلاً ، وتهاتفا بعبرات الحب والغرام ، والعشق والهيام ، والذي كله كذب وهراء ، ودجل وافتراء ، وتلاعب بالمشاعر والعواطف ، وقد تكون البداية قضاء وقت فراغ ، ثم يستدرجهما الشيطان للوقوع في الفاحشة البغيضة . . فتقع المصيبة وتحل الطامة العظيمة . . وينكسر الزجاج فأنى له أن يعود مرة أخرى !!
تقول إحدى المعاكسات : كانت البداية مكالمة هاتفية عفوية . تطورت إلى قصة حب وهمية ، أوهمني أنه يحبني ، وسيتقدم لخطبتي ، طلب رؤيتي ، رفضت . هددني بالهجر !! بقطع العلاقة !! ضعفت . . أرسلت له صورتي مع رسالة معطرة !! توالت الرسائل ، طلب مني أن أخرج معه . . رفضت بشدة . . هددني بالصور ، بالرسائل المعطرة ، بصوتي في الهاتف ـ وقد كان يسجل ـ خرجت معه على أن أعود في أسرع وقت ممكن . . لقد عدت ولكن عدت وأنا أحمل العار ، قلت له الزواج .. الفضيحة ،قال لي بكل احتقار وسخرية : إني لا أتزوج فاجرة !!
فاتق الله أيها الشاب ، واتقي الله أيتها الفتاة ، وليكن رمضان فرصة لتغيير المسار والابتعاد عن الأخطار ، وهتك الأعراض فالزنا دين كما قال الشاعر :
يا هاتكاً حرم الرجال وتابعاً *** طرق الفساد فأنت غير مكرم
من يزن في قوم بألفي درهم *** في أهله يزني بربع الدرهم
إن الزنى دين إذا استقرضته *** كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن تعود على حياة المترفين ، ونشأ على حب الدعة واللين ، أن يأخذ من رمضان درسا في تربية النفس على المجاهدة والخشونة في أمر الحياة ، فربما تسلب النعمة ، و تحل النقمة . فالدنيا غدارة غرارة مناحة مناعة ، وإقبال الدنيا كإلمامة ضيف ، أو غمامة صيف ، أو زيارة طيف ،عن أبي عثمان النهدي قال : أتانا كتاب عمر بن الخطاب : ( اخشوشنوا واخشوشبوا واخلولقوا وتمعددوا ـ التمعدد ـ أي العيش الخشن الذي تعرفه العرب ـ كأنكم معد وإياكم والتنعم وزي العجم.) ، و عن عروة بن رويم قال : قال صلى الله عليه وسلم :" شرار أمتي الذين ولدوا في النعيم وغذوا به همتهم ألوان الطعام وألوان الثياب يتشدقون في الكلام" .
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان يتابع الأكلات ، ويتتبع المطاعم ، فيوم هنا ، ويوم هناك ، حتى أصبح بطنه هو شغله الشاغل . ولو سألته عن أي مطعم في الشرق أو الغرب لأعطاك وصفة موجزة . ومفصلة بما تحتوي عليه تلك المطاعم وحسنها من قبيحها ، وجيدها من رديئها ، وما هكذا تورد الإبل يا سعد !! ولم نخلق من أجل أن نسعد بطوننا . . والطعام وسيلة لا غاية فافهم هذا حتى تبلغ الغاية ...
كيف تصفو روح مَرْءٍ *** نفسه للطعم ولهى(/5)
لقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقلل من الأكل كما في حديث المقدام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لابد محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلثه لنفسه "
رواه الترمذي
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من خبر برّ ثلاث ليال تباعا حتى قبض . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن " رواه البخاري ومسلم . ويقول عمر رضي الله عنه : إياكم والبطنة في الطعام والشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وأبعد عن السرف ، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه "
قال الحارث بن كلدة الطبيب المشهور : الحمية رأس الدواء ، والبطنة رأس الداء . وقال غيره لو قيل لأهل القبور: ما كان سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم !!
وقلة الطعام توجب رقة القلب وقوة الفهم ، وانكسار النفس ، وضعف الهوى والغضب . وكثرة الطعام يوجب ضد ذلك .
عن عمرو بن قيس قال : إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب . وعن سلمة بن سعيد قال : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله .
وعن مالك بن دينار قال : ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه ، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه .
وقال سفيان الثوري : إن أردت أن يصح جسمك ، ويقل نومك ، فأقل من الأكل .
فليكن هذا الشهر المبارك بداية للتقلل من الطعام والاستمرار على ذلك على الدوام .
• ورمضان فرصة للتغيير .. من أخلاقنا . فمن جبل على الأنانية والشح وفقدان روح الشعور بالجسد الواحد ، فشهر الصوم مدرسة عملية ، له وهو أوقع في نفس الإنسان من نصح الناصح ، وخطبة الخطيب ، لأنه تذكير يسمعه ويتلقنه من صوت بطنه إذا جاع ، وأمعائه إذا خلت ، وكبده إذا احترت من العطش ، يحصل له من ذلك تذكير عملي بجوع الجائعين ، وبؤس البائسين ، وحاجة المحتاجين ، فتسمح نفسه بأداء حق الله إليهم ، وقد يجود عليهم بزيادة ، فشهر الصيام شهر الجود والمواساة . .
الصوم يمنحنا مشاعر رحمة *** وتعاون وتعفف وسماح
فرمضان مدرسة للقضاء على صفة الأنانية والشح ، ومن ثم الشعور بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. قال صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه مسلم (2586) .
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان قليل الصبر ، سريع الغضب ، أن يتعلم منه الصبر والأناة . فأنت الآن تصبر على الجوع والعطش والتعب والنصب ساعات طويلة ، ألا يمكنك - أيضاً - أن تعود نفسك من خلال شهر الصبر . . الصبر على الناس وتصرفاتهم وأخلاقهم ، وما يفعلونه تجاهك من أخطاء ، وليكن شعارك الدائم .{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران:134] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء " رواه الترمذي .
. . فليكن هذا الشهر بداية لأن يكون الصبر شعارنا ، والحلم والأناة دثارنا.
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن ابتلاه الله تعالى بقلب قاسٍ كالصخر الراسي ، لا تدمع له عين أن ينتهز فرصة هذا الشهر الذي تكون للنفوس فيه صولة . . وللقلوب فيه جولة . . فيحرص على ترقيق قلبه ، بصرفه عن الذنوب التي هي جالبة الخطوب ، و حاجبة القلوب عن علام الغيوب . قال عليه الصلاة والسلام : " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " رواه مسلم .
وما أحسن قول القائل :
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها(/6)
ومن أراد السعادة فليلزم عتبة العبادة ، وليجتنب الإساءة ..يقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ( لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل ) و يقول الحسن البصري رحمه الله : ( إذا لم تقدر على قيام الليل ، ولا صيام النهار ، فاعلم أنك محروم ، قد كبلتك الخطايا والذنوب ) وليكن لك ما بين فينة وفينة زيارة للمقابر ، وتتأمل في أحوال أصحابها ..فإن القوم فيها صرعى ، والدود في عيونهم يرعى ،عن الحديث سكتوا ، وعن السلام صمتوا ، الظالم بجانب المظلوم ، والمنتصر بجانب المهزوم ، ذهب الحسن والجمال ، والجاه والمال ، وبقيت الأعمال ..أموات يتجاورون ، ولا يتزاورون .
سكتوا وفي أعماقهم أخبارُ وجافاهم الأصحاب والزوار
وتغيرت تلك الوجوه وأصبحت بعد الجمال على الجفون غبار
ماذا أعددت لهذا الموقف ؟ يقول الله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان يأكل الحرام من خلال أكل الربا أو التلاعب في البيع والشراء أو بيع المحرمات من دخان ومجلات فاسدة ، ومعسل وجراك ، أو بيع العباءات والنقابات المحرمة ، أو الملابس الفاضحة من بناطيل نسائية أو أشرطة غنائية أو أشرطة فيديو أو الأطباق السوداء ، أن يغير من حاله ، وأن يبدل من شأنه ، وأن يدع أكل الحرام . فإن الله تعالى يحاسب على النقير والقطمير .فحذار يرحمك الله أن تزل قدم بعد ثبوتها !! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت ، النار أولى به "رواه ابن حبان وصححه.
وهل يسرك أن أهل الإيمان يرفعون أيديهم في صلاة التراويح والقيام يدعون الله تعالى ، ويستغيثون به ، ويسألونه من فضله ورحمته وجوده وبره ويستجاب لهم ..وأنت ترد عليك دعوتك ؟!! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيها الناس : إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون:51] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، يا رب ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك " رواه مسلم .
وتذكر أنه لن ينفعك أن الناس فعلوا ، أو أنهم يريدون ذلك ، فكل واحد منا سيقف بين يدي الواحد القهار ، ويسأله عن أعماله وأقواله الصغار ، والكبار ..فمن سيقف معك في ذلك الموقف العصيب ؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤا فلا تظلموا " رواه الترمذي (2007) و قال :هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وكن يا رعاك الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر فإن الدال على الخير كفاعله يقول الله تعالى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
• ورمضان فرصة للتغيير .. للكُتاب الذين تأثروا بعدوهم .. إننا نقول لهم : إن رمضان فرصة لهم للتغيير ، فالكلمة أمانة ، إنها مسؤولية ، نعم لمسؤولية الكلمة ، لا لحرية الكلمة المتجردة من تعاليم ديننا . وخليق بأدبائنا وشعرائنا أن يتفق أدبهم مع أدب دينهم ، وحري بالصحافة المسلمة أن تربأ بما ينشر على صفحاتها عما يتنافى مع عقيدتنا الإسلامية وتراثنا . قال تعالى:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36].(/7)
ثم أيها الكاتب الموفق : ألم تقرأ ما سطره يهود في بروتوكولاتهم : ( الأدب والصحافة هما أعظم قوتين تعليميتين خطرتين ، ولهذا السبب ستشتري حكومتنا العدد الأكبر من الدوريات ..) وهل تتصور أن شراءهم لها من أجل الإصلاح ؟ أم من أجل إقامة العدل ؟ أم من أجل الدفاع عن حقوق المضطهدين ؟ كلا ؛ بل من أجل الإفساد ، ونشر الرذيلة بين الأمم كلها وخاصة أهل الإسلام لأنهم ألد الخصام لهم ، فهل ترضى لنفسك أن تكون عوناً لهؤلاء على أمتك ؟ هل ترضى أن تكون أداة إفساد في الأمة ـ من حيث تشعر أولا تشعر ـ هل ترضى أن تنشر في الأمة ما يؤثر على دينها وسلوكها ؟ قل لي بربك كيف تستسيغ أن تكتب بقلمك السيال ما يغضب ربك ؟ كيف تتجرأ أن تكتب بقلمك الرفيع ما يدعو إلى نشر الفاحشة في الذين آمنوا ؟ أو أن تضللهم أو تزيف الحقائق عليهم ؟ لقد وهبك الله تلك الموهبة ، وأسبغ عليك هذه النعمة فحري بك أن تستعملها في طاعة مولاك ، حري بك يا من آمنت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً أن تسخر قلمك للصدع بكلمة الحق ، والمجاهرة بالفضيلة ، والدعوة إلى العفة والكرامة ، حري بك أن تكون منافحاً عما يُراد بأمتك ، حري بك أن تكون مكافحاً عما يخطط لأمتك .
وأخيرا أودعك وكلي رجاء أن تجد هذه الكلمات صداها في قلبك، وأن تلامس هذه النداءات شغاف نفسك، وأن نلتقي سويا على خدمة هذا الدين حتى نلقى الله سبحانه ونحن على ذلك ..وليكن شهر رمضان شهراً لمراجعة النفس والمنهج والفكر فمردة الشياطين تصفد ، وادع الله تعالى من قلب خاشع أن يريك الحق حقاً ، ويرزقك اتباعه ، والباطل باطلاً ، ويرزقك اجتنابه .وإن كنت تعلم الحق ولكن حب المال ، والجاه والشهرة ، والمنصب غلب عليك فإني أقول لك ستعرف غداً عاقبة أمرك . وشؤم فعلك على نفسك !!
• ورمضان فرصة للتغيير .. للدعاة الذين فترة همتهم ، وضعفت غيرتهم ، ..وتوانت عزائمهم ، فيشدوا من حالهم ، ويستيقظوا من رقدتهم ، ويتنبهوا من غفلتهم ، وينتهزوا فرصتهم ، بدعوة الناس إلى ربهم ، والذهاب إلى أماكن تواجدهم وتجمعهم . لتذكيرهم بالله تعالى ، وتخويفهم من ناره وجحيمه ، وترغيبهم بجنته ونعيمه ، والتفكير الجاد لمعرفة الأساليب المناسبة للإصلاح ، وليتذكر الدعاة إلى الله فضل الدعوة إلى الله ، والسهر من أجلها ، والتفاني لها ، وجزاء من تاب على أيديهم ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " رواه البخاري .
ليكن رمضان محطة روحية تبعث فينا روح الجدية ..فيعد الداعية عدته ، ويأخذ أهبته ، ويملك عليه الفكر فيما هو فيه نواصي نفسه وجوانب قلبه ..فيكون دائم التفكير ، عظيم الاهتمام ، على قدم الاستعداد أبدا ، إن دعي أجاب ، أو نودي لبى ، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه ، وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له !!
• ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان مذنباً ومسرفاً على نفسه بالخطايا والموبقات فإذا به يسمع الأغنيات بأصوات المغنين والمغنيات ، ويشاهد القنوات بصورها الفاضحات ، ويعاكس الفتيات ، ويسهر على الموبقات ، ويعاقر المنكرات ، أن يسارع إلى الإنابة ، ويبادر إلى الاستقامة ،قبل زوال النعم ،وحلول النقم ، فهنالك لا تقال العثرات ، ولا تستدرك الزلات .. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور:31] ويكفي التائبين فخراً وعزاً ورفعة وشرفاً أن الله تعالى قال : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة:222] أليس من سعادة التائبين ..أن الله تعالى يفرح بأوبة الراجعين ..وإقبال المذنبين ..يقول صلى الله عليه وسلم : " لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فوضع رأسه فنام نومة ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال :أرجع إلى مكاني ، فرجع فنام نومة ، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده " رواه البخاري (6308) ، وفي مسلم : " فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ".
فالتوبة ..التوبة ..فهي شعار المتقين ..ودأب الصالحين ..وحلية الصالحين ..أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة " رواه مسلم .
فبادر يا رعاك الله إليها في مثل هذا الشهر المبارك ،فأبواب الجنة مشرعة ، وأبواب النار مغلقة ، ولله في كل ليلة عتقاء من النار ، فاجتهد أن تكون واحدا منهم ، جعلني الله وإياك ووالدينا ممن فاز بالرضا والرضوان والفوز بالجنان والنجاة من النيران .(/8)
وفي الختام .. آن لثياب العصيان ، أن تخلع في رمضان ، ليُلْبس الله العبد ثياب الرضوان ، وليجود عليه بتوبة تمحو ما كان من الذنب والبهتان ، وقد حان الأوان لفراق الخِلان ، وختم البيان بالصلاة والسلام على سيد ولد عدنان ، وعلى آله وأصحابه الشجعان ، وعلى من سار على نهجهم واقتفى أثرهم على مر الزمان ، قاله وكتبه محمد بن عبدالله الهبدان ، في شهر شعبان ، لعام واحد وعشرين وأربعمائة بعد الألف من هجرة المصطفى خليل الرحمن .(/9)
رمضان مدرسة لتعلم خصال النبوة
ذة. نادية بلغازي
بعد التحية والسلام، أيها الكرام
يحل علينا جميل الطلة، بهي الحلة، بعد أن دار الزمان، وتصرم العام، واستجاب لنا الإله المجيب الرحمان: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وأبلغنا رمضان".
نستقبل اليوم أيها الكرام، أياما للعزيمة والصبر، والعبادة والأجر، صيامها شفاعة وبركة واستجابة، عند غروب كل شمس منه عيد، خلد ذكراه القرآن المجيد، بنصره المكين، وفتحه العظيم، قال عنه المعلم الحبيب صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن خزيمة عن أنس: "أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله وحي نزل؟ قال: لا، قال: عدو حضر؟ قال: لا. قال: فماذا؟ قال: إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة وأشار بيده إليها".
إن من حسن الاستقبال وطلاوة الاستهلال، أن نعد الروح والبدن لاستقبال فيوضاته والغرف من عطاءاته، ثم نتساءل بعدُ ماذا تتعلم الأمة من شهر رمضان؟ وكيف يعلمنا رمضان خصال النبوة؟
إذا كان التوحيد إقرارا لله عز وجل بالعبودية، وخروجا عن هوى النفس، وإقامة الصلاة خضوعا لضوابط هذه العبودية، والزكاة تحريرا للنفس من الشح بحملها، ضمن تكاليف العبودية، على البذل في مواطن الخير... فإن الصيام ضبط لشهوات النفس وتصفية للروح التي ما أن تكتمل للمرء القدرة على الشد بزمامها، والسيطرة على أهوائها، حتى ينطلق في ميادين التعبئة والدعوة والبناء.
عند الإمام الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمت الحسن والتُؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة" نتوقف عند هذه الخصال في علاقتها برمضان.
أ - السمت الحسن
السمت الطريق القويم والهيئة الطيبة، سمت حسن عام في الأمة وهي تعيش بركات هذا الشهر الكريم؛ وحدة في الوجهة، ووحدة في السلوك، وحدة في البرامج، وحدة في الصيام والقيام والإقبال على كتاب الله، وحدة في السمت العام للأمة...
الاستجابة لأحكام الله تستولي على القلوب المؤمنة وعقولها وإرادتها فتخضعها لسلطان الشريعة وأحكامها، بالصدق كله والإخلاص كله، ابتغاء وجه الكريم والدار الآخرة. همم مؤمنة تتسع للكثير من البر ولجلائل الأعمال سرعان ما قد يبزغ فجر عيد جديد فتنسى عزمات التوبة والحوبة. فنكن ممن يعيش رمضان العام كله.
إن من مظاهر السمت الحسن مفارقة الكثير من الظواهر ومزايلتها، حتى يحيا المؤمن الإيمان ظاهرا وباطنا.
ليس من السمت الحسن في شيء، جورب ثخين وبرقع أسود ولحية طويلة مع تنفير للأمة وتخويف، تحت دعوى محاربة البدع والضلال.
قد ينصب التائب نفسه أو التائبة، بحسن نية غالبا، وبفهم لا يقرأ مقاصد الشريعة وكلياتها، وبتحريض من كتب أنيقة تنفث سما أو أشرطة غريبة توزع بالمجان، ينصب نفسه حكما، ووالداه وإخوته وبقية رحمه إلى مقصلة الجلاد.
ما هذا بالقصد. أمتنا مستباحة الحمى، مستضعفة، كليمة ليست بحاجة إلا إلى جهود موحدة تواجه بها الخطر الداهم، وتشمر بها عن ساعد البناء.
ب- الصيام والتؤدة
التؤدة خصلة مهمة من خصال الإيمان والنبوة، علَّمَنَهَا الحديث الشريف. فكيف نزيد بها ارتباطا في هذا الشهر الكريم؟
التؤدة: الرزانة والتريث مع ما يرتبط بها من التحلي بالحلم والأناة وضبط النفس والتحمل والصبر في ميادين الجهاد، وأول الجهاد جهاد النفس نحملها على الإذعان لأمر الله، وإقامة دينه، والقيام عند حدوده لتقوم داعية منافحة عنه. وما رمضان إلا شهر لتعويد النفس على الصبر والأناة. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل إني صائم" عنف يقابله رفق، سباب يقابله حلم وتذكير بهدف سلوكي خلقي مرجو من هذه العبادة: ضبط النفس.
ضبط المؤمن للسانه من أبرز تجليات ضبطه لشهواته، فالكلام شهوة، فإن كان سبابا وشتما، فما ذلك من خصال النبوة في شيء، وما ذلك من صفات المسلم الذي يسلم المؤمنون من لسانه ويده.
إن تحويل الأمة من إسلام فطري موروث إلى تمثل واضح لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه سلام الله، ومن فتنة متأجج أوارها إلى تجديد، ومن ضياع في الفهم إلى فهم تنويري متجدد يغرف من النبع، ليتطلب رفقا بالأمة وتدرجا في تربيتها حتى يقف الناس عند السلوك الإسلامي المكتمل، ويتطلعوا إلى خلق النبوة، فيحبوا الدين ويحبوا إقامته.
سيف مصلت، وقلب قاس لا تلامسه الرحمة، ووجه عبوس، وطبع خشن وخلق جاف، وأحكام معسرة منفرة... ما لهذا تحتاج الأمة لتستمال قلوب أبنائها وتهفو لطلب وجه الله وتطبيق أحكامه.(/1)
لنا في الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم المروي عنه عند مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" لنا فيه جميل الأسوة في تربية الأمة على الرفق، وفي تربية القرآن على التدرج بلسم لمن أراد الشفاء.
ج - رمضان وخصلة الاقتصاد
من تربية الأمة على الرفق والأناة والصبر وبتدرج، نقف عند خصلة الاقتصاد.
الاقتصاد من القصد الذي يعني استقامة الطريق، والمقصود بكلمة الاقتصاد النبوية، التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
رمضان يعلمنا الاقتصاد والانتهاء عن عادات التبذير والترف المخزي. مجاوزة الحد في الأكل والشرب من معوقات السير إلى الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم... ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا".
ينبغي أن يتحول الصيام انعتاقا من الأعراف المألوفة، وراحة من عادات التبذير والإسراف، دون إخلال بالمستساغ منها الذي يساعد على إقامة الدين والاستعانة على التعبد، ومما يحول دون القطيعة المطلقة عن المجتمع.
في بيئة خامدة، لا ينفع تغيير المظاهر، بل لابد من اجتثاث لوثة الانحراف بما يلائم من وسائل التربية والتوجيه والتدرج.
لابد أن ننضح في النفوس معاني الإيمان، وتستشف القلوب دلالات العبادات، فتحافظ تمام المحافظة على أحكامها الشرعية وأبعادها السلوكية الأخلاقية.
عن طلب الكمال، عن إرادة وجه الله العظيم وما عنده إلى مجرد حرص على التملك المادي. متى نرقى إلى مستوى تملك المال دون أن يتملكنا؟ متى ندرك أن الله عز وجل فتح لنا أبواب الرزق للابتلاء: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" التوبة الآية24.
لن نرقى إلى هذا المقام، إلا إذا ارتقت فينا روح البذل في سبيل الله، روح التضحية، متحدين شح النفس، باذلين ولو كان بنا خصاصة.
فساد الفرد والمجتمع أمران مترابطان، كلاهما ينشأ، مما ينشأ، عن الحرص والجشع وطغيان الأنانية الفردية.
عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم أبو عبيدة بمال من البحرين قال لأصحابه: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".
أن تعيش الأقلية الترف وترفل في النعيم، بينما الأغلبية في هوة سحيقة من الحاجة والبؤس والفاقة، ما بهذا أمر الله! فأين المواساة والإحساس بمعاناة الآخرين؟
في انتظار إقامة العدل، العدل في قسمة الأرزاق لتنقذ الشعوب من ذل الفقر وخزي المسألة فيصفو وعاؤها لتتنزل فيه التربية لترقى في مدارج الإحسان، حري بنا أن نرتفع من درك التهمم الفردي إلى علياء الأخوة الإيمانية التي تفرض الاهتمام بأمور المسلمين. روى الإمام أحمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله".
فكيف وفي الأمة طبقات متخمة وأخرى جائعة بائسة؟
أما بعد،
فإن رمضان شهر للاستمداد الدائم والروحانية العالية والذكر والتبتل، والبذل ومواساة ذا الحاجة...
فلنغتنمها تزودا من خصال النبوة حتى تستمر وظيفة هذا الشهر السنة جميعها، ونكون من المتحققين بما كان عليه حال السلف الصالح الذي كان يستعد لرمضان ستة أشهر وينتفع به ستة أشهر فتتحصل له التقوى. "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
وكل القرب والوصال لكم في رمضان.(/2)
رمضان منحة إلهية
د/ناصر بن يحيى الحينيني ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :رمضان منحة إلهية ونعمة ربانية ولنا معه بعض الوقفات :
الوقفة الأولى شرف الزمان وبركة الشهر وفضله:
أيها المسلمون :قد أظلكم هذا الشهر الكريم شهر مبارك شهر له فضل ومزية عن غيره من الشهور ، إن هذا الوقت وهذا الزمن من السنة له منزلة عند ربنا ، ولهذا أودع فيه من الخير والبركة مالا يوصف من مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات والعتق من النار وتصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران ، وجعل سبحانه جزاء الصوم خاصاً به من سائر الأعمال ، وأودع فيه ليلةً خيراً من ألف شهر ، فيا عبدالله استشعر عظم هذا الزمان ومنزلته عند ربك فأوله عنايتك واجعله مشروع عمرك الذي تتقرب به إلى ربك وفرصة للحصول على أعظم الأجور فيه ، وقد أحسن القائل : "لما سلسل الشيطان في شهر رمضان ،وخمدت نيران الشهوات بالصيام ، انعزل سلطان الهوى ، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل ؛ فلم يبق للعاصي عذر ، ياغيوم الغفلة عن القلوب تقشعي ، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي ، يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي ، يا قلوب الصائمين اخشعي ، يا أقدام المجتهدين اسجدي لربك واركعي ، ياعيون المتهجدين لا تهجعي ، يا ذنوب التائبين لا ترجعي ، يا أرض الهوى ابلعي ماءك وياسماء النفوس أقلعي ، يا بروق الأشواق للعشاق المعي ، يا خواطر العارفين ارتعي ، ياهمم المحبين بغير الله لا تقنعي ،قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعي ، وياهمم المؤمنين اسرعي ، فطوبي لمن أجاب فأصاب ، وويل لمن طرد عن الباب وما دعي ".
قال جل وعلا :{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} قال ابن كثير : " يمدح الله شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك قد ورد حديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء"أ.هـ
وإن من بركات هذا الشهر أن الحسنات فيه تضاعف بغير عدد ولاحساب فإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فإن الصوم في هذا الشهر لا عد له ولا حساب ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ،ولخلوف فم الصائم آطيب عند الله من ريح المسك ) قال ابن رجب رحمه الله :"فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله عزوجل أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد ، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }"أهـ، وقال أيضاً رحمه الله –مبينا شرف الزمان الذي فيه عبادة الصوم - :" فلما كان الصيام ي نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال ، كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام لشرف زمانه ، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده ، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها "أ.هـ.
الوقفة الثانية : لله عتقاء من النار في كل ليلة
ورد في الحديث :(أنه ينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة )، فمن أعظم ما تميز به رمضان من المنح الربانية والفضائل الإلهية أنه شهر يعتق الله فيه من النار في كل ليلة حتى إذا كانت آخر ليلة من رمضان أعتق الله فيها مثل الذين اعتقهم في طوال الشهر ، فما أكرم ربنا وما أعظم فضله علينا ولهذا كان الخاسر المحروم من حرم المغفرة والقبول في هذا الشهر الكريم (رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من هو ياجبريل قال من أدرك رمضان ولم يغفر له ) ، لو لم يكن لهذا الشهر من فضيلة إلا هذه لكفى بها والله فما أعظم هذه المنحة الربانية على هذه الأمة ويا حسرتاه على من فوت على نفسه مثل هذا الأجر فاجتهد أخي وبادر وما هي إلا أياما معدودة قليلة وتفوز بخير عظيم .، وقد جاء في الحديث الذي حسنه بعضهم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما وقد حضر رمضان : " أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل بالرحمة ويحط الخطايا ويستجيب في الدعاء ينظر الله تعالى إلى تنافسكم ويباهي ملائكته فأروا الله تعالى من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عزو جل )أ.هـ
الوقفة الثالثة: رمضان فرصة للتغيير
أيها المسلمون جبل الإنسان على التقصير وعلى النقص ، ومن سعة رحمة الله أن يسر للمؤمن مواسم خير يسد فيها الخلل ويكمل فيه النقص والتقصير ومن هذه المواسم شهر رمضان الذي هو أعظم فرصة لنغير فيها أشياء كثيرة في حياتنا :(/1)
فرمضان فرصة للتائبين الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي فالشياطين قد صفدت وأبواب الجنان قد فتحت ودواعي الخير أقبلت ووجدت على الخير معينا فكل من حولك ما بين صائم وخاشع وباك ، فإلى متى الغفلة .
رمضان فرصة لتربية أنفسنا على معالي الأمور ، وعالي الهمم ، فرصة لننزع الكسل والتقصير عن كواهلنا ، فرصة لصقل نفوسنا من الأخلاق الرديئة والعادات المشينة ، فرصة للعلو بالنفوس إلى مقامات الصالحين ودرجات العابدين ، واللحاق بركب المجاهدين، فإن من الحكم في التقرب إلى الله بترك شهوة الطعام والشراب والجماع في هذا الشهر :كسر النفس ، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة ، ومن الحكم كذلك تخلي القلب للفكر والذكر : فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتعميه ، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر ، وتستدعي الغفلة ، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر ، ومن الحكم كذلك : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيراً من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح ، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من مُنع ذلك على الإطلاق فيوجب له شكر نعمة الله عليه بالغنى ويدعوه إلى رحمة اخية المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك ،ومن الحكم كذلك أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فتسكن بالصيام وساس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم وجاء لقطعه عن شهوته النكاح .
أيها المسلمون : إن رمضان فرصة لتغيير الأخلاق الرديئة التي انطبع عليها بعض الخلق فرصة لأَن يرتقوا بأنفسهم فرمضان فرصة لنزيل الشح والبخل من نفوسنا ونكون كما كان نبينا أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان ، فرصة لنغير من سوء خلقنا وفحش قولنا ( فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم )، ( ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ).
أيها المسلمون : رمضان فرصة لتربية أبناءنا فنفوسهم مقبلة والمجتمع من حولهم يعينهم على الطاعة والبعد عن المعصية فرصة لتربيتهم على الصوم وترك الشهوات فرصة لتعليمهم الصلوات والبعد عن المحرمات ،نسال الله أن يصلح أبناءنا ونساءنا والمسلمين أجمعين.
أيها المسلمون : رمضان فرصة لدعوة الناس وتوجيهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، فالشيطان قد صفد ودواعي الشر في نفوس الناس ضعفت فالوضع مهيء لك يا من تريد الأجر فاحرص على دعوة أهلك وأقاربك وجيرانك وزملاء عملك بالكلمة الطيبة وبالكتاب النافع والشريط ، وغيرها من وسائل الدعوة والإصلاح .
الوقفة الثالثة : رمضان شهر القرآن :
(اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه )، وجاء في الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، قال فيشفعان ) وهوحديث حسن رواه أحمد ، هنيئاً لمن أشغله القرآن ليله ونهاره هنيئاً لمن عاش مع القرآن وتلذذ بالقرآن ونهل من معين القرآن وتأدب بآداب القرآن فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن ، خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ، وهذا شهر القرآن يا أمة القرآن ، وخير ما ينفق من الأموال هو ما ينفق على القرآن ، والموفق من وفقه الله لتلاوة القرآن وتدبره آناء الليل وأطراف النهار .
أيها المسلمون لقد كان من هدي السلف إذا دخل رمضان يتركون تدريس العلم ويقبلون على القرآن فقد قال ابن عبدالحكم :" كان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن "، وقال عبدالرزاق : "كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن " ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدلله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :(/2)
أيها المسلمون : جاء هذا الشهر وبه يفرح المؤمنون لكننا نتذكر حال إخوان لنا في العقيدة والدين إخواننا في أرض الرباط في أرض الإسراء والمعراج وقد اشتد بهم الكرب -وهو إن شاء الله علامة على قرب النصر - أقول اشتد بهم البلاء وتجرأ عليهم أخس خلق الله وهم إخوان القردة والخنازير فهدموا بيوتهم ورملوا نساءهم ويتموا أطفالهم ، وكل هذا على مرأى ومسمع من العالم كله ولا من مجيب ، إيها المسلمون : لتكن قلوبنا حية ونشعر بحال إخواننا فهم في ضائقة وكرب فاجتهدوا في مد يد العون والمساعدة لهم ، واحذروا أن تستجيبوا لدعوة أعداءنا بالكف عن مساعدتهم فوالله نخشى من العقوبة إن تركنا عونهم ومساعدتهم ، ابذلوا ولا تترددوا فقد اجتمع لكم شرف الزمان وشدة الحاجة التي يعانيها اخوانكم فيجتمع لكم عظيم الأجر من الله ، واجتهدوا بارك الله فيكم لهم بالدعاء فرمضان تستجاب فيه الدعوات وتخيروا لهم الأوقات التي هي مظنة تالإجابة كالدعاء في الوتر مع الإمام وفي السجود وعند الفطر وآخر ساعة في يوم الجمعة وبين الآذان والإقامة نسأل الله أن ينصرهم على عدوهم وأن يأمنهم في أوطانهم وأن يسد جوعتهم ، ويسكن روعهم ويرزقهم الصبر والاحتساب وأن يحقن دمائهم وأن يكبت عدوهم إن ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . ...
صيد الفوائد ...(/3)
رمضان والأمة بين عامين
د. علي بن عمر بادحدح
15/9/1425هـ
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
اكتمل القمر وانتصف الشهر ، واقتربت العشر .. وكل بداية تمضي إلى منتهاها ، وتصل إلى غايتها ، والعاقل المتدبر من يفكّر في العواقب ، ومن يستعد للخواتم ، ومن لا ينقطع في أثناء السير ، وكل مشمر له عزم ونية خالصة يوشك - بإذن الله جل وعلا - أن يتحقق له وعد ربه .. قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .
ولا شك - أيها الإخوة الأحبة - أننا ننتظر في مثل هذا المقام أن يكون مختصاً بالحديث عن مزيد الطاعة والعبادة ، والأجر والفضيلة فيما بقي من هذا الشهر العظيم ، وفي عشره الأواخر على وجه الخصوص .. وهو أمر مطلوب ومرغوب ، وجدير أن نتحدث عنه ؛ ولكنني أعلم أن كثيراً مما يذكر في هذا الموضوع يكاد يكون محفوظاً في معرفة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت إذا دخلت العشر أحيا ليله ، وأيقظ أهله ، وشد المئزر .. وأنه عليه الصلاة والسلام كان يعتكف في كل عشرٍ أخيرة من شهر رمضان ، وأنه كان يخلي بينه وبين الخلائق ويتفرغ لصلته وما بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى .
وكلنا يعرف ويستطيع ويجيد أن يتحدث عن ليلة القدر وفضيلتها ، وما ورد من أنها في أوتار الشهر .. وذلك أمر نحتاج أن نتواصل به ، وأن نتذكره لاسيما وأن صور من الواقع - للأسف الشديد - تعارضه وتناقضه وتخالفه ، فعشر الذكر والتذكر والاعتبار نراها عشر اللهو والتسوق والانشغال ، ومع عشر الليل الذي يحيى بالتلاوة والدعاء والركوع والسجود نرى العشر التي تشغل بشراء الأحذية والبحث عن الأكسية ، والاستعداد للأطعمة إلى غير ذلك مما هو معلوم !
ومع كل هذه المقدمة التي أحدثكم بها إنني لن أتحدث عن العشر ، ولا عن فضلها ، ولا عن ليلة القدر وأجرها لما ذكرته من المعرفة ، ولأنكم ستسمعون ذلك خلال الأيام القادمات في كل الكلمات والمواعظ .. غير أن وقفتنا اليوم عن رمضان والأمة بين عامين .. أليس جديراً بنا أن نتفكر في دور رمضان وأثر فريضة الصيام في أمة الإسلام .. ليس في الأفراد لِما يكثرون من تلاوة القرآن ، وما يزيدون من صلاة الليل ، وما يسعون إليه من أمور الخير هنا أو هناك .. لكن في تغير أحوال الأمة كلها .
أليس جديراً بنا - ونحن نمضي وتمر بنا الأيام وتتوالى الأعوام - أن ننظر إلى مسيرتنا ، ونقوّم ما اعوج منها ، ونكمل ما نقص منها ، ونستدرك ما فات منها .. هذه نظرات عامة ، ووقائع حاضرة ، وبين صورٍ من واقعٍ مؤلم تبزغ أنوار وبشريات لمستقبل مشرق بإذن الله جل وعلا ..
رمضان والوحدة
وحدة في العبادات ؛ فالأمة كلها تصوم الشهر في وقت واحد ، وعلى صفة وهيئة واحدة ، ووفق متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم واحدة .. إنها أمة تصوم وتصلي وتزكي وتعتمر وتتلو القرآن ، وتكثر الذكر وتعظم الدعاء ، وتجتهد في الابتهال ، وتتواصل في التضرع .. إنها أمة يقول لها رمضان ما جاء في القرآن ، قال تعالى : { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } .
إنها الأمة التي يذكرها رمضان بأن لها إلهاً واحداً ، لا تخضع إلا له ، ولا تخشى إلا منه ، ولا ترجو إلا إياه ، ولا تعتمد إلا عليه .. ليس في قلبها رهبة من الخلق وإن عظمت قوتهم ، ليس في نفوسها ذل للمخلوقين وإن عظمت أعطياتهم .. إنها أمة العبادة ، أمة واحدة يجمعها التعبد لله سبحانه وتعالى ، ووحدة في المشاعر .. وكلنا نردد هذا القول فنقول : إننا في رمضان نشعر بشيء من ألم الحرمان ، ونتذكر الفقير والمسكين .. ولكننا كذلك في وحدة مشاعرنا تشدنا هذه المشاعر إلى أن نرتبط بكل مسلم على ظهر الأرض من أقصى الصين شرقاً إلى أقصى المغرب غرباً ، ونذكر كل دمعة تذرفها أمٌّ فلسطينية ، وكل دمٍ يراق على أرض العراق ، وكل بيت يهدم فوق رؤوس ساكنيه ، وكل جريمة ترتكب في حق أمتنا هنا أو هناك ، ألم يكن رمضان هو الذي يوحّد مشاعرنا ، ويربط قلوبنا ، ويجدد وحدتنا ، ويقوّي آصرتنا ، ويذّكرنا بتاريخنا ، ويلزمنا باستعادة ترتيب صفوفنا ؛ فإن رمضان يمر علينا وحينئذٍ لا نخرج منه إلا بآيات تتلى ، وأذكار تتردد ، وركعات تصلى ، وربما تكون القلوب ليست فيها حاضره ، والنفوس ليست بها متأثرة .. فهل نرضى لأنفسنا ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس أن يكون حظها من فريضة من الفرائض ، وركن من الأركان هو هذا الزاد الضئيل ، والتأثير الخافق الذي لا يكاد يبين لننظر بين عامٍ مضى وعام أتى ما الذي في أمتنا جرى ؟!
ولنتنبه إلى صور أخرى في رمضان :
رمضان والتكافل(/1)
ألسنا اليوم في مجتمعاتنا المحدودة نرى المال يهدى للفقير ، والمواسات تبذل للحزين ، وصور من التكامل والتكافل تجدد وتحرك المعاني المؤثرة المعبرة فيما وصف ومثّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة الإسلام : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) ، ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
فأين تكافلنا خارج نطاق حيّنا ، وخارج نطاق مسجدنا ومدينتنا وبلدنا ؟ إنه تكافل أمة الإسلام كلها ! فهل نسينا ما كنا نذكره من قبل ونتحدث عنه بكل قوة وجرأة وحرقة .. عن فلسطين ! واليوم تجددت لنا أحداث العراق ولم تكن من قبل ، وغداً وبعد غدٍ .. لكن الأصوات خفتت ، والألسن خرست ، والأقلام أغلقت ، ولا يكاد المرء يسمع شيئاً من ذلك ، وإن سمع فعلى ندره وربما بتخوف كأن الأمور تحتاج منا إلى تأمل أكبر ..
رمضان والانتصار
حقيقة مهمة لا بد أن نقف عندها وقفات كثيرة .. انتصار على الشهوات والملذات ، انتصار على علل النفس والنزغات ، انتصار على الضغائم والخصومات .. تلك هي حقيقة هذا الشهر في أمة الإسلام إذا وعدت وأدركت المقاصد العظيمة والحكم الجليلة لهذه الفريضة .
انتصار لهذا الشهر على سلطان شهوة الجسد ، وعلى الكِبر والغرور في النفس ، وعلى العادات والتقاليد المخالفة في المجتمع ، وعلى السمعة والرياء في الأعمال ، وعلى القوة والأذى من الأعداء .
إن رمضان الذي يحقق انتصار المؤمن في نفسه ، وانتصاره على ضعفه ، وانتصاره على شيطانه يحقق في حقيقة الأمر انتصار الأمة على ضعفها وذلها وخذلانها واستسلامها لأعدائها .. وذلك الذي تجدد في يوم بدر ، ونحن قريبون بذكراه ؛ اليوم الذي سماه الله عز وجل يوم الفرقان .. وفتح مكة الذي كان نهاية لصورة الجاهلية والظلم والطغيان ، وما جرى بعد ذلك من فتوح وانتصارات في رمضان ..
نعم قد يكون اتفاقاً تذكارياً ! لكنه قطعاً تجدد في معاني الانتصار الحقيقية في أوصال الأمة بدءاً من قوة إيمانها ، ومروراً بقوة وحدتها ، وانتهاء بقوتها المادية العملية .
واليوم نتساءل : هل هذه المعاني موجودة في حياة أمتنا ؟ ما هو الواقع بين عام مضى وعام أتى ؟
أستبيحكم عذراً - ونحن في هذه الأيام التي تهش فيها النفوس ، وتبش وتفرح القلوب ، وتطرب لما في هذا الشهر والعشر من الخير - أن نذكر شيئاً من المآسي والأحزان ؛ لأن الواقع يفرض علينا أن لا نكون أسرى لمجرد ما نحن فيه في دواتنا أو مجتمعاتنا فالدائرة أوسع .
وقفة سريعة أمام أرقام لقضيتنا الأولى في أرض فلسطين ، خلال فترات الانتفاضة الجهادية المباركة .. أريد منها في ومضات سريعة أن نشير إلى أن الأمر ما يزال متفاقماً ، وهناك صور تزيده ظلمة وظلاماً وحيرةً وأسفاً وألماً ..
أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيد ؛ منهم نحو سبعمائة من الطلبة ، وواحد وثلاثون جنيناً .. قتلوا على الحواجز التي منعت وصول أمهاتهم إلى المستشفيات ، ومثلهم أكثر من مئة مريض ..
واحد خمسة وخمسون ألف جريح ، وأكثر منهم ألفان وخمسمائة وأربعون امرأة ، وأكثر من ستة آلاف إعاقة ، وأكثر من أربعة آلاف وستمائة إصابة لطلبة ، ونحو من أربعمائة إصابة لأهل الإسعاف من الممرضين ، ثمانية آلاف أسير إلى يومنا هذا يقبعون في سجون الظلم والإرهاب في كيان الصهيونية ، منهم سبعة وتسعون قد أمضوا عشرون عاماً ، ومنهم فئات من صغار السن ما بين السادسة عشر والسابعة ، ومنهم ست فتيات قاصرات يُعتدى عليهن ويؤذين بكل صور الإيذاء .
وأضف إلى ذلك نحو ثمانمائة من الأطفال الشهداء ، وأكثر من تسعين بالمائة من أطفال فلسطين يشعرون في كل لحظة بأنهم معرضون للأذى أو القتل ، ونحو ستة آلاف وسبعمائة بيت مدمر تدميراً كاملاً ونحو ذلك العدد بأقل من المباني التي هدّمت ، ونحو عشرة آلاف شردوا من بيوتهم ، وأكثر من مليون ونصف شجرة دُمّرت ، وأكثر من مائتين وثمانمائة وثمانين بئراً هدّمت ، وأكثر من آلافٍ وآلافٍ من رؤوس الأغنام والأبقار أتلفت وقتلت .. والمدارس التي أغلقت تجاوزت ألفاً ، والمعاهد والجامعات العليا تجاوزت عشراً وستة وأربعون في المائة .. من إخواننا في تلك الأرض الطاهرة لا يأكلون في يومهم إلا وجبة واحدة ، ونحو ثلاثة عشر وأربعة من عشرة في المائة مصابون بسوء التغذية .
والجدار الذي يسمى جدار الفصل العنصري نسمع عنه ولا نعلم أنه قد اقتطع نحو ستة عشر بالمائة من الأراضي ، وأنه قد أثنى وأنهى وجود مائة قرية من قرى إخواننا في فلسطين ، وأنه قد استولى وسبى على أكثر من خمسين في المائة من مصادر المياة في غزة .(/2)
أقول : أيها الإخوة الأحبة أليس هذا جديراً بأن يكون حديثنا أيضاً في رمضان ! أم أننا نتحدث عن عدد الركعات ، وأصوات الأئمة وحسن الدعاء ، وكأن عبادتنا ليست إلا في هذه الجوانب ، وكأن دور هذا الشهر ليس إلا في هذه الميادين ، وكأننا ننسى الحقائق وليس هذا هو المؤلم فحسب ! بل اليوم وخلال هذا العام نجد تغيراً كبيراً ؛ فالعمليات الاستشهادية أصبحت بنوع من شبه الإجماع انتحارية ! ومساعدة الذين هُدّمت بيوتهم ، أو قتل عائلهم هو تمويل للإرهاب ! والتعليم الإسلامي وتعليم أحكام الشريعة ضرب من التطرف والتشدد ! بل وحلقات القرآن وتحفيظه بؤر للإرهاب والعنف ! وسيروا وراء ذلك فإنكم ستجدون أن تغيراً كبيراً قد جرى في عامٍ ، وأصبحنا اليوم تمر علينا الأحداث ونسمعها كما يشرب أحدنا كأس ماء !
ألسنا بالأمس سمعنا واليوم سنسمع كم قتل في العراق ، وكم استشهد في فلسطين ، وكم حصل هنا وكم جرى هناك وكأن الأمر يمضي بل ونحن نكرس عكسه وضده في واقعنا .
وأنتقل بكم إلى صورة أخرى أرصدها خلال عام - ولست هنا دارساً ولا محللاً الواقع الإعلامي - قنوات أكثر ، وفجور أكبر ، وتطبيع أظهر وإلهاء .. ألسنا نرى ذلك ونتحدث به في مجالسنا ، ولكنه يسري في صفوفنا ويتسلل إلى بيوتنا ، ويؤثر في شبابنا وشاباتنا ، ويغير في كلماتنا ومصطلحاتنا ، لم نعد نسمع اليوم العدو الصهيوني وإنما أصبحنا نسمع ونرى ونشاهد من يتحدث من أولئك المغتصبين والمحتلين ، ويؤتى بهم على أنهم محللون أو أنهم كذا أو كذا إلى غير ذلك !
يموت المسلمون ولا نبالي *** ونهرف بالمكارم والفصال
ونحيى العمر أوتاراً وقصفاً *** ونحيى العمر في قيلٍ وقال
وننسى إخوة في الله ذرت به *** الكف الزمان على الرمال
ألسنا نرى القنوات ترقص وتغني ، ومن بعد لنشرة الأخبار الدبابات تقصف وتدمر ؟ ألسنا نرى الفوازير والمسابقات المخزية والمخجلة في بعض القنوات - بل ونحن نسمع ونرى من يطعن في كل هذه المعاني ؛ مروراً بتعليمنا الإسلامي وانتهاءاً بحجاب نسائنا وعفة بناتنا بلسانٍ عربي مبين - في قنواتنا الفضائية الكثيرة الشهيرة ؟
أليس ذلك جدير بأن يلفت نظرنا ؟ وأنتقل إلى واقع اجتماعي في قضية المرأة تبرجاً واختلاطاً مصحوب بتبرير وتشريع تشريع قانوني ، أو تشريع من فتاوى وأقاويل باطلة ! وفي الأسرة تفكك وانحلال ، وفي الشباب تميع واختلال ، وفي العلاقات الاجتماعية تقطع وانشغال ، وفي الوحدة المطلوبة تنصر واستقلال وذلك له حظ حقيقي في واقع الأمر .
ولسنا نقول ذلك تأييساً ولا تهويلاً ؛ ولكن لئلا نغفل عن واقعنا ، ونعيش في لذةٍ من أمورٍ حسنة ممدوحة لكنه لا ينبغي أن يكون الاقتصار عليها
نحن يا شهرنا العظيم غدونا *** أرنبات تفرن من صياد
وغدت خيمة الأخوة في الريح *** بلا أعمد ولا أوتاد
كتبتنا الأيام في هامش السطر *** روتنا من غير ما إسناد
ولعل بعضكم - وأنا قد قلت ذلك لنفسي - لِمَ مثل هذا الحديث ؟ وهل أغلقنا نوافذ الأمل وأطفأنا أنواره ؟ فأقول : لا ! لكن الشق الأول هو أننا لا بد أن نفتح أعيننا ، وأن نرى ما حولنا ، وأن ندرك تعاظم الأخطار التي تهدد أمتنا ، وأن نقول ذلك وأن نذكّر به ..
يا أمتي إن قسوتي اليوم معذرةٌ *** فإن كفي في النيران تلتهب
وإن قلبي قد طاف الرجاء به *** وقد تدفق منه الماء والعشب
فكم يعز بقلبي أن أرى أمماً *** طارت إلى المجد والعربان قد رسبوا
ومع ذلك - أيها الأخوة الأحبة المؤمنون - ليس هذه هي الصورة ، بل ثمة صورة أخرى تبشرنا بخير .. تلك هي التي ننظرها في واقع أمتنا عموماً ، وفي مثل هذه المناسبات والمواسم الإيمانية والعبادية خصوصاً .
نحن بحمد الله اليوم نجد صوراً أخرى .. نجد إيماناً في القلوب يقوى ، وعزةً في النفوس تزأر ، وشموخاً في مواقف إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين صوراً عجيبةً فريدة .. كل الذي ذكرناه يقابله أنهم أبلوا في العدو بلاء حسناً ، وأنهم أقضوا مضجعه ، وأنهم خربوا تجارته ، وأفسدوا سياحته ، وأدخلوا الرعب في قلوب أبنائه ، وخلطوا أوراقه السياسية ، وأوقعوا من القتلى في صفوفه ما لم يقتل بمجموع كل الحروب التي كانت مع العدو الصهيونية في الحروب العربية الرسمية كما يقال .
ونرى فيه وفي نسائه وفي شبابه صور تذل لها أعناقنا إعزازاً وكراماً لها ، وكذلك خجلاً من مواقفنا أمام تلك المواقف الشامخة البطولية العظيمة !
نحن نرى جيلاً من العقيدة والإيمان يبزغ في كل بقاع الأرض ، وكلما اشتدت قبضة الظلم والطغيان على أمتنا ، كلما تفجرت ينابيع اليقين والإيمان في صدور أبنائها ، وكلما عظمت صور المقاومة والجهاد والمغالبة لأعداء الله ، وصور الرجوع والتمسك والاستمساك بدين الله .. ألسنا نرى اليوم المساجد تُملأ أكثر مما كانت من قبل ؟ ألسنا نرى القرآن يتلى أكثر مما كان من قبل ؟ ألسنا نرى مكة - حرسها الله عز وجل - ومسجدها الحرام يغص بالناس في زحام شديد لم يكن مشهوداً من سنوات قريبة ماضية ؟(/3)
كل ذلك من مبشرات الخير التي نراها في أمتنا ، والتي نستشرف فيها أملاً مشرقاً ، ونستشرف فيها تعرضاً لسنة الله عز وجل .
قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم }
ونرى فيها اقتراباً من تحققنا بما أراد الله منا ليتحقق لنا ما وعدنا الله به ، قال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
وذلك ما لا نغفل عنه .. لكننا - وللأسف الشديد - نغفل عن الجانب الأول ، والإعلام يصرفنا عنه ، والسياسة تلبسه علينا ، ونحن ربما ننصرف أو ننجرف وراء هذا التيار أو ذاك .. حقيق بنا وجدير بنا في هذا الشهر أن ننظر إلى أحوال أمتنا ، وأن نصحح مسارها .. وتصحيح المسار يبدأ منا كأفراد ، وذلك ما نقوله الآن ونحن في منتصف الشهر وقرب بداية العشر .
ما هي أوضاعنا التي كنا نشكو منها ، والتي تحدثنا عنها بأساً بعد رحيل رمضان الذي مضى ؟ قولوها الآن وأعيدوها مرة أخرى ، وقلتم وقلنا جميعاً بعد انقضاء شهر رمضان الذي مضى لئن جاءت العشر القادمة إن شاء الله فإنني لن أفعل ولن أفعل ولن أفعل ، وإذا جاءت سأفعل وسأفعل وسأفعل .. ها هي الآن تأتينا من جديد فهل نحن نقول ولا نفعل .. أو نحن نضحك على أنفسنا أو نخادع ربنا !
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
ولعلي أيها الإخوة الكرام هدفت من مثل هذا الحديث إلى أمرين اثنين مهمين : أولهما أن نوسع المفهوم الصحيح للعبادة ؛ فليست مقتصرة على الركعات ولا الزكوات ولا الدعوات ولا التلاوات .. بل هي أوسع من ذلك فهي تشمل سائر جوانب الحياة .. قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وفي ذلك أمرت وأنا أول المسلمين }
والغاية التي خلقنا الله عز وجل لها وهي العبادة لا تنحصر في وقت قصير في المسجد ، ولا في شهرٍ واحدٍ من عامٍ ، ولا في أوقات محدودة .. ثم نمضي غافلين عن أننا عباد لله عز وجل { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
إن هماً تحمله في قلبك إزاء ما يقع لأمتك هو درب من العبادة .. إن تفكيراً تعمله في فكرك للخروج من أزمة أو مأزق في هذه الأمة هو ضرب من أعظم ضروب العبادة .. إن سعياً تسعاه لتسد حاجةً أو تسد ثغرةً أو ترمم ثلمه هو ضرب عظيم من أضرب العبادة .. وذلك ما أردت أن أنبّه إليه أولاً .
وثانياً أن ننتبه إلى أمور تتسلل إلى قلوبنا وعقولنا وكلماتنا وألسنتنا ؛ فتضعف قوة هذه المشاعر التعبدية على هذا النحو الواسع في المفهوم ، وتضعف الانتماء والارتباط في الأمة .. فنعود ونحن نريد حالنا ووضعنا وننسى أخواننا هنا وهناك وتتقطع الأواصر ليس بالمشاركة المباشرة ، بل حتى بالمواصلة المالية ، بل حتى بالمواصلة بالتذكر والدعاء وغير ذلك من صور كثيرة تحتاج منا إلى مثل هذه المراجعة ، وهذا الذي لعلي أردت أن أصل به إليكم وأوصله إلى نفسي أولاً ..
وأما حديثنا عن العشر والفضل والأجر فمبذول ومطلوب ، ولكننا لا نريد فقط أن نريح أنفسنا ، وأن نتحدث بذلك ثم ننصرف وكأنما قد أكملنا واجبنا ، تجاه أمتنا وكأننا قد أدينا ما علينا تجاه ديننا ، وكأننا قد نصرنا الله عز وجل وننتظر أن نتنزل علينا نصر ربنا ذلك ما أحسب أنه جدير باهتمامنا .
نسأل الله عز وجل أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً .(/4)
رمضان وموسم التغيير
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
رمضان موسم التغيير عندما نتأمل في هذه الفريضة بكل ما فيها من أركان وشروط صحتها ومن آداب وخصائص كمالها نرى : كم هي الفرصة عظيمة وكم هي الغنيمة ميسورة ، وكم ينبغي لنا أن يكون لنا من شهرنا وفريضتنا ما يكون له أثر ممتد وتغيير حقيقي ، لا مجرد سحابة صيف عابرة أو تغييرات شكلية ظاهرة ؛ لأن الحق جل وعلا ربط هذا بسنته الماضية فقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: من الآية11].
فرصة التغيير في رمضان عظيمة من وجوه عدة :
أولا: أطول مدة يتوالى فيها التغيير ويستمر على مدى شهر كامل ثلاثين يوماً بلياليها .
ثانياً: تغيير يتناول الإنسان في أعماقه وباطنه وداخله تغيرا في إخلاصه وإيمانه ، مراقبته تغير فيما يؤمله من ثواب الله في أمور يبذلها ، وأعمال يجد فيها تغير فيما يحصل له من طهارة قلب ، وزكاة نفس .. كما أنه كذلك تغير في الظاهر بأعماله وجوارحه .. ألا ترى كيف يغض البصر ، ويكفّ اللسان ، ويمنع الأذى !
ثم هو أيضا تغيير من جهة ثالثة: لا يقتصر على الفرد نفسه أو عليه وحده ! بل هو يعم الأمة كلها فليس المتغير أو المغير منفرداً يشعر بوحشة أو غربة ، بل كل الأمة في مجموعها تعلن تغييرها امتثالا لأمر ربها ، بل وتبدل نظام حياتها كله استجابة لهذه الفريضة والشريعة .
ثم من جهة رابعة: نرى هذا التغيير كيف يكون متسقاً وشاملاً ؛ حتى لأمور الحياة الاعتيادية من طعام وشراب ومنام ، ونقول هنا : إن لم يخرج المسلم من هذه المدرسة التي فيها هذا العمق في التغيير بتغيير حقيقي يبقى دائما أثره في نفسه ، ويحوله من حال إلى حال ؛ فإن ذلك دليل ضعف وآية عجز ، بل ربما تكون سببا من أسباب النظر إلى أدائنا للعبادات ، ومعرفتنا بحقائقها ، وإدراكنا لمقاصدها ، وتحققنا بمضامينها الإيمانية والتربوية .
ولذلك نقف هذه الوقفات مع التغيير الذي يحصل لنا في واقع هذا الشهر الكريم والعبادة العظيمة ؛ لنرى كيف كنا من قبل وهل سنعود من بعد إلى ما كنا عليه من قبل .. لنرى كيف يمكن أن يكون هذا الموسم الرباني الإيماني العبادي الوحدوي الاجتماعي طريقاً عظيماً ، وسبباً موصلاً إلى التعرض لسنة الله بتغيير أحوال الأمة أفراداً ومجتمعاً لتتعرض حينئذ لرحمة الله ، ولتستحق حينئذ تنزل نصر الله ، وليكون لها ارتباط بدين الله ، وتوحّد على شرع الله ، وقدرة على مواجهة أعداء الله عز وجل ؛ فإننا في هذا الزمان نشعر بضعف الفرقة وبذلة البعد عن دين الله سبحانه وتعالى وبالهوان على الناس من أثر هذا البعد عن منهج الله سبحانه وتعالى ..
لننظر إليك - أيها الصائم - لتنظر إلى نفسك أيضا ، وتتأمل في هذه الصور التغييرية :
أولا: الصور التغييرية في نفس وقلب المؤمن .
ألست اليوم أعظم إيمانا وأثبت يقينا ألست اليوم تستشعر معرفة الله سبحانه وتعالى على الوجع الأكمل والأصح والأتم .. ألست تدرك اليوم أنك أعظم خوفا من الله وأشد حياء منه ، وأكثر مراقبة له ، وأشد تحرياً في الإخلاص له .
إن هذا المعنى الذي ينشئه هذا الصيام في النفس هو النموذج الذي ينبغي أن نرقى إليه هو تلك الوصية التي أوصى بها نبينا صلى الله عليه وسلم ابن عباس - وهو غلام صغير مازال في أول مقتبل عمره - ليعلمنا عليه الصلاة والسلام المهمات الكبرى ، والحقائق العظمى التي ينبغي أن نستحضرها في قلوبنا وعقولنا : ( يا بني إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ... تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .. ألسنا اليوم نشعر أننا أقرب إلى حفظ الله عز وجل ، وأننا أكثر تعرفا إليه في رخائنا من أثر هذه العبادة والفريضة !
أليست القلوب أكثر حياة ، والنفوس أعظم شفافية ! أليس الإقبال على الخير عظيما ! أليس الخوف من الشر والمعصية كبيراً ! ألسنا نشعر بدفقات إيمانية وحياة روحية مختلفة ! أليس هذا التغيير نشعر بآثاره سكينة في نفوسنا ، طمأنينة في قلوبنا لذة ، وحلاوة في عباداتنا أنساً وتذوقاً لمناجاة ربنا .. ألسنا نشعر بذلك كله ألا نتوق حينئذ أن نجعل هذا التغيير حقيقياً يبقى في النفس ويغرس في القلب ! أليس ذلك إذا صدقنا فيه مع الله تحققت لنا كل وعود الله سبحانه وتعالى فتتحقق في قلوبنا الخشية بمعرفته.. { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر: من الآية28].(/1)
وتتحقق لنا آثار معرفتنا بالله سبحانه وتعالى .. فمن كان بالله أعرف كان من الله أخوف ، ومن عرف الله صفا له العيش ، وطابت له لحياة ، وهابه كل شيء ، وذهب عنه خوف المخلوقين ، وأنس بالله سبحانه وتعالى .. ألسنا نرى ظلالاً من ذلك ، وآثاراً منه ! ألا نشعر بهذا الحياء الذي نستحييه من الله سبحانه وتعالى في شهرنا ، وصيامنا أن نجرحه ، وأن نخرق صومنا ، وأن نخرق ستر الله عز وجل لنا ، وهذا الصوم الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بأنه جنة ، وبأنه حصانة .. بأنه مناعة نمتنع بها عن مثل هذه المنكرات كما قال عليه الصلاة والسلام : ( استحيوا من الله حق الحياء ، قالوا: والله يا رسول الله إنا لنستحيي من الله ! قال: ليس ذاك ولكن الحياء أن تحفظ البطن والفرج - كما أخبر عليه الصلاة والسلام وكذلك قال في آخره - أن تذكر الموت والبلى ) رواه الترمذي بسند صحيح.
عندما نتأمل هذه المعاني يفيض إلينا أيضاً معنى الإخلاص ، الذي أخبرنا الله عز وجل عنه في الحديث القدسي : ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) فنحن نتعود أن لا ننظر إلى الناس ، وأن لا نلتفت إليهم ، وأن لا نصيخ أسماعنا انتظارا لمدحهم ، وأن لا ننتظر شكرهم أو ثناءهم أو عطاءهم وإنما كل قلوبنا وكل جوارحنا وكل آمالنا وكل طموحاتنا معلقة بأن ننال رحمة الله ، وأن يمنّ الله علينا بقبول أعمالنا ، وأن يمنّ الله سبحانه وتعالى بمغفرة ذنوبنا .. أليس ذلك جديراً بأن نلتفت إلى تحقيق ذلك في سائر أحوالنا ، وفي كل أيام حياتنا .. فلا نكون - حينئذ - كما هي أحوالنا في غير ذلك ننظر يميناً ويساراً ، ونبحث عن ثناء هنا أو عن أجر هناك ، أو نعلق آمالنا بذاك أو بهذه الأحوال والأوضاع ، أو ترجف قلوبنا خوفاً من هذا العدو أو ذاك ، ولا نشعر بهذا التعلق الإيماني !
ولو نظرنا إلى جانب آخر - والجوانب كثيرة - وهو :
جانب الاستقامة على الطاعة
كيف أنت فيها أيها الصائم اليوم ؟ ألست اليوم مبادراً إلى بيوت الله تغذ الخطا إليها ! ألست تجد أثر ذلك وأنت تخف وترى في نفسك ميلاً ومحبة ؛ بل - وشوقا ولهفة - لذلك ! ألست تبادر إلى الصفوف الأولى ! ألست تكثر من النوافل والصلوات ! ألست تكثر من الذكر والتلاوات ! ألست تكثر من التضرع والدعوات ! ألست مستقيماً على أمر الله عز وجل ، حريصا على الإتيان بالأوامر واجتناب النواهي .. { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وأبشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت:30].
ألسنا نستشعر أننا نقرب من هذه الآية ، وكأننا نتأمل أو نرى أن في أحوالنا ما قد يعرضنا لنيل الوعد الذي وعد الله سبحانه وتعالى فيها بعدم الخوف ، وبعدم الحزن ، وباستحقاق الجنة بشارة من الله سبحانه وتعالى .. ألسنا نستحضر ذلك القول الجامع العظيم الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله الثقفي ، يوم جاء يريد وصية واحدة من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يلخص له فيها أهم وكل ما يحتاج إليه في هذه الحياة فقال له : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) .
وذكرنا الأولى في هذه المعاني الإيمانية التي تنتاب نفوسنا وقلوبنا ( واستقم ) فنحن في هذا الشهر أعظم استقامة ، وأشد حرصاً على موافقة الأمر ، ومجانبة النهي .. وهذا كما هو معروف سر الأمن والأمان النفسي ، وسر السلامة البدنية والبركة الربانية التي تحلّ بالعبد إذا جاءته هذه الاستقامة في دنياه ، بل إن هذه الاستقامة هي على طريق الله عز وجل تفضي إلى الاستقامة على الصراط يوم القيامة ..
ويربط ابن القيم ربطاً يعلق قلوبنا بهذا المعنى ، ويهيجنا للانتباه والالتفات إليه .. فيقول : " من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه هدي هناك - أي يوم القيامة - إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه ، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم ، فيكون سيره على ذاك الصراط .. ولينظر العبد للشهوات والشبهات التي تعيقه عن سيره ؛ فإنها الكلاليب التي بجنبي الصراط تتخطفه وتعوقه عن المرور عليه ؛ فإن كثرت هنا - يعني إن كثرت في الدنيا - وقويت فكذا هناك . .{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت: من الآية46]. " .
أليس هذا جديرا بأن نلتفت إلى هذا المعنى العظيم والتقوى التي هي ثمرة الصيام باتقاء عذاب الله فعلا للمأمورات وتركا للمنهيات ذلك هو الذي يجعلنا أولياء لله لأنه سبحانه وتعالى قال في وصف الأولياء: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس:63 ].
ومرة أخرى يأتينا هذين المعنيين معنى الإيمان والحقائق الإيمانية في القلب والنفس ، ومعنى آثارها في استقامة السلوك ، وذلك ما نستشعره ونرى أثره في التغيير ..(/2)
ثم انظر كذلك إلى معنى مهم آخر ذلك الصبر والمصابرة والمرابطة على طاعة الله ، وعن معصية الله عز وجل الصبر الذي نجزع في غير هذه الفريضة ، فلا نكاد نقوى على تحمل شيء مما يتعلق بالطاعات ، أو نبذل شيئا مما تحشرج به النفس ، أو يضيق به الصدر ، أو ربما لا نصبر عن تلك الشهوات والإغراءات .. نحن في هذا الشهر وهو شهر الصبر.. { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر: من الآية10] .
قال أهل التفسير : " الصابرون الصائمون " ، إذا فهذا الصبر الذي نحن فيه هو صبر على طاعة الله ، وصبر عن محارم الله ، وصبر على بلاء الله ، وما تجري به أقدار الله .. إنه ثروة عظيمة ، وتغيير مهم .. إن كثيراً من أسباب ضعفنا هو قلة صبرنا ، وكثرة جزعنا .. نحن نريد مراتب عالية ، ونريد أعطيات ربانية ، ومنحاً إلهية دون أن يكون هناك شيء من جهد ولا عناء ولا مشقة ولا تحمل .. وذلك ما لا يتفق مع السنن العادية ؛ فضلا عن الربانية !
ولذلك نقول هذا الصبر الذي نتذرع به والذي نتدرع به كذلك في هذه الفريضة .. فنحن نرى نفوسنا به قوية ، ونرى أنها قد استقرت عليه وثبت فيها ، ينبغي أن يكون لنا منه أيضاً نصيب ؛ لننال كل ذلك الأجر العظيم الوارد في القرآن والسنة لهذا الصبر وثمراته : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة: 155, 156].
و ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ) ، وهذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في أمر يمر بنا كثيراً : ( واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيراً ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ) رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
حديث عظيم عندما نصبر الآن في هذه الميادين صبراً ، لا نقول : إنه ليس عظيماً لكنه صبر يعلّم ويدرّب لما هو أعظم منه ، وكم هي المآسي والمشكلات والمصائب التي تحيط بأمتنا .. فلا تكاد تلقى يقيناً راسخاً ، ولا صدراً واسعاً ، ولا ثقة بالله عظيمة ، بل كثيراً ما يكون جزع وخوف ، وهلع واضطراب وحيرة وشك .. بل - وعياذاً بالله - ربما يبلغ الارتداد ونحو ذلك .. أليس من حصافة المؤمن أن ينظر إلى هذا الصبر الذي أفاء الله عز وجل عليه في الصوم ، فيجعله غنيمة له ؛ لأن الصبر لله غناء ، والصبر بالله بقاء ، والصبر في الله بلاء ، والصبر مع الله وفاء ، والصبر عن الله جفاء ، والصبر على الطلب عنوان الظفر ، والصبر في المحن عنوان الفرج .. ( وما أعطي أحد عطاء خير من الصبر ) كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم .
ألا نرى صوراً كثيرة تتغير في واقعنا .. فإذا النفوس تسخوا فتمتد الأيدي بالبذل والإنفاق غير عابئة بشيء مما يلامس هذه النفوس من شح وبخل ! بل تنظر إلى أعظم الأجر وأجزل المثوبة التي تتأملها ، ولتنظر إلى رغبتها وأملها في الوقاية من عذاب الله ( فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة ) .. (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل ) أليس هذا تغيراً واضحاً لا نراه في فرد بل نراه في مجموع الأمة ! أليست هذه هي أمة الإنفاق والتواصل َ أليست هي أمة التراحم والتكافل ! ما بالنا تغيب هذه الصور ، ثم تظهر كأنما هي موسم تجاري ، أو موسم إعلامي له مدة ثم تنتهي صلاحيته .. هل نحن لا نتحرك إلا بهذا فحسب ، وإن كانت حكمة الله ورحمته تحرك القلوب والنفوس والمشاعر بما يختص الله به عز وجل الأزمان زماناً دون زمان ، أو الأمكنة مكاناً دون مكان .. لكن ذلك ينبغي أن يبقى له أثره .
ونحن نشعر كذلك بأمر مهم وهو :(/3)
أمر المواساة وأمر التفقد والصلة وإحياء معاني الأخوة .. فهذا تغيير مهم الأمة اليوم في أمس الحاجة إليه وقد تقطعت الأواصر ، وجفت العلاقات ، وتنافرت القلوب ، واختلفت الآراء إلا من رحم الله .. أفلا نرى نحن اليوم كيف تمتد هذه الجسور ، وكيف تبنى هذه الصلات ، وكيف تتدفق تلك المشاعر .. وإذ بنا نشعر أننا أقرب ما نكون إلى أمة الإسلام الواحدة .. إلى أخوة الإسلام الجامعة .. إلى رابطة الإيمان الموثقة .. نحن نشعر بهذا اليوم في شهر رمضان مع فريضة الصيام أغنياء وفقراء ، أقوياء وضعفاء ، حكاما ومحكومين ، رعاة ورعية ، علماء وطلاب علم .. كل ذلك نرى فيه نوعا من التداخل والامتزاج والتقارب والتراحم .. ذلك هو المثل الذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلام بصور شتى في أحاديث مختلفة : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) ، ( المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ) وغير ذلك مما ضربه عليه الصلاة والسلام من أمثلة التقارب والتآلف والتلاحم والتراص ، الذي ينبغي أن يكون أعظم ما نحرص عليه في أوقاتنا هذه مع تربص أعدائنا وكيدهم ، وشدة بطشهم بدلا من أن نفترق:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت آحادا
والعفة عن محارم الله
معلم أيضاً نلمحه ، وهو واضح في شأن التقوى وآثارها ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) ، وقال الماوردي رحمه الله: " إن دين المرء يفضي إلى الستر والعفاف ، ويؤدي إلى القناعة والكفاف " .
هذه بعض المعالم على مستوانا الفردي .. فكيف بنا لا نحرص على أن يكون ذلك تغييراً حقيقياً لا مظهريا ، وأن يكون أدوم ما يكون لا أن يكون مؤقتا بهذا الزمان وهذه الأيام المعدودة .. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ علينا بالإيمان الكامل ، واليقين الراسخ ، ومحبة الطاعات ، والبعد عن المنكرات .. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، وإن هذه العبد وهذا الموسم منبع التقوى الحقيقي .. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة:183].
ونذكر مرة أخرى بقضية التغيير لمسناها في أعماق نفوسنا وقلوبنا ، ورأيناها في أعمال سلوكنا وجوارحنا ، وأكدناها في علاقاتنا وصلاتنا .. ولو مضينا لوجدنا أن جمهور الأمة أيضا - أو صورة الأمة أيضا - تتغير فهي :
تعلن أن ولاءها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
تعلن أنها تغير واقعها استجابة لأمر الله .. أنها تغير صور وصيغ وأساليب حياتها وفق مراد الله عز وجل .. فنحن نرى كيف تغير الأمة كلها أوقات طعامها وشرابها ، ومنامها وأوقات أعمالها ، ودورة اقتصادها .. وكل شيء في حياتها ؛ لأنه قد جاء شهر الصوم ؛ لأنها جاءت هذه الفريضة .. وهذا يدلنا على قضية أساسية في كل هذه الفرائض التعبدية .. إنها إظهار شعائر التعبد لله عز وجل ، عندما تمضي جموع الأمة إلى البقاع المقدسة في حج أو عمرة تلبس لباساً ، وتتحرك حركة ، وتؤدي مناسك ليس فيها إلا ما جاء عن الله ، وما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام ..
عندما يغدوا الناس ويغدون إلى بيوت الله ليؤدوا الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة .. إنه إعلان وإظهار أن هذه أمة قرآن وسنة أنها تتحرك تقدما وتأخراً ، وإقداماً وإحجاماً ، وفعلاً وتركاً في كل صور الحياة وفي كل ميادينها وفق أمر الله عز وجل : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء:92 ].
{ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون: من الآية52].
فإذا وحدة هذه الأمة على عبادة الله وتقواه إنما تتغير أحوالها بهذا كأنما هي تسير عن بعد لا يرى الناس شيئا فجأة إذا بالأمة في اليوم التالي - عندما جاء رمضان - يتغير فيها كل شيء .. أفترضى أن تكون في تغيير شكلي ظاهري ثم لا تغير كل واقعها وسائر أحوالها ؟!
وأهم شيء مواقفها ومواجهتها لظروفها لتجعلها وفق أمر الله عز وجل
إن الصوم ليست حقيقته في مجرد هذا الطعام والشراب الذي نغيره من وقت لوقت أو نؤجله من وقت لوقت ( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر ) .. ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )(/4)
إن الغاية أعمق وإن الذي ينتاب الأمة يدل على هذا المعنى العظيم أنها تغير بحسب أمر الله وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نرى أيضا صورة الوحدة العامة للأمة التي تصوم من شرق إلى غرب في وقت واحد ، وهيأة واحدة ، وسمة واحدة ، وأحكام واحدة ، ومتابعة واحدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام .. هذه معان كثيرة وغيرها أيضا كثير .. لو تأملنا لفقهنا أن هذه الفرائض إنما جاءت ليكون لها في نفوس الأفراد وعلى مستوى الأمة ما يسوقها إلى الله عز وجل ، وما يلزمها نهجه ، وما يعصمها عن هذه الأهواء والشهوات والشبهات المحيطة بها ؛ لتكون حينئذ أقرب إلى الله ، ولتكون مستحقة لتنزل نصر الله عز وجل .
ونحن في هذه الأوقات العصيبة ونحن نرى استكبار الكفر وطغيانه ، ونحن نرى ما يصب على هذه الأمة من مؤامرات سياسية ، ومحاصرات اقتصادية ، واستعدادات عسكرية ، وغزو فكري ، وانحلال خلقي .. نرى كم نحن في حاجة إلى أن نصدق مع الله عز وجل ، وأن نصدق في تغيير واقعنا وتغيير أحوالنا لتتحقق السنة { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: من الآية11] .. { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ لأنفال: من الآية53].
ما أصاب هذا البلاء ، ولا حل هذا العناء ، ولا تعاظمت تلك الظلمات ، ولا تكاثرت تلك المشكلات إلا بهذه السنة يوم كان التغيير بعيداً عن منهج الله ، ويوم كان الإعراض عن هذا المنهج يأخذ أشواطاً وأنماطاً في صور الحكم الذي تحكم به مجتمعات إسلامية كثيرة ، وفي معالم الحياة العامة التي يجاهر فيها بالكفر أو يجاهر فيها بالمعاصي والكبائر ، وفي صور كثيرة تصل إلى الفرد نفسه في قوله ، بل وفي نيته فيما نراه من صور كثيرة تحتاج من في هذا الشهر ، ونحن نتفيأ ظلال الإيمان ، ونحن نستروح نسمات اليقين ، ونحن نتذوق لذة العبادات ، ونحن نقبل على الله عز وجل مستقيمين على أمره حذرين وجلين خائفين من كل ما نجرح به عبادتنا أو صومنا أو نخالف به أمر ربنا .. ونحن نستشعر أعظم استشعار مراقبة الله - جل وعلا - والحياء منه ، والرجاء في ثوابه والخوف من عقابه .. كل هذه المعاني ليست في فرد بل في مجموع الأمة وما يقام في هذه الفريضة وهذا الزمان من كثرة تلاوة وذكر وتضرع وصلاة ، ثم بعد ذلك كله نخرج صفر اليدين ، ونخرج بدون ثمرة ، ونخرج بكسب ينتهي مع آخر يوم أي تاجر هذا الذي يعظم ربحه وفي آخر يوم الموسم يكون هذا الربح قد ذهب بدداً ، وتفرق سداً !
أين هو يقول قد انتهى الموسم إن أكثر بل كل الناس إنما يغتنمون المواسم ؛ ليكون لهم من فيئها ومن عطائها ، ومن ربحها ما يدوم على مدى أيامه .. بل ربما يجعلون الربح كله في هذه المواسم لعله إذا عظم أن يكون مغرياً لهم عن غيرها من الأوقات .. فما بالنا نحن لا نتأمل في هذا دعوة خالصة لكي نتأمل في تغييرنا على مستوانا الفردي لما لا يكون بعد رمضان تغير ولو بنسبة فيتغير حال هذا ، وذاك وتتغير العلائق والروابط وتتغير هذه الأساليب العملية لم لا يكون إنفاق إلا في رمضان ، لم لا يكون تواصل إلا في رمضان ، لم لا تكون المساجد ملأى إلا في رمضان !
ثم انظر إلى آخر ما أنبه عليه : لِمَ يكون هذا التغيير مؤقتاً أو لم يكون ضعيفا ؛ لأن عوارضه ونواقضه كثيرة .. فنحن نرى أن كل ما ذكرناه بعض أحوال مجتمعاتنا يصد عنه ، ويمنع منه ، وينأى بنا عنه .. فنحن نرى كيف يكثر الصفق في الأسواق ، وكيف يكثر السهر بالليل في غير مرضاة الله ، وكيف يعظم نوم النائمين حتى إننا وكل مرة نقول ذلك نبدأ الشهر في الجمعة على وجه الخصوص والخطيب لا يرقى المنبر إلا والمسجد ممتلئ فإذا جاءت الجمعة الثانية - وهذا مصداقها في يومنا - هذا كانت الصفوف أقل ، فإذا جئت إلى آخر جمعة ؛ فإن الإمام يكبر للصلاة ومازال كثير من الناس لم يشهدوا الجمعة ، ولم يأتوا إليها .. أين هذا ؛ لأننا عكسنا وخالفنا في بعض صور حياتنا ما هو من هدي وما هو من سنة وما هو من فريضة وشريعة ربنا.(/5)
روابط الأمة في ظلال الهجرة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
" روابط الأمة في ظلال الهجرة " أمر مهم أن نتأمله ، وموضوع جدير أن نستوعبه ؛ لأن القدوة العظمى في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانت ومازالت وستظل النور الذي يضيء للأمة طريقها ، والبوصلة التي تحدد لها مسارها والمعالم التي تعلي لها منارها { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [ الأحزاب:21 ] .
إن هذا الحدث الذي يمرّ علينا في كل عام ما تزال أنواره وأسراره تكشف لنا الكثير من الخلل والخطر الذي تعيشه أمتنا ، فهل من مدّكر ؟ وهل من معتبر ؟ وهل من متأمل ومتبصر؟ ليس على مستوى الفرد المسلم فحسب ، بل على مستوى الأمة كلها ، وليس على مستوى الأمة في حياة عامتها ، بل في توجهات قادتها .. إنه الحدث العظيم الذي غيّر وجه تاريخ البشرية كلها .. إنه الحدث العظيم الذي أعلن مبادئ الأمة وشيد معالم الدولة.
فلننظر إلى الروابط في حياة أمة الإسلام كيف ينبغي أن تكون ؟ وما الذي يقدّم ؟ وما الذي يؤخر ؟ وما الذي يكون ملء السمع والبصر وملء النفس والقلب ؟ وما الذي يكون لا حظ له من الاعتبار ، ولا نظر له في مقياس أهل الإيمان .. ننظر إلى ذلك في أحداث هذه الهجرة بجملتها فيما مرّ به أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وفيما سطّروه لنا من المعاني العظيمة ، والدروس الجليلة .. إنهم خريجو مدرسة النبوة ، إنهم الذي صنعوا على يد خير الخلق وسيد البشر صلى الله عليه وسلم ، إنهم الذين لامس الإيمان شغاف قلوبهم فخالطها وجرى مع دمائهم في عروقهم.
ومن هنا ؛ فإن كل ما نأمله من تغير الأحوال إنما يرتبط بهذا الاستيعاب لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وحياة أمة الإسلام في ظلال قيادته الرشيدة ونبوته العظيمة عليه الصلاة والسلام.
الارتباط بالديار والأوطان .. مهوى الأفئدة ، ومسقط الرأس .. البلاد التي يعيش فيها المرء ويدرج في ثراها ، يتعلم في ظلالها ، وينشأ في مدارجها ، ويلعب في صباها .. هذه البلاد التي تنشد إليها القلوب ، تلك الأوطان التي ترتبط بها النفوس والأفئدة ما موقعها في مقياس الإسلام ؟ وهل هي المقدمة التي نسمع اليوم من يقول عن " حب الأوطان " ، ومن يقول " جهاد في سبيل التراب " ، ومن يقول في هذه المعاني حتى أصبحت كأنما هي آلهة تعبد ، وكأنما هي أوثان لها يسجد ، وكأنما هي في حياة المسلم أو الأمة كلها أعظم من كل عظيم ينبغي أن يعظم.
انتبه إلى السيرة النبوية في الهجرة في هذه الأحداث اليسيرة حدث لهذا الأمر كان ممن سبق إلى الهجرة وتقدم إليها عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد الضرير الشاعر الشهير ثلة من النفر الأوائل الذين خرجوا مهاجرين إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأمر الذي أمر به الله وأمر به المصطفى عليه الصلاة والسلام خرجوا لا يلوون على شيء مازال حب أرضهم يتجذّر في قلوبهم ، ومازالت ديارهم حبيبة إلى نفوسهم مازالت ذكرياتهم حاضرة في أذهانهم ، لكن أمر الله - عز وجل - والارتباط به ، والاعتزاز به كان أعظم في نفوسهم من كل شيء .
ومن هنا ؛ فإن غلب على حب الأوطان ولم يلغه ، وإنه تقدّم على حب الديار ولم يمحه ، وهكذا كان أولئك النفر الأوائل يرسمون لنا ما رباهم عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم .. خرجوا وتركوا وراءهم ديارهم ، ليس فيها أحد مطلقاً . وجاء صاعدٌ من أعلى مكة عتبة بن ربيعة ، وأبو جهل ، والعباس بن عبد المطلب ، بعد أن تمت الهجرة لأولئك فمروا ووقفوا عند الديار ، وتأمل عتبة بن ربيعة - وهو على كفره وشركه - لكن المعاني الإنسانية تثور في النفوس ، تأمل الديار تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن فتمثل قائلا:
وكل دار وإن طالت سلامتها **** يوما ستدركها النكباء والحوب
فقال أبو جهل : وما تبكي عليه من قُلّ بن قُلّ .
وأبلغ من ذلك ما قصه لنا أبو أحمد بن جحش رضي الله عنه - هذا الصحابي الضرير الشاعر - يصور لنا تلك المشاعر التي تجيش بها النفوس ، يوم خرجوا مهاجرين ، مخلفين الديار والأوطان ، ويذكر الحوار الذي تصوره وجرده بينه وبين زوجته أم أحمد ، وهي تخاطبه مصورا ذلك شعراً ويقول:
لما رأتني أم أحمد غاديا **** بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول: فإما كنت لابد فاعلا **** فيمن بنا البلاد ولتنأ يثرب
" ماذا تريد بهذه البلدة ؟ ولم التوجه إليها؟ "
فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا **** وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
" فأمره مقدم - جل وعلا - ودينه معظم على كل شيء "
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم **** إلى الله يوما وجهه لا يخيُّب
فكم قد تركنا من حميم مناصح **** وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا **** ونحن نرى أن الرغائب نطلب(/1)
" أي قوم لا يفقهون فيقولون: لماذا تقطعون جذوركم؟ ولماذا تبتون حبال وصلكم؟ ولماذا تهجرون دياركم؟ "
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا **** ونحن نرى أن الرغائب نطلب
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى **** أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
نمت إليهم بأرحام إليهم قريبة **** ولا قرب بالأرحام إذ لا نقرب
فإن الذي يقرب هو الإيمان والدين.
ولننظر إلى رابطة أخرى تجذب الناس وتربطهم .. رابطة الأهل والولدان
رابطة القرابة والدم كيف تؤثر في الناس فتجعل حياتهم دائرة حولها ، فهذا يسعى لأجل أبنائه ، وذاك يتعلق بزوجه ، وهذا لا يكاد يفكر في شيء إلا في أهله لأجلهم يضحي بكل غالٍ ورخيص ، ولأجلهم يمكن أن يبيع مبدأه وأن يتنازل عن دينه فكيف كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟
ذكر أهل السير أن من أوائل من هاجر إلى المدينة قبل سنة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه ، وهاهي أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها تروي لنا حادثة هجرتها ؛ لتبين أن الارتباط بالله وبالدين أعظم من الزوج والأهل والأبناء والقرابات والدم والعصابات وكل شئ .. فها هي تخبرنا بذلك تقول: " لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل بعيراً له ، وحملني وحمل معي ابني سلمة ، ثم خرج يقود بعيره - امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أصحابه بالهجرة بعد أن بزغت أنوار الإسلام في قلوب الأنصار - فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه . قالت وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد ، رهط أبي سلمة فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا . قالت فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة .. "
تفرقت الأسرة ، وتشتت الشمل ، وتقطعت الأواصر ، وذلك في الله سبيل عز وجل ، ولم يقعد أبو سلمة - رضي الله عنه - حنينه إلى أهله ، ولا ارتباطه بأبنائه ، ولا تقديره وتكريمه لزوجه وإن كان كل ذلك في قلبه ونفسه لكن في إيمانه بربه واعتصامه بدينه ما هو أعظم من هذا وأوثق ، فمضى مهاجرا دون أن تقعده زوجة ، ودون أن يجذبه أبناء ودون أن يحول بينه وبين المضي لأمر الله عز وجل أهل ولا ولدان ، ولا صحب ولا خلان ، بل هو أمر تعظيم الإيمان.
هكذا في صورة أخرى ختمتها أم سلمة بقولها : " ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني . قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي ، حتى أمسى سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي ، أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها قالت فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت . قالت ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني . قالت فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة . قالت وما معي أحد من خلق الله . قالت فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم علي زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية ؟ قالت فقلت : أريد زوجي بالمدينة . قال أوما معك أحد ؟ قالت فقلت : لا والله إلا الله وبني هذا . قال والله ما لك من مترك فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي ، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط ، أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحط عنه ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني ، وقال اركبي . فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي . فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة . قال فكانت تقول والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة ، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة " ، ذلك الذي مضى بأم سلمة لتلحق بزوجها بعد عام كامل كانت كل يوم تبكي فيه فرقة زوجها وعدم تمكنها من الهجرة.
ورابطة ثالثة عظيمة في نفوس الناس ، عظيم تأثيرها في واقع حياتهم: رابطة الدرهم والدينار
رابطة المال والثروات .. رابطة كسب الدنيا الذي أدارت العقول ، وسبت القلوب ، وخطفت الأبصار .. الرابطة التي أطلق النبي عليه الصلاة والسلام عليها وصف العبودية يوم قال:(/2)
( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ) ، سماه عبداً لمّا كانت الدنيا أكبر همّه ، وأوكد شغله ، لأجلها يكدح ، وفيها يفكر وبها يتعلق ، ومنها ينهل ، فليس في قلبه ولا في نفسه ، ولا في فكره وخاطره شيء سواه .. لكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم هاجروا ركلوا دنياهم بأقدامهم ، وداسوا على كل ذلك الثراء الذي كدحوا من أجله ، ونصبوا في تحصيله ، لكنه يوم كان في كفةٍ والارتباط بالله وبدين الله في كفة ..لم يكن عندهم أدنى تردد أن يضحوا بالدنيا كلها ، وبالمال - وإن عظم ، وبالثروة وإن تضاعفت ، لأن في نفوسهم ما هو أعظم من ذلك.
وقصة صهيب الرومي في هذا واضحة يوم عزم على الهجرة وجاء خارجا فلحقه أهل قريش قائلين له : جئتنا صعلوكا حقيراً ، ثم كثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ! والله لا يكون ذلك ، قال: أرأيتم إن دللتكم على مالي أتتركونني وهجرتي؟ قالوا: نعم، فدلهم على ماله وثروته ..
خرج منها صفر اليدين ، خاوي الوفاض بعد أن كانت حصيلة أعوام طوال وعمل عظيم لكنه ذهب وقلبه مملوء بما هو أعظم من ابتلائه بالدنيا ، مملوء بإيمانه بالله وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ المدينة ولقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قال له النبي عندما رآه ولقيه: ( ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى ) .
بيعة رابحة وصفقة عظيمة وتجارة رائجة ؛ ذلك أنه اشترى آخرته بدنياه ، واشترى دنياه بذهبه ودنانيره ، ذلك أنه آثر آخرته على دنياه ، وقدّم مرضاة الله - سبحانه وتعالى - على نوازع نفسه وميل قلبه، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ربح البيع أبا يحي ).
ومن هنا قال بعض أهل التفسير أيضا: أن فيه وفي أمثاله نزل قول الله سبحانه وتعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ البقرة:207 ] .
وهكذا بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصفقة العظيمة:( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة ) .
من أرادها فليدفع ثمنها، من أعجب بالحسناء لم يغله المهر، لابد أن نفقه ذلك: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [ التوبة: من الآية 111] .
فهل أمة الإسلام اليوم تؤثر ربها ودينها على أرضها وديارها؟ وهل هي تقدّم أمر ربها وأمر مرضاته وطاعته على طاعة الأزواج والأبناء والبنات؟ وهل هي تتعلق بقلوبها وتهفو بنفوسها إلى صلتها بربها أعظم من خفق قلوبها وميل نفوسها إلى الدنيا وبهرجها وزينتها ؟
إن الهجرة تحديد للمسار الصحيح ورسم للارتباط اللازم في حياة الأمة ، إن أمة الإسلام لم تكن يوما عبدة ولا مسخرة ولا متعلقة بتراب من الأرض مهما غلا ثمنه ، ولا بأهل حتى عزّت مكانتهم ، ولا بال مهما كان النصب بتحصيله ؛ لأن ما هو أعظم من ذلك هو الذي ملأ قلوبهم ونفوسهم ، وشغل خواطرهم وأفكارهم ، وأضنى أجسادهم وجوارحهم .. ذلكم هو الارتباط بالله عز وجل.
وكذلك : الارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف نرى ملامحه في أحداث الهجرة ؟ كيف نؤسس الأساس الصحيح لصلتنا بسيدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ؟ كيف تكون رابطتنا به ؟ هل هي مجرد أقوال نترنم بها ؟ هل هي مجرد ادعاءات نجادل عنها ؟ هل هي مجرد صور فارغة لا روح ولا حقيقة فيها ؟
لننظر إلى الدرس العملي العظيم الذي ساقه إلينا أفضل الصحابة - رضوان الله عليهم - أبو بكر الصديق - سيد الصحابة ومقدمهم رفيق المصطفى صلى الله عليه وسلم في الهجرة وثاني اثنين إذ هما في الغار وأحب الناس من الرجال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذلك الذي اختاره الله - جل وعلا - ليحظى بالشرف العظيم في المرافقة في الحدث العظيم ؛ لننظر إلى ما كان من أبي بكر ، ولنرى من سياق فعله في هذه الهجرة ما هو معالم كاملة لما ينبغي أن ترتبط به الأمة في مجموعها والمسلمون في آحادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
أولا: السمع والطاعة
السمع والطاعة تمثلت في موقف أبي بكر عندما أمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة كان أبو بكر يتوق إليها ويرغب فيها وجاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤخره ويمنعه: ( انتظر يا أبا بكر لعل الله يجد لك صاحبا ).
وأبو بكر يسمع ويطيع ، لا يعارض ولا يجادل ولا يحرف ، ولا يؤخر ولا يسوف ، وإنما هو كمال الامتثال ؛ لأن هذا هو الذي أمر به كل مسلم اقتداء واتباع وسمع وطاعة: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [ آل عمران: من الآية 31 ] .
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب: من الآية 36 ] .(/3)
والدرس قد جاء في حق أبي بكر رضي الله عنه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الحجرات:1] .
وليس هو فحسب ؛ وإنما الصحابة رضوان الله عليهم أمرهم أن يهاجروا وأن يسبقوه لم يقولوا: كيف نمضي وأنت هنا في مكة؟ لم يقولوا شيئا يعارضون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون أن أمره وحي يوحى وشرع يقر.
ثم الأمر الثاني: تعلق ومحبة
تعلق قلبي ومحبة نفسية ؛ لإنه لا يمكن تصور اتباع مجرد عن العواطف الإيمانية ، ولا عن المشاعر الإنسانية، هل رأيت أحداً يوافق أحداً ويتابعه وقلبه قد نبض ماء المحبة فيه ، ونفسه قد غاضت منها مياه المودة ؟
هل يتصور أن يكون اتباع مجرد ليس فيه روح ولا شعور؟
انظر إلى ما كان الصديق - رضي الله عنه - في حياته كلها لكننا نريد حدث الهجرة الذي نحن بصدده:
كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي ؟ فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال :يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟ - أي لو كان هناك خطب سيحل بنا في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر أ كنت تحب أن تصاب به دون أن أصاب به أنا ؟ - فقال على الفور قال : نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك . رواه البيهقي في الدلائل.
محبة من القلب تجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم في النفس والقلب من النفس ذاتها: ( حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) .. ( حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ونفسه التي بين جنبيه ) .. (الآن يا عمر ).
هذه هي المحبة الصادقة التي تتجسد خفقاً في القلب ونبضاً ، والذي تتجلى في تعلق وشوق وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليست أيضا متجردة عن الاتباع والسمع والطاعة ؛ فإنها حينئذ إن كانت كذلك محبة كاذبة محبة رخيصة تكتفي بأقوال أو أشعار تكتفي بصور أو مظاهر ، لكنها لا تريد حمل العبء ولا القيام بالمهمة ولا اتباع الطريق الطويل المضني الشاق الذي سار فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها محبة كاذبة فارغة إن لم تجتمع معها تلك المبادرة إلى الاستجابة والموافقة والمتابعة.
وثالثا: البذل والإنفاق
الذي كان من أبي بكر في هذه المسيرة العظيمة في هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لقد هيأ الراحلتين وعلفهما ، وهيأ زاد الرحلة كلها ، وأخذ معه خمسة آلاف أو ستة آلاف كانت هي مجموع ثروته كلها ، لم يبق لأهله من ورائه درهماً ولا ديناراً .. إنه ينفقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ؛ ليمضي الأمر وليتمم المسيرة وليحقق الغاية .
وهكذا ينبغي أن نكون نحن – أيضاً - في هذا الشأن وإن لم يكن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بين أيدينا، أليس قد تجرأ من تجرأ على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فذمّه وعابه ؟ فأين الذين تصدوا لذلك غيرة ؟ وأين الذين أنفقوا في حربه من أموالهم ؟ وأين الذين تصدوا له بكل قواهم ؟ كذلك ينبغي أن نكون.
ثم ننظر أيضا إلى معلم آخر: وهو : معلم التعظيم والخدمة
التي قام بها أبو بكر - رضي الله عنه - في صورة فريدة جميلة رائعة تجسّد لنا كيف كان ذلك الصحب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
يخبر في حادثة الهجرة فيقول: ثبتت لنا صخرة طويلة لها ظل قد نأت عنه الشمس فلجأنا إليه، قال: فسويت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكاناً ثم فرشت عليه غطاء، وقلت: يا رسول الله اجلس فنم أنفض لك ما حولك- أي سأستجلي الخبر وأنظر ما حولك وأنت عليك بالراحة والنوم - قال: فذهبت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل يريد من الظل ما أردنا منه، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قل: لفلان، فقلت: هل في غنمك لبن؟ قال: نعم، فاحتلبت منه، قال: ثم صببت عليه الماء البارد حتى أبرده لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فإذا هو قد نام فكرهت أن أوقظه فوقفت على رأسه إلى أن قام فسقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الرواية الأخرى: لما جاء يحلب حلب أبو بكر بنفسه، قال: فنفضت عن الضرع الغبار وأزلت عنه الشعر والقذى تطييبا للبن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحن ينبغي أن نخدم سنته وأن نخدم سيره وأن نفعل كل ما نستطيع في ذلك.
ونرى أيضا هذه المعالم وهي توالى ومن أعظمها : التضحية والفداء
التضحية والفداء الذي كان من أبي بكر رضي الله عنه في قوله للرسول :" إن قتلت أنا قتلت وحدي وإن قتلت يا رسول الله هلكت الأمة "، هكذا كانت نظرتهم وهكذا كانت مشاعرهم فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وبماله وبراحته وبكل شيء كان منه ؛ ليرسم لنا أبو بكر هذا الارتباط الصادق الواعي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:(/4)
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .
ومن دروس الهجرة أيضا في معاني الارتباط:
الارتباط بالمسلمين
ارتباط المسلم بإخوانه المسلمين ، ارتباط أهل كل بلد مسلم بإخوانهم - وإن نأت بهم الديار ، وإن اختلفت أو تباعدت منهم الأقطار ..
في هذه الهجرة كانت الصورة الفريدة الخالدة التي بينت أمر التفضيل والتقديم، هل هو للأرحام وللأنساب وللدم وللعرق؟ أم هو للدين ولله وللرسول ولأمة الإسلام ووحدتها؟
لقد رسم الصحابة في هجرتهم هذا المعنى ليس بمجرد الأقوال بل بالأفعال ؛ لأنهم آثروا أن يرتبطوا ارتباط الإيمان وأن لا يكون ارتباط الدم إذا كان عائقا أو معارضا عقبة في طرق هذا المسير الذي اختاروه وارتأوه.
وأمر الأخوة والمحبة وهو الأمر العظيم الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان فقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
والذي جعله الله - جل وعلا - قبل ذلك سمة عظيمة وجزءاً أصيلا ، ووجهاً آخر للإيمان في الآية التي فيها حصر وقصر: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات: من الآية 10] .
وتجلّت الأخوة في أجلى وأعظم صورها ، وبلغت أعلى مراتبها في المرتبة الثالثة وهي :
مرتبة الامتزاج والإيثار
امتزاج حتى يصبح المسلم كأخيه المسلم يصبح المسلم بمنزلة ومكانة ممتزجة نفسه بنفسي مختلطة مشاعره بمشاعري متأثرة اهتماماته باهتماماتي وبعد ذلك يكون الأمر الأعظم في أن أوثره على نفسي وأقدمه على مصلحتي: { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر:9 ] .
صورة للتربية الإيمانية ، والتطهير القلبي ، والتهذيب النفسي الذي جسدته الهجرة في علاقة الصحابة والمسلمين بعضهم ببعض: { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم} .
وليست بينهم أنساب ولا أحساب ، وليست بينهم مصالح ولا منافع ، وليست بينهم سابق معرفة ولا صلة يحبونهم من أعماق قلوبهم: { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } ، أين مثل المهاجرون يوم قدموا؟ يوم قدموا إلى المدينة وتركوا ديارهم، أين ديارهم في المدينة؟ لقد كانت دور الأنصار دورا لهم ولقد كانت أراضي الأنصار أراضي لهم ، ولقد كانت زروعهم وثمارهم وأموالهم هي أموال إخوانهم، فهل هذا يتجلى في حياة الأمة اليوم؟ أم أننا نرى صورة " أنا والطوفان من بعدي " ؟ أم أن ما نراه " الأنانية والذاتية " إما على مستوى الفرد ، أو على مستوى المجموعة والدولة والقطر ، فهؤلاء لهم كذا وهؤلاء لهم كذا ، وتفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً حتى كأن كل فرد منها أمة وحده .
أين هذه الصورة العظيمة التي أخرج البخاري في وصفها الحديث العظيم في قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وهو يقول- أي سعد بن الربيع الأنصاري - لعبد الرحمن بن عوف المهاجري : إني أكثر الأنصار مالا فانظر أي مالي أحب إليك أقسمه لك؟ وإن لي زوجتين فانظر أيهما تحب أطلقها فتعتد ثم تزوجها ؟! فيقول عبد الرحمن رضي الله عنه: أمسك عليك زوجك ومالك ودلني على السوق، وأخذ منه مالا ضارب به ثم إذا بعبد الرحمن بن عوف أثرى أثرياء صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أين القلوب المحبة والنفوس المتآخية والصفوف المتراصة المتلاحمة؟
درس الهجرة تعليم للأمة في روابطها كيف ينبغي أن تكون ارتباطها بالله والدين .. ارتباطها بالرسول العظيم .. ارتباط المسلمون بإخوانهم المسلمين ..
الارتباطات التي تحدد مسار الحياة ينبغي أن نراجعها في ظل واقع كثرت فيه كثير من المشكلات ، وأصبح أمر الدين عند كثير من الناس هيّناً ، وأصبح أمر الله - عز وجل - في واقع حياة كثير من الناس مؤخراً ، وأصبحت سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندهم كأنما لا قيمة لها ، وأصبحت علائقهم بإخوانهم فيها ما فيها وليس ذلك تأييس .
وقد نرى ونحن نرى بحمد الله عز وجل كثيرا من بشائر الخير وكلما زادت المحن زادنا الله عز وجل من المنح ؛ حتى تتجدد هذه المعاني ولعلنا ونحن في حديثنا عن الهجرة نجددها في نفوسنا ونحييها في قلوبنا ونظهرها في واقعنا ونشرها في دعوتنا ونتواصى بها فيما بيننا.(/5)
روحانية صائم إبراهيم الدويش ...
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،، أما بعد ؛
معاشر المسلمين:
اقبل علينا رمضان سيد الشهور فمرحباً به وأهلاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال : "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان"، كما في حديث أنس قال الهيثمي عنه: رواه الطبراني في الأوسط وفيه دائرة أبى الرقاد وفيه كلام وقد وثق.. انتهى.
بعد أيام نستقبل شهرنا العظيم، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر الصيام والذكر، شهر التوبة والغفران، شهر العزة والكرامة.. اللهم بلغنا رمضان.. الهم بلغنا رمضان، فكم من آمل أن يصوم هذا الشهر ففاجأه أمله فسار قلبه إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوم لا يستكمله ومؤمل غداً لا يدركه..
كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم *** حيا فما أقرب القاصي من الداني
أيها الأحد عشر شهراً!! ظلت تجرى بسرعة عجيبة في دهشة وذهول من العاقلين، وغفلة ومجون من اللاهين، "قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسأل العادين" (المؤمنين 112-113) هكذا تطوى الليالي والأيام؛ وتنقض الشهور والأعوام؛ والعاقل اللبيب من يفكر ويعتبر بتلك الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها، نعم هي ماض تركه خلفه لن يعود؛ لن يعود لك مرة أخرى، لكنه يسجل عليك فالله تعالى يقول: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون"
كل الناس يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني، ولكن أين الجادون؟ أين الجادون فرمضان آن بعد أيام فكيف حال الناس بل كيف حال الأمة!! هل من وقفة صادقة للمحاسبة؟ وهل من وقوف جاد للتأمل؟ وما هي مراسم الاستقبال؟؟
معاشر المسلمين:
إن رمضان آت بعد أيام، وفى الآمة تُعساء يستقبلونه على أنه شهر؛ جوع نهار وشبع ليل، نوم في الفراش إلى ما بعد العصر؛ وسمر في الليل إلى الفجر، تراهم ذئاباً في الليل جيفاً في النهار، جعلوا من رمضان موسم طرب وسهر ودعايات وقنوات، انهم يقتلون رمضان ويفسدون حلاوته وطعمه، حُرموا وحَرموا غيرهم من جمال رمضان وروعة الحياة فيه، عبادة للبدن والجسد بنزواته ولذاته، وأسر للروح والعقل؛ مساكين هؤلاء..
رمضان ؛ رُبَّ فمٍ تمنَّع عن شراب أو طعام
ظن الصيامَ عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحُمام
يا ليته إذ صام، صام عن النمائم والحرام
وانساك إذ ينساك عن كذب وجود وإحرام
وعن القيام لو أنه فيما يحاوله استقام
رمضان نجوى مخلص للمسلمين وللسلام
تسمو بها الصلوات والدعوات تضرم إضرام
حال السلف
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم (بأبي هو و أمي)، فقد كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" صححه الألباني كما في صحيح النسائي، وقال معلى بن الفضل عن السلف: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم"، وقال يحي بن أبى كثير: "كان من دعائهم؛ اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان ، وتسلمه منى متقبلاً"، وباع قوم من السلف جارية؛ فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم؛ فقالوا: "نتهيأ لصيام رمضان"، فقالت: "وأنتم لا تصومون إلا رمضان!! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان؛ ردوني إليهم".
هكذا كان استقبال السلف لرمضان، فرمضان له طعم خاص ولذة عجيبة في نفوسهم رضوان الله تعالى عليهم، فهو يبعث في نفوسهم قوة الإيمان والشجاعة والعزة والكرامة، ولهذا كانت أكثر غزوات ومعارك المسلمين في رمضان لماذا؟ نعم لماذا؟
اسمع الإجابة، إنها حياة الروح حتى وإن كانت البطون خاوية والشفاه يابسة، فالحياة حياة الروح؛ حياة القلب؛ حياة الانتصار على النفس وعلى الشهوات؛ ومن انتصر على نفسه انتصر على الأعداء.
أنها حياة الصلة والثقة بالله جل وعلا، وهنا يكمن جمال رمضان وروعة هذا الشهر بتلك الروحانية العجيبة التي توقظ المشاعر وتؤثر في النفوس، فرمضان له في نفوس الصالحين الصادقين بهجة؛ وفى قلوب المتعبدين المخلصين فرحة؛ فهو شهر الطاعات ولنا فيه جميل الذكريات، انه زاد الروح تتغلب الروح فيه على البدن والجسد.
الروحانية
الحديث عن تلك الروحانية وفيه حقيقة الروح وزادها وعلاقتها بالصيام..
الروح والنفس واحد غير أن الروح مذكر والنفس مؤنثة عند العرب، ولما سئل اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح، نزل قوله تعالى: "ويسئلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربى"(/1)
وروى الأزهري بسنده عن ابن عباس في قوله: "ويسئلونك عن الروح" قال؛ إن الروح قد نزل في القرآن بمنازل ، ولكن قولوا كما قال الله جلا وعلا: "قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" (الإسراء 85)
قال ابن الأثير: "وقد تكرر ذكر الروح في الحديث كما تقرر في القرآن، ووردت فيه على معان، والغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد، وتكون به الحياة، وقد أطلق على القرآن والوحي والرحمة وعلى جبريل.." إلى آخر كلامة رحمة الله.
والروح سماوية علوية، والجسد أرضى سفلي، وعند موت الإنسان كل يتجه إلى أصله فالروح إلى السماء، والجسد إلى الأرض، ومن الناس من همته في الثرى ومنهم من همته في الثريا، فمنهم من يسعى لحياة الروح ومنهم من يسعى لحياة الجسد، وحياة الروح باتصالها بالسماء بالخوف والخشية والمراقبة والإخلاص لله جل وعلا، والروح والجسد لا غنى لأحدهما عن الآخر، إلا إذا أصبح الجسد لا هم له إلا شهوته وهواه، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم"، ومن الناس من نسى روحه وغفل عنها وعن حقوقها، فعبدها لجسده وشهواته، فأصبحت حياته هموماً وغموما ً و أكدارا وأحزانا ليس له هم إلا أن يرضى هواه.
مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، فالإنسان جسد وروح وشهوة وعقل، والجسد تتبع لها شهوة، والروح تتبع لها العقل، والصراع دائم بين الفريقين؛ الجسد والشهوة معاً والروح والعقل معاً، ومتى شبع البطن تحركت الشهوة، ومن خلا البطن هدأ السد وانطلقت الروح تنمو وتنشط، ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق.
ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وهذه هي الروحانية العجيبة التي نحياها في رمضان، روحانية صائم؛ بذرها بالجوع وسقاها بالدموع وقواها بالركوع وحسنها الخشوع والخضوع، روحانية صائم؛ فيها السعادة واللذة والأفراح والأشواق ما لا يبثه لسان ولا يصفه بيان، روحانية صائم؛ فيها الأرواح تهتز وترتاح وتطير بغير جناح، فهي في أفراح وأفراح.
روحانية الصائم ؛ فيها من الحنين لجنات النعيم ما تورمت له أقدام المتهجدين، وبذل له الثمين، وسُمع له الأنين.
روحانية صائم؛ لا يعرفها العاشقون، ولا المتصوفة الواجدون، بل هي والله حكر على المحبين الصادقين والمخلصين العارفين.
روحانية صائم؛ تخلصت من أسر الهوى والشهوة وحيل النفس والشيطان.
روحانية صائم؛ عاش في جنة الدنيا، وفى الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، ولكن كم بين خلى وسجيا وواجد وفاقد وكاتم ومبد.
معاشر المسلمين:
هذه أفراح الروح عند انتصارها؛ وفك أسرها من شهوات الجسد، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: "فالروح المطلقة من أسر الهوى، من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه" انتهى كلامه رحمه الله.
أطلق الأرواح من أصفادها *** في بهيج من رياض الأتقياء
غاديات رائحات كالسنا *** سابحات بين آفاق الضياء
إنها يا شهر ظمأى فاسقها *** مشتهاها من ينابيع الصفاء
شهوة الأجساد قد ألقت بها *** في قفار ليس فيها من رواء
ما غذاء الجسم في ألوانه *** فيه للأرواح شيء من حباء
إنما الأرواح تحيا بالذي *** في صيام الجسم تزجيه السماء
يا ربيع الروح اقبل وأعطها *** صولجان الحكم في دنيا الشقاء
كي يعيش الناس من آلائها *** في رفاء وازدهار وارتقاء
هل درى أهل الحجا أن الذي *** شيطن الإنسان في الأرض اشتهاء
زورق الشيطان في وجدانه *** طعمه فيها من الإفراط داء
ما ارتقت إلا بزهر أنفس *** في طعامي عنه عاشت في غناء
واطمأنت في حياة الروح لا *** تبتغي إلا لقيمات وماء
إنما سلطانها من دونه *** كل سلطان به الإنسان باء
حسبه أن اخضع النفس التي *** تسترق الناس حتى الأقوياء
أي سلطان يكف النفس عن *** موبقات غير قيد كالوجاء
إنه الصوم الذي أوصى به *** رحمة بالناس رب الحكماء
فيه ترويض لطبع جامح *** فيه روض فيه للمرض شفاء
فيه للإحساس إرهاف فلا *** يأخذ الدنيا بعين الأغبياء
وصف الروحانية
أيها الأحبة:
هذه الروحانية لا نعرف كنهها، ولا نستطيع وصفها حتى من ذاق طعمها وعرف حلاوتها من أولئك الأفذاذ الذين تسعى بهم أعمالهم يوماً.
تسعى بهم أعمالهم شوقاً إلى *** الجنات شوق الخيل بالركبان
صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً *** يا عزة التوفيق للإنسان
رفعت لهم في السير أعلام السعـ *** ـادة والهدى يا ذلة الحيران(/2)
أقول حتى هؤلاء الذين ذاقوا طعمها وعرفوا حلاوتها ما استطاعوا وصفها ولا التعبير عن وجدها إلا بألفاظ عامة، لم تفصح عن حقيقة الشعور، واسمع لبعضهم يقول: "إنه ليمر بالقلب لحظات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم"، أنه شعور عام لا يستطيع وصفه بأكثر من هذا، فإن لم ترها العين فقد أبصرها القلب، واسمع للآخر يقول: "أنا جنتي وبستاني في صدري فماذا يفعل أعدائي بي، سجني خلوة، ونفى سياحة، وقتلى في سبيل الله شهادة" وهذا ثالث لم يجد ما يعبر به عن السعادة واللذة التي يحبها إلا بقوله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" إنها حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله، أنها أفراح الروح لا تنقل بالكلمات، إنما تسرى في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها. وكأني بك أيها الصائم تقول : "أيها المتحدث ترفّق.. فنفوسنا تشقّق.. وقلوبنا تُحرّق.. ودموعنا تَدفّق.."
فكيف السبيل لهذا النعيم؟ كيف نصوم وكيف نقوم لنجد ما وجد أولئك الرجال؟
كيف السبيل ؟
فكيف السبيل لهذا النعيم؟ كيف نصوم وكيف نقوم لنجد ما وجد أولئك الرجال؟
فأقول؛ أما الكيفية؛ فصم وقم كما كان يصوم ويقوم قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" (آل عمران 31)
ولكن الأهم: لماذا نصوم؟ نعم لماذا نصوم؟
سؤال مهم يجب أن يسأله المسلم نفسه خاصة في شهر رمضان، وحتى لا يتحول هذا الشهر من عبادة لها أهداف ومقاصد عظيمة إلي عادة ثقيلة، كان لابد من الإجابة عن هذا السؤال، فكثير من الناس يصومون، ولكن قليل أولئك الذين يعرفون لماذا يصومون.. هذا هو الفرق بين العادة والعبادة ؛ لماذا نصوم ؟ يحدد لك الهدف والغاية التي من أجلها فرض صوم رمضان. ووضوح الهدف في آي عمل تقوم به يسهل عليك ذلك العمل، ويدفعك الاجتهاد والمجاهدة للوصول إليه (أي للهدف)..
وفي رمضان؛ أنت تمسك عن الطعام والشراب والجماع أكثر من نصف يوم لماذا؟ تجوع وتعطش لماذا؟ تسهر وتتعب لماذا؟ أصناف الطعام بين يديك والماء البارد بين عينيك فلا تمد يدك إليه؛ لماذا؟ ماذا تريد من كل هذا؟ ما هو الهدف؟ إلى أي شئ تريد أن تصل؟ ربما حدثتك نفسك فقالت: لماذا الله أمرنا بالصيام؟ ولماذا فرض علينا شهر رمضان؟
فأقول؛ حاشا الله عز وجل أن يكون المراد تجويعنا وتعطيشنا وإتعابنا وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الأم بولدها، بل إن الله قال في آخر آيات الصيام "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة 185)
وربما تقول أيها الحبيب؛ إننا نصوم رمضان لأن الله أمرنا بصيامه، فتجب الطاعة والاستجابة لله بما أمر.
فأقول؛ نعم إن الاستجابة لله ورسوله أمر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولو لم تتبين لنا الثمرة والحكمة من هذا الأمر، فنحن أسلمنا واستسلمنا لله جل وعلا، فيجب علينا طاعة الله، فإن الخير كل الخير فيما أمر الله ورسوله به، لتكن هناك ثمرة وغاية عظيمة بينها الله عز وجل من شهر الصيام بقوله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة 183)
وقد يستبد الجوع بي ويهدني *** ظمأ ويخفت في حياتي كفاح
لكن تقوى الله تحفز همتي *** ويشد من أزرى لديك صلاح
وأراك يا رمضان رحلة مؤمن *** ألف الطريق وأُنسه بطاح
وأراك حين تجيء توقظ ما غنى *** عاماً بقلب اثخنته جراح
فإذا بآلاء اليقين تظلني *** وإذا المحبة غدوة ورواح
وإذا أنا روح تحلق في المدى *** بسنن يلوح وللصفاء يتاح
الهدف من الصوم
إذا فالغاية الأولى والهدف الأسمى من صيام رمضان.
*** هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله.
*** إعداد القلوب لخشية الله.
فالصوم يجعل القلوب لينة رقيقة، يجعلها ذات شفافية وحساسية، يجعلها وجلة حية.. يوقظ القلوب، فإذا فسد الناس في زمن من الأزمان فإن صلاحه لا يكون بالتشدد والتنطع، فليبدأ الصلاح بإعداد القلوب وبث حرارة الإيمان فيها، وخوف الله ومراقبته، فالإسلام لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى ومراقبة الله والخوف منه.
ثمار الصيام
ومن اعظم ثمار الصيام، تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه.
ويقول القسطلاني -رحمه الله- معدداً ثمرات الصوم؛ يقول: "ومنها رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان" انتهى كلامه رحمة الله.
إذاً ما علاقة الشرب والأكل بالتقوى؟ فالأكل والشرب للبطن والتقوى مكانها القلب؛ فما دخل ذا بذا؟(/3)
اسمع رعاك الله الإجابة؛ أليس كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته؟ فالبطنة تذهب الفطنة كما يقال، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه" كما في الترمذي وحسنه، وقال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب"، وقال الحارث بن كلدة؛ وهو الطبيب العربي المشهور: "الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء"، وقال سفيان الثوري: "إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل".. ولذلك فان تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء ينور القلب ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فالصيام فيه كسب للنفس وتحلية القلب للذكر والفكر.
والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب.
واسمع لأهل التجارب والخبرات ممن عاشوا في عالم الروحانيات؛ فقد روى عن ذي النون المصري -رحمه الله- وهو العبد الصالح أنه قال: "تجوّع بالنهار وقم بالأسحار، ترى عجبا من الملك الجبار"، وقال يحي بن معاذ: "من شبع من الطعام عجز عن القيام"، فهل عرفت أيها الأخ الحبيب بعد هذا كله علاقة الطعام والشراب بالتقوى؟!
معاشر المسلمين:
إن الإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه" كما في البخاري، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث" رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم،، فهل الهدف من صيام رمضان واضح لك الآن ؟؟
هذه هي حقيقة الصيام فلا تحرم نفسك منها أيها الأخ؛ أما إن كان الأمر ترك الطعام والشراب فما أهون الصيام، ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من الكذب والمحارم؛ وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته، وإلا فتنبه وأحذر فربما دخلت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"، نعوذ بالله من حال هؤلاء.. والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري
إذا؛ فليس رمضان إمساك عن الطعام والشراب فقط؛ وسجوداً وركوعا، والقلب هو القلب قاس عاص غافل لاه، الغناء يطرب الآذان، وللعينين أُطلق العنان، واللسان غش وكذب وغيبته نميمة وسب ولعان.
وصدق من قال:
إذا لم يكن في السمع منى تصامم *** وفى العين غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذا من صومي الجوع والظمأ *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمت ُ
فأف ثم أف لنفوس لم يهذبها الجوع ولم يربها السجود والركوع، فالصيام تدريب للنفوس وتعويد لها على الصبر وترك الشهوات.
يدخل رمضان ويخرج وبعض النفوس لم تتغير، يجوع ويعطش وقلبه هو قلبه، ومعاصيه هي معاصيه، وربما يركع ويسجد، ويسهر ويتعب وحاله هي حاله، ولسانه هو لسانه.. نعوذ بالله من حال هؤلاء.
فلو قيل لأهل القبور تمنوا، لتمنوا يوماً من رمضان، وهؤلاء؛ كلما خرجوا من ذنب دخلوا في آخر، بل ربما لا تحلو لهم الشهوات والفتن في المعاصي والسيئات إلا في شهر رمضان والله المستعان.
يا هؤلاء.. انتم في رمضان شهر التوبة والغفران.
يا هؤلاء فيه تغلق أبواب النيران وتفتح الجنات، وتصفد الجان.. فدونك نفسك أيها الإنسان.
يا هؤلاء.. أما تنفعكم العبر؟ أما عصيتم وستر؟ اعرفوا قدر من قدر.. فقد آن الرحيل وأنتم على خطر، لكن عند الممات يأتيكم الخبر؛ نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.
قال ابن رجب -رحمه الله- : "كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً، يا قوم أين آثار الصيام!! أين أنوار القيام!! إن كنت تنوح يا حمام الباني للبين أين شواهد الأحزان!! أجفانك للدموع أم أجفاني، لا تقبل دعوى بلا برهان" انتهى كلامه رحمه الله .
أيها المسلم:
ليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفوس، بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها، فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان ونشعر براحة القلب وسعادة النفس ولذة الحياة وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه، فتقوى الله اعظم كنز يملكه العبد في الدنيا، وليس أشقى والله على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس بالله بتقوى الله.
وقد يقول قائل؛ كيف نصل للهدف؟ أو كيف تحصل ثمرة الصيام (تقوى الله)؟
فأقول؛ علاقة الصيام بتقوى الله تظهر من وجوه كثيرة فأرعني سمعك وانتبه لهذه الأسئلة..(/4)
ألا يمكن وأنت صائم في نهار رمضان أن تختفي عن أعين الناس فتأكل وتشرب وتفعل ما تشاء لا يعلم بك أحد من الناس ولا تطلع عليك عين من عيون الخلق؟؟ اسأل نفسك ما الذي يمنعك؟ ما الذي يردك؟ لأنك تعلم أن الله يراك ومطلع عليك ويعلم ما تخفي وما تعلن..
أليس في هذا تربية للقلب؟ وارتباط بخالقه وخوفه وخشيته ومنه؟ أليس من صام بمثل هذه المعاني وبمثل هذه المشاعر إزداد صلة بالله وخشية وخوفاً من الله وازداد تذوقاً بصيام رمضان وراحة للنفس والبال؟ وهذا اعظم زاد للروح، فالصوم أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله، فهو سر بينك وبين ربك، سر بين العبد وربه، ولولا استشعاره لرقابة الله وانه يراه لما صبر عن هذه الشهوات.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا إن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهم بذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى *** ويأذن في توباتنا فنتوب
سؤال ثان ؛ عند الوضوء للصلاة، وفى المضمضة والاستنشاق، لماذا تحرص أيها الأخ الحبيب أن لا يفوت إلى حلقك قطرة ماء؟ لماذا كل هذا الحرص مع انه لا يطلع عليك أحد من الناس ولا يعلم بك أحد لو أدخلت جرعة ماء فكيف بقطرة؟ سبحان الله من علمك هذا الأدب؟ من علمك هذا الحرص العجيب؟ إنها رقابة الله، فأنت على يقين انه يرى قطرة الماء هذه لو سالت إلى حلقك، فيا سبحان الله. إننا نرى المرأة في رمضان، نراكِ أيتها الأخت الكريمة من بعد صلاة الظهر إلى غروب الشمس، وأنت في مطبخك تقفين أمام أصناف المأكولات والمشروبات، تراها بعينيها، وتشم روائحها المغرية بأنفسها، وربما ذاقت ذلك بطرف لسانها فأخرجته بحركة سريعة عجيبة سبحان الله تأملوا هذا الموقف.. تأمليه أيتها الأخت هي جائعة وعطشى ولوحدها لا يراها أحد من الناس، فلماذا لا تمد يدها فتأكل وتشرب؟ من الذي يمنعها؟ من يردها؟ إنها حلاوة الروح، حلاوة الروح بصلتها بالله، بخوفها من الله فهي تعلم أن الله يراها ومطلع عليها ويعلم حالها، فأي تهذيب وأي تأديب هذا الذي أحدثه الصيام في النفوس؟ فما رأيكن أيتها الصائمات هل عرفتن لماذا نصوم!!
إذا فخلاصة الأمر نقول؛ أن تجويع البطن والفرج لبضع ساعات فيه حياة الروح.. فيه حياة للقلب.
وأنت أيتها الأخت إنسانة بروحك وقلبك لا ببطنك وفرجك، فنحن نأكل لنعيش ولسنا نعيش لنأكل، ومن ذاق حلاوة الروح وراحة القلب، بان له الفرق، فانكسار النفس وخلو البطن وتضييق مجارى الدم فوائد للصيام، مفادها حياة الروح المتمثلة برقة القلب ولينة وخوفه وخشيته من الله جل وعلا.
وإذا ملك العبد قلباً بهذه الصفات،انضبط قوله وفعله وحاله، إذ لا يمكن أبدا أن يمتثل لترك هذه الشهوات؛ الطعام والشراب والجماع، وهى حلال فيتعداها إلى الحرام من كذب وظلم وغش ومشاهدة للحرام وسماع للغناء، سواء كان في الليل أو النهار، وسواء كان في رمضان أو غير رمضان، فنرى من صلى وصام وترك الشراب والطعام في رمضان لعلمه أن الله رقيب عليه، مطلع عليه، سيترك الحرام في غير رمضان أيضاً لأن الله لا يزال مطلعاً عليه، وعليماً لحالة؛ وهنا يشعر الإنسان بلذة الصيام؛ هنا تشعرين أيتها الأخت بلذة شهر رمضان، وبالمعاني الجميلة لشهر رمضان فهي تصوم لبناء ذلك السد المنيع بين النفس وشهواتها وصدق بشر بن الحارث بقوله: "ولا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً"، هذا السد هو خوف الله ومراقبته في السر والعلن، هذا السد الذي جعلك في رمضان تمسك عن الطعام والشراب بهذه الدقة العجيبة، هو السد الذي جعل ذلك الرجل في غير رمضان والمرأة ذات المنصب والجمال تدعوه فيقول لها: "إني أخاف الله" مع وجود المغريات فهي ذات منصب وذات جمال، وهى التي تدعوه؛ لكنها تقوى القلوب؛ لكنها حياة الإيمان؛ لكنه الخوف من الله الذي من أجله فرض الصيام..
فأين حال هذا الرجل من حال أولئك الذين لا يجدون لملاحقة النساء وبنات المسلمين لذة إلا في شهر رمضان؛ نعوذ بالله من حال هؤلاء.. هدانا الله وإياهم لما فيه الحق واتباع هذا الدين.
هذا السد هو الذي جعلك تحرص على صلاة الجماعة في رمضان، هو السد نفسه الذي جعل تلك الصغيرة في غير رمضان تمتنع عن مزج اللبن بالماء وتقول كلمتها المشهورة "إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا".
هذا السد الذي جعلك أيتها المرأة المسلمة توخيت كل الحرص على ألا يفوت لحلقك شئ من الطعام عند المذاق خوفاً ومراقبة لله في رمضان، هو السد المنيع الذي جعل تلك المرأة تمتنع في غير رمضان عن الوقوع في الزنا لما غاب عنها زوجها طويلاً مع جيش المسلمين وكانت تردد هذه الأبيات:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه *** وأرقني ألا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله أنى أراقبه *** لحرك من هذا السرير جوانبه
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني *** وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه(/5)
قال ابن القيم: "بالحب والخوف والرجاء يذوق المسلم حلاوة الإيمان، ومن استطال الطريق ضعف مشيه" انتهى كلامه رحمه الله
إذا فلماذا نخاف الله ونراقب الله في رمضان، ونصوم ونصلى ونفعل الخير كله ونهمل؛ بل ويترك البعض ذلك في غير رمضان، عجيب أمر تلك النفوس، إن الله الذي يطلع عليك في رمضان يطلع عليك في رجب وشعبان وغيرهما من الشهور. فالله فرض الصيام ثلاثين يوماً تدريباً وتذكيراً للنفوس برقابة الله عليها، وصدق الله: "لعلكم تتقون" أي من أجل أن تتقوا، ومن لم يصم بهذه المعاني فليتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر؛ "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر"
أيها الراجي ثمار الصوم أعط الصوم حقه
من خشوع واصطبار والتداد بالمشقة
وانطلاق في سبيل العيش في رفق ورقة
طارحاً عن روحك المغلول بالشهوات رقة
إن في هذا لعبد الجسم طول العام عتقه
قصص من ذاقوها !!
أما القسم الثاني من هذا الدرس:
مشاعر هذه الروح وهو تصوير لمشاعر وأحاسيس وروحانيات وأشجان لمن ذاق حلاوة الإيمان، وطعم الصلة بالله برمضان، وعرف حقيقة الصيام، وهى للجميع؛ فلا يختص بها الرجال دون النساء، ولا الكبار دون الصغار، لعل الله أن ينفع بها الجميع؛ فإن من ذاق طعم الشيء حرص عليه وتمسك فيه، ومن ذاق طعم الإيمان بذل من أجله النفس والنفيس.
تعالوا لنسمع أفراح الروح وهى تسرى في القلب، فتتلذذ بالصيام والقيام والصدقة وقراءة القرآن والتوبة والغفران، تعالوا لأفراح الروح لنسمع أفراح الروح في شهر رمضان كيف تعيش تلك الروح.
فهذا صائم يحاول التعبير عن هذه الروحانية فيقول: "في نهار يوم من أيام رمضان؛ اشتد بي الجوع فيبس لساني، وقرصت الشفتان وغارت العينان، فنظرت من يميني فإذا أصناف الطعام؛ وعن شمالي أنواع الشراب، فذكرت قول الله عز وجل في الحديث القدسي؛ ترك طعامه وشرابه من أجلى، فرق قلبي ودمعت عيني وانتابني شعور جميل له حلاوة لا أستطيع وصفه ولا بيانه.. قلت؛ لعله أثر من أثار الإخلاص في هذه العبارة العظيمة ولكن من أنا، عبد من عبيده، فقير إليه ذليل بين يديه، من أنا فيخاطبني وهو العظيم الجليل ذو الجبروت والملكوت ،،ترك طعامه وشرابه من أجلي،، من أنا حتى يخاطبني بقوله؛ (من أجلي) فأتلُ قوله؛ (من أجلي) رقة وشفافية عجيبة، بهذه الرقة وبهذه الشفافية وبهذا الإيناس نسيت جوعي وتعبي؛ فأي مشقة في الصوم في ظل هذا الود والقرب من السيد لعبده؛ فشعرت بحرص واطمئنان وثقة ويقين بالقرب من الله جل وعلا".
قلب فؤادك في محاسن شرعنا *** تلقى جميع الحسن فيه مصورا
كم من معانٍ في صيام بيننا *** نفح أرق من النسيم إذا سرى
نهراً تفجرا أحمدياً كوثرَ *** وانظر لفرق صيامهم وصيامنا
فدهشت بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال عني مخبرا
لو أن كل الحسن أكمل صوره *** ورآه كان مهللا ومكبرا
وهذه المشاعر متصدق صائم قال فيها؛ "في رمضان؛ الصدقة لها طعم خاص ولذة عجيبة، ولا غرو فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،،كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان،، أخذت عهداً على نفسي أن لا يمر يوماً من رمضان إلا ولى فيه نصيب من الصدقة والإحسان؛ فقليل دائم خير من كثير منقطع؛ وبعد صولات وجولات بين بيوت الأرامل واليتامى والفقراء والمحتاجين لا يعلم بي أحد إلا الله؛ شعرت برقة في قلبي، ولذة عجيبة في نفسي، فعرفت حقيقة الصيام، وأحسست بقرصة الجوع والحرمان، وقفت على أرملة لها صبية صغار وبيتهم بالإيجار ودموع غزار، ربما عبث الهم بقلبها ففضلت الموت على الحياة، أو سلكت طريق البغاة، عندها تبين لي قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ القائم على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل أو الصائم النهار،، كما فى البخارى ومسلم، وجلست مع اليتيم فنظرت في عينيه، فكأنه يسألني عن أبويه، ولماذا هو ليس كغيره من الصغار معهم الألعاب والحلوى والطعام، وهل سأشتري له ثوباً جديداً ليلبسه في العيد؟ فمسحت بيدي على رأس اليتيم، فإذا بقلبي يلين ودمعي يسيل؛ فذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المسند من حديث أبى هريرة؛ أن رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم؛ إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم،،"
هكذا نحيا رمضان، فهو مدرسة تستثير الشفقة، وتحض على الصدقة، وهو شهر يعلمنا الجود والإحسان، ليس فقط في رمضان بل والله على الدوام؛ "وما تنفقوا من خير فلأنفسكم".(/6)
حدثني أحد الأخوة بكلام عجيب كان له وقع في نفسي، قال أنه قرأ للشعبي رحمة الله كلاماً جميلاً قال فيه: "من ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه"، فما تركت بعدها صدقة، فأنا الفقير وأنا المحتاج؛ نعم والله أنا الفقير إلى عفو ربى، وأنا المحتاج إلى غفران الله جل وعلا لنفسي، كان ابن عمر رضى الله عنهما؛ "يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعشى تلك الليلة"، وجاء سائل إلى الإمام أحمد؛ "فرفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم نام جائعاً، ثم أصبح صائماً"، وعُلم أن عائشة رضى الله عنها أم المؤمنين؛ "أنفقت في يوم واحد 100 ألف درهم وهى صائمة، فقالت لها خادمتها؛ لو أبقيت لنا ما نفطر به اليوم، فقالت عائشة؛ لو ذكرتني لفعلت".
سبحان الله! ما هذه الروحانية العجيبة، وما هذا السمو المذهل في النفس الصائمة، حتى أنها تنسى حاجتها ومطالبها وكأنها لا تذكر إلا أمتها وحاجات الفقراء أو المحتاجين.
حديث التائبين
أما حديث التائبين وخاصة في شهر التوبة فعجيب غريب، واسمع هذا التائب في رمضان وهو يحاول أن يصف فرحته وسعادته فيقول: "ما أجمل رمضان وما أحسن أيامه، سبحان الله! كل هذه اللذة وهذه الحلاوة ولم أذق طعمها إلا هذا العام، أين هي عيني كل هذه السنوات؟؟ إيه.. بل أين أنا عنها، فإن من تحر الخير يعطه، ومن بحث عن الطريق وجده، ومن أقبل على الله أعانه.. صدق الله في الحديث القدسي؛ من تقرب منى شبراً تقريب منه ذراعا،، كما فى الصحيحين، سبحان الله! أشعر أن حملاً ثقيلاً زاح عن صدري؛ وأشعر بانشراح فسيح في نفسي، أول مرة في حياتي أفهم تلك الآية التي أسمعها تقرأ في مساجدنا؛ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء،، أين ذلك الضيق؟ وتلك الهموم التي كانت تكتم نفسي حتى أكاد اصرع؟ أين تلك الهواجس والأفكار والوساوس؟ أين شبح الموت الذي كان يلاحقني فيفسد علي المنام؟ إنني أشعر بسرور عجيب، وبصدر رحيب، وبقلبي لين دقيق، أريد أن ابكي! أريد أن أناجى ربى واعترف له بذنبي، لقد عصيت وأذنبت وصليت وتركت وأسررت وجاهرت وأبعدت وقربت وشرقت وغربت وسمعت وشاهدت..
ويح قلبي من تناسيه مقامي يوم حشري
واشتغالي عن خطايا أثقلت والله ظهري
ليتني اقبل وعظي ليتني اسمع زجري
والله لولا الحياء ممن بجواري لصرخت بأعلى صوتي؛ أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت،، لسان حالي يقول للإمام؛ لماذا قطعت علي حلاوة المناجاة يا إمام! لماذا رفعت من السجود فحرمتني من لذة الاعتراف والافتقار للواحد القهار؛ يا إمام أريد أن أبكى فأنا لم أبكى منذ أعوام..
ألا يا عين وحيك أسعديني
بطول الدمع في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي
بخير الدهر في تلك العلالي
يا إمام أسمعني القرآن، فلقد مللت ملاهي الشيطان؛ يا إمام لماذا يذهب رمضان وفيه عرفنا الرحمن وأقلعنا عن الذنب والعصيان!!
في صيام الشهر طب ليس يبديه طبيب
فيه أسرار يعيها صائم حقاً أريب
فيه غيث من صفاء ترتوي فيه القلوب
فيه للأرواح شفع دونه الكون الرحيب
صائم في درع تقوى تجلي عنه الكروب
ما أحلاك يا رمضان.. ما أجملك.. سأشغل أيامك ولياليك، بل ساعاتك وثوانيك.. كيف لا وقد وجدت نفسي فيك!! أليس في الحديث؛ رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم أنسلخ قبل أن يغفر له،، كما في الترمذي وقال حسن غريب.
إذا هجع النُّوام أسبلت عبرتي
وأنشدت بيتاً وهو من الصَفِ الشعر
أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا علم وتحسب من عمري؟
يا معشر العاصين؛ لا بأس من قلب خُمِّر وجُمِّر وقُسّي وتبلَّد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، ويمكن أن يشرق فيه النور، ويمكن أن يخشع لذكر الله، فنحن في شهر رمضان.. شهر التوبة والغفران؛ شهر تصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران، والله يحي الأرض بعد موتها فتنبت وتزهر..
يا معشر التائبين..
تعالوا كل من حضر لنطرق بابه سحرا *** ونبكى كلنا أسفاً على من بات قد هجرا
كيف نصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبنا؟ ألسنا الذين بارزنا بالكبائر وما راقبنا؟ يا معشر المذنبين.. لنبسط لسان الاعتذار، ونظهر العجز والافتقار، وليردد كل واحد منا..
إلهي لئن خبْتُ وطردتني فمن *** ذا الذي أرجو ومن ذا أشفّع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها *** منها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقرى وفاقتي *** وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ *** فؤادي فلي في جل جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني *** أسير ذليلاً خائفاً لك أخضع
إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي *** فعفوك من ذنبي أجل وأوسع
انتهى كلامه..(/7)
فقلت؛ سبحان الله! في رمضان رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ورحم الله مطرف بقوله: "اللهم أرض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا"، وهذا مودع لرمضان ذاق طعمه وعرف حلاوته؛ وهاهو يتحسر على فراقه فيقول: "في الأيام الأخيرة في رمضان، شعرت بتسارع الأنفاس، وكثرت الهاجس والوسواسة، أعنى أن أمسك الشمس فلا تزول، لا أصدق أن رمضان سيرحل بعد أيام، لقد ذقت حلاوة الصيام ولذة القيام، لقد وقفت مع الصالحين وركعت مع الراكعين وسجدت مع الساجدين، بالأمس كنت أذرف دموع الفرح لاستقباله، واليوم تسيل دموع الحزن لرحيل هلاله.. آه لرمضان؛ فقد هيم نفسي ويتم قلبي.. تلاقينا وكأنها لحظات.. وتناجينا وكأنها همسات.. فمن منا لا تؤلمه ساعات الفراق ومن منا يحتمل لحظات العناق.. رمضان أيها الحبيب ترفق.. دموع المحبين تدفق.. قلوبهم من ألم الفراق تشقق.. رمضان أطفأت أنوار المساجد.. وتفرق الراكع والساجد.. رمضان هل أنا مقبول أم مطرود؟؟ وهل تعود أيامك أو لا تعود؟؟ وإن عادت هل أنا في الوجود أم في اللحود؟؟ سأعان الأحزان وأبث الأشجان، وسأرسل العبرات والزفرات والآهات؛ فربما هذه آخر ليلة منك يا رمضان.. ولا أدرى أنا رابح فيك أن خسران!!
يا رب إن فراق الخل عذبني
وأورث النفس آلاما وأحزانا
وأذهب العين حتى صار ناظرها
يقول: وحيك قد تلقاه عمياناً
ألقاه أعمى ولكن لا يفارقني
يبقى وتبقى معاً في القلب سكنانا
يا رب رد غريباً في ظل وجهته
يقلب الطرف بين الناس حيرانا
يبيت يبكى ويصحو باكيا أبداً
قد جرب الحزن أشكالاً وأواناَ
في يوم العيد !!
وأخيراً هذه مشاعر مسلم في صبيحة العيد فيقول: "تذكرت في صبيحة العيد وأنا أقبل أولادي يتامى لا يجدون من يقبلهم أو حتى يبتسم لهم.. تذكرت في صبيحة العيد وأنا مع زوجي أيامى لا يجدن حنان الزوج ورقته.. تذكرت في صبيحة العيد ونحن على الطعام الطيب والشراب البارد الجموع التي تموت من الجوع.. تذكرت في صبيحة العيد وأنا ألبس الجديد.. ذلك الذي لا يجد ما يستر به عورته، وربما غطى بالأوراق والجلود سوءته.. تذكرت في صبيحة العيد وقد اجتمع شملنا وأنسنا بآبائنا وأمهاتنا، إخوانا لنا شردتهم الحروب، لا راحة ولا استقرار ولا أمن ولا آمان فعيدهم دموع وأحزان وذكريات وأشجان، جالت في خاطري هذه الذكريات.. ومع ذلك لبست الجديد، وزرت القريب والبعيد، وأكلت وشربت وابتسمت ومازحت؛ لكن شعور الجسد الواحد وشعور الإخاء قوى في نفسي؛ لا أنساهم في حديثي؛ وان ضحكت تبدو مسحة الحزن على وجهي.. يهيج بالدعاء لهم لساني؛ وأحدث عنهم أهلي وجيراني؛ وفى صحيح مسلم؛ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و بالسهر،، ومن عمل صالحاً فلنفسه،، ومن علت همته أتصف بكل جميل، ومن دنت همته اتصف بكل خلق رذيل..
سأصرف همتي بالكل عما *** نهاني الله من أمر المزاح
إلى شهر الخشوع مع الخشوع *** إلى شهر العفاف مع الصلاح
يجازى الصائمون إذا استقاموا *** بدار الخلد والحور الملاح
وبالغفران من رب عظيم *** وبالملك الكبير بلا براح
فيا أحبابنا اجتهدوا وجدوا *** بهذا الشهر من قبل الرواح
عسى الرحمن أن يمحوا ذنوبي *** ويغفر زلتي قبل افتضاحِ
الخاتمة
أيها الأحبة؛
هكذا نحيا رمضان، عندما نفهم حقيقة الصيام ونشعر بحلاوة الإيمان، هذه الأحاسيس الجميلة والمشاعر النبيلة، هذه الروحانية السنوية، ما هي إن شاء الله إلا عاجل بشرى المؤمن، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقاءه، وفتح لهم أبواب في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواه لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفى قول الحق عز جل؛ "فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاءاً بما كانوا يعملون"..
أيها المسلمون:
هلموا إلى دار لا يموت سكانها.. نحن في رمضان موسم الخيرات؛ فهلموا إلى دار لا يموت سكانها؛ ولا يخرب بنيانها؛ ولا يهرم شبانها؛ ولا يتغير حسنها وإحسانها؛
هوائها النسيم.. يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين.. ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين.. دعواهم فيها؛ سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم
ولحوم طير ناعم قسمان
وفواكه شتى بحسب مناهم
يا شبعة كملت لذي الإيمان
لحم وخمر والنسا وفواكه
والطيب مع روح ومع ريحان
وصحافهم ذهب تطوف عليهم
بأكف خدام من الولدان
نسأل الله الكريم من فضله العظيم أن يبلغنا جنة الفردوس، اللهم إنا نسألك جنة الفردوس برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:(/8)
أكرموا هذا الوافد الكريم.. استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله؛ أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك.. فإن لله نفحات من حرمها فقد حرم خيراً كثيراً، جاهدوا أنفسكم؛ أخلصوا النية لله في الاستعداد له؛ فربما قطع هادم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله.. كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه، وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأحداث لكنهم بلغوا إنشاء الله بنياتهم.
تم بحمد الله
كتبها مجموعة من طالبات كلية الشريعة - الكويت
إشراف د.طارق الطواري
المصدر شبكة القصيم الثقافية ...
صيد الفوائد ...(/9)
.. رِحْلَةُ المُشْتَاقِ ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي سهل لعباده إلى مرضاته سبيلاً ..
وأوضح لهم الهداية وجعل الرسول عليها دليلاً ..
ورضي لهم نفسه رباً .. والإسلام ديناً .. ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً ..
أحمده حمد من لا رب له سواه ..
وأشكره على جزيل فضله وعطاياه ..
وأشهد أن الحلال ما أحلَّه .. والحرام ما حرمه .. والدين ما شرعه ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..
الملك الحق المبين .. الذي يأمر وينهى .. ويفعل ما يشاء ..
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى.. ونبيه المرتضى .. الذي لا ينطق عن الهوى ..
أرسله على حين فترة من الرسل .. فهدى به إلى أوضح السبل ..
أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها..وتألفت به القلوب بعد شتاتها ..
فصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار .. وصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه رحلة مع مشتاق .. نعم مشتاق إلى دخول الجنات .. ورؤية رب الأرض والسماوات ..
إنه حديث عن المشتاقين ..المعظمين للدين ..
الذين تعرض لهم الشهوات..وتحيط بهم الملذات..فلا يلتفتون إليها..
هم جبال راسيات .. وعزائم ماضيات .. عاهدوا ربهم على الثبات ..
قالوا ربنا الله ثم استقاموا ..
يرون الناس عن طريق الاستقامة يتراجعون .. وهم على طاعاتهم ثابتون ..
أعظم ما قربهم إلى ربهم .. ثباتهم على دينهم .. وسرعة توبتهم بعد ذنبهم ..
إنهم قوم .. إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذكروا ذكروا .. وإذا خوفوا من عذاب الله انزجروا ..
يتركون لذة الملك والسلطان .. والمنعة والمكان ..
في سبيل النجاة من النيران .. والفوز برضا الرحمن ..
{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون } ..
هم بشر من البشر .. ما تركوا اللذائذ عجزاً عنها .. ولا مللاً منها ..
بل لهم غرائز وشهوات .. ورغبة في الملذات ..
لكنهم قيدوها بقيد القوي الكريم..يخافون من ربهم عذاب يوم عظيم..
عاهدوا ربهم على الطاعة لما قال لهم : { اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .. فثبتوا على دينهم .. حتى ماتوا مسلمين ..
لم يفلح الشيطان في جرهم إلى خمر خمار .. ولا مخالطة فجار .. ولا سفر إلى بلاد الكفار ..
الناس يتساقطون في الحرام .. وهم ثابتون على الإسلام ..
فعجباً لهم ما أشجعهم .. وأقوى عزائمهم وأثبتهم ..
الكل يتمنى أن يعيش عيشهم .. إن لم يتمنى ذلك في الدنيا .. تمناه في الأخرى ..
* * * * * * * *
ومن تشبه بهم .. فأراد الهداية المرضية .. والسعادة الأبدية ..
فلا ينبغي أن يقعد على أريكته .. وينتظر أن تنزل عليه الهداية من السماء .. أو يشربها مع الماء .. كلا .. بل عليه أن يسعى إلى تحصيلها .. ويبحث عن سبل اتباعها .. ومن يخطب الحسناء لا يغله المهر ..
وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم .. فأمر بطلبها .. وسلوك سبلها .. للفوز بها ..
* * * * * * * *
وانظر إلى ذاك الشاب النضر .. الذي نشأ في بيت عز وسلطان .. ومنعة ومكان ..
كان معظماً عند قومه .. مهيباً في بلده .. مقدماً بين أقرانه .. فريداً في زمانه ..
انظر إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه ..
كان مجوسياً .. يعبد النار وكان أبوه سيدَ قومه ..
وكان يحبه حباً عظيماً .. وقد حبسه في بيته عند النار ..
ومع طول ملازمته للنار .. اجتهد في المجوسية .. حتى صار قاطن النار الذي يوقدها ..
وكان لأبيه بستان عظيم .. يذهب إليه كل يوم ..
فشغل الأب في بنيان له يوماً في داره .. فقال لسلمان :
فانطلق إلى ضيعتي فاصنع فيها كذا وكذا ..
ففرح سلمان وخرج من حبسه .. وتوجه إلى البستان .. فبينما هو في طريقه إذ مرَّ بكنيسة للنصارى .. فسمع صلاتهم فيها ..
فدخل عليهم ينظر ماذا يصنعون ..
وأعجبه ما رأى من صلاتهم .. ورغب في اتباعهم ..
وقال في نفسه : هذا خير من ديننا الذي نحن عليه ..
فسألهم : عن دينهم ..
فقالوا : أصله بالشام .. وأعلم الناس به هناك ..
فلم يزل عندهم .. حتى غابت الشمس ..
فلما رجع إليه .. قال أبوه : أي بني أين كنت ؟
قال : إني مررت على ناس يصلون في كنيسة لهم .. فأعجبني ما رأيت من أمرهم وصلاتهم .. ورأيت أن دينهم خير من ديننا ..
ففزع أبوه .. وقال : أي بني .. دينك ودين آبائك خير من دينهم ..
قال : كلا والله .. بل دينهم خير من ديننا ..
فخاف أبوه أن يخرج من دين المجوس .. فجعل في رجله قيداً .. ثم حبسه في البيت..
فلما رأى سلمان ذلك .. بعث إلى النصارى رسولاً من عنده .. يقول لهم : إني قد رضيت دينكم ورغبت فيه .. فإذا قدم عليكم ركب من الشام من النصارى .. فأخبروني بهم ..
فما مضى زمن حتى قدم عليهم ركب من الشام .. تجار من النصارى .. فبعثوا إلى سلمان فأخبروه ..(/1)
فقال للرسول : إذا قضى التجار حاجاتهم وأرادوا الرجوع إلى الشام فآذنوني ..
فلما أراد التجار الرجوع أرسلوا إليه .. وواعدوه في مكان .. فتحيل حتى فك القيد من قدميه ..
ثم خرج إليهم فانطلق معهم إلى الشام ..
فلما دخل الشام .. سألهم من أفضل أهل هذا الدين علماً ؟
قالوا : الأسقف في الكنيسة ..
فتوجه إلى الكنيسة .. فأخبر الأسقف خبره .. وقال له : إني قد رغبت في هذا الدين .. وأحب أن أكون معك .. أخدمك .. وأصلي معك .. وأتعلم منك ..
فقال له الأسقف : أقم معي ..
فمكث معه سلمان في الكنيسة ..
فكان سلمان يحرص على الخيرات .. والتعبد والصلوات ..
أما الأسقف فكان رجل سوء في دينه .. كان يأمر الناس بالصدقة ويرغبهم فيها ..
فإذا جمعوا إليه الأموال .. اكتنزها لنفسه .. ولم يعطها المساكين ..
فأبغضه سلمان بغضاً شديداً .. لكنه لا يستطيع أن يخبر أحداً بخبره .. فهو غريب .. قريب العهد بدينهم ..
فلم يلبث الأسقف أن مات ..
فحزن عليه قومه .. واجتمعوا ليدفنوه ..
فلما رأى سلمان حزنهم عليه قال : إن هذا كان رجل سوء .. يأمركم بالصدقة .. ويرغبكم فيها .. فإذا جئتموه بها .. اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً ..
قالوا فما علامة ذلك ؟ قال : أنا أدلكم على كنزه .. فمضى بهم حتى دلهم على موضع المال .. فحفروه .. فأخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وفضة ..
فقالوا : والله لا ندفنه أبداً .. ثم صلبوه على خشبة .. ورجموه بالحجارة ..
وجاءوا برجل آخر .. فجعلوه مكانه في الكنيسة ..
قال سلمان : فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس .. كان خيراً منه .. أعظم رغبة في الآخرة .. ولا أزهد في الدنيا .. ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه .. فأحببته حباً ما علمت أني أحببته شيئاً كان قبله ..
فلم يزل سلمان يخدمه .. حتى كبر وحضرته الوفاة ..
فحزن على فراقه .. وخاف أن لا يثبت على الدين بعده .. فقال له :
يا فلان .. قد حضرك ما ترى من أمر الله .. فإلى من توصي بي ؟
قال : أي بني .. والله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه .. لقد هلك الناس وبدلوا .. وتركوا كثيراً مما كانوا عليه ..
إلا رجلاً بالموصل وهو فلان .. وهو على ما كنت عليه فالحق به ..
فلما توفي الرجل العابد .. خرج سلمان من الشام إلى العراق ..
فأتى صاحب الموصل ..
فأقام عنده .. حتى حضرته الوفاة .. فأوصى سلمان لرجل بنصيبين ..
فشد رحاله إلى الشام مرة أخرى ..
حتى أتى نصيبين .. فأقام عند صاحبه طويلاً .. حتى نزل به الموت .. فأوصاه أن يصاحب رجلاً بعمورية بالشام ..
فذهب إلى عمورية ..
وأقام عند صاحبه .. واكتسب حتى كانت عنده بقرات وغنيمة .. ثم لم يلبث العابد أن مرض ونزل به الموت .. فحزن سلمان عليه .. وقال له مودعاً :
يا فلان إلى من توصي بي ؟ فقال الرجل الصالح :
يا سلمان .. والله ما أعلم أصبح على مثل ما نحن فيه أحد من الناس آمرك أن تأتيه .. يعني لقد غير الناس وبدلوا ..
ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية .. يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين ( أي جبلين أسودين ) بينهما نخل .. به علامات لا تخفى :
يأكل الهدية .. ولا يأكل الصدقة .. بين كتفيه خاتم النبوة ..
إذا رأيته عرفته .. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ..
ثم مات ودُفن فمكث سلمان بعمورية ما شاء الله .. أن يمكث ..
وهو يلتمس من يخرج به إلى أرض النبوة ..
فما زال كذلك .. حتى مرَّ به نفر من قبيلة كلب .. تجار .. فسألهم عن بلادهم .. فأخبروه أنهم من أرض العرب ..
فقال لهم : تحملونى إلى أرضكم .. وأعطيكم بقراتي وغنيمتي ؟
قالوا : نعم .. فأعطاهم إياها .. وحملوه معهم ..
حتى إذا قدموا به وادي القُرى .. طمعوا في المال .. فظلموه وادعوا أنه عبد مملوك لهم .. وباعوه لرجل من اليهود .. فلم يستطع سلمان أن يدفع عن نفسه ..
فصار عند هذا اليهودي يخدمه ..
حتى قدم على اليهودي يوماً ابن عم له من المدينة من يهود بنى قريظة .. فاشترى سلمان منه ..
فاحتمله إلى المدينة .. فلما رآها .. ورأى نخلها .. وحجارتها .. عرف أنها أرض النبوة التي وصفها له صاحبه .. فأقام بها .. وأخذ يترقب أخبار النبي المرسل ..
ومرت السنوات ..
وبعث الله رسوله عليه السلام فأقام بمكة ما أقام .. وسلمان لا يسمع له بذكر ..
لشدة ما هو فيه من الخدمة عند اليهودي ..
ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث بها .. وسلمان لا يدري عنه شيئاً ..
فبنما هو يوماً في رأس نخلة لسيده .. يعمل فيها .. وسيده جالس أسفل النخلة ..
إذ أقبل رجل يهودي من بني عمه .. حتى وقف عليه .. فقال :
أي فلان .. قاتل الله بني قيلة .. يعني الأوس والخزرج .. إنهم الآن لمجتمعون على رجل بقباء .. قدم من مكة يزعمون أنه نبي ..
فلما سمع سلمان ذلك .. انتفض جسده .. وطار فؤاده ..
ورجفت النخلة .. حتى كاد أن يسقط على صاحبه .. ثم نزل سريعاً وهو يصيح بالرجل : ماذا تقول ؟ ما هذا الخبر ؟(/2)
فغضب سيده .. ورفع يده فلطمه بها لطمة شديدة .. ثم قال :
ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك ..
فسكت سلمان .. وصعد نخلته يكمل عمله ..
وقلبه مشغول بخبر النبوة .. ويريد أن يتيقن من صفات هذا النبي .. التي وصفها صاحبه .. يأكل الهدية .. ولا يأكل الصدقة .. وبين كتفيه خاتم النبوة ..
فلما أقبل الليل .. جمع ما كان عنده من طعام .. ثم خرج حتى جاء إلى رسول الله .. وهو جالس بقُباء فدخل عليه .. فإذا حوله نفر من أصحابه .. فقال :
إنه بلغني أنكم أهل حاجة وغربة .. وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة .. فجئتكم به ..
ثم وضعه سلمان بين يدي النبي عليه السلام .. واعتزل ناحية ينظر إليه ماذا يفعل ؟
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام .. ثم التفت إلى أصحابه .. فقال :كلوا ..
وأمسك هو فلم يأكل ..
فلما رأى سلمان ذلك قال في نفسه : هذه والله واحدة .. لا يأكل الصدقة .. وبقي اثنتان ..
ثم رجع إلى سيده ..
وبعدها بأيام .. جمع طعاماً آخر .. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه .. ثم قال له : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة .. وهذه هدية أهديتها كرامة لك .. ليست بصدقة ..
ثم وضعها بين يديه صلى الله عليه وسلم ..فمد يده إليها .. فأكل وأكل أصحابه ..
فلما رأى سلمان ذلك قال في نفسه : هذه أخرى ..
وبقي واحدة .. أن ينظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم .. ولكن أنى له ذلك ..
رجع سلمان إلى خدمة سيده .. وقلبه مشغول بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فمكث أياماً .. ثم مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه .. فإذا هو في بقيع الغرقد .. قد تبع جنازة رجل من الأنصار .. فجاءه فإذا حوله أصحابه .. وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة .. مرتدياً بالأخرى .. كلباس الإحرام ..
فسلم عليه .. ثم استدار ينظر إلى ظهره .. هل يرى الخاتم الذي وصف له صاحبه !!
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم استدارته عرف أنه يستثبت في شيء وصف له ..
فحرك كتفيه .. فألقى رداءه عن ظهره .. فنظر سلمان إلى الخاتم .. فعرفه .. فانكب عليه يقبله ويبكى ..
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تحول .. أي اجلس أمامي .. فاستدار حتى قابل وجه النبي عليه السلام ..
فسأله صلى الله عليه وسلم عن خبره .. فقص عليه قصته .. وأخبره أنه كان شاباً مترفاً .. ترك العز والسلطان .. طلباً للهداية والإيمان .. حتى تنقل بين الرهبان .. يخدمهم ويتعلم منهم ..
واستقر به المقام عبداً مملوكاً ليهودي في المدينة ..
ثم أخذ سلمان ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ودموعه تجري على خدية .. فرحاً وبشراً ..
ثم أسلم .. ونطق الشهادتين .. ومضى إلى سيده اليهودي .. فزاده اليهودي شغلاً وخدمة ..
فكان الصحابة يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم .. أما هو فقد شغله الرق .. عن مجالسته .. حتى فاتته معركة بدر ثم أحد ..
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له : كاتب يا سلمان .. أي اشتر نفسك من سيدك بمال تؤديه إليه ..
فسأل سلمان صاحبه أن يكاتبه .. فشدد عليه اليهودي ..
وأبى عليه إلا بأربعين أوقية من ورق ..
وثلاثِمائةِ نخلة .. يجمعها فسائل صغار .. ثم يغرسها .. واشترط عليه أن تحيا كلُّها ..
فلما أخبر سلمان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما اشترط عليه اليهودي .. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أعينوا أخاكم بالنخل ..
فأعانه المسلمون .. وجعل الرجل يمضي إلى بستانه فيأتيه بما يستطيع من فسيلة نخل .. فلما جمع النخل ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا سلمان .. اذهب ففقر لها - أي احفر لها - لغرسها .. فإذا أنت أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني ..
فبدأ سلمان يحفر لها .. وأعانه أصحابه .. حتى حفر ثلاثَمائة حفرة ..
ثم جاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم .. فخرج صلى الله عليه وسلم معه إليها .. فجعل الصحابة يقربون له فسيلة النخل .. ويضعه صلى الله عليه وسلم بيده في الحفر ..
قال سلمان : فوالذي نفس سلمان بيده..ما ماتت منها نخلة واحدة ..
فلما أدى النخل إلى اليهودي .. بقي عليه المال ..
فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بذهب من بعض المغازي ..
فالتفت إلى أصحابه وقال : ما فعل الفارسي المكاتب ..
فدعوه له .. فقال صلى الله عليه وسلم : خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان ..
فأخذها سلمان .. فأدى منها المال إلى اليهودي ..
وعتق .. ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ..
* * * * * * * *
هذا خبر سلمان الفارسي .. الذي ترك العيش الهني .. والوطن الرضي .. وأنواع الشهوات ..
وسافر في البلاد .. وتنقل بين ذل الخدمة .. ورق العبودية .. طلباً للهداية الأبدية ..
عظم الخالق في نفسه .. واستأنس بذكره وقربه .. وتنعم بمناجاته وحبه .. فصغر ما دونه في عينه ..
تعب أياماً قليلة .. أعقبته راحةً طويلة ..
إذا ذكرت له الجنات .. طارت نفسه شوقاً إليها ..(/3)
وتخيل لو أنه فيها ينعم .. ومن أشجارها يأكل .. وإلى خالقها ينظر ..
فينسى عند ذلك شدةَ العذاب .. وجليلَ المصاب ..
فلله ما أبهى ثباتهم له وقد حصلت تلك الجوائز تقسم
دعاهم فلبوه رضا ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم
ينادونه يا رب يا رب إننا عبيدك لا نبغي سواك وتعلم
ولو كان يرضي الله نحر نفوسهم لدانوا بها طوعاً ولله سلموا
كما بذلوا عند الجهاد نحورهم لأعدائه حتى جرى منهم الدم
ولله أكباد هنالك أودع الغرام بها فالنار فيها تضرم
ولله أنفاس يكاد بحرها يذوب المحب المستهام المتيم
ولله أفضال هناك ونعمة وبر وإحسان وجود ومرحم
ولله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
وقد شرقت عين المحب بدمعها فينظر من بين الدموع ويسجم
فبالله ما عذر امرئ هو مؤمن بهذا ولا يسعى له ويقدم
ولكنما التوفيق بالله إنه يخص به من شاء فضلاً وينعم
* * * * * * * *
ومن الناس .. من يشتاق إلى الهداية .. ولكن يمنعه منها بغضه لبعض الصالحين .. أو مواقف وقعت له معهم .. فحمل في نفسه عليهم ..
أو تجده يعلق صلاحه واستقامته بأشخاص يعينونه على الدين .. فإذا فسدت أحوالهم .. أو فرق الدهر بينهم ..انتكس عن الدين .. وعصى رب العالمين ..
وهذا حال أولئك المرتدين .. الذين علقوا إسلامهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم .. فما داموا يخالطونه .. ويحدثهم ويساكنونه .. فهم ثابتون على الدين .. بل قُوّام في الأسحار .. صُوّام في النهار ..
ولكن ما إن فارق سواده سوادهم .. حتى ارتدوا على أدبارهم ..وكفروا بعد إسلامهم ..
حتى قال لهم أبو بكر رضي الله عنه : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
نعم ..الله حي لا يموت..يسمع دعاء الداعين ..ويقبل توبة التائبين..
من لجأ إليه كفاه .. ومن فرَّ إليه قربه وأدناه ..
إن ذكره العبد في نفسه ذكره في نفسه .. وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأٍ خير منهم ..
من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً .. ومن تقرب إليه ذراعاً .. تقرب إليه باعاً ..
ومن استقر في قلبه الإيمان .. ثبت على عبادة الرحمن .. وإن اشتد البلاء ..
وانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى هناك ..
وادخل إلى المدينة ..
وانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام .. وقد جلس مع أصحابه الكرام ..
فحدثهم عن البيتِ الحرام .. وفضلِ العمرة والإحرام ..
فطارت أفئدتهم شوقاً إلى ذاك المقام ..
فأمرهم بالتجهز للرحيل إليه .. وحثهم على التسابق عليه ..
فما لبثوا أن تجهزوا .. وحملوا سلاحهم وتحرزوا ..
فخرج صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة من أصحابه .. مهلين بالعمرة ملبين .. يتسابقون إلى البلد الأمين ..
فلما اقتربوا من جبال مكة ..
بركت القصواء - ناقة النبي عليه السلام - .. فحاول أن يبعثها لتسير .. فأبت عليه ..
فقال الناس : خلأت القصواء .. ( أي عصت ) فقال صلى الله عليه وسلم :
ما خلأت القصواء .. وما ذاك لها بخلق .. ولكن حبسها حابس الفيل ( يعني فيل أبرهة لما أقبل به مع جيش من اليمن يريد هدم الكعبة فحبسهم الله عن ذلك ) ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله .. إلا أعطيتهم إياها ..
ثم زجرها فوثبت .. فتوجه إلى مكة .. حتى نزل بالحديبية قريباً من مكة .. فتسامع به كفار قريش .. فخرج إليه كبارهم ليردوه عن مكة .. فأبى إلا أن يدخلها معتمراً ..
فما زالت البعوث بينه وبين قريش..حتى أقبل عليه سهيل بن عمرو ..
فصالح النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعودوا إلى المدينة..ويعتمروا في العام القادم..
ثم كتبوا بينهم صلحاً عاماً .. وفيه :
اشترط سهيل : أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد المدينة .. إلا رُدَّ إلى مكة .. أما من خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتداً إلى الكفر .. فيُقبل في مكة ..
فقال المسلمون : سبحان الله !! من جاءنا مسلماً نرده إلى الكافرين !! كيف نرده إلى المشركين وقد جاء مسلماً ..
فبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم .. شاب يسير على الرمضاء .. يرفل في قيوده .. وهو يصيح : يا رسول الله ..
فنظروا إليه .. فإذا هو أبو جندل ولد سهيل بن عمرو .. وكان قد أسلم فعذبه أبوه وحبسه .. فلما سمع بالمسلمين .. تفلت من الحبس وأقبل يجر قيوده .. تسيل جراحه دماً .. وتفيض عيونه دمعاً ..
ثم رمى بجسده المتهالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..والمسلمون ينظرون إليه ..
فلما رآه سهيل .. غضب !! كيف تفلت هذا الفتى من حبسه .. ثم صاح بأعلى صوته : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ..
فقال : إنا لم نقض الكتاب بعد ..
قال : فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً ..
فقال : فأجزه لي .. قال : ما أنا بمجيزه لك .. قال : بلى فافعل .. قال : ما أنا بفاعل .. فسكت النبي ..
وقام سهيل سريعاً إلى ولده يجره بقيوده .. وأبو جندل يصيح ويستغيث بالمسلمين .. يقول :(/4)
أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً .. ألا ترون ما قد لقيت من العذاب .. ولا زال يستغيث بهم حتى غاب عنهم ..
والمسلمون تذوب أفئدتهم حزناً عليه .. فتى في ريعان الشباب .. يُشدد عليه العذاب ..
وينقل من العيش الرغيد .. إلى البلاء الشديد ..
وهو ابن سيد من السادات..طالما تنعم بالملذات..وتلذذ بالشهوات ..
ثم يجر أمام المسلمين بقيوده .. ليعاد إلى سجنه وحديده ..
وهم لا يملكون له شيئاً ..
مضى أبو جندل إلى مكة وحيداً .. يسأل ربع الثبات على الدين .. والعصمة واليقين ..
أما المسلمون فقد رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .. وهم في حنق شديد على الكافرين .. وحزن على المسلمين المستضعفين ..
ثم اشتد العذاب على الضعفاء في مكة .. حتى لم يطيقوا له احتمالاً ..
فبدأ أبو جندل .. وصاحبه أبو بصير .. والمستضعفون في مكة .. يحاولون التفلت من قيودهم ..
حتى استطاع أبو بصير رضي الله عنه أن يهرب من حبسه .. فمضى من ساعته إلى المدينة .. يحمله الشوق .. ويحدوه الأمل .. في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..
مضى يطوي قفار الصحراء .. تحترق قدماه على الرمضاء ..
حتى وصل المدينة .. فتوجه إلى مسجدها ..
فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه .. إذ دخل عليهم أبو بصير .. عليه أثرُ العذاب .. ووعثاءُ السفر .. وهو أشعث أغبر ..
فما كاد يلتقط أنفاسه .. حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا المسجد .. فلما رآهما أبو بصير .. فزع واضطرب .. وعادت إليه صورة العذاب ..
فإذا هما يصيحان .. يا محمد .. رده إلينا .. العهدُ الذي جعلت لنا ..
فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة ..
فأشار إلى أبي بصير .. أن يخرج من المدينة ..
فخرج معهما أبو بصير .. فلما جاوزا المدينة .. نزلا لطعام .. وجلس أحدهما عند أبي بصير ..
وغاب الآخر ليقضي حاجته ..
فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه .. ثم أخذ يهزه .. ويقول مستهزءاً بأبي بصير : لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل ..
فقال له أبو بصير : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً .. فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به .. ثم جربت ..
فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه .. فناوله إياه .. فما كاد السيف يستقر في يده .. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه ..
فلما رجع الآخر من حاجته ..
رأى جسد صاحبه ممزقاً .. مجندلاً ممزقاً .. ففزع .. وفرَّ حتى أتى المدينة .. فدخل المسجد يعدو ..
فلما رآه صلى الله عليه وسلم مقبلاً .. فزعاً .. قال : لقد رأى هذا ذعراً ..
فلما وقف بين يديه صلى الله عليه وسلم صاح من شدة الفزع .. قال : قُتِل والله صاحبي .. وإني لمقتول ..
فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير .. تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يقطر دماً .. فقال :
يا نبي الله .. قد أوفى الله ذمتك .. قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم .. فضمني إليكم .. قال : لا ..
فصاح أبو بصير بأعلى صوته .. قال : أو .. يا رسول الله .. أعطني رجالاً أفتح لك مكة ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال : ويل أمه مسعِّر حرب لو كان معه رجال..ثم تذكر عهده مع قريش فأمر أبا بصير بالخروج من المدينة ..
فسمع أبو بصير وأطاع ..
نعم .. وما حمل في نفسه على الدين .. ولا انقلب عدواً للمسلمين ..
فهو يرجو ما عند الحليم الكريم .. من الثواب العظيم .. الذي من أجله ترك أهله .. وفارق ولده .. وأتعب نفسه .. وعذب جسده ..
خرج أبو بصير من المدينة .. فاحتار أين يذهب .. ففي مكة عذاب وقيود .. وفي المدينة مواثيق وعهود ..
فمضى إلى سيف البحر في شمال جدة .. فنزل هناك .. في صحراء قاحلة .. لا أنيس فيها ولا جليس ..
فتسامع به المسلمون المستضعفون بمكة .. فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم .. فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم .. والكفار في مكة يعذبونهم ..
فتفلت أبو جندل من قيوده .. فلحق بأبي بصير .. ثم جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه .. حتى كثر عددهم .. واشتدت قوتهم ..
فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش .. إلا اعترضوا لها ..
فلما كثر ذلك على قريش ..
أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله أن يضمهم إليه .. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن يأتوا المدينة ؟
فلما وصل إليهم الكتاب .. استبشروا وفرحوا ..
لكن أبا بصير كان قد ألم به مرض الموت .. وهو يردد قائلاً : ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر ..
فلما دخلوا عليه وأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بسكنى المدينة .. وأن غربتهم انتهت .. وحاجتهم قضيت .. ونفوسهم أمنت ..
فاستبشر أبو بصير .. ثم قال وهو يصارع الموت : أروني كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فناولوه إياه ..(/5)
فأخذه فقبله .. ثم جعله على صدره .. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم شهق ومات ..
نعم .. مات أبو بصير .. ولم يذق من لذة الدنيا شيئاً ..
مات .. وهو قد خدم الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
مات .. لكنه استراح من عناء هذه الدار .. ويرجى أن يكون في دار القرار ..
ينظر فيها إلى وجه رب الأرض والسماء .. الذي سفك من أجله الدماء .. ومات مشرداً في الصحراء ..
* * * * * * * *
ولإن غلقت دونه أبواب الأرض .. فلعله فتحت له أبواب السماء ..
قال الله : { هذا ذكر وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } ..
فطوبى لأبي بصير .. من يثبت اليوم مثل ثباته ..
شابٌ أسعده الله بطاعته .. وحفظه برعايته .. وتولاه بعنايته ..
همه في الجد والطلب .. وبدنه في الصلاة والقُرَب ..
فلو رأيت بكاءه في الخلوات .. وعند تلاوة السور والآيات ..
لسمعت لصدره أنات .. ورأيت في وجهه حسرات ..
أذاقه الله طعم محبته .. ونعمه بمناجاته ..
فقطعه ذلك عن الشهوات .. وجانب اللذات ..
فهو راضٍ كل الرضا .. وإن اشتد عليه البلا ..
وأنت يا من لم تبتلى ببلائه .. ولم تُضَرَّ بضرائه ..
يا من تتقلب في النعم .. ولا تخشى النقم ..
يا من تنادى في الليل والنهار .. لطاعة العزيز الغفار ..
أنت يا من ملت منك الشهوات .. وتتابعت الزلات وعظمت السيئات .. أما آن لك أن تتوب .. وتترك الذنوب وتئوب ..
وربك ينظر إليك ويرقب .. ويسخط ويغضب .. والملائكة تسجل وتكتب .. وتحصي وتحسب ..
وأنت سادر في غفلاتك ..
أفلا تصبر على فراق لذة لراحة عظيمة .. وجنات كريمة ..
فاصبر قليلاً إنما هي ساعة فإذا أصبت ففي رضى الرحمن
فالقوم كانوا يألمون ويصبرو * ن وصبرهم في طاعة الرحمن
فاتعب قليل حياتك الدنيا تجد * راحاتِها وسرورَها بجنان
بالله ما عذر أمريء هو مؤمن * حقا بهذا ليس باليقظان
بل قلبه في رقدة فإذا استفا * ق فلبسه هو حلة الكسلان
كانوا يطيعون الله .. ويقدمون لأجله أرواحهم .. ويبذلون أموالهم .. وأبدانهم ..ولا يمنون عليه ذلك .. فهم المؤمنون حقاً ..
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ..
* * * * * * * * *
ومهما اشتد البلاء .. فهو قليل ما دام أن الجنة هي الجزاء ..
يستشعر العبد وقت بلائه .. أن الله قريب مجيب .. يسمع أناته .. ويجيب دعواته ..
يعظم له أجرَه .. ويضع عنه وزرَه .. والله لا يضيع أجر المحسنين ..
فمن تصبر على مفارقة الشهوات .. وغض بصره عن المحرمات .. وحفظ سمعه عن الأغنيات ..
وعف فرجه عن الفواحش والآثام ..ويده ورجله عن مواقعة الحرام..
بل من حاسب نفسه بما نظرت إليه عيناه .. أو سمعته أذناه ..
أو مشت إليه رجلاه .. أو لمسته يداه ..
من كان يعلم أن الله للعباد بالمرصاد .. يناقشهم الحساب ..
يراقب النظرات واللحظات .. والكلمات والهمسات ..
يحاسبهم على مثاقيل الذر .. ويراهم في البر والبحر ..
فمن كان هذا حاله ..خف في القيامة حسابه .. وحضر عند السؤال جوابه .. وحسن منقلبه ومآبه ..
وليبشر بالنعيم المقيم .. بجوار الحليم الكريم .. الذي يهون معه كل عذاب وبلاء ..
في السنة العاشرة من الهجرة ..
خرج مسيلمة الكذاب في اليمامة .. في نجد من الجزيرة العربية ..
فادعى النبوة .. وأنه رسول أنزل عليه قرآن ..
ومن قرآنه أنه كان يقول : والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ، واللاقمات لقماً ..
ويهذي هذياناً .. يسميه قرآناً .. فاستخف قومه فأطاعوه ..
فاتبعه سفهاء رعاع .. حتى صار له جند وأتباع ..
فاغتر بقوته .. وتطاول بسطوته .. فأرسل بكتاب إلى النبي .. يقول فيه : ( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله .. سلام عليك .. أما بعد فاني قد أشركت في الأمر معك .. وإن لنا نصفَ الأرض .. ولقريشٍ نصفَ الأرض .. ولكن قريشاً قوم يعتدون ) ..(/6)
فلما قرئ الكتاب على النبي عليه السلام .. عجب من جرأة مسيلمة على الملك العلام .. فكتب إليه ..
( بسم الله الرحمن الرحيم .. من محمد رسول الله .. إلى مسيلمة الكذاب .. السلام على من اتبع الهدى .. أما بعد فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) ..
ثم تلفت رسول الله J حوله .. ينظر في وجوه أصحابه .. يلتمس منهم رجلاً فطناً جريئاً يحمل هذا الكتاب .. إلى مسيلمة الكذاب .. فابتدر حبيب بن زيد رضي الله عنه ..
شاب ما أسرته عن خدمة الدين شهوة .. ولا انشغل عن ربه بلذة ..
امتلأ قلبه تصديقاً وإيماناً .. وقطع الليل تسبيحاً وقرآناً ..
أخذ الكتاب من يد النبي الأواب ..
ومضى به .. من المدينة إلى اليمامة .. فسار أكثر من ألف كيل .. حتى وصل إلى مسيلمة ..
فلما دخل على مسيلمة الكذاب .. ناوله الكتاب ..
فنظر مسيلمة في الكتاب .. فغضب وأزبد وأرعد ..
ثم جمع قومه حوله ..
وأوقف حبيب بن زيد بين يديه .. وسأله عن هذا الكتاب ..
فقال حبيب : هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقال مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ..
قال حبيب : نعم .. أشهد أن محمداً رسول الله ..
قال : وتشهد أني رسول الله ؟
فقال له حبيب مستهزئاً : إن في أذني صمماً عما تقول .. يعني أنت أقل وأذل .. من أن يُسمع كلامك ..
فأعاد عليه مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ..
قال حبيب : نعم .. أشهد أن محمداً رسول الله ..
قال : وتشهد أني رسول الله ؟ فقال حبيب : إني لا أسمع شيئاً !!
فأعاد عليه السؤال .. فكرر حبيب الجواب ..
فغضب مسيلمة .. ودعا السياف ..
وأمره أن يطعن بالسيف في جسد هذا الفتى .. وهو يكرر عليه السؤال .. ولا يسمع إلا جواباً واحداً .. لا يزيده إلا غيظاً وحقداً ..
فأمر مسيلمة السياف أن يفتح فم حبيب ويقطع لسانه ..
فأمسك به الجنود وفتحوا فمه .. حتى قطع السياف لسانه الذاكر .. ثم أوقفوه بين يدي مسيلمة الفاجر .. والدماء تسيل من فمه الطاهر ..
فصاح به مسيلمة : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ ..
فأشار حبيب برأسه : نعم .. قال : وتشهد أني رسول الله ؟
فأشار برأسه : لا .. فأمر مسيلمة سيافه ..
فقطع يده .. ثم قطع رجله .. وجدع أنفه .. واحتزّ أذنه ..
وراح يقطع جسده قطعة قطعة .. ولحمه يتساقط .. ودماؤه تسيل .. وهو ينتفض على الأرض .. ويئن من الألم .. حتى مات رضي الله عنه ..
نعم .. قطع لسانه .. ومزق جسده .. وكسّرت عظامه .. في سبيل رضا الرحمن جل جلاله ..
حتى إذا أوقف بين يديه يوم القيامة .. فسأله ربه : يا عبدي لم قُطع لسانك .. وجدع أنفك .. وبترت يدك .. وسفك دمك ..
قال : في رضاك يا رب العالمين .. وما لجرح إذا أرضاكم ألم ..
نعم .. من أجلكم يا ربِّ .. تنقلب الآلام إلى غرام .. والأنات إلى لذات .. والبكاء إلى حداء .. والدماء إلى مسك وفيحاء ..
ولئن عذبت يا رب في الأرض .. فبيض وجهي يوم العرض ..
عندها يفرح ربه بلقائه .. ويبدل ألمه بنعمائه .. يرفع درجته .. ويغفر زلته .. ولعله يناجيه ربه فيقول : يا عبدي تقلب في النعيم كما تشاء..
فاليوم أنعمك نعيماً لا شقاء معه أبداً .. وأعطيك مُلكاً لا تشارك فيه أحداً ..
الملائكة يدخلون عليك من كل باب .. والنعيم بين يديك يأخذ بالألباب ..
ولدينا مزيد وزيادة .. وفرحة وسعادة ..
فآهٍ .. ما أحسن تلك المحاضرة .. مع ملِكِ الدنيا والآخرة ..
{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } ..
نعم هو رب رحيم .. حياة القلوب في محبته .. وأنس النفوس في معرفته ..
وراحة الأبدان في طاعته .. ولذة الأرواح في خدمته ..
وكمال الألسن بالثناء عليه وذكره .. وعزها بالتعبد له وشكره ..
فأهل ذكره هم أهل مجالسته .. وأهل طاعته هم أهل كرامته ..
أما أهل معصيته فلم يقنطهم من رحمته .. فإن تابوا فهو حبيبهم .. وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم .. يبتليهم بأنواع المصائب .. لييغفر لهم المعائب ..
{ ألم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ *وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } ..
* * * * * * * * *
وبعض الناس .. تشتاق نفسه إلى الهداية ..(/7)
لكنه يمنعه الكبر من اتباع شعائر الدين ..
نعم يتكبر عن تقصير ثوبه فوق الكعبين .. وإعفاء لحيته ومخالفة المشركين .. فجمال مظهره أعظم عنده من طاعة ربه ..
وبعض النساء كذلك .. لا تزال تتساهل بأمر الحجاب .. حرصاً على تكميل زينتها .. وحسن بزتها .. أو تعصي ربها بنتف حاجبها .. أو تضييق لباسها .. وإذا نصحت استكبرت وطغت ..
ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر .. فكيف إذا كان هذا الكبر مانعاً من الهداية ..
كان جبلة بن الأيهم ..
ملكاً من ملوك غسان .. دخل إلى قلبه الإيمان ..
فكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه .. يستأذنه في القدوم عليه ..
فسرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً ..
وكتب إليه عمر : أن اقدم إلينا .. ولك مالنا وعليك ما علينا ..
فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه ..
فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب .. ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر ..
وألبس جنوده ثياباً فاخرة ..
ثم دخل المدينة .. فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ..
فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ..
فلما دخل موسم الحج حج عمر .. وخرج معه جبلة ..
فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة ..
فالتفت إليه جبلة مغضباً .. فلطمه فهشم أنفه ..
فغضب الفزاري .. واشتكاه إلى عمر بن الخطاب ..
فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف .. فهشمت أنفه !
فقال : إنه وطئ إزاري ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ..
فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت .. فإما أن ترضيه .. وإلا اقتص منك .. ولطمك على وجهك ..
قال : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة !
قال عمر : يا جبلة .. إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه .. فما تفضله بشيء إلا بالتقوى ..
قال جبلة : إذن أتنصر ..
قال عمر : من بدل دينه فاقتلوه .. فإن تنصرت ضربت عنقك ..
فقال : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ..
قال : لك ذلك .. فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة .. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ..
فلما مضى عليه زمان هناك .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات .. فتذكر أيام إسلامه .. ولذة صلاته وصيامه ..
فندم على ترك الدين .. والشرك برب العالمين ..
فجعل يبكي ويقول :
تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم ما زال على نصرانيته حتى مات .. نعم .. مات على الكفر لأنه تكبر عن الذلة لشرع رب العالمين ..
* * * * * * * *
فمن أراد السعادة الأبدية .. فليلزم عتبة العبودية ..
وليكن لربه أكثرَ تواضعاً وذلاً .. يسجد بين يديه .. ويتقرب إليه ..
مستجيباً لأمره .. منتهياً عن نهيه وزجره ..
قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ..
* * * * * * * *
وقد يرغب المرء في الهداية .. ويستقيم عليها زماناً .. ثم يغرى بمتع الدنيا .. إما بجاه .. أو وظيفة .. أو مال .. أو صداقة .. فيترك دينه لأجلها ..
أو يلتف عليه أقران يزينون له الشهوات .. ويدعونه إلى الملذات .. فيشاركهم في منكرهم .. ويسكت عن معصيتهم ..
فينتقل من عز الطاعة إلى ذل المعصية .. فيرتد على عقبيه بعد إذ هداه الله ..
وفي الصحيحين : أن رجلاً كان قارئاً كاتباً .. فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي .. وقد كان حفظ البقرة وآل عمران ..
وكان الرجل إذا حفظ البقرة .. وآل عمران ارتفع قدره عند الصحابة ..
فأغراه بعض المشركين .. بدنيا .. ومال .. ونساء .. فارتد عن الإسلام ولحق بعباد الأصنام .. طلباً لهذه المتع ..
وأخذ يستهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ويقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له ..
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبره .. فقال :
اللهم اجعله آية .. فلم يلبث أن مات .. نعم مات .. وانقطعت اللذات ..
وبقيت الحسرات .. وعظمت السيئات ..
فلما مات .. حفروا له فدفنوه ..
فلما أصبحوا .. مروا بقبره .. فإذا الأرض قد نبذته فوقها .. وإذا جثته ملقاة على التراب .. فعجبوا !! كيف أخرج من قبره !!
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا أكثر ما استطاعوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..(/8)
فقالوا : هذا ليس من فعل البشر ..
فتركوه منبوذاً .. على الأرض تمر به الكلاب فتفتح رجليها فوقه .. وتبول على وجهه ..والثعالب تنهش من لحمه..والغربان تأكل من جسده ..
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ..
* * * * * * * *
ومن الناس .. من يستقيم زماناً على الطاعات .. ويأنس برب الأرض والسموات ..
يتلذذ بمناجاته .. ويحي قلبه بمحبته .. وتأنس نفسه بمعرفته ..
لكنه يرى أهل المعاصي والشهوات .. فيشتاق أن يجرب عيشهم .. ويتمتعَ متعهم .. يظن أنهم سعداء .. فلا يلبث أن يتبين له الكربُ والبلاء ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم..وكان حصناً منيعاً..فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ..
قال الله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ..
* * * * * * * *
هذا خبر ابن عبد الرحيم .. أغري بفتنة النساء .. فأشرك برب الأرض والسماء ..
وقد يغرى المرء بالمال .. فيكفر بالكريم المتعال ..
وانظر إلى الأعشى بن قيس ..
فكان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في دخول الإسلام ..
مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليمُ مسهدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
وآليت لا آوي لها من كلالة * ولا من حَفىً حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه السلام ..
راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
قال : بل دينه خير وأقوم ..
قالوا : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. قال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام .. قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
قال : أما المال .. فنعم .. فجمعوها له .. فارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً .. فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ) ..
* * * * * * * *
وإذا أردت أن تتيقن .. بعاقبة مخالطة الفساق وأهل الفساد ..
فانظر إلى عبيد الله بن جحش .. كان مجالساً للنبي صلى الله عليه وسلم ..
بل كان ممن أوذي في دينه وضيق عليه في مكة .. فهاجر مع المسلمين إلى الحبشة .. ترك أهله وبلده .. وماله وبيته .. في سبيل الله ..
وكانت معه زوجته أم حبيبة ..
فكثرت مخالطته للنصارى .. وابتعد عن المسلمين ..
فما زال حاله يتردى .. حتى أصبح يوماً فقال لزوجته أم حبيبة :
إني نظرت في الأديان فلم أر ديناً خيراً من النصرانية ..
ففزعت .. وقالت : والله ما هو خير لك .. واتق الله ..(/9)
فلم يلتفت إليها .. بل كفر بربه .. وعلق الصليب على صدره .. وأكب على الخمر يشربها .. ويخالط النصارى .. حتى مات ..
نسأل الله الثبات على دينه حتى الممات ..
ولعظيم أثر الصحبة في الثبات ..
أمر الله المؤمنين والمؤمنات .. بلزوم الصالحين والصالحات ..
وحذرهم من حال غيرهم ..
فقال الله : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ..
* * * * * * * *
ومما يزيد المؤمن صلابة في دينه .. وثباتاً عليه .. أن يحمل هم الدين ..
أن يكون مؤثراً في العصاة لا متأثراً بهم ..
ينصح هذا .. ويعظ ذاك .. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
يدعو بالشريط النافع .. والكتاب المؤثر .. والنصيحة الصادقة .. ليزداد إيماناً مع إيمانه .. وقوة في استقامته ..
وانظر إلى الجبال الراسيات .. والخطى الثابتات ..
انظر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه .. وتأمل في حرصه على الدعوة إلى الله .. واعجب من قوة ثباته على الدين ..
أخرج ابن سعد في الطبقات .. والطبري في الرياض النضرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته كان يدعو إلى الإسلام في مكة سراً .. وكان المسلمون يختفون بدينهم ..
فلما تكامل عددهم ثمانية وثلاثين رجلاً ..
ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
فلم يزل أبو بكر يلح عليه حتى خرج صلى الله عليه وسلم .. إلى المسجد .. وخرج المسلمون معه..وتفرقوا في نواحي المسجد..كل رجل في عشيرته..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. فكان أول خطيب دعا إلى الله .. فلما رأى المشركون من يسفه آلهتهم .. ويتنقص دينهم ..
ثاروا على أبي بكر وعلى المسلمين ..
فجعلوا يضرِبونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
وأبو بكر يجهر بالدين .. فأحاط به جمع منهم ..
فضربوه .. حتى وقع على الأرض .. وهو كهل قد قارب عمره الخمسين سنة ..
ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. وجعل يطأ على بطنه وصدره .. ويضربه بنعلين مخصوفين .. ويحرفهما على وجهه .. حتى مزق لحم وجهه .. وجعلت دماؤه تسيل .. حتى ما يعرف وجهه من أنفه .. وأبو بكر مغمى عليه ..
فجاءت قبيلته بنو تيم يتعادون .. ودفعوا المشركين عنه ..
وحملوه في ثوب .. ولا يشكون في موته .. حتى أدخلوه منزله ..
وقعد أبوه وقومه عند رأسه .. يكلمونه فلا يجيب ..
حتى إذا كان آخر النهار .. أفاق .. وفتح عينيه .. فكان أول كلمة تكلم بها ان قال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ؟؟
فغضب أبوه وسبه .. ثم خرج من عنده ..
فقعدت أمه عند رأسه .. تجتهد أن تطعميه أو تسقيه .. وتلحّ عليه ..
وهو يردد : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه .. وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها ..
فخرجت أمه حتى جاءت أم جميل فقالت :
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟
فقالت أم جميل : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمداً .. ولكن إن أحببت مضيت معك إلى ابنك ..
قالت : نعم .. فمضت معها ..
فلما دخلت على أبي بكر .. وجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. ودماؤه تسيل ..
فبكت وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
فالتفت إليها أبو بكر .. وما يكاد يطيق .. فقال : يا أم جميل .. ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قالت : هذه أمك تسمع .. قال : فلا شيء عليك منها ..
قالت : سالمٌ صالحٌ .. قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد عرفت خبر صاحبك .. فكل واشرب الآن ..
فقال : لا .. إن لله علي أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فأراه بعيني ..
فأمهلتاه .. حتى إذا أظلم الليل .. وهدأ الناس ..
حاول أن يقوم .. فلم يستطع .. فخرجت به أمه وأم جميل يتكئ عليهما .. حتى ادخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أكب عليه يقبله ..
وأكبَّ عليه المسلمون .. ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة ..
وأبو بكر يقول : بأبي وأمي أنت يا رسول الله .. ليس بي من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بولدها .. وأنت رجل مبارك .. فادعها إلى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..(/10)
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعاها إلى الله .. فأسلمت ..
فهذا الحرص العظيم .. من أبي بكر ..
كان أول ثمراته أن ثبته الله على الدين ..
فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. شكك بعض الناس في موته ..
وقام عمر رضي الله عنه بسيفه يتهدد من يقول بموته ..
فيرقى أبو بكر المنبر بخطى ثابتات .. ويفصل النزاع بقوله :
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
ثم ترتد قبائل حول مكة .. فيقف لهم أبو بكر .. ثابتاً راسياً .. حتى أعاد قوة الإسلام ..
بل إن من ثمرات هذا الحرص أن أسلم على يديه أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
* * * * * * * *
وينبغي على الفتى والفتاة .. بل على المسلمين والمسلمات ..
إذا عرضت لأحدهم شهوة .. أو شعر في قلبه بقسوة ..
أو أحس بفتور عن الطاعات .. ورغبة في المحرمات ..
أن يشكو همه إلى أخٍ ناصح أمين ..
وقد كان بعض السلف يقول لبعض : تعال بنا نؤمن ساعة ..
وروى الترمذي والنسائي بسند حسن ..
أن مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه .. كان يخرج من المدينة .. إلى مكة مختفياً .. ويذهب إلى البيوت التي يحبس فيها أسرى المسلمين فيطلقهم من قيودهم .. ويحملهم إلى المدينة ..
فدخل مكة ليلة من الليالي .. وواعد أحد الأسرى في موضع منها ..
فبينما هو يمشي إليه .. إذ مرَّ بامرأة بغي بمكة .. يقال لها عناق ..
وكانت صديقة له في الجاهلية ..
فلما رآها اختبأ في ظل جدار فرأته .. فأقبلت إليه ..
فلما نظرت إلى وجهه عرفته .. فقالت : مرثد ؟ قال : مرثد ..
قالت : مرحباً وأهلاً .. هلم فبت عندنا الليلة ..
فقال : يا عناق حرم الله الزنا ..
فقالت : لتفعلن أو لأفضحن .. قال : لا ..
فصاحت : يا أهل الخيام .. هذا الرجل يحمل أسراكم ..
ففزع مرثد .. وهرب .. فتبعه ثمانية منهم .. فدخل حديقة ..
واختبأ في غار فيها ..
فدخلوا وراءه فأعماهم الله عنه ..
فرجعوا إلى رحالهم ..
فلبث في مخبئه يسيراً .. ثم خرج إلى موضع صاحبه ..
فحمله معه حتى خرج به من مكة .. ففك عنه قيوده .. حتى أتيا المدينة ..
نعم .. وصلا المدينة .. لكن قلبه لا زال يتذكر تلك المرأة ..فلم يطق صبراً ..
فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال :
يا رسول الله .. أنكِحُ عناقاً .. أتزوجها ..؟
فأعرض عنه .. فأعاد عليه : يا رسول الله .. أنكح عناقاً ..
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. حتى أنزل الله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } ..
فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام .. فقال له : " يا مرثد : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة .. والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك .. فلا تنكحها ".
فرضي الله عن مرثد .. تأمل كيف تدارك نفسه رضي الله عنه .. بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حتى ذهب ما وسوس به الشيطان له ..
* * * * * * * *
وذكر أبو نعيم في الحلية :
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال :
بعدما كبر أبي وذهب بصره .. قال لي : هلم بنا إلى الحسن البصري ..
فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري .. فلما دخلنا على الحسن قال له أبي :
يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة .. فاستلن لي منه ..
فقرأ الحسن { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ..
فبكى أبي .. حتى سقط .. وأخذ يضرب برجله الأرض ..
كما تضرب الشاة المذبوحة ..
وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب ..
فجاءت الجارية .. فقالت : قد أتعبتم الشيخ .. قوموا تفرقوا ..
فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة .. ثم قال : يا بني .. لقد قرأ علينا آيات .. لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً .. أي جروحاً ..
نعم ..
لا بد من شكوى إلى ذي مروءة * يناجيك أو يسليك أو يتوجع ..
* * * * * * * *
ومن أعظم وسائل الثبات على الدين ..أن يكون المرء طائعاً لله في سره وعلنه ..
صح عند ابن ماجة وغيره .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء .. فيجعلها الله هباء منثوراً .. قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا .. جلهم لنا .. لا نكون منهم ونحن لا نعلم ..
قال : أما إنهم إخوانكم .. ومن جلدتكم .. ويأخذون من الليل كما تأخذون .. ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ..
خلت امرأة برجل يوماً .. فكان الشيطان ثالثهما .. فدعته إلى الفاحشة .. فقال : إن رجلاً يبيع جنة عرضها السموات والأرض .. بلذة فانية .. لمجنون ..
وقد كان الصالحون .. يعجبهم أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح .. بينه وبين ربه لا يعلمها أحد .. من صدقة في السر .. أو نصيحة لمقصر .. أو كفالة يتيم .. أو أرملة ومسكين .. أو قيام في الأسحار .. وصيام في النهار .. ودعاء واستغفار ..(/11)
أو ختم للقرآن .. وذكر دائم للرحمن ..
والله لا يضيع أجر المحسنين ..
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء .. فاحتبس فيها شيئاً يسيراً .. ثم عاد إلى المدينة ..
فعجب عمر رضي الله عنه من خروجه .. فتبعه يوماً خفية بعدما صلى الفجر ..
فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي على خيمة قديمة في الصحراء .. فاختبأ له عمر خلف صخرة ..
فلبث أبو بكر في الخيمة شيئاً يسيراً .. ثم خرج ..
فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة .. فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء .. وعندها صبية صغار ..
فسألها عمر : من هذا الذي يأتيكم ..
فقالت : لا أعرفه .. هذا رجل من المسلمين .. يأتينا كل صباح .. منذ كذا وكذا ..
قال فماذا يفعل : قالت : يكنس بيتنا .. ويعجن عجيننا .. ويحلب داجننا .. ثم يخرج ..
فخرج عمر وهو يقول : لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر .. لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ..
* * * * * * * *
ولم يكن عمر رضي الله عنه بعيداً في تعبده وإخلاصه عن أبي بكر ..
فقد خرج مرة رضي الله عنه إلى ضواحي المدينة .. فإذا برجل عابر سبيل نازل وسط الطريق .. وقد نصب خيمة قديمة .. وقعد عند بابها .. مضطربَ الحال .. فسأله عمر : من الرجل ؟
قال : من أهل البادية .. جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
فسمع عمر أنين امرأة داخل الخيمة .. فسأله عنه ؟
فقال : انطلق رحمك الله لحاجتك ..
قال عمر : هذا من حاجتي ..
فقال : امرأتي في الطلق - يعني تلد - وليس عندي مال ولا طعام ولا أحد ..
فرجع عمر إلى بيته سريعاً .. فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لك في خير ساقه الله إليك ؟
قالت : وما ذاك .. فأخبرها بخبر الرجل .. فحملت امرأته معها متاعاً .. وحمل هو جراباً فيه طعام .. وقدراً وحطباً .. ومضى إلى الرجل ..
ودخلت امرأة عمر على المرأة في خيمتها ..
وقعد هو عند الرجل .. فأشعل النار وأخذ ينفخ الحطب .. ويصنع الطعام .. والدخان يتخلل لحيته .. والرجل قاعد ينظر إليه ..
فبينما هو على ذلك .. إذ صاحت امرأته من داخل الخيمة .. يا أمير المؤمنين .. بشر صاحبك بغلام ..
فلما سمع الرجل .. أمير المؤمنين .. فزع وقال : أنت عمر بن الخطاب .. قال : نعم .. فاضطرب الرجل .. وجعل يتنحى عن عمر.. فقال له عمر : مكانك ..
ثم حمل عمر القدر .. وقربه إلى الخيمة وصاح بامرأته .. أشبعيها ..
فأكلت المرأة من الطعام .. ثم أخرجت باقي الطعام خارج الخيمة ..
فقام عمر فأخذه فوضعه بين يدي الرجل .. وقال له : كل .. فإنك قد سهرت من الليل ..
ثم نادى عمر امرأته فخرجت إليه ..
فقال للرجل : إذا كان من الغد .. فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
* * * * * * * *
وهكذا كان من بعدهم ..
فكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل .. فيتصدق بها..ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ..
فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد .. فقالوا : هذا ظهر حمال .. وما علمناه اشتغل حمالاً ..
فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة .. من بيوت الأرامل والأيتام .. كان يأتيهم طعامهم بالليل .. لا يدرون من يحضره إليهم .. فعلموا أنه الذي ينفق عليهم ..
وصام أحد السلف عشرين سنة .. يصوم يوماً ويفطر يوماً .. وأهله لا يدرون عنه .. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه .. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام .. وإذا كان يوم فطره أكله ..
فإذا غربت الشمس .. رجع إلى أهله وتعشى معهم ..
نعم .. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم ..
هم المتقون حقاً .. وأولياء الله صدقاً .. والله يقول : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا } ..
فطوبى لقلوب ملأتها خشيته .. واستولت عليها محبته ..
أصبحت الطاعة لهم عادة .. والحركات والسكنات لهم عبادة ..
والله لو جالست نفسك خاليا * وبحثتها بحثا بلا روغان
لوجدت خير العيش عيشهم فإن ..تقعد رجعت بذلة وهوان
فالحق شمس والعيون نواظر * لا تختفي إلا على العميان
والقلب يعمى عن هداه مثلما تعمى * وأعظم هذه العينان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه تجريد هذا الحب للرحمن
فإذا تخلى منه أصبح حائراً ويعود في ذا الكون ذا خسران
* * * * * * * *
وعلى من وفقه الله للاستقامة على هذا الدين .. أن لا يغتر بطول استقامته .. ولا كثرةِ صلاته وعبادته ..
بل يسأل ربه الثباتَ على الدين .. والعصمةَ واليقين ..
وانظر إلى محطم الأصنام..وباني البيت الحرام..إبراهيمَ عليه السلام..
يبني البيت وهو يبتهل إلى ربه ويقول:واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ..
ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ..
وقالت عائشة رضي الله عنها .. كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..(/12)
وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور..يعني من الضلال بعد الهدى..
ومن أقوى وسائل الثبات .. الاشتغال بميراث الأنبياء .. من طلب العلم النافع .. وحضور مجالسه .. ومخالطة أهله .. وقراءة كتبه ..
والعالم أشد على الشيطان من ألف عابد .. وفضل العالم عل العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ..
* * * * * * * *
وختاماً .. فإن من وسائل الثبات على الدين ..
أن يتصور العبد عاقبة صبره على الطاعات .. ومجانبة المحرمات ..
فكيف يبيع العاقل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ..ولا خطر على قلب بشر
بعيش زائل كأنه أحلام ..
كيف تباع جنةٌ عرضها الأرض السموات .. بسجن مليء بالبليات ..
ومساكنُ تجري من تحتها الأنهار .. بأعطان آخرها الخراب والبوار ..
وكيف تباع أبكارٌ كأنهن الياقوت والمرجان .. بقذرات دنسات مسافحات ..
وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين .. بشراب مفسد للدنيا والدين ..
وكيف تباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم .. بالنظر إلى وجه فاجرة قبيح دميم ..
وسماعُ الخطاب من الرحمن .. بسماع المعازف والألحان ..
وكيف يباع الجلوسُ على منابر اللؤلؤ يوم المزيد .. بالجلوس مع كل شيطان مريد ..
نعم .. كيف ترغب عنها !! وهي دار غرسها الرحمن بيده .. وجعلها مقراً لأحبابه ..
ووصف دخولها بالفوز العظيم .. وملكَها بالملك الكبير ..
فإن سألت عن تربتها فهي المسك والزعفران ..
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن ..
وحصباؤها لؤلؤ وجوهر .. وبناؤها فضة وذهب ..
وإن سألت عن ثمرها فأحلى من العسل ..
وإن سألت عن ورقها فألين الحلل ..
أما أنهارها فأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه .. وأنهار من خمر لذة للشاربين ..وأنهار من عسل مصفى ..
وطعامهم فاكهةٌ مما يتخيرون..ولحمُ طير مما يشتهون ..
ولباس أهلها الحرير والذهب .. وفرشها بطائن في أعلى الرتب ..
وخدمهم ولدان مخلدون .. كأنهم لؤلؤ مكنون ..
* * * * * * * * *
فهم في روضاتها يتقلبون .. وعلى أسرتها يتكئون ..
ومن ثمارها يتفكهون .. ويطوف عليهم ولدان مخلدون ..
يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً..ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً ..
فواعجباً لها كيف نام طلابها ؟ وكيف لم يتسابق إليها عشاقها !
وربهم يناديهم بقوله :
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } ..
* * * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
هذه وسائل الثبات .. لمن أراد السلامة والنجاة ..
ونحن في زمن كثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
فتن تفتن الأبصار .. وأخرى تفتن الأسماع .. وثالثة تسهل الفاحشة .. ورابعة تدعوا إلى المال الحرام ..
حتى صار حالنا قريباً من ذلك الزمان .. الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما : ( فإن وراءكم أيام الصبر .. الصبر فيهن كقبض على الجمر .. للعامل فيهن أجر خمسين منكم .. يعمل مثل عمله ..
قالوا : يا رسول الله .. أو منهم .. قال : بل منكم .. ) .. حديث حسن ..
وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : بدأ الإسلام غريباً .. وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء .. نعم طوبى للغرباء ..
وإنما يعظم الأجر للعامل الصالح في آخر الزمان .. لأنه لا يكاد يجد على الخير أعواناً .. فهو غريب بين العصاة .. نعم غريب بينهم ..
يأكلون الربا ولا يأكل .. ويسمعون الغناء ولا يسمع .. وينظرون إلى المحرمات ولا ينظر .. بل ويقعون في السحر والشرك .. وهو على التوحيد ..
وعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌ منه حتى تلقوا ربكم ..
وأخرج البزار بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين .. ولا أجمع له أمنين .. إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة .. وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ..
نعم .. من كان خائفاً في الدنيا .. معظماً لجلال الله .. أمن يوم القيامة .. وفرح بلقاء الله .. وكان من أهل الجنة الذين قال الله عنهم :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } ..
أما من كان مقبلاً على المعاصي .. همه شهوة بطنه وفرجه .. آمناً من عذاب الله .. فهو في خوف وفزع في الآخرة ..(/13)
قال الله : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ } ..
فتوكل على الله إنك على الحق المبين ..
ولا تغتر بكثرةِ المتساقطين .. ولا ندرةِ الثابتين ..
ولا تستوحش من قلة السالكين ..
يا معرضا عما يراد به وقد * جد المسير فمنتهاه داني
جذلان يضحك آمنا متبختراً * وكأنه قد نال عقد أمان
خلع السرور عليه أو في حله * طردت جميع الهم والأحزان
يختال في حلل المسرة ناسياً * ما بعدها من حلة الأكفان
ما سعيه إلا لطيب العيش في الدنيا ولو أفضى إلى النيران
قد باع طيب العيش في دار النعيم بذا الحطام المضمحل الفاني
* * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات .. وترك المنكرات ..
وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ..
وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..
كتبه /
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
26/12/1422هـ
arefe@arefe.com(/14)
زخرفة المسجد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
فإن الله قد اقتضت حكمته تفضيل بعض الأمور على بعضها، ففضّل سبحانه بعض الرسل على بعض، وفضّل بعض الأيام على بعض، وفضّل بعض الساعات على بعض، وفضل بعض الليالي على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، ومن هذه الأماكن التي فضلها الله المساجد.
فقد أضاف الله المساجد لنفسه تشريفاً وتعظيماً، فقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} سورة الجن(18).
ووصف المسجد في موطن المدح والإطراء، حيث أتبع - سبحانه - نوره بذكر المسجد، وكأنه ينبه عباده إلى أن ذلك النور جزء من نوره، فمن يريد نوره فعليه بالمرابطة بالمسجد، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}.
وتوعد- سبحانه- من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بالخزي والعذاب في الدنيا والآخرة، وبين أنه لا أظلم منه؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ومما يدخل في تخريب المسجد تلك الزخارف والنقوش والزينات التي يتنافس فيها الجهلة من المسلمين، فنجد الناس قد غيروا وبدلوا وزاد وحرفوا وابتدعوا؛ فلم تسلم هذه الأماكن المباركة من الابتداع فيها مالم يأذن به الله، فقد دخل على المسجد بدع كثيرة، ومن هذه البدع، بدعة الزخرفة والزينة.
تعريف الزخرفة:
الزخرفة: هي الزينة، وأصل الزخرف الذهب ثم استعمل في كل ما يتزين به1، ومنه قوله تعالى:{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .
بعض مظاهر الزخرفة:
إن الزخرفة تعني وضع الزينة في المسجد بأي مظهر من المظاهر التالية:
1- تزين الجدران بالذهب والفضة.
2- نقش الجدران بالألوان والأصباغ المختلفة.
3- وضع التصاوير وأنواع السجاد والنقوش والقناديل والستائر على المنائر.
4- وضع السرج الكثيرة في ليال محدودة، أو في أعياد بدعية؛ كما قال الإمام النووي- رحمه الله - ومن البدع المنكرة ما يفعله الناس في كثير من البلدان من إيقاد القناديل الكثيرة العظيمة في ليال معروفة من السنة؛ كليلة النصف من شعبان، فيحصل بسبب ذلك مفاسد كثيرة، منها: مضاهاة المجوس في الاعتقاد بالنار، والإكثار منها، ومنها: إضاعة المال في غير وجهه، ومنها: ما يترتب على ذلك في كثير من المساجد من اجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم، ورفع أصواتهم، وامتهانهم في المساجد، وانتهاك حرماتها، وحصول أوساخ فيها، وغير ذلك من المفاسد التي يجب صيانة المسجد من أفراده2.
وإضافة إلى ما ذكره الإمام النووي من اختلاط الرجال والنساء، وشرب الدخان، والرقص والطرب والتمايل يمنة ويسرة، وذلك عند التواشيح البدعية والشركية التي يزعمون أنهم يمدحمون النبي - صلى الله عليه وسلم- بها .
حكم الزخرفة:
وقد يستغرب البعض عندما يسمع أن الزخرفة للمساجد من البدع المحرمة؛ وذلك لأن كثيراً من مساجد المسلمين اليوم لا تخلو منها - إلا ما شاء الله- ولأن الناس اليوم قد أحدثوا في الدين مالم يأذن به الله، ومن براهين ذلك:
الدليل الأول: ما رواه أبو داود السجستاني عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أمرت بتشييد المساجد" . يخبر النبي أنه لم يأمره الله بتشييد المساجد، وكل مالم يأمر بالله ورسوله، فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم.
قال العلامة الصنعاني - رحمه الله : وقوله- صلى الله عليه وسلم – "ما أمرت" إشعار بأنه لا يحسن ذلك، فإنه لو كان حسناً لأمره الله به3.(/1)
الدليل الثاني: ما أخرجه ابن المبارك في الزهد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (585) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: " إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم".
في هذا الحديث يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المسلمين إذا زخرفوا المساجد، وخالفوا أمر الله ورسوله؛ وذلك لأنه كما سبق لم يأمر بزخرفتها، فإن الدمار عليهم، وقد يكون هذا دعاءٌ من النبي على من زخرف المساجد، فتخيل حال من دعا النبي - صلى الله عليه وسلم عليه بالدمار؟! لا شك أن حاله إما فتنة في دينه أو دنياه، وفي الآخر عذابٌ أليم، قال الله- تعالى-:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم}.
الدليل الثالث: أن في الزخرفة وتشيد المساجد ضرب من التباهي المذموم، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من علامات الساعة التباهي بالمساجد، فعن أنس – رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".
وقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم - فلقد تباهى الناس بالمساجد، فتجد البعض من الأمراء والقادة والوزراء ورجال الأعمال يبنون المساجد ويزخرفونها، ثم لا يصلون فيها إلا في مواسم معينة،وربما أعلنوا عن بنائهم لذلك المسجد عبر وسائل الإعلام المختلفة.
قال العلامة ابن رسلان – رحمه الله- : هذا الحديث فيه ظاهرة لإخباره - صلى الله عليه وسلم - عما يقع فإن تزيين المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان.. بأخذهم أموال الناس ظلماً وعمارتهم بها المد راس على شكل بديع، نسأل الله السلامة والعافية4.
ولكن لا يفهم من ذلك ذم بناء المسجد بحد ذاته، ولكن المقصود ذم ما أحدثه الناس فيه من البدع والمباهات التي تغضب الجبار تبارك وتعالى.
الدليل الرابع: أن في زخرفة المساجد إتباع لسنن اليهود والنصارى، فما من كنيسة ولا معبد يهودي إلا وفيه أنواع الزخارف والنقش والتصاوير؛ حتى أنهم يصورون صور أنبيائهم على جدران معابدهم، وقد سار بعض جهلة المسلمين على طريقتهم؛ حتى أن بعض المساجد التي يقوم عليها بعض الفرق الضالة من تعلقون صور مشايخهم في نحو القبلة، وعلى جوانب المساجد، وهذا ما أخبرني به من اثق بديانته أنه دخل بعض مساجدهم ورأى ما فيها من البدع والصور، وصدق الصادق المصدوق حيث قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن" رواه البخاري ومسلم.
وقال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس- رضي الله عنه- كما في البخاري موقوفاً:- لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى.
وقال الشيخ حمود التو يجري: النوع العشرون: ومن التشبه بأعداء الله - تعالى - ما ابتلي به كثير من المسلمين قديماً وحديثاً من تشييد المساجد وزخرفتها، والتباهي بها قديماً وتشيد الماضين وزخرفتهم ومباهاتهم لا شيء بالنسبة إلى تشييد أهل زماننا وزخرفتهم بعضهم بعضاً، وهذا من أشراط الساعة5.
الدليل الخامس: أن الزخرفة تؤدي إلى مفاسد كثيرة، منها إفساد الخشوع على الناس في صلاتهم، وقد كان النبي من أحرص الناس على الخشوع في الصلاة، فلقد دخل ذات يوم بيتاً، فرأى فيه قرني الكبش، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن طلحة فقال له: " إني كنت رأيت قرني الكبش حيث دخلت، فنسيت أن آمرك أن تخمرها، فخمرها، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي" رواه أحمد.
قال الشوكاني: والحديث يدل على كراهة تزيين المحاريب وغيرها مما يستقبله المصلي بنقش أو تصوير أو غيرهما مما يلهي، وعلى أن تخمير التصاوير مزيل لكراهة الصلاة في المكان الذي هي فيه لارتفاع العلة، وهي اشتغال القلب المصلي بالنظر إليه6.
هذا إذا كان في البيت، والذي لا يشرع فيه إلا صلاة النافلة، وأهل البيت الذين عددهم قليل جداً، فكيف بالمساجد التي يصلى فيها الصلوات الخمس المفروضة، وعدد المصلين فيها بالمئات، بل بعضها يكون عدد المصلين بالآف، والذي يعد الخشوع فيها ركن من أركان الصلاة، ؟ لا شك أن الأمر أشد من ذلك وأخطر.
ومما يؤيد أن الزخارف والنقوش تلهي المصلي في صلاته، ما رواه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: " أميطي قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي" وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بـ: باب إذا صلّى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك.(/2)
وما رواه - أيضاً - البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها- في الخميصة التي كان لها أعلام فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فلما انصرف، قال صلى الله عليه وسلم: " اذهبوا بخميصتي – والخميصة كساء مربع له أعلام- هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي".
فكيف بالمسجد الذي بداخله أنواع النقوشات والألوان والساعات المتحركة، والرسوم المختلفة؟ فما حال صلاة من يصلي فيه؟ وماذا يقال فيمن فعل ذلك؟!!
الدليل السادس: أن الزخرفة مظهر من مظاهر السرف وإضاعة المال، وقد حذرنا الله من ذلك فقال: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}. وفي البخاري ومسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " إن الله حرم ثلاثاً، ونهى عن ثلاث، حرم عقوق الوالدين، ووأد البنات، ومنعاً وهات، ونهى عن ثلاث عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وعن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن عمله ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7300).
واجب العلماء وولاة الأمر حيال هذه البدعة:
إن الواجب على العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبيان للناس البدع التي عمت وطمت كثير من المساجد، ومنها هذه البدعة التي سبقت أدلتها، ولما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" فعلى العلماء البيان باللسان، وعلى ولاة الأمر التغير باليدان،كما كان محمد - عليه الصلاة والسلام – فقد رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده الشريفة، وقد علق الحافظ ابن حجر على حديث النخامة في المسجد وحك النبي لها، بقوله: وفي هذا الحديث من الفوائد تفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم – هذا دل على عظيم تواضعه زاد ه الله تشريفاً وتعظيماً 7.
وقال العلامة ابن الحاج: وينبغي له – أي لولي الأمر- أن يغير ما أحدثوه – أهل البدع والأهواء- من الزخرفة في المحراب وغيره، فإن ذلك من البدع، وهو من أشراط الساعة8.
ولما رأى عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - ابناً له كتب في الحائط – أي المسجد- بسم الله الرحمن الرحيم ضربه.
فكيف لو رأى عمر بن عبد العزيز مساجد المسلمين اليوم وما فيها من الكتابات والنقوش والرسوم، والساعات المتحركة الضخمة والتي ينبعث منها تلك الرنات المحرمة في خارج المسجد، فضلاً عن داخله، فما عساه أن يقول؟ وما عساه أن يفعل؟!!
اللهم! أصلحنا وصلح بنا وجعلنا ومساجدنا قائمين على السنة.
اللهم! ثبت قلوبنا على الإيمان واليقين، واهدنا سبل السلام، واصرف عنا البدع وأهلها،إنك جواد كريم!.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
________________________________________
1- انظر فتح الباري (1/540).
2- المجموع شرح المهذب (181).
3- سبل السلام 1/265.
4 - عود المعبود (2/118)
5- الإيضاح والتبين ص73.
6- نيل الأوطار 2/321.
7- فتح الباري 1/514.
8- المدخل 2/214.(/3)
زكاة الزروع والثمار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،، أما بعد:
فإن الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام, وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله -عز وجل-, وقد أجمع المسلمون على فرضيتها إجماعا قطعيا, فمن أنكر وجوبها مع علمه به فهو كافر خارج عن الإسلام, ومن بخل بها أو انتقص منها شيئا فهو من الظالمين المتعرضين للعقوبة والنكال.
ومن الأصناف التي تجب فيها الزكاة: الزروع والثمار، وسنأتي على بيان ذلك مفصلاً في الآتي:
الخارج من الأرض من الحبوب والثمار1؛ لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} البقرة (267). وقوله سبحانه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}2. الأنعام (141). وأعظم حقوق المال الزكاة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيما سقت السماء أو كان عَثَريا العُشْر، وفيما سُقِيَ بالنضح نصف العشر)3. ولا تجب الزكاة فيه حتى يبلغ نصابا وهو خمسة أوْسق؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس في حَبٍّ ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)4 . والوَسَق ستون صاعا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تبلغ زنته بالبر الجيد ألفين وأربعين جراماً, أي: كيلوين وخمسيْ عُشر الكيلو, ولا زكاة فيما دونه5.
* وقد أجمع المسلمون على وجوبها في البر والشعير والتمر والزبيب, فتجب الزكاة في الحبوب كلها, كالحنطة, والشعير, والأرز, والدخن, وسائر الحبوب, قال عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حبٍّ ولا تمر صدقة). وقال عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء والعيون العشر). رواه البخاري.
* وتجب الزكاة في الثمار كالتمر والزبيب ونحوهما من كل ما يكال ويدخر, ولا تجب الزكاة إلا فيما يبلغ النصاب, لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- يرفعه: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) رواه الجماعة.
والوسق ستون صاعاً بالصاع النبوي, الذي مقداره أربع حفنات, بكفي الرجل المعتدل الخلقة.
* ويشترط في زكاة الحبوب والثمار أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة, وهو بدو الصلاح في الثمر, واشتداد الحب في الزرع, فيشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار شرطان:
الأول: بلوغ النصاب على ما سبق بيانه.
الثاني: أن يكون مملوكاً له وقت وجوب الزكاة.
فلو ملك النصاب بعد ذلك, لم تجب عليه فيه زكاة, كما لو اشتراه, أو أخذه أجرة لحصاده, أو حصله باللقاط.
والقدر الواجب إخراجه في زكاة الحبوب والثمار, يختلف باختلاف وسيلة السقي.
• فإذا سقي بلا مؤنة من السيول والسيوح وما شرب بعروقه كالبعل, يجب فيه العشر, لما في "الصحيح" من حديث ابن عمر: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر). ولمسلم عن جابر: (فيما سقت الأنهار والغيم العشر).
• ويجب فيما سقي بمؤنة من الآبار وغيرها نصف العشر, لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (وما سقي بالنضح نصف العشر) رواه البخاري, والنضح: السقي بالسواني. ولمسلم عن جابر: (وفيما سقي بالسانية نصف العشر).
• ووقت وجوب الزكاة في الحبوب حين تشتد, وفي الثمر حينما يبدو صلاحه, بأن يحمر أو يصفر, فلو باعه بعد ذلك, وجبت زكاته عليه لا على المشتري. ويلزم إخراج الحب مصفى, أي: منقى من التبن والقشر, ويعتبر إخراج الثمر يابساً; لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بخرص العنب زبيبا, وتؤخذ زكاته زبيبا, كما تؤخذ زكاة النخل تمرا, ولا يسمى زبيبا وتمرا إلا اليابس.
• وتجب الزكاة في العسل إذا أخذه من ملكه أو من الموات, كرءوس الجبال, إذا بلغ ما أخذه نصابا, ونصاب العسل ثلاثون صاعا بالصاع النبوي, ومقدار ما يجب فيه هو العشر.
• وتجب الزكاة في المعدن؛ لقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. والمعدن هو المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض, فهو مستفاد من الأرض, فوجبت فيه الزكاة, كالحبوب والثمار, فإن كان المعدن ذهبا أو فضة, ففيه ربع العشر إذا بلغ نصابا فأكثر, وإن كان غيرهما كالكحل والزرنيخ والكبريت والملح والنفط, فيجب فيه ربع عشر قيمته إن بلغت قيمته نصابا فأكثر من الذهب والفضة.
• وتجب الزكاة في الركاز, وهو ما وجد مدفونا من أموال الكفار من أهل الجاهلية, سمي ركازا ; لأنه غيب في الأرض, كما تقول: ركزت الرمح, ويجب فيه الخمس في قليله وكثيره, لقوله صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخمس) متفق عليه.
• ويعرف كونه من أموال الكفار بوجود علامة الكفار عليه أو على بعضه, بأن يوجد عليه أسماء ملوكهم, أو عليه رسم صلبانهم, فإذا أخرج خمسه, فباقيه لواجده.
• وإن وجد على المال المدفون أو على بعضه علامة المسلمين, أو لم يجد عليه علامة أصلا, فحكمه حكم اللقطة.(/1)
• وما أخذ من زكاة الركاز يصرف في مصالح المسلمين كمصرف الفيء.
• مما سبق يتبين لنا أن الخارج من الأرض أنواع هي:
1. الحبوب والثمار.
2. المعادن على اختلافها.
3. العسل.
4. الركاز.
** وكل هذه الأنواع, داخلة في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.
• إن الزكاة إنما تجب فيما يكال ويدخر من الحبوب والثمار, فما لا يكال ولا يدخر منها, لا تجب فيه الزكاة, كالجوز, والتفاح, والخوخ, والسفرجل, والرمان, ولا في سائر الخضروات والبقول, كالفجل, والثوم, والبصل, والجزر, والبطيخ, والقثاء, والخيار, والباذنجان, ونحوها؛ لحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: (ليس في الخضروات صدقة). رواه الدارقطني؛ ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة). فاعتبر الكيل لما تجب فيه الزكاة, فدل على عدم وجوبها فيما لا يكال ويدخر, وتركه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه لها وهي تزرع بجوارهم فلا تؤدى زكاتها لهم دليل على عدم وجوب الزكاة فيها, فترك أخذ الزكاة منها هو السنة المتبعة. قال الإمام أحمد: ما كان مثل الخيار والقثاء والبصل والرياحين, فليس فيه زكاة, إلا أن يباع, ويحول على ثمنه الحول6.
o تنبيه:
يجب أن يخرج نصاب الزكاة من الطيب، فقد أمر الله -سبحانه- المزكي بأن يخرج الطيب من ماله، ونهاه عن التصدق بالرديء، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} سورة البقرة (267).
والله أعلم..
________________________________________
1 - وبعض الفقهاء يطلق عليه الزروع والثمار.
2 - قال ابن عباس: {حقه} الزكاة المفروضة. (تفسير ابن كثير 2/243).
3 - رواه البخاري.
4 - رواه مسلم.
5 - راجع: "مجالس شهر رمضان" للشيخ ابن عثيمين.
6 - المخلص الفقهي(240- 243).(/2)
زكاة الزروع والثمار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،، أما بعد:
فإن الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام, وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله -عز وجل-, وقد أجمع المسلمون على فرضيتها إجماعا قطعيا, فمن أنكر وجوبها مع علمه به فهو كافر خارج عن الإسلام, ومن بخل بها أو انتقص منها شيئا فهو من الظالمين المتعرضين للعقوبة والنكال.
ومن الأصناف التي تجب فيها الزكاة: الزروع والثمار، وسنأتي على بيان ذلك مفصلاً في الآتي:
الخارج من الأرض من الحبوب والثمار1؛ لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} البقرة (267). وقوله سبحانه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}2. الأنعام (141). وأعظم حقوق المال الزكاة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيما سقت السماء أو كان عَثَريا العُشْر، وفيما سُقِيَ بالنضح نصف العشر)3. ولا تجب الزكاة فيه حتى يبلغ نصابا وهو خمسة أوْسق؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس في حَبٍّ ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)4 . والوَسَق ستون صاعا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تبلغ زنته بالبر الجيد ألفين وأربعين جراماً, أي: كيلوين وخمسيْ عُشر الكيلو, ولا زكاة فيما دونه5.
* وقد أجمع المسلمون على وجوبها في البر والشعير والتمر والزبيب, فتجب الزكاة في الحبوب كلها, كالحنطة, والشعير, والأرز, والدخن, وسائر الحبوب, قال عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حبٍّ ولا تمر صدقة). وقال عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء والعيون العشر). رواه البخاري.
* وتجب الزكاة في الثمار كالتمر والزبيب ونحوهما من كل ما يكال ويدخر, ولا تجب الزكاة إلا فيما يبلغ النصاب, لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- يرفعه: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) رواه الجماعة.
والوسق ستون صاعاً بالصاع النبوي, الذي مقداره أربع حفنات, بكفي الرجل المعتدل الخلقة.
* ويشترط في زكاة الحبوب والثمار أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة, وهو بدو الصلاح في الثمر, واشتداد الحب في الزرع, فيشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار شرطان:
الأول: بلوغ النصاب على ما سبق بيانه.
الثاني: أن يكون مملوكاً له وقت وجوب الزكاة.
فلو ملك النصاب بعد ذلك, لم تجب عليه فيه زكاة, كما لو اشتراه, أو أخذه أجرة لحصاده, أو حصله باللقاط.
والقدر الواجب إخراجه في زكاة الحبوب والثمار, يختلف باختلاف وسيلة السقي.
• فإذا سقي بلا مؤنة من السيول والسيوح وما شرب بعروقه كالبعل, يجب فيه العشر, لما في "الصحيح" من حديث ابن عمر: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر). ولمسلم عن جابر: (فيما سقت الأنهار والغيم العشر).
• ويجب فيما سقي بمؤنة من الآبار وغيرها نصف العشر, لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (وما سقي بالنضح نصف العشر) رواه البخاري, والنضح: السقي بالسواني. ولمسلم عن جابر: (وفيما سقي بالسانية نصف العشر).
• ووقت وجوب الزكاة في الحبوب حين تشتد, وفي الثمر حينما يبدو صلاحه, بأن يحمر أو يصفر, فلو باعه بعد ذلك, وجبت زكاته عليه لا على المشتري. ويلزم إخراج الحب مصفى, أي: منقى من التبن والقشر, ويعتبر إخراج الثمر يابساً; لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بخرص العنب زبيبا, وتؤخذ زكاته زبيبا, كما تؤخذ زكاة النخل تمرا, ولا يسمى زبيبا وتمرا إلا اليابس.
• وتجب الزكاة في العسل إذا أخذه من ملكه أو من الموات, كرءوس الجبال, إذا بلغ ما أخذه نصابا, ونصاب العسل ثلاثون صاعا بالصاع النبوي, ومقدار ما يجب فيه هو العشر.
• وتجب الزكاة في المعدن؛ لقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. والمعدن هو المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض, فهو مستفاد من الأرض, فوجبت فيه الزكاة, كالحبوب والثمار, فإن كان المعدن ذهبا أو فضة, ففيه ربع العشر إذا بلغ نصابا فأكثر, وإن كان غيرهما كالكحل والزرنيخ والكبريت والملح والنفط, فيجب فيه ربع عشر قيمته إن بلغت قيمته نصابا فأكثر من الذهب والفضة.
• وتجب الزكاة في الركاز, وهو ما وجد مدفونا من أموال الكفار من أهل الجاهلية, سمي ركازا ; لأنه غيب في الأرض, كما تقول: ركزت الرمح, ويجب فيه الخمس في قليله وكثيره, لقوله صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخمس) متفق عليه.
• ويعرف كونه من أموال الكفار بوجود علامة الكفار عليه أو على بعضه, بأن يوجد عليه أسماء ملوكهم, أو عليه رسم صلبانهم, فإذا أخرج خمسه, فباقيه لواجده.
• وإن وجد على المال المدفون أو على بعضه علامة المسلمين, أو لم يجد عليه علامة أصلا, فحكمه حكم اللقطة.(/1)
• وما أخذ من زكاة الركاز يصرف في مصالح المسلمين كمصرف الفيء.
• مما سبق يتبين لنا أن الخارج من الأرض أنواع هي:
1. الحبوب والثمار.
2. المعادن على اختلافها.
3. العسل.
4. الركاز.
** وكل هذه الأنواع, داخلة في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.
• إن الزكاة إنما تجب فيما يكال ويدخر من الحبوب والثمار, فما لا يكال ولا يدخر منها, لا تجب فيه الزكاة, كالجوز, والتفاح, والخوخ, والسفرجل, والرمان, ولا في سائر الخضروات والبقول, كالفجل, والثوم, والبصل, والجزر, والبطيخ, والقثاء, والخيار, والباذنجان, ونحوها؛ لحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: (ليس في الخضروات صدقة). رواه الدارقطني؛ ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة). فاعتبر الكيل لما تجب فيه الزكاة, فدل على عدم وجوبها فيما لا يكال ويدخر, وتركه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه لها وهي تزرع بجوارهم فلا تؤدى زكاتها لهم دليل على عدم وجوب الزكاة فيها, فترك أخذ الزكاة منها هو السنة المتبعة. قال الإمام أحمد: ما كان مثل الخيار والقثاء والبصل والرياحين, فليس فيه زكاة, إلا أن يباع, ويحول على ثمنه الحول6.
o تنبيه:
يجب أن يخرج نصاب الزكاة من الطيب، فقد أمر الله -سبحانه- المزكي بأن يخرج الطيب من ماله، ونهاه عن التصدق بالرديء، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} سورة البقرة (267).
والله أعلم..
________________________________________
1 - وبعض الفقهاء يطلق عليه الزروع والثمار.
2 - قال ابن عباس: {حقه} الزكاة المفروضة. (تفسير ابن كثير 2/243).
3 - رواه البخاري.
4 - رواه مسلم.
5 - راجع: "مجالس شهر رمضان" للشيخ ابن عثيمين.
6 - المخلص الفقهي(240- 243).(/2)
زكاة النقدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد شرع الله - عز وجل - الزكاة طهرة للأموال، ونماء وزيادة لها، ورفقاً بالمساكين والمحتاجين، ونظراً لمصلحة الأمة الكبرى من القيام بأمور الدولة الإسلامية وما تحتاجه من نفقات مختلفة على الجوانب العسكرية والاجتماعية. وأصناف الزكاة عديدة، ومن ذلك زكاة النقدين: الذهب والفضة وما يقوم مقامها.
وأصل النقد لغة: الإعطاء، ثم أطلق النقد على المنقود من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول1.
حكم إخراج الزكاة منهما:
الزكاة فيهما واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله - تعالى - : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: من الآية34). وأما السنة: فما جاء عن أبي هريرة –رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار...)2. قال النووي في شرحه لهذا الحديث: الحديث صريح في وجوب الزكاة في الذهب والفضة ولا خلاف فيه3.
وأجمع أهل العلم على أن في مائتي درهم خمسة دراهم وعلى أن الذهب إذا كان عشرين مثقالاً وقيمته مائتا درهم أن الزكاة تجب فيه4.
شروط إخراج الزكاة:
- حول الحول على المال، أي أن يمر عليه عام كامل.
- إتمام النصاب: ونصاب الفضة مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون مثقالاً بالإجماع5.
فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)6. والأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء على الأشهر أربعون درهمًا بالنصوص المشهورة والإجماع7. وقد جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: (ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة)8.
مقدار ما يخرج:
مقدار ما يخرج منهما ربع العشر، قال ابن قدامة: إذا تمت الفضة مائتين والدنانير عشرين فالواجب فيها ربع عشرها، ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن زكاة الذهب والفضة ربع عشره9.
زكاة الحلي:
إن كان في الحلي جوهر ولآلئ مرصعة فالزكاة في الحلي من الذهب والفضة دون الجوهر؛ لأنها لا زكاة فيها عند أحد من أهل العلم10، أما الحليُّ الذي هو ذهب أو فضة فمنه ما هو مباح كمثل ما أحل الله للنساء مثلاً، ومنه ما هو محرم كمثل أن يكون في إسراف أو يمتلكه من لا يحل تملكه كالرجل، أم الحلي المحرم فقد اتفقوا على وجوب الزكاة فيه، وأما المباح فقد جرى الخلاف بين أهل العلم على ما يأتي:
أولاً: عند الحنفية:
الزكاة واجبة في الحلي سواء كان للرجال أو للنساء تبرًا كان أو سبيكة، آنية كان أو غيرها ويعتبر في زكاته الوزن لا القيمة11.
ثانياً عند المالكية:
- الحلي المباح كالسوار للمرأة وقبضة السيف المعد للجهاد، والسن والأنف للرجل لا زكاة فيه إلا في الأحوال الآتية:
أولاً: أن يتكسر بحيث لا يرجى عوده إلى ما كان عليه إلا بسبكه مرة أخرى.
ثانياً: أن يتكسر بحيث يمكن عوده بدون السبك مرة أخرى ولكن لم ينوِ مالكه إصلاحه.
ثالثًا: أن يكون معدًّا لنوائب الدهر وحوادثه لا للاستعمال.
رابعًا: أن يكون معدًّا لمن سيوجد له من مالك من زوجة وبنت مثلاً.
خامساً: أن يكون معدًّا لصداق من يريد أن يتزوجها أو يزوجها لولده.
سادسًا: أن ينوي به التجارة ففي جميع هذه الأحوال تجب فيه الزكاة.
- وأما الحلي المحرم: كالأواني والمرود والمكحلة فتجب فيه الزكاة بلا تفصيل والمعتبر في زكاة الحلي الوزن لا القيمة.
ثالثاً الشافعية:
- الحلي المباح الذي حال عليه الحول مع مالكه العالم به لا تجب الزكاة فيه، أما إذا لم يعلم بملكه كأن يرث حليًّا يبلغ نصابًا ومضى عليه الحول بدون أن يعلم بانتقال الملك إليه فإنه تجب زكاته.
- الحلي المحرم: كالذهب للرجل فإنه تجب فيه الزكاة ومثله حلي المرأة إذا كان فيه إسراف كخلخال المرأة إذا بلغ مائتي مثقال، فإنه تجب فيه الزكاة أيضًا كما تجب في آنية الذهب والفضة ويعتبر في زكاة الحلي الوزن دون القيمة وإذا انكسر الحلي لم تجب زكاته إذا قصد إصلاحه، وكان إصلاحه ممكنا بلا صياغة، وإلا بأن لم يقصد إصلاحه أو كان إصلاحه غير ممكن وجبت.12.
رابعاً الحنابلة:
- الحلي المباح المعدُّ للاستعمال أو الإعارة لمن يباح له استعماله لا زكاة فيه.
- الحلي المباح إذا كان غير معدٍّ للاستعمال تجب زكاته إذا بلغ النصاب من جهة الوزن، فإذا بلغ النصاب من جهة القيمة دون الوزن فلا تجب فيه الزكاة.
- الحلي المحرم تجب فيه الزكاة كما تجب في آنية الذهب والفضة البالغة نصاباً وزنًا.(/1)
- الحلي المنكسر إن أمكن لبسه مع الكسر فهو كالصحيح لا تجب فيه الزكاة، وإن لم يمكن لبسه فإن كان يحتاج في إصلاحه إلى صوغ وجبت فيه الزكاة، وإن لم يحتج إلى صوغ ونوى إصلاحه فلا زكاة فيه13،14.
من كان معه ذهب وفضة هل يضم بعضها إلى بعض ليكمل النصاب؟
- تضم الدراهم إلى الدنانير فإذا كمل من مجموعهما نصاب وجبت فيه الزكاة وذلك لجامع بينهما وهو أنهما رءوس الأموال وقيم المتلفات فكأنهما جنس واحد، وهذا قول مالك وأبي حنيفة وجماعة، و(لأن المقصود منهما جميعًا الثمنية والتوسل بها إلى المقاصد، وهما يشتركان فيه على السواء فأشبه إخراج المكسرة عن الصحاح بخلاف سائر الأجناس والأنواع مما تجب فيه الزكاة فان لكل جنس مقصودًا مختصًا به لا يحصل من الجنس الآخر)15.
- لا يضم ذهب إلى فضة، ولا فضة إلى ذهب؛ لأن كل واحد منهما يجب فيه الزكاة لعينه وحجة هذا القول أنه اختلف النصاب فيهما، فهما جنسان لا يضم أحدهما إلى الآخر كالحال في البقر والغنم. وهذا قال به الشافعي وأبو ثور وداود16.
مسألة مفيدة في تحديد الأنصبة بوزن الجرام، وحكم الأوراق النقدية في الوقت الحاضر:
صدر في فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم: (3485):
(المحرر عندنا أن نصاب الذهب الذي تجب فيه الزكاة عشرون مثقالاً، ومقدار ذلك بالجنيه السعودي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع جنيه).
وفي الفتوى رقم: (5522):
(نصاب الذهب بالجرام الحالي المعمول به الآن: واحد وتسعون جراماً وثلاثة أسباع جرام).
وفي الفتوى رقم: (1881):
(ونصاب الفضة مائة وأربعون مثقالاً وهي مائتا درهم من الدراهم الموجودة في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم - وهي تساوي ستة وخمسين ريالاً سعودياً فضياً).
وفي الفتوى رقم: (9564):
(لا حرج في إخراج زكاة الذهب والفضة عملة ورقية بما تساوي وقت تمام الحول لاشتراكها جميعاً في الثمنية).
وفي الفتوى رقم: (9990): في النقود الورقية:
الزكاة تجب في أرصدة الغرفة إذا بلغت نصاباً وحال عليها الحول؛ لأنها أموال مملوكة لأصحابها ممن تجب عليهم الزكاة، وتخدم مصالحهم التجارية، فوجب إخراج زكاتها والواجب إخراج ربع العشر بواقع اثنين ونصف في المائة 2.5%.
وفي الفتوى رقم: (6427):
صدر سؤال ما نصه: (ما الحكم في زكاة النقود؟ حيث أن المبالغ التي لدينا عملة ورقية، أي سندات كما هو مكتوب في أعلا كل فئة، وهل نزكي باعتبارها الحالي، أو تحول إلى ذهب أو فضة ثم تزكى حسب أسعارها في السوق بموجب الأحكام الشرعية؟.
فأجاب فضيلة العلماء على السائل بأنه: (إذا كان الواقع كما ذكرت وجب عليك أن تخرج ربع عشر ما تملك من الأوراق النقدية ورقاً نقدياً، سواء كان رصيدها ذهباً أم فضة، وذلك إذا كان ما تملكه نصاباً، وهو ما يعادل مائة وأربعين مثقالاً من الفضة أو عشرين مثقالاً من الذهب، وحال عليه الحول).
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
________________________________________
1 - مغني المحتاج: (1/389).
2 - صحيح مسلم: (2/680).
3 - شرح النووي على مسلم: (7/64).
4 - المغني: (2/596).
5 - مغني المحتاج: (1/389).
6 - صحيح البخاري: (2/529برقم: 1390)، وصحيح مسلم: (2/675برقم: 980).
7 - مغني المحتاج: (1/389).
8 - رواه أبو عبيد، وقال الألباني: (صحيح) انظر: مختصر إرواء الغليل: (1/156برقم: 815).
9 - المغني: (2/600).
10 - المغني: (2/606).
11 - انظر: بدائع الصنائع: (2/101).
12 - انظر: مغني المحتاج:(1/389).
13 - المغني: (2/603).
14 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/970).
15 - المغني: (2/601).
16 - بداية المجتهد: (1/383).(/2)
زلزال العقبة
3472
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/7/1416
النور
ملخص الخطبة
1- الأرض التي نعيش عليها إحدى نعم الله علينا. 2- ما يحدث من الزلازل إنما هو تخويف وتأديب للعباد. 3- دعوة للاعتبار بما يحدث من أحداث وكوارث ومصائب. 4- وعيد الله للعصاة الذين لا يرعون ولا يتعظون بأحوال غيرهم. 5- كثرة الزلازل قبيل الساعة. 6- الماديون يغفلون عن الأسباب القدرية المسببة للزلازل والكوارث. 7- الذنوب والكبائر هي السبب الحقيقي لهذه ا لكوارث.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس نسأل الله عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. أن يحفظ هذه البلاد، وجميع بلاد المسلمين من الزلازل والمحن، وسوء الفتنة ما ظهر منها وما بطن. كما نسأله عز وجل، أن يجعل، ما نرى وما نسمع، عبره لنا.ولغيرنا، ولا يرينا أو يسمعنا أي مكروه في أي بلاد المسلمين.
عباد الله، إن هذه الأرض، التي نعيش عليها. من نعم الله الكبرى علينا، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش على ظهرها، وندفن موتانا في باطنها، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً [المرسلات:25، 26]، وقال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وقال تعالى: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، وقال: هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، والآيات في هذا كثيرة.
ومن رحمته جل وعزّ أن أودع فى هذه الأرض كل ما يحتاجه الخلق الذين يعيشون على ظهرها، فبارك فيها وقدر فيها أقواتها.
ثم سبحانه وتعالى جعلها ثابتة مستقرة لا تتحرك وأرساها بالجبال، حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها، وفي بعض الأحيان، يجعل الله عز وجل هذه الأرض، جنداً من جنوده، فتتحرك وتميد ويحصل الزلازل المدمرة، تخويفاً للعباد، وتأديباً للبعض الآخر، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر.
إننا معاشر الأحبة فى نعمة من الله تامة، أمن في أوطاننا، وصحة في أبداننا ووفرة فى أموالنا، وبصيرة في ديننا فماذا أديتم من شكر الله الواجب عليكم، فإن الله وعد من شكره بالمزيد، وتوعد من كفر بنعمته بالعذاب الشديد وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، إن الله سبحانه وتعالى يري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات، كم نسمع من الحوادث ونشاهد من العبر، حروب في البلاد المجاورة أتلفت أمماً كثيرة وشردت البقية عن ديارهم، أيتمت أطفالاً وأرملت نساءً، وأفقرت أغنياء وأذلت أعزاء، ولا تزال تتوقد نارها، ويتطاير شرارها على من حولهم، وغير الحروب هناك كوارث ينزلها الله بالناس كالعواصف والأعاصير التى تجتاح الأقاليم والمراكب في البحار، كالفيضانات التي تغرق القرى والزروع، وهناك حوادث السير في البر والبحر والجو والتي ينجم عنها موت الجماعات من الناس فى لحظة واحدة، وهناك الأمراض الفتاكة المستعصية التي تهدد البشر وهناك الزلازل، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض قوته وقدرته عليهم، ويعرفهم بضعفهم ويذكرهم بذنوبهم، فهل اعتبرنا؟ هل تذكرنا؟ هل غيرنا من أحوالنا؟ هل تاب المتكاسل العاصى عن الصلاة فحافظ على الجمع والجماعات؟، هل تاب المرابي والمرتشي والذي يغش في المعاملات؟، هل أصلحنا أنفسنا وطهرنا بيوتنا من المفاسد؟ إن شيئاً من هذه الأحوال لم يتغير ـ إلا من شاء الله بل إن الشر يزيد ـ وإننا نخشى من العقوبة المهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الله تعالى يقول: كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:52، 53].(/1)
إن الله سبحانه توعد الذين لا يتعظون بالمصائب ولا تؤثر فيهم النوازل فيتوبون من ذنوبهم، توعدهم بأن يستدرجهم بالنعم ثم يأخذها على غرة ويقطع دابرهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45]، عن عقبة بن عامر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44]، رواه الإمام أحمد.
أيها المسلمون، إنه والله يخشى علينا اليوم الوقوع فى مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا، فاتقوا الله عباد الله واحذروا نقمة الله التي حلت بمن قبلكم ومن حولكم أن تحل بكم، الدنيا لدينا معمورة، والمساجد مهجورة، ليس لدينا تقصير في الدنيا، لكن التقصير في الدين.
عباد الله، وقبل ثلاث سنوات حصل زلزال في مصر وها نحن نسمع الآن عن زلزال فى تبوك وما حولها، لقد كثر وقوع الزلازل المروعة التى تدمر العمران وتهلك الإنسان، وقد تتابع ذلك.
في سنين متقاربة، حدث زلزال عظيم فى الجزائر، ثم أعقبه زلزال عظيم فى إيطاليا، ثم أعقبه زلزال عظيم فى اليمن، ثم أعقبه زلزال عظيم فى المكسيك وها نحن اليوم نسمع عن زلزال مصر وقد دُمر فى هذه الزلازل مدن بأكملها وهلك فيها ألوف من البشر وشرد فيها مئات الألوف من مساكنهم. مما تسمعون أخباره المروعة ويشاهد الكثير منكم صوره المفزعة تعرض على شاشة التلفاز، وهذه الزلازل لا شك أنها عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والمعاصي والمخالفات. كما قال بعض السلف لما زلزلت الأرض، إن ربكم يستعتبكم.
ولما وقع زلزال بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قام فيهم خطيباً ووعظهم وقال: (لئن عادت لا أساكنكم فيها).(/2)
لعلم عمر بأن ما حصل هذا إلا بسبب ذنوب الناس، وأن هذا تهديد وعقوبة من الله عز وجل، إن في الزلازل عبراً وعظات لأولي الألباب، ودلالة على قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك بضع ثوان أو دقائق فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب، لعل الناس يتوبون إلى ربهم ويستغفرون من ذنوبهم. لأن هذا ما حدث إلا بسبب كفرهم ومعاصيهم. ويكثر هذا في آخر الزمان، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويتقارب الزمان وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج)). قيل الهرج؟ أي ما هو يا رسول الله؟ قال: ((القتل القتل)) وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع)) بيّن صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أنه عندما تحدث هذه الجرائم فى آخر الزمان فإنها ستقع عليهم العقوبات المتتابعة ومنها الزلازل؟ وقد رأيتم مصداق ذلك بما تكرر من حدوث هذه الزلازل المروعة، وقد يقول بعض المتحذلقين من الجغرافيين والعلمانيين: هذه الزلازل ظواهر طبيعية. لها أسباب معروفة. لا علاقة بها بأفعال الناس ومعاصيهم كما يجرى ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين. حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها. كما يقول أشباههم من قبل عندما تصيبهم الكوارث والنكبات: قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء [الأعراف:95]، فيعتبرون ذلك حالة طبيعية وليست عقوبات لهم فيستمرون على غيهم وبغيهم، ولا يتوبون من ذنوبهم، والذي نقوله لهؤلاء المتحذلقين إن الكتاب والسنة يدلان على أن هذه الزلازل كغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم، وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مقدرة من الله سبحانه على العباد لذنوبهم، فهو مسبب الأسباب وخالق السبب والمسبب اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ [الزمر:62، 63].
فإذا أراد الله شيئاً أوجد سببه ورتب عليه نتيجته.كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، فاتقوا الله عباد الله واعتبروا بما يجري حولكم وبينكم وتوبوا إلى ربكم وتذكروا قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:65-67].
بارك الله لي ولكم فى القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وتوبوا إليه من ذنوبكم قبل أن يحل بكم ما حل بغيركم من العقوبات.نعم إن ما يحدث فى الأرض اليوم من الزلازل المدمرة، والأعاصير القاصفة والحروب الطاحنة، والمجاعات المهلكة، والأمراض الفتاكة وحوادث المراكب البرية والبحرية والجوية التي يذهب فيها الأعداد الكبيرة من البشر، وتسلط قطاع الطرق ومختطفي الطائرات، وسطو اللصوص، كل ذلك يحدث بسبب الذنوب والمعاصي كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، وإنه يحدث منا من الذنوب والمعاصي مالا يحصى، ومنه ما هو كفر كترك الصلوات المفروضة، وما هو من الكبائر الموبقة كأكل الربا، والرشوة، وتبرج النساء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الفواحش وغير ذلك مما نتخوف منه نزول العقوبة صباحاً ومساءً، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل:45، 46].(/3)
تركت الصلوات، وأهملت الواجبات، ضعف الخوف من الله فى قلوب الناس، تغيرت أخلاقنا، سلوكنا، بيوتنا أصبحت شبهه. هل اعتبرنا يا عباد الله بما يحدث، هل غيرنا من حالنا من سيئ إلى حسن، إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ أو نرى بأعيننا من الحوادث المروعة والعقوبات الشديدة لا يزال الكثير منا مصراً على معاصيه من أكل الحرام وترك الصلاة وهجر المساجد وفعل المنكرات حتى أصبح كثير من البيوت أوكاراً للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة. ولا ينكر عليهم صاحب البيت ولا جيرانه ولا من يعلم بحالهم. وفي الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
ترون الشوارع والبيوت ملأى بالرجال. وترون المساجد وقت الصلاة فارغة منهم، لا يؤمها إلا القليل وفى فتور وكسل.والذي يصلي منهم لا ينكر على من لا يصلي من أهل بيته وجيرانه ومن يمر بهم فى طريقه إلى المسجد، ما الذي أمات الغيرة في قلوب الناس إنه ضعف الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).
عباد الله، تخيلوا الفجيعة التي حصلت بما سمعنا من زلزال العقبة وكم من الناس قد تأثر. كل هذا بسبب زلزال بسيط، في بقعة محددة من الأرض.
فماذا يحصل لو وقع الزلازل فى الأرض كلها تخيلوا أن زلزالاً بالأرض وسيحصل هذا، هل عملتم. وأخذتم حسابكم واحتياطاتكم للزلزال الأكبر الذى سيضرب الأرض كلها، لا العقبة وحدها ولا الجزيرة وحدها، ولا قارة آسيا أو إفريقيا، لكنه زلزال عظيم، سيصيب جميع الأرض.
إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [سورة الزلزلة].
ماذا عملنا، أو ماذا سنعمل لذلك الزلزال. الزلزال الأكبر، الذي يكشف بعده كل شيء، والذي سينفضح بعده كل مجرم، عملت كذا في يوم كذا، وعملت كذا، وعملت كذا فى يوم كذا، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته.
ثم اعلموا رحمكم الله، وتذكروا ما يحل بالناس من العقوبات فى الدنيا، وإذا كان شديداً فهو أخف من عذاب الآخرة، قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21]، فاتقوا الله عباد الله فى أنفسكم وتوبوا من ذنوبكم وقوموا على أولادكم وأهليكم، وأنقذوا أنفسكم وأنقذوهم من عذاب الله، كما قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...(/4)
زوجتي .... !
الكاتب: الأستاذ علي الطنطاوي
قال لي صديق ، معروف بجمود الفكر ، وعبادة العادة ، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها . قال:
- أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول إنها من أعقل النساء وأفضلهن ؟ هل سمعت أن أحداً كتب عن زوجه ؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها ، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا ، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة ، وزيارة قبرها جهارا . ومالك بن الريب لمّا عد من يبكى عليه من النساء قال :
فمنهن أمى وابنتاها وخالتى **** وباكية أخرى تهيج البواكيا
فلم يقل وامرأتى . . وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا . لم يكن يقول أحد منهم : زوجتى ؛ بل كان يقول : أهل البيت وأم الأولاد ، والجماعة ،والأسرة ، وأمثال هذه الكنايات . أفترغب عن هذا كله ، وتدع ما يعرف الناس ،وتأتى ما ينكرون ؟
قلت : نعم !
فكاد يصعق من دهشته مني ، وقال :
- أتقول نعم بعد هذا كله ؟
قلت : نعم ! مرة ثانية .
أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك ؟ ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي زوج بالحرام ،ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال ؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج . والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟ إن الناس يقرؤون كل يوم المقالات والفصول الطوال في مآسي الزواج وشروره ، فلم لا يقرؤون مقالة واحدة في نعمه وخيراته ؟
ولست بعد أكتب عن زوجي وحدها ؛ ولكنى كما كان هوجو يقول : "إني إذا أصف عواطفي أبا ، أصف عواطف جميع الآباء" .
لم أسمع زوجاً يقول إنه مستريح سعيد ، وإن كان في حقيقته سعيداً مستريحا ، لأن الإنسان خلق كفورا ، لا يدرك حقائق النعم إلا بعد زوالها ؛ ولأنه ركب من الطمع ، فلا يزال كلما أوتى نعمة يطمع في أكثر منها ، فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها . لذلك يشكو الأزواج أبدا نساءهم ، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت ، وانقطع حبله منها وأمله فيها ؛ هنالك يذكر حسناتها ، ويعرف فضائلها . أما أنا فإني أقول من الآن – تحدثا بنعم الله وإقراراً بفضله – إني سعيد في زواجي وإني مستريح .
وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج ، طالب للسعادة فيه ، فلينتفع بتجاربي من لم يجرب مثلها ، وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا الطريق.
أولها : أني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم ، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم . . فينكشف لي بالمخالطة خلاف ما سمعت عنهم ، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن ظاهرهم ، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني ، واطلعت على حياتهم في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي . إذ رب رجل يشهد له الناس بأنه أفكه الناس ، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع ، وهو في بيته أثقل الثقلاء . ورب سمح هو في أهله سمج ، وكريم هو في أسرته بخيل ، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره . .
تزوجت بنتاً أبوها ابن عم أمي لحا ، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن . وأمها بنت المحدّث الأكبر ، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسينى رحمه الله . فهي عريقة الأبوين ، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني : أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا . فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض ،وهو قاض وأنا قاض ، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا ،وهذا هو الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية ، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين .
والثالث : أني انتقيتها متعلمة تعليماً عادياً ، شيئاً تستطيع به أن تقرأ وتكتب ، وتمتاز من العاميات الجاهلات ، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاماً في صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك ، وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات ، لا تبلغها المتعلمات ،وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروساً في مدارس البنات ، على طالبات هن على أبواب البكالوريا ، فلا أجدهن أفهم منها ، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم ، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه.
ولست أنفر الرجال من التزوج بالمتعلمات ، ولكني أقرر – مع الأسف – أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه ، يسيء على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها ، ويأخذ منها الكثير مه0ïزاياها وفضائلها ،ولا يعطيها إلا قشورا من العلم لا تنفعها في حياتها ،ولا تفيدها زوجاً ولا أما . والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة وأما.(/1)
والرابع : أني لم أبتغ الجمال وأجعله هوو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن الجمال ظل زائل ؛ لا يذهب جمال الجميلة ، ولكن يذهب شعوورك به ، وانتباهك إليه ، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق من لسن على حظ من الجمال ، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق ، حين قال لزوجه النوار في القصة المشهورة : ما أطيبك حراما وأبغضك حلالا !
والخامس : أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن ، بعد ثمن قرن من الزمان ، الصلة الرسمية : الود والاحترام المتبادل ، وزيارة الغب ، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الأحماء من التدخل في شؤونهم ، وفرض الرأي عليهم ، ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان ، فما دخل أحد منهم يوما في رضانا ولا سخطنا .
ولقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي ، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان ، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال ، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والسادس : أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلا ، كما يصنع أكثر الأزواج ، ثم يكون باقي العمر حنظلا مرا وسما زعافا ، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي ، حتى إذا قبلت مضطرة به ، وصبرت محتسبة عليه ، عدت أريها من حسن خلقي ، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطا .
والسابع : أنها لم تدخل جهازا ، وقد اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج ، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفاً عليه ، أو أن يسرقه ويخفيه ، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل . والثامن : أني تركت ما لقيصر لقيصر ، فلم أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد ؛ وتركت هي لي ما هو لي ، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه ، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار ، وأسلوب تقطيع الباذنجان ، ونمط تفصيل الثوب.
والتاسع : أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني ، ولا أكذب عليها ولا تكذبني ، أخبرها بحقيقة وضعي المالي ، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به ، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه ، وتعود أولادنا الصدق والصراحة ، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه . ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها . فهي من النساء الشرقيات اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن . للرجل والأولاد ، تجوع لنأكل نحن ، وتسهر لننام ، وتتعب لنستريح ، وتفني لنبقي . هي أول أهل الدار قياماً ، وأخرهم مناماً ، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر ، همها إراحتي وإسعادي . إن كنت أكتب ، أو كنت نائماً أسكتت الأولاد ، وسكنت الدار ، وأبعدت عنى كل منغص أو مزعج .
تحب من أحب ، وتعادى من أعادى . إن حرص النساء على رضا الناس كان حرصها على إرضائي . وإن كان مناهن حلية أو كسوة فإن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي ، ولا تفتأ تنقل إلى كل خير عنهم . إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني ، وإن نسيت ذكرتني ، حتى أني لأشتهي يوماً أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس ، أتسلى به ، فلا أجد إلا الود والحب ، والإخلاص من الثنتين ، والوفاء من الجانبين . إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية ، التي لا تعرف في دنياها إلا زوجها وبيتها ،والتي يزهد بعض الشباب فيها ، فيذهبون إلى أوربة أو أميركة ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط ، إمرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه ، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية ؛ ولكنه فساد الأذواق ،وفقد العقول ، واستشعار الصغار ،وتقليد الضعيف للقوى . يحسب أحدهم أنه إن تزوج امرأة من أمريكا ، وأى امرأة ؟ عاملة في شباك السينما ، أو في مكتب الفندق ، فقد صاهر طرمان ، وملك ناطحات السحاب ، وصارت له القنبلة الذرية ، ونقش اسمه على تمثال الحرية . .
إن نساءنا خير نساء الأرض ، وأوفاهن لزوج ،وأحناهن على ولد ، وأشرفهن نفسا ، وأطهرهن ذيلا ، وأكثرهن طاعة وامتثالا وقبولا لكل نصح نافع وتوجيه سديد . وإني ما ذكرت بعض الحق من مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية) المسلمة ، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي ، بعد أن هداني !
الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله عليه
هذه المقالة من موقع :إذاعة طريق الإسلام
http://www.islamway.com
عنوان هذه المقالة :
http://www.islamway.com/ara/articles.php?article_id=97 ...(/2)
زيارة مريض
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، سبحانه له الكمال المطق في كل شي، وأصلي وأسلم على خير خلقه وصفوة رسله، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، الذي حث على مكارم الأخلاق، وأمرنا بأفضل الأعمال، ونهانا على سوء القول والعمل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن آداب المسلم عيادة المريض، وتفقد حاله، وذلك تطييباً لنفسه ووفاءً بحقه، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على عيادة المريص؛ فقد روى البخاري عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)1، وروى مسلم: (حق المسلم على المسلم ست)، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا ستنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)2.
وأما فضل عيادة المريض فقد بينها النبي -صلى الله عليه سلم-، فقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من عاد مريضاً نادى مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)3.
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدته لو جدتني عنده!)4.
وعن ثوبان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع) قيل: يا رسول الله! ما خرفة الجنة؟ قال: (جناها)5.
وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)6.
فمن هذه النصوص النبوية التي سبقت يتضح لنا ما لعيادة المريض من أهمية، وما للقائم بها من الأجر العظيم، فينبغي على المسلم أن يعنى بها وأن لا يتكاسل عنها، فإذا علم بأخ له مريض فليسارع في عيادته، وتفقد حاله، وإخبار أصحابه بما حصل لأخيه، حتى يقوموا بزيارته، والدعاء له.
ولما كان أهل الحي الواحد، كالأسرة الواحدة يعرف بعضهم بعضاً في الغالب، فينبغي عليهم إذا مرض أحدهم أن يزوروه، ويتفقدوا أحواله، ويعينوه على ما يحتاج. فبهذه الزيارة يدخل الفرح إلى قلوب المرضى، ويتنفس عنهم ما يجدون من الهم والغم، ويعلمون أن لهم إخواناً يواسونهم ويعينونهم على ما يحتاجون، وكذلك يعرف المسلم عظمة هذا الدين، وما حث عليه، وأنه ما من خير إلا ودلهم عليه، وما من شر إلا وحذرهم منه.
وبما أن أصحاب الحي كثير ويتعذر زيارتهم في وقت واحد، إما لمشاغلهم أو لكثرتهم، أو لظروف أخرى، فينبغي الترتيب لهذه الزيارة، بحيث تؤدي الغرض على أكمل وجه، وذلك من خلال الترتيب فيما بينهم في كيفية الزيارة، وعدد الزائرين والتنسيق مع أهل المريض، وتقديم بعض الهدايا، حتى تكون زيارة موفقة، وتؤدي الغرض، ويحصل بها النفع.
ويستحب للزائرين أن يدعو للمريض بالشفاء والعافية، وأن يوصوه بالصبر والاحتمال، وأن يقولوا له الكلمات الطيبة التي تطيب نفسه، وتقوي روحه، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل على من يعود قال: (لا بأس طهور إن شاء الله)7 ويستحب تخفيف العيادة وتقليلها ما أمكن، حتى لا يثقل على المريض؛ إلا إذا رغب في ذلك.
نسأل الله أن يعافينا ويعفو عنا، ونسأله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وصلى الله وسلم على النبي الكريم، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - صحيح البخاري رقم (5058).
2 - صحيح مسلم رقم (1704).
3 - رواه الترمذي وابن ماجه واللفظ له، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (1184).
4 - صحيح مسلم رقم (2569).
5 - صحيح مسلم رقم (2568).
6 - رواه الترمذي، وقال حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5767).
7 - رواه البخاري رقم الحديث (3420).(/1)
سؤال مهم؟
الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحصى كل شيءٍ علماً، كتب على هذه الدنيا الزوال والفناء، وتفرد بالدوام والبقاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو السميع البصير.
سبحانه لا عز إلا في طاعته، ولا فوز إلا في قربه، ولا غنى لنا عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اكتمل به عقد النبوة، فطوبى لمن والاه وتولاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الفضلاء: سؤال مهم يتطلب الإجابة عليه, وهو: هل لدى المؤمن وقت فراغ؟
وقبل الإجابة على السؤال نقف فنقول: إننا وللأسف الشديد نسمع بين الحين والآخر من بعض الشباب من يقول لصاحبه وقرينه: تعال لنقضي وقت الفراغ، وسمعنا من يقول لخليله تعال نمشّي الوقت – أو نقتل الوقت - ونرى من يقضي أوقاتاً طويلة من عمره في اللعب والدعة والراحة، وسهر الليالي الطويلة في مشاهدة أومتابعة المباريات، قد سقط حاجباه على عينيه، من كثرة المشاهدة، منشغل البال، خفيف العقل، بخفة تلك الكرة التي تتحرك يميناً وشمالاً، وأمام وإلى الوراء.
ونرى كذلك من يقضي جل وقته في التسكع في الأسواق والطرقات، والتفحيط والتطعيس، والمغازلات والمعاكسات للبنات، ثم ما يضاف إلى ذلك من إضاعة الصلوات، وسائر الحقوق والواجبات.
ولذلك كان من المهم الإجابة عن ذلكم السؤال فنقول: إن المؤمن ليس في وقته وقت فراغ، يقضيه سبهللاً لا إلى دنيا ولا إلى آخرة لأن الوقت في حياة المؤمن لا يقدر بثمن، فليس وقته كما يقال: من ذهب، وإنما وهو أغلى من ذلك بكثير، لأن وقته يعني حياته، كما قال الحسن يا بن إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك
فالليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، والسعيد من استطاع أن يقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو, والأمر أعجل من ذلك، والموفق من تزود لسفره، وإنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق، والليالي متجر الإنسان والأيام سوق 1.
وقد خاطب الله نبينا ونحن تبع له فقال - تعالى-: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } 2. أي فإذا فرغ من عبادة أقبل على الأخرى، وإذا فرغ من عمل أقبل على العمل الآخر، وهكذا.
حتى يصل بنا ذلك إلى الغاية التي يسعى لها كل مسلم وهي الجنة، بتحقق الوظيفة التي لأجلها خلق الجن والإنس، { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } 3. هذه الوظيفة التي لا ينبغي للإنسان أن يقضي وقته إلا فيها . عبادة ربه وخالقه ومولاه، وإلا كان الغبن والخسارة, قال قتادة بن خليد: المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال: مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة من أمر دنياه لا بأس بها.
وقد جاء في الحديث ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ " 4. أي وربي لقد غبن كثير من الناس بعدم استغلالهم لفراغهم وصحتهم في طاعة ربهم.
إن الصحة والفراغ هي الأبواب التي تلج منها الشهوات، ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبه بالعطب، وقد صدق من قال: من الفراغ تكون الصبوة. ورحم الله الشافعي إذ يقول:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
والعاقل الموفق من أدرك حقيقة تلك النعم، فاغتنم عمره في علم نافع يحفظه، أو عمل مفيد يقوم به يحفظ له ولأمته الرفعة والتمكين، ويجعلها خير أمة أخرجت للناس إن من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثلة، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه؛ فقد عق يومه، وظلم نفسه وظلمه...
ولهذا حرص الموفقون على الاستفادة من كل دقيقة وثانية من حياتهم؛ بالعمل الصالح، وعدوا ذلك مغنماً.. وعلموا أن ضياعها بدون فائدة مغرماً..
قال عمر بن ذر.. قرأت كتاب سعيد بن جبير إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة.. وهذا المغنم هو حصيلة أعمال صالحة قدمت.. صلاة وصيام وتسبيح وغيره5.
أيها المؤمن: إن من علامة إعراض الله عنك أن يجعلك تشغل فيما لا يعنيك خذلاناً من الله - عز وجل - لك.
وانظر إلى حال بعض الموفقين كيف استفادوا من أوقاتهم واستغلوه فيما يرضي خالقهم، فقد قيل أن الإمام الشافعي كان يجزأ ليله إلى ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام. وأمثاله كثير.
أخي المسلم: إنه ينبغي عليك أن تتخذ من مرور الساعات والدقائق والليالي والأيام عبرة لنفسك، فإن مرور الساعات والدقائق والليالي والأيام؛ كما قال الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلة أهرمت يومها أتى بعد ذلك يومٌ فتى(/1)
إن مضي الزمن واختلاف الليل والنهار لا يجوز أن يمر بالمؤمن وهو في ذهول عن الاعتبار به، والتفكر فيه، ففي كل يوم يمر، بل في كل ساعة تمضي، بل في كل لحظة تنقضي، تقع في الكون والحياة أحداث شتى، منها ما يرى وما لا يرى، ومنها ما يعلم ومنها ما لا يعلم.. فمن أرض تحيا، وحبة تنبث، ونبات يزهر، وزهر يثمر، وتمر يقطف، وزرع يصبح هشيماً تذروه الرياح، أو من جنين يتكون، وطفل يولد، ووليد يشيب، وشيخ يتكهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت...6 إلى غير ذلك.
إذا كنت في الأمس أسأت فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غد لعل غداً يأتي وأنت فقيد
ويومك إن عاتبته عاد نفعاً إليك وما ضُحى الأمس ليس يعود
وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يشغلك عن الله - تعالى- أحد فافعل.
أيها الشاب: إن زمن الشباب زمن الصحة والقوة.. الحركة سريعة، والوثبة قوية، والحواس مكتملة... ماذا قدمت في هذا الوقت؟ وهي صحة لن تعود، ونشاط لن يبقى، وحواس تنقص..
كانت صفية بنت سيرين توصي فتقول.. يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
إن الشباب حجة التصابي روائح الجنة في الشباب
بعض الشباب يرى أن لديه وقت فراغ ... وساعات لا يحتاج إليها.. ويبرر لنفسه بما يشاء.. خرج القاضي شريح على قوم من الحاكة في يوم عيد وهم يلعبون، فقال: ما لكم تعلبون؟ قالوا: تفرغنا!! قال: أو بهذا أمر الفارغ، وتلا قوله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } 7 .8
أيها الشباب: إن الشباب أمثالكم في عهود الإسلام الأولى كان يشغلهم معالي الأمور، وكيف ينصرون دينهم، ويبلغون دعوة نبيهم؛ فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه يقود جيشاً عرمرماً، وفي الجيش كبار الصحابة، وتحت إمرته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وغيره من كبار الصحابة، وكان لا يتجاوز عمره حينها العشرين عاماً. وعلى بن أبى طالب رضي الله عنه كان يصول ويجول في ساحات القتال، يقاتل الأشداء من الكفار مبارزة.
وابنا عفراء يتصديان لقتل فرعون هذه الأمة أبا جهل؛ واسمع إلى قصتهما العجيبة؛ فعن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت : نعم، ما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا وإن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيها فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: " أيكما قتله ؟" قال كل واحد منهما أن قتلته، فقال : " هل مسحتما سيفكما ؟" قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: " كلا كما قتله" 9 . وابن عباس ترجمان القرآن؛ كان مرجعية علمية وآية في الفهم والحفظ على صغر سنه.
كرر عليّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إنني أحذر نفسي وإياكم من آفات الوقت القاتلة، والتي منها:
أولاً: الغفلة؛ فإن الله تعالى قد حذرنا من الغفلة أشد التحذير، حتى إنه جعل أهلها أضل من الأنعام سبيلاً، بل جعلهم حطب جهنم وساءت، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } 10 .
وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من أن يطيع أو يسمع للغافلين؛ كما في قوله تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } 11.
أرشد سبحانه وتعالى إلى علاج من هذه الآفة؛ في قوله سبحانه: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } 12 .(/2)
ثانياً: التسويف وهو من آفات الوقت القاتلة، حيث تتنقل بالإنسان في أعماله من وقت لوقت ومن زمان لزمان ومن مكان لمكان، حتى ينقطع وهو لا أظهر أبقى وعمل قضى، لا سيما الأعمال التي تقربه من الله خالقه ومولاه، فكم نسمع بعض الناس إذا نصحوا أو وجهوا أو أمروا بما ينفعهم، يقولون : سوف نتوب، وسوف نعمل،... وأقول: احذروا - بارك الله فيكم - من سوف؛ فإنها جندي من جنود إبليس، وكما قيل: سوف تسلف، وذلك حين لا يجدي التسلف، قال الله تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } 13 .
ومن الذي يضمن لك أيها المسوف المؤخر لعملك اليوم غدٍا وأنه لك لا عليك؛ وأنك ستعيش إلى غد، وأنَّ الموت لن يأتيك بغتة، { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } 14 { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } 15.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من فتى يمسي ويصبح آمناً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
ثم إن لكل يوم عمله، ولكل وقت واجباته، فليس هناك مجال للتسويف، ولما قيل لعمر بن عبد العزيز، وقد بدا عليه الإرهاق من كثرة العمل: أخر هذا إلى الغد. فقال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليّ عمل يومين؟!
وقال الحسن البصري رحمه الله: إياك والتسويف، فإنك بيومك، ولست بغدك، فإن يكن غد لك، فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم.
وكتب محمد بن سمرة السائح إلى يوسف بن أسباط يقول: أي أخي! إياك وتأمير التسويف على نفسك، وإمكانه من قلبك، إنه محل الكلال، وموئل التلف، وبه تقطع الآمال، وفيه تنقطع الأجيال، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك، وهواك عليه فعلاً، واسترجعا من بدنك من السآمة ما قد ولى عنك، فعند مراجعته إياك لا تنفع نفسك من بدنك بنافعة، وبادر يا أخي فإنك مبادرٌ بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجد فإن الأمر جد، وتيقظ من رقدتك، وانتبه من غفلتك، ونذكر ما أسلفت وقصرت، وفرطت وجنيت وعملت، فإنه مثبت محصى، فكأنك بالأمر قد بغتك، وأعطيت بما قدمت، أو ندمت على ما فرطت.
فالله الله - عباد الله - في الحفاظ على الأوقات واستغلالها فيما يرضي رب الأرض والسماوات، والحذر والحذر من الغفلات، وتأخير الطاعات والتسويف في فعل الخيرات؛ وإضاعة الأوقات فيما يسخط عالم السر والخفيات. وما يسبب لكم الفوات أو للنفس اعتياد المنكرات، وكما قيل:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
واعلموا أن العمل مهمة الإنسان الحي، فالذي لا يعمل لا يستحق الحياة، بل هو ميت، وكل عمل ابن آدم عليه إلا عمل الآخرة وما يقرب إلى الله - عز وجل –، فإنه له يضاعف له الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف كثيرة، ولا يمنع ذلك من أن يعمل الإنسان لدنياه، وما يعينه في مسيره إلى الآخرة، لكن يعمل للدنيا، وشعاره: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيننا على أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعصمنا من كل سوء ومكروه، وأن يعنا على استغلال أوقات عمرنا فيما يرضيه لنا، إنه جواد كريم..
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الكفرة والملحدين، واجعل كلمة هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا وأتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
________________________________________
1- ابتصرف من الوقت انفاس لا تعود صـ ( 16- 17 ).
2 - سورة الشرح (7 - 8).
3 - سورة الذاريات (56).
4 - رواه البخاري ومسلم.
5- الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم صـ ( 13- 15) .
6- الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم صـ ( 21-22 ). نقلاً عن الوقت للقرضاوي.
7 - سورة الشرح (7) (8).
8- الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم صـ ( 30-31) .
9 - رواه البخاري ومسلم.
10 - سورة الأعراف(179).
11 - سورة الكهف(28) .
12 - سورة الأعراف(205).
13 - سورة الشعراء (88) (89) .
14 - سورة الأنعام (47).
15 - سورة الأعراف(34).(/3)
ساعات الندم لفضيلة الشيخ نبيل العوضي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ساعات الندم!
في ساعات الندم لا يجلس الإنسان إلا ويتذكر معاصيه وذنوبه، ويتذكر فيها ما فرط في الدنيا وغفلته فينتبه فيصبح عنده انكسار لله عز وجل يندم فيه على ما فرط.
استمعوا إلى هذه القصة: شاب صغير السن هداه الله في بيتٍ قد امتلأ بالفجور والمعاصي والمنكرات والفواحش، أبوه لا يعرف القبلة، حاول أن يدعو أباه إلى الله فلم يستجب له، فأتى إلى إمام المسجد يبكي عنده ويقول له: إن أبي يعصي الله ولا يعرف ربه، حاولت أن أدعوه إلى الله فلم يستجب لي، فماذا أفعل؟ قال له: إذا قمت في الثلث الأخير من الليل فتوضأ وضوءك للصلاة -وكان حافظاً صغيراً- ثم صلِ لله ركعتين وادع الله عز وجل في تلك الركعتين أن يهدي أباك، قال: فكان الشاب في كل ليلة يفعل هذا الفعل، وفي ليلة من الليالي قام الشاب يصلي في الليل فدخل الأب البيت بعد سفرةٍ قد فعل فيها ما فعل، ولم يكن أحد يدري به، ففتح الباب ودخل والناس نيام في البيت، فسمع صوت بكاءٍ في غرفة من الغرف فاقترب ينظر فإذا ابنه الصغير يبكي، فاقترب منه ليسمع ماذا يقول، فسمع ابنه يرفع يديه إلى الله وهو يقول: اللهم اهد أبي، اللهم اشرح صدر أبي للإسلام، اللهم افتح صدر أبي للهداية، فسمع الأب هذا الكلام وإذا به قد انتفض وأخذته قشعريرة، قال: فخرج من الغرفة واغتسل ثم رجع إلى الغرفة والابن ما زال يبكي ويرفع يديه إلى الله، فصلى بجنب ابنه ورفع يديه بجنب ابنه والابن يقول: اللهم اهد أبي والأب يقول: آمين، اللهم افتح قلب أبي، والأب يقول: آمين، فبكى الأب وبكى الابن، فلما انتهى الابن من صلاته التفت فرأى أباه يبكي فاعتنق أباه وجعلا يبكيان إلى الصباح، فكانت بداية هداية هذا الأب.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة : (الندم توبة ) فإذا جلس الإنسان يتذكر ذنوبه وأخذ يذكر تلك المعاصي، وتلك الليالي الظلماء، ويتذكر يوم أن جلس مع صديق السوء، ويتذكر يوم أن فتح المجلة الخليعة فنظر، ثم يتذكر عفو الله عليه، وإمهال الله له وحلم الله عليه يبكي والله.
قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]^ فاحشة يعني: كبيرة، ظلموا أنفسهم يعني: صغيرة وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]^.
من ساعات الندم
ندم الصالحين على فوات الطاعة
ومن ساعات الندم: ساعات المؤمنين الطائعين الصالحين إذا فاتتهم الطاعة تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92]^.
روي أن حاتم الأصم وهو رجل صالح فاتته صلاة العصر في جماعة، فصلاها في البيت، فجلس يبكي؛ لأن صلاة الجماعة قد فاتته -نقول هذا لكثيرٍ من المؤمنين الذين تفوتهم الصلاة بكليتها حتى يخرج وقتها- فجاءه أصحابه يعزونه على فوات صلاة الجماعة، فنظر إليهم وكانوا قلة فبكى، قالوا: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: لو مات ابن من أبنائي لأتى أهل المدينة كلهم يعزونني، أما أن تفوتني صلاة فلا يأتيني إلا بعض أهل المدينة!! ووالله لموت أبنائي جميعاً أهون عندي من فوات صلاة الجماعة: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92]^ ندم لأنه ترك الطاعة، وندم لأنه ارتكب المعصية، فهذه من ساعات الندم.
ساعة الاحتضار
ومن ساعات الندم -أيها الإخوة!- ساعة كلنا مقبلون عليها، وكل منا سوف يأتيها، الصالح والفاجر والملك والفقير، العظيم والحقير، الكبير والصغير، كلٌ منا سوف يقدم عليها، ما هي هذه الساعة؟
إنها ساعة الاحتضار، روي عن أبان بن عياش رحمه الله، قال: خرجت من عند أنس بن مالك في البصرة فإذا جنازة تمر عليَّ يتبعها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله! جنازة لا يتبعها إلا أربعة! قال: فأخذت العهد على نفسي لأتبعن هذه الجنازة، فاتبعتها حتى إذا كنا في المقبرة، قال: فصلينا عليها ثم دفناها وبعد أن قضينا دفنها قلت لهم: أسألكم بالله جنازة من المسلمين لا يتبعها إلا أربعة نفر أين المسلمون؟! فقالوا: انظر إلى هذه المرأة، فإذا امرأة من بعيد، قالوا: فإنها استأجرتنا لنتبع هذه الجنازة، اذهب إليها فاسألها عن الخبر، قال: فتبعتها حتى دخلت بيتها، فطرقت الباب عليها فخرجت فسألتها فقلت: يرحمك الله ما بال هذه الجنازة؟ قالت: هذا ابني، لما حضرته ساعة الوفاة -انظروا إلى الندم وتذكر المعاصي وكان عاقاً لأمه فاجراً فاسقاً- قال لي: يا أماه! أتريدين السعادة لي؟ قلت: إي والله أريد لك السعادة.(/1)
مهما عق الابن أمه أو أباه فإنهم في تلك الساعة ينسيان كل شيء ولا يتذكران إلا سعادة الابن، قلت: إي والله أريد لك السعادة، فقال: إذا اقتربت ساعتي فضعي قدمك على خدي ثم قولي: هذا جزاء من يعصي الله، ثم ارفعي يديك إلى الله عز وجل وقولي: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه، فارض عنه، ولا تخبري أحداً بموتي فإنهم يعرفون أني أعصي الله ولا أطيعه، تقول: فلما اقتربت ساعته وضعت قدمي على خده ورفعت يديَّ إلى الله، وقلت: هذا جزاء من يعصي الله، اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، قال: وبعد قليل تبسمت، فقلت لها: ما الذي حدث؟ قالت: رأيته البارحة في المنام وهو يضحك فقلت له: مالك؟ قال: لقيت رباً كريماً رحيماً غير غضبان؛ بدعوتك لي يا أماه.
انظروا إلى تلك الساعة التي يقترب فيها الرجل من آخرته.
عثمان رضي الله عنه كان إذا حضر جنازةً بكى، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [القبر أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر، وإن كان شديداً فما بعده أشد ].
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخليفة الراشد بعدما صلى بالمسلمين العيد خرج مع أصحابه فمر على مقبرة فقال لأصحابه: اجلسوا انتظروني، فنزل من بغلته -وكان أميراً للمؤمنين- ونظر إلى الملوك والأمراء والوزراء والعظماء والسادة أين هم تحت التراب، فأخذ ينشد ويقول:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وما توا جميعاً ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
ثم قال: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟! ثم جلس وأخذ يبكي وينتحب، ثم رجع إلى أصحابه وهم ينظرون إليه، فقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا ندري. قال: يقول: بدأت بالحدقتين فأكلت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الفخذين.
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27]^.
ساعة ندم، تتذكر فيها -يا عبد الله- يوم كنت تفتح المجلة وتنظر إليها ولا أحد ينظر إليك، تتذكر يوم كنت تجلس أمام التلفاز وتقول: سوف أستغفر الله.. سوف أصلي.. سوف أتوب، تتذكر يوم أن كنت تحادثها بالهاتف ولا أحد يسمعك إلا الله، تتذكر يوم أن كنت تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر وتستيقظ ثم تقول: أصلي بعد طلوع الشمس، تتذكر يوماً من الأيام كنت تسمع الصالحين ينادونك فلا تستجيب لهم، تتذكر يوماً من الأيام تسمع مجالس الذكر فتولي هاربا، يوماً من الأيام كنت تأكل الربا، كنت تستهزئ بأهل الدين، وفي تلك الساعة تحس أن نبضات قلبك أصبحت ثقيلة، ضربة تسمعها، ثم ضربة أخرى تعدها، ثم ضربة ثالثة، ما بال القلب بدأت تثقل ضرباته؟ ما بال الأنفاس كأنها تخرج من ثقب إبرة؟ تنظر حولك، فإذا الأم تبكي عليك، تنظر إلى زوجتك قد احتضنت ابنتك وهي تبكي عليك، ابنك الصغير قد رمى نفسه عليك وهو يبكي ويقول: أبي..أبي! ولا تستطيع أن تجيبه، تنظر إلى أبيك وقد جاء بالطبيب، والطبيب يسمع دقات قلبك، وأنت تنظر وتعلم أن الفراق قد أتى، تنظر إلى إخوانك يبكون ويندبون وينوحون، تنظر إلى من حولك هم في واد وأنت في وادٍ آخر، ما بال القدمين قد بردتا؟ ما بال الساقين قد التصقتا؟ ما بال الكفين لا تستطيع أن تحركهما؟ ما بال العينين قد شخصتا كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30]^.
تريد الروح أن تخرج فتنطلق تلك الصرخة رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]^ فتسمع الجواب: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]^.
لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة ماذا كان يقول؟ قال: [أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. ثم قال: مرحباً بالموت زائراً مغيباً، وحبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك ].
أبو هريرة لما حضرته الوفاة، أتعرفون من هو أبو هريرة ؟ إنه طالب العلم الزاهد العابد، ما كان يشبع ليلة.. يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع العلم يقول: [لقد رأيتني يوماً أصرع يحسب الناس أنني مجنون وما بي إلا الجوع ] جاع بطنه لله لطلب العلم، ليحفظ لنا هذا الدين، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: [بعد السفر، وقلة الزاد، والخوف من الوقوع من الصراط في النار ].
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]^ كل نفس سوف يأتيها هذا اليوم
يا غافلاً عن العمل قد غره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل(/2)
في تلك اللحظة تتذكر يوماً من الأيام ذهبت إلى بلاد الكفر والفجور والزنا والخنا فواقعته، تتذكر يوماً من الأيام كنت تسمع النداء فتولي هارباً، تتذكر يوماً من الأيام كنت تُدعى للإنفاق فأمسكت وأحجمت وبخلت، تتذكر يوماً من الأيام مررت على المنكرات والذنوب والفواحش ولم تنكرها، لم تأمر بالمعروف، ولم تنه عن المنكر، لم تتكلم في سبيل الله، لم تفعل شيئاً في سبيل الله، تتذكر هذه الذنوب كلها وأنت طريح الفراش.
ساعة الانتباه في القبور
من ساعات الندم: ساعة يطول فيها مكوث العبد في قبره في الظلمة، يقام في ذلك القبر الضيق المظلم فماذا ينظر؟ إنه يرى ملكين أسودين أزرقين يقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، هاه هاه لا أدري، ماذا يدري في الدنيا؟ ماذا يحفظ؟ يحفظ الأغاني والزمر والطرب، يحفظ المسلسلات والأفلام، أما أنه يحفظ كلام الله فلا والله، أما أنه يعرف السنن، فلا والله، كان يقلد فلاناً وفلانة ولا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يعرف في الدنيا كلام الله، بل كان يعرف كلام الشيطان.
إن لم تجب على ذلك السؤال ماذا يكون مصيرك؟!!
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]^.
الآن يتذكر عقوق والديه، يوم عق والده، وعق أمه، يوم قطع رحمه، الآن يتذكر يوم أكل الربا، ويتذكر يوم استمع إلى الأغاني، يأتيه رجلٌ منتن الثياب قبيح المنظر وجهه يجيء بالشر فيقول: من أنت؛ فوجهك يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.. أنا ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى تلك المنكرات، أنا ذلك اليوم الذي غبت فيه عن الصلوات، أنا ذلك اليوم الذي استمعت فيه إلى الأغاني والمسلسلات، أنا ذلك اليوم الذي تجولت فيه في الأسواق تنظر إلى النساء يمنة ويسرة لا ترعى لله حرمة، أنا ذلك اليوم الذي غفلت فيه عن الله وفرطت فيه في الطاعات، أنا ذلك اليوم... أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد.
ساعة البعث من القبور
من ساعات الندم: يوم يكون العبد في قبره معذباً يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، وفي لحظة من اللحظات ينشق عنه القبر، ماذا يسمع؟ يسمع صوت السماء وهي تنشق وتنفطر، ينظر إلى الكواكب وهي تتناثر، والشمس قد انطمست وذهب نورها، يخرج من قبره فينظر إلى البحار قد انفجرت وتحولت إلى طين، ماذا يخرج من تحته؟ إنهم أناس يخرجون من تحته، والوحوش تخرج، ما بال الناس ينفضون عن وجوههم التراب، ماذا يقول؟ يقول إن كان مفرطاً: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]^ يصرخ.. يا ويلنا ماذا فعلنا في الدنيا؟! كان لاهياً غافلاً متمتعاً، كان يأكل ويشرب، كان يلهو ويلعب، كان غافلاً عن الأجل فيصرخ ويقول: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]^ فيقول الصالحون له: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]^.
فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز كانت تبكي بعد وفاة عمر ، فقيل لها: ما يبكيك؟! أأسفاً على عمر ؟ فوالله إنه بعد الموت لهو خير منه قبله، فقالت: لا والله ما أبكي على موته ولا على وفاته، تقول: رأيته ليلة قائماً يصلي، فأخذ يقرأ حتى وصل إلى قول الله: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:4-5]^ فصاح وقال: يا سوء صباحاه! يا سوء صباحاه! حتى سقط، ثم قام على ذراعيه وأخذ يبكي ويئن حتى ظننت أن روحه سوف تخرج، ثم هدأ، ثم بعد ذلك قرأ مرةً أخرى وقال: يا سوء صباحاه! يا سوء صباحاه! ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، تقول: ثم سقط كالميت ولم يستيقظ إلا على أذان الفجر تقول: فكلما تذكرته بكيت: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق:41-42]^ يا له من ندم! ويالها من حسرة! تخرج فتنظر إلى أمك وهي تناديك وتقول: يا بني! حسنة أتبلغ بها، يا بني: حسنة أفك بها رقبتي من النار، فتقول لها: إليكِ عني، إليكِ عني. يناديك الأب، فيقول: يا ولدي! لقد أطعمتك من جوع وكسيتك من عري، يا بني! حسنة أتبلغ بها، فتقول له: نفسي نفسي، إليكَ عني يا أبي. يأتيك الابن فيبكي ويقول: يا أبي! حسنة أدخل بها الجنة، فتقول له: إليك عني إليك عني. فهذه من ساعات الندم.
ساعة رؤية جهنم(/3)
ومن ساعات الندم: ذلك اليوم الذي سماه الله يوم الحسرة، لم سمي يوم الحسرة؟ لما يتحسر فيه الناس ويندمون على ما فرطوا في هذه الدنيا، فإذا رأوا جهنم تذكروا الدنيا، وتذكروا الملذات، والناس إذا رأوا جهنم جثوا على الركب، وأيقن المجرمون أنهم بالعطب، وأفصحت جهنم عن الغضب، وهناك يقول كل واحد من الناس: نفسي نفسي: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12]^ يرى الناس جهنم وهي تجر، لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يقول النبيون نفسي نفسي، ماذا يقول المذنبون؟ ماذا يقول المسيئون؟ ماذا يقول المذنب؟ إذا كان الأنبياء يقولون: نفسي نفسي، ماذا نقول نحن يا عباد الله؟
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7]^ ثم نتذكر في ذلك الموقف: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ [الفجر:21-23]^ تلك الليلة التي فرح فيها أهل البيت عندما كانوا بجوار التلفاز، كم يفرحون؟ كم يسعدون بتلك الليلة؟ يتذكرها.
وتلك الليلة التي سافر فيها مع زوجته وأبنائه إلى دول الفجور والزنا والخنا، كانوا سعداء في الدنيا فيتذكرها، يتذكر تلك الليلة عندما كانت في السوق فنظر إليها فكلمها وكلمته وتواعد معها وقابلها، يتذكر تلك الليلة التي مر فيها على المنكرات فغض البصر، ولم يتكلم ولم ينه عن تلك المنكرات ولم يغيرها: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23]^ يتذكر يوم قالت له أمه: افعل، فقال: لا أريد أن أفعل، ويتذكر يوماً من الأيام كان يقول لأمه: لم فعلت؟ ولم لم تفعلي؟ وكان يرفع صوته عليها، يتذكرها: وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً [الكهف:53]^
يا غافلاً عما جاء في القدر ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت للظالمين فلا تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجر
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]^.
ساعة جعل الحسنات هباء منثوراً
نظرت إلى الصلوات، ونظرت إلى الصيام والحج فإذا بها قد جعلها الله هباءً منثوراً، نظرت إلى عبادتك إلى طاعتك ففرحت، جبال من الحسنات فإذا الله عز وجل يجعلها هباءً منثوراً! لم؟ في ليلة من الليالي كنت تجلس لوحدك فتعصي الله، فتجد بعض الناس في تلك الساعة يعضون أصابعهم من الندم وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27]^.
شاب صالح كان يصلي مع الناس، وكان ملتزماً بدين الله، تعرف على بعض الشباب الفسقة الفجرة، تعرف عليهم ولم يكن يعلم خطر جليس السوء، فاستدرجوه ليذهب معهم إلى بؤر الزنا والخنا، فراودوه حتى أقنعوه بهذا، فذهب معهم إلى تلك الدولة، وفي تلك البلاد لم يكن يمضي معهم الليل، كان إذا جاء الليل ذهب لوحده في الغرفة فأغلق على نفسه الباب حتى لا يعمل معهم المنكرات، فهو شاب طيب صالح، كل ليلة على هذه الطريقة يجلس معهم في النهار، فإذا جاء الليل ذهب لوحده في الغرفة وأغلق على نفسه الباب، ولم يرض أهل السوء والفجور إلا أن يدخلوه معهم في جهنم، وفي تلك الليلة أتوه بامرأة عارية ففتحوا عليه الباب، وأدخلوا المرأة إلى الغرفة ثم أغلقوا الباب عليه، ومازالت تراوده وتراوده حتى وقع عليها، فلما وقع عليها قبض الله روحه.
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]^.(/4)
ماذا ترى في يوم الحسرة؟ ترى بعضهم يصرخ ويقول: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40]^ تنظر يمنة ويسرة فترى الولدان قد شابت رءوسهم، ترى القلوب قد بلغت الحناجر في يوم الندم والحسرة، ترى بعض الناس يصرخ، ما هذا؟! لأنه كان يزني ويشرب الخمور والمخدرات، كان لا يصلي، كان لا يعرف لله عز وجل حقاً، تنظر إليه في تلك الساعة وهو يبكي ويقول: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56]^ وبعضهم ماذا يقول؟ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]^ وكذب والله! لو كان يريد الهداية لهداه الله، ولو بدأ بالخير لأعانه الله عليه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3]^ حتى يوم القيامة يكذب على الله ويقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]^.
ساعة الوقوف للحساب
وفي تلك اللحظة وهو قد ندم وتحسر يناديه الله عز وجل، وتناديه الملائكة: أين فلان بن فلان؟ فيريد أن يهرب لكن الملائكة يأتونه ويجرجرونه بالسلاسل، فيقف أمام الله فيذكره الله عز وجل بذنوبه ومعاصيه، فيقال له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر تلك الليلة؟ أتذكر ذلك النهار؟ أتذكر يوم كنت تستهزئ بالصالحين؟ أتذكر يوم كنت تغتاب الناس؟ أتذكر ذلك المجلس الذي كنت تستهزئ به من فلان وفلان؟ أتذكر وتذكر ثم يقال: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * >ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]^.
انظر إلى حالهم أمام الله وقد قُرروا بالذنوب وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]^ بلغت القلوب الحناجر وشخصت الأبصار، انظروا إلى النار التي كنتم تستهزئون بها وتكذبون: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا [الطور:15-16]^ انظروا إلى النار وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً [الكهف:53]^.. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]^.
مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على وجل انظر إليه ترى أن كان ما كانا
لما قرأت كتاباً لا يغادرني حرفاً وما كان في سرٍ وإعلانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي روا بعبدي إلى النيران عطشانا
يا رب لا تخزنا يوم الحساب ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانا
قرأ عمر بن الخطاب يوماً في الصلاة سورة الطور: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2]^ حتى بلغ قوله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7-8]^ فسقط مريضاً في البيت شهراً كاملا، يعوده الناس وما به شيء إلا أنه تذكر تلك الآية. النبي صلى الله عليه وسلم يمر في ليلة من الليالي على بعض البيوت، فسمع عجوزاً تقرأ القرآن، فاقترب من البيت يستمع إليها ماذا تقول؟ فكانت تردد قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]^ من المخاطب؟ إنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
ما هي الغاشية؟ إنها القيامة.. الطامة الكبرى.. الصاخة، هل أتاك يا محمد هذا الحديث؟ حديث عجيب وأمر غريب، وهولٌ عظيم، وكرب وزلزلة شديدة، هل أتاك يا محمد؟ يقول: فاقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب وأخذ يستمع إليها وهي تقرأ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]^ فكان يقول وهو يبكي: نعم أتاني.. نعم أتاني.
عمر بن عبد العزيز قام ليلة من الليالي فأخذ يبكي فأبكى أهله وأبكى الجيران، فلما أصبح سألوه: ما بالك يرحمك الله في الليلة الماضية تبكي؟ قال: [قرأت قول الله عز وجل: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]^ فلا أدري إلى أيهما أصير، فبكى وبكى حتى سقط من البكاء رحمه الله ].
ساعة الندم في النار
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم ) الدمع ينقطع في النار فيبكون الدماء، هل تصورت هذا المنظر؟ وهل تعدل النظرة إلى التلفاز تلك اللحظة؟ هل تعدلها تلك السهرة أو ذلك اللقاء معها؟ هل تعدلها تلك الصحبة الفاسدة؟ لا والله.
يقول: (ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود من كثرة البكاء -تشق الوجوه كالأخاديد- ولو أنزلت فيه السفن لجرت ) لو أنزلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت السفن.(/5)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [الأحزاب:66]^ فماذا يتذكرون؟ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:66-67]^.
يا سائراً في غمرة الجهل والهوى صريع الأغاني عن قريب ستندم
أتت الذي ليس تعجب سوى جنة أو حر نارٍ ستضرم
وبادر مادام في العمر فسحة وحجك مبرور وفرضك طيب
وزد وسارع واغتنم زمن الصبا ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسرعاً فالموت خلفك مسرعا وهيهات ما منه مفر ومهزم
في تلك الساعة الأخيرة؛ ساعة الندم الأخيرة ينادون ربهم ويقولون: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107].
يقول الحسن لصاحبه بعد أن دفنوا جنازة: لو قام من قبره ماذا تظنه يفعل؟ قال: يصلي ركعتين، قال: فإن لم يكن هو فكن أنت.
يرد الله عليهم في النار بعد أن قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]^ فهناك يعترفون ويقولون: كنا قوماً ضالين.. كنا غافلين.. كنا لا هين.. كنا جاهلين، فيرد الله عز وجل عليهم بعد سنواتٍ طوال قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]^.
فبعد هذا لا يتكلمون وتطبق عليهم النار وتغلق الأبواب، نعوذ بالله من جهنم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم
الصوت الإسلامى
...(/6)
سب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم سب لجميع المسلمين
إعداد/ زكريا حسيني
الحمد لله رب العالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق، سيد ولد آدم، حامل لواء الحمد، نبي الهدى والرحمة، وعلى آله وصحبه، الذين جاهدوا معه، وبلغوا رسالة اللَّه للناس، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
وبعد:
«عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ أعْمَى كانت له أُمُّ وَلِدٍ كانت تَشْتِمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فيه، فَيَنْهَاهَا فلا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فلا تَنْزَجِرُ! قال: فلما كان ذاتَ ليلةٍ جعلتْ تَقَعُ في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغْول فوضعه في بطنها واتكأ عليه فقتلها فوقع بين رِجْلَيْهَا طِفلٌ، فَلَطَخَتْ ما هنالك بالدَّمِ ! فَلمَّا أصبحَ ذُكِرَ ذلك لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: «أَنْشُدُ اللَّهَ رجلاً فَعَلَ ما فَعَلَ، لي عليه حقٌّ إلاَّ قامَ». فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يَتَزَلْزَلُ حتى قعد بين يَدَيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّه، أنا صاحِبُهُا، كانت تَشْتِمُكَ وتقعُ فيك فأَنْهَاها فلا تَنْتَهي، وأزْجُرُها فلا تَنْزَجِرُ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقةً، فلما كان البارحةَ جعلت تشتُمِكَ وتقعُ فيك، فأخذتُ المغْولَ فوضعته في بطنها، واتكأْتُ عليها حتى قتلتها ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَها هَدرٌ».
هذا الحديث أخرجه الإمام أبو داود في سننه في كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (4361)، وأخرجه الإمام النسائي في سننه في كتاب المحاربة باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم برقم (4075)، وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم (8044)، والدارقطني والطبراني في الكبير، وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (5/92) برقم (1251) وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم.
شرح ألفاظ الحديث
«أُمُّ وَلَدٍ»: أي غير مسلمة ولذلك كانت تجترئ على ذلك الأمر الشنيع.
«تقع فيه»: أي تَعِيبه وتذمه؛ يقال: وقع فيه أي عابَه وذمَّه.
«فلا تنزجر»: أي: فلا تمتنع.
«فأخذ المِغْوَلَ» بكسر الميم وسكون الغين المعجمة؛ شِبْهُ سيفٍ قصير يشتمل به الرجلُ تحتَ ثِيابِه فَيُغَطِّيه، وقيل حديدةٌ دقيقةٌ لها حدٌّ ماضٍ، وقيل هو سَوْطٌ في جوفه سيف دقيق يشده الفاتِكُ على وَسَطِه ليغتالَ به الناسَ، وقد جاء في بعض نسخِ أبي داود «المعول» بالعين المهملة، وهو آلة حديدية تستعمل في الخطر.
«واتكأ عليها»: أي تحامل عليها.
«فوقع بين رجليها طفل» لعله كان ولدًا لها، والظاهر أنه لم يمت.
«فَلَطَخَتْ» أي لوَّثَتْ.
«ما هناك» أي من الفراش.
«ذُكِرَ ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم » أي ذُكِرَ ذلك القَتْلُ.
«فقال: أَنْشُدُ اللَّهَ رجلاً» أي أسأله بالله وأُقْسِمُ عليه.
«لي عليه حق»: أي يجب عليه طاعتي وإجابة دعوتي.
«يَتَزَلْزَلُ»: وفي النسائي «يدلدل». وكلاهما بمعنى يتحرك ويضطرب في مِشْيته.
«قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم » أي قعد أمام النبي صلى الله عليه وسلم.
«مثل اللؤلؤتين» في الحسن والبهاءِ وصفاء اللون.
«أَلاَ اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»: أَلاَ بالتخفيف أداة تنبيه، وإهدار دمها، أي إبطاله، وأنه لا قصاص عليه في قتلها. قال السندي في شرحه على سنن النسائي: لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صدق قوله. واعتذار السندي هنا بقوله (لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صدق قوله لبيان أن لا يجوز لآحاد الناس فعل هذا الرجل الأعمى لأن هذا من وظائف إمام المسلمين).
أقوال العلماء في قتل من سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال السندي رحمه اللَّه: في الحديث دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن اللَّه ورسوله فلا ذمة له، فيحل قتله.
قال المنذري: فيه أن سَابَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل، وقد قيل: إنه لا خلاف في أن سابه من المسلمين يجب قتله، وإنما الخلاف إذا كان ذميًا، فقال الشافعي: يقتل وتبرأ منه الذمة، وقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ ما هم عليه من الشرك أعظمُ (أي أنَّ الشرك أعظم من سب النبي صلى الله عليه وسلم) وقال مالك: مَنْ شَتَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قُتل، إلاَّ أن يسلم. انتهى كلام المنذري. نقلاً عن عون المعبود.
ولقد روى أبو داود أيضًا من حديث عليّ رضي الله عنه: «أن يَهُوديَّة كانت تشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقع فيها فخنقها رجلٌ حتى ماتتْ فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها»، وصححه الشيخ الألباني في الإرواء تحت رقم (1251) 5/91، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ويشهد له حديث ابن عباس رضي الله عنهما - الذي معنا.(/1)
قال صاحب عون المعبود: فيه دليل على أنه يقتل من يشتم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله. وقال الخطابي: لا أعلم خلافًا في وجوب قتله إذا كان مسلمًا. وقال ابن بطال: اختلف العلماء في من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل من سبه صلى الله عليه وسلم منهم إلا أن يسلم، وأما المسلم فيُقتل من غير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه. وروى عن الأوزاعي ومالك في المسلم أنها ردة يستتاب منها، وعن الكوفيين إن كان ذميًا عُزِّرَ وإن كان مسلمًا فهي ردة.
موقف اليهود من النبي محمد صلى الله عليه وسلم
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان اليهود أول من أظهروا الحقد والحسد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم، عاهدهم ووادعهم، وكان المنتظر من أمثالهم أن يكونوا أول من يصدقه ويتبعه، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين، ويخبرونهم أنه أظلهم زمان آخر الأنبياء، وأنهم إن ظهر فسوف يتبعونه ويقاتلونهم معه، وهم يعرفون ذلك؛ يعرفون أن محمدًا حق وأن الإسلام حق كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ولقد جاءهم الأمر من اللَّه عز وجل أن يؤمنوا به، وأن يفوا بعهده ليوفي بعهدهم، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به، لكن هيهات، فإن قلوبهم قد امتلأت بالحسد عليه صلى الله عليه وسلم، وكانوا حقًا أول من كفر بمحمدٍ ودين محمدٍ صلوات اللَّه وسلامه عليه، ولم يكتفوا بالكفر به، بل حاولوا قتله بكل ما يستطيعون، وبكل ما أوتوا من قوة ومن مكر ودهاء وكيد للإسلام ولنبي الإسلام.
موقف بني قينقاع من الرسول صلى الله عليه وسلم
فأول قبائل اليهود نقضًا للعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بنو قينقاع وذلك في شوال من السنة الثانية من الهجرة بعد غزوة بدر مباشرة، فحاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد اللَّه بن أبيِّ - وكانوا حلفاءه - فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات.
موقف بني النضير مع النبي صلى الله عليه وسلم
ثم نقض بنو النضير العهد، وقد أرادوا الغدر برسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج إليهم يستعين بهم في دية رجلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية على سبيل الخطأ، وكان بين بني عامر وبني النضير عقد وحلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: نعم، ثم خلا بعضهم ببعض وعزموا على قتله صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة على رأسه وهو جالس بجوار جدار من جدرهم، فأوحي اللَّه تعالى إليه بذلك، فقام منصرفًا، ثم حاصرهم وأجلاهم إلى خيبر والشام. وفي رواية لابن مردويه: أن اليهود بعد غزوة بدر كاتبتهم قريش، فأجمعوا على الغدر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل صلى الله عليه وسلم، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع وصبحهم بالكتائب فحصرهم ثم أجلاهم.
موقف بني قريظة من الرسول صلى الله عليه وسلم
تمالأت قريظة مع قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحزبت مع الأحزاب، مُجْمِعةً على قتاله وقتال من معه من المسلمين، ناقضة عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في غزوة الأحزاب، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن توجه إليهم بأمر من اللَّه تعالى، حين نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مخبرًا إياه أن الملائكة لم تضع أسلحتها، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنًا يؤذن في الناس: من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلاَّ في بني قريظة.
موقف يهود خيبر معه صلى الله عليه وسلم
كان يهود خيبر من أكبر المحرضين للمشركين الوثنيين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا من أهم الأسباب في تجميع الأحزاب للقضاء على الإسلام ونبي الإسلام، فلذلك بعدما استقر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهدأت أحوال المسلمين بها تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم وتوجه إلى خيبر، لتأديبهم بسبب نقضهم العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/2)
ولقد بيّن القرآن الكريم موقف اليهود من الإسلام والمسلمين في أكثر من آية منه، ومن أجمعها قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين [المائدة: 82، 83]، هذا موقف اليهود من الإسلام ونبي الإسلام عند ظهوره، وبداية انتشار دينه.
فما موقف أعداء الإسلام اليوم ؟
لقد تفنن أعداء الإسلام في كل مكان باتهام الإسلام بأنه دين الإرهاب، وذلك يرجع إلى إساءة ربما صدرت من بعض المنتمين إلى هذا الدين ! وهؤلاء الأعداء؛ ألا يعرفون عن الإسلام إلاَّ هذه التصرفات التي يتبرأ منها الإسلام وأهله؟ إنهم صموا آذانهم وأغلقوا عقولهم وتغابَوْا - وهم يظهرون للناس أنهم أهل العقل والذكاء والفهم - عن أن يتعرفوا على الإسلام وسماحته، وأنه الدين الحق الذي ارتضاه اللَّه تبارك وتعالى لعباده، وأنهم - أعداء هذا الدين - ما نهضوا ولا عرفوا تطورًا ولا رقيًا إلا باقتباسهم من هذا الدين ما جعلهم يصلون إلى ما وصلوا إليه من رقي ورفعة.
ثم تجرأ أعداء الإسلام على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فصوروه بصور لا تليق بأرازل الناس وسفهائهم فضلاً عن المؤمنين الصالحين، وفضلاً عن رسل اللَّه وأنبيائه الذين هم خير البشر، بل خير الخلق.
سبب جرأة أعداء الإسلام على نبي الإسلام
إن هذه الجرأة إنما نشأت وظهرت بسبب ضعف المسلمين وجهل الكثير منهم بهذا الدين الحق، الذي قال اللَّه جل جلاله فيه: إن الدين عند الله الإسلام، وقال سبحانه: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. بل إن كثيرًا من المسلمين انبهروا بما عليه أعداء الإسلام من زخرف الحياة الدنيا، فنظروا إلى الدين على أنه أمرٌ هامشي، لا يهتمون به إلا بعد أن يفرغوا من أمور الدنيا، ولو علموا أن سعادتهم في الدنيا والآخرة إنما هي في نسبتهم إلى هذا الدين وتمسكهم به، لتمسكوا به وعَضُّوا عليه بالنواجذ، ولم يفرطوا في شيء منه أبدًا.
سبُّ النبي صلى الله عليه وسلم سبٌّ لجميع المسلمين وطعن في دينهم
معلوم أن رسل اللَّه عليهم صلوات اللَّه وتسليماته يأتون برسالات اللَّه ليبلغوها إلى أقوامهم، فهم واسطة بين اللَّه وبين عبادة، فمن سبَّ نبيًا من الأنبياء فقد طعن في رسالته، ولا شك أن الطعن في الرسول والرسالة طعن في المرسل - سبحانه - وبذلك نستطيع أن نعرف لماذا أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم اليهودية التي آذته وسبته، وإذا كان المشرك لا يعرف لله عز وجل حقًا ولا يرجو له وقارًا فلا يستغرب منه سبٌّ لنبيٍّ من الأنبياء، أما اليهود فإنهم أهل كتاب، أرسل اللَّه تعالى إليهم رسولاً وأنزل عليهم كتابًا، وفي كتابهم تعظيم شأن هذا النبي، فمن آذاه أو سبه فإنما يكفر بما عنده من العلم، ويكتم الحق وهو يعلم.
وحينما يسب الكفار المعاصرون نبي الإسلام فإن هذا السب والاستهزاء والسخرية إنما هو طعن في دين الإسلام وسبٌّ للمسلمين جميعًا الذين يدينون بدين الإسلام، لذلك وجب على المسلمين أن يهبوا دفاعًا عن أنفسهم وعن دينهم وعن نبيهم.
قال شيخ الإسلام في «الصارم المسلول»: وضرر السبِّ في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها وذل عصمتها وإهانة مستمسكها، وإلاَّ فالرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه في نفسه لا يتضرر بذلك. اهـ. (ص443).
واجب الأمة تجاه نبيها صلى الله عليه وسلم
يجب على كل مسلم من المسلمين تجاه نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
1- التعزير والتوقير، والذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، والتعزير كما في التفسير تأييده بالمعونة والنصرة ولا يكون ذلك إلا باتباع سنته.
2- تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه.
3- حبه صلى الله عليه وسلم، وتقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين، ويظهر ذلك في اتباعه والاقتداء به وحده.
4- الحذر من الاستهزاء بشيء من سنته، أو رَدّ شيء منها بالعقل.
5- محبة آل بيته وأزواجه وأصحابه، والتقرب إلى اللَّه تعالى بحبهم.
6- بيان حال من يطعن في صحابته أو أهل بيته.
7- تربية أبناء المسلمين على محبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وتعريفهم حقوقه صلى الله عليه وسلم على الأمة.
8- التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في سلوكه.
9- التعرف على سيرته صلى الله عليه وسلم وجهاده من أجل تبليغ رسالة ربه.
10- وعلى العلماء أن يعملوا على:
أ- إحياء سنته صلى الله عليه وسلم في نفوس الناس.
ب- التمييز بين الصحيح والضعيف مما يُنقل عنه من سنته.
جـ- التحذير من البدع في الدين التي أساءت إلى الإسلام.
د- التحذير من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، بل ينزل منزلته التي أنزله اللَّه تعالى إياها.(/3)
هـ- الرد على الشبهات والأباطيل التي يثيرها أعداء الإسلام وتفنيدها.
11- على الأمة الإسلامية أن تتصدى للإعلام الغربي واليهودي، والرد على ما يثيرونه من شبهات حول الإسلام ونبي الإسلام.
12- وعلى الأمة أيضًا أن تُعنى عناية فائقة بالدعوة إلى الإسلام، ودعم الدعاة ليقوموا بواجبهم تجاه الدين.
نسأل اللَّه تعالى أن يرد كيد الأعداء وأن يبطل مكرهم، وأن يعز دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين للدفاع عن دينهم، والذود عن نبيهم، والذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.(/4)
سبعون مسألة في الصيام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات ، فيها تضاعف الحسنات ، وتُمحى السيئات ، وتُرفع الدرجات ، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها ، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . وإنما خلق الله الخلق لعبادته فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه الله على العباد، فقال : ( كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ورغبهم فيه فقال : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) ، وأرشدهم إلى شكره على فرضه بقوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) ، وحببّه إليهم وخفّفه عليهم لئلا تستثقل النفوس ترك العادات وهجر المألوفات ، فقال عزّ وجلّ: ( أياما معدودات ) ، ورحمهم ونأى بهم عن الحرج والضرر ، فقال سبحانه : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، فلا عجب أن تُقبل قلوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم يخافونه من فوقهم ويرجون ثوابه والفوز العظيم .
ولما كان قدر هذه العبادة عظيما كان لابدّ من تعلّم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام ليعرف المسلم ما هو واجب فيفعله ، وما هو حرام فيجتنبه ، وما هو مباح فلا يضيّق على نفسه بالامتناع عنه .
وهذه الرسالة تتضمن خلاصات في أحكام الصيام وآدابه وسننه كتبتها باختصار عسى الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين والحمد لله رب العالمين
تعريف الصيام
1- الصوم لغة : الإمساك ، وشرعا الإمساك عن المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية .
حكم الصيام
2- أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض ، والدليل من الكتاب قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : بُني الإسلام على خمس : وذكر منها صوم رمضان رواه البخاري فتح 1/49 ومن أفطر شيئا من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها : " حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دما ، قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم " أي قبل وقت الإفطار صحيح الترغيب 1/420. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى : وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكّون في إسلامه ، ويظنّون به الزندقة والانحلال . وقال شيخ الإسلام رحمه الله : إذا أفطر في رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله ، وإن كان فاسقا عوقب عن فطره في رمضان . مجموع الفتاوى 25/265
فضل الصيام
3- فضل الصيام عظيم ومما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة : أن الصيام قد اختصه الله لنفسه وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب لحديث : " إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " البخاري فتح رقم 1904 صحيح الترغيب 1/407 ، وأن الصوم لا عِدل له النسائي 4/165 وهو في صحيح الترغيب 1/413 ، وأن دعوة الصائم لا تُردّ رواه البيهقي 3/345 وهو في السلسلة الصحيحة 1797 ، وأن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه رواه مسلم 2/807 ، وأن الصيام يشفع " للعبد يوم القيامة يقول : أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " رواه أحمد 2/174 وحسّن الهيثمي إسناده : المجمع 3/181 وهو في صحيح الترغيب 1/411 ، وأن " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " مسلم 2/807 ، وأن " الصوم جُنّة وحصن حصين من النار " رواه أحمد 2/402 وهو في صحيح الترغيب 1/411 وصحيح الجامع 3880 ، وأنّ " من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " رواه مسلم 2/808 ، وأنّ " من صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له به دخل الجنّة " رواه أحمد 5/391 وهو في صحيح الترغيب 1/412 . وأنّ في الجنة بابا " يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد " البخاري فتح رقم 1797 .(/1)
وأما رمضان فإنه ركن الإسلام وقد أُنزل فيه القرآن ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، و " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ " رواه البخاري الفتح رقم 3277 ، وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر أنظر مسند أحمد 5/280 وصحيح الترغيب 1/421 ، و " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري فتح رقم 37 ، و "لله عزّ وجلّ عند كلّ فطر عتقاء " رواه أحمد 5/256 وهو في صحيح الترغيب 1/419 .
من فوائد الصيام
4- في الصيام حكم وفوائد كثيرة مدارها على التقوى التي ذكرها الله عز وجل في قوله : " لعلكم تتقون " ، وبيان ذلك : أن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا في مرضاة الله تعالى وخوفا من عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام .
وأن الإنسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه ، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه ويده وفرجه ، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح .
وأن الصائم إذا ذاق ألم الجوع أحس بحال الفقراء فرحمهم وأعطاهم ما يسدّ جوعتهم ، إذ ليس الخبر كالمعاينة ، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجّل .
وأن الصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي ، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها . وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا .
وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين ، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد .
وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله سبحانه فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد ومنهم من يدخله لأول مرة ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد وهم في حال رقّة نادرة ، فلا بدّ من انتهاز الفرصة بالمواعظ المرقِّقة والدروس المناسبة والكلمات النافعة مع التعاون على البرّ والتقوى . وعلى الداعية أن لا ينشغل بالآخرين كليّا وينسى نفسه فيكون كالفتيلة تضيء للناس وتُحرق نفسها .
5- آداب الصيام وسننه
ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ، فمن ذلك :
الحرص على السحور وتأخيره ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة " رواه البخاري فتح 4/139 ، فهو الغداء المبارك ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، و " نِعمَ سحور المؤمن التمر " رواه أبو داود رقم 2345 وهو في صحيح الترغيب 1/448
تعجيل الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر رواه البخاري فتح 4/198 ، وأن يفطر على ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء ." رواه الترمذي 3/79 وغيره وقال حديث حسن غريب وصححه في الإرواء برقم 922 ، ويقول بعد إفطاره ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال : ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود 2/765 وحسن الدارقطني إسناده 2/185 البعد عن الرفث لقوله صلى الله عليه وسلم " .. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث .. " رواه البخاري الفتح رقم 1904 والرفث هو الوقوع في المعاصي ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . " البخاري الفتح رقم 1903 ، وينبغي أن يجتنب الصائم جميع المحرمات كالغيبة والفحش والكذب ، فربما ذهبت بأجر صيامه كله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع . " رواه ابن ماجه 1/539 وهو في صحيح الترغيب 1/453
ومما أذهب الحسنات وجلب السيئات الانشغال بالفوازير والمسلسلات ، والأفلام والمباريات ، والجلسات الفارغات ، والتسكع في الطرقات ، مع الأشرار ومضيعي الأوقات ، وكثرة اللهو بالسيارات ، وازدحام الأرصفة والطرقات ، حتى صار شهر التهجد والذكر والعبادة ـ عند كثير من الناس ـ شهر نوم بالنهار لئلا يحصل الإحساس بالجوع ، ويضيع من جرّاء ذلك ما يضيع من الصلوات ، ويفوت ما يفوت من الجماعات ، ثم لهو بالليل وانغماس في الشهوات ، وبعضهم يستقبل الشهر بالضجر لما سيفوته من الملذات ، وبعضهم يسافر في رمضان إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات !! وحتى المساجد لم تخل من المنكرات من خروج النساء متبرجات متعطرات ، وحتى بيت الله الحرام لم يسلم من كثير من هذه الآفات ، وبعضهم يجعل الشهر موسما للتسول وهو غير محتاج ، وبعضهم يلهو فيه بما يضرّ كالألعاب النارية والمفرقعات ، وبعضهم ينشغل بالصفق في الأسواق والتطواف على المحلات ، وبعضهن بالخياطة وتتبع الموضات ، وتنزل البضائع الجديدة والأزياء الحديثة في العشر الأواخر الفاضلات لتشغل الناس عن تحصيل الأجور والحسنات .(/2)
* أن لا يصخب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ، إني صائم " رواه البخاري وغيره الفتح رقم 1894 ، فواحدة تذكيرا لنفسه ، والأخرى تذكيرا لخصمه . والناظر في أخلاق عدد من الصائمين يجد خلاف هذا الخُلق الكريم فيجب ضبط النفس ، وكذلك استعمال السكينة وهذا ما ترى عكسه في سرعات السائقين الجنونية عند أذان المغرب .
* عدم الإكثار من الطعام ، لحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ .. " رواه الترمذي رقم 2380 وقال هذا حديث حسن صحيح ، والعاقل إنما يريد أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل ، وإن خير المطاعم ما استخدمت وشرها ما خُدمت . وقد انغمس الناس في صنع أنواع الطعام ، وتفننوا في الأطباق حتى ذهب ذلك بوقت ربات البيوت والخادمات ، وأشغلهن عن العبادة ، وصار ما ينفق من الأموال في ثمن الأطعمة أضعاف ما يُنفق في العادة ، وأصبح الشهر شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة . يأكلون أكل المنهومين ، ويشربون شرب الهيم ، فإذا قاموا إلى صلاة التراويح قاموا كسالى ، وبعضهم يخرج بعد أول ركعتين .
* الجود بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس { بالخير } ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " . رواه البخاري الفتح رقم 6 فكيف بأناس استبدلوا الجود بالبخل والنشاط في الطاعات بالكسل والخمول فلا يتقنون الأعمال ولا يحسنون المعاملة متذرعين بالصيام .
والجمع بين الصيام والإطعام من أسباب دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " رواه أحمد 5/343 وابن خزيمة رقم 2137 وقال الألباني في تعليقه : إسناده حسن لغيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فطّر صائما كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء . " رواه الترمذي 3/171 وهو في صحيح الترغيب 1/451 قال شيخ الإسلام رحمه الله : والمراد بتفطيره أن يُشبعه . الاختيارات الفقهية ص : 109
وقد آثر عدد من السلف ـ رحمهم الله ـ الفقراءَ على أنفسهم بطعام إفطارهم ، منهم : عبد الله بن عمر ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل وغيرهم . وكان عبد الله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
ومما ينبغي فعله في الشهر العظيم
* تهيئة الأجواء والنفوس للعبادة ، والإسراع إلى التوبة والإنابة ، والفرح بدخول الشهر ، وإتقان الصيام ، والخشوع في التراويح ، وعدم الفتور في العشر الأواسط ، وتحري ليلة القدر ، ومواصلة ختمة بعد ختمة مع التباكي والتدبر ، وعمرة في رمضان تعدل حجة ، والصدقة في الزمان الفاضل مضاعفة ، والاعتكاف في رمضان مؤكد .
* لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويحثّهم على الاعتناء به فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجلّ عليكم صيامه ، تُفتح فيه أبواب السماء ، وتُغلّق فيه أبواب الجحيم ، وتغلّ فيه مردة الشياطين ، فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من حُرم خيرها فقد حُرم " رواه النسائي 4/129 وهو في صحيح الترغيب 1/490
من أحكام الصيام
6- من الصيام ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان والصوم في كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان وكذلك من نذر صوما متتابعا لزمه .
ومن الصيام ما لايلزم فيه التتابع كقضاء رمضان وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي والصوم في كفارة اليمين ) عند الجمهور ( وصوم الفدية في محظورات الإحرام ) على الراجح ) وكذلك صوم النذر المطلق لمن لم ينو التتابع .
7- صيام التطوع يجبر نقص صيام الفريضة ، ومن أمثلته عاشوراء وعرفة وأيام البيض والاثنين والخميس وست من شوال والإكثار من الصيام في محرم وشعبان .
8- جاء النهي عن إفراد الجمعة بالصوم البخاري فتح الباري برقم 1985 وعن صيام السبت في غير الفريضة رواه الترمذي 3/111 وحسنه والمقصود إفراده دون سبب ، وعن صوم الدهر ، وعن الوصال في الصوم ، وهو أن يواصل يومين أو أكثر دون إفطار بينهما .
ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله ، ويجوز لمن لم يجد الهدي أن يصومها بمنى .
ثبوت دخول الشهر
9- يثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله أو بإتمام شعبان ثلاثين يوما ، ويجب على من رأى الهلال أو بلغه الخبر من ثقة أن يصوم .(/3)
وأما العمل بالحسابات في دخول الشهر فبدعة ، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في المسألة : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ، فإذا أخبر المسلم البالغ العاقل الموثوق بخبره لأمانته وبصره أنه رأى الهلال بعينه عُمل بخبره .
على من يجب الصوم
10- ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس .
و يحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة : ـ إنزال المني باحتلام أو غيره ، ـ نبات شعر العانة الخشن حول القُبُل ، ـ إتمام خمس عشرة سنة . وتزيد الأنثى أمرا رابعا وهو الحيض فيجب عليها الصيام ولو حاضت قبل سنّ العاشرة .
11- يؤمر الصبي بالصيام لسبع إن أطاقه "وذكر بعض أهل العلم أنه " يُضرب على تركه لعشر كالصلاة انظر المغني 3/90 . وأجر الصيام للصبي، ولوالديه أجر التربية والدلالة على الخير ، عن الرُبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت في صيام عاشوراء لما فُرض : كنا نصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار . البخاري فتح رقم 1960 وبعض الناس يتساهل في أمر أبنائه وبناته بالصيام ، بل ربما صام الولد متحمّسا وهو يُطيق فأمره أبوه أو أمه بالإفطار شفقة عليه بزعمهما ، وما علموا أنّ الشفقة الحقيقية بتعاهده بالصيام ، قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شِداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ) . وينبغي الاعتناء بصيام البنت في أول بلوغها ، فربما تصوم إذا جاءها الدم خجلا ثم لا تقضي .
12- إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أثناء النهار لزمهم الإمساك بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب ، ولا يلزمهم قضاء ما فات من الشهر ، لأنهم لم يكونوا من أهل الوجوب في ذلك الوقت .
13- المجنون مرفوع عنه القلم ، فإن كان يجنّ أحيانا ويُفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه . وإن جنّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره لأنه نوى الصيام وهو عاقل . مجالس شهر رمضان ابن عثيمين ص : 28 ومثله في الحكم المصروع .
14- من مات أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر .
15- من جهل فرض الصوم في رمضان أو جهل تحريم الطعام أو الوطء فجمهور العلماء على عذره إن كان يُعذر مثله ، كحديث العهد بالإسلام والمسلم في دار الحرب ومن نشأ بين الكفار . أما من كان بين المسلمين ويمكنه السؤال والتعلم فليس بمعذور .
المسافر
16- يُشترط للفطر في السفر : أن يكون سفرا مسافة أو عرفا ( على الخلاف المعروف بين أهل العلم ) ، وأن يُجاوز البلد وما اتصل به من بناء وقد منع الجمهور من الإفطار قبل مغادرة البلد وقالوا إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد . أما إذا كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة . ، وأن لا يكون سفره سفر معصية ( عند الجمهور) ، وأن لا يكون قصد بسفره التحيّل على الفطر .
17- يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادرا على الصيام أم عاجزا وسواء شقّ عليه الصوم أم لم يشقّ ، بحيث لو كان مسافرا في الظلّ والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر مجموع الفتاوى 25/210
18- من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر لأنه قد يعرض له ما يمنعه من سفره تفسير القرطبي 2/278
ولا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة ) المأهولة ( ، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر ، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان ، وإذا كان المطار خارج بلدته أفطر فيه ، أما إذا كان المطار في البلد أو ملاصقا لها فإنه لا يُفطر فيه لأنه لا يزال في البلد .
19- إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك لأنه أتمّ صيام يومه كاملا فلا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها . وإذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد إتمام صيام ذلك اليوم في السفر فلا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه من الجوّ ، ولا يجوز للطيار أن يهبط إلى مستوى لا تُرى فيه الشمس لأجل الإفطار لأنه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران فاختفى قرص الشمس أفطر . من فتاوى الشيخ ابن باز مشافهة
20- من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم فالذي يسافر للدراسة في الخارج أشهرا أو سنوات فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة أنه في حكم المقيم يلزمه الصوم والإتمام .
وإذا مرّ المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم لأنه في حكم المقيمين أنظر فتاوى الدعوة ابن باز 977(/4)
21- من ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر لأن الله جعل مطلق السفر سببا للرخصة بقوله تعالى : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أُخر ) .
22- ويجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالبريد الذي يُسافر في مصالح المسلمين ( وأصحاب سيارات الأجرة والطيارين والموظفين ولو كان سفرهم يوميا وعليهم القضاء ) وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر . والبدو الرحّل إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى جاز لهم الفطر والقصر وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يُفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي أنظر مجموع فتاوى ابن تيمية 25/213
23- إذا قدم المسافر في أثناء النهار ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء مجموع الفتاوى 25/212 والأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر ، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك .
24- إذا ابتدأ الصيام في بلد ثم سافر إلى بلد صاموا قبلهم أو بعدهم فإن حكمه حكم من سافر إليهم فلا يفطر إلا بإفطارهم ولو زاد عن ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تُفطرون " ، وإن نقص صومه عن تسعة وعشرين يوما فعليه إكماله بعد العيد إلى تسعة وعشرين يوما لأن الشهر الهجري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوما . من فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز : فتاوى الصيام :دار الوطن ص: 15-16
المريض
25- كل مرض خرج به الإنسان عن حدّ الصحة يجوز أن يُفطر به ، والأصل في ذلك قول الله تعالى ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . أما الشيء الخفيف كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه .
وإذا ثبت بالطب أو علم الشخص من عادته وتجربته أو غلب على ظنّه أن الصيام يجلب له المرض أو يزيده أو يؤخر البرء يجوز له أن يُفطر بل يُكره له الصيام . وإذا كان المرض مطبقا فلا يجب على المريض أن ينوي الصوم بالليل ولو كان يُحتمل أن يُصبح صحيحا لأن العبرة بالحال الحاضرة .
26- إن كان الصوم يسبب له الإغماء أفطر وقضى الفتاوى 25/217 ، وإذا أغمي عليه أثناء النهار ثم أفاق قبل الغروب أو بعده فصيامه صحيح ما دام أصبح صائما ، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه . أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء المغني مع الشرح الكبير 1/412، 3/32 ، والموسوعة الفقهية الكويتية 5/268 ، وأفتى بعض أهل العلم بأن من أغمي عليه أو وضعوا له منوّما أو مخدرا لمصلحته فغاب عن الوعي فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ يقضي قياسا على النائم وإن كان أكثر لا يقضي قياسا على المجنون من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
27- ومن أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك أو ذهاب بعض الحواسّ بغلبة الظن لا الوهم أفطر وقضى لأن حفظ النفس واجب ، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة أو التعب أو خوف المرض متوهما ، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر وعليهم نية الصيام بالليل ، فإن كان يضرهم ترك الصنعة وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار ، أو لحق بهم مشقة عظيمة اضطرتهم إلى الإفطار فإنهم يُفطرون بما يدفع المشقة ثمّ يُمسكون إلى الغروب ويقضون بعد ذلك ، وعلى العامل في المهن الشّاقة كأفران صهر المعادن وغيرها إذا كان لا يستطيع تحمّل الصيام أن يحاول جعل عمله بالليل أو يأخذ إجازة أثناء شهر رمضان ولو بدون مرتّب فإن لم يتيسّر ذلك بحث عن عمل آخر يُمكنه فيه الجمع بين الواجبين الديني والدنيوي ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب : فتاوى اللجنة الدائمة 10/233،235 . وليست امتحانات الطلاب عذرا يبيح الفطر في رمضان ، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : فتاوى اللجنة الدائمة 10/241
28- المريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ولا يُجزئه الإطعام ، والمريض مرضا مزمنا لا يُرجى برؤه وكذا الكبير العاجز يُطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد ( وذلك يعادل كيلو ونصف تقريبا من الرز ) ، ويجوز أن يجمع الفدية فيطعم المساكين في آخر الشهر ويجوز أن يطعم مسكينا كلّ يوم ، ويجب إخراجها طعاما لنصّ الآية ولا يُجزئ إعطاؤها إلى المسكين نقودا فتاوى اللجنة الدائمة 10/198 ، ويُمكن أن يوكّل ثقة أو جهة خيرية موثوقة لشراء الطعام وتوزيعه نيابة عنه .(/5)
والمريض الذي أفطر من رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ثم علم أن مرضه مزمن فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره من فتاوى الشيخ ابن عثيمين ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه فمات فليس عليه ولا على أوليائه شيء . ومن كان مرضه يُعتبر مزمنا فأفطر وأطعم ثم مع تقدّم الطبّ وُجد له علاج فاستعمله وشفي لا يلزمه شيء عما مضى لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه . فتاوى اللجنة الدائمة 10/195
29- من مرض ثمّ شفي وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم . وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام صام عنه وليّه " . من فتاوى اللجنة الدائمة مجلة الدعوة 806
الكبير والعاجز والهرم
30- العجوز والشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت لا يلزمهما الصوم ولهما أن يفطرا مادام الصيام يُجهدهما ويشق عليهما ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في قوله تعالى : ( وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين ) : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . البخاري كتاب التفسير باب أياما معدودات ..
وأما من سقط تمييزه وبلغ حدّ الخَرَف فلا يجب عليه ولا على أهله شيء لسقوط التكليف ، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم حال تمييزه ولم يجب حال هذيانه أنظر مجالس شهر رمضان :ابن عثيمين : ص 28
31- من قاتل عدوا أو أحاط العدو ببلده والصوم يُضعفه عن القتال ساغ له الفطر ولو بدون سفر ، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل القتال : " إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطِروا " رواه مسلم 1120ط. عبد الباقي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأفتى به أهل الشام وهم في البلد لما نزل بهم التتار .
32- من كان سبب فطره ظاهرا كالمريض فلا بأس أن يفطر ظاهرا ، ومن كان سبب فطره خفيا كالحائض فالأولى أن يُفطر خفية خشية التهمة .
النية في الصيام
33- تُشترط النية في صوم الفرض وكذا كلّ صوم واجب كالقضاء والكفارة لحديث : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " رواه أبو داود رقم 2454 ورجح عدد من الأئمة وقفه كالبخاري والنسائي والترمذي وغيرهم : تلخيص الحبير 2/188
ويجوز أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة . والنية عزم القلب على الفعل ، والتلفظ بها بدعة وكل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/215 . ومن نوى الإفطار أثناء النهار ولم يُفطر فالراجح أن صيامه لم يفسد وهو بمثابة من أراد الكلام في الصلاة ولم يتكلم ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يُفطر بمجرد قطع نيته ، فالأحوط له أن يقضي . أما الردّة فإنها تُبطل النية بلا خلاف .
وصائم رمضان لا يحتاج إلى تجديد النية في كلّ ليلة من ليالي رمضان بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر فإن قطع النية للإفطار في سفر أو مرض ـ مثلا ـ لزمه تجديد النية للصوم إذا زال عذره .
34- النفل المطلق لا تُشترط له النية من الليل لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا : لا فقال فإني إذا صائم . رواه مسلم 2/ 809 عبد الباقي وأما النفل المعيّن كعرفة وعاشوراء فالأحوط أن ينوي له من الليل .
35- من شرع في صوم واجب ـ كالقضاء والنذر والكفارة ـ فلا بدّ أن يتمّه ، ولا يجوز أن يُفطر فيه بغير عذر . وأما صوم النافلة فإن " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر " رواه أحمد 6/342 ولو بغير عذر ، وقد أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مرة صائما ثم أكل كما جاء في صحيح مسلم في قصة الحيس الذي أهدي إليه عند عائشة رقم 1154 عبد الباقي ، ولكن هل يُثاب من أفطر بغير عذر على ما مضى من صومه ؟ قال بعض أهل العلم بأنه لا يُثاب الموسوعة الفقهية 28/13 ، والأفضل للصائم المتطوع أن يُتمّ صومه ما لم توجد مصلحة شرعية راجحة في قطعه .
36- من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه وعليه القضاء عند جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . رواه أبو داود 2454
37- السجين والمحبوس إن علم بدخول الشهر بمشاهدة أو إخبار من ثقة وجب عليه الصيام وإلا فإنه يجتهد لنفسه ويعمل بما غلب على ظنّه فإن تبين له بعد ذلك أن صومه وافق رمضان أجزأه ذلك عند الجمهور وإذا وافق صومه بعد رمضان أجزأه عند جماهير الفقهاء وإذا وافق صومه قبل دخول الشهر فلا يُجزيه وعليه القضاء ، وإذا وافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض أجزأه ما وافقه وما بعده دون ما قبله . فإن استمرّ الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . الموسوعة الفقهية 28/84(/6)
الإفطار والإمساك
38- إذا غاب جميع قرص الشمس أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " رواه البخاري : الفتح رقم 1954 والمسألة في مجموع الفتاوى 25/216
والسنّة أن يعجّل الإفطار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي المغرب حتى يُفطر ولو على شربة من الماء رواه الحاكم 1/432 السلسلة الصحيحة 2110 فإن لم يجد الصائم شيئا يُفطر عليه نوى الفطر بقلبه ، ولا يمصّ أصبعه كما يفعل بعض العوامّ . وليحذر من الإفطار قبل الوقت فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أقواما معلقين من عراقيبهم تسيل أشداقهم دما فلما سأل عنهم أُخبر أنهم الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم . الحديث في صحيح ابن خزيمة برقم 1986 وفي صحيح الترغيب 1/420 ، ومن تحقق أو غلب على ظنه أو شكّ أنّ فطره حصل قبل المغرب فعليه القضاء لأنّ الأصل بقاء النهار : فتاوى اللجنة الدائمة 10/287 ، وينبغي الحذر من الاعتماد على خبر الأطفال الصّغار والمصادر غير الموثوقة . وكذلك ينبغي الانتباه لفارق التوقيت بين المدن والقرى عند سماع الأذان في الإذاعة ونحوها .
39- إذا طلع الفجر وهو البياض المعترض المنتشر في الأفق من جهة المشرق وجب على الصائم الإمساك حالا سواء سمع الأذان أم لا . وإذا كان يعلم أنّ المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر فيجب عليه الإمساك حال سماع أذانه ، وأما إذا كان المؤذن يؤذن قبل الفجر فلا يجب الإمساك عن الأكل والشرب . وإن كان لا يعلم حال المؤذن أو اختلف المؤذنون ولا يستطيع أن يتبين الفجر بنفسه ـ كما في المدن غالبا بسبب الإنارة والمباني ـ فإن عليه أن يحتاط بالعمل بالتقويمات المطبوعة المبنية على الحسابات والتقديرات مالم يتبين خطؤها .
وأما الاحتياط بالإمساك قبل الفجر بوقت كعشر دقائق ونحوها فهو بدعة من البدع ، وما يلاحظ في بعض التقاويم من وجود خانة للامساك وأخرى للفجر فهو أمر مصادم للشريعة .
40- البلد الذي فيه ليل ونهار في الأربع والعشرين ساعة على المسلمين فيه الصيام ولو طال النهار مادام يمكن تمييز ليلهم من نهارهم وفي بعض البلدان التي لا يمكن فيها تمييز ذلك يصومون بحسب أقرب البلدان إليهم مما فيه ليل أو نهار متميز .
المفطرات
41- المفطّرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة : ـ أن يكون عالما غير جاهل ، ـ ذاكرا غير ناس ، ـ مختارا غير مضطر ولامُكْرَه
ومن المفطّرات ما يكون من نوع الاستفراغ كالجماع والاستقاءة والحيض والاحتجام ومنه ما يكون من نوع الامتلاء كالأكل والشرب . مجموع الفتاوى 25/248
42- من المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب كالأدوية والحبوب عن طريق الفم والإبر المغذية وكذلك حقن الدم ونقله .
وأما الإبر التي لا يُستعاض بها عن الأكل والشرب ولكنها للمعالجة كالبنسلين والأنسولين أو تنشيط الجسم أو إبر التطعيم فلا تضرّ الصيام سواء عن طريق العضلات أو الوريد ، فتاوى ابن ابراهيم 4/189 والأحوط أن تكون كل هذه الإبر بالليل ، وغسيل الكلى الذي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى مع إضافة مواد كيماوية وغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم يعتبر مفطّرا فتاوى اللجنة الدائمة 10/190 والراجح أن الحقنة الشرجية وقطرة العين والأذن وقلع السنّ ومداواة الجراح كل ذلك لا يفطر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/233 ، 25/245 ، وبخاخ الربو لا يفطّر لأنه غاز مضغوط يذهب إلى الرئة وليس بطعام وهو محتاج إليه دائما في رمضان وغيره . وسحب الدم للتحليل لا يُفسد الصوم بل يُعفى عنه لأنه مما تدعو إليه الحاجة فتاوى الدعوة : ابن باز عدد 979 ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم إن لم يبتلعه ، ومن حشا سنّه بحشوة طبية فوجد طعمها في حلقه فلا يضر ذلك صيامه من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
وسائر الأمور التالية ليست من المفطّرات :
- غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
ما يدخل المهبل من تحاميل ( لبوس ) ، أو غسول ، أو منظار مهبلي ، أو إصبع للفحص الطبي .
إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم .
ما يدخل الإحليل ، أي مجرى البول الظاهر للذكر أو الأنثى ، من قثطرة ( أنبوب دقيق ) أو منظار ، أو مادة ظليلة على الأشعة ، أو دواء ، أو محلول لغسل المثانة .
حفر السن ، أو قلع الضرس ، أو تنظيف الأسنان ، أو السواك وفرشاة الأسنان ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
المضمضة ، والغرغرة ، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية ، باستثناء السوائل والحقن المغذية .
غاز الأكسجين .(/7)
غازات التخدير ( البنج ) ما لم يعط المريض سوائل ( محاليل ) مغذية .
ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية .
إدخال قثطرة ( أنبوب دقيق ) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء .
إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها .
أخذ عينات ( خزعات ) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل .
منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل ( محاليل ) أو مواد أخرى .
دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي .
43- من أكل أو شرب عامدا في نهار رمضان دون عذر فقد أتى كبيرة عظيمة من الكبائر وعليه التوبة والقضاء وإن كان إفطاره بمحرم كمسكر ازداد فعله شناعة وقبحا والواجب بكل حال التوبة العظيمة والإكثار من النوافل من صيام وغيره ليجبر نقص الفريضة ولعل الله أن يتوب عليه .
44- و" إذا نسي فأكل و شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري فتح رقم 1933 وفي رواية : " فلا قضاء عليه ولا كفارة . "
وإذا رأى من يأكل ناسيا فإن عليه أن يذكّره لعموم قول الله تعالى وتعاونوا على البرّ والتقوى ولعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"فإذا نسيت فذكّروني " ولأن الأصل أن هذا منكر يجب تغييره . مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين ص: 70
45- من احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة فإنه يُفطر ويقضي كما قد يحدث في إنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق .
46- من وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامدا مختارا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين فقد أفسد صومه أنزل أو لم يُنزل وعليه التوبة وإتمام ذلك اليوم والقضاء والكفارة المغلظة لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت ، قال : مالك؟ ، قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ، قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ ، قال : لا ... الحديث رواه البخاري فتح 4رقم 1936 هذا والحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة .
ومن جامع في أيام من رمضان نهارا فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها مع قضاء تلك الأيام ولا يُعذر بجهله بوجوب الكفّارة : فتاوى اللجنة الدائمة 10/321
47- لو أراد جماع زوجته فأفطر بالأكل أوّلا فمعصيته أشدّ وقد هتك حرمة الشهر مرتين ؛ بأكله وجماعه والكفارة المغلظة عليه أوكد وحيلته وبالٌ عليه وتجب عليه التوبة النصوح . أنظر مجموع الفتاوى 25/262
48- والتقبيل والمباشرة والمعانقة واللمس وتكرار النظر من الصائم لزوجته أو أمته إن كان يملك نفسه جائز ، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لأَرَبه " ، أما حديث : " يدع زوجته من أجلي " فالمقصود به جماعها ، ولكن إن كان الشخص سريع الشهوة لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك لأنه يؤدي إلى إفساد صومه ولا يأمن من وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع قال الله تعالى في الحديث القدسي : " ويدع شهوته من أجلي " . والقاعدة الشرعية : كل ما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم .
49- وإذا جامع فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع وصومه صحيح ولو أمنى بعد النزع ، ولو استدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر أفطر وعليه التوبة والقضاء والكفارة المغلّظة .
50- إذا أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومه و يجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر وعليه المبادرة لأجل الصلاة .
51- إذا نام الصائم فاحتلم فإنه لا يفسد صومه إجماعا بل يتمّه ، وتأخير الغسل لا يضرّ الصيام ولكن عليه أن يبادر به لأجل الصلاة ولتقربه الملائكة .
52- من استمنى في نهار رمضان بشيء يُمكن التحرز منه كاللمس وتكرار النظر وجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يُمسك بقية يومه وأن يقضيه بعد ذلك ، وإن شرع في الاستمناء ثمّ كفّ و لم يُنزل فعليه التوبة وليس عليه قضاء لعدم الإنزال ، وينبغي أن يبتعد الصائم عن كلّ ما هو مثير للشهوة وأن يطرد الخواطر الرديئة . وأما خروج المذي فالراجح أنه لا يُفطّر . وخروج الودي وهو السائل الغليظ اللزج بعد البول بدون لذة لا يُفسد الصيام ولا يوجب الغسل وإنما الواجب منه الاستنجاء والوضوء فتاوى اللجنة الدائمة 10/279(/8)
53- و" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض " . حديث صحيح رواه الترمذي 3/89 ومن تقيأ عمدا بوضع أصبعه أو عصر بطنه أو تعمد شمّ رائحة كريهة أو داوم النظر إلى ما يتقيأ منه فعليه القضاء ، ولو غلبه القيء فعاد بنفسه لا يُفطر لأنه بدون إرادته ولو أعاده هو أفطر . وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القيء لأن ذلك يضره مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين 67 ، وإذا ابتلع ما علق بين أسنانه بغير قصد أو كان قليلا يعجز عن تمييزه ومجّه فهو تبع للريق ولا يفطّر ، وإن كان كثيرا يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامدا فسد صومه ، المغني 4/47 وأما العلك فإن كان يتحلل منه أجزاء أو له طعم مضاف أو حلاوة حرم مضغه وإن وصل إلى الحلق شيء من ذلك فإنه يفطّر، وإذا أخرج الماء بعد المضمضة فلا يضرّه ما بقي من البلل والرطوبة لأنه لا يمكنه التحرز منه ومن أصابه رعاف فصيامه صحيح وهو أمر ناشئ بغير اختياره فتاوى اللجنة الدائمة 10/264 وإذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك فلا يجوز ابتلاع الدم وعليه إخراجه فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده فلا شيء عليه ، وكذلك القيء إذا رجع إلى جوفه بغير اختياره فصيامه صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/254 . أما النخامة ـ وهي المخاط النازل من الرأس ـ والنخاعة ـ وهي البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح ـ فإن ابتلعها قبل وصولها إلى فيه فلا يفسد صومه لعموم البلوى بها فإذا ابتلعها عند وصولها إلى فيه فإنه يُفطر عند ذلك فإذا دخلت بغير قصده واختياره فلا تفطّر . واستنشاق بخار الماء في مثل حال العاملين في محطات تحلية المياه لا يضرّ صومهم : فتاوى اللجنة الدائمة 10/276 ، ويُكره ذوق الطعام بلا حاجة لما فيه من تعريض الصوم للفساد ، ومن الحاجة مضغ الطعام للولد إذا لم تجد الأم منه بدّ، وأن تتذوق الطعام لتنظر اعتداله ، وكذلك إذا احتاج لتذوّق شيء عند شرائه ، عن ابن عباس قال لا بأس أن يذوق الخلّ والشيء يريد شراءه . حسنه في إرواء الغليل 4/86 . وانظر الفتح شرح باب اغتسال الصائم كتاب الصيام
54- والسواك سنّة للصائم في جميع النهار وإن كان رطبا ، وإذا استاك وهو صائم فوجد حرارة أو غيرها من طَعْمِه فبلعه أو أخرجه من فمه وعليه ريق ثم أعاده وبلعه فلا يضره الفتاوى السعدية 245 ويجتنب ما له مادة تتحلل كالسواك الأخضر وما أضيف إليه طعم خارج عنه كالليمون والنعناع ، ويُخرج ما تفتت منه داخل الفم ، ولا يجوز تعمد ابتلاعه فإن ابتلعه بغير قصده فلا شيء عليه .
55- وما يعرض للصائم من جرح أو رعاف أو ذهاب للماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره لا يُفسد الصوم . وكذلك إذا دخل إلى جوفه غبار أو دخان أو ذباب بلا تعمد فلا يُفطر ، وما لا يُمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطّره ومثله غبار الطريق وغربلة الدقيق ، وإن جمع ريقه في فمه ثم ابتلعه قصدا لم يفطّره على الأصح المغني لابن قدامة 3/106 وكذلك لايضره نزول الدمع إلى حلقه أو أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فيجد طعمه في حلقه ، ولا يفطّر وضع الحنّاء والكحل والدّهن أنظر مجموع الفتاوى 25/233 ، 25/245 وكذلك المراهم المرطّبة والمليّنة للبشرة . ولا بأس بشمّ الطيب واستعمال العطور ودهن العود والورد ونحوها ، والبخور لا حرج فيه للصائم إذا لم يتسعّط به : فتاوى اللجنة الدائمة 10/314. والأحسن أن لا يستخدم معجون الأسنان بالنهار ويجعله بالليل لأن له نفوذا قويا المجالس ابن عثيمين ص72
56- والأحوط للصائم أن لا يحتجم والخلاف شديد في المسألة ، واختار شيخ الإسلام إفطار المفصود دون الفاصد .
57- التدخين من المفطّرات وليس عذرا في ترك الصيام إذ كيف يُعذر بمعصية ؟!
58- والانغماس في ماء أو التلفف بثوب مبتلّ للتبرد لابأس به للصائم ولا بأس أن يصبّ على رأسه الماء من الحر والعطش المغني 3/44 ويُكره له السباحة لما فيها من تعريض الصوم للفساد . ومن كان عمله في الغوص أو وظيفته تتطلّب الغطس فإن كان يأمن من دخول الماء إلى جوفه فلا بأس بذلك .
59- لو أكل أو شرب أو جامع ظانا بقاء الليل ثم تبين له أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه لأن الآية قد دلّت على الإباحة إلى أن يحصل التبين ، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : أحلّ الله لك الأكل والشرب ما شككت فتح الباري 4/135 وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 29/ 263
60- إذا أفطر يظن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فعليه القضاء ( عند جمهور العلماء ) لأن الأصل بقاء النهار واليقين لا يزول بالشك . ( وذهب شيخ الإسلام إلى أنه لا قضاء عليه )
61- وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فقد اتفق الفقهاء على أنه يلفظه ويصح صومه ، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسيا ثم تذكّر وفي فيه طعام أو شراب صحّ صومه إن بادر إلى لفظه .
من أحكام الصيام للمرأة(/9)
62- التي بلغت فخجلت وكانت تُفطر عليها التوبة العظيمة وقضاء ما فات مع إطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير إذا أتى عليها رمضان الذي يليه ولم تقض . ومثلها في الحكم التي كانت تصوم أيام عادتها خجلا ولم تقض . فإن لم تعلم عدد الأيام التي تركتها على وجه التحديد صامت حتى يغلب على ظنها أنها قضت الأيام التي حاضت فيها ولم تقضها من الرمضانات السابقة مع إخراج كفارة التأخير عن كل يوم مجتمعة أو متفرّقة حسب استطاعتها .
63- ولا تصوم الزوجة ( غير رمضان ) وزوجها حاضر إلا بإذنه ، فإذا سافر فلا حرج .
64- الحائض إذا رأت القصّة البيضاء ـ وهو سائل أبيض يدفعه الرّحم بعد انتهاء الحيض ـ التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت ، تنوي الصيام من الليل وتصوم ، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه فإن خرج نظيفا صامت ، فإذا رجع دم الحيض أفطرت ، ولو كان دما يسيرا أو كدرة فإنه يقطع الصيام ما دام قد خرج في وقت العادة فتاوى اللجنة الدائمة 10/154 ، وإذا استمر انقطاع الدم إلى المغرب وكانت قد صامت بنية من الليل صحّ صومها ، والمرأة التي أحست بانتقال دم الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس صح صومها وأجزأها يومها .
والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلا فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فمذهب العلماء كافة صحة صومها الفتح 4/148
65- المرأة التي تعرف أن عادتها تأتيها غدا تستمر على نيتها وصيامها ولا تُفطر حتى ترى الدم .
66- الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها وترضى بما كتب الله عليها ولا تتعاطى ما تمنع به الدم وتقبل ما قَبِل الله منها من الفطر في الحيض والقضاء بعد ذلك وهكذا كانت أمهات المؤمنين ونساء السلف ، فتاوى اللجنة الدائمة 10/151 بالإضافة إلى أنه قد ثبت بالطبّ ضرر كثير من هذه الموانع وابتليت كثير من النساء باضطراب الدورة بسبب ذلك ، فإن فعلت المرأة وتعاطت ما تقطع به الدم فارتفع وصارت نظيفة وصامت أجزأها ذلك .
67- دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام .
68- إذا أسقطت الحامل جنينا متخلّقا أو ظهر فيه تخطيط لعضو كرأس أو يد فدمها دم نفاس ، وإذا كان ما سقط علقة أو مضغة لحم لا يتبيّن فيه شيء من خَلْق الإنسان فدمها دم استحاضة وعليها الصيام إن استطاعت وإلا أفطرت وقضت فتاوى اللجنة الدائمة 10/224 . وكذلك إن صارت نظيفة بعد عملية التنظيف صامت . وقد ذكر العلماء أن التخلّق يبدأ بعد ثمانين يوما من الحمل.
النفساء إذا طهرت قبل الأربعين صامت واغتسلت للصلاة المغني مع الشرح الكبير 1/360 فإن رجع إليها الدم في الأربعين أمسكت عن الصيام لأنه نفاس ، وإن استمر بها الدم بعد الأربعين نوت الصيام واغتسلت ( عند جمهور أهل العلم ) وتعتبر ما استمر استحاضة ، إلا إن وافق وقت حيضها المعتاد فهو حيض .
والمرضع إذا صامت بالنهار ورأت في الليل نقطا من الدم وكانت طاهرا بالنهار فصيامها صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/150
69- الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحامل والمرضع الصوم " . رواه الترمذي 3/85 وقال : حديث حسن ، والحامل إذا صامت ومعها نزيف فصيامها صحيح ولا يؤثّر ذلك على صحة صيامها فتاوى اللجنة الدائمة 10/225
70- المرأة التي وجب عليها الصوم إذا جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها فحكمها حكمه وأما إن كانت مكرهة فعليها الاجتهاد في دفعه ولا كفارة عليها ، قال ابن عقيل رحمه الله فيمن جامع زوجته في نهار رمضان وهي نائمة : لا كفارة عليها . والأحوط لها أن تقضي ذلك اليوم . وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم فساد صومها وأنه صحيح .
وينبغي على المرأة التي تعلم أن زوجها لا يملك نفسه أن تتباعد عنه وتترك التزين في نهار رمضان . ويجب على المرأة قضاء ما أفطرته من رمضان ولو بدون علم زوجها ولا يُشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج ، وإذا شرعت المرأة في قضاء الصيام الواجب فلا يحلّ لها الإفطار إلا من عذر شرعي ولا يحلّ لزوج المرأة أن يأمرها بالإفطار وهي تقضي وليس له أن يُجامعها وليس لها أن تطيعه في ذلك : فتاوى اللجنة الدائمة 10/353 أمّا صيام النافلة فلا يجوز لها أن تشرع فيه وزوجها حاضر إلا بإذنه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ ." رواه البخاري 4793
وفي الختام هذا ما تيسّر ذكره من مسائل الصيام ، أسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، وأن يختم لنا شهر رمضان بالغفران ، والعتق من النيران .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/10)
سبعون مسألة في الصيام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات ، فيها تضاعف الحسنات ، وتُمحى السيئات ، وتُرفع الدرجات ، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها ، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . وإنما خلق الله الخلق لعبادته فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه الله على العباد، فقال : ( كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ورغبهم فيه فقال : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) ، وأرشدهم إلى شكره على فرضه بقوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) ، وحببّه إليهم وخفّفه عليهم لئلا تستثقل النفوس ترك العادات وهجر المألوفات ، فقال عزّ وجلّ: ( أياما معدودات ) ، ورحمهم ونأى بهم عن الحرج والضرر ، فقال سبحانه : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، فلا عجب أن تُقبل قلوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم يخافونه من فوقهم ويرجون ثوابه والفوز العظيم .
ولما كان قدر هذه العبادة عظيما كان لابدّ من تعلّم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام ليعرف المسلم ما هو واجب فيفعله ، وما هو حرام فيجتنبه ، وما هو مباح فلا يضيّق على نفسه بالامتناع عنه .
وهذه الرسالة تتضمن خلاصات في أحكام الصيام وآدابه وسننه كتبتها باختصار عسى الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين والحمد لله رب العالمين
تعريف الصيام
1- الصوم لغة : الإمساك ، وشرعا الإمساك عن المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية .
حكم الصيام
2- أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض ، والدليل من الكتاب قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : بُني الإسلام على خمس : وذكر منها صوم رمضان رواه البخاري فتح 1/49 ومن أفطر شيئا من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها : " حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دما ، قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم " أي قبل وقت الإفطار صحيح الترغيب 1/420. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى : وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكّون في إسلامه ، ويظنّون به الزندقة والانحلال . وقال شيخ الإسلام رحمه الله : إذا أفطر في رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله ، وإن كان فاسقا عوقب عن فطره في رمضان . مجموع الفتاوى 25/265
فضل الصيام
3- فضل الصيام عظيم ومما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة : أن الصيام قد اختصه الله لنفسه وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب لحديث : " إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " البخاري فتح رقم 1904 صحيح الترغيب 1/407 ، وأن الصوم لا عِدل له النسائي 4/165 وهو في صحيح الترغيب 1/413 ، وأن دعوة الصائم لا تُردّ رواه البيهقي 3/345 وهو في السلسلة الصحيحة 1797 ، وأن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه رواه مسلم 2/807 ، وأن الصيام يشفع " للعبد يوم القيامة يقول : أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " رواه أحمد 2/174 وحسّن الهيثمي إسناده : المجمع 3/181 وهو في صحيح الترغيب 1/411 ، وأن " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " مسلم 2/807 ، وأن " الصوم جُنّة وحصن حصين من النار " رواه أحمد 2/402 وهو في صحيح الترغيب 1/411 وصحيح الجامع 3880 ، وأنّ " من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " رواه مسلم 2/808 ، وأنّ " من صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له به دخل الجنّة " رواه أحمد 5/391 وهو في صحيح الترغيب 1/412 . وأنّ في الجنة بابا " يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد " البخاري فتح رقم 1797 .(/1)
وأما رمضان فإنه ركن الإسلام وقد أُنزل فيه القرآن ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، و " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ " رواه البخاري الفتح رقم 3277 ، وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر أنظر مسند أحمد 5/280 وصحيح الترغيب 1/421 ، و " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري فتح رقم 37 ، و "لله عزّ وجلّ عند كلّ فطر عتقاء " رواه أحمد 5/256 وهو في صحيح الترغيب 1/419 .
من فوائد الصيام
4- في الصيام حكم وفوائد كثيرة مدارها على التقوى التي ذكرها الله عز وجل في قوله : " لعلكم تتقون " ، وبيان ذلك : أن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا في مرضاة الله تعالى وخوفا من عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام .
وأن الإنسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه ، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه ويده وفرجه ، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح .
وأن الصائم إذا ذاق ألم الجوع أحس بحال الفقراء فرحمهم وأعطاهم ما يسدّ جوعتهم ، إذ ليس الخبر كالمعاينة ، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجّل .
وأن الصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي ، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها . وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا .
وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين ، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد .
وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله سبحانه فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد ومنهم من يدخله لأول مرة ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد وهم في حال رقّة نادرة ، فلا بدّ من انتهاز الفرصة بالمواعظ المرقِّقة والدروس المناسبة والكلمات النافعة مع التعاون على البرّ والتقوى . وعلى الداعية أن لا ينشغل بالآخرين كليّا وينسى نفسه فيكون كالفتيلة تضيء للناس وتُحرق نفسها .
5- آداب الصيام وسننه
ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ، فمن ذلك :
الحرص على السحور وتأخيره ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة " رواه البخاري فتح 4/139 ، فهو الغداء المبارك ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، و " نِعمَ سحور المؤمن التمر " رواه أبو داود رقم 2345 وهو في صحيح الترغيب 1/448
تعجيل الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر رواه البخاري فتح 4/198 ، وأن يفطر على ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء ." رواه الترمذي 3/79 وغيره وقال حديث حسن غريب وصححه في الإرواء برقم 922 ، ويقول بعد إفطاره ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال : ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود 2/765 وحسن الدارقطني إسناده 2/185 البعد عن الرفث لقوله صلى الله عليه وسلم " .. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث .. " رواه البخاري الفتح رقم 1904 والرفث هو الوقوع في المعاصي ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . " البخاري الفتح رقم 1903 ، وينبغي أن يجتنب الصائم جميع المحرمات كالغيبة والفحش والكذب ، فربما ذهبت بأجر صيامه كله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع . " رواه ابن ماجه 1/539 وهو في صحيح الترغيب 1/453
ومما أذهب الحسنات وجلب السيئات الانشغال بالفوازير والمسلسلات ، والأفلام والمباريات ، والجلسات الفارغات ، والتسكع في الطرقات ، مع الأشرار ومضيعي الأوقات ، وكثرة اللهو بالسيارات ، وازدحام الأرصفة والطرقات ، حتى صار شهر التهجد والذكر والعبادة ـ عند كثير من الناس ـ شهر نوم بالنهار لئلا يحصل الإحساس بالجوع ، ويضيع من جرّاء ذلك ما يضيع من الصلوات ، ويفوت ما يفوت من الجماعات ، ثم لهو بالليل وانغماس في الشهوات ، وبعضهم يستقبل الشهر بالضجر لما سيفوته من الملذات ، وبعضهم يسافر في رمضان إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات !! وحتى المساجد لم تخل من المنكرات من خروج النساء متبرجات متعطرات ، وحتى بيت الله الحرام لم يسلم من كثير من هذه الآفات ، وبعضهم يجعل الشهر موسما للتسول وهو غير محتاج ، وبعضهم يلهو فيه بما يضرّ كالألعاب النارية والمفرقعات ، وبعضهم ينشغل بالصفق في الأسواق والتطواف على المحلات ، وبعضهن بالخياطة وتتبع الموضات ، وتنزل البضائع الجديدة والأزياء الحديثة في العشر الأواخر الفاضلات لتشغل الناس عن تحصيل الأجور والحسنات .(/2)
* أن لا يصخب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ، إني صائم " رواه البخاري وغيره الفتح رقم 1894 ، فواحدة تذكيرا لنفسه ، والأخرى تذكيرا لخصمه . والناظر في أخلاق عدد من الصائمين يجد خلاف هذا الخُلق الكريم فيجب ضبط النفس ، وكذلك استعمال السكينة وهذا ما ترى عكسه في سرعات السائقين الجنونية عند أذان المغرب .
* عدم الإكثار من الطعام ، لحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ .. " رواه الترمذي رقم 2380 وقال هذا حديث حسن صحيح ، والعاقل إنما يريد أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل ، وإن خير المطاعم ما استخدمت وشرها ما خُدمت . وقد انغمس الناس في صنع أنواع الطعام ، وتفننوا في الأطباق حتى ذهب ذلك بوقت ربات البيوت والخادمات ، وأشغلهن عن العبادة ، وصار ما ينفق من الأموال في ثمن الأطعمة أضعاف ما يُنفق في العادة ، وأصبح الشهر شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة . يأكلون أكل المنهومين ، ويشربون شرب الهيم ، فإذا قاموا إلى صلاة التراويح قاموا كسالى ، وبعضهم يخرج بعد أول ركعتين .
* الجود بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس { بالخير } ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " . رواه البخاري الفتح رقم 6 فكيف بأناس استبدلوا الجود بالبخل والنشاط في الطاعات بالكسل والخمول فلا يتقنون الأعمال ولا يحسنون المعاملة متذرعين بالصيام .
والجمع بين الصيام والإطعام من أسباب دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " رواه أحمد 5/343 وابن خزيمة رقم 2137 وقال الألباني في تعليقه : إسناده حسن لغيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فطّر صائما كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء . " رواه الترمذي 3/171 وهو في صحيح الترغيب 1/451 قال شيخ الإسلام رحمه الله : والمراد بتفطيره أن يُشبعه . الاختيارات الفقهية ص : 109
وقد آثر عدد من السلف ـ رحمهم الله ـ الفقراءَ على أنفسهم بطعام إفطارهم ، منهم : عبد الله بن عمر ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل وغيرهم . وكان عبد الله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
ومما ينبغي فعله في الشهر العظيم
* تهيئة الأجواء والنفوس للعبادة ، والإسراع إلى التوبة والإنابة ، والفرح بدخول الشهر ، وإتقان الصيام ، والخشوع في التراويح ، وعدم الفتور في العشر الأواسط ، وتحري ليلة القدر ، ومواصلة ختمة بعد ختمة مع التباكي والتدبر ، وعمرة في رمضان تعدل حجة ، والصدقة في الزمان الفاضل مضاعفة ، والاعتكاف في رمضان مؤكد .
* لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويحثّهم على الاعتناء به فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجلّ عليكم صيامه ، تُفتح فيه أبواب السماء ، وتُغلّق فيه أبواب الجحيم ، وتغلّ فيه مردة الشياطين ، فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من حُرم خيرها فقد حُرم " رواه النسائي 4/129 وهو في صحيح الترغيب 1/490
من أحكام الصيام
6- من الصيام ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان والصوم في كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان وكذلك من نذر صوما متتابعا لزمه .
ومن الصيام ما لايلزم فيه التتابع كقضاء رمضان وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي والصوم في كفارة اليمين ) عند الجمهور ( وصوم الفدية في محظورات الإحرام ) على الراجح ) وكذلك صوم النذر المطلق لمن لم ينو التتابع .
7- صيام التطوع يجبر نقص صيام الفريضة ، ومن أمثلته عاشوراء وعرفة وأيام البيض والاثنين والخميس وست من شوال والإكثار من الصيام في محرم وشعبان .
8- جاء النهي عن إفراد الجمعة بالصوم البخاري فتح الباري برقم 1985 وعن صيام السبت في غير الفريضة رواه الترمذي 3/111 وحسنه والمقصود إفراده دون سبب ، وعن صوم الدهر ، وعن الوصال في الصوم ، وهو أن يواصل يومين أو أكثر دون إفطار بينهما .
ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله ، ويجوز لمن لم يجد الهدي أن يصومها بمنى .
ثبوت دخول الشهر
9- يثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله أو بإتمام شعبان ثلاثين يوما ، ويجب على من رأى الهلال أو بلغه الخبر من ثقة أن يصوم .(/3)
وأما العمل بالحسابات في دخول الشهر فبدعة ، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في المسألة : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ، فإذا أخبر المسلم البالغ العاقل الموثوق بخبره لأمانته وبصره أنه رأى الهلال بعينه عُمل بخبره .
على من يجب الصوم
10- ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس .
و يحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة : ـ إنزال المني باحتلام أو غيره ، ـ نبات شعر العانة الخشن حول القُبُل ، ـ إتمام خمس عشرة سنة . وتزيد الأنثى أمرا رابعا وهو الحيض فيجب عليها الصيام ولو حاضت قبل سنّ العاشرة .
11- يؤمر الصبي بالصيام لسبع إن أطاقه "وذكر بعض أهل العلم أنه " يُضرب على تركه لعشر كالصلاة انظر المغني 3/90 . وأجر الصيام للصبي، ولوالديه أجر التربية والدلالة على الخير ، عن الرُبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت في صيام عاشوراء لما فُرض : كنا نصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار . البخاري فتح رقم 1960 وبعض الناس يتساهل في أمر أبنائه وبناته بالصيام ، بل ربما صام الولد متحمّسا وهو يُطيق فأمره أبوه أو أمه بالإفطار شفقة عليه بزعمهما ، وما علموا أنّ الشفقة الحقيقية بتعاهده بالصيام ، قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شِداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ) . وينبغي الاعتناء بصيام البنت في أول بلوغها ، فربما تصوم إذا جاءها الدم خجلا ثم لا تقضي .
12- إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أثناء النهار لزمهم الإمساك بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب ، ولا يلزمهم قضاء ما فات من الشهر ، لأنهم لم يكونوا من أهل الوجوب في ذلك الوقت .
13- المجنون مرفوع عنه القلم ، فإن كان يجنّ أحيانا ويُفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه . وإن جنّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره لأنه نوى الصيام وهو عاقل . مجالس شهر رمضان ابن عثيمين ص : 28 ومثله في الحكم المصروع .
14- من مات أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر .
15- من جهل فرض الصوم في رمضان أو جهل تحريم الطعام أو الوطء فجمهور العلماء على عذره إن كان يُعذر مثله ، كحديث العهد بالإسلام والمسلم في دار الحرب ومن نشأ بين الكفار . أما من كان بين المسلمين ويمكنه السؤال والتعلم فليس بمعذور .
المسافر
16- يُشترط للفطر في السفر : أن يكون سفرا مسافة أو عرفا ( على الخلاف المعروف بين أهل العلم ) ، وأن يُجاوز البلد وما اتصل به من بناء وقد منع الجمهور من الإفطار قبل مغادرة البلد وقالوا إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد . أما إذا كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة . ، وأن لا يكون سفره سفر معصية ( عند الجمهور) ، وأن لا يكون قصد بسفره التحيّل على الفطر .
17- يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادرا على الصيام أم عاجزا وسواء شقّ عليه الصوم أم لم يشقّ ، بحيث لو كان مسافرا في الظلّ والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر مجموع الفتاوى 25/210
18- من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر لأنه قد يعرض له ما يمنعه من سفره تفسير القرطبي 2/278
ولا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة ) المأهولة ( ، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر ، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان ، وإذا كان المطار خارج بلدته أفطر فيه ، أما إذا كان المطار في البلد أو ملاصقا لها فإنه لا يُفطر فيه لأنه لا يزال في البلد .
19- إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك لأنه أتمّ صيام يومه كاملا فلا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها . وإذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد إتمام صيام ذلك اليوم في السفر فلا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه من الجوّ ، ولا يجوز للطيار أن يهبط إلى مستوى لا تُرى فيه الشمس لأجل الإفطار لأنه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران فاختفى قرص الشمس أفطر . من فتاوى الشيخ ابن باز مشافهة
20- من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم فالذي يسافر للدراسة في الخارج أشهرا أو سنوات فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة أنه في حكم المقيم يلزمه الصوم والإتمام .
وإذا مرّ المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم لأنه في حكم المقيمين أنظر فتاوى الدعوة ابن باز 977(/4)
21- من ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر لأن الله جعل مطلق السفر سببا للرخصة بقوله تعالى : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أُخر ) .
22- ويجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالبريد الذي يُسافر في مصالح المسلمين ( وأصحاب سيارات الأجرة والطيارين والموظفين ولو كان سفرهم يوميا وعليهم القضاء ) وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر . والبدو الرحّل إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى جاز لهم الفطر والقصر وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يُفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي أنظر مجموع فتاوى ابن تيمية 25/213
23- إذا قدم المسافر في أثناء النهار ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء مجموع الفتاوى 25/212 والأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر ، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك .
24- إذا ابتدأ الصيام في بلد ثم سافر إلى بلد صاموا قبلهم أو بعدهم فإن حكمه حكم من سافر إليهم فلا يفطر إلا بإفطارهم ولو زاد عن ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تُفطرون " ، وإن نقص صومه عن تسعة وعشرين يوما فعليه إكماله بعد العيد إلى تسعة وعشرين يوما لأن الشهر الهجري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوما . من فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز : فتاوى الصيام :دار الوطن ص: 15-16
المريض
25- كل مرض خرج به الإنسان عن حدّ الصحة يجوز أن يُفطر به ، والأصل في ذلك قول الله تعالى ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . أما الشيء الخفيف كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه .
وإذا ثبت بالطب أو علم الشخص من عادته وتجربته أو غلب على ظنّه أن الصيام يجلب له المرض أو يزيده أو يؤخر البرء يجوز له أن يُفطر بل يُكره له الصيام . وإذا كان المرض مطبقا فلا يجب على المريض أن ينوي الصوم بالليل ولو كان يُحتمل أن يُصبح صحيحا لأن العبرة بالحال الحاضرة .
26- إن كان الصوم يسبب له الإغماء أفطر وقضى الفتاوى 25/217 ، وإذا أغمي عليه أثناء النهار ثم أفاق قبل الغروب أو بعده فصيامه صحيح ما دام أصبح صائما ، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه . أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء المغني مع الشرح الكبير 1/412، 3/32 ، والموسوعة الفقهية الكويتية 5/268 ، وأفتى بعض أهل العلم بأن من أغمي عليه أو وضعوا له منوّما أو مخدرا لمصلحته فغاب عن الوعي فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ يقضي قياسا على النائم وإن كان أكثر لا يقضي قياسا على المجنون من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
27- ومن أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك أو ذهاب بعض الحواسّ بغلبة الظن لا الوهم أفطر وقضى لأن حفظ النفس واجب ، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة أو التعب أو خوف المرض متوهما ، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر وعليهم نية الصيام بالليل ، فإن كان يضرهم ترك الصنعة وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار ، أو لحق بهم مشقة عظيمة اضطرتهم إلى الإفطار فإنهم يُفطرون بما يدفع المشقة ثمّ يُمسكون إلى الغروب ويقضون بعد ذلك ، وعلى العامل في المهن الشّاقة كأفران صهر المعادن وغيرها إذا كان لا يستطيع تحمّل الصيام أن يحاول جعل عمله بالليل أو يأخذ إجازة أثناء شهر رمضان ولو بدون مرتّب فإن لم يتيسّر ذلك بحث عن عمل آخر يُمكنه فيه الجمع بين الواجبين الديني والدنيوي ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب : فتاوى اللجنة الدائمة 10/233،235 . وليست امتحانات الطلاب عذرا يبيح الفطر في رمضان ، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : فتاوى اللجنة الدائمة 10/241
28- المريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ولا يُجزئه الإطعام ، والمريض مرضا مزمنا لا يُرجى برؤه وكذا الكبير العاجز يُطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد ( وذلك يعادل كيلو ونصف تقريبا من الرز ) ، ويجوز أن يجمع الفدية فيطعم المساكين في آخر الشهر ويجوز أن يطعم مسكينا كلّ يوم ، ويجب إخراجها طعاما لنصّ الآية ولا يُجزئ إعطاؤها إلى المسكين نقودا فتاوى اللجنة الدائمة 10/198 ، ويُمكن أن يوكّل ثقة أو جهة خيرية موثوقة لشراء الطعام وتوزيعه نيابة عنه .(/5)
والمريض الذي أفطر من رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ثم علم أن مرضه مزمن فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره من فتاوى الشيخ ابن عثيمين ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه فمات فليس عليه ولا على أوليائه شيء . ومن كان مرضه يُعتبر مزمنا فأفطر وأطعم ثم مع تقدّم الطبّ وُجد له علاج فاستعمله وشفي لا يلزمه شيء عما مضى لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه . فتاوى اللجنة الدائمة 10/195
29- من مرض ثمّ شفي وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم . وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام صام عنه وليّه " . من فتاوى اللجنة الدائمة مجلة الدعوة 806
الكبير والعاجز والهرم
30- العجوز والشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت لا يلزمهما الصوم ولهما أن يفطرا مادام الصيام يُجهدهما ويشق عليهما ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في قوله تعالى : ( وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين ) : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . البخاري كتاب التفسير باب أياما معدودات ..
وأما من سقط تمييزه وبلغ حدّ الخَرَف فلا يجب عليه ولا على أهله شيء لسقوط التكليف ، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم حال تمييزه ولم يجب حال هذيانه أنظر مجالس شهر رمضان :ابن عثيمين : ص 28
31- من قاتل عدوا أو أحاط العدو ببلده والصوم يُضعفه عن القتال ساغ له الفطر ولو بدون سفر ، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل القتال : " إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطِروا " رواه مسلم 1120ط. عبد الباقي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأفتى به أهل الشام وهم في البلد لما نزل بهم التتار .
32- من كان سبب فطره ظاهرا كالمريض فلا بأس أن يفطر ظاهرا ، ومن كان سبب فطره خفيا كالحائض فالأولى أن يُفطر خفية خشية التهمة .
النية في الصيام
33- تُشترط النية في صوم الفرض وكذا كلّ صوم واجب كالقضاء والكفارة لحديث : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " رواه أبو داود رقم 2454 ورجح عدد من الأئمة وقفه كالبخاري والنسائي والترمذي وغيرهم : تلخيص الحبير 2/188
ويجوز أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة . والنية عزم القلب على الفعل ، والتلفظ بها بدعة وكل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/215 . ومن نوى الإفطار أثناء النهار ولم يُفطر فالراجح أن صيامه لم يفسد وهو بمثابة من أراد الكلام في الصلاة ولم يتكلم ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يُفطر بمجرد قطع نيته ، فالأحوط له أن يقضي . أما الردّة فإنها تُبطل النية بلا خلاف .
وصائم رمضان لا يحتاج إلى تجديد النية في كلّ ليلة من ليالي رمضان بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر فإن قطع النية للإفطار في سفر أو مرض ـ مثلا ـ لزمه تجديد النية للصوم إذا زال عذره .
34- النفل المطلق لا تُشترط له النية من الليل لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا : لا فقال فإني إذا صائم . رواه مسلم 2/ 809 عبد الباقي وأما النفل المعيّن كعرفة وعاشوراء فالأحوط أن ينوي له من الليل .
35- من شرع في صوم واجب ـ كالقضاء والنذر والكفارة ـ فلا بدّ أن يتمّه ، ولا يجوز أن يُفطر فيه بغير عذر . وأما صوم النافلة فإن " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر " رواه أحمد 6/342 ولو بغير عذر ، وقد أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مرة صائما ثم أكل كما جاء في صحيح مسلم في قصة الحيس الذي أهدي إليه عند عائشة رقم 1154 عبد الباقي ، ولكن هل يُثاب من أفطر بغير عذر على ما مضى من صومه ؟ قال بعض أهل العلم بأنه لا يُثاب الموسوعة الفقهية 28/13 ، والأفضل للصائم المتطوع أن يُتمّ صومه ما لم توجد مصلحة شرعية راجحة في قطعه .
36- من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه وعليه القضاء عند جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . رواه أبو داود 2454
37- السجين والمحبوس إن علم بدخول الشهر بمشاهدة أو إخبار من ثقة وجب عليه الصيام وإلا فإنه يجتهد لنفسه ويعمل بما غلب على ظنّه فإن تبين له بعد ذلك أن صومه وافق رمضان أجزأه ذلك عند الجمهور وإذا وافق صومه بعد رمضان أجزأه عند جماهير الفقهاء وإذا وافق صومه قبل دخول الشهر فلا يُجزيه وعليه القضاء ، وإذا وافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض أجزأه ما وافقه وما بعده دون ما قبله . فإن استمرّ الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . الموسوعة الفقهية 28/84(/6)
الإفطار والإمساك
38- إذا غاب جميع قرص الشمس أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " رواه البخاري : الفتح رقم 1954 والمسألة في مجموع الفتاوى 25/216
والسنّة أن يعجّل الإفطار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي المغرب حتى يُفطر ولو على شربة من الماء رواه الحاكم 1/432 السلسلة الصحيحة 2110 فإن لم يجد الصائم شيئا يُفطر عليه نوى الفطر بقلبه ، ولا يمصّ أصبعه كما يفعل بعض العوامّ . وليحذر من الإفطار قبل الوقت فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أقواما معلقين من عراقيبهم تسيل أشداقهم دما فلما سأل عنهم أُخبر أنهم الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم . الحديث في صحيح ابن خزيمة برقم 1986 وفي صحيح الترغيب 1/420 ، ومن تحقق أو غلب على ظنه أو شكّ أنّ فطره حصل قبل المغرب فعليه القضاء لأنّ الأصل بقاء النهار : فتاوى اللجنة الدائمة 10/287 ، وينبغي الحذر من الاعتماد على خبر الأطفال الصّغار والمصادر غير الموثوقة . وكذلك ينبغي الانتباه لفارق التوقيت بين المدن والقرى عند سماع الأذان في الإذاعة ونحوها .
39- إذا طلع الفجر وهو البياض المعترض المنتشر في الأفق من جهة المشرق وجب على الصائم الإمساك حالا سواء سمع الأذان أم لا . وإذا كان يعلم أنّ المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر فيجب عليه الإمساك حال سماع أذانه ، وأما إذا كان المؤذن يؤذن قبل الفجر فلا يجب الإمساك عن الأكل والشرب . وإن كان لا يعلم حال المؤذن أو اختلف المؤذنون ولا يستطيع أن يتبين الفجر بنفسه ـ كما في المدن غالبا بسبب الإنارة والمباني ـ فإن عليه أن يحتاط بالعمل بالتقويمات المطبوعة المبنية على الحسابات والتقديرات مالم يتبين خطؤها .
وأما الاحتياط بالإمساك قبل الفجر بوقت كعشر دقائق ونحوها فهو بدعة من البدع ، وما يلاحظ في بعض التقاويم من وجود خانة للامساك وأخرى للفجر فهو أمر مصادم للشريعة .
40- البلد الذي فيه ليل ونهار في الأربع والعشرين ساعة على المسلمين فيه الصيام ولو طال النهار مادام يمكن تمييز ليلهم من نهارهم وفي بعض البلدان التي لا يمكن فيها تمييز ذلك يصومون بحسب أقرب البلدان إليهم مما فيه ليل أو نهار متميز .
المفطرات
41- المفطّرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة : ـ أن يكون عالما غير جاهل ، ـ ذاكرا غير ناس ، ـ مختارا غير مضطر ولامُكْرَه
ومن المفطّرات ما يكون من نوع الاستفراغ كالجماع والاستقاءة والحيض والاحتجام ومنه ما يكون من نوع الامتلاء كالأكل والشرب . مجموع الفتاوى 25/248
42- من المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب كالأدوية والحبوب عن طريق الفم والإبر المغذية وكذلك حقن الدم ونقله .
وأما الإبر التي لا يُستعاض بها عن الأكل والشرب ولكنها للمعالجة كالبنسلين والأنسولين أو تنشيط الجسم أو إبر التطعيم فلا تضرّ الصيام سواء عن طريق العضلات أو الوريد ، فتاوى ابن ابراهيم 4/189 والأحوط أن تكون كل هذه الإبر بالليل ، وغسيل الكلى الذي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى مع إضافة مواد كيماوية وغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم يعتبر مفطّرا فتاوى اللجنة الدائمة 10/190 والراجح أن الحقنة الشرجية وقطرة العين والأذن وقلع السنّ ومداواة الجراح كل ذلك لا يفطر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/233 ، 25/245 ، وبخاخ الربو لا يفطّر لأنه غاز مضغوط يذهب إلى الرئة وليس بطعام وهو محتاج إليه دائما في رمضان وغيره . وسحب الدم للتحليل لا يُفسد الصوم بل يُعفى عنه لأنه مما تدعو إليه الحاجة فتاوى الدعوة : ابن باز عدد 979 ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم إن لم يبتلعه ، ومن حشا سنّه بحشوة طبية فوجد طعمها في حلقه فلا يضر ذلك صيامه من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
وسائر الأمور التالية ليست من المفطّرات :
- غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
ما يدخل المهبل من تحاميل ( لبوس ) ، أو غسول ، أو منظار مهبلي ، أو إصبع للفحص الطبي .
إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم .
ما يدخل الإحليل ، أي مجرى البول الظاهر للذكر أو الأنثى ، من قثطرة ( أنبوب دقيق ) أو منظار ، أو مادة ظليلة على الأشعة ، أو دواء ، أو محلول لغسل المثانة .
حفر السن ، أو قلع الضرس ، أو تنظيف الأسنان ، أو السواك وفرشاة الأسنان ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
المضمضة ، والغرغرة ، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية ، باستثناء السوائل والحقن المغذية .
غاز الأكسجين .(/7)
غازات التخدير ( البنج ) ما لم يعط المريض سوائل ( محاليل ) مغذية .
ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية .
إدخال قثطرة ( أنبوب دقيق ) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء .
إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها .
أخذ عينات ( خزعات ) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل .
منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل ( محاليل ) أو مواد أخرى .
دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي .
43- من أكل أو شرب عامدا في نهار رمضان دون عذر فقد أتى كبيرة عظيمة من الكبائر وعليه التوبة والقضاء وإن كان إفطاره بمحرم كمسكر ازداد فعله شناعة وقبحا والواجب بكل حال التوبة العظيمة والإكثار من النوافل من صيام وغيره ليجبر نقص الفريضة ولعل الله أن يتوب عليه .
44- و" إذا نسي فأكل و شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري فتح رقم 1933 وفي رواية : " فلا قضاء عليه ولا كفارة . "
وإذا رأى من يأكل ناسيا فإن عليه أن يذكّره لعموم قول الله تعالى وتعاونوا على البرّ والتقوى ولعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"فإذا نسيت فذكّروني " ولأن الأصل أن هذا منكر يجب تغييره . مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين ص: 70
45- من احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة فإنه يُفطر ويقضي كما قد يحدث في إنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق .
46- من وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامدا مختارا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين فقد أفسد صومه أنزل أو لم يُنزل وعليه التوبة وإتمام ذلك اليوم والقضاء والكفارة المغلظة لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت ، قال : مالك؟ ، قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ، قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ ، قال : لا ... الحديث رواه البخاري فتح 4رقم 1936 هذا والحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة .
ومن جامع في أيام من رمضان نهارا فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها مع قضاء تلك الأيام ولا يُعذر بجهله بوجوب الكفّارة : فتاوى اللجنة الدائمة 10/321
47- لو أراد جماع زوجته فأفطر بالأكل أوّلا فمعصيته أشدّ وقد هتك حرمة الشهر مرتين ؛ بأكله وجماعه والكفارة المغلظة عليه أوكد وحيلته وبالٌ عليه وتجب عليه التوبة النصوح . أنظر مجموع الفتاوى 25/262
48- والتقبيل والمباشرة والمعانقة واللمس وتكرار النظر من الصائم لزوجته أو أمته إن كان يملك نفسه جائز ، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لأَرَبه " ، أما حديث : " يدع زوجته من أجلي " فالمقصود به جماعها ، ولكن إن كان الشخص سريع الشهوة لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك لأنه يؤدي إلى إفساد صومه ولا يأمن من وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع قال الله تعالى في الحديث القدسي : " ويدع شهوته من أجلي " . والقاعدة الشرعية : كل ما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم .
49- وإذا جامع فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع وصومه صحيح ولو أمنى بعد النزع ، ولو استدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر أفطر وعليه التوبة والقضاء والكفارة المغلّظة .
50- إذا أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومه و يجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر وعليه المبادرة لأجل الصلاة .
51- إذا نام الصائم فاحتلم فإنه لا يفسد صومه إجماعا بل يتمّه ، وتأخير الغسل لا يضرّ الصيام ولكن عليه أن يبادر به لأجل الصلاة ولتقربه الملائكة .
52- من استمنى في نهار رمضان بشيء يُمكن التحرز منه كاللمس وتكرار النظر وجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يُمسك بقية يومه وأن يقضيه بعد ذلك ، وإن شرع في الاستمناء ثمّ كفّ و لم يُنزل فعليه التوبة وليس عليه قضاء لعدم الإنزال ، وينبغي أن يبتعد الصائم عن كلّ ما هو مثير للشهوة وأن يطرد الخواطر الرديئة . وأما خروج المذي فالراجح أنه لا يُفطّر . وخروج الودي وهو السائل الغليظ اللزج بعد البول بدون لذة لا يُفسد الصيام ولا يوجب الغسل وإنما الواجب منه الاستنجاء والوضوء فتاوى اللجنة الدائمة 10/279(/8)
53- و" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض " . حديث صحيح رواه الترمذي 3/89 ومن تقيأ عمدا بوضع أصبعه أو عصر بطنه أو تعمد شمّ رائحة كريهة أو داوم النظر إلى ما يتقيأ منه فعليه القضاء ، ولو غلبه القيء فعاد بنفسه لا يُفطر لأنه بدون إرادته ولو أعاده هو أفطر . وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القيء لأن ذلك يضره مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين 67 ، وإذا ابتلع ما علق بين أسنانه بغير قصد أو كان قليلا يعجز عن تمييزه ومجّه فهو تبع للريق ولا يفطّر ، وإن كان كثيرا يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامدا فسد صومه ، المغني 4/47 وأما العلك فإن كان يتحلل منه أجزاء أو له طعم مضاف أو حلاوة حرم مضغه وإن وصل إلى الحلق شيء من ذلك فإنه يفطّر، وإذا أخرج الماء بعد المضمضة فلا يضرّه ما بقي من البلل والرطوبة لأنه لا يمكنه التحرز منه ومن أصابه رعاف فصيامه صحيح وهو أمر ناشئ بغير اختياره فتاوى اللجنة الدائمة 10/264 وإذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك فلا يجوز ابتلاع الدم وعليه إخراجه فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده فلا شيء عليه ، وكذلك القيء إذا رجع إلى جوفه بغير اختياره فصيامه صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/254 . أما النخامة ـ وهي المخاط النازل من الرأس ـ والنخاعة ـ وهي البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح ـ فإن ابتلعها قبل وصولها إلى فيه فلا يفسد صومه لعموم البلوى بها فإذا ابتلعها عند وصولها إلى فيه فإنه يُفطر عند ذلك فإذا دخلت بغير قصده واختياره فلا تفطّر . واستنشاق بخار الماء في مثل حال العاملين في محطات تحلية المياه لا يضرّ صومهم : فتاوى اللجنة الدائمة 10/276 ، ويُكره ذوق الطعام بلا حاجة لما فيه من تعريض الصوم للفساد ، ومن الحاجة مضغ الطعام للولد إذا لم تجد الأم منه بدّ، وأن تتذوق الطعام لتنظر اعتداله ، وكذلك إذا احتاج لتذوّق شيء عند شرائه ، عن ابن عباس قال لا بأس أن يذوق الخلّ والشيء يريد شراءه . حسنه في إرواء الغليل 4/86 . وانظر الفتح شرح باب اغتسال الصائم كتاب الصيام
54- والسواك سنّة للصائم في جميع النهار وإن كان رطبا ، وإذا استاك وهو صائم فوجد حرارة أو غيرها من طَعْمِه فبلعه أو أخرجه من فمه وعليه ريق ثم أعاده وبلعه فلا يضره الفتاوى السعدية 245 ويجتنب ما له مادة تتحلل كالسواك الأخضر وما أضيف إليه طعم خارج عنه كالليمون والنعناع ، ويُخرج ما تفتت منه داخل الفم ، ولا يجوز تعمد ابتلاعه فإن ابتلعه بغير قصده فلا شيء عليه .
55- وما يعرض للصائم من جرح أو رعاف أو ذهاب للماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره لا يُفسد الصوم . وكذلك إذا دخل إلى جوفه غبار أو دخان أو ذباب بلا تعمد فلا يُفطر ، وما لا يُمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطّره ومثله غبار الطريق وغربلة الدقيق ، وإن جمع ريقه في فمه ثم ابتلعه قصدا لم يفطّره على الأصح المغني لابن قدامة 3/106 وكذلك لايضره نزول الدمع إلى حلقه أو أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فيجد طعمه في حلقه ، ولا يفطّر وضع الحنّاء والكحل والدّهن أنظر مجموع الفتاوى 25/233 ، 25/245 وكذلك المراهم المرطّبة والمليّنة للبشرة . ولا بأس بشمّ الطيب واستعمال العطور ودهن العود والورد ونحوها ، والبخور لا حرج فيه للصائم إذا لم يتسعّط به : فتاوى اللجنة الدائمة 10/314. والأحسن أن لا يستخدم معجون الأسنان بالنهار ويجعله بالليل لأن له نفوذا قويا المجالس ابن عثيمين ص72
56- والأحوط للصائم أن لا يحتجم والخلاف شديد في المسألة ، واختار شيخ الإسلام إفطار المفصود دون الفاصد .
57- التدخين من المفطّرات وليس عذرا في ترك الصيام إذ كيف يُعذر بمعصية ؟!
58- والانغماس في ماء أو التلفف بثوب مبتلّ للتبرد لابأس به للصائم ولا بأس أن يصبّ على رأسه الماء من الحر والعطش المغني 3/44 ويُكره له السباحة لما فيها من تعريض الصوم للفساد . ومن كان عمله في الغوص أو وظيفته تتطلّب الغطس فإن كان يأمن من دخول الماء إلى جوفه فلا بأس بذلك .
59- لو أكل أو شرب أو جامع ظانا بقاء الليل ثم تبين له أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه لأن الآية قد دلّت على الإباحة إلى أن يحصل التبين ، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : أحلّ الله لك الأكل والشرب ما شككت فتح الباري 4/135 وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 29/ 263
60- إذا أفطر يظن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فعليه القضاء ( عند جمهور العلماء ) لأن الأصل بقاء النهار واليقين لا يزول بالشك . ( وذهب شيخ الإسلام إلى أنه لا قضاء عليه )
61- وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فقد اتفق الفقهاء على أنه يلفظه ويصح صومه ، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسيا ثم تذكّر وفي فيه طعام أو شراب صحّ صومه إن بادر إلى لفظه .
من أحكام الصيام للمرأة(/9)
62- التي بلغت فخجلت وكانت تُفطر عليها التوبة العظيمة وقضاء ما فات مع إطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير إذا أتى عليها رمضان الذي يليه ولم تقض . ومثلها في الحكم التي كانت تصوم أيام عادتها خجلا ولم تقض . فإن لم تعلم عدد الأيام التي تركتها على وجه التحديد صامت حتى يغلب على ظنها أنها قضت الأيام التي حاضت فيها ولم تقضها من الرمضانات السابقة مع إخراج كفارة التأخير عن كل يوم مجتمعة أو متفرّقة حسب استطاعتها .
63- ولا تصوم الزوجة ( غير رمضان ) وزوجها حاضر إلا بإذنه ، فإذا سافر فلا حرج .
64- الحائض إذا رأت القصّة البيضاء ـ وهو سائل أبيض يدفعه الرّحم بعد انتهاء الحيض ـ التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت ، تنوي الصيام من الليل وتصوم ، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه فإن خرج نظيفا صامت ، فإذا رجع دم الحيض أفطرت ، ولو كان دما يسيرا أو كدرة فإنه يقطع الصيام ما دام قد خرج في وقت العادة فتاوى اللجنة الدائمة 10/154 ، وإذا استمر انقطاع الدم إلى المغرب وكانت قد صامت بنية من الليل صحّ صومها ، والمرأة التي أحست بانتقال دم الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس صح صومها وأجزأها يومها .
والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلا فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فمذهب العلماء كافة صحة صومها الفتح 4/148
65- المرأة التي تعرف أن عادتها تأتيها غدا تستمر على نيتها وصيامها ولا تُفطر حتى ترى الدم .
66- الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها وترضى بما كتب الله عليها ولا تتعاطى ما تمنع به الدم وتقبل ما قَبِل الله منها من الفطر في الحيض والقضاء بعد ذلك وهكذا كانت أمهات المؤمنين ونساء السلف ، فتاوى اللجنة الدائمة 10/151 بالإضافة إلى أنه قد ثبت بالطبّ ضرر كثير من هذه الموانع وابتليت كثير من النساء باضطراب الدورة بسبب ذلك ، فإن فعلت المرأة وتعاطت ما تقطع به الدم فارتفع وصارت نظيفة وصامت أجزأها ذلك .
67- دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام .
68- إذا أسقطت الحامل جنينا متخلّقا أو ظهر فيه تخطيط لعضو كرأس أو يد فدمها دم نفاس ، وإذا كان ما سقط علقة أو مضغة لحم لا يتبيّن فيه شيء من خَلْق الإنسان فدمها دم استحاضة وعليها الصيام إن استطاعت وإلا أفطرت وقضت فتاوى اللجنة الدائمة 10/224 . وكذلك إن صارت نظيفة بعد عملية التنظيف صامت . وقد ذكر العلماء أن التخلّق يبدأ بعد ثمانين يوما من الحمل.
النفساء إذا طهرت قبل الأربعين صامت واغتسلت للصلاة المغني مع الشرح الكبير 1/360 فإن رجع إليها الدم في الأربعين أمسكت عن الصيام لأنه نفاس ، وإن استمر بها الدم بعد الأربعين نوت الصيام واغتسلت ( عند جمهور أهل العلم ) وتعتبر ما استمر استحاضة ، إلا إن وافق وقت حيضها المعتاد فهو حيض .
والمرضع إذا صامت بالنهار ورأت في الليل نقطا من الدم وكانت طاهرا بالنهار فصيامها صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/150
69- الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحامل والمرضع الصوم " . رواه الترمذي 3/85 وقال : حديث حسن ، والحامل إذا صامت ومعها نزيف فصيامها صحيح ولا يؤثّر ذلك على صحة صيامها فتاوى اللجنة الدائمة 10/225
70- المرأة التي وجب عليها الصوم إذا جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها فحكمها حكمه وأما إن كانت مكرهة فعليها الاجتهاد في دفعه ولا كفارة عليها ، قال ابن عقيل رحمه الله فيمن جامع زوجته في نهار رمضان وهي نائمة : لا كفارة عليها . والأحوط لها أن تقضي ذلك اليوم . وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم فساد صومها وأنه صحيح .
وينبغي على المرأة التي تعلم أن زوجها لا يملك نفسه أن تتباعد عنه وتترك التزين في نهار رمضان . ويجب على المرأة قضاء ما أفطرته من رمضان ولو بدون علم زوجها ولا يُشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج ، وإذا شرعت المرأة في قضاء الصيام الواجب فلا يحلّ لها الإفطار إلا من عذر شرعي ولا يحلّ لزوج المرأة أن يأمرها بالإفطار وهي تقضي وليس له أن يُجامعها وليس لها أن تطيعه في ذلك : فتاوى اللجنة الدائمة 10/353 أمّا صيام النافلة فلا يجوز لها أن تشرع فيه وزوجها حاضر إلا بإذنه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ ." رواه البخاري 4793
وفي الختام هذا ما تيسّر ذكره من مسائل الصيام ، أسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، وأن يختم لنا شهر رمضان بالغفران ، والعتق من النيران .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(/10)
سبل الشيطان لإهلاك الإنسان
إعداد - صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرًا، والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الشيطان- منذ أن طرده الله من رحمته ولعنه بسبب رفضه السجود لآدم عليه السلام- دائمًا يتربص ببني آدم بالمرصاد، ويحاول بشتى السُّبل أن يصدهم عن طريق الرحمن ليكونوا معه في نار جهنم، أعاذنا الله منها، ووسائل الشيطان لإضلال بني آدم كثيرة يمكن أن نوجزها فيما يلي:
أولاً: دعوة الإنسان إلى الشرك بالله تعالى:
إن الشيطان يدعو الإنسان في كل مكان وزمان إلى الكفر والشرك بالله تعالى، فإذا نجح في ذلك واستجاب له ابن آدم، استراح منه الشيطان وجعله جندًا من جنوده ثم يتبرأ منه يوم القيامة، قال تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم {إبراهيم: 22}.
عقوبة الشرك بالله تعالى:
إن إيقاع الإنسان في الشرك بالله تعالى هو أعظم غايات الشيطان؛ لأنه يعلم أن الله لا يغفر للمشرك إذا مات على شركه، وهذا واضح في كثير من آيات القرآن الكريم.
قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما {النساء: 48}.
ويحرص الشيطان على إيقاع الإنسان في الشرك بالله تعالى؛ لأنه يعلم أن الشرك يُحبط جميع الأعمال الصالحة، قال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين {الزمر: 65- 66}.
ثانيًا: إيقاع المسلم في البدعة في الدين:
إذا فشل الشيطان في إيقاع الإنسان في الشرك فإنه يدعوه إلى الابتداع في الدين، ولذا يجب على المسلم أن يعرف الفرق بين السنة والبدعة.
السنة: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. {علم أصول الفقه لخلاف ص36}
وهذه السنة المباركة أمرنا الله تعالى باتباعها وحذرنا من مخالفتها قدر استطاعتنا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، قال جل شأنه: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر:7}.
وقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم {النور:63}.
البدعة: طريقة في الدين مُخْترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. {الاعتصام للشاطبي ج1 ص28}
التحذير من الابتداع في الدين:
قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم {المائدة: 3}.
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". {البخاري 2697، ومسلم 1718}
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". {مسلم: 867}
روى الترمذي عن العرباض بن سارية رضي الله عنهما قال: وعظنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا، قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبيشًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
{حديث صحيح. صحيح الترمذي للألباني ح2157}
روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رغب عن سنتي فليس مني".
{البخاري 5063، ومسلم 1401}
ثالثًا: تزيين فعل الكبائر:
إذا عجز الشيطان عن إيقاع المسلم في طريق البدع ووجده يسلك سبيل أهل السنة والجماعة، فإنه ينتقل إلى دعوة الإنسان إلى ارتكاب الكبائر باختلاف أنواعها، ويحرص الشيطان على أن يوقع الإنسان المسلم فيها، خاصة إذا كان عالمًا متبوعًا، حتى ينشر ذنوبه ومعاصيه بين الناس، وذلك لينفر الناس عنه وعن الانتفاع بعلمه.
{التفسير القيم لابن القيم ص613}
تعريف الكبيرة:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.
وقال الحسن البصري: كل موجبة في القرآن كبيرة.
وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو من الكبائر.
وقال الضحاك بن مزاحم: الكبائر كل موجبة، أوجب الله لأهلها النار، وكل عمل يُقام به الحد فهو من الكبائر. {تفسير ابن جرير الطبري ج5 ص41، 42}
التحذير من الكبائر:(/1)
قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما {النساء: 31}، قال الذهبي: "تكفل الله تعالى بهذا النص لمن اجتنب الكبائر أن يدخله الجنة".
{الكبائر للذهبي ص1}
وقال سبحانه: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة {النجم:32}.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت البكائر". {مسلم- كتاب الطهارة حديث 16}
رابعًا: إغراقه الإنسان في فعل الصغائر:
إذا يئس الشيطان من إيقاع الإنسان في ارتكاب الكبائر، فإنه يدعوه إلى ارتكاب الصغائر التي إذا اجتمعت على الإنسان ربما أهلكته.
{التفسير القيم ص613}
روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، إياك ومُحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالبًا".
{صحيح ابن ماجه 3421}
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أخطأ، نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " {صحيح الترمذي 2654}
قال ابن حجر العسقلاني: رُوي عن أسد بن موسى، في الزهد، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات، فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال مشفقًا حتى يلقى الله آمنًا".
قال ابن بطال: المحقرات إذا كثرت صارت كبارًا مع الإصرار. {فتح الباري ج11 ص337}
قال ابن القيم: ولا يزال الشيطان يسهل على الإنسان محقرات الذنوب حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالاً منه. {التفسير القيم ص613}
روى أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".
{الصحيحة 1-389}
خامسًا: إلهاء الإنسان في الأمور المباحة:
إذا عجز الشيطان أن يوقع الإنسان في صغائر الذنوب، دعاه إلى الاشتغال بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله به.
{التفسير القيم لابن القيم ص613}
سادسًا: الاشتغال بالمفضول عما هو أفضل منه:
إذا عجز الشيطان أن يشغل الإنسان بالأمور المباحة، وكان الإنسان حافظًا لوقته، شحيحًا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب، حاول أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمر بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقل من ينتبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًا ومحركًا إلى نوع من الطاعة، لا يشك أنه طاعة وقربة، فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذور، ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوِّت بها خيرًا عظيمًا من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف ذلك إلا من كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض، وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك، فلا يخطر بقلوبهم، والله يمن بفضله على من يشاء من عباده. {التفسير القيم ص613، 614}
سابعًا: تسليط الإنس والجن:
إذا عجز الشيطان عن إيقاع الإنسان في واحدة مما سبق، سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفاءه ليشوش عليه قلبه، ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه لا يفتر.
فحينئذ يلبس المؤمن لأْمَةَ الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِرَ وأُصِيبَ فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
{التفسير القيم لابن القيم ص614}
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
سترة المصلي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ السترة مشروعةٌ للمُصلِّي1، فينبغي للمسلم أن يصل إليها، ويدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقف قريباً من السترة، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع2 و وبين موضع سجوده والجدار ممر شاة3.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: " لا تصل إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله؛ فإن معه القرين"4، وقال: " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"5. وكان -أحياناً- يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي في مسجده6.
وفي صحيح مسلم،قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل7؛ فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك".
فليس على المصلي وزر إذا كان قد احتاط، فاتخذ سترة أمامه، ويحق له عند ذلك أن يدفع المار بين يديه، ففي "الصحيحين" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره، وليدرأ ما استطاع، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان".
وقد حذَّر الرسول من المرور بين يدي المصلي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه"8.
وعن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي الصف فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد9.
ومن هذه الأحاديث نستخلص:
1- أن على الداخل إلى المسجد إذا أراد الصلاة منفرداً كان أو إماماً أن يبادر إلى جدار أو عمود من أعمدة المسجد، أو يضع شيئاً فيصلي إليه، وقد رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صلِّ إليه10، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يبتدرون السواري11، أي يصلون خلفها؛ ليجعلوها سترة لهم12.
2- السترة تكون في المسجد، وفي الفضاء للإمام والمنفرد، وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه13.
3- لا تختص السترة بغير المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل تشملهما كذلك، قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في "حجة النبي"ص 23: وأحاديث السترة لا تختص بسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهي تشمل المسجد الحرام، والمسجد النبوي من باب أولى، لأن هذه الأحاديث؛ إنما قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، فهو المراد بها أصالة، والمساجد الأخرى تبعاً، والأثران المذكوران -أي عن أنس، وعن ابن عمر- نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث.
وعليه فلا يتساهل البعض في أمر السترة في هذين المسجدين، إن أمكنه أن يصلي إليها، وكذلك لا يتساهل المار بين يدي المصلي فيهما وهو يجد مندوحة عن المرور بين يديه...
4- إن أراد أحد المرور بين يدي المصلي فله منعه في قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وسالم، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال في المغني: "ولا أعلم فيه خلافاً" 14
ثم هل المنع و" الْمُقَاتَلَةُ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي صَلاةِ الْمُصَلِّي مِنْ الْمُرُورِ، أَوْ لِدَفْعِ الإِثْم عَنْ الْمَارِّ ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي. وقيل: بَلْ الأَوَّل أَظْهَرُ، لأَنَّ إِقْبَالَ الْمُصَلِّي عَلَى صَلاتِهِ أَوْلَى لَهُ مِنْ اِشْتِغَالِهِ بِدَفْع الإِثْم عَنْ غَيْرِهِ".15
وهل يستحب دفع المار بين يدي المصلي أم يجب؟ قيل يستحب وقيل يجب: قَالَ النَّوَوِيّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ هَذَا الدَّفْعِ، بَلْ صَرَّحَ أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ مَنْدُوب. اِنْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِهِ أَهَّلُ الظَّاهِرِ، فَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يُرَاجِعْ كَلامَهُمْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلافِهِمْ 16. وهو مروي كذلك عن الإمام أحمد رحمه الله.(/1)
5- يشرع دفع المار ولو لم يكن هناك مسلك غَيْرُ الذي يريد المرور منه. يؤيد ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان"
6- حكم المار بين يدي المصلي كحكم العدو الصائل يدفع بما يرده، فقَوْله : فَلْيُقَاتِلْهُ " أَيْ يَزِيدُ فِي دَفْعِهِ الثَّانِي أَشَدّ مِنْ الْأَوَّلِ".... "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الْإِقْبَال عَلَى الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَالْخُشُوعِ فِيهَا ا.ه. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَقِيقَة وَاسْتَبْعَدَ اِبْن الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ فِي " الْقَبَسِ " وَقَالَ : الْمُرَادُ بِالْمُقَاتَلَةِ الْمُدَافَعَةِ. وَأَغْرَبَ الْبَاجِيُّ فَقَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد بِالْمُقَاتَلَةِ اللَّعْن أَوْ التَّعْنِيف. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُبْطِل، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يَلْعَنُهُ دَاعِيًا لَا مُخَاطِبًا، لَكِنَّ فِعْلَ الصَّحَابِيِّ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْمُرَادِ..."17
قال في الفتح: وصَرَّحَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا : يَرُدُّهُ بِأَسْهَلِ الْوُجُوه ُ فَإِنْ أَبَى فَبِأَشَدَّ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ. فَلَوْ قَتَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ لَهُ مُقَاتَلَتَهُ، وَالْمُقَاتَلَةَ الْمُبَاحَةَ لَا ضَمَانَ فِيهَا. وَنَقَلَ عِيَاض وَغَيْره أَنَّ عِنْدَهُمْ خِلَافًا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
7- لا يجوز للمصلي المشي من مكانه ليدفعه، ونقل في ذلك الاتفاق، قال في الفتح: " وَنَقَلَ اِبْن بَطَّال وَغَيْره الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانه لِيَدْفَعَهُ، وَلا الْعَمَل الْكَثِير فِي مُدَافَعَتِهِ، لأَنَّ ذَلِكَ أَشَدّ فِي الصَّلاةِ مِنْ الْمُرُورِ"18.
8- وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَرَّ وَلَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِعَادَةً لِلْمُرُورِ، وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا رَدَّهُ فَامْتَنَعَ وَتَمَادَى، لَا حَيْثُ يُقَصِّرُ الْمُصَلِّي فِي الرَّدِّ.19
9- المرور بين يدي المصلي ينقص أجر الصلاة ولا يبطلها: "وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود " أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاتِهِ " وَرَوَى أَبُو نُعَيْم عَنْ عُمَرَ " لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إِلَّا إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ". فَهَذَانِ الْأَثَرَانِ مُقْتَضَاهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ لِخَلَلٍ يَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَارِّ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مَوْقُوفَيْنِ لَفْظًا فَحُكْمُهُمَا حُكْم الرَّفْعِ، لِأَنَّ مِثْلَهُمَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْي.
هذا والله نسأل أن يوفقنا للخير، وأن يجنبنا الضير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - قال ابن رشد في كتابه بداية "المجتهد ونهاية المقتصد"(1/82): (واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى منفرداً كان أو إماماً؛ وذلك لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل)، واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة,فقال الجمهور: ليس عليه أن يخط، وقال أحمد بن حنبل: يخط خطاً بين يديه)، وقال بوجوبها وأحمد في إحدى الروايتين عنه والبخاري، ومن المعاصرين العلامة الألباني، رحمة الله عليهم، انظر صفة صلاة النبي (صـ 82).
2 - البخاري، وأحمد.
3 - متفق عليه.
4 - صحيح ابن خزيمة، وقال الألباني: سنده جيد، انظر: صفة صلاة النبي (صـ 82).
5 - رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (643).
6 - صفة صلاة النبي للألباني (صـ 82).(/2)
7 - بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة، وفيها لغات أخرى: وهي العود الذي في آخر الرحل.
8 - رواه الجماعة.
9 - رواه الجماعة.
10 - صحيح البخاري.
11 - صحيح البخاري.
12 - راجع: المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (صـ77-81).
13 - رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي (صـ83).
14 - المغني لابن قدامة: 2/41
15 -( فتح الباري كتاب: الصلاة، باب: يرد المصلي من يمر بين يديه) مع تصرف في السياق.
16 - الفتح الموطن السابق.
17 - الفتح الموطن السابق، بتصرف.
18 - الفتح الموطن السابق.
19 - الفتح الموطن السابق.(/3)
سجود السهو
"إن كثيراً من الناس يجهلون كثيراً من أحكام سجود السهو في الصلاة ،فمنهم من يترك سجود السهو في محل وجوبه ، ومنهم من يسجد في غير محله ،ومنهم من يجعل سجود السهو قبل السلام وإن كان موضعه بعده ، ومنهم من يسجد بعد السلام وإن كان موضعه قبله ، ولذا كانت معرفة أحكامه مهمة جداً لا سيما للأئمة الذين يقتدي الناس بهم وتقلدوا المسؤولية في اتباع المشروع في صلاتهم التي يؤمون المسلمين بها "1
من المعلوم أن سجود السهو شرع لجبر الخلل في تمام الصلاة؛ من نقص أو زيادة أو شك .كما أن في تلك السجدتين ترغيماً للشيطان، وزيادة في حسرته؛ لأنه لم يرض بالسجود أول مرة..
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك جانباً وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)).
وهنا مسائل في سجود السهو نشير إليها إشارات سريعة:
كيفيته: هو سجدتان يسجدهما المصلي قبل التسليم أو بعده،كما سيأتي بيانه.
وأسبابه ثلاثة : الزيادة والنقص والشك .
محله:
أما محله "فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ مَشْهُورَةٌ . قِيلَ : كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَقِيلَ : كُلُّهُ بَعْدَهُ وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.. وَقِيلَ : بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ ; لَكِنْ مَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالسُّجُودِ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَ بَعْدَهُ ; لِأَجْلِ النَّصِّ ; وَالْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد
قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : أَنَا أَقُولُ : كُلُّ سَهْوٍ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَجَدَ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ وَسَائِرُ السُّجُودِ يَسْجُدُ فِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ هُوَ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى" 2
وهو "أحسن ما يقال في هذا المقام أنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود مقيداً بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيداً ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيراً بين: السجود قبل السلام وبعده، من غير فرق بين الزيادة والنقص؛ لما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (( إذا زاد الرجل أونقص فليسجد سجدتين))" ا.هـ . الشوكانيُّ رحمه الله.
لأن " الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَ قَوْلِ كُلِّ مَنْ عَمَّمَ فَجَعَلَهُ كُلَّهُ قَبْلَهُ أَوْ جَعَلَهُ كُلَّهُ بَعْدَهُ .و بَقِيَ التَّفْصِيلُ . فَيُقَالُ : الشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِلَا فَرْقٍ فَلَا يَجْعَلُ بَعْضَ السُّجُودِ بَعْدَهُ وَبَعْضَهُ قَبْلَهُ إلَّا لِفِرَقِ بَيْنَهُمَا"3
ولابد من تفصيل الأحوال التي يشرع فيها سجود السهو قبل أو بعد السلام حتى تتضح ومنها:
1. إذا أنقص المصلي من الصلاة وسلم قبل إتمامها فإن هذا النقص إما أن يكون نقص ركن أو واجب أو نقص سنة؛ فإن الناقص ركناً وكان تكبيرة الإحرام بطلت الصلاة سواء كان الترك عمداً أم سهواً لأن الصلاة لم تنعقد .
وإن كان غير تكبيرة الإحرام ووصل إلى موضعه من الركعة الثانية لغيت الركعة التي تركه منها ،وقامت التي تليها مقامها وإن لم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده، وفي كلتا الحالين يجب عليه أن يسجد للسهو بعد السلام .
ويفرق بين الركن والواجب من حيث أنه يرجع إلى المصلي إلى الواجب إن كان لم يصل إلى الركن الذي يليه، فإن وصل لم يرجع. أن نسيانه لا يبطل الركعة التي هو منها.4(/1)
ويدل على هذا حديث أبي هريرة قال: (صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمني على اليسرى، وشبَّك بين أصابعه، ووضع خده على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان – أي الذين يخرجون من المسجد بعد السلام مباشرة- من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة! وفي القوم أبوبكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟! فقال: ((لم أنسَ ولم تقصر)) فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟!)) فقالوا: نعم... فقام فصلى ما ترك ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه).متفق عليه, ففي هذا الحديث حصل نقص في الصلاة ثم أتم وسجد له سجدتان.
2. عند الزيادة في الصلاة: إذا زاد المصلي ركعة أو ركناً من أركان الصلاة أو واجباً آخر، فيها ناسياً، ثم اذكر آخر الصلاة سجد للسهو بعد السلام؛ لحديث ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خمساً، فقيل له: أزيدَ في الصلاة؟ فقال: ((وما ذلك؟)) فقالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعد ما سلم) رواه الجماعة.
"والسلام قبل تمام الصلاة من الزيادة في الصلاة(1)فإذا سلم المصلي قبل تمام صلاته متعمداً بطلت صلاته .
وإن كان ناسياً ولم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد الصلاة من جديد .وإن ذكر بعد زمن قليل كدقيقتين وثلاث فإنه يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم ".5
دليل ذلك : حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر أو العصر فسلم من ركعتين فخرج السرعان من أبواب المسجد يقولون : قصرت الصلاة ، وقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى خشبة المسجد فاتكأ علها كأنه غضبان ، فقام رجل فقال يا رسول الله : أنسيت أم قصرت الصلاة ؟فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم أنس ولم تقصر ، فقال رجل : بلى قد نسيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة : أحق ما يقول ؟ قالوا : نعم ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ما بقي من صلاته ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم . متفق عليه .
3. عند نسيان التشهد الأول:
وفيه خلاف هل هو من السنن أم من الواجبات, وليس هذا موضع تفصيل ذلك, ولكن إذا نسيه المصلي واذكره قبل أن يستتم قائماً رجع فإنه يجلس ويتشهد ثم يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم .
وإن ذكر بعد أن استتم قائماً سقط عنه التشهد فلا يرجع إليه فيكمل صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم .
وقد قيل بهذا التفصيل لئلا يزاد الصلاة، لأن السجود لجبر النقص فإذا لم يستتم المصلي قائماً ورجع، فالتهيؤ للقيام زيادة؛فلا يجمع بينها وبين السجود في الصلاة، وكان السجود بعد السلام، وإن استتم قائماً؛ أنقص التشهد فناسب أن يسجد قبل السلام.
أمام دليل ذلك فهو ما رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس (يعني التشهد الأول ) فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم .
4. نسيان سنة من سنن الصلاة: لقوله صلى الله عليه وسلم :" لكل سهو سجدتان " ، وهو حديث حسن، رواه أبو داود وأحمد وغيرهم6 ومحله قبل السلام لأنه الأصل
5. السجود عند الشك في الصلاة:
ولا يخلو الشك في الصلاة من حالتين :
الحال الأولى : أن يترجح عنده أحد الأمرين فيعمل بما ترجح عنده فيتم عليه صلاته ويسلم ، ثم يسجد للسهو ويسلم مرة أخرى.
مثال ذلك : شخص يصلي الظهر فشك في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة لكن ترجح عنده أنها الثالثة فإنه يجعلها الثالثة فيأتي بعدها بركعة ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم .
دليل ذلك : ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين . هذا لفظ البخاري
الحال الثانية : أن لا يترجح عنده أحد الأمرين فيعمل باليقين وهو الأقل فيتم عليه صلاته ، ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم .
لحديث ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم...)) رواه مسلم وأحمد.(/2)
وفي الأخير نرجع ونقول: إن ( الأمر واسع في ذلك فكلا الأمرين جائز، وهما السجود قبل السلام وبعده؛ لأن الأحاديث جاءت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.. لكن الأفضل أن يكون السجود للسهو قبل السلام إلا في صورتين: إحداهما: إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر فإن الأفضل أن يكون سجود السهو بعد إكمال الصلاة والسلام منها، اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سلم عن نقص ركعتين في حديث أبي هريرة وعن نقص ركعة في حديث عمران بن حصين – رضي الله عنهما- سجد للسهو بعد التمام والسلام.
الصورة الثانية: إذا شك في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً في الرباعية، أو اثنتين أو ثلاثاً في المغرب أو واحدة أو اثنتين في الفجر، لكنه غلب على ظنه أحد الأمرين وهو النقص أو التمام، فإنه يبني على غالب ظنه، ويكون سجوده بعد السلام على سبيل الأفضلية لحديث ابن مسعود – رضي الله عنه- والله ولي التوفيق.) أ.هـ من كلام الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله (مجلة الدعوة العدد 1665).
إلا أن على المسلم أن يتحرى الصواب الموافق للدليل لا أن يتشهى الأقوال بهواه والله أعلم
نسال الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
1 - رسالة في سجود السهو لابن عثيمين رحمه الله
2 - مجموع الفتاوى 23 /17بتصرف
3 - شيخ الاسلام المصدر السابق.
4 - التفريق بين الركن والواجب مذهب الحنابلة.
(1) وجه كونه من الزيادة أنه زاد تسليماً في أثناء الصلاة .
5-رسالة في سجود السهو
6 - انظر " الروضة " لصديق خان عليه رحمة الله.(/3)
سحائب المغفرة
فضيلة الشيخ: محمد مختار الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا.
(صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا)
أما بعد فأحييكم بتحية الإسلام، بتحية من عند الله مباركة طيبة.
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم في بداية هذا اللقاء أن يجعل اجتماعنا اجتماعا مرحوما وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما.
أيها الأحبة في الله:
من الذي يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ؟
من الذي ينادي في كل ليلة هل من تائب فأتوب علية، هل من مستغفر فأغفر له ؟
من الذي ينادي: يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي ؟
من الذي ينادي : يا عبادي إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم ؟
من الذي ينادي: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
من الذي يرحم التائبين ويشملهم بعفوه ومغفرته وهو خير الغافرين ؟
من الذي عجت ببابه الأصوات فلهجت بالمعذرة والمسائل والحاجات فكان الله ولم يزل بها رحيما ؟
أيها الأحبة في الله:
يغفر الله للعبد ذنوبه ويستر له عيوبه، يغفر الله وهو خير الغافرين، ويرحم الله وهو أرحم الراحمين.
يغفر الله للعباد مغفرة لا تدع للعبد ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا محته، وتلك المغفرة التامة، مغفرة لما تقدم وما تأخر غفرها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً).
يغفر لله للعبد ذنبه فلا يبقي له خطيئة أبدا.
جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يحمل الذهب والفضة، فصبها في حجر النبي (صلى الله عليه وسلم) صدقة لوجه الله، فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأخذ الذهب بيديه، وقلبه بكفه فقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.
وجاء حاطب ابن أبي بلتعة فوقف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قصته المشهورة وكتابه لأهل مكة، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه:
يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فقال (صلى الله عليه وسلم):
دعه يا عمر، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
يغفر الله للعبد مغفرة تامة كاملة فلا يبقي له ذنبا ولا خطيئة، وبذلك يمشي على وجه الأرض مبشرا بالجنة.
يغفر الله للعبد ذنوبه فيرحمه إذا رحم خلقه:
مرت بغي من بغايا بني إسرائيل، كانت على المعاصي والفجور، فمرت على كلب يلهث الثرى فانكسر قلبها وأرادت أن ترحمه، فنزلت إلى البئر فملأت خفها ماء وسقت الكلب فشكر الله لها فغفر ذنوبها.
ومر رجل على غصن شوك في طريق المسلمين، فلما رآه قال والله لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه عن طريقهم فزحزحه الله عن نار جهنم وغفرت ذنوبه.
الله أكبر إذا غفر الله لعبده، والله لا يُسأل عن أمره، ولا يعقّب في حكمه سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله، يقف العبد بين يدي الله، يقف العبد بين يدي سيده ومولاه، يناديه رباهُ رباه، يناديه بعد الذنوب والخطايا، والعيوب والرزايا.
وقد أقضت مضجعه وآلمته وأكربته فلم يجد ملجأ ومنجى إلا إلى الله، فيقف بين يدي الله وقد أحزنته ذنوبه وأهمته عيوبه وأسرته خطاياه بعد أن ذهبت اللذة، وانقضت الشهوة وأعقبها العذاب والهوان، وأصابته بلية المعصية:
من فقر في يديه.
وسوء في حاله.
ومرض في بدنه.
وأحاط به ضيق المعاصي.
آلمته وأقضت مضجعه ,أقلقلته، عندها نظر يمينا وشمالا.
فإذا بالنفس الأمارة بالسوء قد خذلته، وإذا بالشيطان المريد قد خذله، فلم يجد إلا ربه لكي يقف بين يديه معتذرا، ويقف بين يديه نادما تائبا منكسرا.
فينادي ربه من صميم قلبه وفؤاده، وهو يعتقد أن لا أرحم من الله بخلقه.
ينادي ربه وهو على يقين أن الله أحلم وأرحم، وأن الله أوفى وأكرم، وأنه وإن كانت ذنوبه كبيرة فالله أكبر من كل شيء، وإن كانت عيوبه كثيرة فالله أرحم وهو الغفور الحليم.
فوقف بين يدي الله منكسرا، أسيرا حسيرا كسيرا مؤمنا بربه موقنا برحمته، فيناديه:(/1)
يا ربِ يا رب، وإذا بالله جل جلاله لا ينظر إلى ما مضى من إساءته ولكن يفرح بإنابته وتوبته، فتفتح أبواب السماوات وتصعد الكلمات والدعوات، فتنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي، فينادي أرحم الراحمين، وينادي خير الغافرين:
يا ملائكتي علم عبدي أن له رب يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنوب، قد غفرتُ لعبدي.
وقد يكون العبد أبن ستين وسبعين فيغفر له في طرفة عين، فيتولى الشيطان وهو يحثُ على نفسه التراب ويقول: يا ويلي أغويته من ستين وسبعين وغفر له في طرفة عين.
فإذا غفرت الذنوب، وسترت العيوب، وزالت الخطايا، فرح العبد بتوبة ربه عليه، ورأى بشائر فضله وإحسانه أمامه وبين يديه، رأى الكرم والجود، والحلم والرحمة فأزداد فرحا بالله، وإنابة إلى الله، وثقة بالله جل جلاله، وأصبح لسان حاله يقول:
يا رب أسئت في ما مضى فأحسن لي في ما بقي من عمري، وأحسن لي في ما بقي من أجلي.
فتغشته سحائب المغفرات، وأفاض الله عليه جزيل وجميل الرحمات، ففتح في وجهه أبواب البر، فانطلق ذلك العبد الموفق إلى أبواب الخير والطاعات فرحا بتوبة ربه عليه، وإنابته وإحسانه إليه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده أراه بدل له سيئاته حسنات.
الله أكبر، إذا بدلت الذنوب، وبدلت الخطايا والعيوب، بدلت حسنات من أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وخير الغافرين سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله:
من بيننا وبين الله؟ من الذي بيننا وبين ربنا؟
ليس بيننا وبين الله أحد، ليس بيننا وبين الله ترجمان ولا حجاب ولا جن ولا إنسان، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
يناديه العبد بالذنب لا يعلمه إلا هو سبحانه الرب، فيستره ويرحمه في الدنيا والآخرة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
إن الله يدني العبد يوم القيامة ثم يلقي عليه كنفه ثم يكون في ستر لا يسمع ما يقول إلا الله وحده لا شريك له فيقول له:
يا عبدي عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا.
فيقول نعم يا رب.
فيقول عبدي عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا.
فيقول نعم يا ربي، حتى إذا كشفت العيوب وكشفت الذنوب، وأشفق العبد على نفسه.
قال الحليم الرحيم، عبدي سترتها عليك في الدنيا وها أنا أسترها عليك اليوم، فيستره الله بستره، ويشمله بعفوه ومغفرته، ويدخله الجنة.
ليس بين العبد وبين الله أحد، لا يستطيع أحد أن يحرمك من رحمة ربك، ولا يستطيع أحد كائن من كان أن يقفل أبواب فضل الله عليك..
اختار الله منك الندم والشجى والحزن والألم على ما سلف وكان من العصيان لكي يشملك بعفوه.
ومن دلائل التوبة النصوح ثلاث علامات.
إذا رزقها الله العبد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، وزالت عن خطاياه.
أولها وأجلها وأعظمها ندم الجنان.
ثم استغفار اللسان.
ثم الإقلاع وصلاح حال الجوارح والأركان.
فأما ندم القلب والجنان فلا يرزقه الله إلا لعبده الذي يحبه، العبد المرحوم المغفور هو الذي ينكسر قلبه لله، وإذا انكسر قلبه لله عز وجل شمله الله برحمته، وعمه بعفوه ومغفرته.
إذا تحرك الندم في القلوب جاءت رحمة علام الغيوب.
إذا تحرك الندم في القلب فلا يحركه إلا الله، وإذا تحرك الندم في القلب فإنه بشارة لتوبة الله على العبد، يتحرك هذا الندم حينما يحدث الإنسان نفسه، فتلومه نفسه، ويلومه قلبه قائلاً:
ما كان ينبغي أن تقول كذا.
ما كان ينبغي أن تفعل كذا.
ما كان ينبغي أن يكون منك هذا الشيء.
فإذا ندم جنانه تحرك لسان وقال:
ربي أغفر لي، فإذا ندم الجنان وصدق في الندم، ونطق اللسان وبث الحزن والألم فتح الله أبواب السماوات، وصعدت هذا الكلمة: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).
فإذا قبل الله استغفار العبد، وقبل الله توبته أصلح حاله وجاءت العلامة الثالثة والأمارة الثالثة وهي الإقلاع عن الذنوب والمعاصي ومقتها في جنب الله سبحانه وتعالى.
فإذا جاءت هذه العلامات الثلاث: ندم الجنان، واستغفار اللسان، وصلاح الجوارح والأركان.
فأعلم أن ثم توبة الله على العبد تامة كاملة، فإن كانت الذنوب بين العبد وبين الناس أنطلق إلى أهل الحقوق وأهل المظالم، حركه قلبه، وحركه فؤاده قائلا:
ظلمت أخاك المسلم حينما اغتصبت أرضه.
ظلمت أخاك المسلم حينما سببته وشتمته وانتهكت عرضه.
ظلمت أخاك في ألإسلام حينما ذكرت عيوبه وثلبته.
فيريد أن يذهب لكي يعتذر فيأتيه الشيطان المريد ويقول له:
من أنت حتى تعتذر؟
وكيف تعتذر لفلان، قد ذهب الزمان وأكلت حقه.
والناس تسخر منك،، الناس تقول، الناس تفعل، لا لا تفعل ما لك وماله، فلان أحقر من أن تأتيه، فلان أحقر من أن تسأله العفو والمغفرة عن ما كان منك من إساءة إليه.
فعندها: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ عدو الله فإنك لن تقف معي بين يدي الله لو اقتص أخي من مظلمته.(/2)
فيدحر الشيطان وينطلق بكل شجاعة وإيمان لكي يقف على أخيه المسلم وقد أحاطت به الدنيا من جميع جوانبها تخذله وتخوفه، وإذا به يتشجع ويتجاسر لأنه يخاف الآخرة ويخاف القصاص من رب لا يغفل عن الجِنة والناس، ويأتي إلى أخيه ويقول:
يا أخي ظلمتك في مالك وها أنا أسألك أن تعفو عني.
يا أخي أسأت إليك وأسألك أن تغفر لي.
يا أخي اعتديت حدود الله في أمرك وأسألك أن تصفح عني.
فيقول له أخوه إن كان موفق قد غفرت لك يا أخي.
وإن أمتنع وقال له أريد حقي، قال له سمعا وطاعة، فالدنيا أهون عندي من أن تغضب ربي علي، والدنيا أحقر عندي من أن تحول بيني وبين رحمة الله، فيأتيه بحقه كاملا لا يبالي أرضي الناس أم سخطوا، شاءوا أم أبوا لأنه يريد الفكاك من النار.
يحرك الندم الشعور بالآخرة وتذكر القصاص بالذنوب والمعاصي، وتذكر أن هذا الكون لم يخلق عبثا، وأن هذا الكون لم يوجد سدى.
وما من عبد تائب صادق في توبته، وما من عبد يذنب ويريد أن يصدق في توبته إلا حركه إلى الله خوفه من الآخرة: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ).
من علم أنه سيقف بين يدي الله حافيا عاريا.
وأنه سيقف بين يدي الله لا مال ولا بنون.
وأنه سيقف بين يدي الله لا ينظر الله إلى حسبه ولا إلى نسبه ولا إلى غناه ولا إلى عزه، ولكن ينظر إلى مظالم خلقه عنده فيأمره بأدائها.
فإذا تذكر أن سيقف بين يدي الله، حرص كل الحرص على أن يخرج من الدنيا خفيف الظهر والحمل من الذنوب والمعاصي.
ولذلك كان السلف الصالح، والتابعون لهم بإحسان يخففون من الذنوب ويخففون من الأحمال على ظهورهم:
حضرت الوفاة رجلا صالحا، فأجتمع أبناءه وأولاده فقال:
يا أولادي أسألوا جاري أن يسامحني في حقه.
قالوا وما حق جارنا عندك؟
قال: إني أصبت طعاما في السمن والودك فأردت أن أغسل يدي فحككت جدار جاري فنزل الطين منه فغسلت يدي، فأسالوه أن يسامحني في حقه.
شيء يسير ولكنه عند الله كبير حينما: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
أيها الأحبة في الله:
التوبة الصادقة، التحلل من الذنوب، التحلل من الحقوق والمظالم للصغير والكبير، والجليل والحقير.
فهنيئا ثم هنيئا لمن أصابته رحمة الله عز وجل.
سحائب المغفرة من خير الغافرين، سحائب المغفرة من أرحم الراحمين، أحب الله أهل الإيمان وشملهم بالعفو والصفح والبر والإحسان.
الله أكبر ما أرحم الله بعباده، ألم تعلم أنه صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
أنه ما من مسلم يقرّب وضوئه (أي الماء الذي يتوضأ به) فيغسل وجهه إلا خرجت خطايا وجهه مع الماء أو مع أخر قطر الماء، وأنه إذا غسل يديه خرجت خطايا يديه مع الماء أو مع أخر قطر الماء، وأنه إذا غسل رحليه خرجت كل خطيئة مسسها رجلاه مع الماء أو مع خر قطر الماء.
وفي الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
أنه ما من عبد يقف بين يدي الله في الصلاة مع الجماعة فيؤمن فيوافق تأمينه تأمين الملائكة وفي رواية تأمين الإمام إلا غفر له ما تقدم من ذنبه.
وما من عبد يسجد لله سجدة إلا حطت عنه خطيئة ورفعت له بها درجة.
وما من عبد يقول دبر كل صلاة مكتوبة سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين كل واحدة، ثم يقول تمام المئة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله وهو على كل شيء قدير إلا غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
وما من عبد يخرج من بيته إلى بيت من بيوت الله فيرفع قدما أو يضع أخرى إلا تحاتت عنه ذنوبه.
وما من عبد يتوضأ في شدة الحر أو شدة البرد فيجد حر ذلك وبرده فيسبغ الوضوء إلا تحاتت عنه خطاياه.
وما من عبد يصلي صلاة في بيت من بيوت الله، ثم يجلس في المسجد ينتظر الصلاة بعدها إلا تحاتت ذنوبه ومحيت خطاياه.
قال (صلى الله عليه وسلم) ألا أنبأكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرت الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط..
وما من عبد يحب مسلما لله، ويحب أخا له في الله، فيخرج من بيته ليزوره لله وفي الله إلا بشر بالمغفرة من الله.
ففي صحيح مسلم أن رجلا خرج إلى أخ له في الله يزوره في قرية، فأرسل الله إليه ملكا على مدرجته (في طريقه) فقال له إلى أين أنت ذاهب؟ قال إلى هذه القرية، قال ومالك فيها؟ قال لي فيها أخ في الله، قال لك عليه من نعمة تردها عليه؟ قال لا، إلا أنه أخي في الله، قال إني رسول الله إليك أن الله غفر لك بممشاك إليه.
وما من عبد يذكر الله عز وجل فيتلو كتابه،ويتأثر بآياته، وينكسر لعضاته، فتحرك في قلبه عظمت الله عز وجل وتوحيده، والإيمان به وتمجيده إلا غُفرت ذنوبه.(/3)
وإن من أعظم أسباب المغفرة الإيمان بالله: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * ِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
فجعل مغفرة الله له بعد قوله (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)، فلو نظرت إلى حجر أو شجر أو مدر فنظرت في ملكوت الله، ونظرت في هذا الكون الذي يأخذ بمجامع قلبك إلى الإيمان بالله وتعظيم الله، ثم جلست ساعة تتأمل فيه وفي عظمت الله، فأنكسر قلبك فقلت لا إله إلا الله خالصة من قلبك إلا غفرت ذنوبك..
وما من عبد يخرج من بيته إلى بيت من بيوت الله فيجلس في مجلس يذكر في الله، جلس لله وفي الله، ولربما لم يجبس قبل ذلك مجلس ذكر.
فإذا جلس معهم صعدت الملائكة، فسألهم الله عز وجل عن عباده وهو أعلم، فيقولون ما كان من شأنهم، فيقولون أتيناهم وهم يسبحونك ويمجدونك،.
قال ماذا يسألونني؟.
قالوا يسألونك الجنة.
قال هل راؤها؟ قالوا لا.
قال فكيف لو راؤها لكانوا أشد شوقا إليها.
ثم يقول مما يستعيذون؟
قالوا يستعيذون من نارك،.
فيقول وهل رءوا ناري؟
قالوا لا.
قال فكيف لو راؤها لكانوا أشد فرقا منها، قد غفرت لهم.
فتقول الملائكة، إن فيهم فلانا عبدا خطأ كثير الذنوب مر فجلس معهم.
قال أرحم الراحمين، قال الله وهو خير الغافرين، وله قد غفرت هم القوم لا يشقى به جليسهم.
وما من قوم يجلسون في مجلس ذكر لله إلا نادى مناد الله طبتم وطاب ممشاكم، قوموا قد بُدلت سيئاتكم حسنات.
سحائب مغفرة من أرحم الراحمين، سحائب مغفرة من خير الغافرين.
ومن لنا غير الله، ومن لنا غير الذي لا إله سواه ولا رب عداه، من لنا غيره لو أغلقت أبوابه وحاشاه.
من لنا غيره لو ابتعدنا عنه وهو صاحب الفضل والكرم.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بعفوه وأن يعمنا بإحسانه وبره.
أيها الأحبة في الله:
لا أسعد من اللحظة التي يحس الإنسان فيها أن ربه قد تاب عليه، ولا أسعد من اللحظة التي ينكسر فيها العبد لربه وسيده، تلك اللحظة التي يتمناها.
ولو سألت التائب عن أسعد لحظة مرة عليه في عمره، قال اللحظة التي تبت فيها إلى ربي.
ولو سألت عبدا صالحا عن أسعد لحظة مرة به في حياته، قال حينما رحمني الله بالإنابة إليه، وفي ذلك كله عز الدنيا وسعادتها.
وفي ذلك كله أنس من الوحدة وتبديد لها.
من تابَ تاب الله عليه، ومن أناب إلى الله أحبه الله وآواه.
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
أيها الأحبة في الله:
من سحائب المغفرة التي تُمطر على العبد فيغفر الله بها ذنوبه، ويستر بها عيوبه أن يكون العبد كثير الاستغفار، كثير الإنابة إلى الله الحليم الغفار.
من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية.
كان (صلى الله عليه وسلم) يستغفر الله في اليوم أكثر من مئة مرة، وقال أيها الناس توبوا إلى الله فإني أستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.
كثرة الاستغفار باب من أبواب الرحمة.
فاستغفر الله قائما وقاعدا، استغفر الله ذاهبا وراجعا.
إن ذهبت وأنت تطلب رزقك استغفرت الله عند خروجك لأنه ربما حُرم العبد الرزق بسبب الذنب.
وإن رجعت إلى بيتك وأويت إلى أهلك أكثرت من الاستغفار لربك خشيت أن تكون ظلمت أو أست أو أخطأت، فترجع إلى بيتك وأنت مغسول من الذنوب والخطايا.
فأكثر من الاستغفار لله فإن الاستغفار سبب من أسباب الرحمة، ولذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستغفر الله، ويستفتح الصلاة بالاستغفار، ويسأل ربه أن يغسله من الذنوب والخطايا بالماء والثلج والبرد.
ومن علم أن الذنوب شؤمها عظيم، وبلائها وخيم وعاقبتها سيئة:
فكم من ذنب قاد إلى حرمان الرزق.
وكم من ذنب أظلم به القلب.
وكم من ذنب طمست به البصيرة.
وكم من ذنب فسدت به العيال.
وكم من ذنب ذهبت به الأموا.
وكم من ذنب كان سببا في سوء الخاتمة والعياذ بالله وسوء الحال.
الذنوب بريد إلى الكفر، وطريق إلى الكفر، فعلى العبد أن يفر منها إلى أرحم الراحمين، وخير الغافرين، وأن يستيقن أن الله حليم رحيم: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت من باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة.(/4)
ومن الأسباب التي تعين على مغفرة الله للعبد بره لوالديه، وصلته لرحمه، وحسن ظنه بالمسلمين، وسلامة صدره، وما يكون منه من الإحسان كالعطف على الفقراء والضعفاء، وقضاء ديون المعسرين، وتفريج الكربات عن المكروبين فإنها سحائب رحمة من أرحم الراحمين.
يقف العبد بين يدي الله يوم القيامة، فتعظم عليه الذنوب وتكثر منه الخطايا والعيوب، فيقول الله عز وجل: إنه كان يتجاوز عن المعسرين، ونحن أحق بالتجاوز عنه، قد غفرت لعبدي وتجاوزت عنه.
قال (صلى الله عليه وسلم) أنه كان في من كان قبلكم رجل يديّن (يقرض) الناس، وكان يقول لغلمانه: إذا رأيتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال (صلى الله عليه وسلم): فوقف بين يدي الله، فقال الله عز وجل لملائكته: نحن أحق بالعفو من عبدي، قد غفرت لعبدي، وفي رواية قد تجاوزت عنه فاذهبوا به إلى الجنة.
فمن أسباب الرحمة رحمة العباد، والإحسان إليهم، وشملهم بالعفو والمغفرة، فمن عامل الناس بالسماحة عامله الله بالرحمة، والراحمون يرحمهم الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن لا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور.
اللهم أرحم ضعفنا واغفر ذنبنا، اللهم اغفر ذنبنا ما تقدم وما تأخر، وما ظهر وما بطن.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وفرج كروبنا وأحسن خاتمتنا وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واعف عنا، وأرحم في موقف العرض يا أرحم الراحمين ذل مقامنا.
أقول قولي هذا وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم العفو والمغفرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
…………………………………
الأسئلة:
سؤال:
فضيلة الشيخ ما نصيحتكم لشخص عاص لوالدته لا يطيعها ويرفع صوته عليها وجزاكم الله خيرا.
جواب:
اللهم إنا نعوذ بك من العقوق، وأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أوصي الجميع ونفسي ببر الوالدين، وأن لا ينسى الإنسان عهودا مضت، وأياما خلت من أم حليم رحيم طالما أحسنت إليه وأكرمته، وأن لا يقابل الإحسان إلا بالإحسان فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
يا هذا:
كم تعبت أمك، وكم شقيت وكم عانت، وكم رأت من شدائد وأهوال لا يعلمها إلا ذي العزة والجلال.
حملتك فكان بطنها لك وعاء، وثديها لك سقاء، وحجرها لك حواء.
كم عانت من أجلك، وكم كابدت في سبيل خروجك ورأت الموت أمام عينيها.
وما زلت كل يوم تزداد ثقلا إلى ثقل، وهي فرحة بقدومك مستبشرة بمجيئك لعل الله أن يقر عينها بك، فتبرها عند الكبر، وتحسن إليها عند الضعف، وتذكرها عند المشيب والكبر.
فلما دنت ساعة والدتك دنى الموت منها، فأشفقت على نفسها ورأت الأهوال فاستغاثت بربها حتى لو خيرت بين أن تموت وتخرج أنت سالما لاختارت موتها.
فلما خرجت وصحت صيحتك تبددت أحزانها وزالت أشجانها، وفرحت بك واستبشرت فنسيت جميع ما رأت وجميع ما كابدت، وكلها أمل أن تذكر منها ذلك ولا تنساه، وأن تقابله بالإحسان ولا تقابله بالإساءة، وأن تقابله بالكرامة لا بالمهانة.
فلما رق عظمها، وشاب شعرها، وخارت قواها وقفت في آخر عمرها فإذا بك قد وليتها ظهرك وأسمعتها ما يكون من عقوقك.
فويل لك من الله إن لم تتب إلى الله.
ويل لك من الله إن لم تُنب إلى ربك، وتقبل على أمك فتحسن من بعد إساءة، وتجثو على ركبتيك عندها وتقول:
أماه سامحيني في مضى، واغفري لي ما كان.
و إلا ستصيبك نقمة من الله.
قال يا رسول الله أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان وأريد الجنة.
قال (صلى الله عليه وسلم) أتريد الجنة؟
قال نعم، قال أرجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ولك الجنة.
فارجع إلى أمك فأضحكها كما أبكيتها، وأحسن إليها ولا تسيء إليها.
بر الوالدين وخاصة الأم دين لا يستطيع الإنسان أن يقضيه، حتى ولو ماتت وخرجت من الدنيا فإنها أحوج ما تكون إلى دعوة صالحة، يذكرها أبنها والصالح من أولادها لعل الله أن يفسح لها في قبرها، فأسأل ربك لها الرحمة وأحسن إليها حية وميتة، وبرها صحيحة ومريضة والزم رجلها فإن الجنة ثم.
يا هذا:
باب من أبواب الجنة جعله الله لك فلا تغلقه في وجهك، أمك وما أدراك ما أمك، إن بررتها وخرجت من عندها وهي راضية عنك، فدعت لك دعوة فتحت لك بها أبوب السماوات.
أحسن إلى أمك لعل الله أن يحسن إليك، وأدعوك أن تنيب إلى ربك وأن تتذكر ما كان من فضلها عليك.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم البر وأن يعيذنا من العقوق.
اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا إله الأولين والآخرين، ويا أرحم الراحمين، نسألك في هذا المجلس المبارك أن تسبغ شآبيب رحماتك على قبور آبائنا وأمهاتنا.
اللهم أشملهم بعفو منك وبر، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن لا تدع واحدا منهم ضيقا في قبره إلا أفسحت له فيه وزدته نورا وفرحا وسرورا.
يا أرحم الراحمين اللهم اجزهم عن إحسانهم إلينا إحسانا، اللهم أحسن إليهم كما ربونا صغارا.(/5)
اللهم لا يغرف معروفهم إلا أنت، ولا يجزي إحسانهم أحد غيرك، اللهم أجعل درجاتهم في المهديين، واخلفهم في عقبهم في الغابرين، ونر لهم قبورهم وأفسح لهم فيها يا أرحم الراحمين.
اللهم ومن كان منهم حيا فأحسن خاتمته، وأطل في الطاعة أجله، وبارك في عمره وقوله وعمله يا رب العالمين، وأجزهم عنا خير الجزاء وأحسنه يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
واحات الهداية / http://www.khayma.com/ante99/index.htm(/6)
سد الذرائع المؤدية إلي الشرك الأصغر
إعداد : د.عبدالله شاكر الجنيدي
الحلقة الرابعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالشرك الأصغر: هو النوع الثاني من أنواع الشرك بعد الأكبر، وهو لا يخرج من الملة، ولكنه قد يحبط العمل الذي يصاحبه أو ينقص ثوابه، وفي كلا الحالين فهو إثم يوجب العقوبة إلا أن يعفو الله عز وجل(1)، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته منه، كما جاء في حديث محمود بن لبيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. "يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً".
{أحمد في مسنده 5-428، 429}
والمراد بالرياء في هذا الحديث هو يسيره، لا النفاق الاعتقادي الأكبر المخرج من الملة، وذلك أن الرياء قد يطلق ويراد به النفاق الأكبر كما جاء في قوله تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر
{البقرة264}
قال ابن كثير في تفسيره: "أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدحة الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال: ولا يؤمن بالله واليوم الآخر". {تفسير ابن كثير 1-470}
وطريقة التفريق بين الرياء الذي هو النفاق الأكبر، وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركًا أصغر حديث: "إنما الأعمال بالنيات". {البخاري: 1-9، ومسلم 3-1515}
فالنية هي التي تفرق بينهما، وقد وضح ذلك وفصله الشيخ حافظ الحكمي فقال: "فإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل والدار الآخرة فذلك النفاق الأكبر، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة، ولكن دخل عليها الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر وفسره بالرياء العملي". {معارج القبول: 1-454}
ولخطورة هذا النوع من الشرك أيضًا، ولخفائه أحيانًا، وصيانة لجانب التوحيد، فقد سدَّ الشارع كل الوسائل المفضية إلى الوقوع فيه، وسنبين ذلك من خلال المبحثين التاليين:
المبحث الأول: سد الذرائع في الألفاظ:
لقد تهاون كثير من الناس في هذه المسألة، وأصبحوا يطلقون كلمات توقعهم في هذا اللون من الشرك، ولكثرة وقوعه وانتشاره كان الحديث عنه، ومن أمثلة سد الذرائع في هذا الباب ما يلي:
أ- النهي عن الحلف بغير الله:
نهى الإسلام عن الحلف بغير الله كما في حديث عمر رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". {البخاري 11-530}
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر". {الترمذي 5-135}، قال الترمذي بعد سياقه: "هذا حديث حسن. وتفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك". على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله".
وهذا مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرياء شرك"، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية. قال: لا يرائي". {الترمذي: 5-136، 317}
قال ابن حجر: "والتعبير بقوله: فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك". {فتح الباري: 11-531}
قال أبو جعفر الطحاوي: "ولم يرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خارجًا عن الإسلام، ولكنه أراد أنه لا ينبغي أن يحلف بغير الله تعالى، لأن من حلف بغير الله تعالى فقد جعل ما حلف به محلوفًا به، كما جعل الله تعالى محلوفًا به، وبذلك جعل من حلف به أو ما حلف به شريكًا فيما يحلف به، وذلك أعظم، فجعله شركًا بذلك شركًا غير الشرك الذي يكون به كافرًا بالله تعالى خارجًا عن الإسلام".
قال الشيخ الألباني بعد نقله لهذا الكلام: "يعني- والله أعلم- أنه شرك لفظي وليس شركًا اعتقاديًا، والأوْلى تخريجه؛ من باب سد الذرائع، والآخر محرم لذاته، وهو كلام وجيه متين". {سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1-217}
ب- النهي عن قول: "ما شاء الله وشئت".
قال البخاري في صحيحه: "باب لا يقول: ما شاء الله وشئت".(/1)
وعن حذيفة بن اليمان أن رجلاً من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلاً من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون. تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "أما والله، إن كنت لأعرفها لكم، قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد". {ابن ماجه 1-685}
قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي: "المشيئة إرادة الله، قال الله سبحانه وتعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله {الإنسان: 30}، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ما شاء الله ثم شئت"، ولا يقال: "ما شاء الله وشئت". {شرح السنة للبغوي 12-361}
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن =رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : "ما شاء الله وشئت". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أجعلتني والله عدلاً، بل ما شاء الله وحده". {مسند أحمد 1-214}
قال ابن القيم: "إنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، وذم الخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى. سدًا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له: "ما شاء الله وشئت"، أجعلتني لله ندًا؟ فحسم مادة الشرك، وسد الذريعة إليه في اللفظ، كما سدها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها".
{إعلام الموقعين: 3-158، 159}
وقال الشيخ الألباني بعد ذكره لبعض الأحاديث في هذا الموضوع: "قلت: وفي هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره: ما شاء الله وشئت يعتبر شركًا في نظر الشارع، وهو من شرك الألفاظ، لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، وسببه القرن بين المشيئتين، ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعي العلم مالي غير الله وأنت، وتوكلنا على الله وعليك، ومثله قول بعض المحاضرين: باسم الله والوطن، أو باسم الله والشعب، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها، أدبًا مع الله تبارك وتعالى". {سلسلة الأحاديث الصحيحة 1-217}
ج- النهي عن قول: عبدي وأمتي.
عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك وضئ ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي وغلامي". {البخاري: 5-177}
قال البغوي: "قيل: إنما منع من أن يقول: ربي أواسق ربك، لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد، فكره له المضاهاة بالاسم، لئلا يدخل في معنى الشرك، والعبد والحُر، فيه بمنزلة واحدة، فأما ما لا تعبُّد عليه من سائر الحيوان والجماد فلا يمنع منه، كقولك: رب الدار، ورب الدابة والثوب، ولم يمنع العبد أن يقول: سيدي ومولاي، لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده، والسياسة له وحسن التدبير لأمره، ولذلك سمي الزوج سيدًا، قال الله سبحانه وتعالى: وألفيا سيدها لدا الباب {يوسف: 25}، ومنع السيد من أن يقول: عبدي، لأن هذا الاسم من باب المضاف ومقتضاه العبودية له، وصاحبه عَبْدُ الله، مُتعبَّد بأمره ونهيه، فإدخاله مملوكه تحت هذا الاسم يوهم التشريك". {شرح السنة 12-350، 351}
قال النووي رحمه الله: بيّن النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك فقال: كلكم عبيد الله، فنهى عن التطاول في اللفظ. {شرح النووي على مسلم 15-7}
وقال ابن القيم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتاي وفتاتي، ونهى أن يقول لغلامه: وضئ ربك، أطعم ربك سدًا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الرب ههنا هو المالك كرب الدار، ورب الإبل، فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد حماية لجانب التوحيد وسدًا لذريعة الشرك".
{إعلام الموقعين 3-162، 163}(/2)
وقال عبد الرحمن بن حسن: "هذه الألفاظ المنهي عنها، وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقًا للتوحيد، وسدًا لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ، لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم فينهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى، فالنهي عنه حسمًا لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقًا للتوحيد، وبعدًا عن الشرك حتى في اللفظ، وهذا من أحسن مقاصد الشريعة لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده من مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو قوله: "سيدي ومولاي"، وكذا قوله: "ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"، لأن العبيد عبيد الله والإماء إماء الله، قال الله تعالى: إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا {مريم: 93}، ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيمًا لله تعالى وأدبًا وبعدًا عن الشرك وتحقيقًا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا: "فتاي وفتاتي وغلامي"، وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع لهم، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين، فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصًا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه خصوصًا ما يقرب من الشرك لفظًا وإن لم يقصد، وبالله التوفيق".
{فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 467}
والحمد لله رب العالمين(/3)
سد الذرائع المتعلقة بالإمامة والخروج على الحاكم
د. عبد الله شاكر الجنيدي
نائب الرئيس العام
وجوب تنصيب إمام واحد والاجتماع عليه
من المعلوم أن الإمامة(1)
شرعت لحفظ الدين وسياسة الدنيا به، ومن هنا دعا الإسلام إلى وجود إمام واحد
تجتمع عليه القلوب، وتكون به الجماعة، وتعدد الأئمة مدعاة للتفرق والاختلاف،
لما يمكن أن يقع بينهم من تناحر وشقاق، لذا كان من شريعة الإسلام الدعوة إلى
إمام واحد سدًّا لذريعة التفرق والاختلاف، وها هي بعض الأدلة على ذلك من القرآن
والسنة.
أولاً: أدلة القرآن الكريم
قال تعالى: يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
[النساء: 59].
وقال تعالى: وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا
فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع
الصابرين [الأنفال: 46].
\في هاتين الآيتين الكريمتين يأمر اللَّه جماعة
المؤمنين بطاعة اللَّه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاجتماع على كلمته وعدم مخالفته، حتى لا
يحدث نزاع بينهم فيقع ما حذرت منه الآيتان.
يقول الشيخ رشيد رضا في شرحه للآية
الثانية: «أطيعوا اللَّه في هذه الأوامر المرشدة إلى أسباب الفلاح في القتال
وفي غيرها، وأطيعوا رسوله فيما يأمر به وينهى عنه من شئون القتال وغيرها من حيث
إنه المبين لكلام اللَّه الذي أنزل إليه على ما يزيده تعالى منه، والمنفذ له
بالقول والعمل والحكم، ومنه ولاية القيادة العامة في القتال، فطاعة القائد
العام هي جماع النظام الذي هو ركن من أركان الظفر».
[تفسير المنار ج10/24]
وقال
القاسمي في تفسيره بعد شرحه للآية: «تنبيه: قال بعض المفسرين في قوله تعالى:
ولا تنازعوا أي: لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد، بل ليتفق رأيكم،
قال: ولقائل أن يقول: استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبر أمرهم ويقطع
اختلافهم، فإنه بلزوم طاعته ينقطع الاختلاف وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا، وقال:
اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي». [البخاري 13/121]
ثانيًا: أدلة
السنة النبوية
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو
إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون
خلفاء فيكثرون، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم،
فإن اللَّه سائلهم عما استرعاهم». [مسلم 3/1480]
قال النووي في شرح الحديث:
«ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء
بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه طلبها، واتفق العلماء على
أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال
إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدها لشخصين، قال: وعندي
أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صُقع واحد (ناحية واحدة)، وهذا مجمع عليه، قال:
فإن بعد ما بين الإمامين وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال. قال: وهو خارج
من القواطع، وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصول وأراد به
إمام الحرمين وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق
الأحاديث. والله أعلم» [شرح النووي على مسلم جـ12 ص231]
وقال ابن حجر: «فوا»
فعل أمر من الوفاء، والمعنى: «أنه إذا بويع لخليفة بعد خليفة، فبيعة الأول
صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة». [فتح الباري 6/497]
وقال ابن تيمية
رحمه اللَّه: «إنه صلى الله عليه وسلم سنَّ الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة
والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، مع كون إمامين في صلاة الخوف
أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية، لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت
الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره
عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل
الألفة وهي من الأفعال، وزجر عن ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضًا». [مجموعة
الفتاوى الكبرى 3/144]
وقال ابن القيم: «إن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد
في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع كون صلاة
الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سدًا لذريعة التفريق والاختلاف
والتنازع، وطلبًا لاجتماع القلوب وتآلف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد
سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة، لئلا تختلف
القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر». [إعلام الموقعين 3/118]
ترك الخروج على
الحاكم وطاعته في غير معصية اللَّه
يرى أهل السنة والجماعة عدم الخروج على
الحاكم المسلم الظالم الجائر، ما لم يصل ظلمه وجوره إلى الكفر البواح، وذلك
سدًا لمفسدة الخروج عليه، وما يترتب عليه من إراقة للدماء، وانتشار الفوضى في
البلاد وبين العباد والأدلة على ذلك من السنة ما يلي:
1- حديث عبادة بن الصامت(/1)
- رضي اللَّه عنه- قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر
والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا
كفرًا بواحًا عندكم من اللَّه فيه برهان»[متفق عليه]
2- عن عوف بن مالك الأشجعي
رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم
ويحبونكم وتصلُّون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم
ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قالوا: قلنا: يا رسول اللَّه، أفلا ننابذهم عند
ذلك، قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئًا من
معصية اللَّه فليكره ما يأتي من معصية اللَّه ولا ينزعن يدًا من طاعة».
[أخرجه
مسلم 3/1481]
وقد وردت أحاديث كثيرة حول هذا المعنى، وهي تفيد: ترك الخروج على
الأئمة، ووجوب الطاعة في المعروف، وعدم طاعته في المعصية مع كراهة ما يأتي
منها. وقد ذهب إلى القول والعمل بهذه الأحاديث أهل السنة الجماعة.
قال النووي
في شرحه لحديث عبادة السابق ذكره: «ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في
ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد
الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج
عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت
الأحاديث بمعنى ما ذكرته.. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه
ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في
عزله أكثر منها في بقائه».
[شرح النووي على مسلم 12/229]
وقال ابن تيمية: «وقد
استفاض وتقرر في غير هذا الموضع - ما قد أمر به صلى الله عليه وسلم - من طاعة الأمراء في غير
معصية اللَّه ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم وقسمهم، والغزو معهم والصلاة
خلفهم ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم، فإنه من باب
التعاون على البر والتقوى، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم
وطاعتهم في معصية اللَّه ونحو ذلك مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان.
ولا يُزَالُ المنكر بما هو أنكر منه، بحيث يخرج عليهم بالسلاح، وتقام الفتن كما
هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة، وكما دلت عليه النصوص النبوية في ذلك من
الفساد الذي يربو على فساد ما يكون من ظلمهم، بل يطاع اللَّه فيهم وفي غيرهم،
ويفعل ما أمر به ويترك ما نهي عنه». [مجموع الفتاوى 35/20، 21]
وقال الحافظ ابن
حجر: «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته
خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء». [فتح الباري
13/7]
وقال ابن القيم: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة - وإن
ظلموا أو جاروا - ما أقاموا الصلاة، سدًا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير
بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف ما هم عليه،
والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن». [إعلام الموقعين 3/130]
وقال عبد الرحمن
بن يحيى المعلمي: «وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس
على عثمان يرون أنهم يريدون الحق، ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم أنهم
إنما يطلبون الحق فكانت ثمرة ذلك بعد اللتيا والتي أن انقطعت خلافة النبوة،
وتأسست دولة بني أمية، ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك
المأساة، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرة».
[التنكيل لما ورد في تأنيب
الكوثري من الأباطيل 1/99]
وهكذا سرد المعلمي مفاسد الخروج الكبيرة في فترة من
فترات الإسلام العظيمة، مبينًا ثمرات هذا الخروج وآثاره على الأمة الإسلامية،
لهذا جاء الشرع الحكيم بسد الباب، ووضع أئمة أهل السنة ضوابط جليلة لمنع إراقة
الدماء وحفاظًا على المسلمين من التمزق والضياع(2).
(1) الإمامة رئاسةً عامة
في الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، انظر الموسوعة الفقهية (6/216).
(2) يراجع
للفائدة كتاب الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة للدكتور عبد اللَّه بن عمر
الدميجي (ص490- 548).(/2)
سد الذرائع المتعلقة بالنبوة والرسالة
إعداد/ د. عبد الله شاكر الجنيدي
نائب الرئيس العام
اختص الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله بآيات بينات وبراهين ساطعات تدل على صدقهم وتوجب اتباعهم ويطلق عليها المعجزات، وإن كان الدليل على صدق الأنبياء لا ينحصر في المعجزات، إلا أنها من الأدلة الصحيحة على ثبوت النبوة، وما أجري على يد الأنبياء من المعجزات لا يقع لغيرهم بحال وذلك سدًا لذريعة تكذيبهم، والاختلاف عليهم والكفر بما أرسلوا به، وحتى يتميزوا عن الكاذبين.
يقول ابن تيمية: «ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يعارضها من ليس بنبي، فكل ما عارضها صادرًا ممن ليس من جنس الأنبياء فليس من آياتهم، ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى لما ادَّعى أنه ساحر، فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى، فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة، وأمرهم موسى أن يأتوا أولاً بخوارقهم، فلما أتت وابتلعتها العصا التي صارت حية، علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم فآمنوا إيمانًا جازمًا». [النبوات: 12، 13]
ويقول أيضًا: «وخوارق الأنبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها ولا يمكن أحدٌ إبطالها، لا من جنسهم ولا من غير جنسهم، فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضًا، فلا يتصور أن نبيًا يبطل معجزة آخر وإن أتى بنظيرها فإنه يصدقه، ومعجزة كل منهما آية له وللآخر أيضًا، كما أن معجزات أتباعهم آيات لهم بخلاف خوارق السحرة، فإنها تدل على أن صاحبها ساحر، يؤثر آثارًا غريبة مما هو فساد في العالم، ويُسَرُّ بما يفعله من الشرك والكذب والظلم، ويستعين على ذلك بالشياطين، فمقصوده الظلم والفساد، والنبي مقصوده العدل والصلاح، وهذا يستعين بالشياطين، وهذا بالملائكة وهذا يأمر بالتوحيد لله وعبادته وحده لا شريك له، وهذا إنما يستعين بالشرك وعبادة غير الله، وهذا يعظم إبليس وجنوده، وهذا يذم إبليس وجنوده». [المرجع السابق]
والقرآن الكريم هو أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعجزة الباقية إلى يوم الدين، وأهم دليل على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم ، وقد تحدى الله به الإنس والجن مجتمعين على أن يأتوا بمثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
يقول البيهقي: فأما العلم الذي اقترن بدعوته ولم يزل يتزايد أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته، فهو القرآن العظيم، المعجز المبين، وحبل الله المتين، الذي هو كما وصفه من أنزله، فقال تعالى: وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [فصلت:41، 42]، [دلائل النبوة 1/10]
ومع تأييد الله لنبيه بالآيات الكثيرة إلا أنه لم يُجِب المشركين إلى ما طلبوه من آيات لم يُرد الله أن تكون لهم، وذلك سدًا لذريعة التكذيب بها، فيهلكهم الله، كما هي سنته في ذلك، قال تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [الإسراء:59].
قال ابن جرير في تفسيره: «يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك إلا أن من كان قبلهم من الأمم المكذبة سألوا ذلك مثل سؤالهم، فلما أتاهم ما سألوا كذبوا رسلهم فلم يصدقوا مع مجيء الآيات فعوجلوا، فلم نرسل إلى قومك بالآيات، لأنا لو أرسلنا بها إليهم فكذبوا بها سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلهم». ثم ساق روايات كثيرة في سبب نزول هذه الآية منها ما ذكره ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأنى بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: بل نستأنى بهم، قأنزل الله الآية.
[جامع البيان في تفسير القرآن 15/74]
ثانيًا: النهي عن المفاضلة بين الأنبياء
سدًا لذريعة الانتقاص من أحدهم
دل القرآن الكريم على أن الله فضل بعض النبيين على بعض كما قال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [البقرة: 253]، ومع هذا وردت أحاديث صحيحة تنهى عن تفضيل بعض النبيين على بعض كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما يهودي يعرض سلعته أُعطي بها شيئًا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه، وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لم لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه يُنفخ في الصور فيُصْعَق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله، ثم يُنفخ فيه أخرى فأكون أول من بُعِثَ، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور، أم بعث قبلي». [متفق عليه](/1)
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متَّى، ونسبه إلى أبيه». [متفق عليه]
وهذه الأحاديث لا تعارض آية التفضيل المذكورة آنفًا، وينبغي أن يحمل النهي الوارد فيها عن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية، سدًا لذريعة الانتقاص من المفضول.
قال النووي: قال العلماء: هذه الأحاديث تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: «أنا سيد ولد آدم». [أبو داود 5/354]
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم .
[شرح النووي على مسلم 15/132]
وقد ذكر القرطبي أقوالاً كثيرة لأهل العلم في هذه المسألة منها: «إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال، وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة». [الجامع لأحكام القرآن 2/1070]
وقال ابن حجر: قال العلماء: «إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعًا، إن كان قاله بعد أن أُعْلِم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال، وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة». [فتح الباري 6/1070]
وقال شارح الطحاوية بعد أن ذكر حديث أبي هريرة السابق: «فكيف يجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر». فالجواب: أن هذا كان له سبب، لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذمومًا، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذمومًا، فإن الله حرم الفخر، وقد قال الله تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [الإسراء:55]، وقال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [البقرة:253]، فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على الانتقاص بالمفضول».
وقد جاء في أبحاث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: «ومن هذا القبيل تفضيل بعض الأنبياء على بعض، هو نفسه جائز، فقد فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، ولكنه يمنع حينما يجر إلى الفتنة والعصبية، وقد تخاصم مسلم ويهودي في العهد النبوي، ولطم المسلم وجه اليهودي، لأنه أقسم بالذي اصطفى موسى على العالمين، وأقسم المسلم بالذي اصطفى محمدًا على العالمين، فلما بلغت الخصومة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم غضب حتى عرف الغضب في وجهه، وقال: «لا تخيروني على موسى». [مسلم 4/1844]، ثم أثنى عليه بما هو أهله، ونهاهم أن يفضلوا بين أنبياء الله سدًا لذريعة الفتن، وحرصًا على وقارهم- صلوات الله وسلامه عليهم- وإذا كانت الدول تشدد في سد الذرائع، وترى ذلك ركنًا من أركان السياسة والأمن والنظام والمعاملات الدنيوية، فإنه في العقائد أخلق وفي مقام النبوة أوجب وأحق». [حكم تمثيل الصحابة ص41]
والحمد لله رب العالمين.(/2)
سد الذرائع المتعلقة بالنبوة والرسالة2
إعداد/ د. عبد الله شاكر الجنيدي
نائب الرئيس العام الحلقة الثانية
إرسال المرسلين بلسان أقوامهم
أرسل الله أنبياءه ورسله باللسان الذي يتكلم به المرسل إليهم، حتى يعرفوا خطابه ومراده منه، ولئلا يتعللوا بعدم الفهم له، فكان الإرسال بهذه الطريقة سدًا لذريعة تكذيبهم بحجة عدم الفهم عنهم. قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم [إبراهيم: 4].
واختص الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإرساله إلى الناس كافة من العرب والعجم، كما هو مرسل إلى الجن أيضًا، ولا حجة لغير العرب في ذلك، لأن الله قيض لدينه من ينشره إلى غير العرب بلسانهم وأقيمت الحجة عليهم بذلك.
قال القرطبي: «وما أرسلنا من رسول» أي قبلك يا محمد «إلا بلسان قومه» أي بلغتهم، ليبين لهم أمر دينهم، ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا (الجامع لأحكام القرآن 5/3569).
وقال ابن تيمية: وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدها: أن يقال: والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد، بلسان الذي أنزلت عليه، ولسان قومه الذين يخاطبهم أولاً، وسائر الأنبياء إنما يخاطبون الناس بلسان قومهم الذي يعرفونه أولاً، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم، إما أن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه. [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/189]
وقال ابن كثير: وهذا من لطفه تعالى بخلقه: أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد: عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبعث الله نبيًا إلا بلغة قومه»، وقد كانت هذه سنة الله في خلقه: أنه ما بعث نبيًا في أمة إلا أن يكون بلغتهم، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس. [تفسير ابن كثير 3/297].
وقال القاسمي في تفسيره: فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعًا، قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [الأعراف: 158]، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة. قلت: لا يخلوا إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهمه، كما ترى الحال وتشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم. [محاسن التأويل 10/3706، 3707].
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي». وذكر منها: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود».
قال النووي في شرحه: قيل: المراد بالأحمر: البيض من العجم وغيرهم، وقيل: المراد بالأسود: السودان، وبالأحمر: من عداهم من العرب وغيرهم، قيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، والجميع صحيح، فقد بعث إلى جميعهم. [شرح النووي على مسلم 5/5].
نهي المؤمنين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ «راعنا»:
كان المؤمنون يقولون كلمة: «راعنا» للنبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها معنى صحيحًا وهو: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه، ونراجعك فيه القول لنفهمه عنك، ولكن اليهود كانوا يقولونها ويقصدون بها الحط من مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون: «راعنا» من المراعاة، وهي تقتضي المشاركة في الرعاية، أي: ارعنا نرعك، وفي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر، أو أنهم كانوا يُميلون ألسنتهم في نطق هذه الكلمة لتؤدي معنى آخر مشتقًا من الرعونة فنهاهم الله عز وجل أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة سدًا لذريعة الانتقاص من قدره صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أفضلها.
قال ابن تيمية: إنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «راعنا» مع قصدهم الصالح لئلا يتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدًا. [مجموع الفتاوى الكبرى 3/144].(/1)
وقال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص - عليهم لعائن الله -، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يُوَرُّون بالرعونة، كما قال تعالى: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: «السام عليكم» والسام هو: الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ «وعليكم»، فإنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا». [تفسير ابن كثير 1/213].
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «كان المسلمون يقولون حين خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم عند تعلمهم أمر الدين: (راعنا)، أي: ارع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحًا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدًا، فانتهزوا الفرصة فصاروا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سدًا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم» [تيسير الكريم الرحمن 1/120].
وبالله تعالى التوفيق.(/2)
سد الذرائع في مسائل العقيدة
إعداد/ د. عبد الله شاكر الجنيدي
الحلقة السابعة
نائب الرئيس العام
سد الذرائع في توحيد المعرفة والإثبات
توحيد المعرفة والإثبات أحد نوعي التوحيد، وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الجلال والكمال لله عز وجل، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فلا رب سوى خالق الأرض والسماء، كما أنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته وأفعاله، تعالى سبحانه وتقدس عن الشبيه والنظير.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغنى عن الغير من خصائص رب العالمين، كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقًا، ولا ربًا مطلقًا ونحو ذلك، لأن ذلك يقتضي الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده».
وقد سدَّ الشارع الذرائع التي يمكن أن تؤدي إلى وقوع محظور في هذا النوع من التوحيد، وبيان ذلك في مبحثين كما يلي:
المبحث الأول: سد الذرائع في مضاهاة أفعال الله تعالى
أفعال الله كثيرة، وهي مبنية على أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه ورازقه، وهو الذي يحييه ويميته ويدبر أمره، وهو أمر تشهد له الفطرة، ويذعن له العقل، وقد ذكر ربنا ذلك في آيات كثيرة من كتابه، كما نفى أن يكون لأحد معه شريك في الخلق والتكوين فقال سبحانه: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [المؤمنون: 91].
ويظهر حماية الشرع لهذا النوع من التوحيد بذكر الأمثلة الآتية:
1- النهي عن تصوير ذوات الأرواح:
نهى الإسلام عن تصوير ذوات الأرواح سدًا لذريعة المضاهاة لأفعال الله تعالى، وهي هنا الخلق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة».
قال الإمام النووي بعد ذكره لبعض الأحاديث الناهية عن التصوير: «وهذه الأحاديث صريحة في تحريم تصوير الحيوان وأنه غليظ التحريم، وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه، فلا تحرم صنعته ولا التكسب به سواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهدًا، واحتج مجاهد بقوله تعالى: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي»، واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: «ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» أي: اجعلوه حيوانًا ذا روح كما ضاهيتم.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره للحديث السابق: «وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة وهي المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة».
وقال الشيخ صديق حسن خان: «قال بعض أهل العلم في معنى هذا الحديث: يعني أن المصورين يدعون الإلهية في هذه السترة، لكونهم يريدون أن يصنعوا أشياء مثل ما صنعه الخالق القدير، فهم مسيئو الأدب مع الله عز وجل، ودعواهم هذه كذب صريح وحجة داحضة».
2- النهي عن قول: «مطرنا بنوء كذا»:
عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: «صلى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب». [البخاري ومسلم]
قال الإمام الشافعي: «من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا، فذلك كفر، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا، ولا يمطر ولا يصنع شيئًا، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، على معنى: مطرنا بوقت كذا، فإنما ذلك كقوله: مطرنا في شهر كذا، ولا يكون هذا كفر، وغيره من الكلام أحب إلى منه».
قال الحافظ ابن حجر عقب نقله لكلام الإمام الشافعي السابق: «يعني حسما للمادة وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث».
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله معلقًا على كلام الإمام الشافعي: «إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك، وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك، وغيره من الكلام أحسن منه، أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز، فالصحيح أنه لا يجوز، وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنزل للمطر، فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ، كقوله: لولا فلان لم يكن كذا».(/1)
وقال الإمام النووي: «وأما معنى الحديث، فاختلف العلماء في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين: أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالبٌ لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتقدًا أن الكواكب فاعل مدبر منشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، ومن اعتقده فلا شك في كفره، وهذا القول الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشافعي منهم، وهو ظاهر الحديث، قال: وعلى هذا لو قال: مطرنا بنوء كذا معتقدًا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة اعتبارًا بالعبادة، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا، فهذا لا يكفر، والأظهر كراهيته، لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها».
قلت: الأولى النهي مطلقًا عن قول هذه الكلمة سدًا للذريعة، وقد بين ذلك ووضحه الشيخ سليمان قال: «الاستسقاء بالنجوم نوعان: أحدهما يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله [العنكبوت: 63]، وليس هذا معنى الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر.
الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له، لكن معنى أن الله تعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم، فحكى ابن مفلح خلافًا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه والصحيح أنه محرم، لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودًا في هذه الأمة إلى اليوم، وأيضًا فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد، وسد الذريعة الشرك ولو بالعبارات الموهمة التي لا يقصد صاحبها.
المبحث الثاني: سد الذرائع في توحيد الأسماء والصفات
من المعلوم المقرر عند أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا يشاركه فيها غيره، وهم يثبتون كل ما جاء في كتاب الله، وما صح به الخبر من سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه وتمثيل، أو تعطيل وتأويل.
ولأهمية السلامة في جانب الاعتقاد- ومنه الأسماء الحسنى- ولأن أسماء الله وصفاته تحمل معنى العظمة والجلال التي لا يشارك فيها الخالق المخلوق، فقد احتاط الشارع لهذا الجانب، وسد كل طريق يؤدي إلى الخلط فيه، وهذه بعض الأمثلة:
1- إثبات علم الغيب لله وحده ونفيه عن الأنبياء والمرسلين فضلاً عن غيرهم:
من الصفات الثابتة الدالة على كمال العلم وسعة القدرة والعظمة انفراد الله عز وجل بعلم الغيب، فلا يشاركه فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب، قال تعالى: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [النحل:65].
ولما كان الأنبياء والمرسلون يخبرون عن الله أمره، ويعلمون الناس شرعه بإعلام الله لهم، ومن ذلك أمور تتصل بعالم الغيب كما قال تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [الجن: 26- 28]، فقد نفى الله عنهم علم الغيب ونص على بشريتهم وبين منزلتهم، وقرر ذلك في كتابه في أكثر من موطن سدًا لذريعة نسبة علم الغيب إليهم، ويظهر ذلك واضحًا في سياق الآية السابقة، ويظهر أيضًا في قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون [الأعراف: 188].(/2)
قال ابن كثير: «أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع به على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الآية، وقوله: «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير»، قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد: لو كنت أعلم متى أموت لعملت صالحًا، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقال مثله ابن جريج، وفيه نظر، لأن عمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملاً أثبته، فجميع عمله كان على منوال واحد، كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله، اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك، والله أعلم، والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس: «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير» أي من المال، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «وما مسني السوء»، قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون وأتقيه، ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنان، كما قال تعالى: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [تفسير ابن كثير: ج2/526، 527].
وللشيخ محمد رشيد رضا كلام جميل في هذه الآية بين فيه أن الناس قد افتتنوا بمن اصطفاهم الله من الأنبياء والمرسلين وغلوا فيهم، فكان هذا السياق الكريم بهذه الصورة ردًا عليهم، كما بينت حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر لا يرفع إلى مرتبة الألوهية كما تجب طاعته، لأنه رسول رب العالمين، وفي ذلك يقول: «أي قل أيها الرسول للناس فيما تبلغه من أمر دينهم إنني لا أملك لنفسي- أي ولا لغيري بالأولى- جلب نفع ما في وقت ما، ولا دفع ضرر ما في وقت ما، كما أنه لا يملك شيئًا من علم الغيب الذي هو شأن الخالق دون المخلوق كما يأتي بيانه في تفسير الجملة التالية، والاستثناء على هذا منفصل عما قبله مؤكد لعمومه، أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كان، فهو كقوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله، وهذا الوجه المختار عندنا، لأن الناس قد فتنوا منذ قوم نوح بمن اصطفاهم الله ووفقهم لطاعته وولايته من الأنبياء ومن دون الأنبياء والصالحين، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، والجملة استدلال على نفي علم النبي صلى الله عليه وسلم الغيب كأنه يقول: لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا ولا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب- وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا- لاستكثرت من الخير كالمال وأعمال البر، وفيه وجه آخر: أنه مستأنف غير معطوف على ما قبله، ومعناه: وما مسني الجنون كما زعم الجاهلون، فيكون حاصل معنى الآية: نفي رفعه إلى رتبة الألوهية الذي افتتن بمثله الغلاة، أو نفي وضعه في أدنى مرتبة البشرية الذي زعمته الغواة العتاة وبيان حقيقة أمره». [تفسير المنار ج9/508- 512].
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في الآية: «هذا ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم، وزيادة من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها، والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استيفائها الاهتمام بمضمونها، كي تتوجه الأسماع إليها، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله: قل إنما علمها عند ربي، قل إنما علمها عند الله، للاهتمام باستقلال المقول، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم نحو معرفة الغيب ليقلع عن عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة، إعلانًا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيأسوا من تحديه بذلك».
2- إثبات صفة العلم ومعية الله لخلقه مع استوائه على عرشه.
ذكر ربنا سبحانه وتعالى في كتابه استواءه على عرشه في أكثر من موضع، وهو استواء يليق بجلال الله وكماله، ومعناه عند السلف علو الله على خلقه، وذكر البخاري عن أبي العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى علا على العرش.
ودفعا لما يمكن فهمه من علو الله على خلقه أن الله بعيد عن عباده، فلا يعلم ما هم عليه نصَّ سبحانه في كثير من آيات الاستواء على علمه بخلقه، وبتدبير أمر مملكته، وإحاطته بما هم عليه، كما ذكر معيته لهم مع استوائه على عرشه، حتى لا يفهم أحد أن الله حال في مخلوقاته.
وأكتفي هنا بذكر آخر آية في القرآن الكريم أثبتت علو الله على خلقه واستواءه على عرشه، مع إثبات صفتي العلم والمعية معًا، ثم أتبعها بأقوال بعض أهل العلم في معناها.
قال تعالى: هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير [الحديد: 4].(/3)
قال الطبري في معنى الآية: «يقول تعالى ذكره مخبرًا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه، يعلم ما يلج في الأرض من خلقه، يعني بقوله: يلج: يدخل، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء إلى الأرض من شيء قط، وما يعرج فيها فيصعد إليها من الأرض، وهو معكم أينما كنتم، يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس، أينما كنتم يعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع، والله بما تعملون بصير».
وقال ابن تيمية عن فهم السلف وتفسيرهم لمعنى المعية والقرب: «وأما القسم الرابع: فهم سلف الأمة وأئمتها، أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم، أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضًا مع العباد عمومًا بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضًا قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل». فهو سبحانه مع المسافر في سفره ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم».
ومعية الله لخلقه تنقسم إلى قسمين: معية خاصة، وهي الواردة في مثل قول الله تعالى: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه: 46]، وفي قوله: لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 40]، وهذه المعية تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، وهي للمؤمنين، ومعية عامة تتعلق بالناس جميعًا، وهي الواردة في مثل قول الله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا [المجادلة: 7]، وهذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم.
وقد ذكر القاسمي عن ابن قدامة أنه قال: «إن ابن عباس والضحاك ومالكًا وسفيان وكثيرًا من العلماء قالوا في قوله: «وهو معكم» أي علمه، وقد ثبت بكتاب الله والمتواتر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة محفوفة بها دلالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، ثم قال في آخرها: أن الله بكل شيء عليم [المجادلة: 7]، فبدأها بالعلم وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دلالة على إرادة العلم».
وقال عبد الرحمن السعدي: وهو معكم أين ما كنتم، كقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا، وهذه المعية، معية العلم والاطلاع، ولهذا توعد ووعد بالمجازاة بالأعمال بقوله: والله بما تعملون بصير أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، وما صدرت عنه تلك الأعمال».
وقال الشيخ محمد بن عثيمين بعد كلام له عن آية سورة الحديد: «فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم، واستوائه على عرشه، لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض، وإلا لكان آخر الآية مناقضًا لأولها الدال على علوه واستوائه على عرشه». والحمد لله رب العالمين(/4)
سعار الشهوة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
فقد سلف الحديث عن داءِ خطيرِ وهو [ حجاب الغفلة ] ، وحديثنا اليوم عن الداء الآخر وهو [ سعار الشهوة ] ، وكما أسلفت القول فإن هاذين الدائين هما اللذان يقع بهما كثير من الخلل في حياة المسلمين ويقع فيهما كثيرُ أو بسببهما كثير من ألوان الضعف والزيغ والانحراف في حياة الأمة الإسلامية .
فحجاب الغفلة يقعد عن الطاعات ، وسعار الشهوة يبعث على مقارفة المنكرات وإتيان المعاصي وتوسع الأمر في مقارفة وارتكاب المحرمات .
وإذا كنا قد تحدثنا عن الغفلة وبعض أسبابها وآثارها ؛ فإن الحديث عن الشهوة أعظم وأخطر ، وإن انتشاره وضرره أفتك وأعمق ، ومن هنا فإننا نحتاج إلى أن نكون صرحاء مع أنفسنا وإلى أن نكون مقرين وعالمين وعارفين بواقعنا وألا نكون كالنعام تدسّ رأسها في التراب كأنها تدرأ الخطر هي إنما تزيل أسباب معرفته وتمنع أسباب توقعه فلا تكون حينئذِ مهيأةَ للاستعداد له فضلاً عن مواجهته .
والشهوة هي : " الميل والرغبة " ، وتنطوي على أمرين اثنين معاً فطرةٌ غريزية بشرية ولذةٌ جثمانيةٌ جسدية ، فهي في الابتداء انبعاثٌ فطريٌ وهي في الانتهاء تلذذٌ بدنيٌ ؛ ومن هنا فإن لها في طبع الإنسان في أصل خلقته أصلُ كما قال الله عز وجل : { ونفسِ وما سواها * فألهما فجورها وتقواها } .
ففيها قابليةٌ لهذا وهذا وكما ذكر ابن القيم رحمه الله : " فإن النفس البشرية تجمع الكثير والكثير من الأوضار والأمراض والعلل والأدواء .. من حسد إبليس ومن هواء بلعام ومن عتو عاد ومن طغيان فرعون ومن جهل أبي جهل ومن طغيان الوليد إلى غير ما ذكر من هذه الأوصاف البشرية ، فلقد ذكر أن في النفس أيضاً طبائع متفرغة في كثيرِ من الحيوانات ففيها مكر لثعلب وخفة الفراش وصولة الأسد ووثوب الفهد ودنائة الجعل وغير ذلك من هذه الأحوال قال : وكل ذلك يهذبه الإيمان وتعالجه الاستقامة على طاعة الله عز وجل " .
ومن لم يكن كذلك ؛ فإن شهوات نفسه تزداد سعاراً ، وتتأجج ناراً ، وتهوي به في مهاوي الردى ، وتلبسه لباساً أسوء وأشر من لباس الحيوانات والبهائم التي تحركها غرائزها وليس لها عقول تضبطها ، ولا شرائع تحكمها ، والله - عز وجل - قد كرّم بني أدم وفضلهم على كثيرٍ من الخلق بنعمة العقل والإدراك ، ثم بما منّ الله - عز وجل - به عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وما ختمت به الشرائع بدين الإسلام ، فمن أعرض عن مقتضى العقل السليم وعن مقتضى الفطرة النقية وعن مقتضى الشرع المستقيم ؛ فإنه - لا شك - يكون قد تجاوز ذلك كله بسبب نداء الشهوة وسعارها وميله إلى موافقتها يتخطى بذلك فطرته وإنسانيته ويلغي بذلك عقله وحكمته ويخلف شرع الله سبحانه وتعالى وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
والله - جل وعلا - قد بيّن لنا هذه الحقائق في كتابه ، وبيّن أن هذه الشهوات فطرٌ ، وأنّ لها في الحياة جذبٌ ، وأن لها من أفعال شياطين الإنس والجن إغواءٌ وإغراءٌ وتزينُ كما قال جل وعلا : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } .
صورُ متعددة متبهرجة متزينة تميل إليها النفوس بطبيعتها ، وأعظمها فتنة النساء وفتنة المال وفتنة الشهوات الأخرى من المطاعم والمشارب ، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي يقول : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .
الذي يعلم ما يحتاجه الناس ، وما يصلح حالهم قد شرع لهم في شرعه الحكيم ما يلبي نداء الفطرة وما يحقق إرواء الغريزة من غير تبعاتِ من المضرات والأذى ومن غير تبعاتِ من ارتكاب المحرمات ، وما يلحق بها من الأضرار والأوضار والأمراض ظلمةَ في القلب وضيقاَ في الصدر وكدراَ في النفس وضلالاً في العقل ، وانحرافاً في السلوك ، وشيوعاً للجريمة ، إلى غير ذلك مما يقع من أثر انطلاق الشهوات وانفلاتها من قيد الشرع وضابط العقل وطبيعة الفطرة السليمة .
كما نرى في حياة الذين لا يؤمنون من أمم الشرق والغرب كيف أفضى بهم الحال في إتباع الشهوات إلى أن نزلوا إلى الدرك الأسفل من الحيوانية والبهيمية التي لم تستطع الحيوانات أن تلحق بهم في شأنها ، ولا أن تدرك ما أدركوه من هذا الانحدار العظيم والفتك الكبير الذي فتك بهم في الأمراض ، وفتك بهم في تقطع الأواصر والأسر ، وفتك بهم في شيوع الجريمة واختلال الأمن ، وفتك بهم في ضيق النفس وكثرة الأمراض والعلل النفسية ، بل فتك بهم حتى ذهبت عقولهم وحصل ما حصل في هذه المجتمعات .
وكثيرُ من المسلمين يريدوا أن يسيروا على تلك الخطى وكأنهم لا يرون هذا الواقع الحي وهذه التجارب المريرة وهذه النهايات الوخيمة والعواقب الوبيلة التي قد بينها لله سبحانه وتعالى في قله : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةَ ضنكا * ونحشره يوم القيامة أعمى } .(/1)
وقد أخبرنا الله - سبحانه وتعالى - عن الطريقين المفترقين طريق الله وطريق الرحمن وطريق رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - وطريق الشيطان ؛ فإنهما طريقان لا يلتقيان : { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاَ عظيما } .
الله - عز وجل - في منهجه وشرعه يدعو إلى العفاف ، وهم يدعون إلى الانحلال ، والله - جل وعلا - في شرعه يدعو إلى الستر والحشمة وهم يدعون إلى التهتك والتبرج ، والله - جل وعلا - يدعو إلى كل خيرِ ، وإلى كل حلالٍ طيبٍ ، وهم يغلقون ذلك ويفتحون أبواباَ من أبواب الشر يتعاون فيها شياطين الإنس والجن بعضهم مع بعض : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } .
وفي الآية إشارة إلى الدائين { أضاعوا الصلاة } غفلة ، وحجاب الغفلة قد ضرب على قلوبهم ، وغشى على عقولهم حتى لم يعودوا يدركون فرضية الطاعات ولا أهميتها ولا أثرها في نفوسهم ، وكان نتيجةً لذلك ، عندما تركوا حصن وسياج الإيمان والطاعة أن تغلبت عليهم الأهواء وتسلق على أسوار حصونهم المهترئة الشياطين فغزتهم من كل جانب ، فإذا هم بحواسهم يتيهون مع الشيطان ويتبعون خطواته خلافاً لما أمرهم الله - عز وجل - ونهاهم عنه في ألا يتبعوا خطوات الشيطان .
وإذا تأملنا ؛ فإننا نجد ذلك حياً واضح في واقع حياة الناس ، والله - سبحانه وتعالى - قد بين صوراً من ذلك في إضلال شياطين الإنس وإغواء شياطين الجن وتعاونهم على ذلك ، كما أخبرنا الحق - سبحانه وتعالى - في كثيرِ من الآيات القرآنية عن تزين الشيطان : { وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل } .. { إن الشياطين لا يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } .. { وكذلك جعلنا لكل نبيِ عدواَ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضِ زخرف القول غرورا } .
ولعلنا اليوم - ونحن نشهد مكر شياطين الإنس - ربما نرى أنهم قد بلغوا في ذلك مبلغا كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه جابرُ في صحيح مسلم : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه - يبعث جنوده وهو الذي قد أخبر الله عز وجل أنه تفرغ لإغواء بني أدم - إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منهم - أي أقربهم إليه وأحبهم عنده - أعظمهم فتنة أعظمهم فتنةَ وفتكاَ في بني أدم ، فيأتي أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا النتيجة غير فتاكة غي مؤثرة الفتنة غير ماحقة وغير مشتهرة وغير منتشرة ، فيأتي الثاني فيقول له : ما صنعت شيئاً ، حتى إذا جاء أحدهم فيقول : " ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته " ، فيدنيه منه ويقول : " أما أنت فنعم أما أنت فنعم " .
ذلك الذي يسخر أسباب الإغواء والإغراء حتى يفرق ما بين الرجل وزوجته وحتى يشيع الفاحشة في مجتمع وحتى يخاطب الناس بالشهوات فلا يكون عندهم عقول تبصر أو ترشد ولا تكون عندهم تقوى تعصم أو تمسك بل يكونون تبعاَ لأهوائهم وشهواتهم نسأل الله - عز وجل - السلامة .
وقد روى أيضاَ الإمام أحمد في مسنده وكذلك الطبراني في معجمه من حديث أبي سعيدِ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر : " أن إبليس قال لله - عز وجل - لا أزال أغوي بني أدم ما تردد أرواحهم في أجسادهم فقال لله عز وجل : ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني ، ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني " ، أي أن عندهم رجوع إلى الله وصلةٌ به ، ورجوع إليه ، وعدم الإغراء ؛ لأن الناس على جانبين لا بد للإنسان في وقوعٍ في معصية أو إلمامِ بذنب لكن الافتراق ليس في ذلك وإنما الافتراق فيما يكون بعد وجود الغفلة أو بعد وقوع المعصية : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفَ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } .
لكن الفئة الأخرى وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون أولئك يرتكبون المعصية وتزين في نفوسهم فيتعلقون بها ثم يعاودونها ثم لا تزال المعصية تثمر معصيةً حتى يدمنوا عليها وحتى يغرقوا فيها وحتى تضرب على قلوبهم الغفلة وتظلم نفوسهم ويحرمون من طاعة الله ومن التوبة لله سبحانه وتعالى .
إذا تأملنا ؛ فإننا نجد هذه الشهوات في واقع مجتمعات الأمة الإسلامية اليوم تحضى بكثيرٍ وكثيرٍ وكثيرٍ من التأثير على النفوس والعقول ، وتحضى بكثيرٍ من التأثير في السلوك والأعمال .
ويبدأ ذلك بالتزيين والإغراء ، وما أدراك ما التزيين والإغراء ! كأن المرء اليوم لا يستطيع أن يحول بينه وبين هذه الدعوات التزينية الإغراءات الإغوائية ؛ فإن غضّ بصره لا يسلم أن يسمع بأذنيه ، وإن فعل ذلك ؛ فإنه لا يلبث أن يرى وأن يقرأ وأن يشاهد ما لعله يقرب أو يدعوا أ و يسهل هذه الشهوات المحرمة ومقارفتها .(/2)
وكم نرى من صور التبرج والتهتك والانحلال والدعوة إلى الفجور على صفحات القصص والروايات كتابةًوعلى صفحات المجلات صوراً ومن لم يرى بأم عينيه حياً على الطبيعة رأى على تلك الشاشات والقنوات ما لعله لم يخطر على باله أن يراه في دنياه كلها .
وما أثر ذلك - أيها الأخوة الأحبة - على الشباب والشابات وعلى جيل الأمة التي قد امتدت به أتون المحنة وضايقته كثير من الظروف والأحوال من كل جانب ثم تأتي هذه الإغراءات وهي في صورِ مسهلة ومرغبة إلى غير ذلك من الأحوال ثم نأتي إلى التطبيع والإمضاء ؛ فإن هذا الذي زينوه أصبح له وقعٌ في المجتمعات شيئاً فشيئاً حتى غدا أمراً طبيعياً .
وترى المرأة المتبرجة وهي تتحدث على صفحات المجلات أو في الشاشات وهي تقرر و تقول رأيها وتقول :
" إني أرى كذا وأنصح بكذا " .
ومن قال إن هذا حرامٌ ؟ ومن قال إن هذا كذا حتى صار كثيراً من الناس بعضهم جهلاً وبعضهم موافقةً ومسايرةً لا يرون في الحرام الصريح الذي نص عليه القرآن قطعاً وبينته السنة تفصيلاً لا يرون فيه بأساً بل يستغربون ممن ينكره وهذا هو أخطر من مجرد مقارفة الإثم لأن المرتكب للإثم وهو عالمَ بحرمته ؛ فإنه يجد في نفسه ما يجد من الندم والتحسر .
أما الذي يرتكب ذلك وهو لا يرى فيه بأساً ؛ فإن خطره أعظم وإن مرضه أخطر نسأل الله - عز وجل - السلامة .
وفي مقابل ذلك أيضاً نرى التضييق والإلغاء لكل أبواب الحلال وتيسيرها .. ألسنا نسمع عن بلادٍ إسلامية أكثر أهلها من المسلمين ثم تمنع المرأة أن تتحجب ! وليتها تريد أن تتحجب حجاباً مما يقولون أنه حجاب المتشددات ! إنها تريد أن تغطي شعرها وأن تستر نحرها وأن تسدل ثوبها لا أقل من ذلك ولا أكثر ، ومع ذلك تمنع بالقانون كما يقولون .
أضف إلى ذلك ما تراه من تضييق الأسباب المادية والمعنوية والبيئية التي تحول دون الزواج المباح وتحول دون كثيرِ وكثيرِ من الأمور و الأحوال التي تنفع الأمة والتي تنهض شبابها والتي تعصم وتقي فتياتها وذلك أيضاً من الأسباب العظيمة .
وبعد ذلك أيضاً التهوين لمن وقع في المعصية أو لمن ارتكب من المعاصي والنظر إلى ذلك على أنها حالاتٍ شاذة ، أو على أنها أمورٍ متوقعة أو على كذا أو على كذا حتى لا يشعر الناس باختلال ذلك في مجتمعاتهم ولا يلمسون أثر ذلك وضرره عليهم .. وكم نرى ونرى من هذا شيئاً كثيرا نسأل الله - سبحانه وتعالى - السلامة .
وإذا تأملنا ؛ فإننا نجد لهذا نتائج وخيمة وأضراراً عظيمة لا شك أن أولها كثرة وشيوع كثيرِ من المنكرات والمحرمات صغيرةَ كانت أو كبيرة فإنه في الحقيقة لا ينبغي أن نعد ما كان مخالفاً للشرع صغيراً ؛ لأنه كما قيل : " لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظمة من عصيت " .
وخاصةً إذا كانت هذه الصغائر مجاهرَ بها معروفةَ مذكورةَ غير مخفية مشهورةَ غير مستورة فإن ذلك ولا شك يكون أثره ونتيجته من أعظم تلك النتائج .
وأيضاً نرى في ذلك كم تبدد الأموال التي تصرف على هذا الحرام والتي تفتك ببناء الأمة ومجتمعاتها وما يفعل ذلك أعدائنا وللمتابعون لهم من أبنائنا حباً فينا ؛ فإنهم ما يفعلون ذلك إلا لكي يفرغ الأمة من محتواها ويدمر شبابها ويزيغ فتياتها ، فلا تبقى للأمة من مقومات القوة والنهضة شيءَ يعينها على أن تتماسك وعلى أن تواجهه أعدائها .
وفي ذلك أيضاً لشبابنا ولمجتمعاتنا عموماً ضياعُ كثيرٌ للأوقات ، وتبديدٌ للجهود وراء هذه الشهوات ركضاً وسيراً ومتابعة .
ألا ترون نساء المسلمين اليوم ما الذي يشغل أكثرهن إنها العدسات الملونة اللاصقة .. إنها ألوان المكياج وأدوات التجميل إنها ألون الألبسة وأنواعها وأشكالها .
لقد فروت المحتويات و أنفقت الأموال وبددت الجهود وضيعت الأوقات وما يزال الأمر متلاحقاً والشهوة لا ينتهي أمدها والله عز وجل قد فطر الإنسان على أنه لا يمكن أن ينتهي إلى غايةِ في أمر هذه الشهوات .
ولنتذكر إبليس - عليه لعنة الله - في إغوائه الأول لأبينا آدم إنه يزين قال : { هل أدلكم على شجرة الخلد وملكاً لا يبلى } .
فوسوس لهم الشيطان حتى أزاغهما عن التزام أمر الله - سبحانه وتعالى - وذلك الدرس الأول لكل بني آدم و للمسلمين على وجه الخصوص .
تأمل هذا الأمر وكيف وقع وما نستفيده منه حتى ندرك أن القضية متسلسلة وأن الأمر متكرر وأنه لا بد لنا أن نحذر من عواقب هذا الإغواء والإغراء .
وكذلك تشيع هذه الفواحش والمنكرات في المجتمعات الإسلامية وتصبح كأنها ليست أمراً نادراً ولا حادثتاً فريدة كما وقع في مجتمع النبوة لم يسجل التاريخ ولا السيرة إلا حواجز لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة في مجتمعِ دام عشرات السنوات .(/3)
وأما إذا انفلت سعار الشهوات وانفلت خطامها ؛ فإنها ما تزال تعظم وتعظم حتى إذا وقعت الفواحش ثم جاء بعد الفواحش الشذوذ ثم جاء مع الشذوذ جرائم القتل ثم جاء مع القتل أشياء وأشياء أخرى وانتشرت مع ذلك الأمراض وتقطعت الأواصر ، وصارت اللحن ووجدت الفضائح .. إلى غير ذلك مما ابتليت كثيرَ من مجتمعات المسلمين نسأل الله عز وجل السلامة .
ومن آثار ذلك أيضاً زوال الفوارق والمميزات بين مجتمع المسلمين وبين مجتمع غير المسلمين ، كأنك عندما ترى بعض بلاد الإسلام لا تستطيع أن ترى شيئاً يميزها فنسائهم متبرجات وخمورهم تباع علناً في الصالونات ومواقع اللهو و العبث والحرمة ..كلها مذكورةِ مشهورة بل تقدم لها الدعايات وتقدم لها التسهيلات وتسهل لها الأمور والإجراءات حتى تفتك بالأمة وتعمل في شبابها عملها .
ولعلي أقف وقفتاً أخيرة عن السر في هذا السعار الذي زاد وهذا الاتباع لشهوات الذي فشى ما أسبابه لعلنا نذكر أن أول الأسباب وأعظمها [ ضعف التربية الإيمانية ] ، وذهاب خوف الله - عز وجل - من القلوب وقلة الحياء منه سبحانه وتعالى ، وضعف المراقبة له - جل وعلا - وكل ذلك متعلقٌ بأصل الإيمان ووجوده حياً في القلوب ، وأثره واقعاً في السلوك ؛ فإننا قد استمرأ كثيرَ منا أن نبقي الإيمان في دائرة المجادلات النظرية والبراهين العقلية دون أن ننظر إلى انعكاساته السلوكية وإلى حقيقته الواقعية التي تظبط حياة الإنسان .
فلما غابت هذه المعاني من القلوب ما عدا في الناس خوفَ من الله ولا حياءَ منه ولا مراقبةَ له إذا وقع ذلك فكل ما وراء ذلك مبررَ ومتوقعَ بعد ذهاب ذلك .
أما تلك العصمة الإيمانية وتلك الرقابة الحية لله عز وجل في قلب المؤمن فإنه أعظم عاصمِ من المنكرات والوقوع في الشهوات المحرمات .
وكذلك ننظر إلى أمرِ آخر وهو التهاون بالصغائر ، أو عدم الدقة في التزام الأوامر الله - جل وعلا - عندما نهى عن الفواحش لم يقل لا تتركب الفواحش وإنما قال : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } .
وذلك نهيٌ عامٌ شاملٌ في احتياطاتٍ كثيرة حتى لا يكون الأمر الأول يؤدي إلى ما بعده .
والناس اليوم قد ترخصوا ، و الله عز وجل قال : { ولا تقربوا الزنى } ، والله سبحانه وتعالى قال : { فلا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } ، وقال : {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } .. { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } ..
كل هذه النواهي سياجٌ لئلا يزداد أثرها في النفوس ، ولئلا تفعل فعلها في القلوب ، ولئلا تكون سبباً لما بعدها .
وبعض الناس اليوم يقول : " نظرة لا بأس بها والعين بحرٌ " وغير ذلك وربما تساهل في الأمر أو تساهلت الفتاة في الأمر فقال كلماتَ في الهاتف ما تضر وصحبةَ في طريقِ لا يقع بها أذى ونحو ذلك .
ولا يدري الإنسان أن طبيعة النفس البشرية وأن تفالع الشهوة وتضاعفها يؤدي إلى ما هو أكبر .. ومن تساهل في الصغيرة فإنه للكبيرة أقرب ومن الوقوع فيها أدنى .
فينبغي لنا أن نحرص على ذلك وأن ننتبه له وأن ليس عندنا في حقيقة الأمر من الأمور المأمور بها أو المنهي عنها شيءَ صغير كيف يكون صغيراً والله عز وجل هو الذي يأمر به أو الله عز وجل هو الذي ينهى عنه أو النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحذر منه .
فكيف يكون صغيراً وهذا حاله ؟ ونحن نتعبد بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعهما واتباع أحكامهما .
وثالثةَ أيضاً وهي التربية الأسرية غاب الآباء إما في شهواتهم وإما في أعمالهم ، وتحصيل أرزاقهم وشغلت الأمهات بمتابعة الإذاعات ومشاهدة الشاشات والزيارات والكلمات وضاع في ذلك والأبناء والبنات وهذه أيضاً مشكلةٌ كبرى ويلحق بها أيضاً ما يتعلق بغياب الرقابة فيما يرى وفيما يقرأ وفيما يسمع وفيمن يخالط الأبناء والبنات .. وذلك أمرٌ خطير فإن رفقة السوء لها أثرها الوخيم ، وإن كثيراً من الشباب والشابات ربما كانوا في أنفسهم طيبين وفي أسرهم شيءَ من المحافظة والصيانة والبعد عن هذه الفواحش وتلك الشهوات إلا أنهم كما يقال : " الصاحب ساحب " .
فينبغي الحذر من ذلك .
ومن أعظم الأسباب وأفتكها وأعظمها ضرراً ما يسلطه أعداء الإسلام من غير المسلمين ، وكذلك أعداء الإسلام من أبناء المسلمين في وسائل الإعلام التي غزت العقول والقلوب والنفوس ، وعمِلَت عملاً عظيماً ، وفتكت فتكاً كبيراً ، وأساءت إساءةً لا منتهى لحدها ، إذ تقرّب الفواحش وتزينها وتهيج عليها وتدعوا إليها لألوانٍ شتى وصورِ عديدةِ لا يستطيع المرء حصرها ، بل أحياناً لا يستطيع تصورها ؛ فإن فيها من المكر والكيد والتحسين والإغراء ما لعل شياطين الجن يعجزون عنه ويكون شياطين الإنس متفوقون فيه .(/4)
ونحن نقول - أيها الأخوة الأحبة - :إن هذه طبيعة النفس البشرية ؛ فإن خطوة في الطاعة تقود إلى أختها ، وإن فرجةً أو ثغرةً في المعصية مالم تسد بتوبة وتتدارك بطاعة ؛ فإنها يوشك أن تكون نقباً كبيراً ثم يوشك أن تهدم البناء والحصن الذي آتانا الله - عز وجل - إياه بالإيمان والإسلام .(/5)
سعيد بن المسيب ...
بسم الله الرحمن الرحيم ...
رؤية معاصرة في سيرة
سعيد بن المسيب ...
إن الناظر في ماضي الأمة الإسلامية وحاضرها لا يملك إلا العجب العجيب والدَهَش الغريب من هذا التراجع الحضاري الذي وصلت إليه اليوم وأصبحت الحاجة الملحة إلى نهضة إسلامية تملى علينا أن نطرح للمناقشة – وبكل صراحة – الأسباب التي أدت إلى هذا التقهقر والوسائل المثلى لتحقيق بعث إسلامي جديد خاصة بعد أن فشلت الحلول المستوردة في تحقيق النهضة المرجوة فصار لزاما على الخلف اليوم أن يستفيد من منهج السلف الصالح صانع حضارة الأمس.
وفى سيرة سيد التابعين (سعيد بن المسيب) يمكن أن نجد الكثير من معالم الطريق المنشود والعديد من المبادئ التي لابد أن نقوم بها إن أردنا بصدق أن يعود لنا المجد المفقود.
العلم الركيزة الأساسية للرقى
أدرك سعيد بن المسيب منذ نعومة أظافره أنه لا يوجد مصيبة أعظم من الجهل يمكن أن تلم بحياة الإنسان فأنفق عمره في تحصيل العلم يقول في ذلك عن نفسه (إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد) وفى كنف الصحابة أخذ ينهل من نبع العلم الصافي فسمع من عثمان وعليا وزيد بن ثابت وسعد بن أبى وقاص وعائشة وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعا كما كان زواجه من ابنة الصحابي أبى هريرة رضي الله عنه المنحة الربانية التي هيأت له الفرصة لسماع مئات الأحاديث من ذاكرة الوحي حتى صار أثبت الناس وأعلمهم بحديث أبى هريرة رضي الله عنه كما رأى سعيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان مغرما بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له (راوية عمر) وكان عبد الله بن عمر يرسل إليه يسأله عنها قال أبو طالب قلت لأحمد بن حنبل سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟
ومع طول المثابرة في تحصيل العلم صار سعيد عالم أهل المدينة بلا مدافعة وإمام فقهائها السبعة الذين كانوا الواصل الحقيقي بين عصر الصحابة وعصور المذاهب الفقهية المختلفة فيقول (ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر منى) وقال عنه قتادة: ما رأيت أحد أعلم من سعيد بن المسيب وعن مكحول قال طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم من سعيد وسأل رجل القاسم بن محمد عن شئ فقال أسألت أحدا غيرى قال نعم عروة وفلانا وسعيد بن المسيب فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا وكان عبد الله بن عمر إذا سئل عن الشيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن وقال الإمام أحمد هي صحاح قال وسعيد بن المسيب أفضل التابعين وقال على بن المدينى: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه وإذا قال سعيد مضت السنة فحسبك به وهو عندي أجل التابعين وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه.
ولئن لم يترك سعيد آثارا مكتوبة على عادة علماء ذلك العصر لندرة وسائل الكتابة فإنه قلما نجد كتابا في الفقه أو التفسير أو الحديث التي كتبت في عصر التدوين إلا وآراء سعيد واجتهاداته مبثوثة في ثنايا مباحثها قال عمر بن العزيز (إن مصدر العلم سعيد وما كان عالم بالمدينة إلا يأتينى بعلمه) وبالإضافة إلى تميزه في العلوم الشرعية والآداب الربانية برع إمام التابعين في علم تعبير الرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبى بكر وأخذته أسماء عن أبيها رضي الله عنهم وتُروى في براعته في التعبير مواقف رائعة منها ما رواه ابن سعد في الطبقات عن عمر بن حبيب بن قليع قال كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما وقد ضاقت علىّ الأشياء ورهقنى دين فجلست إلى ابن المسيب ما أدرى أين أذهب فجاءه رجل فقال يا أبا محمد إني رأيت رؤيا قال ما هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد قال ما أنت رأيتها قال: بلى أنا رأيتها قال لا أخبرك أو تخبرني قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة قال عمر بن حبيب الراوي فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب فسره وسألني عن سعيد وعن حاله فأخبرته وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيرا.
وعن مسلم الخياط قال: قال رجل لابن المسيب إني أراني أبول في يدي فقال اتق الله فإن تحتك ذات محرم فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع وقال له رجل إني أرى في النوم كأني أخوض النار فقال إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر وتموت قتلا قال الراوي: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف.(/1)
واليوم وفى عصر الفضائيات وثورة المعلومات لابد لنا أن لا نغفل حقيقة هامة هي أن العلم الذي رفع ابن المسيب إلى سماء المجد بل ورفع أي أمة عبر الزمان لابد أن يكون اللبنة الأولى في صرح تقدمنا المنشود وأن لا نرضى بغيره بدلا لأن أي رقى بدون علم وهم وسراب سرعان ما يزول تاركا مرارة ومذلة في حياة أصحابه لا يعلم قدرها إلا الله.
لا … لا … يا قيود الأرض
كان ابن المسيب آية في الصلاح والتقى وإيثار الآخرة على الدنيا التي لا تساوى عند الله جناح بعوضة فلقد ألزم نفسه التقلل من حلالها والإعراض عن حرامها وحطامها يقول ابن كثير (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا والكلام فيما لا يعنى ومن أكثر الناس أدبا في الحديث جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع فقال الرجل وددت أنك لم تتعن فقال إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع وقال برد مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة)
ولقد بلغ حب العبادة شغاف قلبه فلم يفتر عنها لا في سراء ولا ضراء فيقول رحمه الله (ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة) وعن بشر بن عاصم قال: قلت لسعيد يا عمى ألا تخرج فتأكل الثوم مع قومك؟ فقال معاذ الله يا ابن أخي أن أدع خمسا وعشرين صلاة خمس صلوات وقد سمعت كعبا يقول وددت أن هذا اللبن عاد قطرانا اتبعت قريش أذناب الإبل في هذه الشعاب إن الشيطان مع الشاذ وهو من الاثنين أبعد. واشتكى يوما عينه فقالوا له لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفه قال فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح.
وها هو العابد حتى في أحلك المواقف فعن أبى حازم قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لقد رأيتني ليالي الحرة وما في المسجد أحد من خلق الله غيري وإن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذانا في القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت وما في المسجد أحد غيري ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب (براهب قريش) وكان يكثر من قول (اللهم سلم سلم) فإذا دخل الليل خاطب نفسه قائلاً (قومي يا مأوى كل شر والله لأدعنك تزحفين زحف البعير) فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه (بذا أمرت ولذا خلقت) ومع ذلك لم تكن العبادة عنده مرادفة للقيام والقعود فعن مالك بن أنس قال: قال برد – مولى ابن المسيب – لسعيد بن المسيب ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء قال سعيد وما يصنعون؟ قال يصلى أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلى حتى العصر فقال سعيد ويحك يا برد! أما والله ما هي بالعبادة تدرى ما العبادة؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله. كما كان رحمه الله يكره كثرة الضحك ويصوم الدهر ولا يفطر إلا في أيام التشريق بالمدينة.
ومن مواقفه المضيئة أنه أدركه رجلاً من قريش ومعه مصباح في ليلة مطيرة فسلم عليه وقال كيف أمسيت يا أبا محمد؟ قال أحمد الله فلما بلغ الرجل منزله دخل وقال نبعث معك بالمصباح قال لا حاجة لي بنورك نور الله أحب إلى من نورك وكان يقول رحمه الله (لا تقولن مصيحيف ولا مسيجيد ولكن عظموا ما عظم الله فكل ما عظم الله فهو عظيم حسن) ويقول (ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله ولا أهانت أنفسها بمثل بمعصية الله وكفى بالمؤمن نصرة من الله عز وجل أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله)
أما الدنيا فمالها وسعيد بن المسيب فلقد كان يعيش من كسب يده له أربعمائة دينار يتجر بها فى الزيت ويقول عن هذا المال (اللهم إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم فيّ وفيهم وأصل منه رحمي وأؤدي منه الحقوق التي فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار) وكان له في بيت المال بضعة وثلاثون ألفا من الدراهم عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول (لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بنى مروان) وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه فيروى ابن سعد في الطبقات عن طلحة الخزاعى قال (كان في رمضان يؤتى بالأشربة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليس أحد يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشراب فيشربه فإن أتى من منزله بشراب شربه وإن لم يؤت من منزله بشئ لم يشرب شيئا حتى ينصرف) أما طعامه فهو بسيط يشمل فى الغالب خبزا وزيتا ولما حبس صنعت ابنته طعاما كثيرا فلما جاءه أرسل إليها قائلا (لا تعودى لمثل هذا أبدا فهذه حاجة هشام بن إسماعيل يريد أن يذهب مالى فأحتاج إلى ما فى أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس فانظرى إلى القوت الذى كنت آكل فى بيتى فابعثى إلى به).(/2)
ومن أقواله الرائعة (من استغنى بالله افتقر الناس إليه) وقوله (الدنيا نذلة وهى إلى كل نذل أميل وأنذل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها فى غير سبيلها).
إن هذه المعانى الغالية لهى خير دواء لهذه المادية التي خيمت على كل شئ في حياتنا وأردت الكثيرين منا وأخلدتهم إلى الأرض فضاعت من حياتهم كل فضيلة وصاروا لا يفهمون إلا لغة الدينار والدرهم فلم يحصدوا من وراء كل هذا إلا القلق والحيرة والشك واستعصت عليهم السعادة الحقيقية فكانوا بمنأى عنها.
لا تأخذك في الحق لومه لائم
تجلت هذه القاعدة في حياة سيد التابعين في أكثر من موقف ونطق بها لسان حاله في كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة فكان الواثق بالله الذي لا يحابى في الحق أحدا ولا يرده ما يتخمض عن ذلك المنهج من تبعات فهانت عليه نفسه في الله كما قال عمران بن عبد الله (أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب)
ومن مواقفه الشهيرة في ذلك قصه تزويج ابنته وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان تقدم لخطبتها لأبنه الوليد حين ولاه العهد ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكبا كبيرا على رأسه مندوب خاص نزل المسجد ووقف على حلقة سعيد فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولى العهد وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذي ناله ولكنه لم يزد على كلمة (لا) وكان لسعيد تلميذ متين الدين والخلق يدعى عبد الله بن أبى وداعة افتقده أياما فلما عاد إليه قال له سعيد: أين كنت فقال توفيت زوجتى فانشغلت بها قال سعيد فهلا أخبرتنا فشهدناها ثم أراد التلميذ أن يقوم فقال سعيد هل أحدثت امرأة غيرها قال يرحمك الله ومن يزوجنى وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال سعيد إن أنا فعلت تفعل؟ قال نعم فأمر بالشهود وكتابة العقد قال ابن أبى وداعة: فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح وصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب. وكنت صائما فقدمت عشائي لأفطر وكان خبزا وزيتا وإذا بالباب يقرع فقلت من هذا فقال سعيد ففكرت في كل إنسان إسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنه إلا ما بين بيته والمسجد فقمت وخرجت وإذا بسعيد بن المسيب وظننت أنه بدا له فقلت يا أبا محمد هلا أرسلت إلى فأتيتك قال لا أنت أحق أن تزار قلت فما تأمرني قال رأيتك رجلا عزبا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران فجاءوني وقالوا ما شأنك قلت زوجني سعيد بن المسيب ابنته وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار فنزلوا إليها وبلغ أمي فجاءت وقالت وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج.
وكان رحمه الله يقول (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم) وعن المطلب بن السائب قال كنت جالسا مع سعيد بن المسيب بالسوق فمر بريد لبنى مروان فقال له سعيد من رسل بنى مروان أنت؟ قال نعم قال فكيف تركتهم؟ قال بخير قال تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تليقها قال اسكت يا أحمق فوالله لا يسلمنى الله ما أخذت بحقوقه.
وعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد وكتب بالبيعة لهما إلى المدينة وعامله يومئذ عليها هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا وأبى سعيد أن يبايع لهما وقال لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فقيل له ادخل واخرج من الباب الآخر قال والله لا يقتدي بي أحد من الناس فضربه هشام ستين سوطا وطاف به في تبان من شعر وسجنه فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول سعيد ! كان والله أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه.
وقيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك قال والله ما أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصل صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها فأخذت كفا من حصى فحصبته بها زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة.(/3)
وفى سنة 91هـ حج الوليد بالناس فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوى فلم يبق بهد أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه وعليه ثياب لا تساوى خمسة دراهم فقالوا له تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم فقال والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلى ههنا وههنا ويدعو الله عزوجل قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه فحانت منه التفاته فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك فقال قد علمت بغضه لنا فقلت يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثنى عليه وشرع الوليد يثنى عليه بالعلم والدين فقلت يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لأعتذر له – فقال نحن أحق بالسعى إليه فجاء فوقف عليه فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له ثم قال الوليد كيف الشيخ؟ فقال بخير والحمد لله كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد بخير والحمد لله وحده ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين.
نسوق هذه المواقف للذين يأكلون بدينهم ويداهنون الظالم بغية عرض من الدنيا فلا يسعنا إلا أن نهمس فى آذانهم قائلين (تشبهوا بالكرام البررة واقتدوا بخير سلف تكتب لكم النجاة فى الدنيا والآخرة).
المراجع:-
1- الطبقات الكبرى ابن سعد 2- تاريخ الإسلام الذهبى
3- البداية والنهاية ابن كثير 4- سعيد بن المسيب أ/ محمد بدر الدين
5- صور من حياة التابعيين د/ عبد الرحمن رأفت الباشا
د/ خالد سعد النجار
...
صيد الفوائد(/4)
سقوط الخلافة...درس وعَبرة
تأملات :الوطن العربي :الخميس 30 رجب 1427هـ – 24 أغسطس 2006م
أحمد محمد عمرو
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ وبَكتْ عليكِ ممالكٌ ونَواحِ
الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينة ٌ تَبْكي عليكِ بمَدمعٍ سَحّاحِ
والشّمُ تسْألُ والعِراقُ وفَارسٌ أَمَحَا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
مفكرة الإسلام: بمثل تلك الأبيات خرجت حروف أبيات أحمد شوقي تبكي صرح الخلافة الذي انهدم , ففي السابع والعشرين من شهر رجب لسنة 1342 هـ، الموافق للثالث من مارس لسنة 1924م, وقعت جريمة كبرى في حق المسلمين، حيث تمكنت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا بواسطة 'مصطفى كمال أتاتوك' من إلغاء دولة الخلافة العثمانية الإسلامية، ولم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإستانبول العاصمة إلا بعد أن اطمأنت من إسقاط دولة الخلافة، وإقامة الجُمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد.
ـ وبسقوطها سقطت مفاهيم الدولة المبنية على المبادئ والقيم الرفيعة والأخلاقيات، وحلَّت محلها المفاهيم المبنية على المصالح والأهواء والماديات.
ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقطت آخر دولة خلافة للمسلمين، لم يتبق للأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ دولة حقيقية تمثلهم، ولم يعودوا يحيون في جماعة إسلامية يقودها خليفة مبايع شرعًا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقط ظل دار الإسلام من على الأرض، الذي كان يظل كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
مقدمة لابد منها
الدولة العثمانية 699 ـ 1343 هـ. العثمانيون من الترك ، وأصلهم من بلاد التركستان، نزحوا أمام اكتساح جنكيز خان لدولة خوارزم الإسلامية، بزعامة سليمان الذي غرق أثناء عبوره نهر الفرات سنة 628 هـ فتزعم القبيلة ابنه أرطغرل الذي ساعد علاء الدين السلجوقي في حرب البيزنطيين فأقطعه وقبيلته قطعة من الأرض في محاذاة بلاد الروم غربي دولة سلاجقة الروم. وهذه الحادثة حادثة جليلة تدل على ما في أخلاقهم من الشهامة والبطولة. ويعتبر عثمان بن أرطغرل هو المؤسس الأول للدولة العثمانية، وبه سميت، عندما استقل بإمارته سنة 699 هـ وأخذت هذه الإمارة على عاتقها حماية العالم الإسلامي، وتولت قيادة الجهاد، وأصبحت المتنفس الوحيد للجهاد ،فجاءها كل راغب فيه.
وفي عام 923 هـ انتقلت الخلافة الشرعية لسليم الأول بعد تنازل المتوكل على الله آخر خليفة عباسي في القاهرة… وبهذه العاطفة الإسلامية المتأججة في نفوسهم ممتزجة بالروح العسكرية المتأصلة في كيانهم، حملوا راية الإسلام، وأقاموا أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ في قرونه المتأخرة… وبقيت الحارس الأمين للعالم الإسلامي أربعة قرون، وأطلقوا على دولتهم اسم [بلاد الإسلام] وعلى حاكمها اسم [سلطان] وكان أعز ألقابه إليه [الغازي] أي:المجاهد.
وحكموا بالعدل وعملوا بالشرع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى لتكوين هذه الدولة… ووسعوا رقعة بلاد الإسلام شرقاً وغرباً واندحرت الأطماع الصليبية أمامهم وحقق الله على أيديهم هزيمة قادة الكفر والتآمر على بلاد المسلمين وارتجفت أوروبا خوفاً وفزعاً من بعض قادتهم أولئك الذين كانت الروح الإسلامية عندهم عالية . . وكانت روح الانضباط التي يتحلى بها الجندي عاملاً من عوامل انتصاراتهم وهي التي شجعت محمد الثاني على القيام بفتوحاته.
وكانت غيرتهم على الإسلام شديدة وكثر حماسهم له، لقد بدءوا حياتهم الإسلامية بروح طيبة وساعدتهم الحيوية التي لا تنضب؛ إذ إنهم شعب شاب جديد لم تفتنه مباهج الحياة المادية والثراء، ولم ينغمس في مفاسد الحضارات المضمحلة التي كانت سائدة في البلاد التي فتحوها، ولكنهم استفادوا منها فأخذوا ما أفادهم، وكانت عندهم القدرة على التحكم والفتح والانتصار وقد أتقنوا نظام الحكم وخاصة في عصر الفاتح، إذ كان هناك نظام وضع لاختيار المرشحين لتولي أمور الدولة بالانتقاء والاختيار والتدريب والثقافة، كما كانوا يشدد ون في اختيار من تؤهله صفاته العقلية والحسية ومواهبه الأخرى المناسبة لشغل الوظائف، وكان السلطان رأس الحكم ومركزه وقوته الدافعة وأداة توحيده وتسييره، وهو الذي يصدر الأوامر المهمة والتي لها صبغة دينية، وكان يحرص على كسب رضاء الله وعلى احترام الشرع الإسلامي المطهر.
فكان العثمانيون يحبون سلاطينهم مخلصين لهم متعلقين بهم فلم يفكروا لمدة سبعة قرون في تحويل السلطة من آل عثمان إلى غيرهم. ولكن الأمور لم تستمر على المنهج نفسه والأسلوب الذي اتبعوه منذ بزوغ نجمهم في صفحات التاريخ المضيء فقد بدأ الوهن والضعف يزحف إلى كيانهم.
لماذا الحديث عن هذه الذكرى(/1)
لم تكن ذكرى سقوط الخلافة في يوم من الأيام ذكرى دينية بالمعنى الشرعي ، وإن كانت تتعلق بأهم واجبات الدين ألا وهو إقامة الدولة الإسلامية ، ولا هي ذكرى احتفالية يرجى من ورائها أن نتجرع كأس الألم والحسرة , ولكنها ذكرى تاريخية أردت من الحديث عنها.
أولاً: إشاعتها بين السواد الأعظم من المسلمين. وتعريف المسلمين بأهمية هذا الواجب الذي وصفه القلقشندي: بـ'حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، والتي بها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع'.
تلك المعاني التي افتُقدت فعلاً هذه الأيام واختفت بسقوط دولة الخلافة.
ثانيًا: إثارة نوازع الوحدة بين الشعوب المسلمة مع اختلاف مشاربها وأقطارها، ومع اختلاف أحزابها وتجمعاتها.
ثالثًا: تحريك الغافلين من أجل العمل لهذا الدين، واستعادة مجده.
رابعًا: ربط الأجيال الجديدة بماضيها التليد، وأن الحديث عن مجد هذه الأمة لا يرتبط فقط بعصر الصحابة وما تبعه. بل لنا في العصر الحديث أيضًا ماض يفتخر به.
خامسًا: إثارة الغبار عن تاريخ نُسي أو نُسِّي، ودعوة لنشر هذا التاريخ وتدريسه للتلاميذ في المدارس، و طلبة العلم في المساجد، وهو تاريخ دولة عاشت أكثر من ستة قرون، وامتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا، وكانت جيوشها أكثر جيوش العالم عددًا وأحسنها تدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا، فقد عبرت جيوش هذه الدولة الفتية البحر من الأناضول إلى جنوبي شرق ووسط أوروبا، وفتحت بلاد اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، ويوغسلافيا، والمجر، ورودس، وكريت، وقبرص، وألبانيا حتى بلغت مشارف فيينا ـ عاصمة النمسا ـ وجنوبي إيطاليا؛ فكانت أول دولة إسلامية تصل إلى هذا العمق في الأرض الأوروبية.
سادسًا: توعية المسلمين بطبيعة المرحلة، ومحاولة تسليحهم بالثقافة الإسلامية، والفقه السياسي المتشبع بالنظرة الشرعية للأمور، لا ترهات الديمقراطية، والحرية...
سابعًا: الاستفادة من الماضي، واستهلام السنن الإلهية في النصر والتمكين، واستخلاص الدروس والعبر مما قد يفيد في استشراف المستقبل بالتخطيط المتزن، تحقيقًا لوعد الله: {وعد الله الذين آمنوا}
الدروس والعبر
1ـ إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو هبة من الله تعالى ونعمة، وضع الله له شروطًا ومقدمات لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات، استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهونًا بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئًا منها، أو أخلت بها فقدت عوامل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف. وهذا مع حدث مع بني عثمان، فلما دب فيهم الضعف والهوان والبعد عن منهج الله وصار الظلم والبذخ عادة سلاطينهم نزع الله ما في أيديهم.
2ـ التخطيط والتدبير . فقد قابل المسلمون سقوط الخلافة بردات فعل عاطفية، في حين دبر الأعداء وخططوا لإسقاطها عشرات السنين حتى تمكنوا منها.
3ـ تفسير الأمور و الأحداث التي تطال الأمة، تفسيرًا شرعيًا بعيدًا عن خزعبلات العلمانيين والمتشدقين؛ فالحروب والوقائع والأحداث التي تمر بالأمة، كلها صور من صور الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر، بين الهدى والضلال، وقراءة التاريخ تريك ذلك رأي العين.
4ـ أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعت الدول الأوروبية وحرصت على تفكيك وحدة المسلمين.
5 ـ أن الخلافة هي الإطار السياسي الشامل الذي يجمع كلمة المسلمين ويوحدهم ويضمن لهم القوة والتماسك ويعمل على إقامة الدنيا، وحراسة الدين.
6ـ الاهتمام بالتربية، والإعداد الإيماني قبل الخوض في مقارعة الباطل، ذلك أن الاهتمام بالجانب المادي وحده قد يؤدي إلى نصر سريع لكنه يحتاج بعد ذلك إلى نوع آخر من الإعداد يستطيع الوقوف أمام المغريات، ولا يتأتى هذا إلا بتربية عميقة.
7ـ صفاء المعتقد، والتصورات وفق مذهب أهل السنة والجماعة، والأخذ على يد المبتدعة والفرق الضال، فلقد اكتفى العثمانيون بالإسلام بمفهومه العام وغضوا الطرف عن الفرق الباطنية التي كان لها أكبر الأثر في سقوط الخلافة في النهاية.
8 ـ العزة والنصر والسؤدد كلها في الإسلام، وهذا من أعظم الدروس المستفادة من سقوط الخلافة.
فبعد أكثر من ثماني قرون قطعت تركيا صلتها بالعالم الإسلامي، وألغت الخلافة الإسلامية، واختارت لها دستورًا مدنيًا بدلاً من الدستور العثماني المستمدة أحكامه من الشريعة الإسلامية، وألغت وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّلت المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلنت أنها دولة علمانية، وأغلقت كثيرًا من المساجد.، وصدر قانون يحكم بالإعدام على من يتآمر لعودة الخلافة.(/2)
وها هو 'أتاتورك' ـ أول رئيس تركي ومن ألغيت على يده الخلافة ـ يجوب تركيا لابسًا القبعة الإفرنجية،وشرع قانونًا لنزع حجاب المرأة المسلمة، وكان نزع الحجاب يتم بالإرهاب والإهانة في الطرقات، فكانت الشرطة إذا رأت امرأة متحجبة تقوم بنزع حجابها فورًا وبالقوة.
وألغى التعامل باللغة العربية، وألغى العيدين، وجعل عطلة الأسبوع يوم الأحد، وعطلت الصلوات بمسجد أيا صوفيا، وأُسكت المؤذنون، وتحول المسجد إلى متحف وبيت أوثان، حتى الآيات التي كانت على جدرانه أمر بطمسها.
في سنة 1926م ألغى الزواج الشرعي، وجعله مدنياً فقط، وأصدر قانوناً يمنع تعدد الزوجات، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي.
ولكن رغم كل هذا ـ والذي يحلم كثير من علمانيينا بتحقيق نصفه ويعدونا بالتقدم إن سرنا على نهجهم ـ ها هي تركيا [العلمانية] ما زالت حتى يومنا هذا غير مرغوب فيها أوروبيًا،وترزح تحت نير الفقر والضعف ولم تلحق بركب التقدم، ففقدت الدولة مجدها القديم ولم تستطع تحقيق مجد جديد.
فحريًا بالمسلمين جميعًا على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وأحزابهم، أن يقفوا عند هذه الذكرى، ويتأملوا فيها، لتصبح عودة الخلافة مطلبًا جماهيريًا، ولتكن الصحوة الإسلامية أول من يطالب بعودتها، ثم يشارك كل فرد ولو بنصيب قليل في هذا الفضل العظيم، لإبراء ذمته أمام الله.(/3)
سلامة القلب
الحمد لله الذي كتب الإيمان وزينه في قلوب أوليائه، وجعلها موطن الرحمة الرأفة ، المطلع على تقلب قلوبهم والعليم بمختلف أحوالهم، والممتحن للقلوب بالتقوى.
أحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشكره على عظيم رحمته وسعة أفضاله، وأستعين به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وخليله، شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
أما بعد:
فإن سلامة القلب : « مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته ، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره ، وشفاء نفسه ؛ بل يفرغ قلبه من ذلك ، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له ، وألذ وأطيب ، وأعون على مصالحه...»1
و الله – سبحانه وتعالى - قد اصطفى من الناس أنبياء، واصطفى من الأنبياء أنبياء هم أولو العزم، واصطفى من أولي العزم الخليلين محمد وإبراهيم - عليهما السلام-.
وخص إبراهيم بهذه الميزة وهذه الخصلة فقال تعالى على لسانه عليه السلام :{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. 2
فما هو القلب السليم الذي به يكرم المرء يوم القيامة ولولاه لكان الخزي والهوان ، يوم يعرض الناس على الله جل شأنه وانقطع نفع الأموال والبنون ...؟ وما هي علاماته ؟
تعريف القلب السليم :
القلب لغة: القاف واللام والباء أصلان صحيحان، أحدهما يدل على خالص الشيء وشريفه. والآخر قلب الإنسان وغيره، سمي به لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه3
تعريف السليم: السين واللام والميم- معظم بابه من الصحة والعافية، فالسلامة أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى. 3
والسلامة: البراءة، يقال: سليم من الأمر سلامة: نجا، ومنه قوله تعالى:{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}4
أي من اتبع هدى الله سلم من عذابه وسخطه.
أيها الأحبة في الله: لقد أخبر الله - سبحانه وتعالى- أنه لن ينجوا من عذابه وسخطه يوم القيامة إلا صاحب القلب السليم ،كما في قوله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام : {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء (87-89) .
وقد اختلف العلماء في القلب السليم ما معناه في الآية ؟ فقيل : السليم من الشك والشرك، وأما الذنوب فلا يسلم منها أحد ، قاله قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين
وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح ، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله تعالى:{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }سورة البقرة (10).
وقال أبو عثمان السيّاري: هو القلب الخالي من البدعة المطمئن إلى السنة.
وقال الضحاك السليم الخالص .
قلت 5وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن أي الخالص من الأوصاف الذميمة والمتصف بالأوصاف الجميلة والله أعلم
وقد روي عن عروة أنه قال: يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئاً قط، قال الله تعالى:{إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} سورة الصافات(84) ).
وقال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ... ) يريد والله أعلم أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا ..." 6
ويمكن أن يقال إن الأمر الجامع لذلك كله : هو أن القلب السليم هو القلب الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله. فسلم من محبة غير الله معه، ومن خوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله - سبحانه وتعالى- وحده. 7
فهو السليم الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله ، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة البرزخ، وفي جنة يوم المعاد .
ولاتتم سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء:
1. من شرك يناقض التوحيد.
2. وبدعة تخالف السنة.
3. وغفلة تناقض الذكر.
4. وهوى يناقض التجريد والإخلاص. 8
ويبرز لنا هنا سؤال وهو ما المقصود بمجيء الخليل - عليه السلام- ربه يوم القيامة بقلبٍ سليم ؟
قال القرطبي: يحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني: عند إلقائه في النار.9(/1)
أما الوجه الأول: " عند دعائه إلى توحيده وطاعته، فإن له أمثلة كثيرة من القرآن؛ منها دعوته لأبيه وقومه إلى عبادة الله وطاعته وترك طاعة ما سواه، ولقد قال بعد إنكاره على أبيه وقومه عبادة ما لا يضر ولا ينفع : { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ o فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}10 وقال: ( { لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ o إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ }11 وقال لأبيه وقومه أيضاً:..ما تعبدون o قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين o قال هل يسمعونكم إذ تدعون o أو ينفعونكم أو يضرون o قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون o قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون o أنتم وآباؤكم الأقدمون o فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين...} 12
وقال تعالى حاكياً عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}13
وما كل تلك الدعوات إلى التوحيد والطاعة وإنكار الشرك والعصيان إلا لسلامة قلبه تجاه أهله وقومه والحرص على إيصال الخير إليهم ودعوتهم والنصح لهم ..
النوع الثاني: عند إلقائه في النار : لأن الله - جل وعلا- يدافع عن المؤمنين الموحدين ومن أخلصت قلوبهم له ، فيحفظهم وينجيهم في أشد الظروف وأقساها، ولذلك لما ألقي - عليه السلام- في النار، بعد إنكاره على قومه عبادة غير الله، وكسره لآلهتهم التي يعبدونها، ما كان منهم إلا أن :{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين}14فسلم لما سلم قلبه له سبحانه .. !
علامات القلب السليم:
ومن علامات صحة القلب :
" أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، وقد جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور" 15
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إن الدنيا قد رحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منها بنون، فكنوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ...
1. ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به. وعليه يتوكل، وبه يتق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكره قوته، وغذاؤه محبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه... كما قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وماذا قوا أطيب ما فيها؛ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته.
وقال آخر: إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته.
2. ومن علامات صحة القلب وسلامته : أنه لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
3. أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
4. أنه إذا دخل في الصلاة وذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرة عينه وسرور قلبه.
5. أن يكون همه واحداً، وأن يكون في الله.
6. أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله ومنعاً.
7. أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله.
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا من حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره تلا عليها:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارجعي إلى ربك راضية مرضية}16 فيردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه، فيصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية محبة محبوبه لخدمته وقضاء أشغاله، فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقاً ينطق: لبيك وسعديك، إ ني سامع مطيع ممتثل، ولك علي المنة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك.(/2)
وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقاً يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا قوة لي إن لم تحملني، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوِّني؛ لا ملجأ إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصراف لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك.
فينظر بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة اهديت إليّ، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شراً صرفه عني.
وكم رمت أمراً خرت لي في انصرافه وما زلت بي مني أبر وأرحما
فكلما مسّه من السراء والضراء اهتدى بها طريقاً إليه، وانفتح له باب يدخل منه عليه، كما قيل:
ما مسني قدر بكره أو رضى إلا إذا اهتديت به إليك طريقاً
أمضى القضاء على الرضى مني به إني وجدتك في البلاء رفيقاً.
فالله هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز والذخائر، والله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر. ستبدي لها طيب ونور وبهجة وحسن ثناء يوم تبلى السرائر
تالله لقد رفع لها علم عظيم فشمرت إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها إلى ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب إليه واختارته على ما سواه وآثرت ما لديه.17
نسأل الله أن يحفظنا من كل سوء ومكروه, وأن يصلح قلوبنا، وأن يتوفانا وهو راض عنا.
اللهم! علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا. اللهم!رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم! إنا نسألك قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وتوبة نصوحاً، وجسداً على البلاء صابراً , وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1 - مدارج السالكين ، (2/320)
2 - النحل(120-121). الشعراء (87-89)
3 - معجم مقاييس اللغة 5/17 , المصدر السابق 3/91.
4 - سورة طه(47)
5 - القائل الإمام القرطبي رحمه الله .
6 - تفسير القرطبي 13 / 114 – 115 بتصرف يسير
7 - إغاثة اللهفان بنصرف يسير
8 - الجواب الكافي بتصرف يسير
9 - الجامع لأحكام القرأن15 /91.
10 - سورة الصافات(86-87).
11 - سورة الزخرف(26-27).
12 - سورة الشعراء (69-76).
13 - سورة الأنبياء (51-52).
14 - سورة الأنبياء(68-69)
15 - رواه البخاري 5937 والترمذي 2255 وغيرهما
16- سورة الفجر(27-28)
17- إغاثة اللهفان بتصرف يسير .(/3)
سلامة منهج الاستدلال عند السلف وفساد منهج المخالفين
إعداد / ناصر عبد الكريم العقل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى الله
وصحبه ومن والاه، وبعد:
فحديثنا في هذا العدد عن سلامة منهج الاستدلال عند
السلف أهل السنة، وفساد مناهج المخالفين في ذلك.
منهج الاستدلال هو: الأصول
والقواعد، والطريقة التي يتم بها تلقي الدين وتقرير العقيدة، واستنباط الأحكام
من النصوص الشرعية وقواعد الشرع المبنية عليها.
ومنهج الاستدلال عند أهل السنة
والجماعة يقوم على القواعد التالية:
1- حصر الاستدلال في الدليل الشرعي
(الوحي).
2- مراعاة قواعد الاستدلال، فلا يضربون الأدلة الشرعية بعضها ببعض، بل
يردون المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المبين، ويجمعون بين نصوص الوعد
والوعيد والنفي والإثبات، والعموم والخصوص، ويقولون بالنسخ في الأحكام ونحو
ذلك.
3- يعملون بكل ما صح من الأدلة الشرعية دون تفريق بين آحاد وغيره.
4-
يعتمدون تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة والعكس، ويعتمدون معاني لغة
العرب ولسانهم؛ لأنها لغة القرآن والسنة، ويردون ما يخالف ذلك.
5- يعتمدون
تفسير الصحابة، وفهمهم للنصوص وأقوالهم وأعمالهم وآثارهم؛ لأنهم أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل الأمة وأزكاها، وعاشوا وقت تنزل الوحي وأعلم
باللغة ومقاصد الشرع، ثم آثار السلف الصالح أئمة الهدى الذين هم بهم مقتدون.
6-
ما بلغهم وعلموه من الدين عملوا به، وما اشتبه عليهم علمه، أو علم كيفيته،
(كبعض نصوص الغيبيات والقدر) يسلمون به ويردون علمه إلى الله - سبحانه وتعالى -
ولا يخوضون فيه.
7- يتجنبون الألفاظ البدعية في العقيدة (كالجوهر والعرض
والجسم) لاحتمالها للخطأ والصواب؛ ولأن في ألفاظ الشرع غنى وكمالاً.
8- يتجنبون
المراء والخصومات في الدين، ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن.
9- ينفون التعارض
بين العقل السليم والفطرة وبين نصوص الشرع، وبين الحقيقة والشرع، وما يتوهمه
أهل الأهواء من التعارض بين العقل والنقل فهو من عجز عقولهم وقصورها.
10-
يتجنبون التأويل في العقيدة والغيبيات- بغير دليل شرعي صريح - لأنه قول على
الله بغير علم؛ ولأن مسائل العقيدة والغيبيات توقيفية لا مجال للرأي ولا للعقل
فيها ولا تدرك بالعلوم الحسية.
11- يعنون بالإسناد وثقة الرواة وعدالتهم لحفظ
الدين.
أما منهج الاستدلال عند أهل الأهواء والبدع والافتراق إجمالاً فإنه يقوم
على الأسس التالية:
1- عدم حصر الاستدلال على الدليل الشرعي، حتى في العقائد،
(وهي توقيفية)، فإنهم يستدلون بالظنيات والأوهام، والفلسفات، ويسمونها
(العقليات)، كما يستدلون بالحكايات والأساطير وما لا أصل له، وبالأحاديث
الموضوعة والآثار المكذوبة، وآراء الرجال في الدين، وما يسمونه الكشف والذوق
والأحلام، ونحو ذلك.
2- لا يراعون قواعد الاستدلال، فيتبعون المتشابه ولا
يردونه إلى المحكم: فيتبعون ما تشابه منه[آل عمران: 7]،
ويضربون الأدلة بعضها ببعض، ويزعمون التعارض بينها، ويستدلون بالمجمل ولا
يردونه إلى المبيِّن، ولا يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد، ولا النفي والإثبات،
ولا العموم والخصوص.
3- يضعون لأنفسهم أصولاً يبتدعونها بأهوائهم، وينتزعون لها
أدلة من القرآن والسنة، على غير المنهج الشرعي في الاستدلال، وما لا يوافق
أصولهم وأهواءهم من نصوص الشرع، يردونه، أو يؤولونه.
4- يفسرون نصوص الشرع
بأهوائهم، فلا يعتمدون تفسير بعضها ببعض، ولا يعتمدون معاني اللغة، وبعضهم قد
يستدل ببعض وجوه اللغة بمعزل عن فهم السلف، وعن الدلالات الأخرى.
5- لا يعتمدون
تفسير الصحابة والسلف الصالح، ولا فهمهم للنصوص، ولا آثارهم وعملهم وهديهم، بل
يجانبونهم، ويتبعون غير سبيل المؤمنين.
6- يخوضون فيما نهى الله عنه من نصوص
القدر والصفات والسمعيات ونحوها: ابتغاء الفتنة وابتغاء
تأويله وما يعلم تأويله إلا الله[آل عمران: 7].
7-
يعتمدون الألفاظ البدعية في الصفات وسائر العقيدة (كالجسم والعرض والجوهر).
8-
يقوم منهجهم على المراء والخصومات والجدال بالباطل.
9- يتوهمون التعارض بين
العقل والشرع، وبين الحقيقة والشريعة، وبين القدر والشرع، وبين أصولهم والشرع،
ثم يحكمون أهواءهم وأصولهم وعقلياتهم الفاسدة ويقدمونها على الشرع.
10- يعتمدون
على التأويل في العقيدة، ويقولون على الله بغير علم: ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله[آل عمران: 7].
11- ليس لهم عناية بالإسناد؛
لتعويلهم على الأهواء وآراء الرجال، والوضع وما لا أصل له، ولذلك يعتمدون
الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وما أصل له، وبالمقابل قد يردون الأحاديث الصحيحة
إذا خالفت أهواءهم كما سبق بيانه.
عبارة: «أهل السنة والجماعة» وصف شرعي:
زعم
بعض أهل الأهواء (قديمًا وحديثًا) أن أهل السنة والجماعة، وصف أطلقه السلف على
أنفسهم وأتباعهم، والحق أن: أهل السنة والجماعة وصف شرعي لأهل الحق الذين(/1)
يتمسكون بالسنة حين يخرج عنها أصحاب السبل أهل الأهواء والبدع والافتراق، وأهل
السنة هم الطائفة التي تبقى على الحق ظاهرة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي
أمر الله وهم كذلك». [متفق عليه].
فقد نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا على أن هذا الدين سيبقى ممثلاً بطائفة، وهي الفرقة الناجية، التي استثناها
الرسول صلى الله عليه وسلم، من الفرق الهالكة عند الافتراق والاختلاف في الدين،
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي
الله عنه وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تفترق اليهود على إحدى وسبعين
فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين
فرقة». [صححه الألباني في ظلال الجنة]
وقد أجمع أهل العلم وأئمة الهدى على أن
هذه الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة.
وأهل السنة والجماعة: هم الصحابة
والتابعون والسلف الصالح وأئمة الهدى، أهل الحديث والعلم والفقه في الدين في
القرون الثلاثة الفاضلة، ومن اقتفى أثرهم واتبع سبيلهم، ولم يحدث ولم يبتدع في
الدين ما لم يكن من هديهم، لأنهم كانوا على المحجة البيضاء، على بينة من ربهم،
لم تعصف بهم الأهواء والفتن، ولم تحرفهم البدع عن العروة الوثقى والصراط
المستقيم.
وأهل السنة هم كل مَنْ اهتدى بما كان عليه الرسول صلى الله عليه
وسلم، وأصحابه والتابعون، في الهدي الظاهر والباطن.
وهدي الرسول صلى الله عليه
وسلم وصحابته والسلف الصالح بين واضح، منقول مسطور محفوظ، هو كتاب الله وسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فهمها وعمل بها السلف الصالح، وأتباعهم.
ومع
وضوح هذا الأمر، فإن الكثير من المسلمين في هذا العصر مع اختلاط الثقافات،
وانتشار البدع، واستعلاء الفرق والمذاهب الضالة، وظهور التيارات التي تشكك في
المسلمات، جهلوا كثيرًا من أمور دينهم وعقيدتهم.
وكان مما أصبح مجهولاً لدى
الكثير من المسلمين: مفهوم أهل السنة والجماعة، وأصولهم؛ وهديهم، مما جعل بعض
الجاهلين يدعي: أن أهل السنة تاريخ مضى.
أو أنه ليست هناك طائفة يصدق عليها هذا
الوصف.
أو أن مناهج السلف إنما هي أصول نظرية مثالية.
أو أن المسلمين جميعًا
على مختلف مشاربهم على السنة.
أو أن مناهج السنة عفا عليها الزمن، ولابد من
البدائل بالتجديد.
أو أن أئمة السلف الصالح هم الذين اخترعوا لأنفسهم هذا
الوصف.
أو أن وصف أهل السنة لم يعد يصدق على أحد؛ لأن الكل يدَّعيه ولا
يُسَلَّم له ذلك.
كما ظهرت أخيرًا دعاوى، ومزاعم وشعارات من قبل أهل الأهواء
وبعض الفرق والجماعات، التي تخالف السنة والجماعة، بأنها هي أهل السنة
والجماعة، أو أنها منهم أو تنتمي إليهم، وهذه مزاعم عريَّة من الدليل
والبرهان.
وللحديث بقية بعون الله تعالى(/2)
سنابل لا تموت
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحمد لله، الذي سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ علينا نِعَمهُ، ظاهرةٍ وباطنةٍ، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن إنفاق المال في وجوه الخير من أفضل القُرُبات التي ترضي اللَّه تعالى والتي يتوصل بها المسلم إلى تحصيل الحسنات وتكفير السيئات.
الإنفاق وصية ربانية:
حثنا اللَّه تعالى على الإنفاق في وجوه الخير في كثير من آيات القرآن الكريم، فقال سبحانه: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة: 261].
وقال جل شأنه: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم [آل عمران: 92].
وقال سبحانه: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [سبأ: 39].
وقال تعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد: 38].
الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقات:
حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الإنفاق وبذل المال في وجوه الخير في كثير من أحاديثه الشريفة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال اللَّه عز وجل: يا ابن آدم، أَنْفق، أُنفقُ عليك». [البخاري حديث (4684)، ومسلم (993)]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم: أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا». [البخاري 1443، ومسلم 1010]
وعن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه اللَّه مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار».
[البخاري 5025، ومسلم 815]
اللَّه يجزل العطاء للمنفقين:
أخي الكريم: لو أن رجلاً من الأغنياء قال لك أعط فلانًا كذا وكذا من مالك، وتعال غدًا وأنا أعطيك أفضل من ذلك، فهل تتأخر لحظة واحدة عن هذه الدعوة ؟ فما بالك، والذي وَعَدَ هو اللَّه عز وجل، الغني، الكريم الذي لا تفنى خزائنه، وله ملك السموات والأرض، حيث قال في محكم التنزيل: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [المزمل: 20]، والقائل سبحانه في الحديث القدسي: «يا ابن آدم: أَنْفق، أنفق عليك».
الإنفاق هو التجارة الرابحة:
إن الصدقات الخالصة لله تعالى هي التجارة الرابحة للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور [فاطر: 29، 30].
تلك هي التجارة الربانية الرابحة أبدًا، والتي تستمطر رضا اللَّه عز وجل وفضله الواسع والتي يشكر اللَّهُ العبدَ عليها ويغفر له بها ذنوبه فلنسارع إلى هذه التجارة الرابحة التي لا تبور.
ثمرات الصدقات:
إن للصدقات والإنفاق في سبيل اللَّه ثمارًا جليلة في الدنيا والآخرة، يمكن أن نوجز بعضها فيما يلي:
1- الصدقات تزيد الحسنات:
مما لا شك فيه أن هدف المسلم الواعي رفع رصيده من الحسنات عند اللَّه يوم القيامة، والصدقات هي إحدى السبل الموصلة إلى ذلك، فإذا كانت الصدقة من كسب حلال، خالصة لله تعالى؛ فإن اللَّه يقبلها بفضله ويضاعف ثوابها للعبد أضعافًا مضاعفة، والله ذو الفضل العظيم، قال سبحانه: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة: 245].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل اللَّه إلا الطيب، فإن اللَّه يقبلها بيمينه ثم يُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبي أحدكم فَلُوَّه ( مُهْرَهَ ) حتى تكون مثل الجبل». [البخاري 1410، ومسلم 1014].
فسارع أخي الكريم في جمع الحسنات قبل أن يفوت الوقت، واعلم أن ميزان الحسنات يرجح بحسنة واحدة خالصة لله تعالى.
2- الصدقات تزيد المال:
إن الصدقات الخالصة لله تعالى هي سبيل زيادة المال في الدنيا والحصول على رضوان اللَّه تعالى في الآخرة، قال تعالى: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم
[التغابن: 17]
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال». [مسلم 2588](/1)
وروى أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل في فلاة من الأرض (صحراء) سمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرَّه (أرض بها حجارة سوداء) فإذا شَرْجة من تلك الشِّرَاج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع هذا الرجل الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحوِّل الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد اللَّه: ما اسمك ؟ قال: فلان بذاك الاسم الذي سمع في السحابة، فقال: يا عبد اللَّه، لم تسألني عن اسمي ؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فماذا تصنع فيها ؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثُلثًا وأرد فيها ثُلثه». [مسلم: 2984]
3- الصدقة تُظِلُ صاحبها يوم القيامة:
إذا حشَر اللَّه تعالى الناس يوم القيامة، واشتد الكرب، وكَثُر العَرَقُ، اقتربت الشمس من رءوس العباد، فإن الصدقة تظل صاحبها في هذا الموقف العصيب.
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم -: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ». [البخاري 1423، ومسلم 1031]
روى أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس». [حديث صحيح: صحيح الجامع للألباني 4510]
4- الصدقة تزكي النفس:
إن الإكثار من الصدقات يُزكي نفس المسلم ويُكسبه محاسن الأخلاق من الجود والكرم ويطهره من الشُّح والبخل، قال تعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه [محمد: 38]، وقال تعالى: قد أفلح من زكاها [الشمس: 9]، وقال سبحانه: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر: 9]، وقال عز وجل: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم [التوبة: 103].
5- الصدقة شكر لنعم اللَّه على العباد:
إن الصدقة الطيبة الخالصة لله تعالى ما هي إلا ترجمة عملية لشكر اللَّه تعالى على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، إن العبد إذا لم يقابل هذه النِّعم بالشكر فإنها سوف تزول، وبشكرها تدوم وتزداد ويبارك اللَّه فيها لعباده، قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم [إبراهيم: 7].
6- اللَّه يتكفل بقضاء حوائج المتصدقين:
من بركات الصدقة أن اللَّه يوفق صاحبها إلى الطاعات، وييسر له أبواب الخير، ويقضي له حوائجه، ويُسخر له من يخدمه، قال سبحانه: فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى [الليل: 75].
7- الصدقة مصدر سعادة القلب:
ما أجمل شعور المتصدق بالسعادة عندما يكون سببًا في مسح دَمْعَة يتيم أو دفع كُرْبة عن فقير؛ حقًا إنها سعادة يهبها اللَّه لعباده المحسنين، المنفقين في سبيله، إن هذه السعادة التي يملأ بها قلب المتصدق لا تُقَدَّرُ بمال، ولو لم يكن للمتصدِّق إلا هذه الفائدة الجليلة من السعادة الحقيقية لكفاه ذلك، قال تعالى: آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير [الحديد: 7].
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير المتصدقين:
كان النبي صلى الله عليه وسلم جَوادًا كريمًا، لا يبخل بما في يده، وكان يُؤْثر المحتاج على نفسه، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان سروره بما أعطى أعظم من سرور الآخذ بما أخذه.
عن أنس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم: أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاء من لا يخاف الفقر. [مسلم 58].
تنافس الصحابة في الإنفاق في سبيل اللَّه:
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون على الإنفاق وبذل الصدقات في وجوه الخير المختلفة يتنافسون في ذلك، وسوف نذكر طرفًا من هذه النماذج السامية:
1- أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك ؟ قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك ؟ قال: أبقيت لهم اللَّه ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
[حديث حسن: صحيح أبي داود للألباني (1472)]
2- عثمان بن عفان رضي الله عنه:
عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم يُرددها مرارًا».
[مسند أحمد 34/231]
3- أبو طلحة الأنصاري رضي اللَّه عنه:(/2)
عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء ( حديقة )، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب، فلما نزلت: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إن اللَّه يقول في كتابه لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند اللَّه، فضعها يا رسول اللَّه حيث شئت، فقال: بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت وأرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. [البخاري 2318، ومسلم 42]
4- عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم:
روى ابن سعد عن أم دُّرة قالت: أتيت عائشة بمائة ألف درهم ففرَّقَتْها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحمًا تفطرين عليه، فقالت عائشة: لو ذَكَّرْتِني لفعلت.
[الطبقات الكبرى 8/53]
أنواع الصدقات:
هناك من أنواع الصدقات الكثير ويمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- بناء المساجد وعمارتها:
إن بناء بيوت اللَّه تعالى من أفضل القربات التي يستطيع المسلم أن يتقرب بها إلى خالقه، قال سبحانه: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين
[التوبة: 18]
ومن عِمارة المساجد، المساهمة في بنائها، وتنظيفها، والمحافظة عليها، وإقامة الصلوات المفروضة بها، ونشر العلم النافع، وحل مشاكل المجتمع المسلم في رحابها، ولقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على بناء المساجد.
عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدًا، يبتغي به وجه اللَّه بني اللَّه له بيتًا في الجنة». [البخاري 450، ومسلم 533]
فعلى كل منا أن يبادر بالمساهمة في تعمير بيوت اللَّه، وليتذكر أنه ما من صلاة أو قراءة للقرآن أو درس علم أو أي شيء من أعمال الخير تتم في رحاب المسجد الذي ساهم فيه إلا وله أجر عظيم من اللَّه تعالى.
2- نشر العلم النافع:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». [مسلم 1631]
ويدخل في ذلك نشر الكتب والرسائل العلمية، والأشرطة النافعة، وإمداد طلاب العلم بالكتب التي يحتاجونها.
3- كفالة الأيتام وإنظار المعسرين ومساعدة المحتاجين:
قال تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [الإنسان: 8].
عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وقال بأصبعه السبابة والوسطى. [البخاري 6005].
وقال سبحانه: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة: 280، 281].
عن أبي اليَسرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله اللَّه في ظله». [مسلم: 3006]
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يُداين الناس، وكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرًا فتجاوز عنه لعل اللَّه أن يتجاوز عنا فلقى اللَّه فتجاوز عنه». [البخاري 3480، ومسلم 1532]
4- الإنفاق على الجهاد في سبيل اللَّه:
عن زيد بن خالد الجُهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جَهَّز غازيًا في سبيل اللَّه فقد غزا، ومن خَلَف غازيًا في أهله بخير فقد غزا». [البخاري 2843، ومسلم 1895]
5- الصدقة في الزرع:
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة». [البخاري 6012، ومسلم 1553]
6- تفطير الصائمين:
عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا».
[حديث صحيح: صحيح الترمذي للألباني 647]
آفات الصدقة
إن للصدقات آفات تقضي على ثوابها وتكون وَبَالاً على صاحبها في الدنيا والآخرة، وهذه الآفات يمكن أن نوجزها فيما يلي:
أولاً: الرياء:
إن الرياء داء عُضال يقضي على ثواب الأعمال الصالحة ويجعلها هباءً منثورًا، وهو من صفات المنافقين الذين ذمهم اللَّه تعالى في كتابه العزيز قائلاً عنهم: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [النساء: 142].
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال اللَّه تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه». [مسلم: 2985]
ثانيًا: إتْباعُ الصدقات بالمن والأذى:(/3)
يجب على المسلم الحذر من أن يَمُن أو يؤذي أحدًا من الذين تصدق عليهم، فيقول له تذكر يوم أعطيتك كذا وكذا، قد حذرنا اللَّه من المن بالصدقة حيث قال سبحانه: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (261) الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (262) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (263) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين
[البقرة261-264]
عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا مَنَّهُ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره». [مسلم 106]
سمع محمد بن سيرين رجلاً يقول لرجل آخر: فعلتُ إليك وفعلت، فقال له ابن سيرين: اسكت فلا خير في المعروف إذا أُحصي. [تفسير القرطبي 3/312]
ثالثًا: التصدق بالشيء الرديء:
اعلم أيها المسلم أن اللَّه تعالى لا يقبل إلا الطيب من الصدقات، فاحذر أن تتقرب إليه بالشيء الرديء.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه [البقرة: 267].
رابعًا: احتقار شيء من الصدقات:
يجب على المسلم ألا يحتقر شيئًا من الصدقات، سواء كانت صدقته هو أو صدقة أخيه المسلم. عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
[البخاري 1413، ومسلم 1016]
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبق درهم مائة ألف درهم». قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف ؟ قال: «رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير، فأخذ من عُرْض ماله مائة ألف فتصدق بها».[حديث حسن: صحيح النسائي للألباني 2527]
اعلم أخي الكريم أن الصدقة وإن كانت قليلة فإنك سوف تجد ثوابها أضعافًا كثيرة عند اللَّه تعالى: قال سبحانه وتعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 7، 8]
عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق». [مسلم 2626]
خامسًا: الرجوع في الصدقة:
احذر أخي الكريم أن ترجع في صدقتك التي أخرجتها لله تعالى.
روى الشيخان عن عمر بن الخطاب قال: حملت على فرس في سبيل اللَّه، فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه، وظننتُ أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئته». [البخاري 2623، ومسلم 1620]
والحمد لله رب العالمين.(/4)
سنة الله في الابتلاء والتمحيص والتداول
الشيخ / سيد قطب
وقفات مع بعض الآيات من سورة آل عمران
من قوله تعالى: { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الآية 137
إلى قوله تعالى:{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ...} الآية 143
بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها حكمة تمييز الصفوف وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ;
ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ثم في النهاية محق الكافرين بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة . { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}… (آل عمران من الآية 137 : 143)
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة وأصابهم القتل والهزيمة أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير قتل منهم سبعون صحابيا وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم أنى هذا وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور فهم ليسوا بدعا في الحياة ;
فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافا إنما هي تتبع هذه النواميس فإذا هم درسوها وأدركوا مغازيها تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين لينالوا النصر والتمكين ;
بدون الأخذ بأسباب النصر وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها هي عاقبة المكذبين على مدار التاريخ ومداولة الأيام بين الناس والابتلاء لتمحيص السرائر وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا وأهدى منهم طريقا ومنهجا والعاقبة بعد لهم والدائرة على الكافرين { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم ولم تكن تجاربهم قبل الإسلام لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة لولا هذا الإسلام وكتابه القرآن الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ;(/1)
فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان إنما حملتها إليهم هذه العقيدة بل حملتهم إليها وارتقت بهم إلى مستواها في ربع قرن من الزمان على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ;
ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية إلا بعد أجيال وأجيال فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية وأنه إلى الله تصير الأمور فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان بعد هذا إلى مشيئته الطليقة .{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} ،
وهي هي التي تحكم الحياة وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله بمشيئة الله في زمانكم وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم ، { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } ، فالأرض كلها وحدة والأرض كلها مسرح للحياة البشرية والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر ،
{ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان ، { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} ،
هذا بيان للناس كافة فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى وتجد فيه الموعظة وتنتفع به وتصل على هداه طائفة المتقين إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل وبالهدى والضلال
إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل إنما تنقص الناس الرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ولا يحفظهما إلا التقوى ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ومن هدى ومن نور ومن موعظة ومن عبرة إنما هي للمؤمنين وللمتقين فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة واحتمال مشقات الطريق
وهذا هو الأمر وهذا هو لب المسألة لا مجرد العلم والمعرفة فكم ممن يعلمون ويعرفون وهم في حمأة الباطل يتمرغون إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت ، { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ،
لا تهنوا من الوهن والضعف ولا تحزنوا لما أصابكم ولما فاتكم وأنتم الأعلون عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ودوركم أعلى فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون
فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص ، { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } ،(/2)
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله قد يكون إشارة إلى غزوة بدر وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد حتى رفعته لهم امرأة فلاذوا بها وتجمعوا عليها ثم كانت الدولة للمشركين
حينما خرج الرماة على أمر رسول الله ص واختلفوا فيما بينهم فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض وهي مداولة الأيام بين الناس وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون كما تتكشف الأخطاء وينجلي الغبش ،
{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } ، إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع فيها والصبر ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن مؤمنين ومنافقين ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعا في حياة الناس وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم ومداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء محك لا يخطىء وميزان لا يظلم والرخاء في هذا كالشدة وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل
والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله وقد كان الله يربي هذه الجماعة وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة ولتزيد طاعة لله وتوكلا عليه والتصاقا بركنه ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين ، { وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } ،(/3)
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق إن الشهداء لمختارون يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه سبحانه فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه سبحانه ويخصهم بقربه ثم هم شهداء يتخذهم الله ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس يستشهدهم فيؤدون الشهادة يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه ولا جدال حوله يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس يطلب الله سبحانه منهم أداء هذه الشهادة على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال وكل من ينطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يقال له أنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض كما بلغها محمد ص فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد ص هو المنهج السائد والغالب والمطاع وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله فهو إذن شهيد أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها واتخذه الله شهيدا ورزقه هذا المقام هذا فقه ذلك التعبير العجيب ويتخذ منكم شهداء وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومقتضاه لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع ، { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ،
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك بوصفه أظلم الظلم وأقبحه وفي القرآن إن الشرك لظلم عظيم وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" ، وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ; فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد لها مناسبتها الحاضرة فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه وهذا هو مقام الاستشهاد وفي هذا تكون الشهادة ; ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين وستارا لقدرته في هلاك المكذبين ، { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } ،
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز التمحيص عملية تتم في داخل النفس وفي مكنون الضمير إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية وتسليط الضوء على هذه المكنونات تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب لا تظهر إلا بمثير وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص ثم إذا هو يكشف على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية إن في نفسه عراقيل لم تمحص وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ليعاود المحاولة في سبكها من جديد على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة والله سبحانه كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض فمحصها هذا التمحيص الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها ويمحق الكافرين تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق وخلص من الشوائب بالتمحيص(/4)
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات وفي النصر والهزيمة وفي العمل والجزاء ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره وزاده الصبر على مشاق الطريق وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص ، { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } ، إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان أسلمت وأنا على استعداد للموت فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان إنما هي التجربة الواقعية والامتحان العملي وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلى معاناة البلاء وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى ، { الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ويختبر بها الإيمان إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي معاناة الاستقامة على أفق الإيمان والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني في النفس وفي الغير ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها في الطريق المحفوف بالمكاره طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان ،
{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } ، وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ووزن الحقيقة يواجهها في العيان فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها ألسنتهم ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم وبذلك يقدرون قيمة الكلمة وقيمة الأمنية وقيمة الوعد في ضوء الواقع الثقيل ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة إنما هو تحقيق الكلمة وتجسيم الأمنية والجهاد الحقيقي والصبر على المعاناة حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس
ولقد كان الله سبحانه قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى وبلا كد من المؤمنين ولا عناء وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم أو بدونهم وتدمر على المشركين كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط ولكن المسألة ليست هي النصر إنما هي تربية الجماعة المسلمة التي تعد لتتسلم قيادة البشرية البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ;
وبكل جاهليتها وانحرافها وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق وثبات على الحق وصبر على المعاناة ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ووسائل العلاج ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة وصبر على الشدة بعد الرخاء وطعمها يومئذ لاذع مرير وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض
وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب الإنسان الذي استخلفه في هذا الملك العريض وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه بشتى الأسباب والوسائل وشتى الملابسات والوقائع يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة فتستبشر وترتفع ثقتها بنفسها في ظل العون الإلهي وتجرب لذة النصر وتصبر على نشوته وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء وعلى التزام التواضع والشكر لله ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة فتلجأ إلى الله وتعرف حقيقة قوتها الذاتية وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله وتجرب مرارة الهزيمة ; وتستعلي مع ذلك على الباطل بما عندها من الحق المجرد ;(/5)
وتعرف مواضع نقصها وضعفها ومداخل شهواتها ومزالق أقدامها ; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة على نحو ما نرى في هذه الآيات وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .(/6)
سنن الله في التغيير
أولا: تعريف وبيان:
أ- معنى سنة الله في التغيير.
ب- حقيقت التغيير.
ج- أنواع التغيير.
ثانيا: أنواع سنن الله تعالى:
1- سنن خارقة.
2- سنن جارية.
ثالثا: من القواعد العامة في سنن الله تعالى:
1- تتسم بالعدالة التامة.
2- تتسم بالثبات والاطراد والعموم.
رابعا: من أسباب التغيير من الخير إلى الشر:
1- ضعف العقيدة، والانحراف عن منهج السلف الصالح.
2- المعاصي والذنوب.
3- الظلم.
4- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- التنافس على الدنيا.
خامسا: سبل النجاة:
1- التوبة والرجوع إلى الله.
2- الاعتصام بالكتاب والسنة أفراداً وجماعات.
3- الاجتماع والتعاون على البر والتقوى.
4- الصبر.
5- الدعاء.
أولا: تعريف وبيان:
أ- معنى سنة الله في التغير:
قال ابن منظور: "السنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة. والأصل فيه الطريقة والسيرة".
وقال الفيومي: "السنة: الطريقة. والسنة السيرة حميدة كانت أو ذميمة، والجمع سنن".
وسنة الله في التغيير "هي: الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر، بناء على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة".
ب- حقيقة التغيير:
قال ابن تيمية: "إن لفظ التغير لفظ مجمل فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى أنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب أنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة كالشمس إذا زال نورها ظاهرا لا يقال أنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل تغيرت، وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير، وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرا فينقلب ويصير برا، أو يكون برا فينقلب فاجرا، فإنه يقال قد تغير. وفي الحديث: رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متغيرا؛ لما رأى منه أثر الجوع. ولم يزل يراه يركع ويسجد فلم يسم حركته تغيرا، وكذلك يقال فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة، فإذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيرا، وإذا جرى على عادته فى أقواله وأفعاله فلا يقال أنه قد تغير.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل، قيل قد غيروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة فهذا قد غير ما في نفسه".
ج- أنواع التغيير:
قال ابن تيمية: "قال تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
وهذا التغيير نوعان:
أحدهما: أن يُبدوا ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب.
والثاني: أن يغيروا الإيمان الذي في قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور، وكذلك ما في النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة فإذا خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات" .
لسان العرب (399-400)
المصباح المنير (292).
السنن الإلهية، للدكتور: عبد الكريم زيدان (ص13).
مجموع الفتاوى (6/250-251).
مجموع الفتاوى (14/109).
ثانيا: أنواع سنن الله تعالى:
نوعان: سنن خارقة، وسنن جارية.
1- السنن الخارقة:
قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:19- 20].
وقال تعالى: {قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ} [الأنبياء: 68-69].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشهدوا)).
وعن أنس رضي الله عنه الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه. قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين.
2- السنن الجارية:
وهي قسمان:
1- سنن متعلقة بالأمور الطبيعية: كسنة الله في تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فهي تجري وفق ناموس محدد قدره الله لها.
2- سنن متعلقة بدين الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده.(/1)
قال ابن تيمية: "اعلم أنه قد ذكر الله تعالى لفظ سننه في مواضع من كتابه فقال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:77]، وقال تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب:38]، وقال تعالى: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:61- 62]، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
فهذه كلها تتعلق بأوليائه: كمطيعيه وعصاته، كالمؤمنين والكافرين، فسنته في هؤلاء إكرامهم، وسنته في هؤلاء إهانتهم وعقوبتهم.
وهذه السنن كلها تتعلق بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية، كسنته في الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من العادات، فإن هذه السنة ينقضها إذا شاء بما شاءه من الحكم".
ومن السنن المتعلقة بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده ما يلي:
ـ سنة الله في اتباع هداه والإعراض عنه.
ـ سنة الله في التدافع بين الحق والباطل.
ـ سنة الله في الفتنة والابتلاء.
ـ سنة الله في الظلم والظالمين.
ـ سنة الله في الاختلاف والمختلفين.
ـ سنة الله في الترف والمترفين.
ـ سنة الله في الاستدراج.
ـ سنة تقليد الغالب بالمغلوب وغيرها.
رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن (4864)، ومسلم في صفة الجنة والنار (2800).
رواه البخاري في الوضوء (200) واللفظ له، ومسلم في الفضائل(2279).
منهج كتابة التاريخ الإسلامي، محمد صامل السلمي (62-63).
جامع الرسائل (1/49-52) بتصرف.
السنن الإلهية (ص18-20).
ثالثا: من القواعد العامة في سنن الله تعالى:
1- تتسم بالعدالة التامة:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:40].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وقال سبحانه: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].
قال قتادة: "إنما يجيء التغيير من الناس، والتيسير من الله، فلا تغيروا ما بكم من نعم الله".
وقال القرطبي: "أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير: إما منهم، أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة، فليس معنى الآية: أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) والله أعلم".
وقال ابن القيم: "فصل: في بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده:
وجماع هذا: أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغي فغيرك أولى أن لا يكون عالما بمصلحتك ولا قادرا عليها ولا مريدا لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه، بحيث إذا أخرجه أثر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته، فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك، وهذا هو الأغلب على الخليقة؛ فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإنما أنت المسبب في سلبها عنك، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فما أزيلت نعم الله بغير معصيته.
فآفتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك كما قيل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه".(/2)
وقال القاسمي: "{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} أي: أي من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها. في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة، حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرق كلمتهم، ويوهي قوتهم، ويسلط عدوهم!".
2- تتسم بالثبات والاطراد والعموم:
قال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:77].
وقال سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].
قال ابن تيمية: "والسنة هي العادة في الأشياء المتماثلة... فإنه سبحانه إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينتقض ولا يتبدل ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل، وهذا القول أشبه بأصول الجمهور القائلين بالحكمة في الخلق والأمر، وأنه سبحانه يسوّي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، كما دل القرآن على هذا في مواضع، كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35].
ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا".
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/2233).
الجامع لأحكام القرآن (9/294).
طريق الهجرتين (110-111) بتصرف يسير.
تفسير القاسمي (3655).
جامع الرسائل (1/55).
رابعا: من أسباب التغيير من الخير إلى الشر:
1- ضعف العقيدة، والإنحراف عن منهج السلف الصالح:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)).
2- المعاصي والذنوب:
قال الله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك} [النساء:79].
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِير} [الشورى:25].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} [الأنعام:6].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:13].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
وقال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة).
قال ابن القيم: "وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11]، ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب.
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له".
3- الظلم:
قال الله تعالى: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود:102].(/3)
وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [النساء:160].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
قال الطبري: " يقول تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم{حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من ذلك بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره".
وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
4- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78، 79].
وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه، فقالوا: ما لك. قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)).
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمرا وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) - وعقد سفيان تسعين أو مائة- قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)).
وعن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا)).
وعن عمر بن عبد العزيز قال: "كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا كلهم العذاب".
وعن بلال بن سعد قال: "إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة".
5- التنافس على الدنيا:
عن المسور بن مخرمة قال: قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء))، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).
قال ابن بطال: "فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها, فلا يطمئن إلى زخرفها، ولا ينافس غيره فيها. ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا، والفقير آمن من ذلك".
قال ابن حجر: "قوله: ((فتنافسوها)) التنافس: من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه, وأصلها من الشيء النفيس في نوعه.
قوله: ((فتهلككم)) لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك".
أخرجه أحمد (3/120)، وابن ماجه في الفتن (3993) واللفظ له، وأبو يعلى في مسنده (3938)، والطبراني في الأوسط(7840)، قال البويصري: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وصححه الضياء في المختارة (2500)، والألباني في صحيح ابن ماجه (3227).
أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
بدائع الفوائد (2/432) بتصرف يسير.
جامع البيان (16/382-383).(/4)
أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر والصلة (2583).
البخاري في الشهادات (2686).
البخاري في المناقب (3598)، ومسلم في الفتن وأشراط االساعة (2880).
أخرجه أبو داود في الملاحم، باب: الأمر والنهي (4339)، وابن ماجه في الفتن (4009)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3646).
أخرجه ابن مبارك في كتاب الزهد (1351).
أخرجه ابن مبارك في كتاب الزهد (1350).
البخاري في الجزية (3158)، ومسلم في الزهد والرقائق (2961).
انظر: فتح الباري (11/249-250).
فتح الباري (11/249-250) بتصرف.
خامسا: سبل النجاة:
1- التوبة والرجوع إلى الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8].
2- الاعتصام بالكتاب والسنة أفراداً وجماعات:
قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي)).
3- الاجتماع والتعاون على البر والتقوى:
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
وقال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
4- الصبر:
قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
وقال تعالى: { وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.[البقرة:155-157].
عن ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)).
5- الدعاء:
قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال تعالى: َ{وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وعن ثوبان رضي الله عنه الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ((...ولا يرد القدر إلا الدعاء...)).
وصلى الله على محمد وآله وسلم،،،
أخرجه أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
أخرجه أحمد (5/18-19)، والطبراني في الكبير (11/123)، وصححه الحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398).
أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: في القدر (90)، وابن المبارك في الزهد (86)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/169)، والطبراني في الكبير (1442)، وصححه ابن حبان (872)، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد (ص15): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).(/5)
سهام الأسحار
بقلم: محمد نعمان الدين الندوي
"ساعات الأسحار" هي الساعات التي يحث فيها الله تبارك وتعالى عبادة المؤمنين على مد يد السؤال، والتوبة إليه واستغفاره، فيقول: "ألا هل من مستغفر فأغفر له، ألا هل من سائل فأعطيه...".
"سهام الأسحار" هو سلاح لا يزال قابلا للاستعمال، وهو بمتناول يد كل مسلم، ولا تستطيع أي قوة في الأرض أن تحظر استعماله، وهو سلاح قديم جديد مضمون الإصابة إلى الهدف! سلاح لم يصدأ، ولم يتعطل تأثيره، ولم تضعف أهميته رغم تقدم التكنولوجيا العسكرية المذهل، واختراع الأسلحة الفتاكة، بل إن "سهام الأسحار" هذه هي السلاح الحقيقي للمظلومين العزل - بدون أي تقليل أو إضعاف من أهمية السلاح المادي المأمور بعنايته وإعداده في القرآن الكريم نفسه - ويبدو أن المضطهدين المعذبين من أبناء الإسلام عادوا لا يعيرون هذا "السلاح السحري السماوي" عناية وانتباهاً، ولا يلتفتون إليه التفاتا، فليجربوا هذا السلاح المشهود بفاعليته ونجاحه الأكيد منذ أن عرف الإنسان السلاح، فليستغفروا الله تعالى في أوقات الأسحار، ويفيضوا عبرات الاستغفار والندم، ويسألوه تعالى النصر والغلبة على الأعداء الظلمة.
والحقيقة أن المسلمين ما حققوا الانتصارات الباهرة والفتوح العظيمة في الماضي بالسلاح المادي، وإنما أحرزوها -قبل كل شيء- بفضل إيمانهم العجيب بوعد الله ونصره، وورعهم وتقواهم، وبعدهم عن المعاصي كل البعد، فهذا عمر بن الخطاب بعث إلى قائد جنود المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو يواجه كسرى بقوله:
"يا سعد! أوصيك ومن معك بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، واعلم أن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وأنّا لا ننتصر على عدونا بعدد ولا عدة، فعددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، وإنما ننتصر بمعصية عدونا لله، وطاعتنا له، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم نغلبهم بطاعتنا لم نغلبهم بقوتنا".
وروى ابن كثير في تاريخة "البداية والنهاية" أن هرقل امبراطور الدولة البيزنطية حين قدمت عليه منهزمة الروم، وهو في أنطاكية، قال : "ويلكم، أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا : بل نحن أكثر أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنّا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام، وننقض العهد ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض، فقال: أنت صدقتني!".
وسأل هرقل رجلاً كان قد أسره المسلمون، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم: هم فرسان بالنهار رهبان بالليل، ولا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلاسلام، ويقفون على ما حاربوا حتى يأتوا عليه فقال "لئن كنت صدقتني ليملكنّ موضع قدميّ هاتين".
ووصف رجل من الروم المسلمين لرجل من أمراء الروم، فقال: "جئتك من عند رجال دقائق يركبون خيلا عتاقا، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت حديثك أحدا، ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، قال: فالتفت إلى أصحابه، وقال: "أتاكم من لا قبل لكم به".
فهذا هو سر غلبة المسلمين على أعدائهم، فما انتصروا إلا بأخلاقهم الزكية العالية وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن "سهام الأسحار" هذه...، أو "أنات ساعات الأسحار" وابتهالاتها وتضرعاتها هي سلاح المؤمن، ليس ضد عدوه فحسب، بل هي رأس مال العلماء والحكماء، ووراء تفجر قريحة الأدباء والشعراء، فإن وقت " السحر اللطيف المبارك ينعش الروح ويفتح ويفتح الذهن ويفجر القريحة ويشعل الموهبة، في هذا الوقت الروحاني - الذي تقبل فيه عناية الله على عباده، وتطل عليهم رحمته - يتزود العالمون العاملون بنشاط جديد وروح للعمل، الوقت الذي لم ولن يستغني عنه أكبر عالم وأعظم مربّ وأجلّ مصلح، وإن هذا الوقت -وقت السحر- يمكن أن نسميه ب "مصنع الرجال والعظماء" و"معمل النوابغ والعباقرة" الذين يملؤون فيه بطاريتهم، ويقبلون على ربهم بعباداتهم ودعواتهم وابتهالاتهم، فيعطيهم ما يسألونه، ويجري على ألسنتهم العلم والحكمة، ويفتح لهم خزائن رحمته، ويكرمهم بفضل من عنده ويمنحهم القدرة على العمل والإبداع.
من هنا.. فقد كان السلف -رحمهم الله- حريصين، أشد ما يكون الحرص، على اغتنام أوقات "الأسحار" الصانعة المربية الملهمة الموحية واستثمارها، فقد كان لأناتهم السحرية وابتهالاتهم الصباحية الباكرة دور أساسي في تفوقهم وإبداعهم وتميزهم بل تفردهم وخلود آثارهم، وارتفاعهم إلى الصدارة والزعامة والإمامة في مجالات تخصصاتهم.(/1)
تحدث الشيخ أبو الحسن الندوي -رحمه الله- عن العوامل التي كونت شخصية شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال -رحمه الله- فذكر -بصفة خاصة- دور "الأنّات السحرية" في تكوين شخصيته، يقول:
"والمربي الرابع الذي يرجع إليه الفضل في تكوين سيرته -إقبال- وشخصيته، وفي قوة شعره وتأثيره، وجدة المعاني وتدفق الأفكار، هو أنه لم يكن يقتصر على دراسة الكتب والاشتغال بالمطالعة، بل كان يتصل بالطبيعة من غير حجاب، يتعرض للنفحات السحرية، ويقوم في آخر الليل، فيناجي ربه، ويشكو بثه وحزنه إليه، ويتزود بنشاط روحي جديد، وإشراق قلبي جديد، وغذاء فكري جديد، فيطلع على أصدقائه وقرائه بشعر جديد، يلمس الإنسان فيه قوة جديدة وحياة جديدة، ونورا جديدا، لأنه يتجدد كل يوم، فيتجدد شعره، وتتجدد معانيه.
"وكان عظيم التقدير لهذه الساعات اللطيفة التي يقضيها في السحر، ويعتقد أنها رأس ماله ورأس مال كل عالم ومفكر، لا يستغني عنها أكبر عالم أو زاهد، يقول في بيت : "كن مثل الشيخ فريد الدين العطار في معرفته، وجلال الدين الرومي في حكمته، أو أبي حامد الغزالي في علمه وذكائه، وكن من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل، حتى تكون لك أنَّه في السحر".
"وكان شديد المحافظة على ذلك كثير الاهتمام به، يقول في مطلع قصيدة: "رغم أن شتاء انجلترا كان قارسا جدا، وكان الهواء البارد يعمل في الجسم عمل السيف، ولكني لم أترك في لندن التبكير في القيام"، "كان لا يبغي به بدلا، ولا يعدل به شيئاً، يقول في بيت : "خذ مني ما شئت يارب! ولكني لا تسلبني اللذة بأنة السحر، ولا تحرمني نعيمها"، بل كان يتمنى على الله أن تتعدى هذه الأنة السحرية، والحرقة القلبية إلى شباب الأمة المتنعمين، فتحرك سواكن قلوبهم، وتنفخ الحياة في هياكلهم، يقول في قصيدة :"اللهم جَرّح أكباد الشباب بسهام الآلام الدينية، وأيقظ الآمال والأماني النائمة في صدورهم، بنجوم سماواتك التي لا تزال ساهرة، وبعبادك الذين يبيتون الليل سجداً وقياماً، ولا يكتحلون بنوم، وارزق الشباب الإسلامي لوعة القلب وارزقهم حبي وفراستي". "ويقول في قصيدة :"اللهم ارزق الشباب أنّتي في السحر، وأنبتْ لصقور الإسلام القوادم والخوافي، التي تطير بها وتصطاد، وليست لي أمنية يا رب! إلا أن تنتشر فراستي، ويعم نور بصيرتي في المسلمين"(روائع إقبال 54- 56).
وأخيراً... لا يسعنا إلا أن ندعو الله سبحانه أن يرزقنا الأنّات والتضرعات والدعوات السحرية التي تشكل سهاماً وسلاحاً ضد عدونا في جانب، ومصدر قوة ومنبع حكمة ومبعث حياة ونشاط لنا في جانب آخر! إنه سميع الدعاء!
(* عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية(/2)
سهام لصيد القلوب
الكاتب: إبراهيم الدويش
هذه سهام لصيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعّال على القلوب، فإليك أيها المحب سهاماً سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فاحرص عليها، وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف واستعن بالله.
الوسيلة الأول: الابتسامة :
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة، ( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي، وقال عبد الله ابن الحارث ( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الوسيلة الثانية : البدء بالسلام :
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي (خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلا سلم عليه)، وقال الحسن البصري (المصافحة تزيد في المودة) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق ). وفي الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ) قال ابن عبد البر هذا يتصل من وجوه حسان كلها.
الوسيلة الثالثة : الهدية :
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري (خرّجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكّر هل بقي أحد أغفلناه ؟ قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
الوسيلة الرابعة : الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع :
وإياك وارتفاع الصوت وكثرة الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة (فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلاً عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود ( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مهلاً يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله) متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما ) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
الوسيلة الخامس: حسن الاستماع وأدب الإنصات :
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال : ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
الوسيلة السادسة : حسن السمت والمظهر:
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم. وعمر ابن الخطاب يقول ( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح )، وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل ( إني ما رأيت أحداً أنظف ثوبا و لا أشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل).
الوسيلة السابعة : بذل المعروف وقضاء الحوائج :
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم … فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس )، والله عز وجل يقول { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }.
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
عجباً لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
الوسيلة الثامن: بذل المال :
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار ) كما في البخاري.(/1)
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين للدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافراً، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلأ نعماً وشاء ورعاء.
فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟
قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه.
فقال صفوان عندها : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟ ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
الوسيلة التاسعة : إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم :
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك وسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك ( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ).
الوسيلة العاشرة : أعلن المحبة والمودة للآخرين :
فإذا أحببت أحداً أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه ) كما في صحيح الجامع، وزاد في رواية مرسلة ( فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهرة والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فإعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف، لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.، بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
وللأسف، فالمشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض ، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص. والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
الوسيلة الحادي عشر: المداراة :
فهل تحسن فن المداراة؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح (وهذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي ( والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ).(/2)
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولاً اتقاء لفحشهم، وثانيا لعل في مداراتهم كسباً لهدايتهم بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما هو فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مداراة الناس صدقة ) أخرجه الطبراني وابن السني، وقال ابن بطال ( المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة)
...
هذه المقالة من موقع :إذاعة طريق الإسلام
http://www.islamway.com
عنوان هذه المقالة :
http://www.islamway.com/ara/articles.php?article_id=112 ...(/3)
سورة الإنسان
إعداد/ د. عبد العظيم بدوي
الحلقة الأولى
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا (4) إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا (01) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا (11) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (14)
[الإنسان: 1- 41]
-: بين يدي السورة :-
سورة مكية، تعرف الإنسان بنفسه: مَن هو؟ ومِن أين جاء ؟ ولماذا جاء ؟ وإلى أين ينتهي؟ وماذا بعد النهاية ؟ هذه الأسئلة التي حارت فيها أفهام، وضلّ بسببها أقوامٌ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [البقرة: 213].
وقد أَوْجَزَتِ السورةُ في ذكر عذاب الكفار، وأطالتْ في ذكر نعيم الأبرار، ثم خُتمتْ بالحديث عن القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يلقاه من المكذبين من الأذى، فإنّ اللَّه قادرٌ على أن يبدّل خيرًا منهم: وما ذلك على الله بعزيز
[إبراهيم:20]
فلو أنّ إنسانًا حائرًا، شاكًا مترددًا قرأ هذه السورة أو استمع إليها، وهو منزه قلبه عن الهوى والعصبية والحمية الجاهلية، ما تردّد بعدها لحظةً، ولا شكّ بعدها بُرهةً، فإنها كلامُ اللَّه: ومن أصدق من الله قيلا [النساء: 122] ؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14].
قال تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الإنسان: 1- 3]
-: تفسير الآيات : -
قوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، هذا سؤال للتقرير، ومعناه: قد أتى على الإنسان زمانٌ لم يكن شيئًا مذكورًا، كما تقولُ لمن أَكْرَمْتَه: هل أكرمتُك ؟ ولمن أحسْنتَ إليه: أأحسنتُ إليك ؟ كلّ مولود له تاريخُ ميلاد، فأين كان قبل ذلك التاريخ ؟ لم يكن شيئا مذكورا كان عَدَمًا، إذن: مِنْ أين جاء الإنسانُ ؟ مِنَ العدم. ومَنِ الذي جاء به؟ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج فالذي جاء بالإنسان مِنَ العدِم إلى الوجودِ هو اللَّه: أم خلقوا من غير شيء ؟
مستحيل، أم هم الخالقون [الطور: 35] أنفسهم ؟ أيضًا مستحيل، هل ادَّعى أحدٌ أنه خلق نفسه أو غيره ؟ لا، بل الكل متفق على أن الخالق هو اللَّه، قال تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [الزخرف: 87]، والله تعالى خَلَقَ الإنسان الأول آدم من طين، أما الإنسان المذكور هنا فالمراد به بنو آدم، والله يقول: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج أي من نطفة مختلطة، والمراد بها نطفةُ الرجلِ ونطفةُ المرأة، كما قال تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب [الطارق: 5- 7]، والمراد بالصلب صُلُب الرجل، والمراد بالترائب ترائب المرأة، قال اللَّه تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [السجدة: 7، 8]، وقال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
[المؤمنون: 12-14]
ولماذا خَلَقَ اللهُ الإنسانَ ؟ قال تعالى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه أي لنختبره ونمتحنه، كما قال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [الملك: 2]، وقال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [الكهف: 7]، وقال تعالى: وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [هود: 7]، إذن لم يخلق اللَّهُ الخلق عبثًا، وما كان ليتركهم سُدًى، بل خلق الخلق ليختبرهم ويمتحنهم بالأمر والنهي، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] أي لآمرهم بعبادتي، فمن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار.(/1)
وحتى يتمكن الإنسان من معرفة ما خُلق له والقيام به أعطاهُ اللَّه وسائل المعرفة والعلم والإدراك وهي المذكورة في قوله تعالى: فجعلناه سميعا بصيرا فبالسمع يستمع إلى آيات اللَّه المقروءة، وبالبصر يتأمل آيات اللَّه المنظورة، فيؤمن به ويعبده، وهذا كقوله تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [النحل: 78]، ومع هذه الوسائل أعطاه اللهُ القدرة على سلوك أي السبل شاء، سبيل اللَّه، أو سبيل الشيطان.
ثم بعد ذلك كله أرسل إليه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء: 165]، قال تعالى: ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة [الأنفال: 42]، قال تعالى: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا المراد بالهداية هنا هداية البيان والإرشاد، فالله تعالى قد هدى الإنسان أي بيّن له طريق الخير والشر، وأرشده إلى طريق الخير، وحذره من طريق الشر، كما قال تعالى: وهديناه النجدين [البلد: 10] أي الطريقين، طريق الخير وطريق الشر.
وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء وأتباعهم، فمن قَبِلَها منهم واتَّبَعَهُمْ مَنَّ اللهُ عليه بالهداية الثانية وهي هدايةُ التوفيق، وهو خَلْقُ قُدرةِ الطاعة، ومَنْ رفض هداية الأنبياء وكذب وتولى حقت عليه كلمة العذاب، كما قال تعالى: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون [فصلت: 17]، والهداية هنا هي هداية البيان والإرشاد التي هداهم إليها أخوهم صالحٌ عليه السلام، ولكنهم آثروا الباطل على الحق، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون [فصلت: 17].
وقوله تعالى: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا أي أن الإنسان بعد بيان الأنبياء له، وهدايتهم إياه، إمَّا أن يتبعهم على ما جاءوا به من الهدى ودين الحق فيكون شاكرًا، وأمَّا أن يتولى عنهم ويرفض الذي جاءوا به فيكون كفورًا، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد [لقمان: 12].
فإن قيل: لِمَ جمع اللَّه تعالى بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في المبالغة ؟ فالجواب: أنه سبحانه إنما جمع بين الشاكر والكفور نفيًا للمبالغة في الشكر، وإثباتًا لها في الكفر، لأن شكر اللَّه تعالى لا يؤدى كاملاً، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر لأنه كثير، فقلّ شكرُه لكثرة النعم عليه، وكُفْرُه وإن قل فكثير لكثرة الإحسان إليه.
قال تعالى: إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا..... هذه الآيات تخبر عمّا للناس عند اللَّه بعد رجوعهم إليه، ولما كان منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [آل عمران: 110]، بيّن سبحانه جزاء كلٍّ فقال: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا، والسلاسِلُ قيودُ الأرجل، والأغلالُ قيودٌ تُوضع في الأيدي وتضمها إلى الأعناق، كما قال تعالى: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون [غافر: 71، 72]، وقد أخبر سبحانه عن طول السلسلة الواحدةِ فقال: ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [الحاقة: 32]. وأما السعير فهو اللهب والحريق في نار جهنم، وحسبهم ما ذُكِرَ، أما الأبرار فيفصّل ربنا سبحانه ما أعد لهم من النعيم فيقول: إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، الأبرار: جمع بارّ من البر، وهو اسمٌ جامعٌ للخير كله، كما قال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [البقرة: 177].(/2)
أولئك يشربون في الجنة من كأس كان مزاجها كافورا والكافورُ أطيبُ من الطيب. قال العلماء: كان النّاس إذا شربوا الخمر وضعوا عليها شيئًا من الكافور لتطيب رائحتها، فذكر اللَّه تعالى أنّ الأبرار يشربُون في الجنة من الخمر التي لا يصدعون عنها ولا ينزفون [الواقعة: 19]، وهي مع ذلك قد مُزجت بالكافور زيادةً في طيبها، بينما المقرّبون يشربون من الكافور الخالص غير الممزوج، كما قال تعالى: عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا، والأبرار هم المقتصدون، بينما المقربون هم السابقون في الخيرات، الذين اجتهدوا في الطاعات فَرْضِها ونفلها، وتركوا المحرمات وغيرها من المكروهات، ومِنْ أعمالِ الأبرار التي نالوا بها ما نالوه أنهم يوفون بالنذر فإذا أَلزمُوا أنفسهم شيئًا من الطاعات غير اللازمة أوْفوا بما التزموا به، وإذا أَدَّوا ما أَلْزَموا به أنفسهم من الطاعات فلا بد أنهم أكثرُ أداءً وأكثرُ وفاءً لما أَلْزَمهم به اللَّه سبحانه، ويخافون يوما كان شره مستطيرا أي منتشرًا عامًا في كل الناس، إلا من رحم اللَّه، قال قتادة: استطار - والله - شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، وهذا مما يُنال به البّر، كما قال تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران: 92]، وإذا كان إطعام الطعام على حبّه محمودًا فإن الإيثار أعظمُ منه حمدًا، قال تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر: 9]، فالذي يطعم الطعام على حبه قد لا يكون محتاجًا إليه، أمّا الذي يؤثر على نفسه فهو محتاج إلى ما يُؤثرُ به غيره، وهذا أمرٌ لا تطيقه كلّ النفوس.
وإطعامُ الطعامٌ عملٌ من أعمال البر، ولكنّ أعمال البر لا تنفع إلا إذا أُريد بها وجه اللَّه، ولذا قال الأبرار: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، فقد يُطعِمُ الرجلُ طمعًا في أن يُطعم، وقد يُعطي طمعًا في أن يأخذ، وقد يُطْعِمُ طمعًا في المدح والثناء، ولكنّ الأبرار يُطْعُمِونَ الطعام على حبه يرجون رحمة اللَّه، كما قال تعالى: فأنذرتكم نارا تلظى (14) لا يصلاها إلا الأشقى (15) الذي كذب وتولى (16) وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى [الليل:14- 21].
وقوله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن عِلم اللهُ به من قلوبهم فأثنى عليهم به، أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين [العنكبوت: 10].
وقوله تعالى: إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا يبين علة إطعام الطعام لوجه اللَّه، فهم يخافون يومًا ضيقًا شديدًا، كان شرّه مستطيرًا، فهم يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا عسى اللَّه أن يقيهم شرّ ذلك اليوم، وقد وقاهم، قال تعالى: فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا، لقد كانوا يخافون شرّ ذلك اليوم فوقاهم الله شر ذلك اليوم، وهذه وحدها كافية، ولكنّ اللَّه زادهم مِنْ فضله، ولقاهم نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم، والقلبُ إذا سُرّ استنار الوجه، وجزاهم بما صبروا على طاعته، وعن معصيته، وعلى قَدَره، جنة عالية (22) قطوفها دانية، وحريرا كما قال تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير [الحج:23]، متكئين فيها على الأرائك والاتكاءَ جلسة الاستراحة، وعُنْوانُ خُلُوّ البال، وطمأنينة الفؤاد، وكلّ ما حولهم يعين على ذلك، لا يرون فيها شمسا يزعجهم حرّها، ولا زمهريرا يؤذيهم بردُه، ودانية عليهم ظلالها أي قريبةٌ إليهم أغصانُها، وذللت قطوفها تذليلا بحيث إنه إنْ قام ارتفعت معه، وإن قعد تذللت له، وإن اضطجع تذللت له، قاله مجاهد رحمه اللَّه.
فإلى عشّاق النزهة والفسحة، وإلى طُلاب ظلّ الأشجار وضفاف الأنهار، أما ترغبون في مثل هذه الأشجار ! أما ترغبون في مثل هذه الأنهار! أما ترغبون في جنة عالية (22) قطوفها دانية [الحاقة: 22، 23]، اسمعوا وعوا: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57) سلام قولا من رب رحيم [يس: 55- 58] فمن رغب فليعمل، فإنّ اللَّه يقول: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [الإسراء: 19].
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/3)
سورة الجن
د.عبدالعظيم بدوي
الحلقة الرابعة
قال تعالى: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (10) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا (13) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا (14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (15) وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا (16) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا (17) وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18) وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا (19) قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا (20) قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا (21) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا (22) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا (23) حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا (24) قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا (25) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا {الجن: 8- 28}.
تفسير الآيات
هذا إخبار من الجنّ عما كانوا يقومون به من استراق السمع قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بعد بعثته صلى الله عليه وسلم مُلئت السماء حرسًا شديدًا، وحُفظت من سائر أرجائها، وحيل بين الجن وبين ما كانوا يخطفون من خبر السماء، فيلقونه على ألسنة الكهنة، كما سبق بيانه، فالآن لا يقدرون على ذلك، ولهذا قالوا: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا × وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع يعني قبل ذلك، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا أي: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابًا مرصدًا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه.
ثم نَفوا عن أنفسهم علم الغيب فقالوا: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، أي: ما ندري هذا الأمر الذي حدث في السماء أهو شرّ أريد بمن في الأرض، أم أراد بهم ربهم رشدا؟ لا ندري لأنه من علم الغيب ونحن لا نعلم الغيب، وفي قولهم: هذا تأدب مع الله تعالى، حيث لم يسندوا الشر إليه، وأسندوا إليه الرشد، وهذا من أدب الأنبياء والصالحين، فقد قال الخليل إبراهيم عليه السلام: الذي خلقني فهو يهدين × والذي هو يطعمني ويسقين × وإذا مرضت فهو يشفين {الشعراء: 78- 80}، فأسند المرض إلى نفسه، ولم يُسنده إلى الله تعالى.
وكان الخليل محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "والشر ليس إليك".
((وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا << هذا إخبارٌ من الجن بأنّهم مثلنا تمامًا، فِرَقٌ، وطَرُقٌ، وأحزابٌ، كل حزب بما لديهم فرحون، قالوا: وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا، ثم أخبروا عن ضعفهم وعجزهم، وقدرة الله عليهم، فقالوا: وأنا ظننا والظنّ هنا بمعنى الاعتقاد الجازم أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا، فانظر كيف أخبروا أنهم خلق من خلق الله، نواصيهم بيده، إذا شاء أن يأخذهم أخذهم، ولن يعجزوه، ولن يستطيعوا- إذا حاولوا- أن يهربوا من قدره، ولهذا قال تعالى: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا {الرحمن: 33}، قال العلماء في تفسيرها: إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السماوات والأرض هربًا من قضائي فاخرجوا، ثم أخبر عن عجزهم، فقال: لا تنفذون إلا بسلطان {الرحمن: 33} أي بقوة أقوى من قوة الله وأنى لهم ذلك؟!
وقولهم: وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به يفتخرون بذلك، وحُقّ لهم، ولقد سمعوا القرآن فسمّوه هدى؛ لأن الهدى حقيقته، والهدى طبيعتُه، والهدى كامنٌ فيه، من ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، قال تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم {الإسراء: 9}، وقال: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى {طه: 123، 124}، وفي قولهم هذا تعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن القرآن، وقالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون {فصلت: 26}، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون {فصلت: 5}، وكأن الجنّ المؤمنين يقولون لهؤلاء: فأين تذهبون {فصلت: 5ٍ}؟ وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به لأوّل مرة، فما بالكم لا تؤمنون والقرآنُ يُتلى عليكم صباحَ مساءَ.(/1)
وقولهم: فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا أي لا يخاف أن يُبخس حقًا، ولا يُحمّل وزر غيره، كما قال تعالى: وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما {طه: 111، 112}.
وقولهم: وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون أي الجائرون الظالمون، القاسط هو الجائر الظالم، أما المقسط فهو العادل، قال تعالى: وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، وقال هنا: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.
وقولهم: فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا أي: اختاروا لأنفسهم النجاة بقبولهم الإسلام الذي هو دين الحق بعد التحرّي ودقة النظر والتأمل فيه، حتى تبين لهم أنه الحق، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا كما قال تعالى للمشركين: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم {الأنبياء: 98}، يعني حطب جهنم، ولذا قال تعالى للمؤمنين: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة {التحريم: 6}، فالناس هم القاسطون، والحجارة هي الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله.
وقوله تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا: المراد بالطريقة: الطريقة المحمدية النبوية.
فعليك يا عبد الله بطريقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودع سائر الطرق، فإنها طرق ضلالة، إنّ طريقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هي صراطُ الله، الذي أمرت بالسير عليه، واجتناب ما سواه، قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله {الأنعام: 153}.
إن طريقة محمد صلى الله عليه وسلم غنيً عن جميع الطرق، كما قال تعالى: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين {الأنبياء: 106}، أي: إن في هذا القرآن لكفاية لقوم عبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، ومن لم يكفه القرآن فلا كفاه الله، ومن لم يستغن بالقرآن فلا أغناه، وقوله تعالى: لأسقيناهم ماء غدقا أي: ماء هنيئًا مريئًا متتابعًا، لا ينقطع عنهم، كما قال تعالى: لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات {النحل: 10، 11}، ولقد ربط الله تعالى سعة الرزق ورغد العيش بالاستقامة في أكثر من آية، قال تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون {الأعراف: 96}، وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب {الطلاق: 2، 3}، وقال تعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى {طه: 132}.
وقوله تعالى: لنفتنهم فيه أي: نوسع عليهم في الرزق: لنبلوهم أيهم أحسن عملا {الكهف: 10}. ولنعلم من يشكر منهم ومن يكفر.
وقوله تعالى: ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا أي: يدخله في نوع من العذاب خاصٍ، وهو الصعود، فيكلف وهو في أسفل وادٍ في جهنم أن يصعد في جبل منها، وفي ذلك من العناء والإرهاق والمشقة ما لا يخفى، كما قال تعالى: سأرهقه صعودا، عافانا الله وسائر المسلمين، وهذا الصعود نوع من أنواع عقوبة الإعراض عن ذكر الله، وثمّ أنواع أخرى:
منها: تسلّط الشيطان على الإنسان فيصدّه عن الهدى والحق، قال تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون {الزخرف: 36، 37))).
ومنها: الطبعُ على القلب، قال تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون {السجدة: 22}.
ومنها: المعيشة الضنك، قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى {طه: 124}.
ومنها: الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود، قال تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود {فصلت: 13}.
ومنها: كونُ المعرِض كالحمار، قال تعالى: فما لهم عن التذكرة معرضين (49) كأنهم حمر مستنفرة {المدثر: 48- 51}.
يقول تعالى آمرًا عباده أن يوحّدوه في محالّ عبادته: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا، لأن دعاء غير الله ينافي توحيد الله، فلا تدعوا مع الله أحدا، كما قال تعالى: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم {يونس: 106-107}.
وإذ الأمر كذلك فلا تدعوا مع الله أحدا، لأن "الدعاء هو العبادة"، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان أحدٌ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن أن يملكه لغيره، فكيف تدعونه من دون الله؟! أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولايضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون {الأنبياء: 66، 67}، ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين {الأحقاف: 5- 6}.(/2)
إنّ من العجيب أن ترى أناسًا من أهل التوحيد يأتون الأضرحة والمقامات يتضرعون إليها، ويستغيثون بها، وإن تسمع لقولهم تسمع الكفر البواح: فهذه امرأة لا تلد! تسأل سيدها صاحب المقام أن تحمل! وهذه أولادُها يموتون! تسأل سيدها صاحب المقام أن يعيشوا! وهذا رجلٌ موظفٌ في مكان بعيد! يسأل سيده صاحب المقام أن ينقله إلى بلده! يا هؤلاء أفيقوا: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم {الأعراف: 194}، ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير {فاطر: 13، 14}، فادعوا الله مخلصين له الدين {غافر: 14}، وإذا سألتم فاسألوا الله، وإذا استعنتم فاستعينوا بالله، واعلموا أن الأمر كله لله، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم {فاطر: 2}.
وقوله تعالى: وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا المراد بعبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وصفه ربه بالعبودية لأنها أشرف ما يوصف بها إنسان، ولذا وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في أشرف المقامات، فقال في مقام التنزيل: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا {الكهف: 1}، وقال في مقام الدعوة: وأنه لما قام عبد الله يدعوه الآية، وقال في مقام التحدي: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا {البقرة: 23} الآية، وقال في مقام الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى {الإسراء: 1}.
ومعنى الآية: أنه لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله اجتمعت الإنس والجن على إطفاء نور هذا الدين، فأبى الله إلا أن يظهره على الدين كله، وقوله تعالى: قل إنما أدعو ربي أي أعبده ولا أشرك به أحدا، وهذه الآية كقوله تعالى: قل الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه {الزمر: 14، 15}.
ثم أمر الله نبيه أن يعين لهم أنه ليس له من الأمر، وإنما هو نذير مبين، فقال تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا كما قال تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء {البقرة: 272}، وكما قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء {القصص: 56}، كما أمر الله نبيه أن يبين لهم إذا كان لا يملك لهم ضرًا ولا رشدًا، فإنه كذلك لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، وأنه إن عصى الله فلن يجد من يدفع عنه عذابه، فقال تعالى: قل إني لن يجيرني من الله أحد أي لا أحد ينقذني من عذاب الله إن عصيته: ولن أجد من دونه ملتحدا، أي لا أجد نصيرًا ولا ملجأ ألجأ إليه، وأستجير به من عذاب الله، وقوله تعالى: إلا بلاغا من الله ورسالاته معناه: أنه لا سبيل لنجاتي من عذاب الله إلا أن أبلغكم ما أرسلت به إليكم، فهذا هو السبيل الأوحد لنجاتي، فهذه وظيفتي، البلاغ، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم {هود: 57}، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها، وهذا وعدٌ حق، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا أهم؟ أم المؤمنون الموحدون؟ وهم- بلا شك- أضعف ناصرًا وأقل عددًا.
وكما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: لا أملك لكم ضرا ولا رشدا أمره أن يبين لهم أنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى: قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا يعني لا أعلمُ متى يحل بكم عذاب الله، ولا أعلم متى تكون الساعة؛ لأن ذلك من علم الغيب، وهو من خصائص الرب سبحانه، فهو سبحانه عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، فلا يعلمُ الغيب ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي صالح من الجن والإنس، وقد سبق قول الله تعالى حكاية عن الجن: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، ولقد سئل صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟" فلم يجب، وإنما قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". وكان السائل جبريل عليه السلام.
ولذا قال تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إ لا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون {الأعراف: 187}.
وقوله تعالى: إلا من ارتضى من رسول من الملائكة أو من ينزلون عليهم بالوحي من البشر يعني فإن الله يُطلعه على بعض الغيبيات، وهذه كما قال تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء {البقرة: 255}، وقوله تعالى: فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، أي يخصّه بمزيد حفظه من الملائكة، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم أي ليعلم الله أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، من غير زيادة ولا نقص، وهو سبحانه يعلم ذلك سلفًا، ولهذا قال تعالى: وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا، وإنما هذه الآية كقوله تعالى: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم {محمد: 31}، ونحوها، والله تعالى أعلم.(/3)
سورة الجن
الحلقة الثالثة
د.عبدالعظيم بدوي
يقول تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا (5) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا {الجن: 1- 7}.
تفسير الآيات
كانت الجنِّ قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يسترقون السمع، يركبُ بعضهم بعضًا حتى يبلُغوا عنان السماء، فيسمعون الملائكة وهم يتحدثون بالأمر مما قضى اللَّه أن يكون في الأرض، فيُلقيها الأعلى إلى مَن هو دونه، وهكذا حتى تصل إلى أدناهم من الأرض، فيقرّها في أذن وليه من الكهنة والعرّافين، فيخبر الناس بها، فإذا كانت صدّقوه، فكذب عليهم مائة كذبة، مقابل كلمة الحق هذه التي أقرّها الشيطان في أذنه، وكانت الشهب يُرمى بها من يسترق السمع، ولكن كان ذلك يسيرًا. وكانت العربُ قديمًا إذا رأوا شهابًا سقط يقولون: وُلِدَ عظيمٌ، أو مات عظيم، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد في حراسة السماء، فكان كلُّ من استرق السمع أتبعه شهابٌ ثاقب، وحيل بينهم وبين ما يشتهون {سبأ: 54}، فقالوا: ما هذا إلا لأمرٍ حدث، فأمرهم كبيرهم إبليس أن يتفرقوا يمينًا وشمالاً فينظروا ما حدث، فأتت طائفةٌ منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلّي بأصحابه صلاةَ الفجر بنخلة جهة تهامة فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فلما قُضي قالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، وتأملوا القرآن وتدبروه فعلموا أنه ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ وليس شعرًا ولا كهانةً، فآمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإسلام والإيمان، ولم يشعر بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه قولُ اللَّه تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآيات. {متفق عليه}.
وهذه الآيات كقوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين {الأحقاف: 29- 32}.
وفي هذه الآيات إشارةٌ إلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الجنّ والإنس، وأنّ الغاية من خلق الجن هي الغاية من خلق الإنس، كما صرّح بذلك القرآن الكريم في قوله سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {الذاريات: 56}.
وقوله تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ولم أدْرِ بهم حتى أُوحي إليّ، فقالوا وقد رجعوا إلى قومهم منذرين: إنا سمعنا قرآنا عجبا عجبًا في تأليفه، وعجبًا في تركيبه، وعجبًا في فصاحته، وعجبًا في بلاغته، وعجبًا في تأثيره في القلوب، يهدي إلى الرشد أي يهدي إلى السداد والنجاح فآمنا به وهذه هي النتيجةُ الحتميةُ لكلّ من استمع للقرآن بقلبٍ سليم، كلّ من استمع للقرآن بقلبٍ سليم لا يملك بعد ذلك إلا الإيمان بأن هذا القرآن كلامُ اللَّه رب العالمين، وهذا الإيمانُ بالقرآن يُسلم إلى الإيمان بالرسول الذي بلّغه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام. ولقد استمعتُ إلى مسلمٍ يحاضر ذات ليلةٍ في مسجد من مساجد القاهرة، وكان قسيسًا فأسلم، فكان يذكر سببَ إسلامه، فقال: كان أستاذًا في كلية اللاهوت، وكان يقرأ القرآن كثيرًا ليعرف كيف يطعنُ فيه. وذات ليلةٍ كان يقرأُ القرآنَ فأتى على سورة الجنّ: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به قال: فأخذتُ أردّدها: قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به حتى أصبحت قد شرح اللَّه صدري للإسلام وعلمتُ أنه الحق.
إنه القرآن، أليس قد شهد له الأعداء، والفضلُ ما شهدت به الأعداء، ألم يقلْ فيه الوليدُ بن المغيرة: والله ما منكم رجلٌ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزِه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقولُ شيئًا من هذا، والله إنّ لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنّه ليحطّم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعْلَى. وصدق اللَّه العظيم حيث قال: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله {الحشر: 21}، ولكنّ القلوب إذا قستْ كانت أشدّ من الحجارة في صلابتها، ولذا قال تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة {البقرة: 74}.(/1)
وقوله تعالى: فآمنا به أي إيمانًا صادقًا سليمًا من الشرك. ولن نشرك بربنا أحدا؛ لأن الإيمان الذي يخالطه الشرك يفتر ولا ينفع، فَشَرطُ النجاة بالإيمان أن يكون سليمًا من الشرك. قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون {الأنعام: 82}.
عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على المسلمين، وقالوا: أيّنا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم". {متفق عليه}.
ولكنّ كثيرًا من الناس آمنوا بالله ثم أشركوا، كما قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون {يوسف: 106}، ترى مؤمنًا بالله يذبحُ لغير اللَّه! وترى مؤمنًا بالله ينذرُ لغير اللَّه! وترى مؤمنًا بالله يستغيثُ بغير اللَّه! وترى مؤمنًا بالله يدعو غير اللَّه! فأيٌّ إيمانٍ هذا؟! لقد كانت الجنُّ أعلم بحقيقة الإيمان من هؤلاء، حين قالت: ولن نشرك بربنا أحدا، لقد علمت الجنّ أن الإيمانَ المطلوبَ للسلامة والنجاة هو الإيمانُ السليمُ الخالي من ملابساتِ الشرك، فلما أعلنوا الإيمانَ بيّنوا أنه الإيمانُ الصحيح الذي يسلم من الشركيات، فقالوا: فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا.
فعليك يا عبد اللَّه وقد هداك ربّك للإيمان أن تحرصَ على سلامةِ إيمانك من دَرَنِ الشرك، وأن تكره الوقوع فيه كما تكرهُ أن تقع في النار.
ثم نزّه الجن ربهم عن الصاحبة (الزوجة) والولد، فقالوا: وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا يعني: تعالتْ عظمةُ ربّنا عن اتخاذ الصاحبةُ والولد، لا يليق بعظمة اللَّه وجلاله وكبريائه أن يكون له زوجةٌ أو ولدٌ، تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا، ولقد كانوا وقعوا في هذا الاعتقاد الباطل- أن للَّه صاحبة وولدًا- تقليدًا لبعض كفرة الإنس والجنّ الذين قالوا: للَّه ولد، فالآن حصحص الحق، وعلموا أن اللَّه لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، فآمنوا بذلك، ونزّهوه سبحانه عما قال الظالمون، وقالوا معتذرين عما وقعوا فيه من الباطل، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا أي: قولاً عظيمًا في الافتراء، والمراد بقولهم: سفيهنا الذين قالوا اتخذ اللَّه ولدًا، فالآن وقد ظهر الحق، وعرفوا أن اللَّه لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا نسبوا قائل هذا القول إلى السفاهة، فهم سفهاء حمقى جهلة حين ادعوا للَّه ولدًا، ثم ذكروا ما حملهم على تصديقهم، فقالوا: وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا، لقد كنا نعتقد أنه لا يجرؤ أحدٌ أن يفتري الكذب على اللَّه، فلما قالوا للَّه ولد، صدّقناهم، وقلنا لابدّ أن عندهم علمًا بذلك، ولم نظنّ أنْ يكْذِبُوا على اللَّه، والآن قد تبين الحقّ، وظهر كذبُهم، فرجعنا عن هذا الباطل، ونزّهنا اللَّه عما يقول الظالمون.
وهكذا كان الجنّ مغرورين بسفائهم، مخدوعين بهم، حتى تبيّن لهم الحق، وكم من رجالٍ مخدوعين مفتونين برجالٍ ظنّوهم من الصالحين، وهم إخوانُ الشياطين! حتى إذا أراد اللَّه بهم الخير أظهر لهم الحقّ على يد أوليائه فعلموا أنهم كانوا في ضلال مبين.
فاحذر- أخا الإسلام- أن تكون من المغرورين المخدوعين، ولا تقبل من أحد شيئًا من الدين إلا إذا كان معه دليل من كتاب اللَّه أو سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فديننا يقوم على دعامتين: الكتاب والسنة، ولا مجال في ديننا لأقوال الرجال ولا آرائهم، وليس هناك من يجب اتّباعُه إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه ما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى {النجم: 3، 4}.
وقوله تعالى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا قال عكرمة: كان الجنّ يَفْرَقُون من الإنسان كما يَفَرَقُ الإنس منهم أو أشدّ، فكان الإنسُ إذا نزلوا واديًا هربَ الجنَّ، فيقولُ سيّد القوم: نعوذُ بسيّد أهلِ هذا الوادي. فقال الجنّ: نراهم يَفْرَقُون منّا كما نَفْرَقُ منهم. فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون.
وعلامَ يخافُ الإنس من الجن؟ إنّ الجن أضعفُ من الإنس، فهم يخافونهم كما ذكر عكرمة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطانُ قطّ سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك". {متفق عليه}.
وهكذا كل من كان قويّا في دينه.
فالجنّ ضعيفٌ جدّا، فكيف يخافه الإنسان؟! إنّ المؤمن المعتصم بالله، المتوكل عليه، ما جعل اللَّه للشيطان سبيلاً عليه، كما قال تعالى للشيطان: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان {الإسراء: 65}، والشيطان نفسه استثنى عبادَ اللَّه الصالحين، قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين {ص: 82، 83}.(/2)
ولقد أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته إلى الاستعاذة بالله من شرّ ما خلق، إذا نزل أحدُهم منزلاً، فقال صلى الله عليه وسلم : "من نزل منزلاً، ثم قال: أعوذ بكلمات اللَّه التامّات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك". {مسلم: 2708، والترمذي: 3499}. كما أرشد إلى هذه الاستعاذة كل ليلة عند المساء ليسلم كل شَر: فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه، ما لقيتُ من عقربٍ لدغتني البارحة. قال: "أما لو قلتَ حين أمسيت: أعوذ بكلمات اللَّه التامّات من شر ما خلق، لم تضرك". {مسلم: 2709، وأبو داود: 3880، وابن ماجه: 3518، ورواه الترمذي: 3675 بلفظ: "من قال حين يمسي ثلاث مرات... لم تضرّه حُمَةٌ تلك الليلة"}.
وقوله تعالى: وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، هذا خطابٌ من الجنّ الذين آمنوا لغيرهم من الجن، يقولون: إنّ الإنس كانوا يظنون كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، وهذا البعثُ الذي ظنوا جميعًا أن لن يكون يحتمل أن يُراد به أن لن يبعث اللَّه بشرًا رسولاً، ويحتمل أن يُراد به: أن لن يبعث اللَّه أحدًا بعد موته، وكلا المعنيين باطل، فقد بعث اللَّه بعد عيسى محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يظنون أن لن يبعث اللَّه من بعده رسولاً، وأما البعثُ بعد الموت فهو واقعٌ ولابدّ، لأن اللَّه أقسم عليه، وأمر نبيّه أن يقسم عليه، فقال: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير {التغابن: 7}.(/3)
سورة الفاتحة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن سورة كسورة الفاتحة في عظمها ومكانتها وفضلها ينبغي أن يكثر العبد من قراءتها ويتدبر في معانيها وأسرارها عاملاً بها، حتى ينال ثواب القراءة والعمل معاً.. متعنا الله بحفظ كتابه وفهمه والعمل به.
ونذكر أولاً فضائل الفاتحة:
1. روى الإمام أحمد والبخاري -رحمهما الله- وغيرهما عن أبي سعيد بن المعلَّى -رضي اللّه عنه- قال : ( كنت أصلّي فدعاني رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فلم أجبه حتى صلّيت، قال : فأتيته، فقال : ((ما منعك أن تأتيني ؟ )) قال : قلت يا رسول اللّه إني كنت أصلي، قال : ((ألم يقل اللّه -تعالى- : {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ؟ ثم قال : )) لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)) قال : فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول اللّه إنك قلت: لأعلمنَّك أعظم سورة في القرآن، قال : ((نعم، { الحمد للّه رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)).
2. عن عبد الله بن جابر - رضي الله عنه -قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليَّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يردّ عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ، قال: فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وأنا خلفه حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد فجلست كئيباً حزيناً، فخرج عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تطهر فقال: (عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله ) ثم قال: (ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ( اقرأ: الحمد لله رب العالمين، حتى تختمها) رواه الإمام أحمد -رحمه الله- وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد.1
3. وعن أبي سعيد الخدري -رضي اللّه عنه- قال : ( كنّا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت : إنَّ سيّد الحي سليم أي لديغ، وإنَّ نفرنا غُيِّب فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأْبِنُه برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له : أكنت تحسن رقية ؟ أو كنت ترقي ؟ قال : لا، ما رقيتُ إلاّ بأم الكتاب، قلنا : لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي -صلى اللّه عليه وسلم- فقال : ((وما كان يدريه أنها رُقْية ؟ اقسموا واضربوا لي بسهم )) " رواه البخاري ومسلم وأبو داود " وفي بعض روايات مسلم أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم( وهو اللديغ) سمي بذلك تفاؤلاً بالشفاء والسلامة.
4. روى مسلم والنسائي - واللفظ له – عن ابن عباس -رضي اللّه عنهما- قال : بينا رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- وعنده جبرائيل، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال : فنزل منه ملك، فأتى النبي -صلى اللّه عليه وسلم- فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك : فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته ).
أسماء سورة الفاتحة وأوصافها:
ورد في الفاتحة أسماء عديدة موافقة لمعان متعلقة بها، وسنذكر الاسم مع سبب التسمية به:
1. الفاتحة: لأنها فاتحة القرآن خطاً ورسماً، وبها تفتح القراءة في الصلوات.
2. أم الكتاب: وهذا قول الجمهور، وكره قوم تسميتها بذلك، والصحيح الجواز لما رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الحمد لله رب العالمين) أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني ))رواه أبو داود وصححه الألباني.
3. الحمد لله رب العالمين: للحديث المتقدم
4. السبع المثاني: لما تقدم
5. الحمد: لأنها مفتتحة به. ولقوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها" قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الألباني
6. الصلاة: لحديث (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين...) الحديث رواه مسلم وغيره. وسميت الفاتحة صلاة لأنها ركن فيها..
وأما أوصافها فقد وصفت الفاتحة أيضاً بأوصاف منها ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ومنها ما جاء عن بعض السلف من غير دليل ومن ذلك:
1. الرقية: لحديث أبي سعيد المتقدم في رقية سيد الحي الذي شفي بقراءتها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما يدريك أنها رقية؟).
2. أساس القرآن: ذكره الشعبي عن ابن عباس وقال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم.
3. (الواقية) سماها بذلك سفيان بن عيينة؛ لأنها تقي العبد من الشرور.(/1)
4. (الكافية) سماها بذلك يحيى بن أبي كثير؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: (أم القرآن عوض عن غيرها، وليس من غيرها عوض عنها).
5. (الكنز). ذكره الزمجشري
الشروع في ذكر معاني كلمات الفاتحة جملةً وتفصيلاً:
قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) لا نتوسع في ذكر الخلاف بين علماء المسلمين سلفاً وخلفاً في ذكر: هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟ وهل هي آية من كل سورة أم لا؟! بعد اتفاقهم على أنها بعض آية في سورة النمل في قوله –تعالى-:{إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (سورة النمل: 30) ، ونحن نذكرها على اعتبار أنها آية من هذه السورة.
فقوله: (بسم) الباء حرف جر و(اسم) اسم مجرور، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وتحذف الألف في البسملة: إذا كتبت كاملة، وأما إذا لم تكتب كاملة فلا تحذف تقول (باسم الله) والجار والمجرور لا بد له من متعلق، وقد قدر العلماء هذا المتعلق اسماً وبعضهم جعله فعلاً.. وهو مقدر بحسب المقام، ففي السورة هنا نقدره (أقرأ أو قراءتي باسم الله). وعند دخول البيت يقدر (دخولي أو أدخل باسم) وهكذا.. وهو لا ينطق به، وفي هذا دليل واضح على فصاحة وبلاغة كلام الله من أول كلمة نبدأ بها؛ لأن كل مقام يستحب فيه ذكر الله، فلهذا قدر المتعلق، ليكون حسب المقام والمقصد.
(الله) علمٌ على الربّ -تبارك وتعالى- يقال إنه الاسم الأعظم؛ ولا يصح، وقد ورد في تعيين الاسم الأعظم غير حديث صحيح، إلا أن هذا الاسم من أجل أسمائه سبحانه إذ تنسب إليه جميع أسمائه وصفانه جل شأنه كما قال تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، وهذا الاسم لم يسم به غير الله –تعالى-، ولهذا اختلف في اشتقاقه من فَعَل يفعل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد ليس له اشتقاق، وقيل هو مشتق من أَلَه يأله إلاهةً وتألهاً. وهو أرجح وقد ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}: هما وصفان لله –تعالى- واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، فرحمن: صيغته (فعلان) ورحيم (فعيل) كما تقول رجل كسلان أي بلغ منتهى الكسل و(شبعان) منتهى الشبع، وقولك (كريم) أي منتهى الكرم.. وهكذا..
واختلف العلماء في المراد من جمعهما في محل واحد هنا:
فقيل: (الرحمن): صفة ذات تدل عليه، والرحيم صفة فعل متعلقة بعباده.
فقيل: (الرحمن): اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله –تعالى-، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، ذكر هذا أبو علي الفارسي.
وقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم، قاله أبو عبيد القاسم بن سلام.
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدها أرق من الآخر، أي أكثر رحمة.
وقيل: الرحمن ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة،2 .
قوله تعالى:{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية بخلاف الشكر فلا يكون إلا على الصفات المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان.
قال ابن جرير: (الحمد لله) ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا: (الحمد لله).
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الشنقيطي: لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} (سورة الشعراء: 23 -24)، قال بعض العلماء: اشتقاق العالم من العلامة؛ لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفاً بصفات الكمال والجلال قال –تعالى-:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (سورة آل عمران: 190) ، والآية في اللغة: العلامة).3
فرب العالمين أي خالقه ومالكه والمتصرف فيه، فلا يخرج أحد عن مشيئته، وهو القاهر فوق عباده.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قد تقدم بيانهما في تفسير البسملة.(/2)
{مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي الجزاء والحساب على الأعمال، وقد بينه الله في قوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} سورة الانفطار: 17-19)، أي في يوم الحساب والجزاء لا ينفع أحد أحداً بحسنة؛ لأن كل واحد يقول يومئذ (نفسي نفسي) فهو يوم عظيم، ولهذا جاء في الآية الأخرى قوله –تعالى-:{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (سورة غافر: 16)، وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: ((يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده- وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها- ثم يقول "أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون")) ؟ قال: ويتمايل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم !)) رواه مسلم.. وكلمة الدين تطلق على الطاعة كقوله:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (سورة آل عمران: 19) ، وتطلق على الجزاء كما هي هنا..
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في هذه الآية بيان معنى (لا إله إلا الله) وذلك في قوله: (إياك نعبد) فإن تقديم المعمول (إياك) على العامل (نعبد) يدل على الحصر والقصر، وهذا ما تقرر في علم الأصول والمعاني. فالله -تعالى- حصر العبادة وجعلها مختصة به؛ لأنه خالق الخلق ومليكهم والمتصرف فيهم، فكان هو المستحق للطاعة والخضوع.
فمعنى (لا إله إلا الله) ... مركب من أمرين: نفي وإثبات، فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله –تعالى- في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد رب السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع، وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو (إياك) الذي يفيد الحصر، وأشار إلى الإثبات منها بقوله (نعبد) وقد بين معناها المشار إليه ههنا مفصلاً في آيات أخر كقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}( البقرة: 21) وصرح بالنفي في آخر الآيات:{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وكقوله:{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (سورة النحل: 36) ، فصرح بالإثبات بقوله: (اعبدوا الله) وبالنفي بقوله: (واجتنبوا الطاغوت) وكقوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} (سورة البقرة : 256) ، فالنفي (يكفر بالطاغوت) والإثبات (ويؤمن بالله)4 وآيات كثيرة أخرى.
وقوله (وإياك نستعين) أي نطلب منك – يا الله- العون على طاعتك، وعلى أمورنا كلها، ولا نطلبه من أحد سواك، لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة.
تعليل: إنما قدم الله –تعالى- قوله (إياك نعبد) على (إياك نستعين) لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم.5
وقال الشنقيطي -رحمه الله-: وإتيانه بقوله: (وإياك نستعين) بعد قوله: (إياك نعبد) فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا المعنى المشار إليه ههنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (123) سورة هود الآية، وقوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت..) الآية. وقوله: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً) وقوله: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) إلى غير ذلك من الآيات.6
وقوله تعالى:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} أي أرشدنا ووفقنا إلى الطريق الحق الواضح المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف..
اختلف العلماء في المراد بـ(الصراط المستقيم) مع أن أقوالهم كلها ترجع إلى أنه طاعة الله ورسوله، لكن نذكر ذلك للفائدة:
1. أنه كتاب الله: ذكر عن علي بن أبي طالب، وورد فيه حديث مرفوع فيه الحارث الأعور وهو ضعيف.
2. الإسلام: قول ابن عباس وجابر وروي عن ابن مسعود أيضاً، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
3. أنه الحق: قول مجاهد.. وهو شامل ولا منافاة بينه وبين ما سبق.
4. النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحباه من بعده، قاله أبو العالية والحسن البصري.
قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة، فإن من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً.7(/3)
وقد ورد حديث عظيم، إسناده حسن صحيح كما قال ابن كثير -رحمه الله- عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيها أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم) رواه أحمد وابن أبي حاتم والترمذي والنسائي،وقال ابن كثير: حسن صحيح.
قوله تعالى:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} أي اهدنا يا رب صراط من أنعمت عليهم بالإيمان والقرب منك والتوفيق لطاعتك ومرضاتك، وقد بين الله في سورة النساء من هؤلاء المنعم عليهم فقال -عز وجل-: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء: 69).
وقوله:{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال جماهير علماء التفسير: إن المقصود بـ (المغضوب عليهم) اليهود و(الضالين) النصارى.. لأن اليهود علموا الحق ولم يعلموا به فغضب الله عليهم، والنصارى عبدوا الله على جهل فضلوا عن الحق. وقد جاء الخبر بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عدي بن حاتم..
قال الشنقيطي: واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعاً مغضوباً عليهم جميعاً، فإن الغضب إنما خص به اليهود وإن شاركهم النصارى فيه؛ لأنهم يعرفون الحق وينكرونه، ويأتون الباطل عمداً؛ فكان الغضب أخص صفاتهم، والنصارى جهلة لا يعرفون الحق، فكان الضلال أخص صفاتهم، وعلى هذا فقد بين أن المغضوب عليهم، اليهود قوله فيهم ({وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ} (سورة آل عمران: 112), وقوله:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} (سورة المائدة: 60) ، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} (سورة الأعراف: 152) ، وقد بين أن الضالين النصارى قوله تعالى:{وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (سورة المائدة: 77)8. والمقصود: أن الله يرشد المؤمنين إلى هذا الدعاء العظيم، بالهداية إلى طريق الحق الذي سلكه أولئك الأخيار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وسؤال الله أن يجنبهم طريق اليهود الذين علموا ولم يعملوا فاستحقوا غضب الله، وطريق النصارى الذين عبدوا الله على جهل وضلال فاستحقوا الضلال عن الحق، وعلى هذا فمن علم ولم يعمل ففيه شبه باليهود، ومن عبد الله على جهل ففيه شبه بالنصارى، والخروج من هذا المأزق الكبير هو حل سهل وبسيط: أن نعلم ونتعلم وأن نعمل بعلمنا.. نسأل الله التوفيق...
فوائد من الفاتحة:
وبعد الكلام عن معاني آيات هذه السورة نذكر بعض الفوائد المتعلقة بها:
1. حمد الله وشكره في كل حال وحين، وهذه السورة يكررها العبد في الصلاة المفروضة في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، إلى جانب السنن.. مما يدل على أهمية ما فيها، ومنه حمد الله وشكره وسؤاله الهداية والعون على الحياة كلها.
2. بيان معنى لا إله إلا الله، وأنه نفي لكل ما يعبد من دون الله، وإثبات العبودية لله، وذلك واضح من الحصر في قوله (إياك نعبد).
3. لا تجوز الاستعانة والاستغاثة إلا بالله الواحد الأحد، وإذا استغاث الإنسان أو استعان بإخوانه الأحياء، فيما يقدرون عليه مما هو معقول وواقع، فإن ذلك من قبيل قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (سورة المائدة: 2) ، وقوله عن موسى عليه السلام:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (سورة القصص: 15) ، وذلك في حدود الطاقة البشرية، أما أن يستعان أو يستغاث بالأموات أو بالقبور والأحجار، أو الجن أو الملائكة، فيما يخرج عن هذا، وكذا الاستغاثة بالغائب من البشر، فهذا من الشرك الصراح.(/4)