خطبة الجريمة الدنمركية مبادئ وتداعيات
4 / 1 / 1427هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،
فإن الله سبحانه وتعالى قد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم للعالمين، مبشراً ونذيراً وجعله عزوجل خاتم النبيين، وجعل رسالته لعموم الناس من الجن والإنس، فأرسل نوحاً إلى قومه، وإلى عاد أخاهم هوداً، وإلى ثمود أخاهم صالحاً، ولوطاً إذ قال لقومه، وإلى مدين أخاهم شعيباً، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال الله: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً }، { وما أرسلناك إلا كافة للناس }، وأخذ الله العهد على جميع الأنبياء إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء أنهم سيكونون معه في جنده، وأنهم سيتبعوه، { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه }، قال: { أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين }، قال علي رضي الله عنه ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه ميثاقاً، لأن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وهكذا أرسله الله رحمة للعالمين، وجعله سبحانه خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وجعله عليه الصلاة والسلام أمة لأمته، { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم }، وقد أخذ الله أمم الأنبياء والأنبياء أحياء، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يستأصلها الله بعذاب وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، فهذه من كرامة نبينا في هذه الأمة، ولم يقسم الله نبي غيره، { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }، فهذا يدل على شرف حياته وعمره وعلى نفاسته، والله يقسم بما شاء من مخلوقاته، وخاطبه الله بالنبوة وبالرسالة، وخاطب النبيين بأسمائهم، { يا موسى إني اصطفيتك على الناس }، يا إبراهيم، { يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك }، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يأتي في القرآن بندائه باسمه يا محمد، ولكن جاء يا أيها الرسول، ويا أيها النبي، فزاده تشريفاً وتكريماً، وناداه بوصفه وبلقبه وهكذا جعله الله مكرماً في النداء معظماً، { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً }، ووصفه بالعبودية وهي أسمى المراتب وأشرفها كذلك،، فقال عزوجل: { سبحان الذي أسرى بعبده }، وكذلك فإنه تعالى قال في كتابه العزيز لهذه الأمة: { محمد رسول الله }، فبين من هو، وخصه بجوامع الكلم، فقال: " بعثت بجوامع الكلم "، وقال: " ونصرت بالرعب "، فنصره الله بالرعب مسيرة شهر، وجعل له مفاتيح خزائن الأرض، أؤتي مفاتيح الخزائن وهكذا،، سيطرت أمته على شرق الأرض وغربها، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحفظ كتابه، بينما ذهبت معجزات الأنبياء وبقيت معجزة نبينا، { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، ولما كلم الله موسى في الطور، كلم محمداً صلى الله عليه وسلم فوق سبع سموات عند سدرت المنتهى، وهكذا،، كان عليه الصلاة والسلام مكرماً عند ربه وجعل، له من المزايا والخصائص ما لم يجعلها لنبي غيره، وهو أول من تنشق عنه الأرض، وأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأول من يأتي الحوض، وأول من يعبر الصراط، وأول من يقرع باب الجنة، وأول الناس يشفع في أهل الجنة، وكذلك،، آتاه الله الوسيلة: وهي الدرجة العظيمة التي لا تنبغي إلا له, وهي منزله في الجنة عليه الصلاة والسلام, ( آتي محمد الوسيلة وأبعثه مقاماً محموداً )، فهو المشفع في جميع الخلق ليقضى بينهم، عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، فيحمده الأولون والآخرون على شفاعته يوم الدين، ليبدأ فصل القضاء بين العباد حتى الكفار يحمدونه ويثنون عليه حينئذ، لأنه سبب انفكاك ذلك الموقف الذي غرق الناس فيه في العرق إلا من شاء الله، وهذا النبي الأمي الذي جعله الله رحمة لقومه فقادوا العالم بسببه، وجعله الله عزوجل فوق الخلق جميعاً، فلو وزنت أعمال الأمة بأعماله لرجحت أعماله عليه الصلاة والسلام، وهكذا لأنه سبب كل خير وصل إلى أي فرد من أفراد الأمة، " ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه "، وكذلك فإنه لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين، ولا الإشارات الخفية، ولا يتراجع عن قرار الحرب، ولا يعرف القراءة والكتابة، ولا يقول الشعر، إذن لارتاب المبطلون، وهكذا أبيح له الوصال في الصوم، والتزوج بلا ولي ولا شهود، وأن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، ولا يجوز له أن يمسك امرأة لا تريده، وأحلت له مكة ساعة من نهار، وكان يرى من خلفه وهو يصلي، ولا يورث، وما تركه صدقة في بيت مال المسلمين، وكل دعوة دعاها على شخص لا يستحقها تنقلب رحمة وبركة عليه، جعله الله له المعجزات العظيمة، وزوا له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها،(/1)
ولما سأله المشركون أن يريهم آية، أراهم انشقاق القمر فصار فرقتين، { اقتربت الساعة وأنشق القمر }.
والبدر شق وأشرق شمس ... ... الضحى بعد الغروب وما بها نقصان
وفضيلة شهد الأنام بحقها ... ... لا يستطيع جحودها إنسان
وكان يخطب إلى جذع، فلما أنتخذ المنبر حنى إليه الجذع كحنين الصبي إلى أمه فلم يهدأ حتى نزل فسكنه عليه الصلاة والسلام، ونبع الماء من بين أصابعه من بين لحم وعصب فتوضأ منه الصحابة، وكانوا أكثر من ثلاثمائة، وسبح الحصى في كفه، وكان يستمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، ونادى الشجرتين فالتأمتا عليه بإذن الله، وكلمه الذارع المسمومة.
وذارع شاة الخيبرية أصبحت بالسم تخبره بلا أكنان
وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد، فخدشه خدشاً يسيراً فمات منه في طريق عودته، وأخبر بمصارع المشركين في بدر فلم يتعدى واحد منهم المكان الذي حدده عليه الصلاة والسلام لمقتله، وأخبر أن طوائف من أمته يغزون في البحر ومنهم أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها فكان كما أخبر، وقال عن الحسن بن علي حفيده: " إن أبني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين "، فكان كذلك، وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب فأخبر بمن قتله وبليلية قتله وهو في صنعاء اليمن، وأخبر بمقتل كسرى فكان كما قال، وأصيبت رجل عبد الله بن عتيق فمسحها فبرأت، وأصيبت عين قتادة فمسحها فصارت أحسن من الأخرى، وقال لثابت بن قيس: تعيش حميداً وتقتل شهيداً، فعاش حميداً وقتل يوم اليمامة شهيداً وهكذا،، دعا لعلي رضي الله عنه أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان لا يجد حراً ولا برداً، ويلبس ملابس الشتاء في الصيف، وملابس الصيف في الشتاء كما ثبت ذلك، ودعا لعبد الله بن عباس أن يفقه الله في الدين وأن يعلمه التفسير فكان يسمى البحر لكثرة علمه.
وكذا ابن عباس أعدا ... ... طهوره فدعا له بالعلم والتبيان
فحوى العلوم وكان طوراً ... ... راسخا فيها وأمعن غاية الإمعان
ودعا لأنس بن مالك بطول العمر وكثرة المال والولد وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكراً من صلبه، وكانت نخله تحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها، رضي الله عنه.
وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه عليه السلام وآذاه فدعا الله عليه أن يسلط عليه كلباً من كلابه، فذهب مع أبيه مع نفر من قريش من الشام فلما نزلوا بالزرقاء من أرض الشام أحاط أبوه أبنه بنفر من الرجال ومتاع القوم، فجاء أسد سبع وهم نيام فشمهم حتى بلغ الولد فهشمه وقتله الله عزوجل.
وشكى الأعرابي القحط إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو فوق المنبر وما في السماء سحابة، فدعا الله عزوجل فسقوا أسبوعاً إلى الجمعة أخرى حتى شكي إليه كثرة المطر فدعا الله، فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
وشكا إليه وهو فوق المنبر ... ... الميمون الشاك ظاهر البابان
يشكوا البلاد قحطها فدعا ... ... فيا غيظ السماء هلم بالهطلان
وأقام سبعا لا يريم فجاءه ... ... شاك يخاف تهدم الحيطان
فدعا فأحدق بالمدينة صحوها ... ... بل عن سواها الغيث ليس بموان
فأقام شهرا لا يمر مسافر ... ... إلا بواد مفعم البطنان
وأطعم عليه الصلاة والسلام أهل الخندق وهم ألف من صاع شعير أو دونه وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر مما كانوا، وشهد الذئب بنبوته، وأخبر راعي الغنم عن مكانه عليه الصلاة والسلام، فجاء فأسلم وشكا بعيره عليه مشقة صاحبه عليه وتبعه سراقة بن جعشم يريد قتله أو أسره، فدعا عليه فساخت يدا الفرس حتى بلغت الركبتين حتى نادى سراقة بالأمان وطلبه.
وهكذا،، ذهب عليه الصلاة والسلام مع الجن فدعاهم وعلمهم ونصحهم، ولما جاءه إبليس بشهاب من نار ليجعله في وجه قال عليه الصلاة والسلام فجأة وهو في صلاته: " أعوذ بالله منك ثلاثاً ألعنك بلعنة الله التامة ثلاثاً ثم أخذه حتى شعر ببرد لسانه على يده "، فخنق النبي عليه الصلاة والسلام إبليس خنقاً شديداً ولولا دعوة سليمان عليه السلام لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة.
وخصه الله بالقرآن معجزة ما ناله مرسل قد جاء بالدين
وتحدى الله بهذا النبي، وبهذا الكتاب، تحدى الله بالقرآن الذي أنزله على هذا النبي، تحدى المشركين فلم يأتوا بمثله.
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
وهو عليه الصلاة والسلام قد أؤتي من المعجزاتـ وأؤتي من التأييد الإلهي من الله عزوجل.(/2)
عباد الله، هذا النبي الكريم، هذا النبي الذي كان رحمة للعالمين، ولا زالت رسالته وكتابه ودينه، لا زالت في الناس تسري وتنتشر، ولا زال أكثر الأديان انتشاراً دينه، ولا يوجد ما يقاوم هذا الدين من منهج آخر ولا يدانيه فضلاً عن أن يماثله أو يزيد عليه، بل كان هذا الدين حتى في وقت قوة الكفار هو المهيمن بالحجة، وهو المنتصر بما حواه من المعجزات العظيمة، إعجاز التشريع وإعجاز الفصاحة والبيان، وإعجاز الإخبار بالغيب المحقق وهكذا،، فلا يستطيع أحد عليه ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا ذلك.
يا عباد الله، يأتي هؤلاء الذي يريدون النيل من النبي عليه الصلاة والسلام والطعن فيه، في هذا الوقت ليكتبوا ما يكتبوا، ويتكلموا بما يتكلموا، ويرسموا ما يرسموا، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام حاجة الناس إليه حتى هؤلاء الكفرة شديدة جداً، فإن حاجة البشرية إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، والنفس لأنه يبشرهم بالجنان وينذرهم من النيران، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ( والرسالة ضرورية للعباد لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة )، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة إذا لم يؤتى ذلك وهو من الأموات، قال الله تعالى: { أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات، لقد كان فضل الله على نبينا عظيمة، وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا }.(/3)
وهكذا،، يا عباد الله، مع حاجة البشرية إليه، يقوموا هؤلاء بالطعن فيه، قاتلهم الله، وينشرون هذه السخرية والاستهزاء ثم من إتمام المؤامرة واستنصار بعضهم لبعض، وقيام الكفرة بنصرة إخوانهم عباد الصليب ينشرون تلك الصور في جرائد دول مختلفة، بزعمهم لكسر مقاطعة المسلمين التي آلمتهم فخافوا منها أشد الخوف فصاروا مذعورين، واجتمعوا اجتماعات كثيرة لدراسة هذه الظاهرة، ولما حدث ذلك وكيفية المواجهة واحتشدت الدول لأجلها، وهذا في الحقيقة كرامة عظيمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يزال العالم مندهشاً لماذا حصل كل هذا، احتجاجات، استنكارات، تظاهرات، استدعاء سفراء، وإغلاق سفارات، وهكذا،، خطب ومؤتمرات تبين، وإهانة رموز دول الكفر، والامتناع عن استقبال موفديهم، ومقاطعة بضائع تلك الدولة الآثمة التي وقف قادتها بجانب جريدتها دفاعاً عن حرية الرأي بزعمهم، وأمطرت بالرسائل الإنكارية المختلفة، ورقية، وإلكترونية، ورسائل الجوال تسري بين المسلمين، وروح عجيبة أتقدت، وهكذا،، يطلب من بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيموا دعوا التشهير والإيذاء على جدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ويوكل محامون، وتقاطع شركات أغذية، وشركات الصيدلة، وأنواع من هذه الشركات في طول العالم الإسلامي وعرضه، حتى وقع الشقاق بين الدنمركيين أنفسهم، وثار بعضهم على بعض، وتعالت الاتهامات، وتواقحوا في أول الأمر، وقال رئيسهم: ( لا أقدر ولا أرغب في الاعتذار )، ثم جعلوا يستأجرون القنوات العربية ليوهموا الناس أنهم قد اعتذروا، وتعرض الإعلانات أنهم قد اعتذروا، وفي الحقيقة أن إصلاح القضية شبه محال، وأننا لا يمكن أن نرضى بمثل هذه الإدعاءات الفارغة، عندما تعتذر الجريدة ثم يسحبوا الاعتذار بعض نصف ساعة من موقعها، ويخطط لاعتذار أو ثناء على الاعتذار في هذا الوقت من قبل رئيسهم، وفي إذاعة أخرى يقول: ( إنه لا يعتذر وإنما يتألم للإهانة )، سبحان الله، كبر الاعتذار عليهم ولا زالت شركاتهم تضغط على حكوماتهم، ويقولون في تقاريرهم: ( نحن نغيب عن كل المخازن في الإمارات، في الكويت، في قطر بعد بلاد الحرمين، وهكذا صرنا خارجها في اليمن، وقرر موزعونا إبقاء موظفيهم في بيوتهم، والحالة حرجة في مصر، وفي الجزائر، كذلك حتى في لبنان، وحتى الجاليات الإسلامية في الخارج، كان لهم دور، وهكذا في شركة واحدة يفقدون عشرة ملايين كورونا يومياً، وأغلق مصنع، وستغلق مصانع، وسرح موظفون، وسيسرح آخرون )، وتنال هذه القضية، تمس دخل تلك البلاد لأنها تقوم على ضرائب من الشركات والشركات تضغط على الجريدة وعلى تلك الحكومة، ويقع التلاوم والتقريع المتبادل، واللغط الداخلي بين الدنمركيين أنفسهم، وتتعاظم القضية مثل كرة الثلج حتى يخرج ذلك المحرر في الجريدة، ليقول: ( أقول بكل مرارة لقد انتصروا )، أي المسلمون مما رآه من الضغوط، وقال: ( إن محمداً لن ترسمه الأجيال القادمة في الدنمارك )، لماذا؟ من عظم الدرس الذي تلقنوه، والشدة التي وقعت عليهم، والخسائر فادحة، والقضية ستؤدي إلى ركود وبطالة، وتأثر الدخل القومي وبالتالي رواتب الناس.
عباد الله، القوم بعد الغطرسة يلتمسون الاعتذارات، ويحاولون بتنسيق حملات مضادة، استيعاب القضية وشهد من الكفار أنفسهم، كصحيفة إيكلومكست، أن الإساءة كانت وقحة، وأستنكر بعض شخصيات الكفر أنفسهم هذه الحماقات، وفعلاً إنها حماقات، لماذا؟ لأن المسلمين بحسب المخطط ينبغي أن يكونوا تحت الشهوات، وفي أوحال الرذيلة، لاهيين بالأغاني والألعاب، وشبابهم في أستار أكاديمي، فتأتي هذه القضية في هذا الوقت لكي تنقض ما بنوه اقتصادياً أو إعلامياً أو هيمنة وسلطةً، فقال ممثل شركتهم لقد أنهدم في خمسة أيام، ما بنيناه في أربعين عاماً وبكل بساطة.
عبادا لله، هذه صحفهم تصدر وفيها عناوين باللغة العربية، هذه صحفهم تصدر وفيها الأرفف الفارغة مصورة، وإعلانات المقاطعة واضحة، وصور سيارات في بلاد المسلمين، وعليها شعار تلك المقاطعة، لقد دخل الرعب في أوروبا بهذه القضية، حاول الاعتذار بشتى الوسائل، وقالوا من غبائهم وجهلهم وإسفافهم وكفرهم لقد استهزأنا بعيسى في رسوماتنا الكاريكاتيرية، وصورناه مصلوباً وبيده زجاجات خمر، فنقول: سبحان الله، وهل هذا الذي يقنع المسلمين أنكم استهزأتم بأنبياء آخرين؟ إنه يزيد القضية، إنه يزيدنا غيضاً عليكم وكراهية لكم، ولتصرفاتكم وكفركم بأنبياء الله، فأنتم تريد أن تقولوا إنه يجوز عندكم باسم حرية الرأي أن يستهزأ بعيسى أيضاً، وعيسى نبي عظيم من أولي العزم من الرسل، وهو صاحب نبينا عليه الصلاة والسلام، لأنه لقيه وآمن به وسينزل قبل يوم القيامة ويحكم بشريعته ثم يموت على دين الإسلام، فينطبق على عيسى عليه السلام تعريف الصحابي، بالإضافة إلى أنه نبي الله من أولي العزم من الرسل الذي أنزل الله عليه الإنجيل.(/4)
عباد الله، كانت محاولات من القوم لعدم الإذعان، لقد أشططوا في القضية وعاندوا كثيراً بل إن بعض شركاتهم قد أعلنت أنها ستصنع قنصاً توضع عليها هذه الرسومات القبيحة، لتباع على الناس وتنشر ويدعم بريعها مسار حرية الرأي والتعبير في بلادهم، حاول الإتحاد الأوروبي أن يدعم هؤلاء القوم ونقابة المزارعين لتخفف الوطأة، ثم خرجوا بأن هذه القضية لا بد أن تكسر، وهي المقاطعة وخافوا أن تقاطع بعد ذلك دول ويتفرد المسلمون بواحدة بعد الأخرى، فنشروا تلك الرسومات في جرائد أخرى في أنحاء أوروبا، ولكن الله عزوجل مظهر دينه، ومعلن كلمته، وناصر رسوله عليه الصلاة والسلام، { إنا كفيناك المستهزئين } وكشف الله بهذه الأحداث المنافقين في هذه الأمة، الذين قالوا: هذه حركة عاطفية غير حضارية، والذين قالوا: إن هذه حركة مؤقتة وإنها لن تؤثر، وقالوا: إنها حركات يائسة، وقالوا، وقالوا،، فظهر موالاة المنافقين من بيننا للكفرة في بلادهم، وهكذا كل من سخر من تحركات المسلمين، وهكذا،، الذين قالوا: إنه لا يمكن للمسلمين أن ينتصروا عليهم.
عباد الله، القوم تحت الوطأة يريدون الشكوى إلى أي مكان، إلى منظمة التجارة العالمية، إلى الإتحاد الأوروبي، إلى أي مكان، ولكن إنه شأن المسلمين الداخلي، شأن الأمة في داخلها، وهي تقارع القوم ومن ذا الذي سيجبر المسلم على أن يشتري من هذه البضاعة أو من تلك، وإن في المسلمين من الوعي إن شاء الله ما سيجعلهم ينتبهون لمحاولات تشتيت هذه المقاطعة، ويشتكي المسلمون، نعم من عدم وجود من ينظم مثل هذه الحركات لمقاومة الأعداء، حركات عفوية، ولكنها مؤثرة جداً فكيف إذا كانت نتيجة وعي، ودراسة مسبقة، وقيادة موحدة، لقد كشفت القضية أن في المسلمين قوة عظيمة، وأنهم يرهبون الكفار بمجرد الترك، لأن المقاطعة ترك، فكيف إذا فعلوا أشياء أخرى.
أيها المسلمون، يا عباد الله، لقد كشفت القضية معنى الإيمان والإسلام، لقد سلطت القضية الأضواء على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لقد تحركت في نفوس المؤمنين العاطفة الجياشة، تجاه نبيهم ومن ذا الذي يرضى أن يمس جناب نبيه بسوء؟، ولذلك هذه الأمة على ما فيها من الضعف والجراحات والفرقة، لكن فيها روح المقاومة والتحدي لأعدائها، وقد علمنا سفهاء القوم التواصي على الخير، والتعاون على البر، والشعور بالمسؤولية، لقد حركوا في قلوب المسلمين حب النبي عليه الصلاة والسلام، فثارت الأشواق، وهاجت الذكريات، وعاش المسلمون أياماً في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، الرحبة العطرة المعطاءة الجميلة، المثمرة، هو القدوة والأسوة عليه الصلاة والسلام، فهذه الخطب والأخبار، والمقالات والقصائد، وأحاديث المجالس ورسائل الجوال، ومنتديات الإنترنت، وبرامج الإذاعة، وهكذا التلفزيون والقنوات، فلو أننا والله عملنا خطة من سائر الخطباء والكتاب على إثارة روح الحمية في المسلمين، لما استطعنا أن نفعلها بشكل الذي حصلت، ولقد نفضت هذه الأحداث الغبار عن الحقد الأعمى، والعداء السافر لأهل الصليب، تجاه المسلمين ونبيهم عليه الصلاة والسلام، لقد تشكل للمسلمين رأي عام ضاغط ومؤشر، لقد صار الجهاد بالمقاطعة أمراً واقعاً، وصار للأمة سلاح لم تكن تشعر به، وهي تملكه وتستطيع أن تستعمله، واستطاع المسلمون أن يفرضوا أنفسهم عالمياً بهذه الحركة العظيمة المباركة التي أشغلت العالم، فلو قلت اليوم ما هو الحدث رقم واحد في العالم الذي يشتغلون به شرقاً وغرباً؟، هذه المقاطعة، وهذا الشعور الذي حدث من المسلمين يؤكد قول الله: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون }، { ومكر السيئ لا يحيق إلا بأهله }، وهكذا،، { يمكرون ويمكروا الله والله خير الماكرين }، وعندما ترى أولئك القوم يريدون حل القضية بأية طريقة، ويشعرون بالورطة العظيمة، تتأمل في قوله تعالى: { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين }، وتخرج من قوله تعالى:{ وما كيد الكافرين إلا في ضلال }، بفوائد عظيمة ودروس ضخمة.
السيف أشهر والليوث ... ... ضواري ذوادت عن سيد الأبراري
يا قائد الأحرار دونك أمة ... ... فاقذف بجندك ساحة الكفار
وأضرب بنا لجج المهالك ... ... غاضبا حتى نركع سطوة التيار
الفرس والروم العلوج ... ... تدمروا منا فكيف بإخوة الأبقار
وهكذا انطلقت حركات المسلمين، والحركة بركة، شرقاً وغرباً، كل يقدم ما يستطيع فداءاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم أنصر دينك، وكتابك، ورسولك، وسنته عليه الصلاة والسلام في العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أخذل أهل الكفر أجمعين، اللهم أجعل لنا الغلبة عليهم عاجلاً يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه،، إنه هو الغفور الرحيم.(/5)
الحمد لله رب العالمين، ملك يوم الدين، رب الأولين والآخرين، { وهو الله لا إله إلا هو الحي القيوم الذي نزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيراً }، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم النبيين، وإمام المتقين، وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع يوم يقوم الناس لرب العالمين، فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات الله وسلامه عليه ما تحركت ألسن الأبرار، وصلوات الله وسلامه عليه رغم أنف الكفار.
عباد الله، نصلي ونسلم على محمد بن عبد الله نبينا، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأتباعه وأزواجه وذريته، اللهم صل وسلم على محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم.
عباد الله، ديننا لا يقبل سخرية، ديننا ليس فيه مجال لهذا الكفر بأسم حرية الرأي، ولا حرية التعبير ولا حرية الرسم، لأن هذه الحرية هي انفلات واعتداء على الآخرين لأنها كفر وردة.
أيها المسلمون، لقد ظهر شيء من العزة الإسلامية، وسيظهر المزيد بإذن الله، وهذا النبي الكريم الذي كانت كله هذه الأحداث بسبب هذه الهجمة عليه، إنه رسول رءوف بالمؤمنين رحيم، إنه رسول مشفق علينا، عزيز عليه ما يشق علينا، إنه رسول من أنفسنا.
يا عباد الله، صاحب الإنجازات العظيمة، الذي وحد جزيرة العرب تحت حكم الإسلام، الذي طهر البيت العتيق من الأصنام، الذي بلغ الرسالة، الذي أرسل رسوله لتفتح المدينة النبوية بالقرآن، وليس بالسيف الذي حول العرب من رعاع من غوغاء جهلة، أمة يقتل بعضها بعضاً، ويأكلون الخنافس والجعلان، ويصنع أحدهم إلاهاً من التمر يعبده فإذا جاع أكله، أمة كانت مستعبدة من قبل أمم الأخرى ذليلة خانعة، لا يجرؤون أن يخرجوا من جزيرتهم بشيء، فيه مواجهة لبني الأصفر أو لغيرهم من أمم الأرض، فأسقط الله بهذا النبي الكريم دول الكفر، وأعد عليه الصلاة والسلام القادة العظام قبل موته بعد أن خضعت الجزيرة لحكمه، فأنطلق الفاتحون في الأرض من أصحابه الذين أعدهم ليصلوا إلى أذربيجان وأرمينيا، وإلى المغرب وبلاد إفريقيا، ليصلوا إلى بلاد السند، هؤلاء الصحابة فتح أكثر العالم الإسلامي في عهد الصحابة، الذين أعدهم محمد بن عبد الله صاحب الإنجازات العظيمة، عليه الصلاة والسلام، نجح في أمور الدنيا فأقام الدولة والجيش والقوة، ونجح في أمور الآخرة فهو سيد ولد آدم، لقد تحقق الأمن في جزيرة العرب بعد أن كانت اعتداءات، وكانت همجية ووحشية فصارت أمة لها أهداف، صاروا قادة للعالم قدوات، كانوا هملاً ليس لهم منهج حياة، منهجهم أن يعتدي القوي والضعيف، ويبغي بعضهم على بعض ويشربوا الخمر ويرتكبوا الفواحش، فصاروا أصحاب منهج يقدموا عندهم أمر مقنع، يقدمونه للعالم فيرضخ لهم، وحضارات يونانية رومانية فارسية، حضارات كلها سقط لتمشي في ركاب المسلمين، لم يكونوا مجرد جيش فاتح متغلب بالقوة، لا وإنما كان صاحب منهج ودين وعقيدة، تخضع له الأمم، وانقادوا إلى الجنة طوعاً، ومنهم من قاد بالسلاسل، ثم أقتنع وشهد له الأعداء، لقد ارتقى عليه الصلاة والسلام بالعبيد، ارتقى بالجميع، جاء بالمساواة بين المسلمين، حتى المرأة جعل لها شأناً ليس كشأن المنافقين اليوم، ولكنه شأن كريم مصان طاهر نقي عفيف، فلها الحق في الميراث بعض أن لم تكن ترث شيئاً، وجعل لها الحق في الرأي، وأشارت عليه زوجته في أمر عام خطير، وهكذا،، أخرج عليه الصلاة والسلام جيلاً من النساء والرجال من أهل التربية والتميز، والقيادة والدعوة، والعلم، وبلغ عليه الصلاة والسلام الوحي والقرآن كاملاً، نصح الأمة ما ترك شيئاً من الخير إلا دلنا عليه، ولا شيء من الشر إلا حذرنا منه، تركنا على البيضاء، بنى المساجد، وعمرت المساجد في ديار المسلمين من بعده فصار يعبد الله في الأرض وحده لا شريك له، وأهل الشرك بين خائف، ومقهور، مغلوب، ومؤدي للجزية ذليل.
عباد الله، هذا النبي الكريم بهذه المنجزات يشن عليه الأعداء اليوم هذه الحملات، ويوجهون السهام، ولكن الله سبحانه وتعالى ناصر رسوله، { إننا لننصر رسولنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }، وإنني أرى أن هذه القومة المباركة لهذه الأمة في هذا الحدث الذي صار من أوروبا وانتشرت آثاره في العالم، وخافوا منه أشد الخوف، إنه والله مثال لنصر الله لنبيه، كما في الآية: { إننا لننصر رسولنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا }.(/6)
ألا ترون معي أيها الأخوة أن هذا من نصر الله لنبيه في الحياة الدنيا؟، أليس قد أعلى ذكره؟، فلا زال مرتفعاً، ولا يمكن أن يغطى ولا أن ينزل، ولا أن يخبوا ويختفي، لأن الله رفعه والشيء المرفوع هذا شرعي، قدري، كوني، فلا يمكن أن ينخفض ويزول، { إننا لننصر رسولنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا }، استغربوا كثيراً واندهشوا، لماذا قامت الدنيا عند المسلمين من أجل الرسومات؟، القوم لا يعرفون أن هذا الرمز بالنسبة إلينا من صلب الدين، إنها ليست شخصية عادية، إنه ليس رجل عاش ومات وانتهت القضية، كلا،، إنه يعيش في قلوب جميع المؤمنين، يقولون: ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )، ( السلام على النبي ورحمة الله وبركاته )، يسلمون عليه في التشهد يومياً مراراً، فكيف يخبوا ذكره بعد ذلك في قلوبهم؟، ولذلك فإن من إدارة الصراع في أزمة الدنمارك والمسلمون بأشد الحاجة إلى من يدير الصراع في هذه الأزمة، وغيرها إدارة الصراع في الأزمات لا بد أن نوضح للكفار، من هو هذا الشخص الذي قاموا بسبه أو الطعن فيه؟، وما علاقته بالدين؟، والارتباط الوثيق جداً بين النبي عليه الصلاة والسلام والإسلام، القوم جهلة وكثير منهم لا يعرفون مكانة النبي في الدين، يظنونه مؤسس ومات وانتهى، لا،، هو مرتبط بالدين لأن الوحي جاءنا عن طريقه، هو مرتبط بالدين إلى يوم الدين وبعد يوم الدين، لأن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للدين، لأنه عليه الصلاة والسلام في أعظم منجزاته ترك لنا حياة كاملة في جميع الجوانب، قدوة، قائداً، وحاكماً، وعالماً، ومفتياً، وأباً، وزوجاً، وإمام وخطيباً، إنه عليه الصلاة والسلام قدوة في أخلاقه، في معاملته، في شجاعته، في علمه، في تعليمه، في صبره، في حياءه، في صدقه، في أمانته، في جرأته عليه الصلاة والسلام في الحق.
النبي عليه الصلاة والسلام مرتبط بصميم الدين، لأن الأحاديث والآيات تلاها علينا، والأحاديث النبوية وفيها جزء عظيم من أحكام الدين، السنة هي حديثه الذي أوحاه إليه ربه، فهذا القدوة، التطبيق العملي للدين لا ينفك عن الدين، ولذلك الطعن فيه الطعن في الإسلام، الاعتداء عليه اعتداء على الإسلام، ليست شخصية عادية، والقضية قضية شخصية والطعن في شخص، لا،، الطعن فيه طعن في الدين.
علاقات دولية تهتز، وأزمات دبلوماسية تقوم، وإغفال مصانع، وتسريح موظفين، وخراب اقتصاد، وسقوط وزارة، وإقالة أشخاص، لأنه عليه الصلاة والسلام ليس شخصاً عادياً، ولذلك تقوم الدنيا لأجله طبعاً، ولماذا لا تقوم؟ بل هذا هو الطبيعي، لا بد أن تقوم.
ومن إدارة الصراع أن يكون لهذه المقاطعة سياسة ومنهج، فتوجه إلى البادي والبادي أظلم، ولا تشتت إلى بلدان أخرى، إنها مقاطعة محكومة بالقدرة، والاستطاعة أيضاً، والتضحية وبعض الناس يقولون سهولة عليكم لأنها مقاطعة أجبان وألبان ولو كان شيئاً آخر ما استطعتم؟، فنقول: ( جاء التدريب للمسلمين وسيستطيعون إن شاء الله )، وكشفت لنا حجم المستوردات وأهمية أن يكون في العالم الإسلامي تصنيع داخلي، نستغني به عن أولئك القوم، القضية هذه كشفت أشياء ضخمة جداً وكثيرة.
أيها الأخوة ومن إدارة الصراع تحديد المطالب، التي تربط بنهاية معينة تحصل إذا تحققت المطالب، فإن قالوا نعتذر؟ فنقول: لا بد أن يكون اعتذاراً صريحاً ودائماً، وليس مؤقتاً يسحب، ولا ملتوياً، ثم أنتم خربتم فلا بد أن تصلحوا ما خربتم، أليس قد نشرتم تشويهاً لصورته وسيرته؟ إذن عليكم أن تفسحوا المجال، وتفتحوا المقال ليكتب في نفس المكان من سيرته العظيمة العطرة ما يبين الحقيقة، لا يكفي الاعتذار فقط.
ألستم اعتديتم بالطعن فيه؟، فلا بد أن يكتب في نفس الجريدة، ونفس المكان نبذة عنه وعن شخصيته وسيرته عليه الصلاة والسلام، وأن تبينوا،، { وإن تابوا وأصلحوا وبينوا }، فلا بد من التبيين، وتقولوا الذي طعن فيه اكتشفنا أن حقيقته كذا وكذا، وكذا، وهكذا،، يكون الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أقل ما يمكن أن نطالب به.
عباد الله، إن توحيد أبعاد الصراع مهمة جداً، وأن القضية فيها هجمة صليبية، كيف وقد توزع القوم القضية ونشروها الآن في جرائد مختلفة في بلدان مختلفة؟، من أجل الالتفاف على مقاطعة المسلمين.
عباد الله، لقد كان رد فعل المسلمين عظيماً من جميع شرائح المجتمع، وكانت تلك الشعارات التي رفعها المسلمون دالة على العزة، إنه شيء أردنا أن نشعر به منذ زمن طويل، إنه شعور جديد علينا، نحن المسلمين في هذا الجيل شعر آبائنا وأجدادنا بأضعاف أضعافه يوم كان للإسلام قوة وسطوة للمسلمين في العالم.
عباد الله، لا بد أن يوجد من جهتنا دعوة وتبيان لحقيقة هذا النبي الكريم، لا بد أن يعرف أولئك القوم أن الدور على من يفعل مثل هذه الفعلة سيأتي واحدا تلوى الآخر، وأننا سنربيهم إن شاء الله على معرفة مكانة هذا النبي الكريم في نفوسنا.(/7)
أيها المسلمون، ونبينا عليه الصلاة والسلام له الحق عظيم علينا، وهذه الحادثة تذكرنا بحق نبينا عليه الصلاة والسلام، علينا واجبنا نحوه في الإيمان به والتصديق، واجبنا نحوه عليه الصلاة والسلام بطاعته وإتباع شريعته، واجبنا نحوه عليه الصلاة والسلام بالاكتساء والإقتداء به في الصغيرة والكبيرة، في التمسك بسنته، واجبنا نحوه عليه الصلاة والسلام أن نقوم بحقوقه، وأن نصلي عليه صلى الله عليه وسلم في كل مجلس وحيث ما ذكرى، ونقول صلى الله عليه وسلم، عليه الصلاة والسلام، وليس ( ص ) ولا ( صلعم )، اختصارات سخيفة، وإنما نقولها كاملة تامة وأن نمتثل أمره ونتبع ما جاء به، وأن نحكمه وأن نرجع إلى سنته، ولا نروي عنه حديثاً إلا بعد التأكد من صحته، وأن نسلم لحكمه، وأن نحبه ونقدم محبته على محبة الأهل والمال والولد، والوالد عليه الصلاة والسلام، وهذا واجب علينا أن ننصح له بالدفاع عنه، والغيرة على دينه وسنته، وأن نبغض أعداءه، وأن نوقره عليه الصلاة والسلام، وأن ننصره وأن نحترمه، ولا نرفع الأصوات في مسجده، ولا نرفع الأصوات فوق حديثه إذا قرء، وكذلك،، فإننا نعظم آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم ونعرف لهم حقهم.
اللهم صلي وسلم وبارك عليه، اللهم أنصره، اللهم أنصر سنته، اللهم أنصر دينه، اللهم أنصر أتباعه في العالمين، اللهم إنا نسألك أن تعز أهل الإسلام وتذل أهل الشرك والكفر، اللهم إنا نسألك أن تعيدنا إلى الدين عوداً حميداً، اللهم أرزقنا الاستمساك بسنته، بنينا صلى الله عليه وسلم، من أراد الإسلام وأهله بسوء فخذه، اللهم كده، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وسائر بلاد المسلمين، أللهم أنشر رحمتك علينا، وأغفر ذنوبنا وأشفي مرضانا، وأرحم موتانا، ورد ضالنا إلى الحق، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين،، والحمد لله رب العالمين.
المصدر:http://www.islamav.com(/8)
خطبة الجمعة بين النجاح والفشل د. ابراهيم أبو سالم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قدوتنا المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وعلى آلله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فإنه ليسرّني أن أشارك في هذه الندوة العلمية بصحبة ثلة من الأساتذة الكرام وبحضور صفوة من أهل العلم والفضل ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر لكل من أعدّ لهذا اللقاء الكريم.
ولما كان الموضوع واسعاً جداً، رأيت من المناسب أن أعنون كلمتي "خطبة الجمعة بين النجاح والفشل"، وألخص أفكاري في بضع وعشرين نقطة موجزة وأنا واثق أن كل نقطة منها تستحق الإفاضة والزيادة، لكن الوقت لا يسمح وسأترك ذلك للمستمع الكريم والقارئ الكريم تضيفون ما تشاؤون وتضعون الأمثلة والأدلة كل حسب جهده ووقته ورغبته، وفيما تلك النقاط:
1- أهمية الخطبة من أين يأتي ؟
أ- الحضور للجميع
كل المسلمين نجدهم حريصين على حضور الجمعة لقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" 1 والأمر هنا للوجوب، والخطاب للمكلفين ويخرج منه النساء والمرضى والمسافرون والأطفال.
ومع ذلك فإن هؤلاء جميعاً، يجيب النداء منهم أعداد كبيرة، فالنساء زرافات ووجداناً، والأطفال مع آبائهم وأمهاتهم يتدربون ويتعودون ويخشعون ويتأدبون ويتعلمون، والمسافرون لا يألون جهداً الحضور ويرون في تركهم صلاة الجمعة بأساً لا يليق بهم فإن أتيحت فرصة أقبلوا على المساجد حيث هم، وما أكثر المرضى الذين يستغيثون بذويهم لإقامة الجمع، ونرى مظهراً في كثير من المساجد اصطفاف المقاعد وجلوس الزّمني عليها، وهذا يشير بوضوح إلى حرص المكلفين وغيرهم من المسلمين لحضور صلاة الجمعة وخطبتها ابتغاء الأجر والثواب والعلم والتربية ولأهداف متنوعة.
ب- الحضور منوّع: هذه الشريحة من الصغار والكبار والمثقفين ومن دونهم من يصلي بانتظام ومن لا يصلى إلا الجمعة فقط، وكذا أصحاب الأفكار المختلفة حتى اليساري منها ويشمل الحضور المنتمون للتيارات السياسية المتناقضة، نجد في المسجد الجد والأب والحفيد كما نجد المعلم والطالب، والجامعي ومن في الروضة والعامل.
هذا الحشد من الحضور لا يوجد غالباً في أي حفل علمي وتربوي إلا في المسجد يوم الجمعة.
ج- تكرار الحضور
ما تكاد الجمعة تمضي إلا والجمعة الأخرى على الأبواب، والأحكام هي هي ، وجوب الحضور وفرض السعي لذكر الله، وهذا يمنح الخطيب فرصة كبيرة لنقل أفكاره لهذا الجمهور الذي لا يأتي متطوعاً، وبالمقارنة مع أي منبر إعلامي نجد أن منبر المسجد هو ذو الحظ الأوفى عدداً ونوعاً واستعداداً نفسياً.
د- الإعلام الذي لا يغلق
من الطبيعي أن تغلق صحيفة أو قناة فضائية أو جامعة أو كلية أو نادي رياضي أو ثقافي أو جمعية وغيرها، لكن المسجد هو المكان الذي تلتزم الأمة وأحياناً غير الأمة بالسماح بفتحه وحضور الجماهير إليه.
هـ- الناحية النفسية:
هناك عوامل متعددة تجعل لخطبة الجمعة أثراً متميزاً، منها كونها في المسجد أي بيت الله وهذا فيه ما فيه من الصبغة على قلوب الحاضرين، ووجود جمهور كله يصغي للخطيب ويتسم بالهدوء والسكينة والوقار، كما يلبس الملابس الأنظف ويتطيب، هذا الجو يجعل للكلمات مذاقاً خاصاً، فإذا بكى أحدهم انفعل من رآه أو سمعه، وغالباً ما لايكون لهذه الكلمات لو سجلت على شريط نفس الأثر في هذا الجو الجماهيري.
ولا تخفى النصوص التي فيها نزول السكينة والرحمة على من يجلسون في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم وكيف تحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.
و- المباشرة لا الإعادة
ومن أسباب تأثير الجمعة على الحاضرين كونها مباشرة وجهاً لوجه وليست على الشاشة مثلاً ولا تسجيلاً معاداً، فهي كلمات طازجة ذات مفعول مباشر،
فمن يشاهد مسرحية مباشرة أشد تأثيراً وانفعالاً من ذاك الذي رآها معادة أو نظر إليها على شاشة تلفاز.
ومن يكون في المعركة يرى دقائقها ويسمع أصواتها وصليل سيوفها ليس كذاك الذي يقرؤها في السيرة أو كتب التاريخ، وهذا سرّ بطولات الرجال وانفعالهم وتقدمهم واستبسالهم حتى أننا نستغرب من مواقف الصحابة رضوان الله عليهم كيف كانوا يرموا التمرات من أيديهم ويقبلوا للشهادة، فيزول الاستغراب إذا علمنا أن منسوب الإيمان تضاعف مع المشاهدة والحضور ولا يمكننا الوصول لمثله غيابياً.
ب- أسباب نجاح الخطب
1- توفيق الله عز وجل
قال تعالى: "وما توفيقي إلا بالله"
وقديماً قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى، فأول ما يجني عليه اجتهاده(/1)
ولننظر إلى ما قال قارون: (وما أوتيته إلا على علم عندي) هذا شأن المتغطرسين والطغاة والجهلة، أما أولو الأبصار فحالهم مختلف "فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ 2"
من تذكر قدرة الله ونعمته وحكمته طأطأ رأسه وحمد، ومن أنكر وتنكر شمخ وعلا، والله لا يحب العالين المغرورين المتجبرين. ثم هذا التوفيق من الله لا يحصل إلاّ بالتقوى لقوله سبحانه "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه" 3
لأن الكلمات الصالحة التي تخرج من القلب تستقر في القلوب، أما تلك الكلمات الجافة فلا تتجاوز الآذان. رأيت شتلة بندورة في سجن مجدو بين الأسلاك لا يستطيع أن يصلها أحد منا عليها أكوام من الثمر، ونزرع البندورة بعد حرث متكرر ونسقي ثم نعالج بالأدوية ثم نفاجأ أن الأمر لا يمر يستحق الخدمة، فالبركة فيما يضع الله في البركة.
2- صلاة الحاجة قبلها
من المسنون أن يصلي المسلم ركعتين ثم يسأل الله حاجة لكل أمر ذي بال، وخطبة الجمعة من الأمور الهامة، هل يوفقه الله أم لا؟ هل يتذكر أم ينسى؟ هل يتقن أم لا؟ هل يحسن أم يسيء؟ هل يرزق الحكمة أم تفوته؟ هل يدخل الى القلوب أم لا يعلم الناس منها شيئاً.
هذه الأمور كلها محتاجة الى عون وتسديد. وهو قبل ذلك في أمس الحاجة للإخلاص، لأن قليلاً من الرياء ينسف العمل، وعليه فالصلاة والدعاء جزء هام من النجاح إن لم يكونا النجاح كله.
وأنصح بسيّد الاستغفار على عتبة المنبر "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
أ- هناك سببان يتعلقان بالخطيب نفسه
مخبر الخطيب
مظهر الخطيب
1- مخبر الخطيب:
قال تعالى "فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ" 4 ، ينبغي أن يكون معلوماً أن صلاح الخطيب ينعكس إيجاباً على كلامه والعكس صحيح، فما لم يكن ملتزماً بالفرائض والسنن، مجتنباً الكبائر والموبقات وحتى الصغائر المعروفة فإن كلماته ستصب غالباً في خانة الشتم والسباب وبعبارة أخرى سيكون فتنة للأخرين يحتجون على عدم صلاح الفكرة التي يدعوا إليها وربما يرفضها البعض لأجله هو.
فما معنى أن يدعو الخطيب للمحافظة على الجماعة وهو لا يفعل ذلك، أو يأمر بصلة الرحم وهو قاطع لرحمه، أو يدعو للتسامح وهو حاقد، ما معنى أن ينهى عن الربا والناس يعلمون أنه يرابي أو يأمر النساء بالستر والحجاب وأسرته على غير ذلك.
ولقد روي أن الإمام الحسن البصري ظل سنين لا يخطب عن الزكاة لأنه لا يملك ما يزكيه حتى إذا ملك زكّى وصعد المنبر وخطب عن الزكاة.
ومن الجدير ذكره أن رأس مال الخطيب حُسْنُ الخلق الذي يعطي عليه الله تعالى أكثر من غيره وخلاصته البشاشة وحسن القول وحسن المجاملة والصبر على الآخرين والاستغناء عما في أيديهم.
2- مظهر الخطيب
وإذا كان المصلون مأمورين يوم الجمعة بارتداء أجمل الثياب وأنظفها، كما أنهم مأمورون بالتطيب من أفضل الطيب فمن باب أولى الخطيب، لأن الناس ينظرون وينقدون، ويرونه قبل أن يسمعوا كلامه.فحبذا لوا ارتدى يوم الجمعة الملابس المميزة اللائقة، كالعباءة أو الجبة أو البدلة، وتزداد قيمة المظهر للمبتدئين لأنه يغطي جزءاً من القيمة العامة له ولخطبته، أما إذا كان الخطيب قد وصل إلى قلوب الناس، فلو لبس قميصاً وبنطالاً فلا بأس لأن خطبته تغطي على مظهره، مع تأكيدنا على النظافة وكيّ الملابس والتطيب واختيار الملابس المقبولة اجتماعياً.
3- عنوان الخطبة
رأيت من المناسب منذ سنين أن أجعل لكل خطبة عنواناً بل لكل كلمة تلقى في حفل جماهيري عنوانا، فإذا كان الكتاب من مئات الصفحات أو آلافها له عنوان من كلمة أو كلمات، وإذا كان الكتاب من عشرات المجلدات له عنوان قصير يعرف به، فلماذا لا يكون للخطبة التي لا تتجاوز بضع صفحات عنوان يحدد فكرتها.
ومن الضروري أن يكون العنوان منسجماً مع الموضوع لا بعيداً عنه وإلا كانت النتائج عكسية، كأن يتكلم في واد والعنوان في واد آخر.
واعذروني إذا قلت أن البعض لا يعرف عن أي شيء يتحدث ولا يفهم الناس ماذا كان يقصد، فكيف يُعنون هذه الخطبة؟، البعض يجعل الخطبة عشرات المواضيع فكيف يعنون وبماذا يعنون؟(/2)
وجميل أن يكون العنوان مختصراً واضحاً سهلاً، مثال: عقيب الغزو الأمريكي للعراق، أصاب الناس احباط وشعروا بثقل المصيبة، فكان المناسب أن يكون موضوع الخطبة الأمل واستنهاض العزائم، فاقتضى الأمر أن يكون عنوان الخطبة (وعسى وعسى) إشارة للآية الكريمة " وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"5
وفي النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية ما يغني هذا الموضوع.
ومثال آخر: وعقيب استشهاد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله كانت خطبة بعنوان (ست نقاط)، ثمّ ذكر أربعة في الخطبة الأولى واثنتين في الخطبة الثانية، وكل نقطة لها عنوان، فكرة العنوان تعين المصلين على حفظ ثم تذكر ما تبعه من أفكار، وتحول دون قول المصلين جواباً على سؤال: عن ايش كانت الخطبة، .... والله لا أعلم .... أو نسيت.
4- موضوع الخطبة
كلما كان الموضوع متعلقاً بواقع الناس وبمشاكلهم وبقضاياهم دون كسر لشوكتهم أو تهجم عليهم أو التعرض إلى بعضهم على وجه الخصوص بشكل مباشر كلما كانت الخطبة أنجح.
ما معنى نزل القرآن منجماً؟ أي حسب الحالات والظروف، وحسبنا أن نتذكر أسباب النزول.
ونمثل: بقصة المجادلة وحديث الإفك، القرآن يتنزل في وسط الحدث لحل قضية، يطفئ ناراً، يثلج صدوراً، ينصر ضعيفاً، يقوي عزيمة....الخ، وهكذا ينبغي للخطبة أن تكون.
أذكر مثلين علاقتهما بالموت
المثال 1: حضرت جنازة امرأة كانت في سيارة نقل الموتى، والناس حشود أمامها وخلفها، وسماعة السيارة تبث القرآن الكريم من أول سورة النور تجويداً متكرراً، (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة). فهل هذه الآية تناسب هذا الموقف.
المثال 2: حضرت جنازة رجل سجيت في مسجد وكان الشريط على سماعات المسجد قبل الصلاة من سورة يوسف (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)
على هذين المثالين نقيس موضوع الخطبة، فالمطلوب من الخطيب أن يتحسس مشاعر الناس وما يصلح لهم ويصلحهم. فإذا كان في المسجد وفاة صارخة أو جماعية لا بد أن يكون نصيب الأسد من الموضوع لها أو عنها.
وإذا احتاج الناس للحديث عن غلاء المهور اقتضى الأمر الحديث بكياسة عن هذا الأمر، ويتحدث عن الربا إذا علم وجوده وعن الظلم إذا اقتضى الآمر ذلك ..وهكذا.
مثال 1: ذهب أحدهم لأداء العمرة وكانت الدنيا تموج بالأحداث العصيبة والأمة تنزف، فحضر خطبة في المسجد النبوي على ساكنه الصلاة والسلام موضوعها أهمية صلاة الجماعة، ولما وصل المسجد الحرام كانت الخطبة حول البدع في المساجد أو نحو ذلك.
فحسن اختيار الموضوع يعطي علامة عليا نحو النجاح، وسوء الاختيار وعشوائية الاختيار يفقدان الخطبة كثيراً من علامات النجاح. والأمثلة عند المختصين أكثر من أن تحصى.
5- كيف نحضر الخطبة
من الهموم التي يعاني منها كثير من الخطباء عن أي شيء أتحدث وكيف أحضر هذا الموضوع؟؟
ولحل هذه المشكلة وتخفيف ذلك الهم أضع البرنامج التالي،
هناك مناسبات دينية متكررة في العام، فشهر رمضان يسبقه الحديث عن التوبة مثلاً، وفي أوله استقبال رمضان ثم غزوة بدر وفتح مكة وأهمية القرآن ودوره في بناء الأمة وليلة القدر والعشر الأواخر، وفي غير شهر رمضان، الحج والاستعداد له والعشر الأوائل من ذي الحجة وذكرى المولد النبوي وذكرى الهجرة .... الخ.
وهناك ذكريات تاريخية كالمعارك والغزوات والسّير وأحداث المجازر وسقوط الدول واندثار الحكام والأنظمة، وهناك أخبار طازجة محلية تختلف من موقع لآخر، وهناك أخلاق يمكن تناولها كالصبر والصدق والتوكل ....الخ، وهناك عبادات كالأركان الخمسة، كما يمكن الحديث عن العقائد كأركان الإيمان من جوانب مختلفة وغير هذا كله. وتناول آيات ذات موضوع مترابط وتفسيرها0
مثال: صفات المؤمنين أو صفات الكافرين أو المنافقين أو آية لها سبب نزول أو قصة قرآنية، وفي الأحاديث كم هائل يحسن التعرض له: حديث واحد منه ننطلق وفيه نغوص ونستنتج ونستخرج العبر والدروس، ويمكن أن نتعرض لخبر هام سياسي أو اجتماعي.
كما يمكن تناول عادات اجتماعية لنا عليها ملاحظات كعادات الأفراح والأتراح وما فيها من منكرات.
6- الاستهلال الجيد
بعد المقدمة المعهودة بين حمد وصلاة على الرسول r ووصية الناس بالتقوى وحبذا لو كانت بصيغ منوّعة وليست نسخة كربونية فذلك أدعى للقبول وأقرب للقلوب، بعد ذلك يحسن أن تكون البداية بخبر أو حادثة أو قصة متميزة ليشد الناس إلى سائر الموضوع، أما إن بدأت روتينية مملة فالمحصلة شرود الأسماع والأذهان.
مثال: بدأت خطبة الجمعة بالخبر التالي:(/3)
اتصل بي رجل عدة مرات بخصوص وفاة قريبه في أمريكا، مات الرجل وفكر أولاده ملياً، لو دفناه سيكلفنا آلاف الدولارات ولو أرسالناه الى البلاد سيكلفنا أكثر فماذا نفعل؟، فكروا وقدروا فقتلوا كيف قدروا ثم قتلوا كيف قدروا، أتدرون بماذا فكروا،،،،؟ فكروا بحرقه كالهندوس، هكذا فكر الأبناء لأبيهم، وهذا مصير الأب الذي بذل حياته وماله من أجل أولاده، أرأيتم يا مسلمون الأولاد فكروا بحرق أبيهم، حسبنا الله ونعم الوكيل،
هكذا خبر أو حدث أو حكاية لها علاقة بالموضوع تدعو لتفاعل الجمهور وانشداد الأذهان وربما ذرف العيون.
7- التنويع أثناء الخطبة
وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يعرض القصة والخبر والموعظة والسؤال، إنا مما يجمّل الخطبة أن تكون شاملة للأساليب البيانية، فالمثل فيها ضروري وأحياناً بيت الشعر، وأحياناً قرأت في أو مر معي أو سألني سائل أو اطلعت في الانترنيت على كذا.....
8- الصعود والنزول صوتاً وأسلوباً:
سبقت الإشارة إلى أن جمهور الخطبة يضم جميع شرائح المجتمع، فلا ينبغي أن تكون الخطبة موجهة لشريحة معينة كأن يخاطب المثقفين أو يستعرض عضلاته الفكرية أو العلمية.
مثال: اتصل بي أحد الخطباء صباح يوم جمعة، وقال: لو أردت أن تتحدث عن اقتراب النجم الفلاني من الأرض كظاهرة طبيعية ماذا تقول: قلت: أنا لا أتحدث عن مثل هذا الموضوع لأنه لا يخاطب جمهور المصلين، إن مما يحتاج الناس في القرية من موضوعات هو كثير كثير، فلماذا نلجأ الى الغرائب والظواهر العلمية؟.
ومثل ذلك لو قرر خطيب أن يتحدث عن الإعجاز العددي في القرآن ويسرح في علم الأرقام، كم من الحضور سيستوعب ويحفظ ويتأثر؟ قصارى الأمر أن يقول البعض، شيخنا ما شاء الله حافظ!
ولا بأس من مخاطبة العوام ولو اقتضى الأمر أن أتكلم جملة أو مثلاً بالعامية.
وكذا موضوع الصوت، فلا ينبغي أن يكون على وتيرة واحدة بل، يلزم ارتفاعه وانخفاضه حسب الجملة والفكرة.
9- لغة الخطيب:
قلت يوماً: خطيب بلا نحو كمقاتل بدون سلاح، وما أكثر الخطباء الذين تفضحهم ألسنتهم، فإذا رفع المجرور ونصب المرفوع وجرّ المنصوب سقط من أعين كثير من جمهوره.
لقد عددت لخطيب من الأخطاء ما يزيد عن خمسين خطأ ولآخر ما يقارب مائة، والثالث قرابة الأربعين. لكن من أشنعها ما يغير المعنى كقول أحدهم: (بل زنيتَ يا رسول الله) بفتح التاء على لسان ماعز رضي الله عنه في القصة المشهورة.
وكقول أحدهم (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى)6 ربَّه: ربٌّه هكذا ضم كلمة رب فنسف المعنى
فعلى كل خطيب وواعظ أن يعمل جهده أن يقوّم لسانه وأن يحيي ذاكرته في العربية وأن يتخذ معلماً يقرأ عليه ويطلب إرشاداته وجميل أن يعود إلى مطالعة كتب النحو البسيطة ويتدارسها مع من هو أقوى وأعلم منه في هذا المجال.
وبشكل أولي لا بأس من تشكيل الخطبة وإحسان قراءتها إلا أن هذا لا يحل المشكلة من جذورها.
10- حفظ الخطيب
من المشاكل التي يعاني منها الخطباء سوء الحفظ وخاصة أولئك الذين يرتجلون كلياً أو جزئياً، ومن ذلك أن يقول أحدهم كما قال تعالى: ثم لا يعثر على ما يريد، فيتردد أو يسكت أو يرده الجمهور أو يقول بما معناه أو يذكر حديثاً بدل آية، وذلك يسبب له إرباكاً هو غني عنه، وكثيراً ما يحدث هذا مع من لم يحضر جيداً.
وللخروج من هذا المنزلق يحسن بالخطيب أن يكتب النصوص التي لا يحفظها أو الغريبة عليه أو الأرقام التي يريد الاستدلال بها ويعود لها عند الضرورة قراءة لا حفظاً.
11- إتقان التجويد:
أصبح علم التجويد مفتوحاً للصغار والكبار، للنساء والرجال، المئات في المسجد الواحد يعرفون أسس التجويد، ويأتي خطيب ما يتلو على المنبر ولا يدغم أو لا يغن أو لا يمد أو لا يظهر أو يخفي وكذا في تلاوة الصلاة مما يجعله في مكان النقد والتجريح، وربما يحكم عليها البعض بالجهل ويعرض نفسه للغيبة.
فلماذا لا يتخلص الخطباء من ذلك ويكونون هم الأسوة في الإصابة والقدوة في العلم والمرجع إذا أشكل شيء من هذا العلم الديني على أحد، أما أن يكون جاهلاً أو أعوج اللسان أو الثغ فتلك مشكلة.
مثال: صليت خلف خطيب الثغ فقرأ (إهدنا الثراط المثطقيم ثراط الذين أنعمت عليهم ....)
وهناك من يحفظ القرآن ويعلم التجويد إلا أنه يلحن لأنه تعلم هكذا، اولئك الذين يقلبون الوا الى (o) بالإنكليزية واليا إلى (a) بالإنكليزية إذا وقفوا بعدها.
مثال: (ولا الضالين) (ولا يعقلها إلا العالمون)
12- الدعاء والقراءة المنسجمان مع الموضوع:
جميل أن يختار الخطيب الآيات المتعلقة بموضوعه أو قريبة منه، أما أن يتكلم عن بر الوالدين ويقرأ آيات الربا فهذا بون شاسع أو العكس، وهكذا.... وجميل أن يكون الدعاء له علاقة ماسة بموضوعة فإن كانت الخطبة عن الصبر مثلاً حسن أن يكون الدعاء (ربنا أفرغ علينا صبراً)
وعن الوالدين، (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين)، ...الخ(/4)
وليكن لقضايا الأمة نصيب، على الأقل في الدعاء، وان لم يكن في الموضوع: فمهما كان الموضوع فما أحسن أن يكون من الدعاء (اللهم فرّج كرب المعتقلين، اللهم فرج كربنا وكرب المكروبين، اللهم اقض الدين عن المدينين، اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم أصلح أبناءنا وبناتنا وألف بين قلوبنا ، اللهم ارحم أموات المسلمين) ... وهكذا .
13 الحركة والإشارة المدروسة
يحسن بالخطيب أن يصرف نظره يميناً وشمالاً على كافة الحضور وبشكل منتظم وأن لا يكون كالآلة الموجهة على فريق بعينه من البداية الى النهاية، وأن يكون متزناً عليه السكينة والوقار فلا ينبغي أن تصدر من حركات أو أفعال تثير الانتقاد كالضحك أو القهقهة مثلاً، وإذا حرّك يديه فليحرص أن لا يتوجه بالإشارة بقصد أو من دون قصد إلى المصلين.
مثال: هو يتحدث عن المنافقين أو الكافرين أو المرابين أو المجرمين ثم يمد يده الى جهة أمامه فتصيب الإشارة بعضهم – وإن كان لا يقصد- فهذه الحركة مذمومة، وليحذر الخطيب من الحركات اللاإرادية المنفرة كما لو وضع اصبعه في أنفه أو أكثر من الحك عند أذنه أو شعره أو جلده أو نكش أسنانه، قد يقال: هذه غرائب – هل يمكن حدوثها- أقول وهناك ما هو أغرب وحديثنا عن الصواب والخطأ.
14- الخطبة غير العدائية
هل يمكن أن تكون الخطبة عدائية؟ إذا كان الخطيب عدائياً كانت كذلك، فإذا رأى نفسه على المنبر والناس يستمعون وينصتون، وجدها فرصة أن يشفي غليله فتناول أشخاصاً من الجمهور بأفعالهم وأخذ يشرحها ويفصلها حتى جعل أعين الحاضرين تمتد الى أصحاب الشأن مما يسبب الحرج الكبير وحب الانتقام أو على الأقل الرغبة في الانصراف، وقد يؤدي ذلك إلى التفاف حول الذي هوجم من أقاربه أو أصدقائه أو المؤمنين، ولا يستبعد أن لا يعودوا للصلاة في هذا المسجد أو سواه.
مثال: وقف أحدهم على منبر في مدينة، وهذا المسجد يرتاده بعض رجال السلطة، واختار الخطيب أن يتعرض لهم وأخذ يشرح عن الفساد والمفسدين ومما قاله: " هؤلاء الذين جاءوا من الخارج حفاة عراة، جوعى، وأرادوا أن يسلبوا خيرات الشعب ...) أو كما قال، فما كان من بعضهم إلا أن تجرّأ ووقف وتوجه للمنبر وسحب الخطيب وأنزله، كيف ترون هذا المشهد، إنه إهانة ليس لذلك الخطيب فقط، وإنما أعم من ذلك، ثم استصدروا أمراً بمنعه من الوقوف على المنابر!!!
فليحذر الخطيب العدوان المباشر، فالتعميم يغني عن التخصيص، والخطوط العريضة تحقق الغرض والرمز والكتابة يقوم مقام التصريح والبيان.
مثال آخر: كان أحد الخطباء يذكر الحاكم فلان باسمه على المنبر ويقول: الخائن فلان
ناقشته فقال: الله تعالى ذكر فرعون في القرآن بصفاته، أقول: ذكر فرعون وقارون وهامان بعدما انقرضوا ليعتبر الناس، أما التعرض للحاكم والمسئول بنفس الطريقة لا يبني شيئاً بل يهدم. وحسبنا أن نتذكر "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى"
15- ملاحظة الجمهور
الإمام إمام، والخطيب قائد وأب روحي يجول ببصره ويعمل على إدارة هذا الوقت بنجاح ما أمكن، فإذا رأى البعض واقفين خارج المسجد يمكنه القول أثناء الخطبة " أيها الأخوة تقاربوا لكم أخوة واقفون فأعينوهم على الجلوس وإذا رأى المصلين خارج المسجد والجو ماطر أو حار أو بارد اعتذر من الجميع ولا مانع أن يقول: نظراً للظرف ولكون إخواننا تحت المطر أو في البرد القارص أعذروني سأقطع الخطبة أو أقصّرها، ستكون هذه المبادرة حسنة تستحق الاحترام.
مثال: كان من المعتاد أن يقرأ المصلون المأثورات في السجن وذات يوم تم نقلنا الى النقب وانشغل الشباب في بناء الخيام الى ليل متأخر وكان الجو قارس البرد، ولما حان الفجر أذن المؤذن وتجهز المصلون، وقمت فيهم إماما صليت في الأولى والعصر وفي الثانية الأخلاص، ثم قلت سبحوا على أبراشكم يرحمكم الله، فانطلقوا فرحين داعين لي والله أعلم.
ولنتذكر أن الرسول r كان يسمع صوت طفل يبكي فيوجز في صلاته. وإذا كانت هناك جنازة والناس من كل حدب وصوب، والأعداد غفيرة وبعد الجمعة دفن وعزاء، حبذا لو يلاحظ الخطيب هذا ويخفف نظرا للظرف.
16. الأطالة أم التقصير؟
ليس هنالك قاعدة ملزمة أو دقائق معدودة تعتبر مخالفتها خروجا عن المألوف أو بدعة مذمومة. والذي يتحقق في الوقت عناصر متعددة.
أولها: من هو الخطيب؟، فالخطيب الذي يأخذ بالألباب تغفر له إطالة ويعاب عليه إقصاره والساعة منه دقائق لا يدري بها الحضور أو عامتهم، والخطيب الضعيف الثقيل يتمنى الحضور أن يعودوا الى بيوتهم مبكرا.
كان الشيخ كشك رحمه الله يخطب ثلث ساعة أو نصف ساعة ويظن الحاضرون أنه فرغ لكنها مقدمه يقول بعدها أما بعد... قال لي أحد الأخوة حين استشرته بالصلاة عند الشيخ كشك،، إذا ذهبت لن تحضر إلا العصر وكان ما قال. وكان خطيب آخر يسمى عبد المتعال الجبري رحمه الله يخطب في مسجد رواده طلبة جامعيون، وخطبته بمستواهم، وكان يطيل وما أحسن الإطالة – ولكن أين كشك وعبد المتعال؟!(/5)
ثانيها:موضوع الخطبة: هناك موضوعات تستحق الإشباع، فلو طالت قليلا فلا بأس. أما اذا كانت الإطالة في التكرار فذلك مذموم.
ثالثها: الظرف العام والخاص: كما أسلفنا في النقطة السابقة، برد، مطر، ثلج، شتاء، جنازة، وقت حصاد أو جد زيتون ..الخ. كلها وغيرها عناصر تؤثر على الطول والقصر.
على كل حال، الإيجاز المخل مذموم والإطالة المفرطة كذلك والوسطية مستحبة فلينتبه الخطيب الى عيون الناس ونظراتهم وليقدر. ويمكن الحديث بالأرقام، عشر دقائق، 45 دقيقة، وقت يختار منه اللازم وما يقتضيه الحال. أما ما قاله لي أحد الخطباء أن خطبته استمرت ساعة ونصف فأمر غريب.
17. الحكمة ما أحسنها.
قال تعالى: "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا"7
ربما تبدو هذه النقطة ملاصقة لموضوع الخطبة إلا أني أقصد أبعد من ذالك.
مثال: حضرت خطبة الجمعة فاستأت كثيرا وانزويت أصلي السنة وحرصت أن أطيل حتى لا أرى الإمام وأنا منفعل وفوجئت أنه لا يزال جالسا وحوله بعض الأصدقاء، وفاجاني بالسؤال كيف هالخطبة؟ كنت صريحا وعدوانيا في الجواب..
أتدرون عن أي شيء خطب؟ عن كربلاء واستشهاد الحسين وفصّل وأطال ودخل في دقائق الأمور وأخطأ في قراءة القرآن.
قلت له: هل حضّرت الخطبة؟ قال لا بل هي ورقة قديمة عندي وقرأتها!! يا أخي في أي البلاد أنت؟ هل أنت في النجف أم في كربلاء أم في مدينة قم؟ ما هذا؟ فالحكمة ضرورية ليس في اختيار الموضوع فحسب فموضوع في مسجد ربما لا يصلح لآخر، والأسلوب هنا ربما لا ينجح هناك وعنوان هنا غير موفق في مكان آخر. الحكمة في الموضوع، الحكمة في الأسلوب، الحكمة في اختيار النصوص الحكمة في الوقت اطالة وقصرا..الخ.
18. القراءة أو المشافهة؟
هما مدرستان لكل إيجابيتها وربما سلبياتها، إلا أن المبتدئ يحسن ان يكتبها ويشكلها وربما يعرضها على غيره ويقرؤها أمامه وتشكل له. وفريق آخر يكتبها ويقرؤها مرة واحدة حتى يحفظها ثم يلقيها. وفريق آخر يكتب النصوص أو الخطوط العريضة غلى قصاصة ورق ليتذكر، وفريق يتخطى هذه المراحل.. ربما يبدع اذا انطلق، والخطورة هنا الاستطراد ونسيان عن ماذا كان يتحدث.
19. بين المنهجية وعابرة السبيل
إذا كان الخطيب مستقرا في مسجد، يمكن جعل الخطبة منهجية مدروسة تربوية علمية ..الخ. العقائد، الشعائر، المعاملات، العقوبات..الخ يمضي بخطة مدروسة. وإذا كان الخطيب عابر سبيل، يأتي هنا مرة في السنة أو ربما في السنين، فلا مانع من شمولية الخطبة كأن يتحدث خطوط عريضة من خلال عنوان محدد كما لو تحدثنا عن اليوم الآخر ومن خلاله دعونا للمحافظة على العبادات والبعد عن المنكرات..وهكذا.
20. البعد عن التكرار
أسلوب القرآن الكريم هو التنويع والتشويق وحتى حينما تكررت الموضوعات تغيرت الالفاظ . فحية موسى مرة حية ومرة ثعبان ومرة جان.
مثال: بعض الأخوة الخطباء أصحاب فكر معين، تكاد تتلخص خطبهم أو خطب بعضهم بكلمة واحدة "الخلافة"، في كل مرة في كل خطبة، بين الجملة والجملة خلافة وخليفة فلو سألت مستمعا عن أي شيء خطب الشيخ لقال هي الخطبة.
إن قلت لي الموضوع مهم أقول لك نعم لكنني سأفرض أهميته بمستوى العقيدة "لا اله الا الله" أرأيت لو كان خطيب لا يخطب إلا عن هذا..سنسأله أين الشريعة وأين قضايا الأمة، التكرار ممل والتكرار عليه ملاحظات ولا يبني وربما ينفر. وبعض الخطباء يعيد خطبته هي مقروءة فيقول السامع سمعناها من قبل والخطأ الذي أخطأه قبل عام أعاده كما كان فلننتبه.
. الشخصية اللاتقليدية:
خلق الله كل مخلوق باستقلالية تامة "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ" فكل انسان يبدو مشابها لغيره في العموم، إلا أنه مختلف في الخصوص ودقائق الأمور وكذا سائر المخلوقات وهذا من جمال الخلق وروعة الابداع.
والتقليد نوعان: حسن ومذموم. حسن اذا قلدنا العلوم والأخلاق ومذموم اذا تقمصنا شخصية بعض الخطباء يحاول تقليد خطيب آخر، مثل الشيخ كشك فلا هو أحسن وأجاد ولا هو عاد الى شخصه الاصيل كالغراب الذي قلد مشية الحمامة. كن انت الشخصية المستقلة ولا تكن كربونا عن سواك حتى أولئك القراء الذين يقلدون مشاهير مثل الشيخ عبد الباسط رحمه الله لا يتقنون ويثيرون النقد والاستغراب.
22. ردود الفعل الاستفزازية:
ربما يصدر من الحضور تصرفات غير مقبولة أو استفزازية كأن يرفع أحدهم ساعته مشيرا الى الخطيب أن أقصر فلو انفعل الخطيب وقطع خطبته ونزل أو قال: بعضكم يجلس على التلفزيون ست ساعات ولا يشعر بالوقت أما هنا فيرفع ساعته، أو اللي مش عاجبه ما يجيش على هالجامع. ذالك تصرف فيه نظر، خير من ذلك إهمال هذا الأمر وتجاوزه وحله اذا لزم الأمر لاحقا.
23. الأتكاء على الكتب المنبرية:(/6)
هناك كتب متخصصة في خطب الجمعة تسمى أحيانا الخطبة المنبرية وبعض الخطباء يستهوون الرجوع اليها وعدم تحضير شيء، فيكون نسخة عن غيره. ويصدم البعض أن هذه الكتب مقروءة من أحد المصلين أو أكثر مما يجعل الخطبة غير ابداعية. لتكن الخطبة طازجة وصناعة محلية ابداعية وليست مستوردة، ولا مانع من الإفادة من بعض الأفكار أو النقول، أو الروايات، ثم التصرّف بها وإعادة صياغة ما قبلها أو بعدها واستنباط ما يلزم من فوائد منها.
23- انتظار المديح
اعتاد بعض الخطباء أن يسألوا الحضور عن خطبتهم منتظرين جملة مديح، ولا يمكن أن يكون الجواب إلا سلباً أو إيجاباً، فإذا انتقدهم البعض والمجتمع لا يخلو من ناقدين أو مجرّحين استاء ورأى ذلك انقاصاً من قدره، ثم يتصرف بعد ذلك بسلبية كما لو امتنع عن الخطابة أو ردّ على الناقدين في خطبة قادمة، ولهذا من الأثر مالا يخفى.
وقد يجامل البعض فيمدحون على غير قناعة ويرون في أنفسهم مرجعاً كأنما هم فوق مستوى الخطيب، وهذا غير محمود.
وإذا ذكر البعض الحسنات الحقيقية انتعش الخطيب وشكر أو هز رأسه وسكت. ويطرح هنا سؤال: هل لذلك أثر على الإخلاص أو عدمه. هل كان المقصود إرضاء الناس؟ أم ماذا؟
أما إذا كان الهدف التقييم فلينتظره الخطيب دون أن يسعى إليه مع أنه إن كان من أهل الخطابة وعلى قدرها فهو أقدر الناس على تقييم نفسه وخطبته ومعرفة ثغراتها وحسناتها.
والله الموفق وهو الهادي الى سواء السبيل
وختاما:
فهذه كلمات يسيرة خلاصة تجربة بعضها يستحق الإضافة والبيان والاستدلال والتمثيل، إلا أن المقصود محاضرة في وقت يسير، وليس عندي شك أن بعض الحاضرين المستمعين أو القارئين لاحقاً له عليها ملحوظات أو إضافات، فهذا جهد المقل إن وافق الصواب، فبفضل الله تعالى وحده وله الحمد وإن جانب الصواب فإني أستغفر الله وأتوب إليه هو حسبي ونعم الوكيل.
وحسبي والله يشهد أني أردت أن أنصح وأرجو أن أكون مأجوراً بذلك، وعسى أن ينتفع ببعض السطور بعض المعنيين وأصحاب الشأن وفي ذلك خير أرجو بره
ولله الحمد على كل حال إنه نعم المولى ونعم النصير
..................................................................
............................. ...(/7)
... ... ...
خطبة الحقوق الزوجية ... ... ...
خالد الشارخ ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- تقصير الزوجين بحق بعضهما ينعكس على أبنائهما. 2- حقوق الزوجة على زوجها. 3- حقوق الزوج على زوجته. 4- الحقوق المشتركة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن الأسرة المسلمة ومكانتها في الإسلام، وتكلمنا عن مقومات الأسرة المسلمة والأخطاء التي تصدر من أفراد الأسرة.
ووعدتكم أن أتكلم في هذه الخطبة عن الحقوق الزوجية العامة والخاصة. فها أنا ذا أنجز لكم ما وعدت والله المستعان. وإن كان هذا الموضوع أيها الأخوة لا تكفيه خطبة واحدة ولكن سوف أجمل هذه الحقوق وأعلق على ما يحتاج إلى تعليق.
أيها الناس:
إن الإسلام قد وضع حقوقاً على الزوجين، وهذه الحقوق منها ما هو مشترك بين الزوجين، ومنها ما هو حق للزوج على زوجته، ومنها ما هو حق للزوجة على زوجها.
وإن الحياة الزوجية بحقوقها وواجباتها والتزاماتها لتمثل بناءاً ضخماً جميلاً يعجب الناس منظره.
وإن أي نقص في أي حق من الحقوق الزوجية سواء كان حقاً مشتركاً أو خاصاً يسبب شرخاً عظيماً في بناء الأسرة المسلمة.
وليت هذا النقص – أيها الأخوة – يعود أثره على الزوجين فقط.
بل إن أي تقصير أو نقص في واحد من هذه الحقوق وخاصة الحقوق الظاهرة التي يراها الأبناء والبنات سيكون أثره على الأبناء والبنات جميعاً على حد سواء.
فإن الولد سواءً كان ابناً أو بنتاً، إذا كان يصبح ويمسي على شجار وخلاف بين أبويه، وترى البنت أمها لا تقوم بحق والدها حق القيام ويرى الابن أباه لا يقوم بحق أمه حق القيام. لا شك أن هذا سيورث عندهما تصوراً خاطئاً وسيئاً ويجعل الأب والأم في قفص الاتهام دائماً من قبل الابن أو البنت.
وإن الزوجين إذا التزما منهج الإسلام الكامل في الحقوق الزوجية عاشا في ظلال الزوجية الوارف سعداء آمنين. لا تعكرهما أحزان المشاكل؛ ولا تقلقهما حادثات الليالي.
والحقوق الزوجية ثلاثة:
1- حق الزوجة على زوجها.
2- حق الزوج على زوجته.
3- حقوق مشتركة بينهما.
أما حق الزوجة على زوجها:
1- توفية مهرها كاملاً امتثالاً لقوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة .
فلا يجوز للزوج ولا لغيره من أب أو أخ أن يأخذ من مهرها شيئاً إلا برضاها.
فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً .
2- الحق الثاني: الإنفاق عليها:
وهذه النفقة تتناول نفقة الطعام والكسوة، والعلاج والسكن لقوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
3- الحق الثالث: وقايتها من النار: امتثالاً لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً .
قال علي في قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً أدبوهم وعلموهم. أهـ.
وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها .
وإذا كان الزوج لا يستطيع تعليم امرأته فلييسر لها أسباب التعليم، أعني بالتعلم تعلم أحكام الدين، ومعرفة ما أوجب الله عليها ومعرفة ما نهاها الله عنه.
لكن المصيبة إذا كان الزوج نفسه واقع في الحرام؛ فهي الطامة الكبرى، لأن الرجل قدوة أهل بيته، والقدوة من أخطر وسائل التربية.
عن فضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله، فقيل له: يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟
قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
ومن المصيبة أيضاً ومن النقص العظيم أن يُنزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ومن شأنه أن يكون مطاعاً لا مطيعاً، متبوعاً لا تابعا.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن شاء أعلاها وإن شاء سفّلا
وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التقليد تارة، وبسبب ضعف شخصية الزوج أو التدليل الزائد تارة أخرى.
وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاءً، فالكلمة الأولى والأخيرة بيد المرأة، والزوج مجرد منفذ لهذه الأوامر، ومن أجل ذلك تجد في صفات بعض المسلمين اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.
4- الحق الرابع: أن يغار عليها في دينها وعرضها، إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة والشريفة.
وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة.
فعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله : ((إن من الغيرة غيره يبغضها الله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)) [رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني في ال\رواء].
وقد نظم الإسلام أمر الغيرة بمنهج قويم:
1) أن يأمرها بالحجاب حين الخروج من البيت.
2) أن تغض بصرها عن الرجال الأجانب.
3) ألا تبدي زينتها إلا للزوج أو المحارم.
4) ألا تخالط الرجال الأجانب ولو أذن بذلك زوجها.
5) أن لا يعرضها للفتنة كأن يطيل غيابه عنها، أو يشتري لها تسجيلات الخنا والفحش.(/1)
5- الحق الخامس: وهو من أعظم حقوقها: المعاشرة بالمعروف.
والمعاشرة بالمعروف تكون بالتالي:
حسن الخلق معها، فقد روى الطبراني عن أسامة بن شريك مرفوعاً: ((أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً)) [حديث صحيح].
ومن حسن الخلق أن تحترم رأيها وأن لا تهينها سواء بحضرة أحد أم لا. ومن حسن الخلق إذا صدر منك الخطأ أن تعتذر منها كما تحب أنت أن نعتذر منك إذا أخطأت عليك، وهذا لا يغض من شخصك أبداً، بل يزيدك مكانة ومحبة عندها.
ومن المعاشرة بالمعروف التوسيع بالنفقة عليها وعلى عيالها.
ومنها استشارتها في أمور البيت وخطبة البنات، وقد أخذ النبي بإشارة أم سلمة يوم الحديبية.
ومنها: أن يكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحقٍ أمامها ومبادلتهم الزيارات ودعوتهم في المناسبات.
ومنها أن يمازحها ويلاطفها، ويدع لها فرصاً لما يحلو لها من مرح ومزاح، وأن يكون وجهه طلقاً بشوشاً، وأن إذا رآها متزينة له لابسة لباساً جديداً أن يمدحها ويبين لها إعجابه فيها، فإن النساء يعجبهن المدح.
ومنها التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء.
فعن أنس أن النبي لم يقل له قط أفٍ (ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لا فعلت كذا) [رواه البخاري ومسلم].
ومن المعاشرة بالمعروف: أن يتزين لها كما يحب أن تتزين له، ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف .
ومنها أن يشاركها في خدمة بيتها إن وجد فراغاً.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) [رواه البخاري].
تلكم كانت أهم الحقوق التي يجب أن تقوم بها الزوج تجاه زوجته كما أمر الإسلام.
بارك الله لي ولكم بالقران العظيم.. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله ذي الحمد والثناء، والمنع والعطاء والجود والحباء، وأصلي وأسلم على النبي النبيل صاحب الغرة والتحجيل، الذي علم ودعا وجاهد وأوذي في جنب الجليل، فلذلك قربه أحبه ورفعه فوق منزلة إبراهيم الخليل.
أما بعد:
فيا عباد الله:
كما أن للزوجة حقاً على زوجها، فللزوج حق على زوجته.
الحق الأول من الحقوق:
1- الحق الأول: طاعته بالمعروف: على المرأة خاصة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به في حدود استطاعتها. وهذه الطاعة أمر طبيعي تقتضيه الحياة المشتركة بين الزوج والزوجة.
ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار.
وتبعث إلى محبة الزوج القلبية لزوجته، وتعمق رابطة التآلف والمودة بين أعضاء الأسرة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة، شئت)) [رواه ابن حبان ورواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف].
ولتعلم المرأة المسلمة أن الإصرار على مخالفة الزوج يوغر صدره، ويجرح كرامته، ويسيء إلى قوامته، والمرأة المسلمة الصالحة إذا أغضبت زوجها يوماً من الأيام فإنها سرعان ما تبادر إلى إرضائه وتطييب خاطره، والاعتذار إليه مما صدر منها. ولا تنتظره حتى يبدأها بالاعتذار.
2- الحق الثاني: المحافظة على عرضه وماله:
قال تعالى: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وحفظها للغيب أن تحفظه في ماله وعرضه.
فقد روى أبو داود والنسائي أن رسول الله قال: ((ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها طاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
3- الحق الثالث: مراعاة كرامته وشعوره:
فلا يرى منها في البيت إلا ما يحب، ولا يسمع منها إلا ما يرضى، ولا يستشعر منها إلا ما يُفرح.
والزوج في الحقيقة إذا لم يجد في بيته الزوجة الأنيقة النظيفة اللطيفة ذات البسمة الصادقة، والحديث الصادق، والأخلاق العالية، واليد الحانية والرحيمة فأين يجد ذلك؟
وأشقى الناس من رأى الشقاء في بيته وهو بين أهله وأولاده، وأسعد الناس من رأى السعادة في بيته وهو بين أهله وأولاده.
2- الحق الرابع: قيامها بحق الزوج وتدبير المنزل وتربية الأولاد.
قال أنس : كان أصحاب رسول الله إذا زفوا امرأة إلى زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه، وتربية أولاده.
3- الحق الخامس: قيامها ببر أهل زوجها:
وهذه من أعظم الحقوق على الزوجة، وهي أقرب الطرق لكسب قلب الزوج، فالزوج يحب من امرأته أن تقوم بحق والديه، وحق إخوانه وأخواته، ومعاملتهم المعاملة الحسنة، فإن ذلك يفرح الزوج ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية.
4- الحق السادس: ألا تخرج من بيته إلا بإذنه حتى ولو كان الذهاب إلى أهلها.
5- السابع: أن تشكر له ما يجلب لها من طعام وشراب وثياب وغير ذلك مما هو في قدرته. وتدعو له بالعوض والإخلاف ولا تكفر نعمته عليها.(/2)
6- ومن حقه عليها ألا تطالبه مما وراء الحاجة وما هو فوق طاقته فترهقه من أمره عسراً بل عليها أن تتحلى بالقناعة والرضى بما قسم الله لها من الخير.
تلكم أهم الحقوق التي تجب على الزوجة مراعاتها والقيام بها:
· أما الحقوق المشتركة بين الزوجين فأجملها:
1- التعاون على جلب السرور ودفع الشر والحزن ما أمكن.
2- التعاون على طاعة الله والتذكير بتقوى الله.
3- استشعارهما بالمسؤولية المشتركة في بناء الأسرة وتربية الأولاد.
4- إلا يفشي أحدهما سر صاحبه، وألا يذكر قرينه بسوء بين الناس سواءً كان الشخص قريباً أم بعيداً.
حتى والديك أو والديها فإن المشاكل البيتية تحل بسهولة ويسرّ ما لم تخرج المشكلة خارج البيت حينها يصعب حلها وتتعقد أكثر وأكثر.
روى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتقضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)).
تلكم أيها الأزواج:
أبرز معالم المنهج الذي رسمه الإسلام في حقوق الزوجين.
وأؤكد لكم أنكم إذا التزمتموه في حياتكم الزوجية تطبيقاً وتنفيذاً، كانت المحبة رائدكم، والتعاون سبيلكم، وإرضاء الله سبحانه وتعالى غايتكم.
وتربية أولادكم على الإسلام هدفاً أساسياً من إهدائكم، بل عاش الواحد منكم مع زوجه في الحياة كنفس واحدة في التصافي والتفاهم والمودة.
على أني أُذكر الأخوة جميعاً أن الله تعالى أبى أن تكون هذه الدنيا كاملة في لذتها وفرحها ومتعتها وزينتها، فلابد أن يحصل شيء ما من الكدر والضيق، ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن يتذكر المسلم بنقصان نعيم الدنيا كمال نعيم الآخرة.
والله اسأل أن يوفق الزوجين على القيام بحقوقهما. عسى أن يعيشا معاً في ظل الزوجية الوارف آمنين مطمئنين سعداء مكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
خطبة العيد 1425هـ إبراهيم بن صالح الدحيم ...
الحمد لله كثيراً والله اكبر كبيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
الله اكبر الله اكبر لا إله إلا الله والله اكبر الله اكبر ولله الحمد ، لله الحمد عدد ذرات الرمال وقطرات البحار وورق الأشجار وقطر الأمطار لله الحمد ما تكور الليل على النهار وما انجلت الظلمة يتلوها الإسفار . وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار وأشهد أن محمد عبده ورسوله النبي المختار صلى الله عليه وعلى آله المهاجرين والأنصار وكل من سار على دربهم وأتبع الآثار .
.الله أكبر الله اكبر ولله الحمد ..الله اكبر وأجل ..الله اكبر على ما هدانا .
الله اكبر الله اكبر الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله اكبر الله اكبر ولله الحمد .
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله تحصل الدرجات وبكرمه تبدل الخطيئات , الحمد لله على تمام الشهر وكمال الفضل , فالفضل لك وحدك لا شريك لك ..أنت أمن به وأفضل , فتقبل منا وأعف عنا, وتجاوز عن تقصيرنا , وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها
الله أكبر ....
إنه العيد جاء ضيفاً عزيزاً *** فاكتبوا بالمداد فيض التهاني
كبروا الله علَّ تكبيرة العيد *** تضخ الضمير في الشريان
زلزلت في القديم إيوان كسرى *** هل تهز الغداة كسرى الزمان !
لما كانت قلوبنا تردد التكبير مع الألسن نصرنا بالرعب مسيرة شهر , وأحكمنا الأمر .
أن تكبيرنا في العيد إعلان لانتصار الدين على الدنيا والآخرة على الأولى , فالله أكبر من الدنيا ولذائذها , والله أكبر من كيد الأعداء ( ولذكر الله أكبر ) لقد دخلنا الأندلس لما كان نشيد طارق في العبور ( الله أكبر) وبقينا فيها زماناً كانت الهمة تغلب الشهوة , ذكر أهل السير أنه لما قدم لعبد الرحمن الداخل الخمر قال : إني لما يزيد في عقلي أحوج لا لما ينقصه .
الله أكبر ...
• خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حتى إذا وافاه العيد في المدينة لم يشاء أن يطفئ البسمة أو يطبق الشفاه , بل أعلن فرحة العيد وأظهر سروره به , مع أنه يلاقي ما يلاقي من كيد الأعداء ومكرهم .. لكنها العزائم القوية والنفوس الكبيرة التي تأبى إلا الفرح بفضل الله ورحمته وعظيم فيضه ومنته ، أليس يهزك الفرح حين تسمع بانتصار المسلمين في مكان مع أن جراحاتهم في أماكن أخرى لا زالت ملتهبة ودمائهم لا زالت نازفه .. إنها النفوس الكبيرة التي تجد متسعاً للفرح بفضل الله حتى وإن عظم الجرح .. نقول هذا لأناس يريدون منا أن نقضم شفاهنا ونقتل كل فرحة ونطفأ كل بسمة يريدون أن نحول أفراحنا إلى مناحة وأن كان ذلك منهم بحسن نيته لكن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل ...إن التزام المسلم للحزن والكآبة كل حين من شأنه أن يقعد النفوس عن العمل وأن يوقف الدم عن الحركة والذهن عن الفكرة فلا نستطيع بذلك أن نحرز نصراً أو نشبع جوعه أو نغيث لهفة وإنما نضع ضغثاً على إبالة !!
الله أكبر ...
• احذروا الركون إلى الدنيا وكفران النعم فإنكم تعيشون نعمة الأمن والصحة والغنى , في الوقت الذي يُتَخَطف الناس من حولكم في حروب طاحنة ومجاعات قاتلة وأمراض فتاكة (فاعتبروا يا أولي الأبصار ). اشتهت زوجة المعتمد بن عباد _أحد ولاة الأندلس _أن تمشي في الطين وتحمل القرب؟! (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) فأمر المعتمد أن ينثر المسك على الكافور والزعفران وتحمل قرباً من طيب المسك لتخوض فيه زوجته تحقيقاً لشهوتها , وتجري السنة الإلهية وتتهاوى حصون الإسلام في الأندلس بسبب اللهو والغفلة والإغراق في الشهوات , ليؤخذ المعتمد أسير إلى أغمات وتبقى بناته يتجرعن كأس الفقر بعد الغنى والذلة بعد العزة يغزلن للناس – يتكسبن – حتى إذا علم المعتمد بذلك تمثل يقول :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة *** أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية *** كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به *** فإنما بات بالأحلام مسرورا
( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )
الله أكبر ...
• احذروا كيد الأعداء فإنهم لا يريدون بكم خيرا وقد أخبركم ربكم بدوام عداوتهم لكم " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " وأنهم لن يرضوا عنكم إلا بانسلاخكم عن دينكم " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " لقد نطقوا بالحقد قديما وحديثاً (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) يقول (جلادستون) رئيس وزراء بريطانيا سابقاً " مادام هذا القران موجود في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق "
الله أكبر ...(/1)
• العيد استمرار على العهد وتوثيق للميثاق .. فيا من وفى في رمضان على أحسن حال لا تغير في شوال ..ويا من أدرك العيد عليك بشكر النعم والثناء عليه ولا تنقض غزلاً من بعد قوة وعناء ..(( (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل : 92 ) العيد بقاء على الخير وثبات على الجادة واستمرار في الطريق , قال بعض أصحاب سفيان الثوري خرجت مع سفيان يوم العيد فقال : إن أول ما نبدأ به يومنا هذا غض البصر .. ورجع حسان بن أبي سنان من عيده فقالت له امرأته كم من امرأة حسناء قد رأيت ؟! فقال : ما نظرت منذ خرجت إلا في أبهامي حتى رجعت .. هكذا فهم السلف العيد لم يجدوه فرصة للنظرات الخائنة وتقلب في المرد وأعين الغيد .. لا ((ما نظرت منذ خرجت إلا في أبهامي )) انشغال بالنفس عن الناس و تحديد لمحل النظر والانشغال به عن غيره حتى لا يطير البصر هنا أو هناك , فاحذر الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة فإن ذلك علامة مقت وخسران , قال يحي بن معاذ :" من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود , وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود , فصومه عليه مردود , وباب القبول في وجهه مسدود ". الله اكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
• حذار حذار من جلساء أصحاب السوء و اصطحاب آلات اللهو في المتنزهات والاستراحات والعكوف عليها فعن عمران قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يكون من أمتي قذف ومسخ وخسف قيل يا رسول الله ومتى ذلك قال : إذا ظهرت المعزف وكثرة القيان وشربت الخمور ) . حذا من جلساء السوء الذين لا يعينون على خير ولا يرشدون إلى طاعة , احذر أن تحضر مجالس لهوهم وغفلتهم فتكون ممن كثر سوادهم فقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:( من كثّر سواد قوم فهو منهم ،ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمل ) , ولا تنصب خيامك قرب مساكن الذين ظلموا أنفسهم ففي الأرض مراغماً كثيراً وسعة .
الله أكبر ...
• العيد فرصة لتحسين العلاقات وتسوية النزاعات وجمع الشمل ورأب الصدع وقطع العداوات المستشرية .ورحم الله من أعان على إعادة مياه المودة إلى مجاريها اجعل هدية العيد لهذا العام عفو وصفح وغفران " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " ما أجمل أن يكون العيد فرصة لصلة المتهاجرين والتقاء المتقاطعين .إن الرجل الكريم هو من يعفو عن الزلة ولا يحاسب على الهفوة حاله كما قال الأول :
وإن الذي بيني وبين بني أخي *** وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا نهشوا لحمي وفرت لحومهم *** وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
نعم ليس زعيم القوم من يحمل الحقدا ..ليس كريماً ولا عظيماً ولا سيداً من يجمع الأحقاد , ويحمل الضغائن ويداوم على الجفاء والقطيعة . إنه لابد لتحسين العلاقات من نفوس كبيرة تتسع لهضم البغضاء وقضم العداوات . (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى : 37 ) لقد دعا الإسلام إلى احتواء النزاعات بفعل المعروف – خاصة مع الأقارب – واعتبر ذلك من أفضل البر فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصدقة : الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) رواه أحمد وغيره
فأصلحوا ذات بينكم ( ولا يصدنكم الشيطان ) فإنه قد يزين للمسلم أن هذا التنازل عن الحقوق والصفح عن الهفوات نوع ضعف وعجز ومهانة , ولئن يؤثر المسلم أن يقال فيه ذلك خير له من أن يقع في بحور القطيعة وخطيئة التدابر وفي الحديث (( يأتي عليكم زمان يخير في الرجل بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور )) (رواه أحمد 2/278) وفي الحديث الصحيح ( وما زاد الله عبداً بعفو إلى عزا ) و ( إذا التقى المسلمين فخيرهما الذي يبدء بالسلام )
الله اكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله ا لحمد(/2)
• معاشر النساء أجبن نداء الله لكن حيث قال (((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (الأحزاب : 33 ) إنها آية عظيمة جامعة , لو تأملتها المرأة وعملت بها لحازت خير الدنيا والآخرة . إن الأصل في المرأة قرارها في البيت , إذ هي نور أركانه وسكون أرجائه , والخروج من البيت أمر طارئ لا يكون إلا لحاجة , البيت هو وظيفة المرأة الأساس فما بالنا نرى تهافت النساء على الخروج من البيت لحاجة ولغير حاجة والله يقول :(وقرن في بيوتكن) . إنَّ خير النساء امرأة البيت ففي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن خير نساء ركبن الإبل :نساء قريش :أحناه على ولدٍ في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده )) إن مكان المرأة في البيت لا يمكن أن يسده أحد , إن الخادمة في البيت قد تعد الطعام والشراب واللباس , وتنظف الملابس والبيت لكنها لا تستطيع أن تمنح البيت حنان الأم , حدثني أحد المشايخ الثقات فقال :( لي قريبة تدرس في إحدى المدارس فلما أرادة أن تخرج إلى المدرسة كعادتها لحق بها طفلها الصغير وهو يناديها فالتفتت إليه وقالت ماذا تريد فقال : أين تذهبين عني كل يوم فقالت: للمدرسة فقال ولماذا قالت :حتى آتي لك بالمال تشتري به ألعاب وحلوى _ وكأنها تريد أن تخفف عنه لوعة الفراق _ فلما جاء يوم وأرادت الخروج كعادتها لحق بها ينادي وهو يمد يده قد قبض بكفه على ريال وهو يقول ( خذي يا أماه واجلسي معي في البيت ) .
• عليكِ بخدمة الزوج والقيام معه بالطاعة , ورعاية أولاده وحفظ ماله ومتاعه فإن لك بذلك عظيم الأجر وجزيل العطاء ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضي دخلت الجنة ) رواه الترمذي وقال حديث حسن . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلت المرأة خمسها وصامت فرضها ، وحصنت فرجها , وأطاعت زوجها قيل لها : ادخلي من أي أبواب الجنة شئت ) رواه الخمسة وصححه الألباني . وروى الطبراني في معجمه وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بنسائكم في الجنة ( يعني نساء الدنيا ) قلنا بلى يا رسول الله قال: الولود الودود التي إذا غضبت أو أسئ لها إليها أو غضب زوجها قالت :هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى ) . ولعلك سمعت بخبر وافدة النساء التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل لكن , تلك هي أسماء بنت يزيد بن السكن قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين ,كلهن يقلن بقولي وعلى مثل رأي , إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء فآمنَّا بك وأتبعناك ،ونحن معاشر النساء مقصورات مخّدرات قواعد بيوت وإن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد , وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم وأولادهم ،أنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال : هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها فقالوا : بلى يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم :انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته وإتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال )) أخرجه احمد والدرامي والطيالسي وصححه الألباني . أما لك أسوة حسنة في عباسة بنت الفضل زوجة الإمام أحمد فقد قال عنها الإمام أحمد : أقمت مع ( أم صالح ) ثلاثين سنة !! فما اختلفت أنا وهي في كلمة !! ثم ماتت رحمها الله ) .
الله أكبر....
• احذري الخضوع في مخاطبة الرجال , ومخالطتهم وإبداء الزينة لهم , ابتعدي عن ذلك في أماكن العبادة كمكة وفي الأعياد والجمع فضلاً عن الأسواق والحدائق العامة عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد فاختلط رجال مع نساء في الطريق فقال صلى الله عليه وسلم :يا معشر النساء استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق ،قال أبو أسيد فقد رأيت المرأة تلتصق بالجدار حتى أن ثوبها يعلق بالجدار من شدة لصوقها به ).
• احذري مشابهة الكافرات والماجنات بحجة متابعة الموضة ( فمن تشبه بقوم فهو منهم ) وفي الحديث الصحيح ( صنفان من أمتي ...(/3)
• حافظي على عفافك وحجابك وحيائك (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب59) وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره )) صححه الألباني . احذري دعوات التغريب وسهام التضليل التي يقذف بها الأعداء . احذري تمييع الحجاب, فالحجاب ستر وليس زينة. ليس العباءة الضيقة ولا الشفافة ولا مطرزة الأكمام حجاباً شرعياً (بل هي فتنة ولا كن أكثر الناس لا يعلمون) .
• أيتها المرأة المسلمة في هذا البلاد : لقد صمدت كثيراً ودافعت التغريب طويلاً , فأنت آخر حصن بعدُ لم يسقط ولن يسقط بإذن الله .. لقد ضاق العلمانيون المنافقون بك ذرعاً فصاروا يحيكون المؤامرات لك ليلاً ونهاراً . فصموداً .. وصبراً ...وثباتاً .. واستعلاءً على كيد الشيطان وحزبه ( إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )
الله اكبر ...
• أيتها المسلمة ..الله لحكمته جعل القوامة بيد الرجل ( الرجال قوَّمُون على الناس ) فكان ذلك تكليفاً له بهذه الأمانة , من أجل رعاية البيت وحمايته وحفظه . وإن التمرد على القوامة والنشوز دون حق شرعي يعتبر من أعظم الذنوب التي يعاقب الله عليها ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ))
الله أكبر ...
• على الزوج أيضاً أن يتقي الله في زوجته فلا يظلمها ولا يضربها عليه أن يحفظ لها قيمتها وقدرها خصوصاً عند أولادها . عليك أيها الزوج أن تعلم أن رباط الزوجية رباط وثيق فهو رباط مصاحبة لا ينقطع بالموت (وصاحبته بنيه ) إنه عقد صحبة لا عقد رق وولاء وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال : (( كل نفس من بني آدم سيد فالرجل سيد أهله ،والمرأة سيدة بيتها )) رواه ابن السني وصححه الألباني . فالواجب أحترم سيادة المرأة في البيت وأن لا تسقط خاصة عند أولادها ، وحين يدوس الزوج كرامة المرأة وتفعل المرأة ذلك فهو إذن بسقوط البيت وتقويض خيامه وذهاب قيمته التربوية ودوره المرتقب .لابد أن يبنى البيت على المودة والرحمة (( وجعل بينكم مودة ورحمة )) وعلى العفو والصفح بين كل من الطرفين ((وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم )) وحين يرى أحد الطرفين من الآخر ما يسوؤه فليتذكر محاسنه وجوانب الكمال فيه فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا يفرك مؤمناً مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )) رواه مسلم
تسامح ولا تستوف حقك كله *** وأبق فلم يستوف قط كريم
أيها الرجال : إن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج مافي الضلع أعلاه (فيها الغيرة والعاطفة والليونة ) وكل ذلك أمر طبعي (وليس الذكر كالأنثى) فعلينا أن نتعلم كيف نتعامل مع هذا الاعوجاج الفطري والذي يعتبر منتهى الكمال في حقها فاستقامة المنجل في اعوجاجه ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )
الله أكبر ....
• وأنت تعيش العيد لا تنسى أن تعيشه بروح الجسد الواحد فتذكر إخوانك في فلسطين وما يلاقونه من شرذمة اليهود الغاصبين ، وفي أفغانستان والشيشان وكيف تكالبت عليهم قوى الكفر والطغيان وفي كشمير والفلبين والعراق . عليك بكثرة الدعاء لهم , وأجعل من موسم العيد إعادةً لقضيتهم ونشراً لصحيح أخبارهم ..وتذكر أنهم يعيشون العيد تحت قذائف الطائرات ودوي الدبابات ،كان الله لهم في العون وربط على قلوبهم وثبت أقدامهم .
الله أكبر ..
• إن نصر هذه الأمة قد انعقد غمامه وقد أقبلت أيامه فأحسنوا الظن بربكم واجمعوا مع الأمل حسن العمل , واعلموا أن الشدائد التي تمر بها الأمة هي أمارات ميلاد جديد بإذن الله فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا
لا تقولوا:
زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ
ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ
لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ
أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ
والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ
أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشرْ
غيرَ أنَّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ
أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ ، وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ
لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ....
ما دام لنا فيها وَلَدْ
الله أكبر...
• الكل ينشد الأمن والكل يحتاج إليه . إذا فالكل مطالب بتحيقه والحفاظ عليه
• لا بأس أن يهنئ بعضكم بعضاً في العيد لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم ( نداء الريان 2/376)(/4)
• وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة الطريق في العيد فعودوا من غير الطريق التي قدمتم فيها اقتداء بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )
دعاء ..... ...
صيد الفوائد
...(/5)
خطبة الوداع
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خطبة الرسول في حجة الوداع. 2- تقريرها لحقوق الإنسان. 3- مخالفة أحكام الجاهلية. 4- ذم الربا وبيان حرمته. 5- الوصية بالنساء. 6- مكر الكافرين بالمسلمين. 7- حرمة الاقتتال بين المسلمين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر ما لبس الحجاج ثياب الإحرام، وتجردوا من زينة الدنيا، فغدوا متساويين متآلفين يذكرون تجريد الموت لهم من ثيابهم مرة أخرى، إلا من مثل ثياب الإحرام، فاستعدوا لذلك بصالح الأعمال وكريم الفعال.
الله أكبر ما ارتفعت أصوات الحجيج بالتلبية، يعلنون بذلك استجابتهم لنداء ربهم واستعدادهم لتنفيذ أوامره وأوامر رسوله لأنهم جند الإسلام الميامين، وعباد الرحمن المطيعين.
الله أكبر ما طاف الطائفون حول البيت العتيق، تلهج ألسنتهم بالتسبيح والتمجيد والدعاء والاستغفار، يعلنون بطوافهم ارتباطهم الأبدي بهذا الدين. وأنه يدورون مع شرائعه حيث دارت، لا ينفكون عنها، ولا يبغون عنها حولاً.
الله أكبر ما قصد الحجاج أرض عرفات فاجتمعوا فيها، وذكرهم موقفهم هذا بموقف الحشر الأعظم فعاهدوا ربهم على إصلاح أنفسهم، وتغيير واقعهم، واستقامة سلوكهم.
الله أكبر ما رمى الحجاج الجمرات في أيام العيد، فكانت عهداً مع ربهم على رفض اغراءات الشيطان وتزيينه، وعدم العودة إلى الإصغاء لوسوسته وإضلاله.
الله أكبر لو علم المسلمون معنى العيد، وأنه احتفال بإتمام ركن من أركان الإسلام عظيم، لفرحوا بالطاعة، واستبشروا بالرحمة، وما جعلوه مناسبة للمعاصي والآثام والاختلاط وتبرج النساء فالفرحة للطائعين. أما العصاة، أما فاللائق بحالهم البكاء والحزن على ما فرطوا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
الله أكبر لو انتهز المسلمون فرحة العيد، فزادوا من قوة روابطهم بصلة الأرحام، وزيارة الأقارب والجيران والأصدقاء، وتفقد الأرامل والآيتام والضعفاء، لكان مجتمعهم كما وصف الرسول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[1].
الله أكبر لو جعل المسلمون العيد مناسبة كريمة لتصافي القلوب المتخاصمة، وغسل أدران الحقد والحسد والغل من نفوسهم المريضة، لصارت قلوبهم بيضاء نقية، ولعاشوا سعداء في الدنيا والآخرة. ألم يقل نبينا : ((دب إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة: ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك، أفشوا السلام بينكم)) [2].
أيها المسلمون: في مثل هذه الأيام، ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان,تحديداً في السنة العاشرة من الهجرة، حج نبينا الحبيب محمدحجة الوداع. والحقيقة أيها الأخوة أن الحديث عن رسول الله حبيب إلى كل قلب مسلم، مؤمن بالله تعالى. لماذا؟لأن له منة عظيمة على كل مسلم، وفضلاً كبيراً على كل مؤمن، إذ به أنقذنا الله تعالى من الكفر إلى الإيمان والإسلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبسنته عرفنا طاعة ربنا وعبادته، وعرفنا تفصيل سائر شعائر الإسلام لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
في هذه الحجة المباركة، وقف وخطب في المسلمين خطبة الوداع. إن هذه الخطبة التي ألقاها لا تستغرق إلا بضع دقائق، ولكنها أهم من خطب قد تستغرق ساعات. ولا عجب في ذلك فصاحبها عليه الصلاة والسلام، أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم، واختصرت له المعاني اختصاراً. فكان مما قاله : ((يا أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً))[3].
سبحان الله: وكأنه كان يشعر بدنو أجله ولقاء ربه، لهذا كان حديثه حديث مودع محب مخلص ناصح، يريد الخير لأمته من بعده.
ثم قال : ((أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا))[4].(/1)
نعم أعلنهاصريحة: نعم هذه هي حقوق الإنسان الحقيقية، وليست المزيفة أو المزدوجة، دم المسلم حرام، أي مسلم إلا بالحق وإلا فمن قتل مسلماً فقد قال الله فيه وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
ومال المسلم أيضاً حرام. أي مال مسلم، ولو كان شيئاً يسيراً فقد قال : ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق. فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله: وإن كان شيئاً يسيراً قال: وإن كان قضيباً من أراك)).
فأين هم الذين يعتدون على المسلمين فيسرقونهم أو ينهونهم، أو حتى يستولون على أجورهم بغير حق، أين هم عن هذا التهديد والوعيد، وما الذي سيفعلونه عندما يفضحهم الله يوم القيامة.
ثم قال : ((يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى)).
نعم مرة أخرى، يتحدث عن حقوق الإنسان، وينبه إلى أن ميزان الحق الذي يوزن به الناس يوم القيامة هو ميزان التقوى، لا ميزان الحسب والنسب والجاه والمال والشهرة، فكل هذا لا قيمة له في الإسلام. والنعرات الجاهلية والتفاخر بها تعتبر من أقصر الطرق الموصلة إلى النار والعياذ بالله.
والحقيقة يوجد من الناس اليوم من لا يزال يتمسك بالفخر بالأحساب والأنساب، ومن أجلها يوالي ويعادي، ويحب ويكره، بل ويزوج ويتزوج من أجلها، وأمثال هؤلاء الذين يقدمون الجنس أو اللغة أو الدم على الدين، أمثال هؤلاء قال نبيه : ((إن الله قد أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء (كبرها وفخرها)، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون (أحقر) على الله من الجعلان (حيوان الخنفساء) التي تدفع بأنفها النتن))[5] [البراز]. فهل يعتبر هؤلاء ويعرفوا أنه لا قيمة للإنسان إلا بالإسلام، وأنه من غير الإسلام لا يساوي شيئاً.
ثم قال : ((ألا كل شي من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ما أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)).
والذي ينبه عليه هنا أن كل ما كانت الجاهلية تفخر به وتتمسك من تقاليد وعادات واستعباد للناس، والحكم بينهم بشرائع باطلة، كل ذلك أخبر أنه موضوع تحت قدميه وأنه قد بطل ومات وللأسف فهناك من الناس من يصر على أن يضع هذه الأغلال على رأسه وفوق عينه، فإذا اصطدمت عاداتهم وتقاليدهم مع الدين، قدموا عاداتهم وتقاليدهم وأخروا الدين. وإذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله، فيما بينهم فضلوا التحاكم إلى قوانينهم وأعرافهم، فهل هؤلاء مسلمون يقول الله فيهم وفي أمثالهم: وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50].
وذكر رسول الله في خطبته الربا الذي حرمه بأمر من ربه، ويكفي في الربا أنه يضخم ثروات الأغنياء على حساب الفقراء. وهذا ما نراه الآن فالدول المسماة بالدول الكبرى استغلت الربا في استعباد الدول الفقيرة، وأسرها، حتى تبقى مأسورة لها على مدى الأيام، نعم إن الحضارة المادية التي تقود العالم اليوم، لا تعرف إلا الحاضر والربح العاجل أما قوله تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فهو حديث خرافة عندهم. لهذا فالاقتصاد العالمي القائم على الربا لن يعمر طويلاً بل سينهار والأيام ستظهر هذا الأمر.
ونفس الكلام على مستوى الأفراد، فالبعض يتعامل بالربا ولا يبالي. هل سأل عن رأي الشرع في ذلك، هل عرف حكم الإسلام في تعاملاته المالية، قليل من يفعل هذا رغم أن الأمر لا يحتاج إلى توضيح أكثر من قوله : ((إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام))[6] وقوله: ((درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية))[7] هل هناك ما هو أكثر من هذا الترهيب والوعيد، ولكن فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ [الحج:46].(/2)
ثم قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم (أسيرات) ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فادعو الله خيرا واستوصوا بهن)). الله أكبر: انظروا إلى تكريم الرسول للمرأة، بعد أن كانت لا قيمة لها في الجاهلية، بل كانت رمزاً للشر والخزي والعار، فأكرمها الإسلام بنتاً وأختاً وزوجة وأماً. فأكرمها بنتاً وأختاً فقال : ((ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له سداً من النار))[8] وعنها زوجة يقول : ((خياركم خيركم لأهله)) ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))[9] وعنها أماً قال : ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم)) ثلاث مرات[10]، وقال لرجل أتى للجهاد وترك أمه قال له: ((الزم رجلها، فثم الجنة)) وقال لآخر: ((الزمها (أي أمك) فإن الجنة تحت أقدامها))[11].
وليس هذا فقط، بل إن المرأة في ظل الإسلام كالرجل في الثواب والعقاب؟ومطلق المسؤولية والجزاء. وجعل لها حق البيع والشراء والتملك، بل وجعلت النفقة والكفالة على أبيها أو ولي أمرها إن كانت بكراً أو ثيباً، وعلى زوجها إن كانت زوجة، حتى ولو كانت من الثريات، وغير ذلك كثير.
لكن الكثير يتجاهلون هذه الوصايا العظيمة ولا يعملون بها. بل إن بعض الرجال لا يزال يتعامل مع النساء بعقلية الجاهلين القدامى، لا ترى المرأة منه إلا الظلم والإهانة والتحقير لها.
والمصيبة العظمى أن البعض من النساء يعتقدن أن هذا يحث لهن بسبب الدين، وهذا والله افتراء عظيم، فما من دين أنصف المرأة كما أنصفها الإسلام.
فلقد عهدنا المرأة أيام كان الإسلام مزدهراً. عهدناها فقيهة محدثة كأم المؤمنين عائشة، ومربية فاضلة كأسماء، وشاعرة مجيدة كالخنساء. ومجاهدة تلطم وجه الشرك وتصدع أعوان البغي كخولة. هكذا كانت المرأة المسلمة وما نزلت قيمتها وما أهبت وما ضيعت حقوقها إلا عندما قيل لها: تحرري وتطوري: إذا أردت الحضارة فاتركي الدين، واختلطي بالرجال وارفعي الحجاب، فضاعت المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين، فاختلطت وغنت ورقصت وتبرجت فصارت طعماً للذئاب الجائعة، والكلاب المفترسة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الله أكبر الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً - عباد الله. أقول ما تسمعون. واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.
[1] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الأدب – باب رحمة الناس والبهائم، حديث (6011)، ومسلم : كتاب البر والصلة والآداب – باب تراجم المؤمنين... حديث (2586).
[2] حسن، أخرجه أحمد (1648)، والترمذي : كتاب صفة القيامة – باب حدثنا سفيان بن ركيع ... حديث (2510)، والبزار (2232)، وذكره الضياء في المختارة (3/81)، وقال المنذري والهيثمي : رواه البزار بإسناد جيد الترغيب (3/285)، ومجمع الزوائد (8/30)، وحسّنه الألباني، صحيح الترمذي (2038).
[3] صحيح، وانظر ألفاظ خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : صحيح البخاري (1714، 4406، 5550)، صحيح مسلم (1218، 1679)، مسند أحمد (3/80)، (4/76)، (5/37)، سنن الترمذي (3087)، سنن ابن ماجه (3058).
[4] صحيح، أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب وعيد من اقتطع من مسلم ... حديث (137).
[5] حسن، أخرجه أحمد (2/361)، والترمذي : كتاب التفسير – باب سورة الحجرات، حديث (3270)، وقال : حديث غريب. وأبو داود : كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116). وصححه ابن حبان (3828). وحسن إسناده المنذري. الترغيب (3/376)، وحسنه الألباني، صحيح سنن أبي داود (4269).
[6] صحيح، أخرجه الطبراني في الأوسط (7151)، قال المنذري : رواه البيهقي بإسناد لا بأس به. الترغيب (3/5)، وصححه الألباني في الصحيحة (1871).
[7] صحيح، أخرجه أحمد (5/225) موقوفاً، والطبراني في الأوسط (2682) والدراقطني (3/16)، قال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح، الجمع (4/117)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (3/142)، والترمذي : كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النفقة ... (1912)، وصححه ابن حبان (446). قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين ورجال أحدهما، رجال الصحيح (8/157)، وصححه الألباني في الصحيحة (294).
[9] صحيح، أخرجه الترمذي : كتاب النكاح – باب حسن المعاشرة (1977)، وابن حبان : كتاب النكاح – باب معاشرة الزوجين – ذكر استحباب الاقتداء بالمصطفى ... حديث (4177). قال البوصيري في زوائد ابن ماجه : هذا إسناد ضعيف... ولكنه ذكر شواهد له (2/117، 118)، وصححه الألباني بشواهده. في السلسلة الصحيحة (285).(/3)
[10] صحيح، أخرجه أحمد (4/131) والبخاري في الأدب المفرد (60) وابن ماجه . كتاب الأدب – باب بر الوالدين، حديث (3661)، والبيهقي في الكبرى (4/179)، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد (4/99)، وذكره الحافظ في الفتح (10/402)، وحسن إسناده في التلخيص الحبير (4/10)، وصححه الألباني في الصحيحة (1666).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (3/429) و النسائي : كتاب الجهاد – باب الرخصة في التخلف... حديث (3104)، وابن ماجه: كتاب الجهاد – باب الرجل يغز وله أبواب، حديث (3781) . وذكره الضياء في المختارة (8/151) وصححه الحاكم (2/104)، وذكره الحافظ في الفتح (6/140)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2908).
الخطبة الثانية
... لك الحمد من قبل ومن بعد وأشهد أن لا إله إلا الله. صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. وصلاة وسلاماً على رسولنا الكريم، كلما أشرق صبح يوم جديد، وكلما أقبل على المسلمين عيد.
أيها المسلمون: لقد جاءنا العيد ومر أكثر من عام وفي كل بلد من بلاد المسلمين جرح ينزف ولا ندري عن أي جرح نتحدث. عن البوسنة والهرسك، أم عن فلسطين، أم عن كشمير، أم عن وعن وعن، أم نتحدث عن موقف الكفر وأهله في التعامل مع المسلمين.
انظروا وقارنوا قارنوا بين موقف الإسلام من أهل الكتاب، وموقف أهل الكتاب من المسلمين، انظروا إلى عدل الإسلام في قوله تعالى: لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. انظروا إلى أمير المؤمنين عمر يوم جلد ابن عمرو بن العاص والي مصر لأنه ضرب قبطياً مصرياً ظلماً، وقال قولته الخالدة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) انظروا وقارنوا هذه المواقف بما يفعله اليهود في فلسطين، والنصارى بالمسلمين في جميع أنحاء الأرض، وخاصة في البوسنة والهرسك والتي تشهد مذبحة للمسلمين، لم تحدث من قبل في عصرنا الحاضر: هل هذا هو التسامح الذي يدعونه؟ أهذه هي الحضارة؟ أهذه هي المدنية؟ أهذه هي حقوق الإنسان التي يزعمونها؟
ولكن لماذا نستغرب ونتعجب: لقد أخبرنا الله عن حقائقهم وما يحملونه في صدورهم لنا ولكن مشكلتنا نحن المسلمين أننا لا نسمع ولا نعقل ولا نفهم، وإلا فقد قال الله عنهم: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة:105]. وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا [البقرة:109]. وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. وقال: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8]. وقال: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10]. ولكن المسلمين نسوا أعداءهم الأصليين، نسوا كل ما يتعرضون له على أيديهم وأحبوهم بل وصاروا يقعون في بعضهم البعض ويقاتلون بعضهم البعض، والكفار يتفرجون وهم فرحون بما يحدث للمسلمين. لهذا كان مما قالهمحذراً في حجة الوداع: ((إنكم ستلقون ربكم فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض)) انظروا إليه وهو قلق على مستقبل أمته، ويريد الخير لها، ويحذرها من الشر ولكن هل عملت أمته بالوصية. للأسف الشديد؟ لا، وكما قلنا فهم الآن يقاتلون بعضهم بعضاً وبكل شراسة، بل إنهم لم يقاتلوا أعداء الإسلام من يهود وغيرهم، لم يقاتلوهم بمثل هذه القوة والشراسة والغلظة، وصار إهدار دم الإنسان المسلم من أسهل الأمور في كثير من بلاد المسلمين إلا من رحم الله مع أن النبي يقول: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم))[1] ويقول: ((قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق))[2] هذا في قتل المسلم لأسباب دنيوية، فكيف إذا كان قتله بسبب تمسكه بدينه وعقيدته ومطالبته بتحكيم شرع الله، لاشك بأن الأمر أخطر وأعظم.
ثم يختم حديثه بقوله: ((فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن تمسكتم به، كتاب الله وسنة رسوله ))[3] سبحان الله إنه يوصيهم وهو يودعهم، وهم يواجهون الحياة بعده، فيقول لهم: لستم وحدكم، معكم كتاب الله وسنتي، ميراث لا يعدله ميراث، فاحذروا التهاون به، فمن فعل ذلك فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
ثم وضع العلاج للناس من جميع المشاكل التي قد تعترض حياتهم، إنه في مصدرين لا ثالث لهما. ضمن لهم عند الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: القرآن والسنة، وهو يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده.(/4)
إن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس مقصوراً على عصر دون عصر، أو جيل دون جيل، بل هما صالحان لكل زمان ومكان. لهذا نحن نرى كثيراً من المسلمين اليوم وبسبب تفريطهم في اتباع الكتاب والسنة، يعانون من الهزائم والتخلف والإحباط. فهم لا يخرجون من فشل إلا دخلوا في فشل آخر وسيستمرون في فشلهم هذا حتى يعودوا إلى الله عودة صادقة حقيقية ويعملوا بالكتاب والسنة كما أمر الله.
وبعد أن انتهى من الخطبة العظيمة نادى في الناس قائلاً: ((إنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟)) فارتفعت الأصوات من حوله تصرخ وتقول: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع نظره إلى السماء وأشار بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس قائلاً: ((اللهم أشهد، اللهم أشهد، اللهم أشهد)) [4].
ونحن نقول اليوم نشهدك يا الله بأن رسولك ونبيك محمد قد بلغ وأدى ونصح، فجزاه الله خير ما يجزي نبياً عن أمته.
وإذا كان قد قضى حياته بطلاً مجاهداً صابراً مرابطاً، وترك بعده أصحابه الأبطال والذين قدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله وفي سبيل نصرة هذا الدين، وفي سبيل أن يصل إلينا نقياً صافياً. فما الذي فعلناه نحن؟ هل عرفنا قيمة ديننا؟ هل عملنا له؟ هل دعونا لله؟ ماذا قدمنا في سبيله؟ هل جاهدنا بأموالنا وأنفسنا؟ هل. . وهل؟
أسئلة كثيرة تدور في عقولنا، ولكن لا نملك إجابة عليها، بسبب تقاعسنا وكسلنا عن نصرة ديننا. فهل يدفعنا ما سمعناه سابقاً على أن نغير من أحوالنا إلى ما يحبه الله ويرضاه، نرجو ذلك ونتمناه، وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه. نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعاً وأن يوقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وأن يتغمدنا بلطفه وجوده ورحمته إنه على كل شيء قدير.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
[1] صحيح، أخرجه الترمذي : كتاب الديات – باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، حديث (1395)، والنسائي : كتاب تحريم الدم – باب تعظيم الدم (3987)، وابن ماجه : كتاب الريان – باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً (2619)، قال البوصيري في الزوائد: إسناد صحيح، رجاله ثقات (3/122)، وحسن المنذري إسناد ابن ماجه، الترغيب (3/201)، ورمز له السيوطي بالصحة، الجامع الصغير (7236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4954).
[2] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الإيمان – باب خوف المؤمن من حديث (48)، ومسلم : كتاب الإيمان – باب بيان قول النبي : ((سباب المسلم ..)) حديث (64).
[3] أخرجه المروزي في السنة (68) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ويشهد له حديث جابر عند مسلم في : الحج، باب : حجة النبي (1218).
[4] صحيح، أخرجه مسلم في الحج، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، بنحوه.(/5)
خطبة تطورات جريمة الصحيفة الدنماركية
27 / 12 / 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،
فإن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلينا محمد صلى الله عليه وسلم، مبشراً ونذيراً وداعياً إليه سبحانه بالحق وجعله سراجاً منيراً، وكان مع أصحابه عليه الصلاة والسلام قدوة هذه الأمة، { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوان سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فأستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }، فكان عليه الصلاة والسلام وأصحابه غيظاً على الكفار، لما أجرى الله على يديه من محو مذاهب الكفر ونشر نور الإيمان في ظلمات الجاهلية، هو محمد وهو أحمد، عليه الصلاة والسلام، وهو الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، فكأنه بعث ليحشر الناس، فهو أول أشراط الساعة عليه الصلاة والسلام، وهو الماحي الذي محا الله به الكفر، وهو العاقب الذي خلف من كان قبله من الأنبياء في الخير، وهو العاقب الذي ليس بعده نبي، كما أخبر بنفسه عليه الصلاة والسلام، وهو المتوكل الذي يتوكل على الله عزوجل، صفته موجودة في التوراة كما شهد من رآها من الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ( والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن )، { يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً }، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، وهو نبي التوبة صلى الله عليه وسلم الذي فتح الله به باب التوبة لجميع أهل الأرض، وهو نبي الرحمة الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وهو نبي الملاحم الذي بعث بجهاد أعداء الله، وهو رءوف رحيم كما وصفه بذلك ربه الرءوف الرحيم، وهو الفاتح الذي فتح الله به باب الهدى أعيننا عمياً، فتحها بالقرآن وآذانا صماً فتحها بهذا الوحي المبين، وقلوباً غلفاً فتحها بما جاء به من رب العالمين، فتح الله به أمصار الكفار وأبواب الجنة وطرق العلم النافع، وأبواب العمل الصالح، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، هو الشاهد، وهو المبشر والنذير، وهو الداعي إلى الله بإذنه، وهو السراج المنير، وهو الأمين عليه الصلاة والسلام، والمختار المصطفى، والشفيع المشفع، والصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، وهو الضحوك القتال، ضحوك في وجوه المؤمنين، غير عبوس ولا مقطب، وقتال لأعداء الله لا تأخذه فيهم لومة لائم، بشير يبشر من أطاع الله بالثواب، ونذير ينذر من عصى الله بالعقاب، { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده }، سماه ووصفه بهذه الصفة العظيمة صفة العبودية لأنه عليه الصلاة والسلام كملها ما لم يكملها مثله مخلوق، وهو عليه الصلاة والسلام سيراجاً وهاجاً ينير من غير إحراق.
محمد المصطفى المختار من ظهرت ... ... آياته فتسلى كل محزون
من خصه الله بالقرآن معجزة ... ... ما نالها مرسل قد جاء بالدين
لم يكن عليه الصلاة والسلام فظاً غليظاً ولا سخاباً بالأسواق، مثل هؤلاء الذين يلعنون ويشتمون ويسبون في المجامع، والمحافل، وأسواق الناس، ينطق بالحق لم يكن سباباً ولا فحاشاً متفحشاً عليه الصلاة والسلام، اصطفاه الله عزوجل، إن الله أصطفى كنانة من ولد إسماعيل، وأصطفى قريش من كنانة، وأصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، وشرح صدره.
ولأربع من عمره لما غدا ... ... مع صبية أترا به الرعيان
شرح الملائكة صدره واستخرجوا ... ... منه نصيب الداحض الشيطان
ولقد تطهر بعد عشر صدره ... ... من كل ما غل بشرح ثاني
وهكذا قام عليه الصلاة والسلام بحكمته وحصافته بجعل الحجر الأسود في مكانه لما اختلفت كفار قريش من الذي يضعه.
وبنت قريشا البيت حين تهدمت ... ... بالسيل منه قواعد الحيطان
وأشتد في الحجر الكريم نزاعهم ... ... من منه للرفع منه يعان
ثم ارتضوا فيه بأول داخل ... ... فأتى الأمين الطيب الأردان
وهو ابن خمس مع ثلاثين أحتوى ... ... حزم الكهول وقوة الشبان
هو قدوتنا وإمامنا وقائدنا وسيدنا عليه الصلاة والسلام، مدحه عبادة خص بسورة الحمد وبلواء الحمد وبالمقام المحمود، وسميت أمته بالحمادين الذين يحمدون الله تعالى في كل حال، كان عليه الصلاة والسلام نقياً في نسبه إلى آدم عليه السلام، لم يدخل في نسبه زناً ولا سفاح فهو مولود من أب، من زواج صحيح، من زواج صحيح، من زواج صحيح إلى آدم عليه السلام.
ولمدحه أولى وأجدر أن يرى ... ... فيه الهدى ويعان فيه معان
وعلى سفاح ما التقى يوماً ... ... من الأيام من آبائه أبوان
من كل صلب طاهر أفضى ... ... إلى أحشاء طاهرة الإزاء حصان(/1)
أخذت منه الرسل الكرام ... ... لنصره إن أدركه موافق الإيمان
وأخذ على كل نبي بعث الله عزوجل أنه إذا خرج محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في وقت ذلك النبي، أن ذلك النبي سيبايعه ويتبعه، أخذ العهد على كل نبي مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، بعثهم الله الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة وستون، كما جاء في حديث أحمد عن أبي ذر مرفوعاً وهو حديث حسن في عدد الأنبياء والرسل، ما من نبي منهم ولا رسول إلا أخذ الله عليه العهد والميثاق أنه إذا خرج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في وقت ذلك النبي إلا وكان واجباً محتماً على ذلك النبي أن يتبعه ويكون من جنده.
يعفوا ويصفحوا لا يجازي ... ... من أتى بإساءة النائي من العدوان
لا بالغليظ الفظ السخاب ... ... في الأسواق إذ يتشاجر الخصمان
لا ينتهي حتى يقيم الملة ... ... العوجاء بالتوحيد والتبيان
يشفي القلوب الغلف والآذان ... ... من صمم ويفتح أعين العميان
وهكذا عليه الصلاة والسلام خرج نوراً للعالمين، خرج خاتماً للنبيين، ولما قامت قريش بعدائه وصاروا يسبونه ويطلقون كلمة مذمم، قال عليه الصلاة والسلام: " ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد "، كان إذا سر استنار وجه حتى كأنه قطعة قمر.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ... لمال اليتامى عصمة للأرامل
هو الرحمة، يقول عليه الصلاة والسلام: " أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة "، هو أول شفيع في الجنة فضل على الأنبياء بست، كما قال لنا: " أعطيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون ".
وآتى بدين مستقيم واضح ... ... ظهرت شريعته على الأديان
فهدى قبائله فلم يتقبلوا ... ... بل قابلوا المعروف بالنكران
فضل الكرام المصطفين ... ... جميعهم بخصائص اجتمعت له ومعان
عما البرايا بالرسالة انسهم ... ... والجن ثمة خص بالفرقان
وهكذا بعث على رأس أربعين عليه الصلاة والسلام، طاهراً مطهراً صدوقاً أميناً، وحوضه مسيرة شهر، أكبر أحواض الأنبياء على الإطلاق، فصيح في غاية الفصاحة، حسن المنطق عليه الصلاة والسلام، أخلاق عالية، شهد له بها ربه، { وإنك لعلى خلق عظيم }، وكان أبغض الخلق إليه الكذب، هو أحسن الناس أخلاقاً، إذا عاتب يقول: " ما له ترب جبينه إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة "، هكذا قال لما قيل له: يا رسول الله أدعوا على المشركين، كان يتفاءل ولا يتشاءم، ويعجبه الاسم الحسن، كان يقبل بوجهه على عدوه في الكلام حتى يظن نفسه من أحسن الناس مقاماً عنده، ويتألف قلوب المقبلين، وهكذا يحسن دعوتهم، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم )، ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، ولم ينتقم عليه الصلاة والسلام لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها، ما ضرب شيئاً بيده قط ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله، كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة، يقول لأصاحبه فاتحاً أبواباً من الخير: " أشفعوا تؤجروا "، ويقضي الله على لسان رسوله بما شاء، بعث ليتمم صالح الأخلاق، وهو عليه الصلاة والسلام في غاية الزهد من الدنيا، يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، يمر الشهر والشهران وليس في بيته شيء يأكله، ذو كبد، ويهدي المسلمون إليه، والصدقة يردها.
والله أدبه فأحسن ربه ... ... تأديبه في السر والإعلان
يعفو عند الخصام، وهو عليه الصلاة والسلام في غاية التواضع كما أمره ربه بذلك، { وأخفض جناحك لمن أتبعك من المؤمنين }، ولذلك كانت الجارية الصغيرة وهي أمه تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم تنطلق به حيث شاءت، كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم، ولا يسأل شيئاً إلا أعطاه، يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، يتخلف عن الجيش ليزجي الضعيف ويردف ويدعوا لهم، يكثر الذكر ويطيل الصلاة، ولا يأنف ولا يستكبر أن يمضي مع الأرملة والمسكين ليقضي له حاجته، يجلس على الأرض ويأكل على الأرض، ولا يرد الطيب، كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه، وهو عليه الصلاة والسلام نهى أن يقوم أصحابه له، وهو نبي الله إذا دخل عليهم في المجلس.
ونهى الصحابة أن يقاما له ... ... وأن يطرأ وأن يطوى له عقبان
ركب الحمار بغير سرج ... ... موكفا والليف كان له من الأرسان
وقضى اليتامى والأرامل ... ... حقهم وكذاك حاجة أعبد وقيان
وأجاب دعوة من دعا ولو ... ... أنه عبد يباع بأحقر الأثمان(/2)
كان يجيب الدعوة ولو على ظلف شاة، ولو على عظم ليس عليه إلا لحم يسير، وهو الذي سامح الأعراب في مواطن كثيرة، وقد أغلظوا عليه وألحفوا به، وأكثروا سؤاله، وطرقوا بابه، وآذوه، ما بلغ عمراً إلا وقد حطمه الناس، نظرت إليه عائشة رضي الله عنها ونظر إليه أصحابه وقد حطمه الناس، وأثر ذلك في بدنه من كثر طرق الناس وغشيانهم له، عليه الصلاة والسلام أيده الله بالمعجزات، وكفاه شر الخليقة والناس.
وذراع شاة الخيبرية ... ... أصبحت بالسم تخبره بلا أكنان
وأعاد عين قتادة فتمـ ... ... ـيزت بجمالها في وجهه العينان
وتنام عيناه وليس بغافل ... ... لكن بقلب مبصر يقظان
ودعا عليا يوم خيبراً وهو ... ... لا يستطيع حرب أرمد الأجفان
فدعا له مع تفل ريقته ... ... فلم ترمد له من بعده عينان
وهكذا يشكوا البلاد وقحطها الأعرابي إليه فيقف على المنبر ويدعوا ربه.
فيا غيث السماء ... ... هلم بالهطلان
وهكذا يقيم المطر سبعاً.
وأقام سبعاً لا يريم فجاءه ... ... شاك يخاف تهدم الحيطان
فدعا فأحدقا بالمدينة صحوها ... ... بل عن سواها الغيث ليس بوان
وجلس الناس شهراً يحدثون بالخصب يأتون من البادية يحدثون عما رأو من الخير، لما نزل قول الله: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين }، قام عليه الصلاة والسلام بغاية الشجاعة يقاتل في سبيل الله، ويذب عن دين الله ويتصدى لأعداء الله، قال علي وهو الشجاع: ( لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو )، وكان من أشد الناس يومئذ باساً.
وعرى المدينة ليلة فرع فلم ... ... يسبقه ذو فرس من السرعان
ومضى يأم الصوت وهو ... ... مقلد بالسيف فوق عمرد عريان
وأتى ينادي لن تراعوا ... ... واصفا بالبحر سابق ذلك الميدان
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }، أتباعه نالوا كرامة الدنيا والآخرة، وهكذا نعيش اليوم من الخير الذي جاء به، وعلى الخير الذي أتى به، صار العرب بعد ما كانوا أوباشاً أمة مهابة، بل أسقطوا أعظم دولتين في ذلك الوقت الفارس والروم، فمن كان يصدق أن أعظم ابراطوريتين في ذلك الوقت تسقطان على يد أصحابه، وهو الذي رباهم على الشجاعة والإيمان عليه الصلاة والسلام، جاء بالعدل، " وأمرت لأعدل بينكم يعدل "، لما كلموه في المخزومية وهي قرشية من جماعته أبى إلا أن يقيم حد الله فيها، وهو بالمدينة عند الأنصار، وكذلك يعدل بين زوجاته يقدم النموذج للزوج في تعامله مع الزوجات، وهو أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يعيب طعاماً قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه، ينهى أصحابه عن الغيبة، ويقول: " لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر "، الله أكبر ما أعظمها من سياسة، للمدير مع الموظفين، وللرئيس مع المرؤوسين، " لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر "، يحلم على الجاهل ويصبر على الأذى، ويتبسم في وجه محدثه ويأخذ بيد المتعلم فيعلمه، كما علم ابن مسعود التشهد وكفه بين كفيه، يغير أسم القبيح ويتفاءل للمريض، فيقول له: " لا بأس طهور إن شاء الله "، وعنده كمال الأدب ومراعاة شعور الآخرين، وعنده الحس المرهف الذي يجعله لا يتنفس في الإناء، بل يتنفس خارج الإناء وهو يشرب منه ثلاثاً عليه الصلاة والسلام، وفي كمال عفته لم يصافح امرأة أجنبية قط حتى مع قيام الداعي في البيعة، حتى في بيعة النساء ما بايعهن إلا كلاماً عليه الصلاة والسلام.
وهو الجواد فليس يمنع سائلا ... ... ما قال لا في العدم ولا في الوجدان
بادي البشاشة باسم لوفوده ... ... يهتز منه للندى العطفان
كفاه أسخى بالعطاء للمجد ... ... من وابل الغيث المسف الدان
سبعين ألفا فضها في مجلس ... ... لم يبقى منها عنده فلسان
وآتاه أعرابي ألتمس الندى ... ... أعطاه شاة ضمها جبلان
ولكان أجود ما تكون يمينه ... ... بالبر والمعروف في رمضان
وهو أخشى الناس لله، وأعبد الناس لله، يصلي ولجوفيه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
ولقد بكى حتى تبلل حجره ... ... وبكى فبلى الأرض بالهملان
وتلا ابن مسعود عليه ... ... سورة فهمت لذلك مدامع الأجفان
يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم من توسطه ومراعاته لحق نفسه، وحق جسده، وحق ضيفه، وحق أهله، وحق الجهاد في سبيل الله.
اللهم إنا نسألك أن تصلي وتسلم وتبارك على محمد عبدك ورسولك، اللهم صل عليه ما تعاقب الليل والنهار، اللهم صل عليه ما ضرب المسلمون الكفار، اللهم صل وسلم وبارك عليه إنك أنت السميع العليم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه،، إنه هو الغفور الرحيم.(/3)
الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له، أكبره ولا أكفره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أشهد أنه رسول الله حقاً دعانا إلى الله وجاهد في سبيل الله، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، اللهم أجعلنا من أهل شفاعته، اللهم أسعدنا بإتباع سنته، اللهم أكرمنا بورود حوضه، اللهم أكرمنا بمجاورته في جنات النعيم.
محمد عليه الصلاة والسلام يجب أن يكون أحب إلينا من النفس والأهل والمال والولد، محمد صلى الله عليه وسلم له الفضل العظيم علينا بعد الله، من الذي أيقظنا من الجهالة والعمى؟، من الذي آتى بهذا الدين من عند الله؟، من الذي كان قدوة؟، من الذي طبق هذا الدين عملياً؟، من الذي قدمه لنا سيرة فتحت أبواب السعادة على يديه ومواطن الرحمة والقرب من الله بسببه؟، وزالت العداوات وألف بين القلوب، أقر العدل وأنتشر الإسلام في العالم.
ولسوف يبعثه الإله مقامه ... ... المحمود بعث مقرب منان
وله الوسيلة وهي أرفع ... ... رتبة خلصت له في جنة الحيوان
صلى عليه ذو المعارج ... ... ربه أزكى صلاة مارس الحسنان
عباد الله، وعندما قام ذلك المؤلف الآثم في بلاد الدنمارك بصنع ذلك الكتاب، شلت يمينه الذي يتهجم فيه على دين الإسلام، وأراد رسام سخرية يرسم له رسمت يجعلها على غلاف الكتاب، فأحجم الرسامون لما رأو من مصير فاندوخ الهولندي، فسمعت بذلك تلك الصحيفة المجرمة فجن جنونهم، كيف لا يتجرأ على المطلوب في عقر دارهم؟، فاستكتبت أربعين من الرسامين وجعلت مسابقة، فأحجم ثمانية وعشرون منهم واستجاب أثني عشر من المجرمين، الذين يفسدون ولا يصلحون ليرسموا تلك الرسوم المستهزئة، بنبينا صلى الله عليه وسلم، ويقوم المسلمون في تلك البلاد يحاولون يناصحون يتكلمون، فترفض الجريدة الاعتذار، ويذهبون لكبيرهم في الوزارة فيرفض استقبالهم، ويستقبل المرتدة الصومالية ويمنحها وساماً، لأنها تريد إنتاج فلم يطعن في دين الإسلام ونبي الإسلام، وشريعة الله والحجاب والأحكام، تشجيع الذين يريدون الطعن في دين الإسلام، سياسة ينتهجونها ويرفض التدخل في الموضوع، ويرفع المسلمون قضية فيرفض القاضي النظر فيها، فيقول: أين الجريمة؟، أعمى البصيرة لم يرى الجريمة، وهذا متوقع من مثل أولئك القوم، يتشدقون باحترام الأديان وعندما يأتي الواقع فإن العداء للسامية كما يقولون يعاقب عليه القانون، أما الطعن في نبي الإسلام فليس عليه من ملام.
عباد الله، عندما يطعن هؤلاء في عفة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، ورجولة نبينا عليه الصلاة والسلام، كما تدل على ذلك الرسومات الشنيعة القبيحة التي هم أولى بها، وهم أهلها وأحق بها، فعند ذلك لا بد أن تثور ثائرة المسلمين، لابد ولقد رأينا ولله الحمد نماذج طيبة مباركة، ورأينا استنكاراً عاماً وخاصاًً، وأموراً تحتذى في سحب السفراء، ورأينا أيضاً تلك الثورة العظيمة للمسلمين من أجل نبيهم الكريم، والهبة التي حصلت عندهم وهم يريدون التعبير بأي شكل عنها، بأي طريقة حتى المقاطعة، لو ما كان من التعبير إلا أن يقاطعوا بضائع القوم، وقد يقول قائل: ( إنها مليار ونصف مليار من الريالات في السنة )، وربما لا تمثل شيئاً كبيراً لهم، والحقيقة أيها الأخوة أنها تمثل شيئاً موجعاً لهم، لأن عبدت الدرهم والدينار يفهمون بهذا الأسلوب لا بغيره، ومهما كان من الأرباح التي تفوت فإنها بالنسبة لهم مخيفة خصوصاً إذا بدأت القضية ببلاد الحرمين ثم توسعت إلى بلدان العالم الإسلامي الأخرى، فكيف لو قاطع المسلمون في أنحاء العالم بضائع القوم؟، ولذلك فإن قناتهم الأولى قد تكلمت في الموضوع، وصحفهم قد أثارة المخاوف، وبدأو بخطة لكبح جماح هذه الهجمة المرتدة عليهم، ويريدون الآن امتصاص الصدمة واستيعاب الذي حدث، فإلى أي درجة سيعتذرون؟، وما هو المطلوب؟، ولا بد أن يكون في السياسة الشرعية مطالب واضحة من الخصوم، ما هو المطلوب؟، اعتذار علني من المجلة؟، أو من أعظم سلطة لديهم؟، أو ماذا؟، وحتى عندما يقومون المسلمون بالمقاطعة فلا بد أن يكون هنالك سياسة شرعية أيضاً، فربما يكون في المصلحة أن تحدد بمدة تبدأ وتنتهي فيها ليعلم حجم الخسائر والتفاعل والجدية في الموضوع، وتقديم نموذج لذلك وأن تنتهي عندما يحصل المطلوب منه،م ولا بد أن يفعلوا صاغرين.(/4)
أيها الأخوة، النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: " نصرت بالرعب "، بقي لنا من ذلك شيء ولو على قدر حالنا المتواضع في العالم، لكن بقي لنا منه قدر ولا زال الكفار يرتعبون منا، ولا زالوا يحسبون لنا الحسابات، ولا يزالون يخافون، يخافون من قيام ما يسمونه بالمارد الإسلامي، فماذا إذا أضيف إلى ذلك أخبار أخرى من نوع انتصار المنهج إسلامي في انتخابات فلسطين، وهو حدث مدون وسموه بتسونامي سياسي، عجيب،، وإنه لأمر طبيعي في هذه الأمة أن تختار الإسلام، ومن يريد تطبيق الإسلام، ومن يرفع راية الإسلام، ومن يريد أن يحكم بالإسلام، وأن يعيد الأمر إلى نصابه بهذه الشريعة، هذه شريعة العدل فقد سئموا الظلم، وسئموا النهب والسلب، وسئموا ما يحصل من أنواع البلطجة.
عباد الله، هذا تعبير في داخل الشعوب الإسلامية عما تريده من الشريعة، فهي تختار الشريعة وتريد الشريعة، ولا شيء غير الشريعة، إنه حدث مبارك، إنه أمر له دلالات عظيمة بغض النظر عما يمكن أن يتمخض ويتولد منه، وما يتحقق، وهل سيتحقق؟، أمر كثير أو قليل، ولكن الدلالات التي أغضت دول الكفر من اليهود والصليبين، ارتاعوا وخافوا، ممن؟ ماذا؟ من اختيار الأغلبية للشريعة، ومن يقوم بالشريعة، ويتحمس للشريعة، إنه حماس للشريعة.
عباد الله، إن المسألة اليوم في صراعنا مع هؤلاء لا بد أن تدار بالحكمة، ولقد أفرحنا ولله الحمد ما حصل ردود المسلمين في هذه الرسائل التي انتشرت بين الجوالات، بل على أشرطة القنوات، تلك الأشرطة المتحركة التي ترى فيها النصرة لله والنصرة لرسوله صلى الله عليه وسلم، والغيرة على الدين وإبداء الشعور بالعداوة لهؤلاء الكافرين، وعندما يقوم من تجار المسلمين من يشارك في ذلك وينضم إليه وتعلن بعض كبرى شركات التسويق والمراكز التسويقية الكبرى عن رفضها لذلك، وتلصق إعلانات علناً وتجعل على الأبواب والأماكن واضحة، لا نبيع منتجات كذا، إن هذه المسألة مهما قيل في جدواها أو أنها لن تطول ونحو ذلك،، لكن أيها الأخوة إن التعبير عن هذا والحركة من أجل ذلك فيها بركة، الحركة فيها بركة، والإنسان المسلم يتحرك بحسب الإمكان، وكل يفعل ما يمكنه، ولا بد أن يؤذي القوم، ولا بد أن يعتذروا صاغرين، لابد،، إن المؤشرات تدل على هذا وأن أهل الإسلام لو استمروا في هذا حتى يحدث المطلوب من الاعتذار والتراجع الصريح الواضح ولا شك، أن المطالب به سيكون على قدر قوة الأمة، فإن الحركة تبقى بين المسلمين فيما حصل حتى في المواقع والمنتديات، والرسائل الإلكترونية، وما أرسل عبر أجهزة الناسوخ والاتصالات وما حدث أيضاً من الإشارات والاستشارات.
إنها أيها الإخوة تدل على أن المسلمين فيهم غيرة وفيهم خير، وفيهم حركة، إنهم ليسوا بأموات، إنهم لا يزال فيهم حياة إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " ، فكيف إذا كان هذا المردود عنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعجبي من قوم أرسل الله إليهم محمداً رحمة، سبوه وشتموه ورسموه بهذه الرسوم الساخرة، والمطلوب أيها الأخوة أن يبقى زخم هذه الحركة في المسلمين، لأننا لا نعول على هذه الحادثة، والقضية فقط بل إنما سيترتب عليها، سيكون فيه ردعاً لغيرهم من بلدان الكفر وصحفه التي تخطط أو تفكر أو ستفكر مستقبلاً بعمل كهذا، ونحن نعلم أن المعركة مستمرة،
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم }، { وقد بددت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر}، ويريدون أن تكفروا كما كفروا لنكون سواء في الكفر.
نحن نعلم أن مسلسل سب النبي عليه الصلاة والسلام سيستمر، وسب الإسلام والشريعة، ولكن هذه من سنة التدافع التي قضاها الله، { ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض }، لو استمرت الأمور للكفار يسبون ويقاتلون بلا رد، ولا دفاع، ولا جهاد، ولا صد من أهل الإسلام لفسدت الأرض، لكن هذا الهجوم، وهذا الهجوم المقابل هذه حركة عالمية، حركة تاريخية، حركة كونية، الله عزوجل أراد ذلك، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض }، تفسيرها: ( لولا دفع الله الكفار بالمسلمين لفسدت الأرض هذه حركة التدافع سنة ربانية إلهية لا بد من إدراكها ولا بد أيضاً أن نميز بين أهل الاعتداء منهم )، والذين يستنكرون على قومهم فإننا لا نعادي في هذه الحركة أو نهاجم شعباً بأكمله، فإن منهم من يرفض من الدنمركيين أنفسهم، ومن بلدان أخرى من غيرهم، وإنما نخص هؤلاء الذين اعتدوا ولأن الاعتداء لا بد له من مقابل، ونخاطبهم باللغة التي يفهمونها، ونقول: أنتم تحتاجون نفطنا، ونحن لا نحتاج أجبانكم، يا دولة الأبقار والأجبان.
عباد الله، لكل مقام مقال، ولا بد أن يكون في المسلمين نظر وتطلع صحيح، وأخذ بالأسباب، والنتائج إلى الآن طيبة جداً ومبشرة بحمد الله عزوجل، ومن عمل خيراً فلنفسه، { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره }.(/5)
عباد الله، كلفنا الله بالعمل ولم يكلفنا بالنتيجة في موضوع الدعوة، { عليك البلاغ والله بصير بالعباد }، قال: {عليك البلاغ }، وقال: { ليس عليك هداهم }، فعلينا أن نعمل ما يمكن والله يبارك بالعمل المقدور عليه، ولو كان قليلاً يبارك فيه ويجعله أضعافاً مضاعفة في الدنيا وفي الآخرة.
وسيجعل الله لحركة أهل الإسلام في نفوس أولئك الخاوية سيجعل لها صداً عظيماً وسيكون فيهم رعب وخوف، وقلق وانزعاج، ولذلك فإنهم يتحركون لأجلها، ويزعموا الزاعم منهم أنهم بين نار حرية الرأي، وهجمة المسلمين، ومعلوم من أهل الأرض أن احترام الأديان عموماً أمر واقع لا بد منه، ومع ذلك فهم أول من يخالف، وهكذا يعاملوننا بالمعايير المزدوجة فيقولون: الديمقراطية،، وجئناكم بالديمقراطية، وإذا أتخب المسلمون ماذا قالوا؟، ها هذا!! فخافوا، وأرضوا، وأزبدوا، وأرعدوا.
عباد الله، ولا تزال تطلع على خائنة منهم.
اللهم أنصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم أجعل نصر المسلمين قريباً، اللهم أجعله نصراً عزيزاً، اللهم أخذل المشركين، اللهم ألقي في قلوبهم الرعب، اللهم أضرب قلوب بعضهم ببعض، اللهم خالف بين كلمتهم، اللهم أشدد وطأتك عليهم، اللهم أجعلها عليهم سني كسني يوسف، اللهم إنا نسألك أن تطمس على أموالهم، اللهم أطمس على أموالهم، اللهم أطمس على أموالهم، اللهم هؤلاء الذين كفروا يقاتلوننا عن ديننا، اللهم فأنصر أهل الإسلام يا رب العالمين، اللهم وأجعل بلدنا هذا آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا بسوء فخذه، ومن كادنا بشر فكده، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين،، والحمد لله رب العالمين.(/6)
خطبة رفع العتب
"إياد موسى"
بين همم الأئمة والخطباء وقدراتهم وتفاوت استشعارهم بقدر المنبر الذي يعتلون للخطبة يقع تباين عظيم وتعلو أقدار أئمة وتهبط أقدار أئمة آخرين.
في سفر ترويحي قضيته مع أسرتي في إحدى المدن الصناعية بالمملكة توافق أن كان يوم جمعة وبحثت عن جامع أصلي فيه.
استنصحت أحد زملائي في تلك المنطقة فأشار علي بأقرب جامع وأفضل القريب!!.
توجهت لذلك الجامع وإذا به ضخم البنيان واسع المساحات والكل إليه يتهافتون.
دخلت الجامع وفيه من الهيبة ما الله به عليم.
هدوء وخشوع وسكينة وقراءة لسورة الكهف ففضلها في هذا اليوم معلوم.
اقتربت قدر المستطاع من الصف الأول ومن المنبر حتى أكون من الخطيب قريباً.
رقى الخطيب المنبر وسلّم " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
رُفع بعدها الأذان وبدأ الخطيب في حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه الطيبين.
ثم شرع في خطبته التي اتسمت بالهدوء والصوت الخافت والرتابة والموضوع الميت، وأقصد بالميت أي غير المتصل بظروف المجتمع ولا حاجات الناس الحقيقية ولا التطبيقات العملية لأمور الشريعة، وإنما موضوع تعبير من صفحتين، اكتب سطراً واترك آخراً، كبّر من حجم الخط حتى تنجز الصفحات بأقل الكلمات.
لم تستغرق عملية دخول الخطيب وخروجه من المسجد سوى 15 دقيقة أو تقل وكل شيء قد انتهى!!.
أهذا هو مراد الشريعة من خطبة الجمعة؟ وهل لهذه الخمسة عشر دقيقة يجتمع الناس متعطشين إلى ما ينفعهم؟
هذه صورة باهتة لخطيب جمعة وضع الله بين يديه جامعاً ضخماً في منطقة أهلها متعلمون ومقتدرون ولا أستطيع القول إلا أنه أضاع هذه الهبة.
بخلاف خطيب آخر وصورة أخرى لإمام أحبه مصلوه وأنصتوا إليه على مدار الساعة التي يعتلي فيها منبره خطيباً ويؤمهم مصلياً، خطيب لا تقل مدة خطبته عن 45 دقيقة بل تزيد، متجدد في موضوعاته، منافح عن هموم أمته، مبين لأحكام دينه، مذكراً بربه واليوم الآخر، شاهر سيف الكلمة الحقة في وجه دعاة الفساد والرذيلة في المجتمع المسلم، ومن حرصه على إيصال كلمة الحق للآخرين حول العالم تنقل خطبته عبر مواقع الإنترنت وتحفظ في مواقع أخرى.
هذا نموذج امتلك من الميزات في جامعه ما بلغه صاحبنا الأول، ولكن همته غلبت همة ذاك واعتلت فوق السحاب ليصبح جامعه شعلة في النشاط على مدار اليوم وعلى مدار العام.
ففي يومه درس علمي بعد الفجر وآخر خفيف بعد العشاء، درس أسبوعي يشد له طلاب العلم رحالهم، وخطبة الجمعة التي تعد في حقيقتها درساً علمياً وتربوياً لا مادة ميتة تعرض على المصلين.
في رمضان له درسه العلمي الذي يحيي المسجد ويجدد لدى مرتاديه النشاط وفي إجازة الربيع كذلك وفي الصيف أيضاً.
ومسجده حيّ بحلق التحفيظ للكبار والصغار ونور الجامع منتشر حول العالم عبر شبكة الإنترنت.
فهلّا اتخذنا معاشر الخطباء والأئمة منه أنموذجاً لإحياء مساجدنا وإشعال نور منابرنا ليضيء قلوب المؤمنين وتحديداً أولئك الذين لا يحضرون إلى الجامع إلا يوم الجمعة وقد لا يصلون في حياتهم إلاها؟!!!!(/1)
خطبة عن الأحداث
"عبد الله قهبي"
عباد الله :إن الله هو الحق المبين ومن شأنه أن ينصر الحق قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } سورة الحج: 62, والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتزحزح ولا يزول، والله هو الحق، ومن سننه أن ينصر كل من يتمسك ويؤمن بالحق، ومن يدعو إلى الحق وكل من يدعو في سبيل الحق فهو منصور لا محالة قال تعالى {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة الأنفال: 10. ومن طلب النصر من غير الله فلن يناله، وإذا نصرك الله، فلن يخذلك أحد ولو اجتمعت عليك الدنيا بأقطارها، قال تعالى { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } آل عمران: 160.
فيمن سبق من الأمم وفي رسالات الأنبياء السابقين، كان الله تبارك وتعالى ينصر رسله، ويهلك أعداءهم بخوارق سماوية كما أهلك قوم نوح بالطوفان حين قال نوح {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } نوح: 26وأهلك قوم عاد الذين استكبروا في الأرض وقالوا من أشد منا قوة ، فقال الله لهم { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } فصلت: 15 فأرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية فجعلهم كأعجاز نخل خاوية وأرسل الصيحة على ثمود قوم صالح وأهلك فرعون الطاغية المتألة الذي قال للناس { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } النازعات: 24.
وهكذا {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } إبراهيم: 42. و إن الله ليملي للظالم حتي إذا أخذه لم يفلته..هكذا جرت سنة الله فيمن قبلنا، ولكن سنته في نصر هذه الأمة لن تظهر ألا إذا كانت أمة مؤمنة حقا ، قال تعالى { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} غافر: 51. و قال سبحانه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } الروم: 47. وقال سبحانه (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } المنافقون: 8. وقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا } الحج: 38. وقال سبحانه {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} النساء: 141 .
هذه وعود الله، ووعود الله لا تخلف {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } الرعد: 31. لأن الذي يخلف وعده إما عاجز عن تحقيق وعده وإما أن يكون كاذباً.. والله لا يكذب ولا يعجز.. وعد الله المؤمنين ولم يعد المسلمين.. فهل نحن مؤمنون حقاً هل حققنا أوصاف المؤمنين كما جاءتنا في القرآن هل نحن المذكورون في أول سورة الأنفال في قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } الأنفال: 2.
بعض المسلمين اليوم يتضايق من الصلاة وقراءة القرآن ، وبعضهم يحارب دين الله بقلمه وفعله وقوله ،،فأين الذين تقشعر جلوجهم من ذكر الله، هل نحن المؤمنون المذكورون في سورة المؤمنون { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( ) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ( ) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ( ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ..} المؤمنون: 1-5. هل نحن المؤمنون الذين قال الله فيهم { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } النساء: (65)، التسليم المطلق دون حرج أو سؤال لشرع الله واليقين بأنه الدين الحق الذي لا يأتي إلا بما يصلح العباد والبلاد ، فهل القرآن والسنة محكمان في حياتنا هل نحن مؤمنون حقاً هل نحن المؤمنون المذكورين في سورة الحجرات{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } الحجرات: (15) هل نحن الموصوفون بهذه الصفات أم بيننا وبين هؤلاء المؤمنين مسافات ومسافات..(/1)
هناك مؤمنون بيننا،ولا شك لكن الحكم علي الأغلبية، الغالب غافل عن دينه، مقصر في حقه ربه ، غارق في ذنبه، فكيف نححقق أوصاف المؤمنين الذين كتب الله لهم النصر بقوله (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } الروم: 47. هل نصرنا الله في أنفسنا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه حتى يتحقق لنا النصر قال تعالى { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } محمد: 7. فهل نصرنا الله حقا ، اليوم نرى المظاهرات من ألوف المسلمين يحرقون أعلام الكفار ونرى النساء متبرجات سافرات فهل بهذا يكون نصر الدين ، لا والله ثم لا والله لن يتنزل علينا النصر طالما هذا هو حالنا ،
عباد الله : درجات الإسلام ثلاثة المسلم وهو من يفرط في الواجبات وينتهك المحرمات ، والمؤمن وهو من يأتي بالواجبات ويبتعد عن المحرمات ، والمحسن وهو من يأتي بالواجبات والمستحبات ويبتعد عن المحرمات والمكروهات ، فمن أي فئة نحن قال تعالى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } فاطر: 32. وفي آية أخرى قسم الله سبحانه عباده إلى مقربين، وأصحاب يمين وأصحاب شمال.
عباد الله : ما يحل بأمة الإسلام اليوم هو بذنوبهم والله قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30. لقد هزم المسلمون في غزوة أحد بسبب ذنب وقعوا فيه بغير عمد فقال الله لهم (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }آل عمران: 165. هذه سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } النساء: 123. قال تعالى { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } 42. والله لن ينصر الأمة إلا الله وذلك بالرجوع والتضرع إليه ولسان حالنا يقول ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) لن ينصرنا مجلس الأمن الكافر بل ينصرنا الله القائل {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } آل عمران: 126.
فهلا تضرعنا وتبنا إليه قال تعالى {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } النمل:46. والاستغفار هنا التوبة الصادقة من كل معصية وتفريط والعودة الصادقة إلى الله بما أمر قال تعالى {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} الأحزاب: 17. فهيا نتخلى عن الشهوات والمحرمات والشبهات ، ولا نكن مخادعين لله فالله يعلم السر وأخفى ، قال تعالى { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } البقرة:9 ومتى ما حققنا الإيمان الصادق فسيكون السبيل للمؤمنين على الكافرين بعد أن كان للكافرين بذنوبنا وبعدنا عن ربنا وخالقنا قال تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } النساء: 141. يقول الله تعالى في غزة بدر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} الأنفال: 12. فلابد ان يوجد الذين آمنوا حتي تنزل الملائكة لتثبتهم وتكثر أعدادهم وتحارب في صفوفهم.. فالنصر يكون بالمؤمنين حقا لا ينتصر بذاته، الحق ينتصر بأهله، هذه سنة الله مع هذه الأمة وما قبلها،.. قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} الأنفال: 62. حليف للمؤمنين الموحدين المؤتلفين المترابطين الذين تراهم على قلب رجل واحد، كالجسد الواحد، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.. هؤلاء هم المؤمنون حقا هم الذين ينتصرون..
وهذا شأن أهل الإيمان قال تعالى عن أصحاب محمد {(أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.أما الذين يتفرقون ويتخاذلون ويكيد بعضهم لبعض.. فهيهات أن ينتصروا، فهذه أمة لم تحقق الإيمان المطلوب، بل يعادي بعضها بعضا، بل يقاتل بعضها بعضا، فكيف تنتصر الأمة وهي علي هذه الحال وأعداؤها يحاولون أن يجمعوا صفوفهم، وتختلف آراؤهم، ومع هذا فهم يتفقون علينا، بعضهم من بعض قال تعالى {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } الجاثية: 19. وقال تعالي:{(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } الأنفال: (73) . أي إلا يوالي بعضكم بعضا ويساند ويشد بعضكم أزر بعض، يكون فساد كبير لأنكم متفرقون وأعداؤكم مجتمعون.(/2)
عباد الله: سنن الله لا تحابي أحدا. انتصر المسلمون في بدر مع الرسول وكانوا أقل عددا وأقل عدة، واستعداداً، لم يكونوا متهيئين ليدخلوا معركة، قال تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} الأنفال: 42. كان قدر الله أن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.. الله أيدهم بنصره كما قال تعالي: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } الأنفال: 17. وفي غزوة أحد فقد المسلمون سبعين من الصحابة، استشهدوا في سبيل الله..
ولما تساءل المسلمون ما الذي حدث انتصرنا في بدر وانهزمنا في أحد قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } خالفتم أمر رسول الله حين قال للرماة قفوا مكانكم على هذا الجبل ولا تتحركوا ولو تخطفنا الطير ولكنهم حينما انتصر المسلمون تركوا أمكنتهم ظنا منهم أن المعركة انتهت بنصر المسلمين فكانت العاقبة للكافرين عليهم.
فياعباد الله : إنما ننتصر حينما نكون مع الله فيكون الله معنا،قال تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } وإذا كنا مع الله ومع سنن الله، كان الله وسنن الله معنا،لان النصر ليس بعيدا، النصر مرهون بأسبابه وشروطه، وإذا أخذنا في بأسباب النصر وأعددنا العدة نصرنا الله قال الصحابة لنبيهم {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ }فقال الله لهم {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } لكن ذلك لن يكزن إلا بعد أن ننصر الله في أنفسنا فنمتثل أوامره ونجتنب نواهيه نبتعد عن الشبهات والشهوات ،فليس النصر بالكثرة ولا بالعدة، النصر بالإيمان وبالأخلاق، النصر بالتضامن والترابط والتراحم والتكافل للمؤمنين المترابطين.. وهذا ما تحتاج إليه أمتنا..
الله لن يتخلي عنا، لكننا تخلينا عن الله، لو وضعنا أيدينا في يد الله لن يتخلي عنا، لكننا تخلينا عن الله، لو وضعنا أيدينا في يد الله ووثقنا بالله، لو مضينا في طريق الله خلف رسول الله وخلف كتاب الله، لو سرنا مسيرة أصحاب رسول الله ما هزمنا في معركة ولا في يوم من الأيام، ولكن عسى أن ننتفع بهذه الأحداث..
والمؤمن هو الذي يتعظ بعبر الأيام والشقي من لا يعتبر بشيء. أننا بمجرد أن نحقق شيئاً من شروط الإيمان من أوصاف المؤمنين نكسب بمقدارها من النصر،.. {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} محمد:7 . فأعزوا دين الله، اثبتوا، كونوا مع الله يكن الله معكم {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }160.(/3)
خطبة عيد الأضحى
عائض القرني
ملخص الخطبة
1- محامد وثناء على الله. 2- فضل لا إله إلا الله. 3- أثر هذه الكلمة في الصحابة. 4- موعظة الموت الصامتة. 5- موعظة لتارك الصلاة. 6- الوصية بصلة الأرحام. 7- واقع المسلمين وما في بلادهم من بلايا ومحن. 8- الخوف على الصحوة من المستهترين والمتشددين. 9- الوصية بكتاب الله ثم بالتوبة النصوح. 10- سنن العيد. 11- أحكام الأضحية.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر:1].
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً.
وتبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديراً.
الحمد لله خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول.
لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، لا إله إلا أنت.
في السماء ما ملكت، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لا إله إلا أنت.
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر كلما لمع نجم ولاح، الله أكبر كلما تضوع مسك وفاح، الله أكبر كلما غرد حمام وناح.
الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب، الله أكبر كلما رجع عبدٌ وأناب، الله أكبر كلما وسّد الأموات التراب.
الله أكبر ما وقف الحجيج بصعيد عرفات، وباتوا بمزدلفة في أحسن مبات، ورموا بمنى تلك الجمرات.
الله أكبر كلما ارتفع علم الإسلام، الله أكبر كلما طيف بالبيت الحرام، الله أكبر كلما دكدكت دولة الأصنام.
لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
لا إله إلا الله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وهو على كل شيء شهيد.
سبحان الله.. سبحان الله.
سبحان من قهر بقوته القياصرة، وكسر بعظمته الأكاسرة، الذين طغوا وبغوا، فأرداهم ظلمهم في الحافرة.
اللهم صل على نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية، وهديت به الإنسانية، وأنرت به أفكار البشرية، وزلزلت به كيان الوثنية.
اللهم صلّ وسلم على صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والصراط الممدود.
اللهم صل وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصيّ، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل.
اللهم صل على من رفعت له ذكره، وشرحت له صدره، ووضعت عنه وزره.
اللهم صل وسلم على من جعلته خاتم الأنبياء، وخير الأولياء وأبر الأصفياء، ومن تركنا على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا أهل الأهواء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. نعم، نعيش هذه المناسبة الكبرى يوم نتذكر فضل لا إله إلا الله، وعظمة لا إله إلا الله، وقدسية لا إله إلا الله.
أي أمة كنا قبل الإسلام، وأي جيل كنا قبل الإيمان، وأي كيان نحن بغير القرآن.
كنا قبل لا إله إلا الله أمة وثنية، أمة لا تعرف الله، أمة تسجد للحجر، أمة تغدر، أمة يقتل بعضها بعضاً، أمة عاقة، أمة لا تعرف من المبادئ شيئاً.
فلما أراد الله أن يرفع رأسها، وأن يعلي مجدها؛ أرسل إليها رسول الهدى .
هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسّرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تنتظر إلا رضاه سعى لها(/1)
فأتى عليه الصلاة والسلام، فصعد على الصفا. ونادى العشائر والبطون، ثم قال لهم لما اجتمعوا: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فقامت دعوته على لا إله إلا الله، كما كانت دعوة الأنبياء من قبله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
ومعنى لا إله إلا الله؛ لا معبود بحق إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ لا مطلوب ولا مرغوب ولا مدعو إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن تعيش عبداً لله، فتكون حياً بقوة لا إله إلا الله، وتموت على لا إله إلا الله، وتدخل الجنة على لا إله إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى بالله رباً وإلهاً فتتحاكم إلى شريعته، ولا ترضى شريعة غيرها. فمن رضي غيرها شريعة. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، ولا كلاماً، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى برسول الله قدوةً، وإماماً، ومربياً، ومعلماً، فتجعله أسوة لك: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى بالإسلام ديناً، فإنك إن لم ترض به ديناً غضب الله عليك، وكشف عنك ستره، ولم يحفظك فيمن حفظ، ولا تولاك فيمن تولى.
جاء بها فأعلنها صريحة؛ أنه لا إله إلا الله، فاستجاب له من أراد الله رفع درجته، وصمّ عنها من أراد الله عذابه في الدنيا والآخرة.
إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. استجاب له أصحابه الأبرار، وأحبابه الأطهار، فقتلوا بين يديه.
يأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري يوم أحد فيعلم أنه لا إله إلا الله، ويفيض حباً للا إله إلا الله، ويرفع طرفه قبل المعركة ويقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى[1].
فيقتل، ويقطع، يقول جابر بن عبد الله عن أبيه: لما كان يوم أحد جيء بأبي مٌسجيّ، وقد مثل به، فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، فرفعه رسول الله ، أو أمر به فرفع، فسمع صوت باكية أو صائحةٍ، فقال: ((من هذه؟))، فقالوا: بنت عمرو، أو أخت عمرو، فقال: ((ولم تبكي؟ فما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رُفع)).
وفي رواية قال جابر: فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني، ورسول الله ، لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه. فقال رسول الله : ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه))[2].
فجعل الله روحه، وأرواح إخوانه، في حواصل طير خضر ترد الجنة، فتأكل من أشجارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أي أمةٍ كنا، وأي أمة أصبحنا!! وأي أمة سوف نكون!!.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
عباد الله، يا من لبس الجديد، يا من اغتسل بالماء البارد، يا من أتيتم إلى هذا المصلّى، هل ذكرتم من صلى معكم في العام الماضي من الآباء والأجداد، من الأحباب والأولاد؟ أين ذهبوا؟ كيف اختطفهم هادم اللذات؟ آخذ البنين والبنات، مفرق الجماعات.
أسكتهم فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، والله لقد وُسدوا التراب، وفارقوا الأحباب، وابتعدوا عن الأصحاب، فهم من الحفر المظلمة مرتهنون بأعمالهم، كأنهم ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.
اختلف على وجوههم الدود، وضاقت عليهم ظلمة اللحود، وفارقوا كل مرغوب ومطلوب، وما بقيت معهم إلا الأعمال.
فهل ذكر ذاكر ذاك القدوم؟ وهل أعدّ لذاك المصير؟ وهل أعد العدة لذلك الموقف الخطير؟
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أيها الناس، أذكركم ونفسي بتلك الشعيرة العظيمة، بتلك الفريضة الجليلة، بالصلوات الخمس؛ لاحظ في الإسلام لمن تركها، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه.
تارك الصلاة عدو الله، عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله.
تارك الصلاة محارب لمنهج الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، مغضوب عليه في الأرض.
تارك الصلاة تلعنه الكائنات، والعجماوات، تتضرر النملة في جحرها من تارك الصلاة، وتلعنه الحيتان في الماء لأنه ترك الصلاة.
تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يصدّق، ولا يؤتمن.
تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله.
تارك الصلاة يأتي ولا حجة له يوم العرض الأكبر.
الله الله في الصلاة، فإنها آخر وصايا محمد قبل فراق الدنيا، وهو في سكرات الموت.(/2)
عباد الله، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، أوصيكم ونفسي بصلاة الجماعة، والمحافظة عليها في المساجد، فمن صلاها بلا عذر في بيته فلا قبلها الله، فإن من شروط صحتها صلاتها في جماعة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار))[3].
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله – عز وجل – بصلة الرحم؛ فإن الله تبارك وتعالى لعن قاطعي الأرحام، فقال عز من قائل: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
وقال جل ذكره: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
فقاطع الرحم ملعون، لعنه الله في كتابه، وصح عنه أنه قال: ((لما خلق الله الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك))[4].
فعهد الله أن يصل من وصل رحمه، وعهد الله أن يقطع من قطع رحمه.
وهذا العيد ـ يا عباد الله ـ من أكبر الفرص للعودة إلى الحي القيوم، فمن لم يعد إلى الله فما استفاد من العيد، ومن لم يتفقد أرحامه بالصلة والزيارة والبر فما عاش العيد.
العيد أن تصل من قطعك، العيد أن تعطي من حرمك، العيد أن تعفو عمن ظلمك، العيد أن تسلّ السخيمة من قلبك، العيد أن تخرج البغضاء من روحك، العيد أن تعود إلى جيرانك بالصفاء والحب والبسمة، العيد أن تدخل الطمأنينة في قلوب المسلمين، العيد ألا يخافك مسلم، قال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن والله لا يؤمن))، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))[5].
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أذكركم ونفسي آلاء الله، ونعم الله، وعطاء الله، فاشكروه سبحانه وتعالى يزدكم، فإنه من لم يشكر الله عز وجل، أصابه موعوده سبحانه وتعالى من الهلاك والدمار: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
انظروا أي نعمة نعيشها؛ نعمة الأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان، وتحكيم الشريعة والقرآن.
انظروا جيراننا من الدول والشعوب، يوم تركوا تحكيم شرع الله، وكتاب الله، غضب الله عليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
منهم من ابتلاه الله بالحروب فدكدكت منازله بالمدافع والقنابل والصواريخ، وقتل أطفاله وشرد عياله، فلم يعلم يمينه من شماله وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
ومنهم من ابتلاه الله بالأمراض والأسقام التي لم تكن من قبل، لأنه ارتكب الفاحشة، وابتعد عن منهج الله، وترك شريعة الله، فعاش الخوف والغضب، والمقت في الدنيا والآخرة.
فاذكروا هذه النعم، وتصدقوا عنها بالشكر والبذل والعطاء، وأداء ما افترض الله، فإن كثيراً من الشعوب التي ترونها تعيش الفقر والجوع، كانوا في أرغد العيش وأهنئه، لكنهم كفروا بنعمة الله، وبدلوا دين الله، وجحدوا شرع الله.
وهذه البلاد لما أنعم الله عليها بتحكيم الشريعة، رغد عيشها، وكثر خيرها، وهنأ شعبها، فليس لنا ـ والله ـ إلا أن نتمسك بهذا الدين، وأن نعضّ بالنواجذ على هدي سيد المرسلين، فهذا هو السبيل الوحيد لاستبقاء النعم وعدم زوالها.
الله أكبر.. والحمد لله كثيرا.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أيها المسلمون، تعيش الأمة الإسلامية اليوم صحوة إسلامية مباركة، تعيش الأمة عوداً حميداً إلى الله. نسأل الله أن يبارك هذه الصحوة، وأن يحفظها، وأن يثمرها، وأن يوجهها، وأن يهديها سواء السبيل.
لكننا نخاف على هذه الصحوة من صنفين:
· متشدد في دين الله، نفسُه نفسٌ خارجي، علم ظاهر القرآن، وأخذته العبادة عن حقائق الإيمان، فكفّر من شاء، وشهد لمن شاء بالإيمان، وأدخل في الدين من شاء، وأخرج من الدين من شاء. فهذا أول ما نخافه على هذه الصحوة المباركة.(/3)
فليست العبادة كل شيء، صح عنه أنه قال عن الخوارج: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية))[6]. وذلك لأنهم أخذوا ببعض النصوص وتركوا بعضها، فلم يتمكنوا من الاستنباط الصحيح، ولا عرفوا دلائل الألفاظ، ومقاصد الأدلة، فضلوا وضلوا حتى كفّروا كثيراً من الصحابة واستحلوا دماءهم.
ورجل مستهتر مستهزئ منافق جعل عباد الله فاكهته، فاستهزأ بهم في المجالس، وحقرهم في المنتديات، وجعل الدعاة غرضاً له؛ يقع في أعراضهم، ويسخر من حركاتهم وسكناتهم وهيآتهم.
قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66]. ولذلك كان هذا منافقاً معلوم النفاق، لأنه جعل أولياء الله عرضة للاستهزاء والاستهتار، فسموا الصالحين والدعاة متطرفين، ومتزمتين، وعصابة مشبوهة، وما أطلق ذلك إلا الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، وأتباعهم من العلمانيين والمستغربين.
عباد الله، إن هذه الصحوة ينبغي علينا تجاهها أمران: أولهما: أن نبارك وندعو لمن قام عليها من ولاة الأمور العاملين بكتاب الله وسنة رسوله، ومن العلماء المخلصين الناصحين للأمة، ومن الدعاة الأبرار الذين وجهوا الجيل إلى الطريق الصحيح.
والأمر الثاني: أن نتواصى بيننا في مساعدة أبنائنا وشبابنا في هذه المسيرة، فقد وُجد في البيوت من الآباء من حارب أبناءه يوم استقاموا، ويوم اتجهوا إلى الله، وهذه حربٌ صريحة على الله، ومحادة مكشوفة لدينه.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أوصيكم بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه.
كتاب الله، حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، كتاب الله، النور الذي لا ظلمة فيه. كتاب الله الهداية الذي لا ضلال بعده. قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
كتاب الله: لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
كتاب الله من استمسك به بلّغه الله منازل السعداء، ومن صدف عنه كبّه الله على وجهه في دركات الأشقياء، اقرؤوه آناء الليل والنهار، ضوعوا به بيوتكم تدارسوه مع أبنائكم، اجعلوه قربة تتقربون بها إلى ربكم.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
عباد الله، أوصيكم بالتوبة النصوح، وبالاستغفار من الذنوب والخطايا، يقول سبحانه وتعالى: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. ويقول جل ذكره: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135، 136].
عباد الله، إن من المعاصي التي انتشرت بصورة كبيرة في أوساط الشباب وغيرهم؛ جريمة تعاطي المخدرات، وما انتشرت هذه الجريمة إلا بسبب البعد عن الله وعن كتابه وسنة رسوله فامتلأت السجون بالشباب، لأنهم تركوا طريق المسجد، وتركوا تلاوة القرآن، وتركوا حلقات العلم، فابتلوا بهذه الخبيثة: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5].
ومن المعاصي كذلك تلك المجلات الخليعة، التي أظهرت المرأة معبوداً وصنماً فافتتن بها شباب الإسلام، زنت أبصارهم قبل فروجهم، فجعلوا الصورة الخليعة ـ إلا من رحم الله ـ معبودهم، فأخذهم الهوى، وأصابهم الوله، وضلوا بالعشق، لأن قلوبهم لم تمتلئ بذكر الله، ولم تعمر بلا إله إلا الله.
ومن المعاصي كذلك ـ عباد الله ـ ذلك الغناء والموسيقى الذي ملأ البيوت ـ إلا بيوت من رحم الله ـ من أصوات المغنين والمغنيات، والماجنين والماجنات، الأحياء منهم والأموات، وهذه معصية ظاهرة حورب الله بها تبارك وتعالى.
فالله الله في التوبة النصوح، وفي العودة إلى الواحد الأحد سبحانه وتعالى.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
العيد يا عباد الله معناه كما سلف؛ العودة إلى الله، ثم العودة إلى كتابه ثم العودة إلى سنة رسوله .
العيد يا عباد الله ليس بصف الموائد الشهية، ولا بركوب المراكب الوطية ولا بسكنى الفلل البهية.(/4)
العيد لمن خاف يوم الوعيد. العيد لمن استعد للعرض على الرب سبحانه وتعالى، العيد لمن اتقى الله في السر والعلن.
العيد لمن استعرض صحيفته فاستغفر من السيئات، وسأل الله التوفيق للأعمال الصالحات.
العيد لمن وصل ما بينه وبين الله، وما بينه وبين العباد، العيد لمن عمر بيته بالقرآن، وأخرج آلات اللهو ومغريات الشيطان.
العيد لمن أقام في بيته منهج القرآن، العيد لمن ضوع منزله بالأذكار الحسان.
إذا ما كنت لي عيداً فما أصنع بالعيد!!
جرى حبك في قلبي كجري الماء في العود
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
[1] لم أقف عليه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت (1293)، ومسلم في : فضائل الصحابة، باب : من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471)، من حديث جابر رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في : الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة (644)، ومسلم في : المساجد ومواضع الصلاة، باب : فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف (651)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4]أخرجه البخاري: في الأدب، باب : من وصل وصله الله (5987)، ومسلم في : البر والصلة، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2554)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في : الأدب، باب : إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في : المناقب، باب : علامات النبوة في الإسلام (3610)، ومسلم في : الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) واللفظ له ، من حديث أبي سعيد الخدري.
الخطبة الثانية
الحمد لله.. الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
كان من هدي المصطفى في العيدين؛ أنه كان يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى، وكان يخرج في الأضحى قبل أن يأكل شيئاً، بخلاف عيد الفطر فإنه كان يأكل تمرات كما أخبر أنس عنه . وفي رواية: يأكلهن وتراً[1].
وكان يخرج لابساً أحسن ملابسه، متطيباً بالمسك، يمشي بسكينة ووقار، يكبر ربه ـ تبارك وتعالى ـ.
وكان عليه الصلاة والسلام يخرج للعيد من طريق ويعود من طريق آخر.
قال جابر بن عبد الله: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق[2]. وذكر العلماء لذلك حكماً جليلة.
منها: إظهار قوة الإسلام والمسلمين في كل مكان.
ومنها: أنك تمر على أكبر عدد من المسلمين فتسلم عليهم.
ومنها: إغاظة أعداء الإسلام.
ومنها: قضاء حوائج من له حاجة من المسلمين.
ومنها: أن يشهد لك الحفظة والملائكة الذين يقفون على الطرق.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.
لا إله إلا الله.. والله أكبر.
الله أكبر.. ولله الحمد.
وكان إذا وصل إلى المصلّى يبدأ بالصلاة قبل الخطبة فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى قبل القراءة سبع تكبيرات منها تكبيرة الافتتاح، ثم يقرأ الفاتحة: وسَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]. وفي الركعة الثانية يكبر خمس تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[3][الغاشية:1]. وربما قرأ في الأولى: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ. والثانية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ[4][القمر:1].
وكان إذا انتهى من الصلاة، وقف على راحلته مستقبلاً الناس، وهم صفوف جلوس، فخطبهم بخطبة جليلة، يبين فيها أسس العقائد والأحكام، ويأمر المسلمين بالصدقة، ثم يتوجه إلى النساء فيخطُبُهن، ويذكرهنّ.
عباد الله، يسن إذا رجع الإنسان من المصلى يوم الأضحى أن يبدأ قبل كل شيء بذبح أضحيته إن كان مستطيعاً فيسمي ويكبر، ويذبح الأضحية.
والأضحية في الإسلام شأنها جليل وحكمها نبيلة وعظيمة، منها: أنها فداء لإسماعيل عليه السلام.
ومنها: أنها قربة إلى الله الواحد الأحد بالذبح في هذا اليوم العظيم، فإذا ذبحتها فإن السنة أن تأكل ثلثها، وأن تتصدق بثلثها، وأن تهدي ثلثها، وإن فعلت غير ذلك فالأمر فيه سعة، ولكنه خلاف الأولى.
والأضحية ـ يا عباد الله ـ لابد أن تُستسمن، وأن تختار، وأن تصطفى؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فلا تجزئ العوراء البيّن عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا الهزيلة، ولا العضباء، التي كسر النصف من قرنها أو أكثر، ولا ما قطع نصف أذنها أو أكثر.
ويكره الشرقاء التي انشقت أذنها طولاً، أو الخرقاء التي خرقت أذنها.
والسنة ألا يضحّى من الضأن إلا بالجذع[5] فأكبر، وأما المعز فالثنية[6] فأكبر، سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.(/5)
فاذكروا الله على ما هداكم، وكبروه ـ سبحانه وتعالى ـ واحمدوه على النعم الجليلة، والمواهب النبيلة، فإنه ـ والله ـ ما حفظت النعم إلا بالشكر، وما ضيعت إلا بالكفر.
فنعوذ بالله أن نكون من قوم بدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار.
ونعوذ بالله أن نكون من قوم أنعم الله عليهم بنعم، فجعلوها أسباباً إلى المعاصي، وطرقاً للشهوات والمخالفات.
[1] أخرجه البخاري في : العيدين، باب : الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953).
[2] صحيح، أخرجه البخاري في: العيدين ، باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد (986).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: الجمعة – باب ما يقرأ به في صلاة الجمعة (878) من حديث النعمان بن بشير.
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة العيدين – باب ما يقرأه في صلاة العيدين (891) من حديث أبي واقد الليثي.
[5] قال ابن الأثير في النهاية (1/250) : أصل الجذع : من أسنان الدواب ، وهو ما كان منها شاباً فتياً ، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية ، وقيل: البقر في الثالثة ، ومن الضأن ما تمت له سنة ، وقيل أقل منها.
[6] النية من المعز : ما دخل في السنة الثالثة . النهاية (1/226).(/6)
خطبة عيد الأضحى علي بن عبد الرحمن الحذيفي
ملخص الخطبة
1- لكل أمة عيد. 2- عيدا المسلمين. 3- أعمال يوم النحر. 4- معاني العيد ومقاصده الجليلة. 5- أهمية التوحيد. 6- شهادة أن محمداً رسول الله. 7- شهود جمع المسلمين. 8- تقوية الرابطة الإيمانية. 9- محاسن الإسلام. 10- فضل الأضحية. 11- الحث على المحافظة على أركان الإسلام العملية. 12- الحث على مكارم الأخلاق. 13- التحذير من الشرك. 14- التحذير من كبائر الذنوب. 15- أفضل الأيام. 16- أحكام الأضحية. 17- موعظة للنساء. 18- التذكير بنعم الله تعالى. 19- حقيقة العيد. 20- سنة التكبير. 21- التذكير بالموت.
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوه حق التقوى، والزموا عروة الإسلام الوثقى، فتقوى الله خير زادكم، وعدتكم ووسيلتكم إلى ربكم.
عباد الله، إن لكل أمة من الأمم عيداً يعود عليهم في يوم معلوم، يتضمن عقيدتها وأخلاقها وفلسفة حياتها، فمن الأعياد ما هو منبثق ونابع من الأفكار البشرية البعيدة عن وحي الله تعالى، وهي أعياد العقائد غير الإسلامية، وأما عيد الأضحى وعيد الفطر فقد شرعهما الله تعالى لأمة الإسلام، قال الله تعالى: لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا [الحج:34]، روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس قال: (منسكاً أي: عيداً)[1] فيكون معنى الآية أن الله جعل لكل أمة عيداً شرعياً أو عيداً قدرياً.
وعيد الأضحى وعيد الفطر يكونان بعد ركن من أركان الإسلام، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يكون بعد عبادة الصوم، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما قال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال: ((قد أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود والنسائي[2].
فعيد الأضحى جعله الله يوم العاشر من ذي الحجة بعد الوقوف بعرفة ركنِ الحج الأعظم، وشرع في هذا العيد أعمالاً جليلة صالحة يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى، وسماه الله يوم الحجر الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج تكون في يوم هذا العيد، والله عز وجل برحمته وحكمته وعلمه وقدرته شرع الأعمال الصالحة والقربات الجليلة، ودعا الناس كلهم إلى فعلها قربةً إلى الله وزلفى عنده كما قال تعالى: سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [المائدة:48]، فإذا لم يُمكن أن يعمل المسلم بعض الطاعات لأجل اختصاصها بمكان أو بزمان شرع الله له طاعات من جنس ونوع تلك الطاعات المختصة بالمكان أو الزمان، فيوم عرفة عيد لحجاج بيت الله الحرام، واجتماع لهم وتضرع لله عز وجل، فمن لم يحج شرع الله له صلاة عيد الأضحى في جمع المسلمين، وشرع له صيام عرفة الذي يكفر السنة الماضية والآتية، وقربانُ الحاج وذبائحهم شرع الله مقابل ذلك أضحية المقيم، فأبواب الخيرات كثيرة ميسرة، وطرق البر ممهَّدة واسعة، ليستكثر المسلم من أنواع الطاعات لحياته الأبدية بقدر ما يوفقه الله تعالى.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.(/1)
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة، ومقاصد عظيمة فضيلة، وحِكماً بديعة، أولى معاني العيد في الإسلام توحيد الله تعالى لإفراد الله عز وجل بالعبادة في الدعاء والخوف والرجاء والاستعاذة والاستعانة، والتوكل والرغبة والرهبة والذبح والنذر لله تبارك وتعالى، وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا التوحيد هو أصل الدين الذي ينبني عليه كل فرع من الشريعة، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله المدلولِ عليه بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الذي نقرؤه في صلاة العيد وغيرها من الصلوات، والتوحيد هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنات النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمل، وخُلِّد في النار أبداًً. والمتأمل في تاريخ البشرية يجد أن الانحراف والضلال والبدع وقع في التوحيد أولاً ثم في فروع الدين. فتمسك ـ أيها المسلم ـ بهذا الأصل العظيم، فهو حق الله عليك وعهد الله الذي أخذه على بني آدم في عالم الأرواح، وقد أكد الله في القرآن العظيم توحيد الله بالعبادة، وعظم شأنه، فما من سورة في كتاب الله إلا وهي تأمر بالتوحيد نصاً أو تضمناً أو التزاماً، أو تذكر ثواب الموحدين أو عقوبات المشركين، فمن وفى بحق الله تعالى وفى الله له بوعده، تفضُّلاً منه سبحانه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) رواه البخاري[3]. فالتوحيد أول الأمر وآخره.
وثاني معاني العيد تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله التي ننطق بها في التشهد في صلاة العيد وغيْرها من الصلوات، إن معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعة أمره واجتناب نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بما شرع مع محبته وتوقيره، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54].
ومن حكم العيد ومنافعه العظيمة شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين، إظهاراً لفقر العباد لربهم، وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضاً لنفحات الله وهباته التي لا تُحد ولا تُعد، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم[4]. فتشهد النساء العيد غير متبرجات وغير متعطرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى، التواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[5]، وفي الحديث: ((ليس منا من لم يرحم الصغير، ويوقر الكبير))[6]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم)) رواه أبو داود بإسناد جيد[7].
والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم[8]. فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى، عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي[9].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.(/2)
عباد الله، إن من غايات العيد ومنافعه إعلان تعاليم شريعة الإسلام ونشرها في المجامع ومشاهد المسلمين، وتبليغها على رؤوس الأشهاد، ليأخذها ويتلقاها الجيل عن الجيل، والآخر عن الأول، علماً وعملاً مطبَّقاً، فتستقر تعاليم الإسلام في سويداء القلوب، ويحفظها ويعمل بها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وخطبةُ العيد التي شرعها رسول الله تشتمل على أحكام الإسلام السامية، وتشريعاته الحكيمة. وظهور فرائض الإسلام وتشريعاته وأحكامه هي القوة الذاتية لبقاء الإسلام خالداً إلى يوم القيامة، فلا يُنسى، ولا يُغيَّر، ولا تُؤوَّل أحكامه، ولا تنحرف تعاليمه.
أيها المسلمون، عيد الأضحى ترتبط فيه أمة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمة المسلمة عميقة جذور الحق في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوشائج عبر الزمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم عليه الصلاة والسلام الأرض، وتنزل كلام الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عبر العصور الخالية، قال الله تعالى: إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وختم الله الرسل عليهم الصلاة والسلام بسيد البشر محمد الذي أمره الله باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بقوله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فكانت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع الشرائع، فلا يقبل الله إلا الإسلام ديناً، ولا يقبل غيره، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)) رواه مسلم[10].
فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق والدين القيم، ملة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ودين الخليل محمد ، وعيد الأضحى يربطكم بهذين الخليلين النبيين العظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من القربات والطاعات، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله : ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم)) قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)) رواه ابن ماجه[11].
وذلك أن الله أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام قرباناً إلى الله، فبادر إلى ذبحه مسارعاً، واستسلم إسماعيل صابراً، فلما تمَّ مرادُ الله تعالى بابتلاء خليله إبراهيم عليه السلام، وتأكد عزمه، وشرع في ذبح ابنه، فلم يبق إلا اللحم والدم، فداه الله بذبح عظيم، فعَلِم الله عِلم وجود أن خلة إبراهيم ومحبته لربه لا يزاحمها محبة شيء، والأضحية والقرابين في منى تذكير بهذا العمل الجليل الذي كان من إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة، فإنها عماد الإسلام، وناهية عن الفحشاء والآثام، وهي العهد بين العبد وربه، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة هي الصلاة، فإن قبلت قبلت وسائر العمل، وإن ردت ردت وسائر العمل. وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تطهروا بها نفوسكم، وتحفظوا بها أموالكم من المهالك، وتحسنوا بها إلى الفقراء، وتثابوا على ذلك أعظم الثواب، فقد تفضل الله عليكم بالكثير، ورضي منكم بنفقة اليسير. وصوموا شهر رمضان، وحجوا بيت الله الحرام، فإنهما من أعظم أركان الإسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عمل يعجِّل الله ثوابه في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من حسن الثواب، كما أن العقوق والقطيعة ومنع الخير مما يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجل لصاحبه في الآخرة من أليم العقاب.
وارعوا ـ معشر المسلمين ـ حقوق الجار، وفي الحديث: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه))[12] يعني شره. وأمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر فإنهما حارسان للمجتمع، وسياجان للإسلام، وأمان من العقوبات التي تعم الأنام، وإياكم وأنواع الشرك التي تبطل التوحيد، التي يقع فيها من لا علم له كدعاء الأنبياء والصالحين والطواف على قبورهم وطلب الغوث منهم، أو طلب كشف الكربات منهم والشدائد، أو دعائهم بجلب النفع أو دفع الضر، أو الذبح أو النذر لغير الله تعالى، أو الاستعاذة بغير الله تعالى، قال الله عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].(/3)
وإياكم وقتل النفس المحرمة، والزنا، فقد قرن الله ذلك في كتابه بالشرك بالله عز وجل، قال تعالى: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، ومعنى أَثاما بئر في قعر جهنم والعياذ بالله، وفي الحديث: ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً))[13]، وعن الهيثم عن مالك الطائي عن النبي قال: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له)) رواه ابن أبي الدنيا[14].
وعمل قوم لوط أعظم من الزنا، فقد لعن فاعله رسول الله [15]، والسحاق نوع من الزنا، وخبث من الخبائث المحرمة، وإياكم والربا فإنه محق للكسب، وغضب للرب، عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: ((الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه)) رواه الطبراني في الأوسط[16].
وإياكم والتعرض لأموال المسلمين والمستضعفين، فإن اختلاطه بالحلال دمار ونار، وإياكم والرشوة وشهادة الزور فإنها مضيعة للحقوق مؤيِّدة للباطل، ومن كان مع الباطل أحلَّه الله دار البوار، وجلَّله الإثم والعار، فقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي[17]، وقرن الله شهادة الزور بالشرك بالله عز وجل.
وإياكم والخمر وأنواع المسكرات والدخان والمخدرات، فإنها تفسد القلب، وتغتال العقل، وتدمر البدن، وتمسخ الخُلُق الفاضل، وتغضب الرب، وتفتك بالمجتمع، ويختل بسببها التدبير، عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي[18].
وإياكم والغيبة والنميمة فإن المطعون في عرضه يأخذ من حسنات المغتاب بقدر مظلمته، عن حذيفة مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قتات)) يعني: نمام، متفق عليه[19].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2856)، وكذا مسلم في الإيمان (30).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1652)، ومسلم في العيدين (890) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) واللفظ له.
[6] أخرجه الترمذي في البر، باب: ما جاء في رحمة الصبيان (1919) من طريق زربي عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وزربي له أحاديث مناكير عن أنس بن مالك وغيره"، لكن للحديث شواهد منها عن عبد الله بن عمرو أخرجه أحمد (2/207)، والبخاري في الأدب المفرد (358)، والترمذي (1920) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الصحيحة (2196).
[7] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767) والحاكم (2/116، 157) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (54).
[9] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1/183)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/127): "هذا حديث صحيح حسن"، وصحح سنده المنذري في الترغيب (3/349)، والبوصيري في مصباح الزجاجة، وهو في صحيح الترغيب (2889).
[10] أخرجه مسلم في الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/4)
[11] أخرجه أحمد (4/368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/197) من طريق عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال الحاكم (2/422): "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي والمنذري في الترغيب (2/99)، فقال: "بل واهيه، عائذ الله المجاشعي وأبو داود وهو نفيع بن الحارث الأعمى، وكلاهما ساقط"، وضعفه البوصيري في الزوائد، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه (672): "ضعيف جداً".
[12] أخرجه البخاري في الأدب (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[14] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190) والهيثم بن مالك الطائي تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في الضعيفة (1580).
[15] أخرج أحمد (1/309)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، والبيهقي (8/231) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) في حديث طويل. وصححه ابن حبان (4417)، والحاكم (4/356)، وذكره الألباني في صحيح الترغيب (2421).
[16] أخرجه الطبراني في الأوسط (7151)، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[17] أخرجه أحمد (11/87)، (6532)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (586)، وابن حبان (5077)، والحاكم (4/102، 103)، ووافقه الذهبي.
[18] أخرجه مسلم في الأشربة (2002).
[19] أخرجه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105).
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أحمد ربي وأشكره على نعمه وآلائه التي لا تحصى ولا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الصمد، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سنن الرشد، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والسؤدد.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ بطلب مرضاته، والبعد عن محرماته، واعلموا أن يومكم هذا يوم جليل، وأن عيدكم عيد فضيل، عن عبد الله بن قرط أن النبي قال: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر))[1] وهو اليوم الذي بعد يوم النحر، ولأن يوم عرفة وإن كان فاضلاً من بعض الوجوه فهو مقدمةٌ وتوطئة ليوم النحر، ففي عرفة يتطهرون من الذنوب، ويدعون ويتضرعون ويخشعون ويتوبون، فإذا هذِّبوا ونُقّوا وتطهروا من الآثام، وازدادوا خيراً، ازدلفوا ليلة جمع، وتضرعوا واستغفروا وتابوا، ثم ذبحوا قرابينهم لله تعالى، فأكلوا من ضيافة الله لهم في منى في يوم النحر، ثم أذِن الله لهم بزيارته، والطواف ببيته.
وأما غير الحاج فشرع الله له الأضحية في هذا اليوم، مع الذكر وفعل الخيرات، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا)) رواه الترمذي وابن ماجه[2]، وعن ابن عباس رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما عمل ابن آدم في يوم أضحى أفضل من دم يهراق إلا أن يكون رحماً يوصل)) رواه الطبراني[3]، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإن لك بكل قطرة من دمها ما سلف من ذنوبك)) قالت: يا رسول الله، ألنا خاصة أهل البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين)) رواه الطبراني والبزار[4].
معشر المسلمين، إن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته في الأضحية، وتجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ولا يجزئ من الضأن إلا ما تم له ستة أشهر، ولا من المعز إلا الثني وهو ما تم له سنة، ولا من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ولا من البقر إلا ما تم له سنتان، ويستحب أن يتخيرها سمينة صحيحة، ولا تجزئ المريضة البين مرضها، ولا العوراء، ولا العجفاء، وهي الهزيلة، ولا العرجاء البين ضلعها، ولا العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وتجزئ الجمّاء والخصي.(/5)
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة ويقول عند الذبح: بسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، اللهم هذا منك ولك، ويستحب أن يأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث، لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، ولا يعطي الجزار أجرته منها.
ووقت الذبح بعد صلاة العيد باتفاق، واليوم الذي بعد ذلك فيه خلاف، والراجح أنه زمن للذبح مع فوات فضيلة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا نساء المسلمين، اتقين الله تعالى في واجباتكن التي طوقت أعناقكن، أحسِنَّ إلى أولادكن بالتربية الإسلامية النافعة، واجتهدن في إعداد الأولاد إعداداً سليماً ناجحاً، فإن المرأة أشد تأثيراً على أولادها من الأب، وليكن هو معيناً لها على التربية، وأحسِنَّ إلى الأزواج بالعشرة الطيبة، وبحفظ الزوج في عرضه وماله وبيته، ورعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه، ففي الحديث عن النبي : ((إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحجَّت بيت ربها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت))[5].
وعليكِ ـ أيتها المرأة المسلمة ـ أن تشكري نعمة الله عليك حيث حفظ لك الإسلام حقوقك كاملة، ولا تنخدعي بالدعايات الوافدة فإن مكانتك في هذه البلاد أحسن مكانة في هذا العصر، واذكرن دائماً قول الله تعالى: يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، فقد كان النبي يذكر النساء بهذه الآية في العيد كما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما[6]، ومعنى بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ لا يلحقن بأزواجهن أولاداً من غيرهم.
أيها المسلمون، اشكروا الله واحمدوه على نعمه الظاهرة والباطنة، اشكروه على نعمة الإسلام، واحمدوه واشكروه على نعمة الأمن والإيمان، وتيسُّر الأرزاق والمنافع والمرافق والتمتع بالطيبات التي لا تحصى، واشكروه تعالى على اجتماع الكلمة في بلادكم هذه، وصرف الفتن عنكم التي تُستحل فيها الحرمات، وتختلف فيها القلوب. وشكر الله على ذلك بطاعة الله ودوامها، واجتناب معصيته، وملازمة التوبة.
أيها المسلمون، اعلموا أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد، فلبس الجديد، ولا من خدمته الدنيا وأتت على ما يريد، لكن السعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.
عباد الله، تذكروا ما أنتم قادمون عليه من الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وكرباته، وصحائف الأعمال والميزان والصراط وروعاته، واذكروا من صلى معكم في هذا المكان فيما مضى من الزمان، من الأخلاء والأقرباء والخلان، كيف اخترمهم هادم اللذات، فأصبحوا في تلك القبول مرتهنين بأعمالهم، فأحدهم في روضة من رياض الجنان، أو في حفرة من حفر النيران، فتيقنوا أنكم واردون على ما عليه وردوا، وشاربون كأس المنية الذي شربوا، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
أين الأمم الخالية؟ وأين القرون الماضية؟ أين منهم ذوو الملك والسلطان؟ وأين منهم ذوو الأكاليل والتيجان؟ وأين تلك العساكر والدساكر؟ أين الذين جمعوا الأموال، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وشيدوا الأمصار؟ أين منهم الغني والفقير؟ أتى عليهم الموت فنقلهم من القصور إلى ضيق القبور، ومن أنس الأهل والأصحاب إلى اللحد والتراب، فلا تركنوا إلى هذه الدنيا التي لا يؤمن شرها، ولا تفي بعهدها، ولا يدوم سرورها، ولا تُحصى آفاتها، ما مثلُها إلا كمائدة أحدكم، تُعجب صاحبها ثم تصير إلى فناء، دارٌ يبلى جديدها، ويهرم شبابها، وتتقلب أحوالها، فاتخذوها مزرعة للآخرة، فنِعم العمل فيها.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وحبيب الحق تبارك وتعالى.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
--------------------------------------------------------------------------------(/6)
[1] أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، والنسائي في الكبرى (4098)، وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/246)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في الإرواء (1958).
[2] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2/389)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في الضعيفة (527).
[3] عزاه الهيثمي في المجمع (4/18)للطبراني في الكبير، وقال: "فيه يحيى بن الحسن الخشني وهو ضعيف، وقد وثقه جماعة"، وضعفه الألباني في الضعيفة (525).
[4] أخرجه الحاكم (4/222) من طريق عطية عن أبي سعيد، قال الذهبي: "عطية واه"، وعزاه المنذري في الترغيب (2/100) للبزار ولأبي الشيخ في الضحايا وقال: "في إسناده عطية بن قيس وثق وفيه كلام"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (4/17). وضعفه الألباني في الضعيفة (2/15).
[5] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وليس فيه: ((وحجت بيت ربها))، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1932): "حسن لغيره".
[6] أخرجه البخاري في التفسير (4895)، وكذا مسلم في العيدين (884).
المنبر(/7)
خطبة عيد الأضحى (وقفات مع خطبة الوداع) صالح بن عبد الله بن حميد
ملخص الخطبة
مشهد الحجيج ودلالته على انتماء أفراد الأمة إلى هدف واحد – حاجة الأمة في أيام محنتها إلى دروس من تاريخها , ومن ذلك حجة الوداع , وما فيها من خطب جامعة - في حجة الوداع تثبيت لأصول الديانة وقواعد الشريعة ومنها : 1- تأكيد النهي عن الشرك والتأكيد على التوحيد 2- تأكيد ميزان تفاضل الناس , وأنهم متساوون في التكاليف 3- التأكيد على حفظ النفوس والدماء 4- التأكيد على الوصية بالنساء 5- النهي عن الخلاف المذموم
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون، هاهم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله، ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح. قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلدٌ وتاريخٌ، قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، ديناً ودنيا، علماً وعملاً فقهاً وخلقاً.
أرضٌ طيبةٌ، وجوٌ عابقٌ، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد، حيةٌ نابضةٌ، تختلط فيه مشاعر العبودية، وأصوات التلبية، والإقبال على الربِّ الرحيم.
في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل، شعورٌ كريمٌ فياضٌ، بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ، إنها أمة محمد ، دينها دين الإسلام دين الله رب العالمين.
ما أحوج الأمة في أيام محنتها وشدائدها، وأيام ضعفها وتيهها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأملها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها، تستلهم منها العبر، ويتجدد فيها العزم على الجهاد الحق، ويصح فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد.
ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها، وتردُّ على من يريد القضاء على كيانها.
وإن في حجة نبيكم محمد الوداعية التوديعية لعبراً ومواعظ، وإن في خطبها لدروساً جوامع.
فلقد خطب عليه الصلاة والسلام خطباً في موقف عرفة، ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق – أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين. خطب الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام ديناً للإنسانية كلها، لا يقبل من أحدٍ ديناً سواه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
ألقى نبيكم محمد في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزةً، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين.
وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، ولا عارضي أساليب، فكلماتهم حق وأوعية معانٍ، وشفاءٌ لما في الصدور، ودواءٌ لما في القلوب.
في حجة الوداع ثبَّت النبي في نفوس المسلمين أصول الديانة، وقواعد الشريعة، ونبَّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى.
ولقد كانت عباراتٍ توديعيةً بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهدَ الناسَ فيها على البلاغ.
كان من خلال تبليغه كلمات ربه يمتلئ حباً ونصحاً وإخلاصاً ورأفةً: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].
لقد عانى وكابد من أجل إخراجهم من الظلمات إلى النور، حتى صنع منهم – بإذن ربِّه – أمةً جديدةً، ذات أهدافٍ واضحةٍ، ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقةٍ، وعلَّمهم بعد جهل.
أيها الإخوة في الله، إخواني حجاج بيت الله:
وهذه وقفات مع بعض هذه الأسس النبوية، والقواعد المصطفوية، والأصول المحمدية.
إن أول شيء أكد عليه في النهي من أمر الجاهلية الشرك بالله، فلقد جاء بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) شعار الإسلام وعلّم الملة، كلمة تنخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة.
فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور. هذا هو دليل التوحيد وطريقه: اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
والأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
ومن القضايا المثارة في الخطاب النبوي التقرير بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقاً وواجباتٍ، لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية ضربٌ من الإفك والدجل.(/1)
ومن الواقع الرديء في عصرنا أن توصف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات. والشعوب الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقاراً لأبناء القارات الأخرى، ولم تفلح المواثيق النظرية، ولا التصريحات اللفظية، فإنك ترى هذا التمييز يتنفس بقوةٍ من خلال المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويأتي نبينا محمد لينبه منذ مئات السنين على ضلال هذا المسلك، ويعلن في ذلك المشهد العظيم: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)). وفي رواية عند الطبراني عن العدَّاء بن خالد قال: قعدت تحت منبره يوم حجة الوداع، فصعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وقال: ((إن الله يقول: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل إلا بالتقوى. يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً. أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية[1] الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان: رجل تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب))[2] رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود وغيرهما. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر الحجاج، أيها الأحبة، حفظ النفوس وصيانة الدماء قضية خطيرة يثيرها خطاب الرسول عليه السلام إلى الأمة في كلماته التوديعية التأصيلية: ذلكم أن حكم القصاص في النفس والجراحات، كان من حكمه التشريعية: زجر المجرمين عن العدوان.
وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم، وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها، حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين، واكتفت بعقوبات هزيلة بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين ذلك إلا عتواً واستكباراً في الأرض ومكر السيئ. ولكنه في شرع محمد محسوم بالقصاص العادل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ [البقرة:179]. إن في القصاص حياة حين يكفُّ من يَهمُّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياةٌ حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حدٍّ لا في القديم ولا في الحديث. ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية، والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيلٍ، لا تكفُّ معه الدماء عن المسيل.
ويأتي حسمٌ عمليٌّ ومباشرة تطبيقية من محمد في هذا الموقف العظيم، وفي إلغاء حكم جاهلي في مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مُسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل))[3].
أيها الإخوة، إن في القصاص والحدود وأحكام الجنايات في الشريعة، حياةً ورحمةً، حياةً أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، رحمة واسعة غير مقصورة على شفقة ورِقَّة تنبت في النفس نحو مستضعفٍ أو أرملةٍ أو طفلٍ، ولكنها رحمةٌ عامةٌ للقوي والضعيف والقريب والبعيد، والأمن المبسوط في بلاد الحرمين خير شاهد صدقٍ لقوم يتفكرون، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشر الإخوة، أما قضية المرأة، وما أدراك ما قضية المرأة، وكأنها قضية كل عصر وكل جيل وكل أمة، يأتي الخطاب النبوي في هذا الحشد الهائل ممن عاصر الجاهلية، ليضع الناس على الحق، والطريق المستقيم.(/2)
إن مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام احتقرت المرأة وازدرتها، بل لعلها رأت أنها شرٌ لابد منه، وفي أمم التقدم المعاصر أسلفَّت بها في شهواتها إلى مدىً منحطٍ. وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في قفص الاتهام ومظاهر الاستصغار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدةً لكل الآثام، ولكنَّ هدي محمد أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكلٍّ نصيبه: لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]. في مسلك وسط، ومنهجٍ عدلٍ، فالنساء شقائق الرجال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]. وفي التوجيه النبوي: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))[4]. إن إصلاح عوج المرأة راجع إلى زوجها؛ ليمنع العوج والنشوز، وليعيد الاستقرار إلى جوانب البيت في معالجة داخلية.
الله أكبر لا إله إلا الله، والله اكبر الله أكبر ولله الحمد.
وثمة وقفةٌ نبويةٌ – أيها الإخوة – في هذا المشهد التوديعي العظيم. إنها قضية وحدة الأمة، وقضية الخلاف المذموم. يوقف فيها الرسول أمته على أمر حاسم، وموقف جازم: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده- إن اعتصمتم به- كتاب الله))[5].
((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))[6] متفق عليه من حديث جرير. ((ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم))[7] رواه مسلم والترمذي واللفظ له.
إنه تحذير مبكر من الرؤوفٍ الرحيم بالمؤمنين من فناءٍ ذريع، إذا هي استسلمت للخلاف، واسترسلت في الغفلة عن سنن الله، والجهل بما يحيكه الشيطان وإخوان الشيطان من مؤامرات.
إنها وصايا أودعها النبي ضمائر الناس. لا تتضمن قضايا فلسفية ولا نظريات خيالية. مبادئ بسطها النبي الكريم المبلغ البليغ في كلماتٍ سهلة سائغة، وإنها على وجازتها أهدى وأجدى من مواثيق عالمية طنانةٍ لا واقع لها. ذلك أن قائلها وواضعها محمداً كان عامر الفؤاد بحب الناس، والحرص عليهم والرأفة بهم. شديد التأكيد على ربطهم بالله وسننه وإعدادهم للقائه.
وإذا كان الإسلام في العهد النبوي قد دفن النعرات الجاهلية، والعصبيات الدموية، والشيطان قد يئس أن يُعبد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدد آماله في هذه العصور المتأخرة. تتجدد آماله في الفرقة والتمزيق. فالعالم الإسلامي اليوم تتوزعه عشراتُ القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قوميات ذات توجهات مقيتة. ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار، والفرقة والتمزق.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، حجاج بيت الله، أمة الإسلام: ما أحوج الأمة اليوم إلى مثل هذه الدروس النبوية، أما تتكرر الروح التي سادت حجة الوداع، لكي تتشبع هذه الكثرة العددية للمسلمين اليوم بكثافةٍ نوعيةٍ، وطاقات روحيةٍ؟ أما يحج المسلمون ليشهدوا منافع لهم تمحو فرقتهم، وتسوي صفوفهم، وترد مهابتهم؟!
إن الحج العظيم في معناه الكبير يكون فيه الشيطان وأعوانه أصغر وأحقر. فيغيظ أعداء الله ويرجعون خاسئين، ناكصين على أعقابهم مذمومين مدحورين، يغيظ الكفار حين يرون جموع هذه الأمة، وقد استسلمت لربها، وأطاعت نبيها، واجتمعت كلمتها.
فياأيها الناس: ((اعبدوا ربكم ـ كما أوصى نبيكم ـ وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم))[8].
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عُبِّيَّة الجاهلية: الكبر والفخر والنخوة.
[2] صحيح، سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن – باب سورة الحجرات، حديث (3270)، سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116)، وأخرجه أيضاً أحمد (5/411)، والطبراني في الكبير (16)، وصححه ابن حبان (3828)، وحسّن أحد أسانيده المنذري في الترغيب (3/376)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (2700).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218).
[4] صحيح، أخرجه مسلم في الموضع السابق.
[5] صحيح، أخرجه مسلم في الموضع السابق.(/3)
[6] صحيح، صحيح البخاري: كتاب العلم – باب الإنصات للعلماء، حديث (121) صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان معنى قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً...))، حديث (65).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة... باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه... حديث (2812)، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في التباغض، حديث (1937)، وقال: حديث حسن.
[8] صحيح، أخرجه أحمد (5/251)، والترمذي ح (616) وقال: حسن صحيح، والحاكم (1/9) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
الخطبة الثانية
الله أكبر (سبعاً)، الله أكبرُ أوجدَ الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، الله أكبر شرع الشرائع فأحكم ما شرع، الله أكبر لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
الحمد لله أهلِ الحمد ومستحقِّه، والصلاة والسلام على نبينا محمد مصطفاه من رسله، ومجتباه من خلقه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ضعف حال المسلمين، واضطراب أمورهم، لم يكن إلا من عند أنفسهم، تسلط الأعداء لا يكون إلا بسبب الأعمال والإهمال، فيا حكام الإسلام ويا ولاة أمور المسلمين، اتقوا الله فيما وُلِّيتم، وأقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، ارفعوا راية الكتاب والسنة، اتقوا الله في توجيه الرعية، وجِّهوهم إلى ما فيه ترسيخ الإيمان وحب الإسلام
المنبر(/4)
خطبة عيد الفطر 1424هـ
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
الحمد لله حمداً كثيراً ، والله أكبر كبيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ..
الحمد لله وفّق المؤمنين لطاعته ، وجعل سعيهم مشكوراً ، ومنّ عليهم بفضله ومنّته ، وجعل جزاءهم جزاءً موفوراً .
الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عدداً ، الله أكبر وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ، الله أكبر خلق كل شيء بقدر الله ، أكبر ملك كل شيء وقهر ، الله أكبر ما طاف في بيته الطائفون ، الله أكبر ما لبى الملبون وما سعى الساعون ، الله أكبر عنت الوجوه لعظمته ، الله أكبر خضعت الرقاب لقدرته الله أكبر كبيراً .
والحمد لله كثيرا له الحمد جل وعلا على نعمائه ، وله الشكر على سرائه ، وله الصبر على ما قضى من بلائه ، الحمد لله كثيراً والله أكبر كبيراً ، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً ، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمد عبد الله ورسوله ، نبيه المصطفى ، ورسوله المجتبى ، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين .
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون .. أيها الأخوة المؤمنون الصائمون الخالدون من شهر رمضان .. أيها المؤمنون الفرحون بطاعة الله سبحانه وتعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } ، موسم عظيم ، موسم تجريد التوحيد بل إخلاص وموسم زيادة الإيمان بطاعات وموسم إعلان العبودية بالدعاء ، وموسم إحياء ربانية بالذكر وموسم الوحدة الإيمانية والرابطة الإسلامية ، وموسم الإخاء الإيماني والتكافل الإسلامي ، موسم الصلوات والجماعات موسم المساجد والمحارب ، موسم الإنفاق والصدقات موسم خير عظيم كانت فيه طهارة القلوب وزكاة النفوس وعفة الألسن وإغضاء الأبصار وصون الأسماع وإخلاص النوايا وإحسان الأقوال وإصلاح الأعمال ، كان فيه صورة عظيمة من صور الإيمان الحي في القلوب الظاهر على الأفعال المتجلي في الوحدة والأخوة والتكافل والتعاون بين المسلمين ، زاد عظيم من الإيمان ومحطة رائعة من محطات كمال التوحيد والإخلاص في الإسلام من تزود منها ينبغي أن ينتفع بزاده شهوراً ودهوراً لا أن يكون ذلك أمراً وخبراً كان سابقاً ومذكوراً ، والله الله فيما كان لكم من الطاعات وفيما أنتم فرحون به ومكبرون لأجله من انتهاء أداء الفرائض والقيام بالواجبات على ما يرضي رب الأرض والسماوات ، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ..
التوحيد والإيمان هو أصل أصيل وركن ركين وقاعدة متينة في هذا الدين العظيم هو الأساس الذي يقام عليه البناء .. { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشرك ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } هو الأمر العظيم والشأن الكبير { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ، وهذا الشهر العظيم وتلك الفريضة الجليلة التي مررنا بها شهراً كاملا من أعظم آثارها ومن أبرز منافعها تعظيم الإيمان في القلب ، وتجريد التوحيد بالإخلاص للرب سبحانه وتعالى ، وذلك هو جوهر التوحيد بالإخلاص فلا قصد إلا وجه الله عز وجل ، ولا مراقبة إلا لله سبحانه وتعالى ، ولا حياء إلا من الرب القادر جل وعلى ذلكم ممتلئت به القلوب في عبادة الصيام عبادة السر بين العبد وربه { فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص } .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، يرويه عن رب العزة والجلال حديث قدسي يقول الحق جل وعلا : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك معي غيري تركته وشركه ) ، وذلك هو الذي أمرنا به { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين } ، فالله الله في قصد الإخلاص لله - عز وجل - وفي النية تجريدا لابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى لا يبعثنا إلى الأعمال إلا الرغبة في ثوابه ولا يمنعنا من مقارفة الآثام إلا الخوف من عقابه ولا يبعثنا إلى كل ما يحبه الله ويرضى إلى مراعاة لجنابه سبحانه وتعالى ، ذلكم الدرس العظيم الذي ينبغي أن نخرج به من هذه الشعيرة العظيمة.(/1)
وأمر ثانٍ : في متابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه إخلاص لله ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } ترسّم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أمر أساسي ظاهر في تلك الفريضة التي قضيناها بحمد الله - جل وعلا - أفلسنا نفطر على تمر وعلى وتر لما ؟ لأن ذلك فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم .. أولا نحرص على سحور ونوم قليل طعام أو شربة ماء ؟ لأنه قال : ( إن في السحور بركة ) ، أو لسنا نترسم خطاه { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } أفلسنا نتأسى به وكنا نتأسى به في هذا الشهر الفضيل فنبادر إلا الصلوات في الجماعات ونستبق على الصفوف الأولى ، ونحسن إلى الناس ونبادر في الإنفاق محاولة للتشبه بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أجود ما يكون في رمضان ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ؟ ذلكم أمر عظيم ، وما أحب أن أنبّه إليه هو أن نأخذ من كل عبادة جوهرها وأثرها ونفعها ، فنحيي به قلوبنا ،ونذكر به عقولنا ، ونقيم به سلوكنا ، فالله الله في طاعته والإخلاص له ، والله الله في متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره ، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، الله أكبر على كل من بغى وتجبر ، الله أكبر من كل كبير في هذه الدنيا .
أخوة الإيمان :
إن كل مسلم عاقل يدرك اليوم أن أمة الإسلام تتعرض لأشنع وأشرس هجوم يستهدفها في بلادها وأمنها وفي اقتصادها ورخائها وفي تماسكها ووحدتها ، وقبل ذلك كله في عقيدتها ودينها إن الناضر فيما يجري حولنا في هذا العالم كله يرى أن رحى الشر لا تدور إلا على أهل الإسلام ، وأن رايات الظلم لا ترفع إلا على ديار الإسلام ، وأن هذا الذي نراه من تجمع الأحزاب وتكاتف الأعداء إنما يؤكد لنا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم ولا يقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت ) .
لماذا كل هذا العداء الشرس ؟ لماذا كل هذا التحالف الدنس ؟ لماذا كل قوى الشر المستكبرة ؟ لماذا كل هذا الذي يعج به هذا العالم الطاغي الظالم الذي يعيش حياه الغاب وقانونها ؟ إنها قضية واحدة لا بد أن ندركها ، أمران يدلان أمران يستنبطان من ذلك أن المعتدى عليه قوي ، وإلا فلماذا حشد الحشود ؟ ولماذا تأليب الأحزاب ؟ إنها قوة قد نكون غفلنا عنها .. إنها عظمة قد نكون نسينا حقيقتها .. إنها أصالة قد نكون ابتعدنا عن قوتها وعن نورها وبهائها ، وإلا لمَ اجتمعت كل هذه القوى بأسلحتها العسكرية وقواتها وجيوشها من جهة وبأسلحتها الاقتصادية والفكرية والإعلامية التي لم تدخر وسعًا في كل ما تبذله ، والله جل وعلا يقول : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله في سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } .
والأمر الثاني : لما كل هذه الحرب ولم كل هذا التأليب ؟ إنه لأجل إسلامكم وإيمانكم الذي تنطوي عليه جوانحكم .. الذي هو في سور داء قلوبكم الذي تتنفسنه مع أنفاسكم .. الذي لا تنامون ولا تستيقظون إلا وهو يجري مع دمائكم في عروقكم ، تلهج به ألسنتكم ، وتسجد امتثالاً له جباهكم ، وتتراص به صفوفكم .. إنه دينكم ، إسلامكم ، إيمانكم ، عقيدتكم ، هدي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - هو الذي لأجله تحاربون وإلا ففي أمم الأرض كلها من الاختلاف والتباين ما هو جدير أن يكون سبب للصراع ولكنه نور الحق إذا بدا جلّى ظلمات الجاهلية ، ومن هنا فلا بد - أيها المسلمون ونحن في موسم عظيم من إظهار الفرح بطاعة الله - أن نتذكر أمور مهمة في هذه الأحداث المدلهمة ، وفي هذه الخطوب الملمة أولها التمسك بدين ما دمنا نحارب لأجل ديننا وإسلامنا ن فهل نقول ما دمتم تحاربوننا لأجله فنحن نعلن تخلينا عنه ونحن نتبرأ منه ونحن ننسلخ من أصوله ، ونحن ننبت من جذوره إن هذا عين الغباء والحمق وإن هذا هو غاية أذلة والهوان وهو غاية المسخ الإنساني أن يترك الإنسان مبدأه أن يتخلى عن معتقده أن ينسلخ من أصوله أن ينبت من جذوره .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - والصحب الكرام وأهل الإسلام على مدى التاريخ مرة به ظروف مثل ذلك { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا } .(/2)
فبأي سلاح واجه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الخطب وبأي قوة تصدى لأولئك الأحزاب .. إنها قوة الاستمساك بالدين والاعتصام به فهماً لأصوله وتعلم لشرائعه ودحضاً لشبهاته إنه التمسّك بالدين تمثلاً لأخلاقه وتحلياً بآدابه واستمساك بأحكامه .. إنه التمسك بالدين التزام بأسسه ، وأخذٌ بمبادئه ، واستنادٌ إلى قواعده ، وتحكيمٌ لشرائعه .. إنه التمسّك بالدين ائتلافٌ على عقائده وتوحدٌ على مبادئه .. إنه الدين الذي يجمعنا ، ومن هنا لا بد أن نؤكد - مرة أخرى وثانية وثالثة - أن ديننا هو عصمة أمرنا وهو قطب رحى حياتنا وهو غاية ما لأجله خلقنا ربنا - سبحانه وتعالى - وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، إن حياتنا في الإسلام كلها محراب عبادة وطاعة لله ونحن نتاجر ونصفق في الأسواق ونحن نلهو ونلعب مع الأزواج والأولاد ونحن نسجد ونسبّح لله - عز وجل - في المحاريب { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } .
ولا يمكن بحال من الأحوال أن نواجه هذه الهجمات الشرسة ، وذلك الذي يحاك ويدبّر لأمتنا في كل بقاعها وبلادها ومجتمعاتها إلا بالاعتصام بالله - عز وجل - واستمداد النصر منه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الأحزاب فكانت النتيجة { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال } ، وكانت النتيجة { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم تطئوها } .
إنها الثمرة الحقيقية والنتيجة النهائية التي يقطع بها المؤمنون جزماً ويقيناً بلا أدنى شك ؛ لأن من كان مع الله كان الله معه ، فاستمسكوا بدينكم ..
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر وثانية لا بد منها تتمم ذلك الحرص على وحده المسلمين ؛ فإن الأعداء يستهدفون الإسلام وأهله في كل بلد بغض النضر عن بلاد الحرمين وغيرها ، وفي كل نوع وصنف من الناس علماء كانوا أو متعلمين لم يعد اليوم أحد يحارب لصفة إلا لأساس صفة إسلامه ومن هنا لا بد أن تمتد الأيدي لتتحد الصفوف ، ولا بد أن تخفق القلوب بمحبة الإيمان لتأتلف النفوس ، ولا بد أن نواجه أعدائنا بصف متماسك ولحمة متينة على سائر المستويات بدأ بالأسرة الواحدة ، ونحن في أيام عيد ونحن في أيام طاعة أن تمتد الأواصر ، وأن تتوحد الصفوف ، وأن تخفق بالمحبة القلوب وأن تجري مياه المودة بين الناس وفي الجيران وفي المجتمع ثم كذلك بين الرعاة والرعية بين الحكام والمحكومين تكون ناصرة قوية فلا نزع يد من طاعة ، ولا بطش ولا ظلم ولا نوع من خروج ، ولا نوع من إخلال أمن ولا في نفس الوقت نوعاً من نسيان حق أو هضم حق ومظلمة ونحو ذلك .
ومن جهة أخرى بين العلماء والأمة أن يعلموهم أن يرشدوهم وللأمة أن يوقروهم ويحترموهم ويعرفوا حقهم ويذكروا لهم دورهم ويعرفوا حق علمهم على ما ينبغي أن يكونوا فيه من الاسترشاد بهم والاهتداء بهد يهم وذلك كله مما ينبغي أن نحرص عليه { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ...} ، وإذا تأمل المسلم وجد أن الأمة في حاجة إلى مراجعة نفسها في هذا الشأن فلا ينبغي أن يكون اختلاف في الرأي مفسداً للود ، ولا مفرّقاً للصف ، وينبغي أن ترتب الأولويات ، فإذا كان العدو على أبوابنا فما بالنا نختلف في ما بيننا ؟ لا بد أن ندرك ذلك وأن نعرف أن الاختلاف الآراء والاجتهادات لا ينبغي أن يكون سبب للوهن والضعف في تماسك الأمة ، وأن وجود الأخطاء أو القصور لا ينبغي أن يكون سبب لتفتتها ولا لنزع وحدة صفها ولا لاختلالها في أحوالها ، وذلك ما ينبغي أن نحرص عليه جميعا ، ولا بد أن نكرس في كل مجتمعات المسلمين الحفاظ على الأمن والاستقرار ؛ لأن الأمن مؤذن بتوفره أن يكون كل مجال للإصلاح قابلا لأن يتحقق في مواقع الوجود أما إذا انفرط عقد الأمن وطربت الأحوال وعمت الفوضى فليس إصلاح واقع في الحياة ، وليس هناك إمكان لنشر علم ولا لنشر دعوة ولا لتغيير منكر ، بل ذلك هو عين ما يقع به الفساد والإخلال وذلك ما يقع به ما حذر منه علماء أمتنا بل ما بينته أحاديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأرشدت إليه آيات كتاب ربنا - جل وعلا - فالله الله في ذلك كله في كل بلاد الإسلام ، وفي بلاد الحرمين على وجه الخصوص وكلما زادت الهجمات ، وكلما تركزت إنما تدل على أهمية الموقع وعلى أهمية ما يدل عليه وعلى أهمية ما يرفع من شعار وما يحقق في واقع الحياة .
ومن هنا ندرك عظمة الهجمة على هذه البلاد لما فيها من آثار الخير العميم ولما فيها من إظهار شعار الإسلام وشرائعه وإعلان تحكيم شعائره وتشريعاته وذلك يدل على أهمية تفويت الفرص على الأعداء في تفتيت الصف وتفكيك المجتمع وإشاعة الرعب أو نشر الفوضى ، نسأل الله - عز وجل - السلامة فالله الله في ديننا ، والله الله في وحدتنا وأخوتنا ، والله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً .(/3)
وثالثة : نختم بها معاشر المؤمنين هي إعزاز الدين ونصر المسلمين ؛ فإن مقتضى التمسك بدين ومقتضى وحدة وأخوة الإيمان أن يكون كل شيء في حياتك يمكن أن تتهاون فيه ، وأن تتراجع عنه إلا إعزاز دينك ، وإعلاء كلمة الله ، وإظهار دين الله وأمر آخر وهو النصر لإخوانك المسلمين المستضعفين المعتدى عليهم المظلومين في كل مكان وفي كل حال ولو بما يتيسر لك حتى من دعوة خالصة لله عز وجل ؛ فإن هذا الأمر مهم وإنه لا بد لنا حين إذاٍ أن نتوازن وأن يكون في هذه الظروف والمحن ما يدلنا على أن نهجد القويم والمستقيم في ماذا في كل ما نحتاج إليه من هذا التوازن فلا ينبغي لنا أن ننكفئ على أنفسنا ونقول : الله الله في ذاتنا .. الله الله في أحوالنا .. الله الله في مجتمعاتنا وليس لنا صلة بأمة الإسلام ، ومجتمعات المسلمين وليس كذلك الشأن في أن نعنى بأحوال المسلمين في كل مكان وننسى أحوال الإسلام والمسلمين في بلاد الإسلام وفي مجتمعاتنا التي هي أحوج ما تكون إلى ذلك الخير الذي ننشره في كل بقاع الأرض تعليماً ودعوة وإصلاح وتوسطاً ، واعتدال وبيان للحق من كل وجه ، فينبغي لنا أن نحرص على ذلك ، وينبغي لنا أن نهتم بقضايا المسلمين ، وأن نعيشها وأن نحقق هذا المقتضى ؛ لأنه هو الذي لأجله يحاربون الأعداء ، فالله الله في الدين ، والله الله في وحدة الإسلام والمسلمين ، والله الله في إعزاز الدين ونصر المسلمين ، والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا أقول هذا القول ، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم …
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله كثيراً والله أكبر كبيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ، الله أكبر ما ذكره الذاكرون الأبرار ، الله أكبر ما ذكره الذاكرون الأبرار ، الله أكبر ما تعاقب الليل والنهار ، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيراً ، له الحمد - سبحانه وتعالى - كما يحب ويرضى حمدا نلقى به أجرى ويمحوا به الله عنا وزراً ويجعله له عندنا ذخراً ، والصلاة والسلام التامان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين ، سيد الأولين والآخرين إمام المتقين وقائد الغرّ المحجلين إلى جنات نعيم ، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحابته أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
تذكير لا بد منه ، فالله أكبر ، والله أكبر ، والله أكبر ، والله أكبر ، الله أكبر على من طغى وتجبّر ، والله أكبر على من نسي ما كان من طاعته ولها وعبث ، فانتبهوا لا ترجعوا بعد الذكر إلى الغفلة ، ولا بعد الطاعة إلى المعصية ، ولا بعد شهود المساجد إلى غيبة ولهو الملاعب ، ولا ينبغي لمؤمن صام شهراً كاملاً ، وكان ليله قائماً ونهاره صائماً ، وفي كل حاله ذاكراً ، وإلى الله - سبحانه وتعالى - ومرضاته ساعياً لا ينبغي له أن يرجع بعد ذلك عابثا أو غافلاً ، فضلاً أن يكون لاهياً أو عاصيا ، فالله الله في هذا التذكر والاعتبار والانتفاع والاستمرار على الطاعات { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون } .
وأوجز المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الوصية في كلمتين اثنتين لمن أراد أن يوصيه وصية جامعة تغنيه عن سؤال غيره ، فقال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) واستقيموا على الطاعات واستقيموا على أداء واستقيموا على شهودها في المساجد حيث ينادى بها ؛ فإنها سنه نبيكم ولئن تركتموها فلقد تركتم سنة نبيكم ، ولئن تركتم سنه نبيكم إنكم لعلى خطر عظيم ، واحرصوا على أن لا يكون حضكم من الصيام شهر رمضان فأتبعوه إتباعاً لسنه النبي صلى الله عليه وسلم بست من شوال ؛ فإن من فعل ذلك فقد بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كأنما صام الدهر كله فكل حسنة بعشر أمثالها وكل يوم كأنه بعشرة أيام وهذه الأيام مع ست من شوال كأنها العام كله ، فما أحرانا وما أجدرنا أن نحرص على ذلك وأن نواظب عليه .
وثانية : لا بد منها لا بد من التذكير والتنبيه على الغفلة والهوا والتجاوز لطا عات والارتكاب للمحرمات في هذه الأيام المباركات وليالي الفاضلات فسهر على غير طاعة ونوم عن الصلوات لا ينبغي أن يكون هذا حالنا في الوقت الذي نفرح فيه بطاعة الله ؛ فإن أعياد المسلمين إنما جاءت بعد أداء الفرائض بعد الصيام وبعد الحج لتكون إعلان للفرح بطاعة الله وإظهار أن أمة الإسلام لا تفرح إلا إذا استقامت على أمر الله فكيف نعلن الفرح بمعصية الله - عز وجل - نسأل الله - عز وجل - أن يقينا وإياكم أسباب الخسران وأسباب الوقوع في غضب وسخط الرحمن .(/4)
نسألك اللهم أن تردنا إلى دينك رداً جميلا وأن توفقنا لطاعتك ومرضاتك وأن تحبب إلينا الطاعات ، وأن تكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، اللهم إنا نسألك طهارة قلوبنا وزكاة نفوسنا وعفة ألسنتنا وغض أبصارنا وصون أسماعنا عن كل ما حرمت علينا يا ربنا ، نسألك اللهم إيماناً كاملا ويقيناً صادقاً وقلب خاشعا ، ولسانًا ذاكراً ، وطرفاً دامعاً ، وتوبة قبل الموت ، ومغفرة بعد الموت برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين ونكّس رايات الكفرة والملحدين ، اللهم عليك بسائر أعداء الدين ؛ فإنهم لا يعجزونك ، أحصهم اللهم عدداً ، واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً ، أرنا فيهم عجائب قدرتك ، وعظيم سطوتك ، اللهم اجعل الخلف في صفوفهم وقذف الرعب في قلوبهم وخالف كلمتهم وجعل بأسهم بينهم ورد كيدهم في نحرهم وأشغلهم بأنفسهم وجعلهم عبرة لمعتبرين يا قوي يا عزيز يا متين ، اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين من المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين ، اللهم امسح عبرتهم ، وسكّن لوعتهم ، وفرّج همهم ، ونفّس كربهم ، وعجّل فرجهم ، وقرّب نصرهم ، ووفّر أمنهم ، وابسط رزقهم ، وزد إيمانهم ، وعظّم يقينهم ، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين ولا تجعله فتنه لهم في الدين ، اللهم اجعل لنا ولهم من كل همٍ فرجاً ، ومن كل ضيقٍ مخرجاً ، ومن كل فتنة عصمة ومن كل بلاء عافية يا رب العالمين ، اللهم اجعل هذا العيد أمنناً وسلاماً وراحة وطمأنينة على إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين ، اللهم ارفع عنهم سخطك وغضبك ، اللهم أجل عنهم بلاءك يا رب العالمين ، اللهم أنزل علينا وعليهم رحمتك وعونك وتأييدك وعزك ونصرك يا رب العالمين ، اللهم إنا نسألك أن توفقنا للصالحات والمواظبة على الطاعات وعدم الرجوع إلى الغفلة والمعاصي والملهيات برحمتك يا رب الأرض والسماوات .
عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم بذلك الله {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } ، وترضّوا على الصحابة الكرام من خص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجليل أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، والحمد لله كثيرا والله أكبر كبيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، والحمد لله رب العالمين وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/5)
خطبة عيد الفطر ثوابت من دين الإسلام ...
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- نعمة الله على المسلمين في فسخة العيد. 2- تداعي الأعداء على الأمة المسلمة. 3- بعض المبادئ الإسلامية التي لا تقبل الجدل والمساومة (حاكمية الشريعة – الموالاة والمساواة – ديمومة الجهاد – الأمر بالمعروف – تحريم الربا – لزوم الجماعة – حرمة الزنا والفواحش). ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن من أعظم ما أمركم الله به ما وصى به الذين أوتوا الكتاب من قبلنا وإيانا قال سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131].
فاتقوا الله عباد الله واعلموا، أن مما شرعه الله لأمة الإسلام أن جعل لهم فسحةً في دينهم يجتمعون فيه على طاعة الله، يحمدون الله على ما منّ عليهم من إتمام الشهر، وليكبروا الله على ما هداهم، وبفضل الله فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
وهذه الفسحة هي هذا اليوم، وهو عيد الفطر المبارك، ويوم الأضحى، ويوم الجمعة من كل أسبوع.
واعلموا عباد الله أن الفرح ومشروعيته لاتعني جواز ارتكاب المحظورات، بل إن الفرح في هذا اليوم أساسه أن الله أتم على العبد النعمة، ووفقه للقيام بالطاعة والانكفاف عن المعصية. فلا تدنسوا صحائفكم بسماع الحرام من الموسيقى والغناء، أو النظر الحرام، أو الكلام المحرم، أو اللباس المحرم فاحفظوا جوارحكم واشكروا ربكم لتسعدوا برضاه.
واعلموا عباد الله، إنكم مستهدفون من أعداء الإسلام، من المشرق والمغرب، ومن جميع طوائف الأرض ومللها من يهود، ونصارى، ووثنيين، وملاحدة، وإنهم ليتكالبون على المسلمين كما وصفهم نبينا صلى الله عليه وسلم، كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها، وهل رأيتم ـ عباد الله ـ قصعة تكالب عليها الأعداء أكبر من قصعة الإسلام، وما تلكم الهجمة الشرسة للإعلام الأمريكي، ومن ورائه الأوروبي على بلادنا بلاد الإسلام إلا امتدادٌ للحملة الصليبية على المسلمين.
ولكن!!! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن هذا الدين عزيز، وإن الله ناصره، ومظهره، والعاقبة لأهله.
فينبغي على أمة الإسلام أن تتنبه للخطر العظيم القادم، وأن لا تساوم على شيء من دينها ومبادئها، وثمة ثوابت في ديننا لا يجوز عرضها للمساومة أو النقاش.
والمقصود بالثوابت هو القطعيات ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بينة في الكتاب، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ولامجال فيها لتطوير أو اجتهاد، ولا يحل الخلاف فيها لمن علمها.
ينبغي على الأمة أن تعيش واقعها وأن تجند الطاقات للعمل الجاد المثمر النافع. وسوف نتعرض لبعض هذه الثوابت والمسلمات بشيءٍ من الإيجاز:
فمن ذلك أن شريعة الإسلام موضوعة لإخراج المكلفين عن داعية أهويتهم حتى يكونوا عباداً لمولاهم. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162].
وإن الحجة القاطعة والحكم الأعلى إنما هو للشرع، لا غير. فلا تحل معارضته بذوق، أو وجد، أو رأي، أو قياس، وإن قواطع الشريعة تتمثل في نص الكتاب، والسنة وإجماع الأمة، والأصل في فهم الكتاب والسنة أن يكون على منهج السلف الصالح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في بيان الفرقة الناجية: ((ما أنا عليه وأصحابي)) ولم يقل ما أنا عليه فقط.
وقال الأوزاعي رحمه الله: (اصبر نفسك على السنة، وقِف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم).
ومن الثوابت أن يكون الشرع حاكماً غير محكوم، وقائداً غير مقود، وموجِهاً غير موجَه.
فمن مسلمات الدين أن يكون الشرع محكّما في كل القضايا، العقدية، والأخلاقية، والسياسية ، والاقتصادية، والمعاملات الشخصية، وغيرها من القضايا.
فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].(/1)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء:60، 61].
ومن مسلمات الدين، الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين، وأن ذلك شرط في ثبوت عقد الإيمان. قال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء [آل عمران:28]، يقول الطبري رحمه الله: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء يعني بذلك: فقد بريء من الله، وبريء الله منه، بارتداده ودخوله في الكفر.
ولابد عباد الله من إظهار الولاء للمؤمنين أينما كانوا في مشارق الأرض أو مغاربها، وإظهار البغض للكافرين بل والعداوة لهم أيضا أينما كانوا في مشارق الأرض أو مغاربها.
وإن ذلكم عباد الله هو سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي أمرتم بالاقتداء بها قال سبحانه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لأَِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله، أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة:81].
وقال: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فيجب علينا مناصرة إخواننا المسلمين في كل مكان وفي كل المحافل، على المستوى العام، والمستوى الفردي، والشخصي، بجميع أنواع المناصرة والتأييد، باللسان، والأبدان، والأموال، لأن هذا هو لازم أخوة الإيمان، ولا أقل عباد الله من الدعاء لهم.
ومن مسلمات الدين عباد الله، أن الله ناصر دينه، ومعلٍ كلمته، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن أحداً من أهل الأرض لا يستطيع إيقافه لأنه جاءنا به الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم قال كما عند أبي داود وغيره عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله : ((.. والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل..)) قال صاحب العون في شرح هذا الحديث: ((والجهاد ماض منذ بعثني الله)): أي من ابتداء زمان بعثني الله ((إلى أن يقاتل آخر أمتي)): يعني عيسى أو المهدي ((الدجال)) وبعد قتل الدجال لا يكون الجهاد باقياً.(/2)
إن العالم اليوم إلا من رحم الله يقف بكل قواه العقدية و السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والشعبية، يقف وقفة واحدة بكل ما أوتي من قوة، أمام شعيرة من شعائر ديننا الحنيف ألا وهي شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى، تلك الشعيرة التي فرضها الله علينا بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، وبقوله: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]، وقوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وقال في آخر ما نزل في حكم الجهاد مؤكداً عليه فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:5].
هذه الشعيرة التي حاول الكفار طمسها ويسمونها بأسماء ينفرون منها، ويشوهون أهداف الجهاد النبيلة وغاياته العظيمة، وساعدهم المنافقون أيضاً على تشويهها والتحجير عليها بسبل شيطانية شتى، فتارة يقولون بأن الجهاد جهاد دفع لا طلب، أو قالوا بأن الجهاد يشرع لتحرير الأرض المحتلة فقط.
فاعلموا ـ عباد الله ـ حقيقة ما شرعه الله لكم.
واعلموا عباد الله علم اليقين أن المسلمين إذا تخلوا عن فريضة الجهاد وراموا إدراك حقوقهم بوسائل السلم التي يزعمون فإن ذلك محال ودونه خرط القتاد.
بل لو ترك المسلمون قتال الكافرين فإن الكافرين لن يتركوا قتالهم قال الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217].
قال ابن سعدي رحمه الله: وهذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم، حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا أهل الكتاب، من اليهود والنصارى .انتهى.
واعلموا عباد الله أن الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يأتي على هذه الأمة زمن لا يكون لهم فيه ظهور، حتى يأتي أمر الله، جاء في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم عن جابر : ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) وفي لفظ للبخاري: ((لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)) وفي لفظ لأحمد: ((لا يبالون من خالفهم أو خذلهم)).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم عن هذا الحديث: " قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون , ومنهم فقهاء , ومنهم محدثون , ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر , ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير , ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة ; فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي إلى الآن , ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث " أهـ كلامه.
لئن عرف التاريخ أوسا وخزرجا فلله أوسٌ قادمون وخزرجُ
وإن كنوز الغيب لتخفي طلائعا صابرة رغم المكائد تخرج
وقال سبحانه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وفي الحديث، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يغز، أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
واعلموا أن من مسلمات الدين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع فئات المجتمع، كل بحسب طاقته وقدرته.
قال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) مسلم.(/3)
فيجب ـ عباد الله ـ إنكار المنكرات في أي مكان حصلت، وأي زمان كانت، فإنها من العهد الذي أخذه الله على هذه الأمة، بل إن الأمة إذا تركت هذا الواجب فإنها تصير مستحقة للعذاب العام من الله، عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وإن من مسلمات هذا الدين أن الله قد أذن بالحرب منه ومن رسوله على الذين يأكلون الربا، والربا له صور عديدة ، وهو محرم بكل صوره، ولا يجوز تعاطيه ولا العمل فيه، قال سبحانه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279].
وقال سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقر:275، 276].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله ذي المن والعطاء ، والعز والكبرياء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، بلغ البلاغ المبين، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، صلاة وسلاماً دائمين.
ثم أما بعد، فيا عباد الله: فإن أصدق الحديث كلام الله جل وعلا، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله، وإن من مسلمات هذا الدين، وجوب لزوم الجماعة، والسمع لولاة الأمر والطاعة في غير معصية لله تعالى.
ففي حديث حذيفة رضي الله عنه: في حديث الفتن، حتى قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
وإن الجماعة ـ عباد الله ـ هم من وافق الحق ولو كان واحداً.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن جمهور الناس قد فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك).
وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة، في العسر واليسر، في المنشط والمكره وأثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية)) روه مسلم.
فالواجب عباد الله هو إقامة شرع الله على كل أحد من الناس، صغيراً كان أو كبيراً، والواجب هو تلاحم المجتمعات الإسلامية حكومات، وعلماء، وأفراد على دين الله وتحكيم شرع الله.
وإن من المسلمات عباد الله: أن الله قد حرم الزنا، وإن قاعدة الشرع المطهر أن الله سبحانه – إذا حرم شيئاً، حرم الأسباب والطرق والوسائل المفضية إليه، تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من الوصول إليه، أو القرب من حماه، ووقاية من اكتساب الإثم، والوقوع في آثاره المضرة بالفرد والجماعة.
وإن فاحشة الزنا من أعظم الفواحش، وأقبحها وأشدها خطراً وضرراً وعاقبة على ضروريات الدين، ولهذا صار تحريم الزنا معلوماً من الدين بالضرورة. قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
ولهذا حرمت الأسباب الموصلة إليه من: السفور، ووسائله، والبرج ووسائله، والاختلاط ووسائله، وتشبه المرأة بالرجل، وتشبهها بالكافرات، وأيضاً تحريم أسباب الريبة، والفتنة، والفساد. فالحذر الحذر من وسيلة تؤدي إلى الزنا والفواحش، واحرصوا على التزوج لإحصان الفروج، وتزويج الأبناء والبنات، وكسر العقبات التي تعترض ذلك.(/4)
عليكم عباد الله بتقوى الله، واعملوا من أجل دينكم، ادعوا إلى الله، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، إن الإسلام لا يريد من المسلم ولا يرضى له أن يكون هيكلاً جامداً، ولا أن يكون تمثالاً هامداً، فإن الإسلام عدو الهياكل والجمود، خصيم التماثيل والهمود، إنما يريد الإسلام أن يكون المسلم روحاً يبعث الروح، وحياةً يملأ الدنيا حياة، ورسولاً من رسل السلام والرحمة والنجاة! أجل.
اعتصموا بالله، واطمئنوا بقربكم منه، فمن كان الله معه فكيف يخاف! ومن كان الله خصيمه فكيف يأمن!
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
وفي آخر هذه الخطبة ـ عباد الله ـ أوصي أخواتي النساء بأن يتقين الله، وأن يحافظن على الصلوات، وطاعة الأزواج في غير معصية الله، والحذر من التبرج والسفور، ومن مزاحة الرجال في الأسواق، ومن الإسراف والتبذير في الملابس والزينة، وأحذرهن من تتبع الموضات. ... ...
... ...
... ...(/5)
خطبة عيد الفطر ... ...
عبد السلام محمد زود ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الحث على فضائل الأعمال والمبادرة إليها. 2- التحذير من بعض المعاصي والموبقات. 3- استعادة الثقة بنصر الله وإبعاد اليأس والقنوط. 4- دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة. 5- الدنيا دار بلاء وابتلاء والآخرة هي الحياة الحقيقية. 6- دروس من قصة أصحاب الأخدود. 7- بشائر النصر كما أخبر عنها النبي . 8- بشائر في انتشار الإسلام في العالم اليوم. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
أيها المسلمون، منذ أيام استقبلنا شهر رمضان، وبالأمس ودعناه مرتحلاً عنا، شاهداً لنا أو علينا، وفي صبيحة هذا اليوم الأغر، يوم عيد الفطر المبارك، غدوتم إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، وارجعوا راشدين إلى رحالكم، فإن ربكم قد غفر لكم، ويوم القيامة ينادَى على الصائمين أن ادخلوا الجنة من باب الريان، ثم تلقون ربكم في جنات النعيم فتفرحون بصومكم.
إخواني، شرع لكم نبيُ الهدى بعد رمضان صيام الست من شوال، كما حث على صيام الإثنين والخميس، وعرفة وعاشوراء فصوموها، وحافظوا على الصلاة في وقتها، فإنها أولَ ما تحاسبون عنه يوم القيامة، ومن لم يؤد فريضة الحج بعد فليؤدها قبل أن يحال بينه وبينها، ثم استوصوا بالوالدين خيراً، وترحموا على من مات منهما، تحببوا إلى أبنائكم، وصِلوا أرحامكم وأقاربكم، وأحسنوا إلى الأيتام والأرامل والفقراء، وأوفوا المكيال والميزان، واجتنبوا الغش والكذب في البيع والشراء.
يا معشر التجار، وإياكم والخلوة بالموظفات والسكرتيرات، يا أصحاب المكاتب والإدارات فإنها محرمة، ويا معشر المسلمين اجتنبوا الربا في المعاملات، فإنه من السبع الموبقات، وغضوا أبصاركم، واحذروا مصافحة النساء غير المحارم، فإنها من المحرمات. تصدقن يا معشر النساء من أموالكن وحليكن لتنقذن أنفسكن من النار، وإياكن والتبرج أو التشبه بالرجال أو مصافحتهم فإن الله حرَّم ذلك.
ويا معشر الرجال استوصوا بالنساء خيراً، لا تضربوهن بغير حق ولا تقبحوهن، فإن الله يبغض ذلك.
إخواني في الله، والمتأمل في حال الأمة اليوم، وما وصلت إليه من القهر والذل، بات مضطرباً ولسان حاله يقول: هل يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، ويرجعوا إلى عزهم ومكانتهم وقيادتهم للبشرية؟ بعد أن تكالب عليهم أعداؤهم؟ هل يمكن أن تعود الأمة إلى عزها وتنفض غبار النوم عنها؟ وهل سيأتي نصر الله عز وجل بعد كل هذا؟
أسئلة مريرة تدل على حالة من اليأس والقنوط تعيشها الأمة من أقصاها إلى أقصاها، لذلك كان من الضروري تسليط الأضواء على هذه الحالة لطرد اليأس وإعادة الأمل إلى قلوب هذه الأمة المباركة المنصورة إلى قيام الساعة، فأقول وبالله التوفيق: لا شك أن كل مسلم يتطلع دائماً إلى نصر الله عز وجل لأوليائه المؤمنين، كيف لا يتطلع وهو يقرأ قول الله وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. كيف لا يتطلع وهو يقرأ قول الله للمؤمنين: إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. كيف لا يتطلع وهو يقرأ قول ربه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد [غافر:51]. فنصر الله لهذه الأمة نصر قريب، كما قال ربنا: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
إخواني في الله، لا بد أن نعتقد بأن الحق والعدل أساس في هذا الكون، وأصل في بناء السماوات والأرض، والدنيا بدأت بالحق، وستنتهي بالحق، ويوم القيامة يتجلى الحق في أعلى وأجلّ صوره، ومن هذا الحق أن تعود لأمة الإسلام قيادتها للبشرية، ومن الحق أن يعود حكم الإسلام إلى الأرض كلِّها، ومن الحق والعدل أن تزول هذه الغشاوة، وأن تنقشع هذه الغُمة التي تحياها هذه الأمة.
إخواني في الله، لا يغركم انتفاش ريش اليهود والنصارى على الدنيا بأسرها في هذه الفترة، فإن الله جل وعلا يقول: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران 196، 197]، فإن الكفر والباطل وإن تسلط فإن تسلطه محدود بقَدَر من الله، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر، لأن الله جعل لكل شيء نهاية. ولنفرض بأن الكفار استطاعوا أن تكون لهم الغلبة مدة الحياة الدنيا كلِّها، مع أن هذا الافتراض ليس بصحيح، ولكن لنفترض ذلك افتراضا، ألسنا نحن المسلمين نعتقد ونؤمن بأن الله قد وعدنا بالآخرة؟ وبالحياة الأبدية الباقية في الجنة؟ فما قيمة الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها مقارنة بالآخرة؟ ألا ترضون أن يأخذوا هم الدنيا وتكون لنا الآخرة؟.(/1)
ثم لماذا قص الله عز وجل علينا قصة أصحاب الأخدود بهذه الطريقة التي انتهت إليها؟ إنها حادثة مؤلمة جدا، أن يَحْفُرَ الكفار حفراً في الأرض، ثم يؤججوا فيها النيران، ثم يلقوا فيها أناساً أبرياء لا ذنب لهم سوى الإيمان وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:7]. ولحكمة فإن الله عز وجل لم يذكر في نهاية القصة أنه عاقب أولئك المجرمين أو انتقم منهم كما أخذ قوم نوح وهود وصالح وشعيبٍ وقومَ لوط، أو كما أخذ فرعون وجنودَه أخذ عزيز مقتدر.
وعند المقارنة الدنيوية وإغفال عالم الآخرة، يكون هؤلاء المجرمون هم المنصورون، وأولئك المؤمنون هم الخاسرون.
لكن الله عز وجل أخبرنا في هذه الحادثة بهذه النهاية المؤلمة، ليُعْلِمنا وليكشف لنا عن حقيقة أخرى، وهي أن الحياة الدنيا بما فيها من لذائذ وآلام، ومتاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، ولكن القيمة الكبرى في ميزان الله عز وجل هي قيمة العقيدة، والسلعة الرائجة في سوق الله تعالى هي سلعة الإيمان، وأن النصر في أرفع صوره هو انتصارُ العقيدة على الألم، وانتصارُ الإيمان على الشرك والكفر، ولم يعد مجال المعركة الأرض وحدها، ولا الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس الذين شهدوها في وقتها، بل إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها وَمَا وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:8، 9]، فالله عز وجل شهيد على هذه الحادثة، وهكذا اتصلت حياة المؤمنين في الأرض بالحياة الباقية الخالدة في الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر، ولم تعد الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع.
لقد انفسح المجال في المكان والزمان، والقيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها، والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما معه من إيمان غيبي، وأخبر عن العقاب الأخروي لهؤلاء المجرمين فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
أما أولئك الذين صبروا، وأحرقتهم تلكم النار في هذه الدنيا، فيقول الله عز وجل في شأنهم: إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11]، هذا هو الميزان، ذلك الفوز الكبير. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى لو أجرينا ـ إخواني ـ مقارنة بين الكفر والإسلام، لوجدنا أن دين الله قديماً وحديثاً هو الغالب، وهو المسيطر مدة أطول من سيطرة الكفار، فهل تعلم أخي أن الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام بقوا مدة عشرة قرون على التوحيد والإسلام؟!. وهل تعلم أن هذه الأمة المحمدية المباركة بقيت حاكمة منذ بعثة نبيها إلى زمن سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان وهي أمة ظافرة منتصرة، بيدها تدبير كثير من أمور الدنيا حتى الأمم الكافرة، وهذه هي التي طالما تغنى بها كثير من شعراء المسلمين عندما قالوا:
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدودٌ خالدونا
وسطَّرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا
حمَلناها سيوفا لامعاتٍ غداةُ الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يوما رأيت الهول والفتح المبينا
وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا
وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أُباةً صابرين
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرون
وأصبح لا يُرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
إذاً أكثرَ من ألفٍ وثلاثمائةِ عام والأمة الإسلامية أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب، ولعله يكفي مثالا واحدا فقط قصة هارون الرشيد عندما قال وهو يخاطب سحابة: (أمطري حيث شئتِ فسيأتي إليَّ خراجك) هذا ما كان في الماضي.
وما سيطر الكفار إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية، يعني منذ سبع وسبعين سنة، فكيف تقارن أخي سبعاً وسبعين سنة أو مائة سنة سيطرت فيها حضارات زائفة مادية منحرفة، وتنسى ثلاثة عشر قرناً كان المسيطر فيها هو دين الله، وشرع الله، وتوحيد الله؟!!.
أما عن مستقبل هذه الأمة فقد أخبرنا النبي عن المعركة الفاصلة مع اليهود على نهر الأردن كما حددها عندما قال: ((أنتم شرقيه، وهم غربيه)) حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله.
ومن دلائل نصر هذه الأمة في آخر الزمان، نزول عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق وتجمع المسلمين عليه.(/2)
ومن دلائل النصر في آخر الزمان خروج المهدي وقيادته لهذه الأمة كما أخبر النبي . ومن دلائل النصر قول النبي : ((إن أمتي كالغيث لا يدرى خيرٌ أولُه أو آخرَه)) أوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وآخره عيسى بن مريم والمهدي، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جورا وظلما. إذاً لا يجوز أن نقارن لحظة معينة من عمر التاريخ وننسى الماضي كله، والمستقبل كله. وتسلط الكفار في هذا الوقت إنما هو تسلط مؤقت بقدر من الله عز وجل، ولحكمة منه سبحانه وتعالى، ودين الله غالب، ونصر الله قريب، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فهذه الأمة منصورة بإذن الله تعالى، فقط تحتاج إلى من ينفض عنها الغبار.
إخواني في الله، ربما يقتل أناس من هذه الأمة، وربما تباد جماعات ومجتمعات، وربما تسقط دول وتذهب أسماء وشعارات، وهذا كله صحيح، لكن الإسلام باق، والذي يريد أن يواجه الإسلام، أو يحارب الإسلام مسكين، مثله كمثل الفراشة التي تحاول إطفاء نور الكهرباء، والله متم نوره ولو كره الكافرون، قال تعالى: هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
وإن هذا الدين هو سر بقاء هذه الأمة ووجودِها، وهذه الأمة إنما خلقت للإسلام، ووجدت للإسلام، والذي يريد أن يقضي على الإسلام فليقض على هذه الأمة، وهل يستطيع أحد أن يقضي على هذه الأمة، هيهات ثم هيهات!! فهذه الأمة موعودة بالبقاء، وليس بالبقاء فقط بل بالنصر والتمكين، ولا يزال الله عز وجل يخرج لهذه الأمة في كل مرحلة من تاريخها علماء ودعاة وقادة ومجاهدين يستعملهم في خدمة هذا الدين، ولن يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا وسيدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله، كما قال عليه الصلاة والسلام.
كم دفن الناس من طاغية؟ كم دفن الناس من كافر محارب لله ورسوله؟ كم دفن من زنديق؟ كم دفن الناس من كافر؟ كم دفن الناس من منافق وملحد؟ فرعون مضى، النمرود مضى، أبرهة مضى، أبو جهل مضى، هولاكو مضى، جنكيز خان مضى، وقروناً بين ذلك كثيراً، حتى رؤساء الكفر والضلال في هذا الزمان سوف يأتي يوم ويدفنهم أصحابهم، فقط صبر جميل واستعانة بالله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إخواني في الله، إن هذا الدين هو كلمة الله عز وجل، ولا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، ومن ذا الذي يستطيع أن يُطفئ نور هذه الكلمة؟
أتُطفِئ نورَ الله نفخةُ كافر تعالى الذي في الكبرياء تفردَّا
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سُدى
ونقول اليوم لأمريكا: لست أول من حارب الإسلام، بل حاربه قبلك الكثير، لكن ماذا كانت النتيجة؟ أهلك الله كل من وقف في طريق الإسلام، وأبقى الله الإسلام شامخاً، وسيبقى بموعود الله ورسوله، وها هو الإسلام الآن بدأ يتململ في أوربا وأمريكا… إخواني في الله، ورغم الظروف الصعبة التي يمر بها الإسلام والمسلمون في كل مكان، إلا أن المستقبل للإسلام، وتدبروا معي ما تقوله الكلمات الغربية، لأن كثيراً من الناس لا يصدقون الوحي إلا إذا جاء تصديقه من أوربا وأمريكا، أوردت مجلة التايم الأمريكية الخبر التالي: "وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب".
من قلب أوروبا تلك القارة التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما، وصوتُ الأذان كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خيرُ شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعاً.
ويكفي أن تعلم أخي أنه قد بلغ عدد المساجد في قلب قلعة الكفر -أمريكا- ما يقرب من ألفي مسجد، وفى ولاية نيويورك فقط مائة وخمسة وسبعون مركزاً ومسجداً إسلامياً والحمد لله، بل وتحتضن إيطاليا وحدها مائة وعشرين مسجدًا، أبرزها مسجد روما الكبير. أما جريدة السانداي تلغراف البريطانية فتقول: "إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية".
مجلة لودينا الفرنسية بعد دراسة قام بها متخصصون تقول الدراسة: "مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي، لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة" لم لا وهو دين الله، الذي أنزله للعالمين.(/3)
وقال رئيس شرطة المسلمين وهو ضابط أمريكي أكرمه الله بالإسلام قال: "الإسلام قوي جداً جداً في أمريكا، وينتشر بقوة في الشرطة الأمريكية".
إخواني في الله، وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن، ازداد في العالم الغربي الإقبال على فهم الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوربية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام.
كما أعلنت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة أنها بصدد إعادة طباعة ترجمة القران الكريم بعد نفادها من الأسواق.
ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر 23/10/2001، مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنويا بخمسة وعشرين ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث 11 سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية.
وإليكم الآن بعض كلمات من دخلوا في الإسلام حديثاً: هذه ضابطة أمريكية أسلمت، وجاءت في اليوم التالي تلبس الحجاب، فقال لها رئيسها: ما هذا؟! قالت: لقد أسلمت قال: لا حرج، لكن اخلعي هذا الثوب، فقالت: لا، وردت بقول عجيب أتمنى أن تستمع إليه كل مسلمة متبرجة، قالت: إن الله هو الذي أمرني بالحجاب، ولا توجد سلطة على وجه الأرض تملك أن تنزع عنى هذا الحجاب إلا بأمر الله!!
وهذه كاتبة وصحفية أمريكية اسمها (سميرة) Jemmah سابقاً، بعد أن نطقت بالشهادتين قالت: منذ دخولي في الإسلام امتلأ قلبي بالراحة والطمأنينة والسعادة..
والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية التي نشرت قبل شهر تقريباً ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي حيث قال: إن أكثر من 24 ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو أعلى مستوى تحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام.
وآخر الأخبار التي طالعتنا هذا الأسبوع أن ديا ريتشارسون الأميركية المدمنة للخمر، ومن رواد الملاهي الليلية، وأعمامها الثلاثة قسيسون، استمعت للقرآن الكريم من طفل فأسلمت على الفور، كما نشرت قصتها صحيفة لوس أنجلوس تايمز.
والأقوى من ذلك كله أن حاكمة ولاية ماست شوس تس الأمريكية وافقت ـ بعد اجتماعها مع المسلمين ـ على إدخال مادة لتعليم الإسلام في المدارس لتوعية الشعب الأمريكي بالدين الإسلامي.
ونظرا لإقبال الغرب على الإسلام حذر أسقف إيطالي بارز من (أسلمة أوروبا).
وفي مدينة بولونيا الإيطالية حذر أسقف آخر من أن الإسلام سينتصر على أوروبا إذا لم تغد أوروبا مسيحية مجددًا..
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء بل وصل الخوف إلى بابا الفاتيكان الذي صرخ بذعر في وثيقة التنصير الكنسي لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".
ونحن نقول للمسلمين: إن مستقبل الغرب الآن بدأ للإسلام، وبوادر الفتح الإسلامي لأوربا بات وشيكاً، تحقيقاً لما أخبر به الصادق المصدوق حيث قال: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)) رواه مسلم عن نافع بن عتبة.
وتدبروا معي هذا الحديث الذي يسكب الأمل في قلوب الأمة صباً، فعن عبد الله بن عمرو قال: سُئِلَ النبي أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ)) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. والقسطنطينية: عاصمة الكنيسة الشرقية، وروما: عاصمة الكنيسة الغربية.
وقد وقع الفتح الأول، يعني فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح بعد ستة قرون من حديث الرسول كما أخبر به تماماً، وسيقع الفتح الثاني، يعني فتح روما ـ عاصمة الفاتيكان حاليا ـ سيقع بإذن الله ومشيئته، وهذا ما تخشاه أوروبا وبابا الفاتيكان كما سمعتم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فهيا أيها المسلمون في كل مكان، تحركوا بكل ما تملكون من وسائل وإمكانيات، وبينوا الصورة المشرقة للإسلام، فالإسلام الآن متهم في الغرب بالإرهاب والتطرف شئنا أم أبينا، فإن كنت أخي تعرف زميلاً لك في أي مكان، فأرسل إليه رسالة، أو أهد إليه كتاباً أو شريطاً عن الإسلام، وافعل ذلك مع جيرانك وزملائك في العمل، المهم أن تبذل شيئاً للإسلام، وأنت سفيرُ الإسلام في هذه البلاد شئت أم أبيت، فهيا تحرك لخدمة دين الله تعالى، واعلم أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان، ولا يدير دفته الأوروبيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه وتعالى.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، تقبل الله منا ومنكم وكل عام وأنتم بخير. ... ...(/4)
خطبة في التوحيد
2057
الألوهية
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
القدس
ملخص الخطبة
1- أهمية التوحيد. 2- الإقرار بالربوبية لا يكفي للدخول في الإسلام. 3- أهمية توحيد الألوهية (العبادة). 4- بعض صور الشرك. 5- من آثار التوحيد عزة المسلم الموحد. 6- ضرورة تربية الأبناء بل والنفس على توحيد الله.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، إن المقصود الذي من أجله خلق الله السماواتِ والأرض والجنةِ والنار، وبه أنزلتِ الكتب، وبه أرسلتِ الرسل، وبه قامتِ الحدود، وبه شرعتِ الشرائع وبه شرع الجهاد، وبه انقسمتِ الخليقة إلى السعداءِ والأشقياء، وبه حقتِ الحاقة ووقعتِ الواقعة، وبه وضعتِ الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنةِ والنّار، وبه عبِد ربّ العالمين وحمِد، وعنه السؤال في القبرِ ويوم البعثِ والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة. إنه التوحيد الذي هو حق الله على العبيدِ: قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:16-17]. أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]. وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. ومعنى الآيةِ: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو مقصود خلقهم والحكمة منه، ولم يرِدْ منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانةِ لهم بالرِّزقِ والإطعامِ، بل هو الرزّاق ذو القوةِ المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ [الأنعام:14].
عباد الله، إن العبد إذا علِم أن الله هو مالك الملكِ ومدبِر الأمر، وأنه خالق السماواتِ والأرض وأنه ينزِّل من السماء ماء فينبت به حدائِق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وأنه جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرينِ حاجزا وأنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، وأنه يهديكم في ظلماتِ البرِ والبحرِ ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده ويرزقكم من السماء والأرضِ. إذا علمتم عباد الله ذلك كلِّه وأقررتم به فاعلموا أن ذلك لا يكفي فإن هذا الإقرار قد أقر به المشركون من قبل، قال تعالى في حقِ المشركين: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
إن مشركي العربِ كانوا يقرون بربوبيةِ الله، وأنه الخالق وأنه الرازق وأنه المانع والضار والنافع، ولكن جعلوا مع الله آلهة أخرى عبدوها من دونِ الله قربوا لها القرابين واعتقدوا فيها النفع والضر، وعبدوا الجن من دونِ الله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]. وجعلوا تقليد الآباءِ دينا يدينون به وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].
فإن التوحيد المقصود عباد الله الذي من أجله أرسل الله رسله هو توحيد العبادةِ، والذي حقيقته هو انجذاب الروحِ إلى الله تعالى محبة وخوفا، وإنابة وتوكلا، ودعاء وإخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة.(/1)
وبالجملة فلا يكون في قلبِ العبدِ شيءٌ لغير الله، ولا إرادةٌ لما حرم الله ولا كراهةٌ لما أمر الله؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله. فمن طاف بالقبرِ وقرب له وسأل صاحبه من دون الله فهو مشركٌ، وإن قال لا إله إلا الله، ومن أحب غير الله مع الله فقد أشرك في محبةِ الله قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ [البقرة:165]. كمن يحب الآلهة ومن يقوم في قلبه إجلالٌ للمحبوبِ وتعظيمٌ له يقتضي أن يجتنب نهيه ويقوم بأمره، فهو شركٌ في المحبةِ وصاحبه مشرك، ولو قال لا إله إلا الله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. ومن اعتقد في مخلوقٍ نفعٍ أو ضرٍ من دون الله فقد أشرك بالله، ومن اعتقد أن أحدا يعلم شيئا من الغيب غير الله فقد كفر، ومن أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد.
فاحذروا من الشرك عباد الله بكلِ صوره وأشكاله، فقد يأتي الشرك في صورةِ كرةٍ أو في صورةِ شاشةٍ تعبد من دون الله، تصرف لها الأوقات وتعظم في القلوب وتصرف لها المحبة ويعادى فيها ويوالى فيها، وتقدم على طاعة الله والحقّ، إنها عبادةٌ الهوى قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43-44].
فالتوحيد التوحيد عباد الله: إنه أفضل طِلبة، وأعظم رِغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رتبة، هو وسيلة كلِ نجاح، وشفيع كلِ فلاح، يصيِّر الحقير شريفا، والوضيع غضريفا، يطِّول القصير، ويقدِّم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما عزت دولةٌ إلا بانتشاره، وما ذلت إلا باندثاره.
وإن معظم الشرورِ والنكبات التي أصابتِ الأمة الإسلامية، وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، فمن مفتونٍ بالتمائمِ والحروز، يعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر وتذهب العين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) ومن الناس من افتتن بالمشعوذين والدجاجلة الأفاكين، ومنهم من هو مفتونٌ بمستقبل الأبراجِ . جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندا، وهو خلقك)) . . الحديث.
عباد الله، إن من تمام التوحيدِ محبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله. ومن حقق التوحيد الخالص نال السعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. والمقصود بالظلمِ في الآية كما فسره نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشرك، فمن حقق التوحيد الخالص كان له الأمن والهداية التامّة في الدنيا والأمن والهداية التامة في الآخرة، ومن حقق التوحيد قولا وعملا دخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة)).
وإن من ثمراتِ التوحيدِ عباد الله أن الله يكون مع العبدِ يحفظه وينصره ويحوطه بعنايته، فمن كان مع الله كان الله معه. ومن حفظ الله في أوامره ونواهيه حفظه الله في نفسه وخاصته.
ولكم في ذلك حديث الثلاثةِ الذين أطبقتِ الصخرة عليهم الغار، فدعوا الله بصالحِ أعمالهم فكشف الله ضرهم.
وإن من آثارِ التوحيدِ عباد الله، العزة في الدنيا فيرى المسلم أنه عزيزٌ بما يحمل في قلبه من توحيدٍ لله، فهذا ربعي بن عامر يدخل على رستم وهو في أعظم حلةٍ له، ويأتي هذا الأعرابي الذي ما عرف رستم، ولكنه عرف الله ووحد الله، يأتي بثيابٍ صفيقة وسيف وفرسٍ قصيرة، لا ينزل من فوقها حتى يدوس بها بساط رستم، ثم يتقدم ويشق بعض الوسائد ليربط دابته ثم يتقدم يتوكأ على رمحه فوق النمارق، يخرقها برمحه المثلم، ويقول كلمته المشهورة، من مصدر العزةِ والرفعة، عظموا الله فعظم الله شأنهم، ووحدوا الله فوحد الله قلوبهم، قال له رستم وهو ينظر إليه مالذي جاء بكم ؟ فقال في عزةٍ وشموخ: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادةِ الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ،ومن جور الأديان إلى عدلِ الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعودِ الله).(/2)
إنها العزة عباد الله، يرى المسلم الموحد أنّ الدنيا كلها رحابه وأنها موطن دعوتِه فهذا عقبة بن نافع يقول: بعد ما وقف على فرسه على شاطئ المحيط: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته بفرسي. قلوبٌ تعيش هم الإسلام وتحيا للإسلام وتموت للإسلام قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) لو ترك كل مولودٍ على فطرته لكان بطبيعته موحدا لله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]. فربوا أبناءكم عباد الله على توحيد الله، لا يرون منكم ما يخالف التوحيد من الأقوال والأفعال، وعلموهم التوحيد واربطوهم بالله وخوفوهم به وحده، وعلموهم سؤال الله وطلبِ الحاجاتِ منه وحده، ربوهم على المحافظةِ على الصلوات، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث يقول مربيا وموجها عبد الله بن عباس: ((يا بني إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لواجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
ارقوا أنفسكم بأنفسكم، وارقوا أبناءكم، وتداووا بكلام الله، ففيه الشفاء، إذا خالط القلب توحيدٌ وإيمانٌ بالله ويقين، علقوا القلوب بالله ولا تعلقوها بأحدٍ غير الله، ولا تكثروا الشكوى والأنين،فإن كل ذلك مما يضعف التوحيد في القلوب، لقد كان الموحد يقرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]. تحول هذه الآية بينه وبين الخلقِ جميعا، وتسد عليه طريق الرغبة فيما عند العباد، فترى المصائب تمر به جميعا، فلا يدل مخلوقا على مكان ألمه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علته، ولا تسمع منه أذنٌ مخلوقةٌ قولة:آه، تى لقد كان تسقط من أحدهم عصاه، فلا يقول لأحدٍ: ناولنيها. كيف لا، وقد بايعهم المصطفى صلى الله عليه وسلم على ألا يسألوا الناس شيئا.
اللهم اجعلنا من عبادك الموحدين، الذين لا يدعون إلا إياك، ولا يرجون إلا إياك، وإياك نعبد، وإياك نستعين.
اللهم وفقنا لعمل الصالحات والإكثارِ من الطاعات، وارزقنا الإخلاص في النيات، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ [البينة:5].
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(/3)
خطر الأفلام ...
اسم الخطيب ... عبد الله فهد السلوم ...
ملخص الخطبة
1- الحث على تقوى الله تعالى 2- جلوس كثير من الناس على مشاهدة الأفلام والمسلسلات وأثر ذلك على قلوبهم 3- مفاسد وأضرار مشاهد الأفلام 4- الحث على التوبة إلى الله تعالى
الخطبة الأولى
عباد الله: لقد أوصانا الله عز وجل بتقواه ومخافته فقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ولقد بين لنا ربنا الطريق الموصل إلى رضاه وجنته وحذرنا من طريق أهل الزيغ والضلال الموصل إلى سخطه والنار فقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .
أيها المسلمون: إن طاعة الله هي الحصن الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وإن معصية الله: هي الشر المستبين الذي من سلكه لحقته المخاوف والهموم وأصابه الله بالذل والهوان قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى بخلاف من استجاب لربه خائفاً منيباً فإن له الحياة الطيبة الرضية في هذه الدنيا وله الجنة في الآخرة، قال تعالى: للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد .
عباد الله: ومما وقع فيه كثير من الناس اليوم من معصية الله هو مشاهدة الأفلام والمسلسلات سواء عن طريق الدش أو الفيديو والتلفاز فأطالوا الجلوس والعكوف عندها وأشرب حبها في قلوبهم وعاشوا معها فتعلقت بها قلوبهم يريدون إشباع غرائزهم يبحثون عن السعادة والسلوى ليستغلوا حياتهم بهوى النفوس وطاعة الشيطان بلا خوف من الله ولا حياء فمرضت قلوبهم ولم يشعروا بالمرض وتخلفوا عن الصلوات دون وعي وذهبت لذة الخشوع والعبادة وهم غافلون وارتكبوا المعاصي والمنكرات وهم يضحكون وأحيوا ليلهم ماكثين على غيهم وضلالهم مغترين بصحتهم وإمهال الله لهم، يريدون أن تكون حياتهم لهواً ولعباً بحثاً عن الشهوات المحرمة فما شكروا نعم ربهم وما قدروا الله حق قدره فاستعملوا أسماعهم وأبصارهم وأفكارهم وعقولهم وأجسامهم فيما حرم الله إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً وباتوا يحادون الله عاكفين على الأفلام والمشاهد الخبيثة ناسين أو متناسين أن الله بالمرصاد وأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنما تخفي عليه يغيب
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أيها المسلمون: واستمعوا الآن إلى مفاسد وأضرار مشاهدة الأفلام التي تعرض المنكرات من قصص الحب والغرام وإثارة الغرائز وصور النساء بمفاتنهن والغناء الماجن والرذائل الخلقية والدلالة على الزنا والاستهتار بأوامر الله الناهية عن كل ذلك، فمن تلك المفاسد: ضياع الوقت وتبذيره فيما لا منفعة فيه بل فيما فيه مضرة والوقت سيحاسب عليه المسلم يوم القيامة قال : ((لاتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ومنها عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه)) [ت]. ومنها السهر الطويل المخالف لهدي النبي والتعرض لترك صلاة الفجر مع الجماعة أو التأخر عن وقتها ومنها أيضاً النظر إلى الصور المحرمة من صور النساء المتبرجات المبديات لشعورهن وزينتهن المثيرات للفتنة الكاسيات العاريات وحدث ما شئت من فتك هذا النظر في القلوب والنفس وتعلقها بما حرم الله وصدودها وإعراضها عن ذكر الله وحدث عن غفلتها عن الله والدار الآخرة وعن مكر الشيطان بها وعن اشتغالها للعبادة وحدث عن الحسرات والآلام التي تكابدها تلك القلوب بسبب تعلقها بالهوى والمفاتن.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر(/1)
وحدث عما يقع في النفوس من التعلق بالحرام من الزنا واللواط والبحث عنه وحدث عن بعدهم عن الخير وأهله عن المساجد وحلق الذكر وحدث عن رغبتهم ومجالستهم لأهل الفسوق والفجور أهل الغفلة والفواحش أهل الاستهانة بأوامر الله والاجتراء على حرمات الله والله يقول: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ومن مفاسدها التشجيع على السفور والاختلاط والخلوة وسقوط الحشمة والتهاون بعلاقة الرجل مع المرأة وكأن الأمر عادي جداً، ومنها نقل عادات وتقاليد البلاد الكافرة والمناقضة للإسلام في العلاقات الاجتماعية والتربية واللباس حقاً إنها موائد الكفار ومكرهم وتخطيطهم وغيهم وضلالهم يجلس عندها المسلم ليتربى عليها ويربي أبناءه عليها لينهلوا من أخلاقهم وأفكارهم وكأنه منهم ينفذ في نفسه وعقله وأبنائه وبناته ما صنع الأعداء له فما أعظمها من بلية وما أشدها من خيانة أن يربي المسلم نفسه وأهله على الفجور وأعمال الفاجرين يبيع دينه وأخلاقه وعرضه وحياءه من أجل شهوةٍ عارضة أو تقليد مقيت فإن لم يكن هناك خوف من الله وحياء منه فأين العزة والشهامة والغيرة على العرض؟ وربنا أخبرنا عن الكافرين فقال: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل إنهم أضل من الحمير والبهائم فكيف نقلدهم ونرضع من أفكارهم وندنس قلوبنا وبيوتنا وأبناءنا بخبثهم ومجونهم وهم ساقطون في الرذيلة لأنهم يعتبرونها هي المدنية والحرية والتحضر وهم قبل ذلك كفار ملعونون فليس بعد الكفر ذنب، ومن المفاسد زهادة المشاهد في دينه والتقليل من شأنه وغياب خوف الله من قلبه ونفسه لأن الأفلام الخليعة تنادي المنحرفين لتصدهم عن الدين الذي يحرمها ويحبس الشهوات عنها ومنها اضطراب ذهن وتفكير الصغير والجاهل الذي يتعلم في المدرسة والمسجد واجبات الدين والتأكيد عليها ثم هو يرى في الأفلام ما يناقضها ويدعوا إلى نبذها والاستخفاف بها، ومنها نشر الجريمة الخلقية وجريمة السرقة والاحتيال ونشر الدجل والخرافة والشعوذة والسحر والكهانة المنافية للتوحيد، ومنها إظهار شعائر أهل الكفر ورموز أديانهم الباطلة كالصليب ومزار المقابر المقدسة وما ينطبع في حس المتفرج من توقير ممثلي الأديان الباطلة كالأب والقسيس والرهبان ومنها التشكيك في قدرة الله أو خلقه، ومنها القضاء على مفهوم البراءة من أعداء الله في نفوس المشاهدين بما يرونه من أمور تبعث على الإعجاب بشخصيات الكفار ومجتمعاتهم وكسر الحواجز النفسية بين المسلم والكافر فإذا زال البغض في الله بدأ التشبه والتلقي عن هؤلاء الكفرة وتصوير الحياة في بلاد الكفر على أنها الحياة الراقية المثلى التي يتمناها المنهزمون والكفار وهم أعداء الله المجرمون الذين هم أضل من الأنعام وهم شر من الحمير والجعلان قال تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ومنها الدعوة إلى الجريمة بعرض مشاهد العنف والقتل والخطف والاغتصاب ومنها ذهاب الغيرة المحمودة من استمرار النظر إلى مشاهد الإختلاط وكشف الزوجة للأجانب وسفور البنات والأخوات والتأثر بالدعوة إلى تحرير المرأة ومنها الدعوة إلى إقامة العلاقات بين الجنسين وتعليم المشاهد كيفية بناء العلاقة والتعرف وتبادل أحاديث الحب والغرام وتشابك الأيدي ومنها الوقوع في الزنا والفاحشة بفعل الأفلام التي تعرض ذلك صراحة حتى أن بعضهم يقلد ما رآه في الفيلم مع بعض محارمه والعياذ بالله ومنها ابراز الساقطين من الممثلين والمغنين والراقصين واللاعبين على أنهم النجوم والأبطال والرموز بدلاً من القدوات الصالحة من الأنبياء والصالحين والعلماء والمجاهدين ومنها الطعن في بعض ما جاءت به الشريعة من أحكام كالحجاب وتعدد الزوجات وتشويه التاريخ الإسلامي وطمس الحقائق، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الخطبة الثانية(/2)
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين أيها المسلمون إن آثار الأفلام وأخطارها عظيمة وكثيرة لانستطيع لها حصراً إن المسلم في هذه الحياة خلقه الله لمهمة عظيمة ورسالة كبيرة خلقه الله لعبادته وطاعته والنظر فيما يرضيه والبعد عما يسخطه والبعد عما يرديه إن الساعات التي تهدر وتقضى في مشاهدة الأفلام وسماع المعازف يومياً إنها تتحول إلى ملايين كثيرة في السنة الواحدة (تصل إلى مائتين وخمسين مليون يوم عمل في بلد عدد سكانه عشرة ملايين نسمة يشاهد من سكانه الربع فقط) فكيف لو صرفت تلك الأوقات في طلب العلم النافع والدعوة إلى الله ومساعدة المحتاجين وإقامة المصانع والمعامل والاستغناء عن الأيدي الكافرة والدفاع عن الأمة؟ عباد الله ومن الأضرار الصحية في مشاهدة الشاشة ضعف البصر ففي إحدى الإحصائيات ذكر أن 64 من المشاهدين يصابون بضعف البصر و44 يصابون بتقييد حركة الجسم والحرمان من الرياضة، ومن الآثار الضرر الإقتصادي وذلك بشراء أجهزة الإستقبال مع الصيانة مع تأثير الدعاية في شراء بضائع لا حاجة لها ومنها التأخر في الزواج وتفشي الطلاق وانصراف المرأة للأزياء العالمية والموضات وتقليد المرأة الغربية في الخروج من المنزل ومحادثة الرجال وسيطرة المرأة على الرجل وضعف قوامة الرجل على المرأة بدعوى الحرية وتساوي الحقوق، ومن منكرات الأفلام أنها تعود الأمة على حياة الهزل واللعب والمجون وتقصيها عن حياة الجد والجهاد والاشتغال بالنافع المفيد ثم هل تطيق أيها المسلم الغيور أن ترى ابنتك أو زوجتك أو أختك تتفرج من خلال نافذة بيتك على بعض الشباب وتتفرس في وجوههم وتتمتع برؤيتهم فأي فرق بين هذا ومن اشترى الجهاز الذي يستقبل أعمال الكفرة والفجرة وأدخله في بيته يتعلم منه الأولاد كل قبيحة ورذيلة؟ ثم إذا انحرف الأولاد ووقعوا في الفواحش والمهلكات وفرطوا في الصلوات وتعرضوا للقضايا السلوكية أصبح الوالد يتحسر ويشكوا ضياع أولاده وفجورهم، إنه يشتكي من الأولاد وهو السبب في ضياعهم ومكرهم وبعدهم عن الله حتى وجد من يفعل بإخوانه وأخواته الجريمة بسبب هذه الأفلام التي تسبب الوالد في إحضارها لأبنائه ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم إننا نقول لهؤلاء اتقوا الله في أنفسكم وأولادكم إنها الخيانة الكبرى للنفس والبيت والأولاد، إنكم الجناة على أنفسكم وأهليكم قال رسول الله : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) [خ]. ويقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .(/3)
عباد الله: ألا من توبة قبل الموت قبل فوات الأوان توبة يقبل بها العبد على ربه منيباً صادقاً ضارعاً يسأل ربه الغفران والعفو على تفريطه وصدوده وإعراضه توبة نطهر بها قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وبطوننا وفروجنا وكل جوارحنا عماحرم الله ومن أقبل على ربه صادقاً يريد مرضاته فليبشر بمغفرة ذنوبه جميعاً وتكفير سيئاته ورفعة درجاته فإن الله ينادينا إلى التوبة ويحبها منا ويفرح بها وهو سبحانه يبدل السيئات حسنات قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم أيها المسلمون ألا من رجوع إلى الله إلى الطاعة بعد المعصية إلى الذكر بعد الغفلة إلى الإقبال بعد الإدبار إن الشيطان اللعين يعظم أمر التوبة ويجعلها ثقيلة غير مقدور عليها أمام الذي يريدها قال الله عن الشيطان، قال: فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وحقيقة أمر التوبة أنها هينة سهلة ولكنها تحتاج إلى الصدق والصبر في البداية ثم تجد الطريق مفتوحاً أمامك وتجد باب الرحمات يناديك لتجد الأفراح وقرة العين وسلوى النفس وشرح الصدر وتجد لذة العبادة وعفاف النفس وطعم الخشوع، عباد الله إن من دأب واستمر على التسويف والتساهل ومجرد الأماني ولم يأخذ الأمر بجد بل قابله بالتهاون وعدم المبالاة فإنه يخشى عليه سوء الخاتمة ويخشى عليه من موت القلب بحيث لا يستيقظ ولايدّكر ويغفل عن الموت ووحشة القبر ومنكر ونكير والجنة والنار فأي شيء عظيم ينتظرنا وأي مصير قد توعدنا الله فيه؟ فكيف يلهو ويغفل من هو بين الجنة والنار ولا يدري إلى أيهما يصير؟ وإن من عاش على شيء مات عليه، قال : ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) [الحاكم]. فأنظر لنفسك أيها المسلم على أي حال أنت الآن فإن كنت على الطاعة والخير والذكر ومحبة ما يحب الله ورسوله فأبشر بالخير لأن العزيز على ربه هو الذي يوظفه فيما يحبه ويرضاه وإن كنت على الفسق والتفريط والغفلة ومجالسة الأشرار فإنها الطامة الكبرى والداهية العظمى فإن الهين على ربه يشتغل بما يسخط الله من رذائل الأعمال وقبائحها فيامن عكفت على الملاهي والأفلام هل أنت من الطائعين لربك أم من العاصين؟ وهل أنت من المؤمنين أم من الفاسقين؟ قال تعالى: أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لايستوون .
وقد هيؤك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
إنك تعيش اليوم في صحة وعافية وطمأنينة ونعمة، فلا تفسد نعمتك بمعصية الله وتذكر يوم رحيلك عن بيتك وأصحابك وأهلك إلى حفرة ضيقة ترقد فيها فريداً وحيداً لا أنيس ولا جليس سوى عملك الصالح فعليك بالصالحات التي تقربك إلى ربك وترضيه عنك والحذر الحذر من المعاصي المهلكات المنسيات، فعاهد ربك يا عبدالله من هذا المكان الطاهر وفي هذه اللحظات المباركة وفي هذا اليوم الشريف، عاهد ربك على ترك المنكرات والإقلاع عنها وبغضها عهداً صادقاً على ألا تقربها وأن تخرجها من بيتك وأن تحزم مع أولادك وألا تتنازل عن شيء فيه معصية الله من أجل أولادك أو أصدقائك بادر إلى هذا قبل حلول الأجل يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .(/4)
خطر الاختلاف في القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعيين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ الله-عز وجل- قد حذر من الاختلاف في القرآن والتنازع فيه، أو ضرب بعضه ببعض؛ فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} سورة البقرة(176). وأخبر أنَّ الاختلاف فيه لدليل زيغ في قلوب المختلفين فيه، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} سورة آل عمران(7). والاختلاف في القرآن يشمل الاختلاف في أصله؛ فمنهم من آمن؛ ومنهم من كفر، ويدخل في الاختلافَ فيه تأويله تأويلاً باطلاً، أو الزعم أن ظاهره غير مراد، وما أشبه ذلك.
الآيات:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ () أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ () ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} سورة البقرة:175-176.
شرح الآيات:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ} أي يخفون؛ {من الكتاب}"أل" إما أن تكون للعهد؛ أو للجنس؛ فإن قلنا: "للعهد" فالمراد بها التوراة؛ ويكون المراد بـ{الذين يكتمون} اليهود؛ لأنهم كتموا ما علموه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإن قلنا: إن "أل" للجنس، شمل جميع الكتب: التوراة، والإنجيل، وغيرها؛ ويكون {الذين يكتمون} يشمل اليهود، والنصارى، وغيرهما؛ وهذا أرجح لعمومه. وقوله: {ما أنزل الله من الكتاب} أي على رسله؛ فإن الله-سبحانه وتعالى- يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} سورة الحديد: (25)؛ فكل رسول فإن معه كتاباً من الله -عز وجل- يهدي به الناس. قوله: {ويشترون به} يعني يأخذون بما أنزل الله؛ ويجوز أن يكون الضمير عائداً على الكتم؛ يعني يأخذون بهذا الكتم. قوله: {ثمناً قليلاً} هذا الثمن إما المال؛ وإما الجاه، والرياسة؛ وكلاهما قليل بالنسبة لما في الآخرة. قوله: {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} الاستثناء هنا مفرغ؛ والإشارة للبعيد لبعد مرتبتهم، وانحطاطها، والتنفير منها. قوله: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} يعني لا يكلمهم تكليم رضا؛ فالنفي هنا ليس نفياً لمطلق الكلام؛ ولكنه للكلام المطلق - الذي هو كلام الرضا؛ {ولا يزكيهم} أي لا يثني عليهم بخير. قوله: {ولهم عذاب أليم}؛ "فعيل" هنا بمعنى مفعِل؛ و"مؤلم" أي موجع؛ والعذاب هو النكال، والعقوبة.
قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} المشار إليهم: {الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً} سورة البقرة(174؛ و{اشتروا} بمعنى اختاروا؛ ولكنه عبر بهذا؛ لأن المشتري طالب راغب في السلعة؛ فكأن هؤلاء -والعياذ بالله- طالبون راغبون في الضلالة بمنزلة المشتري؛ و{الضلالة} هنا كتمان العلم؛ فإنه ضلال؛ وأما "الهدى" فهو بيان العلم ونشره. وقوله: {بالهدى} الباء هنا للعوض؛ ويقول الفقهاء: إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن؛ سواء كان نقداً، أم عيناً غير نقد؛ فإذا قلت: اشتريت منك ديناراً بثوب، فالثمن الثوب؛ وقال بعض الفقهاء: الثمن هو النقد مطلقاً؛ والصحيح الأول؛ والثمن الذي دفعه هؤلاء هو الهدى؛ فهم دفعوا الهدى -والعياذ بالله- لأخذ الضلالة. قوله: {والعذاب بالمغفرة} فهم أيضاً اشتروا العذاب بالمغفرة؛ ولو أنهم بينوا، وأظهروا العلم لَجُوزوا بالمغفرة؛ ولكنهم كتموا، فجُوزوا بالعذاب.
قوله: {فما أصبرهم على النار}؛ "ما" تعجبية مبتدأ؛ وجملة: {أصبرهم} خبرها؛ والمعنى: شيء عظيم أصبرهم؛ أو ما أعظم صبرهم على النار. فيقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون.(/1)
قوله: {ذلك بأن الله نزل الكتاب} المشار إليه ما ذكر من جزائهم؛ أي ذلك الجزاء الذي يجازون به؛ {بأن} الباء هنا للسببية؛ والرابط هنا بين السبب، والمسبَّب واضح جداً؛ لأنه ما دام الكتاب نازلاً بالحق فمن اللائق بهذا الكتاب المنزل بالحق أن لا يُكتم؛ الحق يجب أن يبين؛ فلما أخفاه هؤلاء استحقوا هذا العذاب؛ ومعنى: {نزل الكتاب بالحق} أن ما نزل به حق، وأنه نازل من عند الله حقاً؛ و{الكتاب} المراد به الجنس: القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغيرها من الكتب التي أنزلها الله.
قوله: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب} أي اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله -عز وجل- بحق؛ وهذا الاختلاف يشمل الاختلاف في أصله: فمنهم من آمن؛ ومنهم من كفر، والاختلافَ فيما بينهم أي فيما بين أحد الطرفين: فمنهم من استقام في تأويله؛ ومنهم من حرف في تأويله على غير مراد الله-سبحانه وتعالى-. قوله: {لفي شقاق بعيد} أي لفي جانب بعيد عن الحق.
فائدة:
قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار}؛ "ما" تعجبية مبتدأ؛ وجملة {أصبرهم} خبرها وهذا التعجب يتوجه عليه سؤالان:
السؤال الأول: أهو تعجب من الله أم تعجيب منه؛ بمعنى: أيرشدنا إلى أن نتعجب - وليس هو موصوفاً بالعجب؛ أو أنه من الله -؟
السؤال الثاني: أن قوله: { فما أصبرهم } يقتضي أنهم يصبرون، ويتحملون مع أنهم لا يتحملون، ولا يطيقون؛ ولهذا يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} سورة غافر(49)؛ وينادون: {يا مالك ليقض علينا ربك} سورة الزخرف(77) أي ليهلكنا؛ ومن قال هكذا فليس بصابر؟
والجواب عن السؤال الأول:- وهو أهو تعجب، أو تعجيب-: فقد اختلف فيه المفسرون؛ فمنهم من رأى أنه تعجب من الله عز وجل؛ لأنه المتكلم به هو الله؛ والكلام ينسب إلى من تكلم به؛ ولا مانع من ذلك لا عقلاً، ولا سمعاً - أي لا مانع يمنع من أن الله سبحانه وتعالى يعجب؛ وقد ثبت لله العجب بالكتاب، والسنة؛ فقال الله -تعالى- في القرآن: {بل عجبتُ ويسخرون} سورة الصافات(12) بضم التاء؛ وهذه القراءة سبعية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ والتاء فاعل يعود على الله -سبحانه وتعالى- المتكلم؛ وأما السنة ففي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه)1؛ وعلى هذا فالعجب لله ثابت بالكتاب، والسنة؛ فلا مانع من أن الله يعجب من صبرهم؛ فإذا قال قائل: العجب يدل على أن المتعجب مباغَت بما تعجب منه؛ وهذا يستلزم أن لا يكون عالماً بالأمر من قبل - وهو محال على الله -؟
فالجواب: أن هذا اللازم من قياس صفات البشر على صفات الخالق لأن التعجب بسبب المباغتة يكون في حقهم، وقياس صفات الخالق على صفات الخلق من جهل بالخالق.
وأيضاً فإن التعجب لا يختص بما ذكر؛ بل ربما يكون سببه الإنكار على الفاعل، حيث خرج عن نظائره، كما تقول: «عجبت من قوم جحدوا بآيات الله مع بيانها، وظهورها»؛ وهو بهذا المعنى قريب من معنى التوبيخ، واللوم؛ ومن المفسرين من قال: إن المراد بالعجب: التعجيب؛ كأنه قال: أعجب أيها المخاطب من صبرهم على النار؛ وهذا وإن كان له وجه لكنه خلاف ظاهر الآية.
وأما الجواب عن السؤال الثاني:- وهو كيف يتعجب من صبرهم مع أنهم لم يصبروا على النار – فقال أهل العلم: إنهم لما صبروا على ما كان سبباً لها من كتمان العلم صاروا كأنهم صبروا عليها، مثلما يقال للرجل الذي يفعل أشياء ينتقد فيها: ما أصبرك على لوم الناس لك مع أنه ربما لم يلوموه أصلاً؛ لكن فعل ما يقتضي اللوم؛ يصير معنى: {ما أصبرهم على النار} أنهم لما كانوا يفعلون هذه الأفعال الموجبة للنار صاروا كأنهم يصبرون على النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما تفيده الآيات الكثيرة، فيعبر بالعمل عن الجزاء؛ لأنه سببه المترتب عليه؛ و{النار} هي الدار التي أعدها الله -سبحانه وتعالى- للكافرين والظالمين؛ لكن الظلم إن كان ظلم الكفر فهم مخلدون فيها؛ وإن كان ظلماً دون الكفر فإنهم مستحقون للعذاب بحسب حالهم.
بعض فوائد الآيات:
1. أن يوم القيامة يُزَكى فيه الإنسان؛ وذلك بالثناء القولي والفعلي؛ فإن الله يقول لعبده المؤمن حين يقرره بذنوبه: (سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)2. وأما الفعلي فإن علامة الثناء أنه يعطى كتابه بيمينه، ويَشهد الناسُ كلهم على أنه من المؤمنين؛ وهذه تزكية بلا شك.(/2)
2. أن عذاب هؤلاء الكافرين عذاب مؤلم ألماً نفسياً، وألماً جسمانياً؛ فأما الألم النفسي فدليله قوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون}؛ فهذا من أبلغ ما يكون من الإذلال الذي به الألم النفسي؛ وأما الألم البدني فدليله قول الله -تعالى-: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} سورة النساء(56)، وقوله تعالى: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} سورة محمد(15)، وقوله تعالى: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( ) يصهر به ما في بطونهم والجلود ( ) ولهم مقامع من حديد ( ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} سورة الحجر(21، 22).
3. تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.
4. التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.
5. أن المختلفين في كتب الله لا يزالون في شقاق بعيد لا تتقارب أقوالهم، وإن تقاربت أبدانهم.
6. أن الاختلاف ليس رحمة؛ بل إنه شقاق، وبلاء؛ وبه نعرف أن ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اختلاف أمتي رحمة)3. لا صحة له؛ وليس الاختلاف برحمة؛ بل قال الله -سبحانه وتعالى-: {ولا يزالون مختلفين () إلا من رحم ربك} سورة هود(118) أي فإنهم ليسوا مختلفين؛ نعم؛ الاختلاف رحمة بمعنى: أن من خالف الحق لاجتهاد فإنه مرحوم بعفو الله عنه؛ فالمجتهد من هذه الأمة إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ والخطأ معفو عنه؛ وأما أن يقال هكذا على الإطلاق: (إن الاختلاف رحمة) فهذا مقتضاه أن نسعى إلى الاختلاف؛ لأنه هو سبب الرحمة على مقتضى زعم هذا المروي!! فالصواب أن الاختلاف شر4.
والله نسأل أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا. والله أعلم.
________________________________________
1 - أخرجه أحمد وابن ماجة، كلاهما بلفظ (ضحك ربنا...). وأما لفظ: (عجب ربنا) فقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية وقال: حديث حسن. وكذلك ابن كثير في تفسيره عند قوله -تعالى- في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ..} سورة البقرة (214).
2 - رواه البخاري ومسلم.
3 - قال الألباني في السلسلة الضعيفة: لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند، فلم يوفقوا (1/76)، رقم (57).
4- راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/118- 124). ط: درا الإعلام + دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/234- 237). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/193). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/264- 265). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/134- 135). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/149- 151). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.(/3)
خطر الفضائيات على الناس
الحمد لله الذي أمرنا بطاعته،ونهانا عن معصيته ومخالفته،والصلاة والسلام على البشير النذير،والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
إن أخطر ما يواجه به المسلمون اليوم ذلك الغزو الوافد إلينا عن طريق القنوات الفضائيات الفضائية. إنه غزو جديد، لا تشارك فيه الطائرات ولا الدبابات، ولا القنابل والمدرعات، غزو ليس له في صفوف الأعداء خسائر تُذكر، فخسائره في صفوفنا، إنه غزو الشهوات، غزو الكأس والمخدرات، غزو المرأة الفاتنة،والرقصة الماجنة، والشذوذ والفساد،غزو الأفلام والمسلسلات، والأغاني والرقصات، وإهدار الأعمار بتضييع الأوقات. إنه غزو لعقيدة المسلمين في إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وأمور الغيب التي وردت في كتاب الله وصحت عن نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-. إنه غزو لمفهوم الولاء والبراء، والأخوة الإسلامية،والاهتمام بقضايا الإسلام والمسلمين المتمثل في مبدأ الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر(1) .
فأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ *** أعددت ذاك الحِمى من بعض أوطاني
إن هذا الغزو القادم إلينا من الفضاء يفعل ما لا تفعله الطائرات ولا الدبابات ولا الجيوش الجرارة. إنه يهدم العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والعادات الحسنة، والشمائل الطيبة، والشيم الحميدة، والخصال الجميلة. ومتى تخلت الأمة عن عقيدتها وأخلاقها وقيمها سقطت في بؤر الضياع والانحلال.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أيها العاكف على صنم المرئيات والفضائيات،متنقلاً بجهازك الصغير من بلد إلى أخرى، ومن قناة الى قناة،باحثاً عن المتعة الشهوانية،واللذة البهيمية، والسعادة الزائفة،من أفلام هابطة,ومسلسلات ساقطة،وخمر، وقمار،وعري، ومجون، وجريمة، ومخدرات، وعقائد فاسدة، ووثنية بائدة، وجاهلية حاقدة!
أليس هذه غفلة عن الله وذكره وعبادته؟وعن الموت وسكرته؟ وعن القبر وظلمته؟ وعن الحساب وشدته؟ أليس هذا تفريطاً فيما ينفعك،واهتماماً بما يضرك في العاجل والآجل؟
أليس هذا اتباعاً للهوى وانقياداً للشهوة؟ أفق أيها الأخ الحبيب قبل أن تقول:{رَبِّ ارْجِعُونِ}(2)، فيقال لك: {كَلَّا}3.
أيها الأخ الحبيب:هل تعلم ما قاله صموئيل زويمر رئيس جمعيات التنصير؟ لقد قال في مؤتمر القدس للمنصرين الذي عقد في القدس عام 1935م:"إنكم إذا أعددتم نشأً لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام وجعلتموه لا يهتم بعظائم الأمور،ويحب الراحة والكسل،ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب،حتى تصبح الشهوات هدفه في الحياة،فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، إنه يجود بكل شئ للوصول إلى الشهوات! أيها المبشرون! إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه!!".
أيها الأخ الحبيب:هذا ما قالوه منذ ما يزيد على ستين عاماً، ولا يزالون يعملون دون كلل أو ملل؛ لأنهم يرون ثمار مخططاتهم الخبيثة تزداد يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، حتى ظهرت هذه الفضائيات التي استطاعوا من خلالها - وفي أعوام يسيرة - تحقيق ما لم يستطيعوه في قرون طويلة! لقد استطاعوا من خلالها اقتحام ديارنا و بيوتنا.. وحتى غرف نومنا.. بلا مقاومة منا ولا غضب، ولا محاولة لمنعهم من ذلك.. بل بموافقة منا ورضا وترحيب!! فلماذا ترضى لنفسك -يا أخي- أن تكون ممن يساعدون الأعداء,و ينفذون مخططاتهم الرامية إلى ضرب الأمة في عقيدتها وأخلاقها وعزتها ومجدها؟!
لماذا تقبل بالانهزام النفسي ودناءة الفكر والتصور والهدف والغاية؟!
أخيراً: لا يخفى عليك أن هذه الفضائيات سلاح ذو حدين، فيها الخير وفيها الشر,وإن كان الخير فيها قليلاً جداً، وهي إما أن تقودك إلى الهاوية أو تقودك إلى طاعة الله ومرضاته وأنت بين ذلك مخير بين النجدين، وعهدي بك أنك ذو عقل ولن تسلك إلا ما ينجيك بين يدي الله-تعالى-.
اللهم وفقنا لكل خير يا رب العالمين،والحمد لله رب العالمين.
0000000000000
1-إشارة الحديث الذي رواه البخاري كتاب الأدب باب رحمة الناس والبهائم برقم (5552)، ومسلم كتاب البر والصلة الآداب باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم(4685).
2- المؤمنون:99.
3 - المؤمنون:100.(/1)
خطر المعاصي
1778
الكبائر والمعاصي
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
ملخص الخطبة
1- أن المعاصي سبب لكل شر وبلاء في الدنيا والآخرة. 2- آثارها السيئة على الأفراد والجماعات. 3- ثلاثة أمور يعظم الذنب وخطره بسببها.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن تقوى الله هي الزاد ليوم الرحيل،وهي وصية الله لعباده أجمعين: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها .
عباد الله: إنه ما من شر وداء في الدنيا والآخرة إلا وسببه الذنوب والمعاصي، تأمل رعاك الله كتاب ربنا سبحانه حين قص علينا ما حل بالأمم السابقة من أنواع العقوبات جزاء معصية الله ومخالفة أمره، تأمل ما الذي أخرج الوالدين من الجنة، دار اللذة والنعيم إلى دار الآلام والأحزان. وتأمل ما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه وبدله بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً، فهان على الله غاية الهوان وحل عليه غضب الرب، فمقته أكبر المقت، كل هذا بمخالفة أمر الله وارتكاب نهيه،وتأمل ما حل بالأمم المخالفة لرسل ربها كيف كان عذاب الله لها أليماً شديداً.
انظر ما حل بقوم نوح من الغرق فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين .
وانظر ما حل بعاد قوم هود حيث سلط عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، وانظر ما حل بقوم صالح عليه السلام حيث أرسل عليهم الصيحة فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وانظر ما حل بقوم لوط حيث قلبت عليهم قراهم وأمطروا حجارة من السماء وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين .
وانظر ما حل بفرعون وقومه حين كذبوا وكذا ما حل ببني إسرائيل، وهكذا تتوالي نذر الله على عباده الذين خالفوا أمره بأنواع العقوبات فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره، فكم أهلك من القرون بسبب عصيانهم وتكذيبهم.
أيها المؤمنون: المعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، فما حلت بديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها، وما هلك من هلك إلا بالذنوب، وما نجا من نجا بعد رحمة الله إلا بالطاعة والتوبة، وإن ما يصيب الناس من ضر وضيق في أبدانهم وذرياتهم وأرزاقهم وأوطانهم إنما هو بسبب معاصيهم وما كسبته أيديهم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون .
إنه لما طغت الماديات على كثير من الناس وأشربوا حب الدنيا،غفلوا عن إدراك سنن الله الكونية والنظر في آياته الشرعية التي بينت كيف كان حال من قبلهم من الأمم حين خالفوا أمر الله،وغفلوا كذلك عن إدراك أن ما أصابهم وما قد يصيبهم من بلاء وشدة ونقص إنما هو بسبب ذنوبهم، لذا لم يلتفتوا إلى محاسبة النفس وكفها عن غيها فانتشرت بذلك الفواحش وكثرت المنكرات واستبيحت المحرمات لغياب الرقيب وضعف الإيمان في النفوس وقلة الخوف من الله والجهل به سبحانه، فهانوا بذلك على الله ولو عزوا عليه لعصمهم.
عباد الله: إن ضرر المعاصي وشؤمها عظيم وخطير على الفرد والجماعات.
فأما أفراد الناس، فللمعصية أثر ظاهر لمن تأمل وأنار الله بصيرته، دل على ذلك النصوص الشرعية والواقع المشاهد.
فمن هذه الآثار:
- حرمان العلم، فهو نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، قال مالك رحمه الله للشافعي لما رأى فطنته وذكاءه: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية".
- ومن الآثار حرمان الرزق كما في الأثر: ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) أحمد.
- ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه، بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وكلما قويت هذه الوحشة بعد عن مجالسة أهل الخير وقرب من حزب الشيطان وأهله.
- ومنها تعسير الأمور فكما أن من يتق الله يجعل له من أمره يسراً فبخلافه من عصى الله.
- ومنها ظلمة يجدها العاصي في قلبه تقوى هذه الظلمة حتى تظهر على الوجه يراها كل أحد قال ابن عباس : (إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر والقلب).
- ومنها حرمان الطاعة.
- ومنها أن المعصية تورث الذل، فأبى الله إلا أن يذل من عصاه من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً .
- ومنها سوء الخاتمة، فإن العبد قد تخونه جوارحه أحوج ما يكون إليها، وأعظم من ذلك أن يخونه قلبه ولسانه عند احتضاره وقرب وفاته.
وأما آثار الذنوب والمعاصي على الأمة بأجمعها فكثيرة جداً قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون .(/1)
- ومن هذه الآثار أن الذنوب تزيل النعم بمختلف أنواعها وتحل النقم والمحن قال تعالى: وضرب الله مثلاُ قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
فكم أزالت الذنوب والمعاصي حين تنتشر في الأمة من الأموال والأرزاق والأمن والعافية.
ومن ذلك حبس القطر من السماء قال : ((ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)). بل إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر.
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة أنه مُر على النبي بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه)) قالوا: يا رسول الله ما المستريح؟ وما المستريح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)).
قال تعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم .
أيها المؤمنون: إن أثر الذنوب وخطرها ليعظم في حق المذنب وفي حق عموم الأمة حيث يقترن هذا الذنب بأمور،نذكر ثلاثة منها.
أولاً: الاستهانة بالمعصية وعدم استعظام الذنب، فإنه بقدر ما يصغر الذنب عند العاصي بقدر ما يعظم عند الله، قال ابن القيم رحمه الله: "فاستقلال العبد للمعصية عين الجرأة على الله وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه" نعم لأنه إذا استصغر المعصية هان أمرها وخفت على قلبه ولم يجد حرجاً الاستزادة منها.
إن استعظام الذنوب يولد عند صاحب الذنب الاستغفار والندم والتوبة، أما أولئك الذين يحتقرون الذنوب فإنهم وإن عزموا على التوبة كانت العزيمة باردة، لأن داعي التوبة ضعيف.
روى البخاري عن أنس قوله لأهل زمانه الذين هم من خير القرون: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات).
وجاء عن حذيفة قال: (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي فيصير بها منافقاً وإني لأسمعها من أحدكم في المجلس الواحد أربع مرات).
وإن المسلم ليتساءل ماذا عسى هؤلاء أن يقولوا لو رأوا ما نحن فيه.
قال ابن مسعود مصوراً حال المؤمن وحال الفاجر: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فطار).
قال المحب الطبري رحمه الله: "وإنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته وسخطه،والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قل خوفه من الله واستهان بالمعصية.
أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).
ثانياً: مما يعظم به أثر الذنوب وخطرها على الأمة المجاهرة بها وإعلانها.
إن المجاهرة بالمعصية إثم كبير ووزر عظيم يترفع عنه المؤمنون بالله تعظيماً له وإجلالا وخوفاً منه ورهبة، وطلباً للعفو والستر والمغفرة في الدنيا والآخرة، ولا يقدم على المجاهرة بالمعصية إلا كل جهول ضال عن سواء السبيل، لا يعرف لله قدراً قد خف خوف الله والحياء منه من قلبه.
ولقد ذم الله الأمم الخالية ممن جاهر بالعصيان وأمن مكر الله، فأخذهم الله على غرة وهم في غيهم يعمهون وهكذا سنة الله فيمن عصاه، فإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [طه:128].
تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . قال بعض السلف بغت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قوماً إلا عند سلوتهم ونعمتهم وعزتهم فلا تغتروا بالله.
قال : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) متفق عليه.
وإن المجاهرة بالمعصية تغري الغافل ومن في قلبه مرض على مجاراة العاصي وتقليده في معصيته، فيكون قد جمع إلى معصيته معصية أخرى وهي الدلالة على الضلالة فيكون عليها وزرها ووزر من عمل بها.
ثالثاً: مما يعظم به خطر الذنوب على المجتمع عدم الإنكار على أهل الذنوب والمعاصي، بل قد يتطرق ذلك إلى مجالستهم ومشاركتهم بالسكوت عنهم، وهذا من أسباب عموم العذاب واللعنة قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
ثم إن النجاة حين ينزل العذاب تكون للمصلحين فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون .
والمتأمل في كتاب الله وسنة رسوله يجد أن سنة الله في هذا جلية واضحة فإن الله قد نجى رسله أجمعين لما نزل العذاب والعقاب. فإن الله يعذب من عصاه ومن سكت، وهو قادر على الإنكار كما جاء في الحديث.(/2)
عن أبي بكر قال سمعنا رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) وإني سمعت رسول الله يقول: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) أبو داود وابن ماجه.
إن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحفظ المجتمع وصلاحه وفلاحه،وترك ذلك سبب في هلاكه وفساده كما شبه ذلك النبي بالسفينة حيث يتهاون أهلها في ردع من يريد خرقها لأنهم سيغرقون جميعاً، وإن أخذوا على يده ومنعوه نجو جميعاً، فأصحاب المنكرات اليوم يدقون بمعاولهم في مجتمع المسلمين، فالزاني وتارك الصلاة ومانع الزكاة والمستهزئ بالدين ودعاة السفور والفجور وشياطين القنوات وآكل الربا وآكل أموال الناس بالباطل وأصحاب الرشاوي وغيرهم كثير، كل هؤلاء ينخرون في سفينة المجتمع، فإن لم يمنعوا وينكر عليهم صار العذاب عاماً والعقوبة مطبقة.
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : ((نعم إذا كثر الخبث)).
وما أحسن ما قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "اعلم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما من أعظم عُمُد الدين لأن بهما حصول مصالح الدنيا والآخرة فإن كانا قائمين قام بقيامهما سائر الأعمدة الدينية والدنيوية. أما إذا كان هذان الركنان العظيمان غير قائمين إلا قياماً صورياً لا حقيقياً فيالك من بدع تظهر،ومن منكرات تستبين، ومن معروف يستخفي ومن جولان العصاة وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض تظهر في الناس، ومن هرج ومرج في العباد يبرز للعيان وتقرّ به عين الشيطان، عند ذلك يكون المؤمن كالشاة العائرة، والعاصي كالذئب المفترس، وهذا بلا شك ولا ريب يمحو رسوم هذا الدين، وحينئذ يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً ويعود الدين غريباً كما بدأ".اهـ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. .(/3)
خطوات عملية في أوقات المحن
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
" خطوات عملية في أوقات المحن " ذلك ما يسأل عنه الناس ، ويريدون معرفته ، ويعزمون على الأخذ به وهو موضوع حديثنا اليوم .
لأننا في هذا المقام ينبغي أن نُذّكر أنفسنا ، ونُذّكر إخواننا ؛ لأن مقام الخطبة مقامٌ عظيم لابد فيه من أن تتوفر كثير من الصفات ، ولكننا نُشير إلى أهمها :
أولاً : المقصد الأعظم
فإن هذا المنبر ليس لمناورة سياسية ، ولا لمظاهرة إعلامية ، إنما أصله الأعظم ، ومقصده الأكبر الإخلاص لله - عز وجل - وابتغاء رضوانه ، وإن سخط الناس ، وقصد وجهه – سبحانه وتعالى - دون الإلتفات إلى الناس .
وثانياً : الهدي الأقوم
ونعني به الإقتداء بسيد الخلق – صلى الله عليه وسلم - كيف كان في خطابته ، وفي تأثيره ، وفي وضوحه ، وفي صراحته ؟ وكيف كان في علاجه لأمراض الأمة ، وتناول شئونها العامة والخاصة ؟ وكيف كان ذلك دائماً ناشئاً عنده – صلى الله عليه وسلم - من معايشته لأصحابه ، وأمته ، ومن معرفته العظيمة ، الواضحة ، الجليّة لحاجتها - أي لحاجة الأمة - .
ثالثاً : مراعاة المصالح والمفاسد والأخذ بالحكمة والبصيرة
أمّا والناس يريدون كما يقولون :كذا وكذا ، فليس هذا مثل وسائل الإعلام يُقدم ما يطلبه الجمهور فنسأل الله - عز وجل - أن يجعل لهذه المنابر إخلاصاً لله كاملاً ، ومتابعة لرسوله – صلى الله عليه وسلم - تامة ، وحكمة فيها بالغة .
هذه الخطوات أولاً في الجانب الفكري ؛حتى نفهم ونفقه ، وربما نؤكد ونكرر ، ونزيد ونعيد لأهمية مثل هذه المعاني .
ولست أُطيل ، ولن أؤكد وأرّكز على المهم من هذه المعاني التي لابد لنا منها :
أولاً : وضوح الرؤية وقوة العصمة
لابد أن نكون على بصيرة واعية ، ووضوح تام ، وبيّنة فاصلة من أمر ديننا ، وكتاب ربنا وسنة نبينا – صلى الله عليه وسلم - .
لسنا في شكٍ من أي قضية ، وحقيقة إيمانية قرآنية أو نبوية .. لسنا نبحث هنا وهناك .. لسنا نقبل ما يروج من الشائعات ، وما يكون له صدىً واسع ، ودوي كبير من الأخبار ، أو الأقوال ، أو المقالات ؛ لأننا كما قال الحق - عز وجل - في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } .
بيّنةٌ من الله واضحة .. آيات أنوارها ساطعة .. أحكام أدلتها باهرة .. لابد أن يكون معرفتنا بذلك ، ووضوح رؤيتنا فيه ، حتى في سنن الله الماضية ، وفي حكمته البالغة التي نقرأها في آيات كتابه ، ونرى تطبيقها في واقع الحياة ، كل ذلك له أهميته .
ولذلك لا يُمكن حينئذٍ أن يكون شكٌ ، ولا ارتياب ، ولا حيرة ، ولا اضطراب ، ولا ترددٌ وتشكك . إذ هذه هي البيّنة الواضحة والرؤية التي ليس فيها غبشٌ مطلقا : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
قال الله - جلّ وعلا - في خطابه لرسوله ليُخاطب البشرية كلها والناس أجمعين : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ** وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } .
ثم من بعد آياتٍ قليلة ، يعود الخطاب إلى رسول الله ليصبح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ** وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } .
نبقى على ثوابتنا ، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا ؛ لأن الله - جلّ وعلا - قد قال : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } .
ونوقن أيضاً في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين ، كما كُسر الكياسرة ، وقُصر القياصرة ، وأُغرق فرعون .. فإن ظلَمَة اليوم من الغزاة المعتدين أمريكان أو بريطانيين عاقبتهم - ولو بعد حين - إلى ذلّ وهوان ، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة ، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة .. قد تكون لهم جولة ، وقد يكون لهم نصرٌ في دائرة أو ميدان ، فهل يعني ذلك أن يُدب اليأس في النفوس ؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان ؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن ؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار ؟(/1)
لقد رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ذلك ببصيرته النافذة ، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته ، قبل بدئها ألم يكن في يوم بدرٍ قد قال : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .. هذا مصرع أبي جهل .. هذا مصرع عُقبة بن أبي مُعيط .. هذا مصرع أمية بن خلف ) ، لماذا ؟ لأن يقينه بالله كان عظيماً ، ولأنه يعرف أن سنة الله ماضية في نصرِ مَن نَصَر الله ، إن تخلّف وعدٌ فلم يكن تخلّفه لذات الوعد ، وإنما لتخلّف شروط تحقق الوعد .
فلا ينبغي أن نُسرف في عواطفنا ، وأن نُجاري هذه الموجات الإعلامية ، التي تتلاعب بعواطف الناس ، ثم لا يكون لهم من بصيرتهم ، ورؤيتهم ، ويقينهم ، ومعرفتهم القرآنية والإسلامية ما يكشفون به ذلك .
ولقد كانت كسرة في يوم أُحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام ؟ هل استسلم لليأس ؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوّته ؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه ، وانقضت أيامه ، وزالت دولته ؟ لم يكن من ذلك شيء .. في اليوم الذي يليه خرج بهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ليلحقوا عدوهم .. ليُثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب ، وأنها لم تبلغ النفوس ، وأنها لم تُخالط العقول وأنها لم تُغيّر الشعور .
ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية ، بقدر ما كان يريد تثبيت الروح ، والقوة ، والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم .
وهكذا كان في كل واقعة - عليه الصلاة والسلام - يوم بدأت حُنين بما بدأت به ، من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر ، واختلاط الرؤية ، وتضارب جيش المسلمين ، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر ، ثبت - عليه الصلاة والسلام - وأي شيء كان يقول ؟ .
بعض الذين كانوا من مسلمة الفتح لم يثبت الإيمان في قلوبهم ، قال بعضهم : " بطُل اليوم سحر محمد " ،لم تكن عندهم وضوح رؤية ..لم يكن عندهم صدق إيمانٍ بعد ، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلّت كارثة ؟ كلا ! ينبغي أن لا يكون ذلك ، لقد قالها عليه الصلاة والسلام : ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) .
رفع بها صوته .. ثبت في موقعه .. تقدّم في مواجهة عدوه ، فعادت العقول إلى رشدها .. رجعت العزائم إلى قوتها .. انعطفت الجيوش إلى مقدّمتها .. فعادت الجولة والنصر إلى أهل الإسلام والإيمان .
ويوم كُسر المسلمون في بغداد في محرم من عام 656هـ وكان ما كان من قتل 800 ألف وألف ألف كما ذكر ابن كثير في تاريخه ، واستمر القتل أربعين يوماً ، وسالت الميازيب من دماء المسلمين ، وبلغ نتن جيافهم إلى بلاد الشام .. أمرٌ عظيم .
قامت الأمة من كبوتها ، ونهضت من وهدتها ، واستعادت عزيمتها ؛ لأن كتابها بين يديها ، وسنة نبيها – صلى الله عليه وسلم - أمامها .. لأن القوة الموّلدة موجودة ، وبقي أن نوصلها بنا ، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها .
في الخامس والعشرين من شهر رمضان في يوم الجمعة عام 658هـ بعد أقل من 3 أعوام نهض المسلمون ، وواجهوا التتار ، وكسروهم ، وهزموهم ، وتتبعوهم حتى لم يبقى منهم أحد .
وذلك ما ينبغي أن نعرفه ، ليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد ، ولا في جولة واحدة ، ولا في دولة واحدة ؛ فإن رأينا ذلك كذلك ، وخسرنا الجولة ، أو ذهبت الدولة كأنما نسينا كل شيء ، كلا ! ينبغي أن نُدرك أننا نؤسس ونواجه أعداءنا على مدىً طويل من الزمان كما فعلوا ، وكما يفعلون ، وأننا نواجههم في كل الميادين .. قتالية ، وفكرية ، وخُلقية ، وعقدية كما يفعلون .
قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعمٌ سوف يثور
قطعوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور
قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور
كامنٌ ثأري بأعماق الثرى وغداً سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور
تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور
وذلك ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا ، أن يبقى ولاؤنا لله ، ولعباد الله ، ولدين الله ، وأن يبقى بُغضنا وبراؤنا لأعداء الله ، وتربصنا بهم الدوائر ، وشحذ هممنا للقائهم ، وتغذية أبنائنا ، ورضاع ذلك مع لِبانهم ؛ فإنها ليست جولة واحدة .
إن اغتصاب الأرض لا يُخيفنا فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور
والعطش الطويل لا يُخيفنا فالماء يبقى دائما في باطن الصخور
هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور
قطعتم الأشجار من رؤوسها وظلّت الجذور .
ابقوا الجذور للإيمان في قلوبكم ، فسوف تبسق شجرته ، وتينع ثمرته ، ويعظم ظله ، ويشمخ بإذن الله - عز وجل - رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة ، وإن عظمت ، وإن تضخّمت ، وإن هوّل الناس هولها ، وعظّموا أمرها .
ثانياً : معرفة الخلل وطريق العمل
لا ينبغي أن نُخادع أنفسنا ما الذي آل بنا إلى هذا الأمر ؟ ما الذي جعل عجزنا واضحاً فاضحاً ؟ ما الذي جعل ذلنا ظاهراً بيّنا ؟ ما الذي جعل خلافنا مؤسفاً محزنا ؟ ما الذي حلّ بنا ؟ .(/2)
نعم ذلك كيد من أعداءنا ، وهل يُتصور من الأعداء إلا ذلك ؟ لكننا نريد أن نُكاشف أنفسنا .. أن نضع النقاط على الحروف .. أن نقرأ آيات القرآن الكريم : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
انتبه إلى هذه المعاني ، وقد جاءت صريحة واضحة ، وليس فيها مداراة ، ولا مجاملة .. خُوطب بها سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم - وصفوة البشر من أصحابه - رضوان الله عليهم - في حادثة واحدة ، في معصية ومخالفة واحدة في يوم أُحد ، جاء الخطاب الربّاني : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } .
كيف وقع هذا ؟ كيف حلّ بنا هذا ؟ كيف وبيننا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ كيف ونحن ننصر دين الله ؟ لقد كان ذلك والرسول معهم ، وصحبه والصفوة المختارة ، فهل تجاوزتهم سنة الله ؟ وهل لم يمضي عليهم قدر الله : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }.
كلامٌ واضح ، ومباشرة صريحة نفتقدها ، ونداري أنفسنا ونُغالطها ، ونقول هنا وهناك ، ونرمي بالتبعة على الحكام ، أو نُلّبسها على الحكام ، أو ندفع بها نحو الأعداء ، وكأننا من كل ذلك براء ، وكأننا مُطّهرون ليس فينا نقصٌ ولا عيب ، وكأننا لسنا سبباً من أسباب هذا البلاء ، وكأننا لسنا طريقاً من طرق تسلط الأعداء .
ولقد تنزّلت الآيات يوم أُحد ، والجراح ما زالت نازفة ، والحزن ما زال في القلوب يعصرها ، وفي النفوس يثريها ويؤلمها ، ومع ذلك جاء الوضوح القرآني ، والمنهج الرّباني ، فهل نحن قادرون على أن نقول : " نحن أصحاب الأخطاء ، ونحن جزء من البلاء ، ونحن الذين مكنّا في بلادنا ، وديارنا وأوضاعنا وأحوالنا للأعداء " .
هل نقولها ؟ ينبغي أن نقولها ، وينبغي أن نلتفت ألا ننظر يمنة ويسرة .. أن ننظر إلى ذوات أنفسنا .. أن ننظر في المرآة إلى أحوالنا .. أن نكشف خللنا ، وإذا عرفنا مصدر الخلل يُمكن أن نعرف مصدر الإصلاح والعمل وذلك أمره بيّن .
إذا شكا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - وقالوا ما قالوا ، وهم مَن هم من أمرٍ يسيرٍ ، ومخالفة واحدة ، فكيف نحن نسأل اليوم لِما يجري ذلك ولِما يحل بنا ذلك .
ألسنا نرى معاصي تبلغ إلى درجة الكفر .. بنبذ دين الله ، والاستهزاء بكتاب الله ، والتعدّي على شخص رسول الله – صلى الله عليه وسلم - تقع في ديار المسلمين ، وبلسانٍ عربي مبين ؟ ألسنا نرى فسقاً وفجوراً ؟ ألسنا نرى غير ذلك مما تعلمون ؟
وهذه مرة أخرى في وصف أُحد :{ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } ، أي تقتلونهم قتلاً قوياً سريعاً أي في أول المعركة : {ِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
لابن القيّم كلامات كثيرة انتخبت منها واحدة يقول فيها : " من أثار المعاصي والذنوب قلة التوفيق ، وفساد الرأي ، وخفاء الحق ، وفساد القلب ، وخمول الذكر ، وإضاعة الوقت ، ونفرة الخلق ، والوحشة بين العبد وبين ربه ، ومنع إجابة الدعاء ، وقسوة القلب ، ومحق البركة في الرزق والعمر ، وحرمان العلم ، ولباس الذل ، وإهانة العدو ، وضيق الصدر ، والابتلاء بقرناء السوء ، وطول الهم والغم ، وضنك العيش ، وكسف البال " .
كل ذلك يتوّلد عن المعصية ، والغفلة عن ذكر الله ، كما يتوّلد الزرع عن الماء ، لِما لا نبحث في ذلك كما كان يعرفه ويتشّربه سلفنا الصالح !
روى ابن مسعود - يُروى عنه موقوفاً ومرفوعاً – " إن العبد ليُحرم العلم بالذنب يُصيبه " .
كانوا يرون أن خفاء المسألة أو أن نسيان النص إنما هو بسبب الذنب ، ومن مقالات السلف : " كان أحدنا يجد أثر الذنب في خُلق زوجته ودابته " .
إذا رأى في زوجته خُلقاً سيئاً اتهم نفسه أنه قد قصّر وأساء ، فابتلاه الله بذلك في أدّق الدقائق ، وفي أبسط الأمور ، كانوا يعرفون ويوقنون أنهم من الأسباب ، فيبدأون أولاً بعلاج أنفسهم .
لله در أبي هريرة – رضي الله عنه - صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لنا : " ما بالك تُبصر القذى في عين أخيك ولا تُبصر الجذع في عين نفسك " .
نحن بصيرون بالبحث ، والتنقيب والاستخراج لعيوب الناس ، ونحن أعمى الناس عن عيوبنا وأغفل الناس عن تقصيرنا .
إن كنّا نريد في هذه المحن والفتن أن نخرج منها بخير ، فليكن معرفة تقصيرنا وتفريطنا أول ما نبدأ به ، ونحن نعلم أن طريق العمل كما قال الله جلّ وعلا : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .(/3)
ثالثاً : الجانب النفسي
وهو مهم جداً أيضاً ونذكر فيه أمران :
أولها : المشاركة الشعورية العميقة الصادقة .. أين أخوة الإيمان ؟ أين آصرة الإسلام ؟ أين الصورة المثالية العظيمة الفريدة ، والمثل الحي الكامل الذي ضربه سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – حينما قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى ) .
لقد كنت أُحدّث نفسي ، وحدّثت بذلك بعض الناس ، قلت : إني أُمكر من نفسي أن حزنها ما زال قليلاً ، لا يكافئ المصاب ، والخطب العظيم ، وإن ألِم القلب ما زال دون المطلوب بكثير ، وأننا ما زلنا نستطيع أن نضحك ، وأن نفرح ، وأن نلهو ، وأن ننام ، وأن نطعم ، وأن نشرب ، وكأن خنجراً لم يُطعن في قلوبنا ، أولم يدخل وينفذ إلى ظهورنا ، وكأننا لسنا مصابين بذلك المصاب الضخم الهائل .. كأننا لن يكون لنا هذا الأثر النفسي حتى يكون المصاب في أنفسنا ، وفي أعراضنا ، وفي بيوتنا وحرماتنا .
لقد كان صلاح الدين لا يضحك ولا يتبسّم ، فلما قيل له في ذلك قال : " كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى " .
ذلك كان همهم وحزنهم قد خالط شغاف قلوبهم وجرى مع دمائهم في عروقهم لم يملكوا معه أن يناموا وأن يهجعوا ولا أن يلهوا ولا أن يضحكوا .
لابد أن نُعمّق هذا الشعور ، وأن نجعله عظيماً في قلوبنا..
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ **** إن كان في القلب إسلام وإيمان .
لابد أن نستشعر هذه المعاني ، وأن نُعمّقها في نفوسنا ونفوس أبنائنا ، وأن لا يتبلّد الإحساس ونحن نشاهد المناظر أمامنا ..كم طفلاً رأيناه مشّوه الوجه قد قٌتلت براءته ؟ كم أماً رأيناها وهي تبكي على رضيعها وصغيرها ؟ كم مَن رأينا ممن فقدوا دُورَهم وأموالهم ؟ ليس اليوم .. ليس في العراق وحسب ، بل في فلسطين على مدى خمسين عاماً ، وفي كشمير مثلها ، وفي غيرها .. وفي غيرها .. وما زال الحزن في نفوسنا قليلاً .
ولقد قلت هذا لأني أعني به نفسي ، وأرى أننا إن لم يكن ذلك حُرقة نشعر بها تقظ مضاجعنا .. تؤرق نومنا .. تجعلنا لا نهنئ بعيشنا .. إن لم يكن ذلك كذلك فلنتهم أخوتنا ، ولنتهم صدق مودتنا ، ولنتهم تلاحمنا كالجسد الواحد الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قلبي يفيض أسىً وعيني تدمعُ **** والجسم من فرط الضنى متضعضعُ
نار تمور بها الحشا وتألمٌ **** يثري نياط القلب فهي تقطّعُ
حرٌ يُسام أذىً ويُهتك عِرضه **** قهراً فيا لله كم ذا مُفزعُ
وفتاة طُهرٍ بالحجاب تلّفعت **** عنها حجاب الطُهر قهراً يُنزعُ
وبيوتهم فوق الرؤوس تهدّمت **** والطفل مات وأمه تتوجعُ .
أفليس في قلوبنا رحمة إنسانية ، وأخوة إيمانية ، وعاطفة إسلامية ، لِما لم نُذكها ؟ ما لم نُحركها .. ما لم نقتدي بذلك أن نقويها فلن تكون لنا تلك الحركة الإيجابية التي نرجوها ونأملها .
ثاني الجوانب النفسية : القوة والعزة
فلسنا نريد لهذه الأحزان أن تنال من عزيمتنا ، ولا أن تُوهن من قوتنا ، ولا أن تُضعف من عزتنا ، كلا ! نريدها وقوداً يتّفجر قوة ، ويتطاير عزة ، نريد أن نؤكد في كل الظروف والأحوال ، بل في ظروف المحن والفتن على وجه الخصوص أننا نستعلي بإيماننا ، وأننا نشرف ونفخر بإسلامنا ، وأننا نرفع رؤوسنا ، وأننا سادة الدنيا ، وأننا نُعلّم البشرية ، وأننا قادة الإنسانية ، وأننا دعاة الحرية ، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. نحن الأمة التي اختارها الله - عز وجل - لتكون الأمة الباقية إلى قيام الساعة ، ولتكون الأمة الشاهدة على الأمم يوم القيامة ،{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } .. { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
ما بالنا في نفوسنا وهنٌ ؟ في قلوبنا ذلٌ ؟ في أحوالنا تقهقرٌ ؟ ما لم يكون ذلك كذلك ؛ فإنه لا يُرجى أن يتوّلد لنا عملٌ ، وأن تكون لنا حركة لابد أن نستحضر قول الحق سبحانه وتعالى :{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
أقدامنا فوق كل الرؤوس وإن علت ، مخت بقوتها المادية ؛ ن قوتنا الإيمانية أعظم ، ن جولتنا معهم أوسع وأشمل ، ن نصرنا عليهم مؤزّرٌ مؤكد ، س في ذلك أدنى شكٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .(/4)
ينبغي أن نُدرك ذلك ، وأن نستحضر موقف رِبعي بن عامر وكلكم يعرفه ، وقد قلناه وكررناه ؛ لأنه موقفٌ يدل على ما ينبغي أن يعمر قلوبنا ونفوسنا يوم دخل على أبهة المُلك عند رستم - قائدٌ عظيمٌ من قادة الفُرس - في بهرج الدنيا ، وزُخرف الحضارة ، وقوة الجُند ، وهيبة المُلك ، هل لفت نظره شيءٌ من ذلك ؟ هل أضعف شيءٌ من ذلك قوته وعزيمته ؟ هل نال من فخره وعزته ؟ دخل يُخرّق الطنافس برمحه ، ويسير إلى أن يجلس على سرير مُلكه ، ثم يُخاطبه عندما سأله ذلك السؤال : ما الذي جاء بكم ؟ فقال : "جئنا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " .
لله درك نموذجاً من نماذج العزة ، ووضوح الرؤية نفتقده ونفتقر إليه كن مسلماً قوياً عزيزاً .
فإنك لا تُلين لهم الجنابا **** وإنك لا تُقيم لهم حسابا
ولا تُبدي لهم ملقاً وزُلفا **** ولا تهدي لشيبهم خضابا
وغيرك ينسج الألفاظا عُهراً **** يدغدغ في عهارتها الرغابا
وغيرك لا يُجيد الرقص إلا **** على أوتارهم ولها استجابا
ورأسك يا أمير القوم قاسٍ **** ومن قبل المشيب أراه شابا
لأنك مسلمٌ ستظل حرباً **** على الأشرار تُرهقهم عذابا
تذكروا وصيحوا دائماً بأن الإيمان أعلى وأجّل ، ويوم قال أبو سفيان بعد أُحد وقد رأى شيئاً من نشوة انتصارٍ عابر ، أو جولة قليلة ، صار يُصيح ويُنادي : " أين محمد ؟ أين أبو بكر ؟ أين عمر ؟ "ويقول الرسول : ( لا تُجيبوه ) ..حكمة وحيطة ، فلما قال : أُعل هُبل - أراد أن يفتخر بعقيدته - فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم - أجيبوه فانتدب الفاروق عمر ، فلما قال أبو سفيان : " أُعل هُبل " قال : "الله أعلى وأجّل " فقال : " يومٌ بيوم بدر " قال : " لا سواء قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة " .
يبقى راشد العقل .. قوي العزم .. رابط الجأش ..لا تنال الأحداث من قوته وعزته .
نسأل الله - عز وجل - أن يُقوّي قلوبنا ، وأن يُعز نفوسنا ، وأن يربطنا به .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
لابد لنا أن نستحضر هذه المعاني ، وأن نتواصى بها ، ولقد كنت أريد أيضاً أن أُضيف إلى حديثي هذا الجانب العملي ، وهو جانب فيه كثير من الخطوات وكثيرٌ من الميادين ولكن المقام يقصر عنه .
وبعض إخواننا قد يرى أن طول الحديث يُتعبه أو يُرهقه ، ولست ممن يريد طول الحديث شهوة في كلام ، ولكن إن لم يكن ذلك كذلك في مثل أوقاتنا هذه ، ونحن نقضي من الأوقات في قليل وكثير من الأمور العارضة والتافهة ما الله – سبحانه وتعالى - به عليم .
ثم لا يكون لنا اجتهادٌ ، وجدٌ ، ولا صبر ومصابرة ، أن نتذاكر ، وأن نتحدث ، وأن تطول مراجعتنا ، وأخذنا ، وردّنا في حالنا وبهاءنا ، وفي ما يستعين الله – سبحانه وتعالى - به في مواجهة أعداءنا .
لعلنا - أيها الأخوة الأحبة - أن نُكثر من التجاؤنا إلى الله عز وجل ، ودعاءنا إليه – سبحانه وتعالى - وسأجعل حديث الجانب العملي في لقائنا ، وجُمعتنا القادمة إن مد الله في الأعمار .
نسأل الله – سبحانه وتعالى - أن يرد كيد الكائدين ، وأن يدفع شر المعتدين .(/5)
خطوات مهمة لكشف الغمة
الحمد لله مزيل الكربات .. وفارج الملمات .. ومنفس الشدائد و المصيبات .. وقاضي الحاجات .. والصلاة والسلام على هادي البرية ..وأزكى البشرية ..والذي حذرها من أسباب العقوبات ..وبين لها موجبات السلامة و الرحمات ..أما بعد :
فإن الناظر في مجريات الأحداث .. والمطلع على وقائع الأمور .. والمتابع لما يدور في الساحة اليوم .. يجد أن الأمر جلل .. والخطب جسيم .. وقد يؤدي إلى واقع أليم .. فالعدو قد كشر عن أنيابه .. وأظهر ما كان يخفيه من أحقاده .. وقد يتساءل المرء في ظل الظروف الصعبة .. والمواقف الحرجة .. ماذا يفعل ؟ وماذا يصنع ؟ وهل بمقدوره أن يدفع البلاء.. أما أن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد .. أو يكون دوره هو التفرج على مسرح الأحداث .. دون أن يكون للإنسان أي أثر فاعل .. أو أن يحيل الأمر إلى غيره .. وينسب التقصير إلى من حوله .. ويقول .. الناس فعلوا .. والناس تركوا .. ويخرج هو كالشعرة من العجين .. كل هذه التساؤلات وغيرها يجيبنا عنها .. من يتأمل نصوص القرآن والسنة .. فإنها تذكر الدور المطلوب .. والعمل المرغوب .. الذي يجب فعله على كل مسلم ومسلمة .. ليسلموا من العذاب .. ويندفع عنهم غضب الملك الوهاب .. فأرعني سمعك يا رعاك الله .. واستحضر القلب يرحمك الله ..
لابد أن تعلم يا رعاك الله ..أن كل واحد منا قادر على أن يعمل شيئا .. وأن يقدم لأمته عملا .. ولن أذكر لك .. ما لا تستطيع فعله .. أو تعجز عن عمله .. بل ما سأذكره من خطوات .. وما سأضعه بين يديك من وسائل .. هي بمقدور الجميع .. وكل واحد معني بها .. الصغير والكبير .. الأمير والوزير .. الغني والفقير .. والذكر والأنثى .. ولا تتصور أن المخاطب بها غيرك .. بل إني أعنك أنت بالذات .. فلا تلتفت إلى غيرك .. ولا تشر بأصبعك إلى من سواك .. فأنا أقصد نفسي أولاً .. ثم أقصدك ثانياً .. ثم أقصد غيرك ثالثاً .. وهذه الخطوات .. إلم نبادر إلى فعلها .. ونسارع إلى عملها .. فإني أخشى من عقوبة التهاون والتساهل فإن الله يمهل ولا يهمل ..
أحبتي في الله ..
أولى هذه الخطوات .. تحقيق الإيمان والابتعاد عما يخدشه وينقصه : لقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنجاة من العذاب ..فقال سبحانه :{ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين } [يونس:103] والله تعالى تكفل بالدفاع عن المؤمنين فقال سبحانه :{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } فلماذا يتأخر أقوام عن الإيمان بالله حق الإيمان .. والله جل جلاله .. وعد إن آمنوا حق الإيمان أن يدافع عنهم ..فمن يغالب قوم يدافع عنهم القوي القهار .. العزيز الجبار .. وأي قوة في الأرض توازي قوة القهار .. وما يعلم جنود ربك إلا هو .. يقول الله تعالى :{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } هذا كلام الله .. ووعد الله .. فنصره لمن ؟ للمؤمنين .. نعم للمؤمنين ..فأين أهل الإيمان ..أين المخبتين للرحمن .. إن النصر والسلامة من الردى مقرونة بقوة الإيمان بالله تعالى .. فالواجب على العباد .. أن يسعوا لزيادة الإيمان لأن الله كتب العاقبة للمتقين ..والأرض لله تعالى يرثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.(/1)
ثانياً التوبة والرجوع إلى الله تعالى : يقول بعض السلف : ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة .. يقول الله تعالى { وقوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس :98 ] يقول قتادة رحمه الله في هذه الآية .. يقول .. لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم ) فهل من توبة صادقة ..ورجعة إلى الكريم الوهاب .. الرحيم التواب .. ليدفع عنا العذاب .. ونسلم من غضب رب الأرباب .. فيتوب أصحاب الربا من الربا .. وأصحاب الغناء من الغناء .. ومن فرطوا في صلاتهم إلى صلاتهم .. والمرأة تتوب من تقصيرها في تفريطها في جنب الله .. وكلنا يتوب من ذنبه .. صغيرا كان أو كبيرا .. عزيزا كان أو ذليلاً ..فالكل لابد أن يتوب إلى ربه .. ويعود إلى رشده .. ويكثر من الاستغفار : كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فقد كان يستغفر الله تعالى في المجلس الواحد مائة مرة .. و لأن الاستغفار سبب عظيم في تحصيل الخيرات .. ودفع المصائب والملمات .. يقول الله تعالى :{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ويقول الله تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسنا إلى أجل مسمى } [هود :3] بل إن من أسباب القوة ومضاعفتها كثرة الاستغفار كما قال الله تعالى :{ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين } [هود:52] فالاستغفار يزيد العبد قوة في جسده ، فيتمتع بجوارحه وحواسه وعقله ، وكذلك هو قوة له في طاعة ربه ، فهو قوة على كل خير في العاجلة والآجلة .
ثالثاً: كثرة الأعمال الصالحة : يقول الله تعالى :{ واستعينوا بالصبر والصلاة } وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى " رواه أحمد ، ويقول صلى الله عليه وسلم :" العبادة في الهرج ـ أي في الفتن ـ كهجرة إلي " لأن الناس كثيراً ما ينشغلون في وقت الأحداث بمتابعة القنوات الفضائية والإذاعات العالمية ويكون هم الواحد منهم ماذا حدث ؟ وماذا جرى ؟ وينصرف تماماً عن الذكر والصلاة وقراءة القرآن فيتنبه لذلك .. كما أن العبادة .. والأعمال الصالحة لها أثر في طمأنينة القلب .. وسكينة النفس .. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت الملمات يفزع إلى الصلاة .. حتى تهدأ نفسه ويطمئن قلبه .
رابعاً : الإكثار من الصدقة : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء " رواه الترمذي .. وقال صلى الله عليه وسلم :" أكثروا الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا " رواه ابن ماجه وغيره .. فأين المتصدقين في الأسحار .. أين المنفقين في الليل والنهار .. يقول صلى الله عليه وسلم :" صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تُطفئ غضب الرب .." [رواه الطبراني : صحيح الجامع 3797] . قال ابن أبي الجعد : ( إن الصدقة لتدفع سبعين باباً من السوء ).. فلا تتردد في البذل والعطاء .. خاصة لإخوانك المجاهدين .. الذين يواجهون أمم الكفر .. ويصدون ظلمها وجبروتها .. فالوقوف معهم من أوجب الواجبات .. وأهم المهمات .. لأنه بدعمنا لهم يكفون عنا وعن الأمة شرورا كثيرة .. فأنفق ينفق الله عليك .. وما نقص مال من صدقة .. ذكر الأديب الكبير علي الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته (7/48ـ49 ).. قائلاً : ذهبت سنة ست وأربعين إلى مصر ، وكان الطريق على فلسطين ، فأقمت فيها عشرة أيام ، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين فلمتهم على قعودهم وقيام اليهود ، وعلى تقصيرهم بجمع المال وشراء السلاح ، فقالوا : إن الأيدي منقبضة ، والنفوس شحيحة ، قلت : لا بل أنتم المقصرون ، قالوا : هذا تاجر من أغنى التجار ، فهلم بنا إليه ننظر ماذا نأخذ منه ؟
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين ، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالا ، وكلمناه .. وحشدت له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين ، وأدلة المنطق ، مثيرات الشعور ، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية ، ما أحست بها ، فضلا عن أن ترتج منها .
وقال : أنا لا أقصر .. أعرف واجبي .. وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه .(/2)
قلت : وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود ؟ قال : وهل تمثلني باليهود ؟ قلت : وهل أعطيت مرة مالك كله ؟ فشده وفتح عينيه ، وظن أن الذي يخاطبه مجنون ، وقال : ما لي كله ؟ ولماذا أعطي مالي كله ؟ قلت : إن أبا بكر لما سئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله .. قال : ذاك أبو بكر وهل أنا مثل أبي بكر ؟ قلت : عمر أعطى نصف ماله ، وعثمان جهز ألفاً .. فلم يدعني أكمل وقال : يا أخي أولئك صحابة رسول الله ، الله يرضى عنهم ، أين نحن منهم ؟ قلت : ألا ترى البلاد في خطر ؟ وإننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل والكثير ؟ قال : يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي .. أنا رجل بياع شراء .. لا أفهم في السياسة ، وليس لي بها صلة ، وهذا مالي حصلته بعرق جبيني ، وكد يميني ، ما سرقته سرقة ، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء ؟ قلت : ما نطلب مالك كله ، ولكن نطلب عشره .. قال : دفعت ما عليّ .. ما قصرت .. وأعرض عنا وأقبل على عمله ، يا سادة هذه حادثة أرويها لكم كما وقعت .... ومرت سبع سنوات ، وذهبت من سنتين ـ أي سنة 1953ـ إلى المؤتمر الإسلامي في القدس ، ومررنا في الطريق بمخيم اللاجئين ، وأقبل الناس يسلمون علينا ، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية ، محني الظهر ، غائر الصدغين ، رث الثياب ، أحسست لما التقت العينان ، كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة ، وكاد يفتح فمه بالتحية ، ثم تماسك وأغضى .. وارتبك كأنه يريد الفرار .. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس .. ولبثت أفكر فيه من هو ؟ وأين قابلته ؟ فما لبثت أن ذكرته .. وتكشف لي المنسي فجأة ، كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور .. إنه هو .. هو يا سادة .. وكلمته فتجاهلني ، فلما ألححت عليه اعترف ، ولم أشمت به ، ومعاذ الله ، أن يراني أنحدر إلى هذا الدرك ، ولم أزعجه بلوم ، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام ، لذلك استبقني فقال :
ـ لا تقل شيئا ، هذا هو المقدر ..[ وليت أن الله وفقني ، ووفق ] إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك .. قلت : أولم يبق لك شيء .. فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع ، وقال : بلى بقي الكثير بقيت الصحة والثقة بالله ، وبقي هؤلاء وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير . قلت : لا تيأس من رحمة الله ، قال : الحمد لله أن جعلنا عبرة ، ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا ..)
فهل يعتبر أهل المال والثراء .. فيتصدقوا وينفقوا ويجودوا بالعطاء للمجاهدين الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله يحاربون الكفار .. ويقاتلون الفجار .. فإن السعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ غيره به !!
خامساً: الدعاء : وقد نجى الله تعالى أقواماً بسبب دعاءهم .. فلولا الدعاء لهلك أقوام .. يقول الله تعالى :{ قل ما يعبؤ بكم ربكم لولا دعاؤكم } [الفرقان :77] أي لولا دعاؤكم إياه .. أيها المخاطبون له وحده عند الشدائد والكروب لهلكتم ، فالله تعالى يستجيب لمن دعاه مخلصاً ولو كان كافرا كما قال تعالى :{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [العنكبوت : 65] والله تعالى يبتلي عباده حتى يرجعوا إليه ويدعوه سبحانه { وما أرسلنا من قبلك في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } [الأعراف :94] ويقول الله تعالى :{ فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } ورسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر لم يقل أنا رسول الله ..وأنا منصور ..كلا ..بل قام ليلته تلك رافعاً يديه .. يدعو ربه ويناجيه .. ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض .. اللهم أنجز لي ما وعدتني .. حتى سقط رداءه من على كتفيه .. فأخذه أبو بكر الصديق .. وقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي .. كفاك مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك .. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في وقت الكرب بهذا الدعاء :" لا إله إلا الله الحليم العظيم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم " رواه البيهقي ..فألحوا على الله بالدعاء ..خاصة في وقت الأسحار ..فإن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل ويقول ..هل من داعي فاستجيب له ..هل من سائل فأعطيه ..وأمة الإسلام ..تعدادها ..أكثر من مليار مسلم .. ومن ظن أن الله لا يستجيب دعاء هذه الأمة .. فقد أساء الظن بربه ..وهو القائل : { ادعوني استجب لكم } فلماذا لا ترفع الأيدي بالدعاء .. ولماذا لا تسبل الأدمع الغزار في رجاء الملك الغفار ..ليهلك الظالمين .. وينتقم من النصارى واليهود الحاقدين .. ويدمر أعداء الدين وينصر أهل الإسلام المستضعفين فهل من دعاء لهذه الأمة ؟ وهل من مناجي لرفع الغمة ؟(/3)
ولهذا كان السلف يدركون أثر الدعاء .. لما صافَّ قتيبة بن مسلم الترك ، وهاله أمرهم .. سأل عن محمد بن واسع فقيل : هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه ..يشير بأصبعه نحو السماء يدعو ..فقال : تلك الأصبع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير ..فأكثروا من الدعاء ..ولا تستهينوا به ..وصدق القائل :
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد أنقضاء
سادساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : لقوله تعالى :{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } ولم يقل صالحون .. فهم يدعون الناس إلى الهدى .. وينهون عن الفساد والردى .. فحصل من نفعهم سلامة القرى .. من الهلاك والردى .. ويقول صلى الله عليه وسلم : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده " [صحيح الجامع1970] والقيام بهذه الشعيرة والإتيان بها سبب للسلامة من العقوبات يقول الله تعالى :{ وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } إلى قوله :{ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ، فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين }[الأعراف :163ـ 166] ففي هذه الآيات نبأ عظيم لمن أنار الله بصيرته ..فقد أخبر لله عن سنته الماضية ..وهي أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر .. يقول ابن عباس رضي الله عنهما : قسم الله هذه الأمة ـ أي بني إسرائيل ـ إلى ثلاثة أقسام : قسم : عملوا المنكر ، وهو الصيد في السبت ، وقسم : خذلوا الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، والذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، فلما نزل العذاب أهلك القوم الأولين ، ونجى الله القسم الثالث من المسخ إلى القردة والخنازير ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر )
فالواجب علينا أن نعزز هذا الواجب ، وأن نساند من قام به ، ونؤيده معنويا وحسياً .
سابعاً: اجتناب الظلم : وهو التعدي على الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم بغير حق ..يقول الله تعالى :{ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } [الكهف:59] روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " قال ثم قرأ :{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذى القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [هود:102] فلا يتجرأ العبد على ظلم العباد وهذا الظلم له صور عديده فمن تلك الصور :
ـ ظلم العمالة وعدم تسليم الرواتب لهم أو تحميلهم ما لا يستطيعون .
ـ ظلم الناس في الغيبة والنميمة والبهتان .
ـ ظلم الناس في أكل أموالهم من رشوة وغصب وغش ونحوها .
ـ ظلم الناس في قطيعة الرحم
ـ ظلم الأولاد وعدم النصح لهم بإحضار أجهزة الفساد لهم .
ـ ظلم الناس لزوجاتهم .
ثامناً : الالتفاف حول العلماء الربانيين ، والأئمة المهديين ، الأتقياء الصالحين .. فإن الالتفاف حولهم يعد سبيلا مهما من سبل الوقاية والنجاة من الفتن على مختلف أنواعها وأشكالها ، كما يعين على الأمن من الزيغ والضلال ، فكم أنجى الله بالعلماء .. الأمة الإسلامية .. من محن عصيبة ، وفتن رهيبة ، كإعزاز الله لدينه بالصديق رضي الله عنه ، يوم الردة ، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة ، فكم ثبت الله المسلمين في تلك الفتن بعلمائهم .. فلابد إذا من لزومهم ، والعيش في أكنافهم ، والالتفاف حولهم لا سيما وقت الفتن .
ثم أوصي العلماء بأن يتقوا الله تعالى في أمتهم ..وأن يقولوا كلمة الحق..ظاهرة بلا خفاء .. بينة بلا غموض .. فالوضوح وتخصيص الدلالات هو ضمانة ضد الفتن أكيدة .. أما الكلمات الفضفاضة .. والعبارات العائمة فإنها لا تزيد النار إلا اضطراما .
تاسعاً: السير في ركب جماعة المسلمين وإمامهم : عن حذيفة قال : (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني : فقلت يا رسول الله : إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم وفيه دخن ( أي فيه كدر) قلت وما دخنه ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم اليها قذفوه فيها ، قلت يارسول الله صفهم لنا قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت فما تأمرني أن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ))رواه البخاري وغيره.
أ- انظروا إلى صفات الحالة الأخيرة التي خشي الصحابي الجليل حذيفة أن يدركها :-
1- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم اليها قذفوه فيها .(/4)
2- أن هؤلاء الدعاة إلى الباطل ليسوا يهوداً أو نصارى ولا أعاجم وأنماهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا )
ب- فما المخرج - الرسول أوصى حذيفة : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )
عاشراً : لابد من الاهتمام بالعلم الشرعي ..خاصة في وقت الفتن ، لأن كثيرين يخوضون بغير علم .. فيؤدي خوضهم الى أنواع من البلاء .. والتفرق والتصرفات الطائشة .. ومما يلاحظ :- انتشار القصص والروايات الواهية الضعيفة وقت الفتنه ، فيكثر القصّاص الذين يوردون الحكايات والقصص التي لا أصل لها . انظر الى قول ابن عمر - كما رواه ابن حبان - ( لم يكن يُقصّ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان إنما كان القصص زمن الفتنة ).
أيها الأخوة الأكارم : إن التأصيل العلمي الشرعي لا بدّ منه .. لأن الوصول الى الحق والصواب لا يتم الا بالرجوع إلى الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة .. ولأنه يحمي من الاجتهادات التي تمليها الظروف والأهواء ، ويرجع الأمور الى أصولها الصحيحة . ومن خلال العلم يعرف المرء كيف يتصرف .. وماذا يفعل ؟ فهل من اهتمام بالعلم وطلبه وتأصيله على منهج شرعي ..
الحادي عشر : الاستعداد : وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يهيأ أصحابه للأحداث القادمة .. ويسألهم ماذا سيصنع لو حدث كذا .. وماذا سيفعل لو جرى كذا ؟ يقول صلى الله عليه وسلم :" احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " رواه مسلم .. ومن نماذج هدي الرسول لتهيأة أصحابه .. ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان : كما عند ابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه يقول ذلك ثلاث مرات .. قال هذا قبل موته صلى الله عليه وسلم وعثمان تولى الخلافة بعد أكثر من فترة طويلة .. ولم تأتي مناسبة هذا الكلام إلا في آخر خلافته رضي الله عنه .. فالرسول صلى الله عليه وسلم يهيأ عثمان نفسياً للحدث الذي يصيبه..ولذا عندما تولى الخلافة أراد المنافقون خلعه ولكنه رفض بناء على توجيه النبي صلى الله عليه وسلم له .
ـ و روى الحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ..قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك .. قال .. كيف أنت إذا أصاب الناس جوع .. تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك ..وتأتي فراشك فلا تستطيع أن تنهض إلى مسجدك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم .. قال :" عليك بالعفة " ثم قال : يا أبا ذر .. قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ..قال : كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم ..قلت الله ورسوله أعلم .. قال :" تلحق بمن أنت منه أو قال : عليك بمن أنت منه " قلت : أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي .. قال : شاركت إذاً .. قلت ..فما تأمرني يا رسول الله ؟..قال الزم بيتك ..قلت: أرأيت إن دخل على بيتي ؟ قال : " فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق رداءك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك "
والنصوص في هذا كثيرة في حث النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه للاستعداد والتهيأ لأحداث المستقبل ، وهذا الذي يجب فعله في الأيام القادمة أن نستعد ..وأن نتهيأ لما سيحدث والله المستعان : والاستعداد على قسمين :
أولاً : الإعداد النفسي من خلال :
ـ تهيئة الأسرة نفسياً من الآن تحسباً لأي طارئ يطرأ في المستقبل ..وتحدثيهم بالغزو والجهاد يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " رواه أبو داود .
ـ التوكل على الله تعالى .. لأن الله تعالى { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي كافيه وناصره .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاًَ ـ أي جائعة ـ وتروح بطانا ـ أي شباعا " رواه أحمد .
ـ أن يتيقن العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ..وأن يستقين الإنسان بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " رواه الترمذي وصححه .
ـ أن يعلم الإنسان أن نصر الله قريب .. وأن الله ينصر من نصره .. وأن هذا الدين منصور ..وما على الأمة إلا أن تطبق وتعمل بأسباب النصر والتمكين التي ذكرها الله في كتابه .. فإذا عملت وطبقت فإن النصر لا محالة قريب .(/5)
ـ أن يبشر الإنسان غيره ويتفائل .. خاصة في وقت الأزمات والملمات .. لأن النفوس بأمس الحاجة إلى التفائل الذي يدفعها إلى العمل .. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل .. فعندما أراد الأحزاب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ عليه الصلاة والسلام بحفر الخندق ..وبينا أصحاب رسول الله يحفرون الخندق إذ واجهتم صخرة شقت عليهم .. وكلت أيديهم منها فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .. فأخذ رسول الله المعول من سلمان .. فضرب الصخرة ضربة صدعها .. وبرقت منها برقة أضاء ما بين لابتيها ـ يعني لابتي المدينة ـ حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم .. فكبر رسول الله تكبير فتح .. وكبر المسلمون .. ثم ضربها رسول الله الثانية فصدعها وبرق منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ..فكبر رسول الله تكبير فتح ..وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها ..وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ..فكبر رسول الله تكبير فتح .. وكبر المسلمون .. ثم أخذ بيد سلمان فرقي .. فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله .. لقد رأيت شيئا ما رأيته قط .. فالتفت رسول الله إلى القوم ..فقال : هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا .. قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج .. فرأيناك تكبر فنكبر .. ولا نرى شيئا غير ذلك ..قال : صدقتم .. ضربت ضربتي الأولى .. فبرق الذي رأيتم .. أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب .. فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها .. ثم ضربت ضربتي الثانية .. فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم .. كأنها أنياب الكلاب .. فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ..ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق منها الذي رأيتم ..أضاءت لي منها قصور صنعاء .. كأنها أنياب الكلاب .. فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها .. فأبشروا يبلغهم النصر .. وأبشروا يبلغهم النصر.. وأبشروا يبلغهم النصر.. فاستبشر المسلمون .. وقالوا : الحمد لله موعد صادق بار وعدنا النصر بعد الحصر .. فطلعت الأحزاب .. فقال المؤمنون : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ..فهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الأزمات .
ثانياً : الإعداد البدني : ويتم ذلك من خلال :
1 ـ ممارسة المشي والجري وحمل الأمتعة الثقيلة والتقلل من الطعام والشراب ونحو ذلك ..لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .." رواه مسلم .
2 ـ أن يتعلم الرماية ..لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا " رواه البخاري .
3 ـ أن يتعلم الإنسان الإسعافات الأولية .
4 ـ أن يعود الإنسان نفسه على ترك ما ألفه من حياة الترف والكماليات ، لقول عمر رضي الله عنه : اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم .
وأخيرا .. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. فإذا غيرنا ما بأنفسنا .. من المعاصي والذنوب .. وانتقلنا إلى فعل الطاعات ..والمسابقات إلى الخيرات ..غير الله علينا .. ما كان فينا من الشقاء ..إلى الخير والهناء .. إنها دعوة صادقة .. من محب لأحبابه .. ومن صديق لأصدقائه .. ومن قريب لأقربائه .. ومن أخ في الله لإخوانه .. أناشدهم فيها إلى المسارعة إلى التغيير .. والمبادرة إلى تحسين الأوضاع .. قبل أن تسكب العبرات .. وترتفع الآهات .. وتحل الأحزان .. وتكثر الأشجان .. ويفرح الأعداء .. ويحزن الأصدقاء .. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
محمد بن عبدالله الهبدان
1/1/1424هـ(/6)
خطورة التقليد
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله قد ذم المشركين المقلدين لآبائهم في الكفر والطغيان من غير دليل ولا برهان، وعاب عليهم صنيعهم؛ قال الله -تعالى- حاكياً عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} سورة الأنبياء-(53- 52). وقد ورث هذه الخصلة الخسيسة بعض المقلدة من المسلمين، قال العلامة الشوكاني في قوله: {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء : أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل، قالوا هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين وجوابهم هو ما أجاب به الخليل ها هن1. وفي القرآن الكريم كثير من الآيات تبين خطورة التقليد، ومن هذه الآيات ما جاء في سورة البقرة، والتي سنقف معها في هذا الدرس، والله نسأل الله أن يرزقنا اتباع الكتاب والسنة، وأن يجنبنا سلوك طريق الزيغ والضلال، إنه سميع مجيب الدعاء.
الآيات:
قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ( ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ( ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} سورة البقرة: 168-171
شرح الآيات:
قوله تعالى: {يا أيها الناس} المراد بـ{الناس} بنو آدم. قوله: {كلوا مما في الأرض} "مِن" يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} سورة البقرة (29)؛ أي كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض. قوله: {حلالًا} منصوبة على الحال من "ما"؛ أي كلوه حال كونه حلالاً - أي محللاً -؛ فهي بمعنى اسم المفعول؛ و{طيباً} حال أخرى- يعني: حال كون طيباً - مؤكد لقوله تعالى: {حلالًا}.(/1)
قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}؛ {لا} ناهية؛ و{خطوات الشيطان} أي أعماله التي يعملها، ويخطو إليها؛ وهو شامل للشرك فما دونه؛ فإن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ قال تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ما لا تعلمون} سورة البقرة (169)، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} سورة النور (21)؛ فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه؛ و{الشيطان} من: شطن؛ فالنون فيه أصلية؛ وليس من "شاط"؛ لأنه مصروف في القرآن؛ قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} سورة التكوير (25)؛ ومعنى "شطن" بعُد؛ فسمي الشيطان بذلك لبعده عن رحمة الله -عز وجل-. قوله: {إنه لكم عدو مبين} محل هذه الجملة استئنافية تعليل لما قبلها؛ والعدو ضد الصديق؛ وإن شئت فقل: ضد الولي؛ لقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} سورة الممتحنة (1). وقوله: {مبين} أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم -صلى الله عليه وسلم-؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} سورة النساء (118-119)، ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} سورة النساء (119). قوله: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء}؛ {إنما} أداة حصر؛ و"الحصر" إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه؛ يعني ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء... إلخ. وقوله: {يأمركم} أي الشيطان؛ والخطاب للناس جميعاً؛ لأن الآيات كلها سياقها للناس. وقوله: {بالسوء} أي كل ما يسوء من المعاصي الصغيرة؛ أي السيئات؛ و{الفحشاء} أي المعاصي الكبيرة؛ كالزنا، فهو يأمر بهذا، وبهذا؛ مع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه. قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} معطوف على قوله تعالى: {بالسوء} يعني أن الشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون- أي تنسبوا إليه القول من غير علم-؛ وعطْف {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } على {السوء والفحشاء} من باب عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل إما في السوء، أو الفحشاء؛ وهو أيضاً إلى الفحشاء أقرب.
قوله: {وإذا قيل لهم}؛ {قيل} مبني أصلها "قُوِل"؛ لكن صار فيها إعلال؛ وهي أن الواو مكسورة فقلبت ياءً، فكُسر ما قبلها للمناسبة؛ و{لهم} أي للكفار. قوله: {اتبعوا ما أنزل الله} عقيدةً، وقولاً، وفعلاً؛ و{ما} اسم موصول يفيد العموم، فتشمل جميع ما أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب، والحكمة؛ وقد قال كثير من أهل العلم: "الحكمة" هي السنة. قوله: {قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ {بل} هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني: قالوا مبطلين هذا القول الذي قيل لهم: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ {ما} اسم موصول؛ {ألفينا} أي وجدنا؛ كما قال الله –تعالى- في آية أخرى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} سورة لقمان (21)؛ والقرآن يفسر بعضه بعضاً. وقوله: {ما ألفينا عليه آباءنا} يعني ما وجدناهم عليه من العقيدة والعمل، حقاً كان أو باطلاً؛ و{آباءنا} يشمل الأدنى منهم والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل؛ ولهذا أبطله الله –تعالى- في قوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}؛ والمعنى: أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم في هذه الحال التي لا يستحقون أن يُتَّبعوا فيها لا يعقلون شيئاً؛ والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ ولكن ليس عندهم عقل رشد - وهو حسن تصرف-. وقوله تعالى: {شيئاً} نكرة في سياق النفي؛ والنكرة في سياق النفي للعموم. قوله: {ولا يهتدون} أي لا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العمل؛ والعلم في طريق لا يستحقون أن يتبعوا؛ ولهذا جاءت همزة الإنكار في قوله تعالى: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}؛ وأقرب شبه لهؤلاء الآية التي بعدها.(/2)
قوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} يعني كمثل الراعي الذي ينادي. قوله: {بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً} وهم البهائم؛ فهؤلاء مثلهم كمثل إنسان يدعو بهائم لا تسمع إلا صوتاً ولا تفهم دعاءً، ولا نداءً؛ و "الدعاء" إذا كان يدعو شيئاً معيناً باسمه؛ و "النداء" يكون للعموم؛ وهناك بهائم يسميها الإنسان باسمها بحيث إذا ناداها بهذا الاسم أقبلت إليه؛ والنداء العام لجميع البهائم هذا لا يختص به واحدة دون أخرى؛ فتقبل الإبل جميعاً؛ لكن مع ذلك لا تقبل على أساس أنها تعقل، وتفهم، وتهتدي؛ ربما يناديها لأجل أن ينحرها؛ هؤلاء الكفار مثلهم - في كونهم يتبعون آباءهم بدون أن يفهموا هذه الحال التي عليها آباؤهم - كمثل هذا الناعق بالماشية التي لا تسمع إلا دعاءً، ونداءً. قوله: {صم} جمع أصم؛ وهو الذي لا يسمع؛ و{بكم} جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ و{عمي} جمع أعمى؛ وهو الذي لا يبصر؛ أي فهم صم عن سماع الحق؛ ولكن سماع غيره لا فائدة منه؛ فهو كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به. قوله: {فهم لا يعقلون} أي لكونهم صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون عقل رشد -وإن كان عندهم عقل إدراك -؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل؛ ورتب الله انتفاء العقل عنهم على كونهم صماً بكماً عمياً؛ لأن هذه الحواس وسيلة العقل والإدراك.
فوائد الآيات:
1. إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً}.
2. أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام.
3. أنه يجب على العاقل أن يأخذ حذره من الشيطان، ومن نزغاته، ومن طرقه وسبله، فإنه عدو مبين، وقد أبان الله عداواته، وحذر من اتباع خطواته؛ لقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} سورة فاطر (6).
4. أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو الفاحشة فليعلم أنها من أوامر الشيطان، فليستعذ بالله منه؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة الأعراف (200).
5. أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان؛ لقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
6. تحريم الفتوى بلا علم؛ فإن المفتي يقول على الله، ويعبر عن شرع الله؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} سورة الأعراف ( 33).
7. ذم التقليد وقبحه والمنع منه؛ والبحث فيه يطول، ومن أراد الاستيفاء فليراجع: " القول المفيد في حكم التقليد" وأدب الطلب ومنتهى الأرب" للشوكاني.
8. أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: "اتبع ما أنزل الله" أن يقول: "سمعنا وأطعنا".
9. أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: {لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}.
10. أن هؤلاء في اتباع آبائهم مثل البهائم التي تستجيب للناعق وهي لا تسمع إلا صوتاً ولا تفهم دعاءً، ولا نداءً؛ لا تسمع شيئاً تعقله، وتعرف فائدته، ومضرة مخالفته2. والله أعلى وأعلم.
________________________________________
1 - راجع فتح القدير (3/589).
2- راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/101- 110). ط: درا الإعلام + دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/207- 215). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/190- 191). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/258- 261). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/130- 133). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/144- 145). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.(/3)
خطورة المجاهرة بالمعاصي
3307
الكبائر والمعاصي
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
ملخص الخطبة
1- كل أمتي معافى إلا المجاهرين. 2- معنى المجاهرة بالمعاصي. 3- مفاسد المجاهرة بالمعاصي. 4- متى يباح الإخبار بالمعصية؟ 5- أحكام تتعلق بالمجاهر بالمعاصي. 6- استحباب ستر غير المجاهر. 7- الأمر بتغيير المنكر الواقع. 8- الأمر بستر الأسرار الزوجية. 9- ستر الطبيب لأسرار الناس. 10- صور من المجاهرة في هذا العصر.
الخطبة الأولى
من سنّة النبيّ ومِن حديثه ننطلق، ونأخذ النورَ ممّا وجَّهنا به عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة العظيمة التي هي من الأمور المهمّة في حِفظ مجتمع المسلمين وصيانةِ دينهم وعفافهم، روى الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعملَ الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبِح يكشِف سترَ الله عليه)).
((كلّ أمتي معافَى)) مِن العافية وأنّ الله سبحانه وتعالى يغفر الذنبَ ويقبل التوبَة، ((كلّ أمّتي معافى إلا المجاهرين))، هؤلاء لا يعافَون، المجاهرون بالمعاصي لا يعافَون، الأمّة يعفو العفوُّ عن ذنوبها، لكن الفاسقَ المعلن لا يعافيه الله عز وجلّ، وقال بعض العلماء: إنّ المقصودَ بالحديث كلُّ أمّتي يترَكون في الغيبة إلاّ المجاهرين، والعفو بمعنى الترك، والمجاهر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستر الله عليه، فيحدِّث به، قال الإمام النووي رحمه الله: "من جاهر بفسقِه أو بدعته جاز ذكرُه بما جاهر به".
هذه المجاهرة التي هي التحدُّث بالمعاصي، يجلس الرجلُ في المجلس كما أخبر النبي ويقول: عمِلتُ البارحة كذا وكذا، يتحدّث بما فعل، ويكشف ما سُتِر، وقد قال النبي : ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله)) رواه الحاكم، وهو حديث صحيح.
لماذا أيّها الإخوة؟ كلُّ الأمة معافى إلا أهل الإجهار؟ أولاً لأن في الجهر بالمعصية استخفافًا بمن عُصي وهو الله عزّ وجل، استخفافًا بحقّه وبحقّ رسوله ، واستخفافًا بصالحي المؤمنين، وإظهار العناد لأهل الطاعة ولمبدأ الطاعة، معاندة الطاعة، والمعاصي تُذلّ أهلها، وهذا يذلّ نفسَه، ويفضحها في الدنيا قبل الآخرة.
عباد الله، إن المجاهرة بالمعصية والتبجُّحَ بها بل والمفاخرة قد صارت سمةً من سمات بعض الناس في هذا الزمن، يفاخرون بالمعاصي، تباهون بها، وينبغي على الإنسان أن يتوبَ ويستتر، ولكن هؤلاء يجاهرون، قال النووي رحمه الله: "يكره لمن ابتُلي بمعصية أن يُخبر غيره بها"، يعني: ولو شخصًا واحدًا، بل يُقلع عنها ويندَم ويعزم أن لا يعود، فإن أخبر بها شيخَه الذي يعلّمه أو الذي يفتيه أو نحوَه من صديق عاقلٍ صاحب دين مثلاً، يرجو بإخباره أن يعلّمه مخرجًا منها، أو ما يَسْلَمُ به من الوقوع في مثلها، أو يعرّفه السببَ الذي أوقعه فيها، فهو حسن، وإنما يحرُم الإجهار حيثُ لا مصلحة؟ لأن المفسدةَ حينئذ ستكون واقعة، فالكشفُ المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء، لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقَعَ امرأته في رمضان، فجاء فأخبر النبي لكي يعلّمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي في إخباره.
عباد الله، إن المجاهرةَ بالمعاصي، إن إشاعةَ المعاصي، إن التباهيَ بها يحمل الناسَ الآخرين على التقليد والوقوع فيها.
إن الشريعةَ لما شدَّدت في المجاهرة بالمعصية وكلُّها حكمة، والشارع يعلم أن المجاهِر يدعو غيره، ويجذبه ويزيّن له ويغريه، ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية أمرًا خطيرًا جدًا. وقد ذكر العلماء إجراءاتٍ متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصّوا على كراهية الصلاة خلفَ الفاسق عمومًا، ما دام فسقه لا يكفِّر فالصلاة صحيحة لكنه لا ينال ثوابَ من صلى خلف الإمام التقي، وقال بعضهم بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية، وسئل ابن أبي زيد رحمه الله عمّن يعمل المعاصي: هل يكون إمامًا؟ فأجاب: "أما المصرُّ المجاهِر فلا"، لا يمكن أن يكون إمامًا، ولا يجعَل إمامًا، ولا يمكَّن من ذلك، ويطالب بتغيره ويرفع أمره؛ لأنه منصِب قياديّ يؤمّ فيه المسلمين، كيف يؤمّهم ويتقدّمهم، ثم يكون مجاهرًا بمعصية؟! وسئل عمّن يعرَف منه الكذب العظيم أو القتّات النمام الذي ينقل الأخبار للإفساد بين الناس، هل تجوز إمامته؟ فأجاب: "لا يصلّى خلف المشهور بالكذب والقتات والمعلن بالكبائر، مع صحة الصلاة"، أي: أنها لا تعاد، ولكن يكره الصلاة وراء هذا الرجل.
أمّا من تكون منه الهفوة والزلّة فلا تتّبع عورات المسلمين، وقال مالك رحمه الله: "من هذا الذي ليس فيه شيء؟!" كل إنسان يعصي، وقال مالك مردِفًا: "وليس المصرّ والمجاهر كغيره"، المصيبة في المصرّ والمجاهر.(/1)
هذا في مسألة إمامته، وماذا عن عيادته إذا مرض؟ وعيادةُ المريض المسلم أجرها عظيم، ومن حقّ المسلم على المسلم، لكنّ العلماء قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض لأجل أن يرتدع ويتوب ويرتدعَ غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه فهو حسن لأجل دعوته، أما إذا خلا عن هذه المصلحة، ليس هناك مصلحة شرعية، فلا يعاد زجرًا له ولأمثاله.
وماذا عن الصلاة عليه؟ لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة مسألة المجاهر بالمعصية إذا مات فإنه لا يصلّي عليه الإمام ولا أهل الفضل زجرًا له ولأمثاله، وردعًا لمن يقع في هذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المُظهر للمنكر ميتًا إذا كان فيه كفّ لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته"، فمن جاهر بشيء فمات مصرًا مات مجاهرًا يَتْركُ أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامّة الناس، ما دَام مسلمًا لم يخرج من الإسلام.
وماذا بالنسبة للسَّتر عليه؟ وما حكم غيبته؟ يندب الستر على المسلم عمومًا لأن النبي قال: ((من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))، فإذا علمتَ عن مسلم ذنبا فاستره، وخصوصًا إذا كان ممّن ينسَب لأهل الدين، والطعن فيه طعن في الإسلام، والعيب عليه عيب في أهل الإسلام، لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: "وأما المجاهر والمتهتّك فيستحبّ أن لا يستَر عليه، بل يُظهَر حاله للناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقّه؛ لأن سترَ مثل هذا الرجل أو المرأة يُطمعه في مزيد من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حرامًا فإن هذا الرجلَ قد أباح للناس أن يتكلّموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبةَ المجاهر بفسقه أو ببدعته، كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة"، لكن النووي رحمه الله أشار إلى أن غيبتَه فيما جاهر فيه فقط، ويُهتَك فيما جاهر فيه، ويُحذَّر من شأنه، يحذَّر الناس منه، وأما هجرُه فإذا كان يرتدِع به فيجب الهجر، والهجر بالمقاطعة وعدم الكلام وعدم الزيارة وعدم السلام عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله: "ليس لمن يسكر ويقارب شيئًا من الفواحش حرمة ولا صِلة إذا كان معلِنًا مكاشفًا"، إن قضية الإجهار حساسة جدًا في الشريعة.
أيها الإخوة، وماذا عن وليمته ودعوته إلى العرس والنكاح؟ إنَّ إجابة الوليمة واجبة بنص حديث النبي : ((ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله))، هذا في العموم، أما المجاهر فلا تجاب دعوته للعرس والنكاح، ولا تلبَّى ولا تُؤتى وليمته ما دام مجاهرًا.
أيها المسلمون، إن الله حيِيٌّ ستِّير، يحب الحياء والستر، إنه سبحانه وتعالى يحب الستر، فيجب على من ابتُلي بمعصية أن يستتر، ويجب عدم فضحه، فإذا جاهر لقد هتك الستر الذي ستره به الستِّير وهو الله عز وجل، وأحلّ للناس عِرضه. وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممّن لم يُعرف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد ولم يكن داعيًا إليه وإنما يفعله متخوِّفًا متخفِّيًا أنه لا يجوز فضحُه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصّة، ولا يُرفَع أمره إلى القاضي، لماذا؟ لأن النبي حثّ على ستر عورةِ المسلم، وحذّر من تتبُّع زلاته: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)) رواه ابن ماجه وصححه في صحيح الجامع. ولأن كشف هذه العورات والعيوب والتحدّث بما وقع من هذا المؤمن أو المسلم قد يؤدّي إلى غيبة محرَّمة وإشاعة للفاحشة وترويج لها، المؤمن يستُر وينصَح، والفاجر يهتك ويعيِّر، كما قال الفضيل رحمه الله.
أما من عرِف بالأذى والفساد والمجاهرة بالفسق وعدم المبالاة بما يرتكب ولا يكترث بما يقال عنه فيندَب كشف حاله للناس وإشاعة أمره بينهم، ليحذروا منه وليرفعوا أمره إلى القاضي ما لم يُخشَ مفسدة أكبر؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء ومزيد من الفساد وانتهاك الحرمات والجسارة على المعصية.
هذا في المعاصي التي وقعت في الماضي، أما من رأى إنسانًا يرتكب معصيةً فيجب عليه أن يُنكر عليه، ولا يقول: أستره؛ لأن النبي قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). واستثنى العلماء في مسألة الجرح الرواة لأجل سنة النبي ، والشهود يُجرح الشهود عند القاضي إذا كانوا من المجروحين لحفظ الحقوق، وكذلك من أراد أن يتولَّى صدقات أو أوقافًا أو أموال أيتام ونحو ذلك لا يحلّ الستر عليهم عندئذ، وإنما يخبر بأمرهم القاضي، لأن المسألة تتعلق بها حقوق لمسلمين أو لعامة المسلمين.(/2)
وينبغي على الإنسان المسلم إذا وقعت هفوة أو زلة أن يستر على نفسه ويتوبَ بينه وبين الله عز وجل، ولا يستحَبُّ له رفع أمره إلى القاضي ولا يكشف شأنه لأحدٍ كائنًا ما كان إلا من مثل الأمثلة التي تقدمت في الاستفتاء والاستنصاح.
الستر لأجل أن لا تشيع الفاحشة، ولأجل أن لا يعمَّ ذكرها في المجتمع، ولأجل أن تُكبت أخبارها؛ لأن نشر أخبارها يجذب إليها ولذلك فإن من الآثمين إثمًا عظيمًا الذين ينشرون أخبار الخنى والفجور والخلاعة والمجون والحفلات المختلطة والغناء ونحو ذلك على الملأ؛ لأنهم يريدون إشاعةَ الفاحشة في المجتمع المسلم، ((اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألمّ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإن من يُبدي لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله)) حديث صحيح رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وغيره.
أيها المسلمون، إن النبي لما جاءه الرجل يقول: أصبتُ حدًا فأقمه عليّ، والمعصية حَصَلت خفية، إن النبي أعرض عنه. فيه إرشاد إلى عدم استحباب طلب إقامة الحد، وأنّ من وقع في شيء تكفيه التوبة فيما بينه وبين الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن تتوبَ علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله البشير النذير والسراج المنير والنبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إن مما ينبغي حفظه ما يحصل بين الزوجين وتفاصيل ما يقع حالَ الجماع وقبله من مقدّماته، إلى غير ذلك من الأسرار البيتية، قال النبي : ((إنّ من أشر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها))، وقال عليه الصلاة والسلام وقد أقبلَ على صفّ الرجال بعد الصلاة: ((هل منكم إذا أتى على أهله أرخى بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا، وفعلت بأهلي كذا؟)) فسكتوا، فأقبل على النساء، فقال: ((هل منكن من تحدِّث؟)) فقالت فتاة منهن: والله إنهم ليحدِّثون، وإنهن ليحدِّثن، فقال: ((هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟! إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة ـ أي: في وسط الطريق ـ فقضى حاجته منها والناس ينظرون)) الحديث الأول أخرجه مسلم، والثاني أخرجه أحمد وهو حديث حسن.
عباد الله، إن الله يحبّ الستر ويكره الكلام بالكلام الفاحش، وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه في الحلال، لكنه لأنه خنى فإنه لا يتحدَّث به، لا يتحدَّث بأيّ شيء يثير الشهوات، حتى مجرَّد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيل، إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء، وعدُّوه من خوارم المروءة، حتى مجرّد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية، إنه مكروه لأنه من خوارم المروءة.
عباد الله، إن الطبيب وغيره ممن يطّلع على بعض أسرار الناس لا يحلّ له أن يفشي ذلك إلا إذا كانت هناك مضرّة على المسلمين، فإنه يبلّغ بها حتى لا تقع المضرة على المسلمين، وقال العلماء: إن الإنسانَ إذا اطلع على شيء فيه ضرر على أحد بلّغه بالحذر العام، ولا يتكلّم عن الشخص إذا كان ذلك كافيًا، فيقول له: انتبه واحذر وهناك من يريد إيقاع الشر بك ونحو ذلك، فإذا لم يكن كفّ الشر ممكنًا إلا بالإبلاغ عن هذا الشخص وجب الإبلاغ عنه، ويجب الإبلاغ عن كل من يحدث شيئًا فيه ضرر على المسلمين، فالذين يعملون أوكار الفجور والدعارة وتوزيع المخدرات ونحو ذلك يجب الإبلاغ عن هؤلاء وعدم الستر عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة المجتمع المسلم.
عباد الله، انظروا فيما حولكم من الناس، كيف صارت المجاهرة بالمعاصي شيئًا عاديًا، إن كلّ من يعلِّق صورةً مخرمة تعليقًا يظهر للناس، أو يلصق على سيارته عبارةً بذيئة وهو يعلم معناها، أو يشرب شيئًا من المحرّمات شفطًا وأخذًا لدخانه وسحبًا أو من السوائل التي يدخلها إلى جوفه أمام الناس فهو مجاهرٌ بالمعصية، فلا تستغربنّ إذا رأيتَ من أهل الخير من مرَّ بمدخِّن فلم يسلِّم عليه، ثم مرَّ به وهو لا يدخّن فسلم عليه؛ لأن ذلك من فِقه معاملة من يجاهر.(/3)
كيف يجاهر بعض الناس برفع أصوات الغناء عند الإشارات وزجاج باب السيارة منخفض فينشر الفسق؟! كيف بمن يجلس على الشاطئ أو الرصيف وغيره فيعزف، وبعضهم يرقصون أمام الغادي والرائح؟! وهذه المرأة المتهتّكة التي تنزل إلى السوق والشارع متبرّجة متعطّرة كاشفة عن الأقدام والسيقان وعن الشعر وعن غيره تمشي أمام الناس مجاهرة بالفسق والمعصية، كيف صار حال بعض الناس في الإجهار بالفسق والمعاصي في الدعايات التي ينشرونها على الملأ، وفيها فجور أو دعوة لفجور أو حفلة غناء أو اختلاط أو قمار وميسر في معاملات تجارية؟! يجهَر بها على الملأ، لقد صارت مسألة الإجهار من المسائل العظيمة أيها الإخوة، ولذلك تجب النصيحة ويجب القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا النهي عن المنكر واجب ومحاربة المنكر؟ لمكافحة الإجهار بالدرجة الأولى، الذي يجهر بالمعصية أمام الناس، كم وكم من الناس قد وقعوا في الإجهار، وحديث النبي خطير خطير: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) لا معافاة لهم، نفى المعافاة عنهم، ومن نُفيت عنه المعافاة فكيف سيكون حاله؟! نسأل الله السلامة والعافية.(/4)
خطورة مخالطة الكفار والفاسقين
إنك لتعجب أن ترى رجلا عليه سمت الصالحين ووقار الأخيار, يعجبك في هديه ودله, تراه يجالس امرأة أجنبية عنه, ربما سمعت منها ضحكات صاخبة أو قولا خاضعاً, هيئتها لا تسر الناظرين. سترت القبيح من نفسها وأظهرت الجميل.
ثم أنتقل بك إلى صورة أخرى لا تقل عجباً عن تلك تجعلك أمام كم من الأسئلة : رجل قد أعفى لحيته, واتبع السنة في ظاهره, إذا بك تراه جالساً مع بعض قرابته أو زملائه يشاهدون فيلماً أجنبياً على شاشة التلفاز- ولا يخفى عنك ما فيه- ولا ينتهي بك العجب ههنا, فالرجل ينظر بتفاعل, ويتابع بتلذذ, ويشارك في الحديث عمن يسمونهم أبطالاً لتلك الأفلام, وكأن الرجل صاحب دراية قد اعتادر ذلك وألفه.
وما هاتان الصورتان غير مثال وإشارة إلى كثير من المشاهد التي على شاكلتهما تثير الدهشة والعجب. قوم يتدثرون بلباس غيرهم في مفارقة بين القول والعمل ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) {الأعراف :26} ولنعد إلى المثالين السابقين.
الأول : رجل صالح - نحسبه والله حسيبه - اضطرته ظروف عمله أن يخالط تلك المرأة الساعات الطوال, فهي زميلة عمل, وكثيراً ما ترى هذا في المستشفيات ونحوها, ولكن هل المشهد الذي رأيته في هذه الصورة حدث عند أول لقاء عمل ؟ الجواب : لا, فقد بلغ به الضيق مبلغه في أول الأمر, لكنها طبيعة العمل, فكان حريصاً على غض بصره, وألا يتكلم إلا بقدر الحاجة. وكذلك كانت زميلته على جانب من الحياء والستر, فالرجل ذوهيبة ووقار.
المثال الثاني : هو من الدعاة إلى الله - عز وجل - يتجول في حقول الدعوة يجاهد بقلبه وحاله, سلاحه قلمه ولسانه, وينتهي به التجوال إلى منزل اهله أو مجلس قرابته أو منتجع زملائه, وهنا ينسى وظيفته ويلقي سلاحه, إنهم يرغبون أن ينظروا إلى التلفاز في مجلسهم والداعية إلى الله أجل من أن تكون له فيه رغبة, ولكن لا بد من اللقاء والأنس. فكان كلما حضر مجلسهم, أغلقوا التلفاز أدباً. ثم تتتابع المجالس وتأخذ دورتها مع الأيام, فيرغب بعض في فتح الجهاز, فمن أراد المشاهدة ينظر, ومن لم يرد فلا. ثم بعد ذلك بمدة تكون خطوة أخرى برفع مستوى الصوت في بعض البرامج كالفقرات الإخبارية فقط, ثم تتلوها المباريات الرياضية. ومع اعتياد ذلك يتتابع التردي في خطوات الشيطان ليسمح أو يتسامح في رفع مستوى الصوت وخفضةه عند مشاهد مثيرة في أفلام ومسلسلات! فكان ينظر لا إرادياً استجابة لشدة تفاعل جلساءه مع لقطة مباراة, ثم يغض بصره سريعاً وينظر ثانية استجابة لتفاعل آخر لإثارة الفيلم. وهكذا حتى أصبح يسارق النظرات تلو النظرات, ثم يستجيب لتلك المثيرات, ومع توالي الأيام وصلى الأمر إلى ما رأيت.
أيها القارئ الكريم! لا تظن أن هذا المقال كتابة ناقد أو نقد كاتب, بل هو بث مخزون وخلجات محب, عجب مما عجبت منه, وآلمه ما رأيت فكان هذا المقال انبعاثاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله, وإن اشتكي رأسه اشتكى كله" رواه مسلم, ح/4686.
. وقوله : مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه مسلم مع شرح النووى,(16/356)
فليس ثمة إلا تداعي الجسد لعضو من أعضائه .
ولعلاج ذلك العضو الشاكى لا بد من تشخيص دقيق للداء الذي أصابه, فإذ كان كافة المؤمنين هم الجسد فإن أعيانهم هي الأعضاء, وبمجموعهم يتكون جسد الأمة, لذا أحببت أن يكون ما تقدم من أمثلة نموذجاُ لعضو أو بعض من هذا الجسد أصابه الداء نسترشد في تشخيصه بأنوار الوحي " فكل الصيد في جوف الفرا" ومعنى الفَرَا : حمار الوحش. وهو مثل يضرب لِمَا يُغْني عن غيره.
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلال بين وإن الحرام بين, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام, كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه, ألا وإن لكل ملك حمى, ألا وإن حمى الله محارمه " رواه مسلم, ح/2996.(/1)
قال ابن رجب - رحمه الله - : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مَثَل المحرمات كالحمى الذي تحميه الملوك ويمنعون غيرهيم من قربانه, والله - عز وجل - حمى هذه المحرمات ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده فقال - سبحانه - :( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ) البقرة : 187. وهذا فيه بيان أنه حدَّ لهم ما أحل لهم, وحدَّ لهم ما حرم عليهم , فلا يقربوا الحرام ولا يتعدوا الحلال, ولذلك قال في آية أخرى : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) البقرة : 229 وجعل من يرعى حول الحمى وقريباً منه جديراً بأن يدحل الحمى ويرتع فيه, وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات وأن يجعل المسلم بينه وبينها حاجزاً . جامع العلوم والحكم (208) بتصرف.
فنبه - رحمه الله - على هذه الإشارة النبوية إلى الدواء المتضمن لبيان الداء فإن كان الدواء التباعد عن المحرمات فإن الداء في التقارب منها (يرعى حول الحمى) ألا ترى أن المحرم هو ما بداخل الحمى, وما حوله حلال, ولكن (يوشك أن يرتع فيه ) فالرَّعيُ حول الحمى ذريعة موصلة إلى رعي الحمى نفسه.
إن في دلالة الحديث على الداء (التقارب من المحرمات) معاني لطيفة, ذلك أن الشارع إذا نهى عن معصية وزجر عنها أوجب ذلك على المسلم نفرة ووحشة من هذه المعصية (الحمى) فكلما كان بعيداً عن الحمى كانت النفرة والوحشة أبلغ, والزجر قد أخد مأخذه, وذلك أن طبائع النفوس البشرية تألف ما تقاربت منه وتعتاده, وتزول بينها وبينه كل الحواجز وتتكسر العواعق, فتضعف في النفس زواجر الوعيد وقوارع التهديد بسبب الإلف والاعتياد الذي هو أثر المقاربة للمحرمة.
ولتستبين أن الداء هو التقارب من المحرمات (الحمى) وأثره المترتب عليه فانظر إلى أثر التقارب في النفوس البشرية وما تقاربت منه وإن كانت لا تحبه, بل قد يكون خطيراً عليها.
ألا ترى إلى ساكن البادية قد ألف المبيت بها بين دوابها وهوامها. بينما لو أتينا بساكن المدينة ليبيت ليلة في البادية لكثرت عليه الخواطر: يُفزعه كل صوت يسمعه, يتخيل دواب الأرض وعقاربها وأفاعيها تحيط به من كل جانب, يستحضر قوة سمومها وسرعة نفوذها, فلا يكتحل طرفه بمنام ـ فانظر إلى أثر القرب والبعد عند كل منهما ، ساكن البادية لا يجهل أنها إن لدغته تقتله ، وقد لا يتيسر له الدواء في زمن كاف, ويعلم أنها خطيرة عليه وعلى صغاره الذي يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم حتى ولو بالهرب عنها.بل كم شيع من جنازة قريب أو صديق كانت هذه الهوام سببها! ولا تعجب فكم من مرة يرى هذه الدواب ويذهب في شؤنه دون أن يتعرض لها بسوء! إنه التقارب منها وما يترتب عليه من طبيعة الإحساس بكل هذه المخاطر, فعينه قد اعتادت رؤيتها, وأذنه قد ألفت سماع أصواتها, إنه الإلف والاعتياد بسبب المقاربة. وذلك صاحب المدينة ينام قرير العين هادئ البال بعد أيام أو أسابيع من سكناه البادية.
وليتجلى لنا أثر التقارب والتاعد في غياب حرمة الحمى وخطره وشناعة المحرمات واستشعار ذلك فإننا نتدارس هذا النص النبوي :
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين, واضربوهم عليها لعشر سنين, وفرقوا بينهم في المضاجع" المسند (6756), قال أحمد شاكر : صحيح.
إن شطر الحديث الأول يرشد إلى أن التقارب من الصالحات سبيل إلى إلفها واعتيادها وترويض النفس على قبولها والمداومة عليها, فإذا بلغ الصبي سبع سنين فإنه يؤمر بها فتألف أذنه الأمر بها, إذ يتكرر عليه ذلك خمس مرات في اليوم والليلة, وتعتاد قدماه المشي إلى المساجد, وترى عينه المصلين يترددون إلى المسجد. يرى المصلين صفوفاً يتقدمهم الإمام.يتكرر هذا لمدة ثلاث سنوات, وهذه السنوات الثلاث تعد مرحلة أولية تهيئة لما بعدها. ثم المرحلة الثانية (واضربوهم عليها لعشر سنين) وفي هذه المرحلة يكون الصبي قد اعتاد الصلاة وأصبح لديه تصور مجمل لهيئتها وعدد مراتها والتمييز بين الفروض, وتكون هذه المرحلة أكثر حزماً , فإن فيها أمراً زائداً عن مجرد الأمر بالصلاة : (واضربوهم) وتستمر هذه المرحلة إلى سن البلوغ, فهذه قرابة ثماني سنوات تشكل دورة تدربيية في التقارب مع هذه الطاعة, فيألفها ويعتادها ويحبها بسبب تقريبه منها ومن أهلها كما مر بك. فإذا أُعلم بها وبمكانتها في الإسلام عند جريان قلم التكليف عليه سهل عليه القيام بها بخلاف من لم يراع في حقه هذا الإرشاد النبوي.
وفي شطر الحديث الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : ( وفرقوا بينهم في المضاجع ) انظر إلى لطيف الإشارة النبوية في تحديد وقت التفريق في المضاجع عند سن العاشرة بين الأبناء والبنات, ففي هذه السن تكون بعض البنات قد بلغن سن الرشد أو قاربن البلوغ , وإن لم يكن فلا أقل من تغير جسمها وهيئتها عن جسم الصبية.(/2)
وقد جرت عادة الناس أن يتخدوا لنومهم ملابس لها خصوصيتها من خفة وشفافية وقد تكون مجسمة (كالبجامة), وما كان هذا وصفة من اللباس من حيث الشفافيه أو التجسيم أو كشف أجزاء من البدن لا يكون ساتراً للعورة. وقد ينكشف الغطاء أثناء النوم فتبدو العورات, فإن لم يكن التفريق في المضاجع انكسر حاجز الحياء, وضعفت الاسجابة للأمر والنهي في حفظ العورة وسترها. ذاك كله بسبب الاعتياد والإلف لتكرار هذا المشهد نتيجة المقاربة والمجاورة, بل قد يتعدى الأمر إلى أبعد من ذلك وأخطر. فهذا صاحب كتاب (مسؤولية الأب المسلم) يضمن كتابه مبحثاً عن الانخرافات الجنسية عند الأطفال, فإذا به يتعرض للحديث الذي نحن بصدد دراسته فيقول : ولا بد من التفريق بين الأولاد عند النوم خاصة بينهم وبين البنات,فإن كثيراً من الانحرافات الجنسية المبكرة يعود سببها إلى إهمال التفريق بين الأولاد في المضجع, ونومهم مع الأبوين في غرفة الواحد. ويكون ذلك بتخصيص غرفة للأولاد, وأخرى للبنات, وثالثة للأبوين, مع استقلال كل طفل بغطاء يخصه فينبغي عدم المشاركة في الغطاء من كتاب مسؤولية الأب المسلم, اعدلوا, عدنان حسن باحارث (643). فانظر إلى لطيف الإشارة : ( وفرقوا بينهم في المضاجع )
وإلى دليل آخر من الوحي :
إن الإسلام يُرغِّب في النكاح ويحث عليه, ولأن الأسرة لَبِنَةٌ في بناء صرح الأمة فإن الإسلام يحافظ عليها من أن تُهدم, ويجعل سياحاً منيعاً من الترغيب والترهيب يطوقه علاقة الزرجين ببعضهما, لتشتد هذه اللبنة, فيبدو صرح الأمة شامخاً. فعندما يحدث خلاف بين الزوجين فإن الشرع قد وضع مراتب لتأديب الزوجة. ومحل الشاهد من ذلك مرتبة الهجر, حيث شرع الله - تعلى - أن يكون الهجر في المضجع فحسب, لأن البعد شأنه أن يزيد من اتساع الفجوة بينهما, فشرع الهجر في المضجع, لأن القرب له أسرار منها, عدم النفرة, وسكون النفس, والصحة, والأنس.
واسمع إلى قول صاحب تفسير المنار:" لأن الإجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل واحد منهما إلى الآخر ويزول اضطرابهما الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر الزوج زوجته وأعرض عنها في هذه الحالة احتمل أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤله عن السبب, ويهبط من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة . نقلاً عن مفصل أحكام المرأة, للدكتور عبد الكريم زيدان (7/315) .
سبحان الله! إن المقام مقام تأديب وبنوع من التأديب فيه حزم وشدة, ومع ذلك يرشد الشارع بأن يكون الهجر مقيداً بالمضجع, وذلك لما فيه من المقاربة من المعاني التي سقناها, فتتبدل المخالفة إلى الموافقة في أكثر الأحيان.
ثم أن لم تحصل الموافقة وحصل الطلاق, فإن كان رجعياً فإنه يجب عليها أن تمكث مدة عدتها في بيتها لا تخرج منه, كما لا يحق للزوج أن يخرجها قال - تعالى - : (لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ). فتأمل كيف أن الشارع أمر الزوج بعدم إخراجها وأمرها بعدم الخروج, وذلك مدة العدة وقدرها ثلاثة قروء, ثم تأمل قوله - سبحانه - بعد ذلك : (لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) في ذلك حكمة لطيفة, حيث إن الشارع أشار إلى أن بقاء الزوجة في بيتها قريبة من زوجها من أقوى عوامل المراجعة. وذلك أن في القرب أسراراً فيراها وتراه, ويحن لها وتحن له, فتتحرك في النفس كوامن الرحمة والمودة والعطف, ولهذه المقاربة دون في إبعاد النفرة وتسكين الألفة بدلاً منها, وإلى هذا المعنى الموجود في التقارب بين الزوجين وعدم المفارقة زمن العدة إن كان الطلاق رجعياً نجد الإشارة إلى ذلك في قوله - تعالى - : ( لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) الطلاق/1 . وكما أن الرجعة تكون بالقول فهي أيضاً تكون بالفعل . المراد بالفعل هنا الجماع. هذه الحكمة بما فيها من معان تكون متعذرة إذا كانت الزوجة خارج بيتها بعيدة عن زوجها.
وإلى شاهد آخر من السنة النبوية يقرر أثر التقارب والتباعد في النفوس البشرية :
عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله عليه وسلم : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين, لا تراءى نارهما " . إرواء الغليل (5/30) وقال : صحيح.
وعنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أبايعك على أن تعبد الله, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتناصح المسلمين, وتفارق المشرك . صحيح الجامع (1-678).(/3)
فانظر - رعاك الله - إلى أي مدى من الخطورة يُشعِر بها هذا الحديث في الإقامة بين المشركين والقرب منهم, بل انظر إلى الدقة في الحرص على قطع جميع العلائق حتى ما كان منها بالاتصال البصري (تراءى نارهما) ذلك أن هذا الأمر يفضي إلى ما قدمناه من الألفة والأنس به والتطبع على مقاربته, ويزيل من النفس الوحشة والنفرة من المشرك ومعاداته على سبيل المسارقة والتدرج, بل قد يفضي به إلى مودته لما قد يتصف به من حسن خُلُقٍ وطيب معشر وكرم جوار ، وينبهر بما لديه من تقنية أو حرفة أو علم فيحبه لذلك, ولأجل هذا القرب وما تبعه من آثار غاب عنه منافرة المشرك وبغضه واستشعار حقيقة (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) التوبة /28
إذا ما عملت هذا تجلت لك الحكمة من قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تراءى نارهما" وما في ذلك من المبالغة في مباعدة المشرك وبغضه, ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقرر ذلك في نفوس أصحابه فيقول لجرير بن عبد الله - رضي الله عنه - في بيعته, ويبايعه على (وتفارق المشرك).
ثم إلى إشراقة أخرى من أنورار الوحي فيما يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسو الله صلى الله عليه وسلم : " والفجر والخيلاء في أصحاب الإبل , والسكينة والوقار في أهل الغنم ". مسلم (2, 223, ج 190).
فانظر إلى أثر التقارب على كلا الفريقين. قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي مسعود - رضي الله - : " والجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين عند أصول أذناب الإبل". البخاري مع الفتح (7/701 ح/4387), مسلم 2/219 /179) .
قال الإمام النووى - رحمه الله - : وقوله " عند أصول أذناب الإبل " معناه : الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها " (15) مسلم بشرح النووى (2/221).
فما كان هذا حاله من الدواب كان حرياً بمن يتولى رعيها أن يتصف بالغلظة والجفاء المكتسب من طبع هذه الدواب بخلاف حال الغنم, إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ :" اتخدي غنماً, تروح بخير وتغدو بخير " صحيح الجامع (1/78) ، وقال : " اتخدوا الغنم, فإنها بركة "صحيح الجامع (1/78) ،
فلما كان هذا حالها تروح وتغدو بخير كان وصف أهلها " السكينة في أهل الشاء" صحيح الجامع (1/687)
ومن أصيب بالغلظة والجفاء جديرٌ بأن يكون من أهل الفخر والخيلاء. فتدبر.
ومع كلمات نيرات لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في التشبه بالكفار نجد فيها شاهداً لما نحن بصدده فيقول - رحمه الله - : " إن الله جبل ابن آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم, ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم ، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشكلة ، وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعاُ من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه, ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل, وصارت السكينة في أهل الغنم, وصار الجمَّالون والبغَّالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال وكذلك الكلاَّبون, وصار الحيوان الإنسي فيه من أخلاق الناس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم, كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جَرَّد الإسلام. والمشابهة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنية على وجه المسارقة والتدريج الخفي . اقتضاء الصراط المستقيم (1/487).
فانظر إلى تقريره - رحمه الله - كيف تورث المشابهة والمشاكلة والمعاشرة المحبة والألفة وقلة النفرة, وهل المشابهة والمشاكلة والمعاشرة إلا وسيلة تقارب بين المتشابهين والمتشاكلين والمتعاشرين فكان الأثر مترتباً عليها؟
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : " إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن حتى إن الرجلين إذا كان من بلد واحد ثم اجتما في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم, وإن كان في مِصْرهما لم يكونا متعارفين أو كان متهاجرين, وذاك أن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة. بل لو اجتمع رجلان في سفر أو في بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب, أو الشعر, أو المركوب, ونحو ذلك, لكن بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما. هذا كله موجب الطباع ومقتضاه إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص".
وتأمل صنيع البخاري - رحمه الله - في صحيحة, حيث جعل في كتاب الإيمان باباً اسماه (باب من الدين الفرار من الفتن) ضمنه حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القَطْر, يفر بدينه من الفتن" . صحيح البخاري في الفتح (1/87 / ح19).(/4)
وبعد هذه الإضاءات من النصوص الشرعية أرجو أن يزول عنك العَجَبُ وتقف على ممكن الداء, وفي ضده يكون الدواء, ولله در شيخ الإسلام! فذلك كله موجب الطباع ومقتضاه.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
بقلم بدر السحيل
(من مجلة البيان العدد 152 ربيع الآخر 1421 ص : 34-39) .(/5)
خلق الحياء وأثره في حياة المسلم !!
( محمد محمود عبد الخالق )
الخير والشر معان كامنة تعرف بسمات دالة:
اعلم أن الخير والشر معان كامنة تعرف بسمات دالة كما قال سلم بن عمرو الشاعر:-
لا تسأل المرء عن خلائقه في وجهه شاهد من الخبر
فسمة الخير: الدعة والحياء، وسمة الشر: القحة والبذاء، وكفى بالحياء خيراً أن يكون على الخير دليلاً، وكفى بالقحة والبذاء شراً أن يكونا إلى الشر سبيلاً، وقد روى حسان بن عطية عن أبي إمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحياء والعي شعبتان من الأيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق " أخرجه أحمد والترمذي والحاكم. ويقصد بالعي: سكون اللسان تحرزاً عن الوقوع في البهتان، والبذاء: ضد الحياء وهو فحش الكلام، والبيان: فصاحة اللسان والمراد به هنا ما يكون فيه أثماً من الفصاحة كهجو أو مدح بغير حق، ويشبه أن يكون العي في معنى الصمت، والبيان في معنى التشدق، كما جاء في حديث آخر: " إن أبغضكم إلى الله الثرثارون المتفيهقون المتشدقون "، وروى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحياء من الأيمان والأيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار " في معجم الطبراني، سنن البيهقي، وأخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وأخرجه البخاري في الأدب عن أبي بكرة.
الحياء من الأيمان:
المسلم عفيف حييي والحياء خلق له، والحياء من الأيمان والأيمان عقيدة المسلم وقوام حياته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الأيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الأيمان " رواه البخاري ومسلم، وسر كون الحياء من الأيمان أن كلا منهما داع إلى الخير صارف عن الشر مُبعد عنه، فالأيمان يبعث المؤمن على فعل الطاعات وترك المعاصي، والحياء يمنع صاحبه من التقصير في الشكر للمنعم ومن التفريط في حق ذي الحق كما يمنع الحيي من فعل القبيح أو قواه اتقاء للزم والملامة، ومن هنا كان الحياء خيراًَ، ولا يأتي إلا بخير كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " الحياء لا يأتي إلا بخير " رواه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين.
أقوال في الحياء:
قال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه. قال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائه. قال بعض البلغاء العلماء: يا عجباًَ ! كيف لا تستحي من كثرة ما لا تستحي، وتتقي من طول مالا تتقي ؟! وقال صالح بن عبد القدوس:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك وإنما يدل على فعل الكريم حياؤه
قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح وبمنع من التفريط في حق صاحب الحق. ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحى منه، وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير. قال الفضيل بن عياض: خمس علامات من الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل. وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعاً استحيا الله منه وهو مذنب. وكان يحي بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحي هو. ومن الآثار الإلهية: يقول الله عز وجل: "ابن آدم.. إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك.. وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك.. ومحوت من أم الكتاب زلاتك.. وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة " ويقول الله عز وجل: " ما أنصفني عبدي.. يدعوني فأستحي أن أرده ويعصيني ولا يستحي مني "
الحرص على الحياء والدعوة إليه:
المسلم إذ يدعو إلى المحافظة على خلق الحياء في الناس وتنميته فيهم إنما يدعو إلى خير ويُرشد إلى بر؛ إذ الحياء من الأيمان والأيمان مجمع كل الفضائل وعنصر كل الخيرات، وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن الحياء من الأيمان "، فدعا بذلك إلى الإبقاء على الحياء في المسلم ونهى عن إزالته ولو منع صاحبه من استيفاء بعض حقوقه، إذ ضياع بعض حقوق المرء خير له من أن يفقد الحياء الذي هو جزء أيمانه وميزة إنسانيته ومعين خيرته، ورحم الله امرأة كانت قد فقدت طفلها فوقفت على قوم تسألهم عن طفلها، فقال أحدهم تسأل عن ولدها وهي منتقبة فسمعته فقالت: لأن أرزأ في ولدي خير لي من أرزأ في حيائي أيها الرجل.
ما لا يمنعه الحياء:
خلق الحياء في المسلم غير مانع له أن يقول حقاً أو يطلب علماً أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر.(/1)
• فقد شفع مرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه فلم يمنع الحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأسامة في غضب: " أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة والله لو سرقت فلانة لقطعت يدها ".
• ولم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية أن تقول يا رسول الله: إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هب احتلمت ؟ فيقول لها رسول الله _ ولم يمنعه الحياء _ " نعم إذا رأت الماء ".
• خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرة فعرض لغلاء المهور فقالت له امرأة أيعطينا الله وتمنعنا يا عمر ألم يقل الله (... وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاُ...)، فلم يمنعها الحياء أن تدافع عن حق نسائها، ولم يمنع عمر أن يقول معتذرا: كل الناس أفقه منك يا عمر. قال: مرة في المسلمين وعليه ثوبان فأمر بالسمع والطاعة فنطق أحد المسلمين قائلاً: فلا سمع ولا طاعة يا عمر عليك ثوبان وعلينا ثوب واحد، فنادى عمر بأعلى صوته: يا عبد الله ابن عمر فأجابه ولده: لبيك أبتاه فقال له: أنشدك الله أليس أحد ثوبي هو ثوبك أعطيتنيه ؟ قال : بلى والله ، فقال الرجل : الآن نسمع ونطيع ، فانظر كيف لم يمنع الحياء الرجل أن يقول ، ولا عمر أن يعترف .
معنى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت:
روى شعبة عن منصور بن ربعي عن أبي منصور البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: يا ابن آدم إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " وليس هذا القول إغراء بفعل المعاصي عن قلة الحياء كما توهمه بعض من جهل معاني الكلام ومواضعات الخطاب، وفي مثل هذا الخبر قول الشاعر:
إذا لم تخشى عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
واختلف أهل العلم في معنى هذا الخبر: ( فقال أبو بكر بن محمد الشاشي في أصول الفقه: - معنى هذا الحديث أن من لم يستحي دعاه ترك الحياء إلى أن يعمل ما يشاء لا يردعه عنه رادع، فليستحي المرء فإن الحياء يردعه).
وقال أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة أن المعنى فيه إذا عُرضت عليك أفعالك التي هممت بفعلها فلم تستحي منها لحسنها وجمالها فاصنع ما شئت منها فجعل الحياء حكماً على أفعاله وكلا القولين حسن والأول أشبه لأن الكلام خرج عن النبي صلى الله عليه وسلم مخرج الذم لا مخرج المدح، ولكن قد جاء حديث بما يضاهي الثاني وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أحببت أن تسمعه أذناك فائته وما كرهت أن تسمعه أذناك فاجتنبه "
أنواع الحياء:
قال أبو الحسن الماوردي في كتابه " أدب الدنيا والدين ":- والثاني:الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: حياؤه من الله تعالى. والثاني : حياؤه من الناس . والثالث: حياؤه من نفسه. فأما حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره... روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " استحيوا من الله عز وجل حق الحياء، فقيل يا رسول الله فكيف نستحي من الله عز وجل حق الحياء ؟ قال: من حفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وترك زينة الحياة الدنيا، وذكر الموت والبلى: فقد استحيا من الله عز وجل حق الحياء " وهذا الحديث من أبلغ الوصايا. ويقول أبو الحسن الماوردي عن نفسه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ذات ليلة، فقلت يا رسول الله، أوصني، فقال: استحي من الله عز وجل حق الحياء... ثم قال: تغير الناس. قلت: وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال: كنت أنظر إلى الصبي، فأرى من وجهه البشر والحياء، وأنا أنظر إليه اليوم، فلا أرى ذلك في وجهه. وأما حياؤه من الناس: فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تقوى الله اتقاء الناس " وروى أن حذيفة بن اليمان أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكب الطريق عن الناس، وقال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس. وأما حياؤه من نفسه، فيكون بالعفة وصيانة الخلوات.. وقال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك، وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملاً يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر.
المصادر والمراجع: -
(1) أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي.
(2) مدارج السالكين لابن القيم الجوزية.
(3) منهاج المسلم لأبي بكر جابر الجزائري.(/2)
خمس وصايا لاختيار الأهداف السليمة
الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من مبادئ عملية الإشراف السليمة، أن تكون الأهداف محددة وواضحة، ولا شك فيه أن المشرف الذي يستطيع أن يعرف أهدافه ويفهمها هو الذي يستطيع بسهولة الإسهام بنجاح في تصميم وتنظيم محتويات البرامج التي تعمل على نمو المدرسين، ومساعدتهم على تأدية مسؤولياتهم المهنية على أحسن وجه ممكن.. ولاختيار الأهداف السليمة فإن ثمة خمس وصايا أسوقها لمن يحب أن يكون اختياره للأهداف سليمة، وهي كالتالي:
1. اكتب كل الأهداف التي تريدها في بنود، ثم اختر هدفين أو ثلاثة وركز عليها.
2. اختر الأهداف ذات الصلة الوثيقة برؤيتك، يقول بوب نيلسون: إذا كنت تستطيع أن ترى الهدف فإنك تستطيع أن تحقق... ويقول أيضاً: إذا لكم تكن تعرف إلى أين تذهب، فكيف تعرف أن وصلت...؟1.
3. ركز على الأهداف ذات الصلة الوثيقة برسالتك، وابتعد عن إغراءات الأهداف التي تشمل على التحدي والتشويق والمتعة، واعلم أن رسالتك هي: " نشر الهدى على العالمين".
4. راجع أهدافك بشكل دوري، واحرص على تحديثها، واكتبها بخط عريض، واجعلها في متناول يدك، وقريبة من مكتبتك، وفي متناول أيد المتعاونين معك2.
5. تحديد الوسائل والطرق لتحقيق الأهداف. وذلك في ضوء الإمكانات المتاحة، ويدخل في ذلك تحديد الاستمارات اللازمة والسجلات وبرامج الكمبيوتر التي يمكن الاستفادة منها في عمليتي الضبط والإشراف. كما لا يخفى أن من أهم عوالم نجاح تحديد الأهداف أن تشرك العاملين في صياغته3. والله الموفق.
000000000
1 - الإدارة للمبتدئين(156).
2 - المرجع السابق(164).
3 - راجع فن الإشراف صـ(60- 61).(/1)
خير أمة
إعداد/ شوقي عبد الصادق
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار،
والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار،
وبعد:
قال اللَّه تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس
بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون [سبأ: 28]،
وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا
لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا
وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل
لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس
عامة».
[اللؤلؤ والمرجان: 299]
وأمة الدعوة هي جميع الإنس عربهم وعجمهم أبيضهم
وأسودهم، وكذلك الجن، أما أمة الإجابة فهم الذين آمنوا به وبالنور الذي أنزل
معه وهم الأخص فأمة الدعوة تشمل كل من سمع به من يهود ونصارى ومشركين ومجوس ومن
ليس له دين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «والذي نفسي بيده لا
يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل
النار».
[السلسلة الصحيحة بسند صحيح 157]
فأمة الإجابة هي التي نفذت قوله
تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول
إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين
المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال: 24]، وهذه
الأمة لها صفات وردت بالكتاب والسنة:
أولاً: هي أمة القيادة والريادة للناس
كافة:
قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو
آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون
وأكثرهم الفاسقون [آل عمران: 110]، قال ابن كثير رحمه اللَّه: يخبر
تعالى أن الأمة المحمدية خير الأمم، وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: «خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام،
والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس».
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء». فقلنا: يا رسول
اللَّه، ما هو ؟ قال: «نُصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد وجعل
التراب لي طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم».
[حسنه الألباني في الصحيحة
3939]
وقال ابن كثير رحمه اللَّه أيضًا: فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل
معهم في هذا الثناء، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من سره أن يكون من تلك
الأمة فليؤد شرط اللَّه فيها.
[ابن كثير 536/1-544 بتصرف]
فهذه الأمة لا مكان
لها إلا في الصدارة والقيادة لكل البشرية، تقود البشرية إلى النور والخير
والإسلام حتى ولو كان غزوًا لهم وسَحْبًا إلى الإسلام كما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر
وكان من الأسرى والسبي السيدة صفية بنت حيي بن أخطب سيد اليهود، وتدخل الإسلام
ويتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصير بهذا من أمهات المؤمنين.
ثانيًا: أمة على الحق
المبين، وغيرها في الضلال المبين:
قال تعالى: فتوكل على الله
إنك على الحق المبين [النمل: 79]، وقال: قل إن ربي
يقذف بالحق علام الغيوب، قل جاء الحق وما يبدئ
الباطل وما يعيد [سبأ: 48، 49]، وقال تعالى: قل الله يهدي
للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا
يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون [يونس:
35].
ثالثًا: أمة على الصراط المستقيم وغيرها إمّا مغضوب عليهم أو ضالون.
قال
تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله
الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله
تصير الأمور [الشورى: 52، 53]، وأمة الإجابة تسأل اللَّه كل يوم على
الأقل خمس مرات أن يهديها إلى الصراط المستقيم أي تسأل البقاء عليه والاستزادة
من التمسك به، والبعد عن صراط المغضوب عليهم والضالين، عقيدة وعبادة
وسلوكًا.
رابعًا: أمة ذات شرف وصيت:
قال اللَّه تعالى: لقد أنزلنا
إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون [الأنبياء: 10]،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: شرفكم، وقال مجاهد: حديثكم، وقال الحسن: دينكم،
وقال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون
[الزخرف: 44]، والكتاب الذي فيه ذكر الأمة محفوظ بحفظ اللَّه فيبقى شرف الأمة
قائمًا ما أقامت كتاب اللَّه.
خامسًا: أمةٌ عزيزة وغيرها ذليل:
قال اللَّه
تعالى عن المنافقين الذين هم معدودون ضمن الأمة في الظاهر: يقولون لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين
لا يعلمون [المنافقون: 8]، فأثبتت الآية العزة للمؤمنين الذين هم خير
أمة، وعن غيرهم قال القرآن: ضربت عليهم الذلة والمسكنة
وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون
بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون [آل عمران: 112]، وعن المشركين قال القرآن:
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم(/1)
وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين
[الأعراف: 152]، فأمة الإجابة هي الأمة العزيزة، وأمام عزة واحدٍ منها يتحطم
كبرياء الملوك من غير هذه الأمة لأنها تستمد عزتها من اللَّه ثم من العمل
بدينه.
والحمد لله أولاً وآخرًا.
إشهار
برقم (1901) بتاريخ 2006/3/23
تشهد مديرية الشئون الاجتماعية بمحافظة البحيرة بأنه قد تم إشهار جمعية
أنصار السنة المحمدية بقرية الإسراء والمعراج، وذلك طبقًا لأحكام القانون 84
لسنة 2002م ولائحته التنفيذية.
إشهار
برقم (9611) بتاريخ 15 / 3 /
6002م
تشهد مديرية الشئون الاجتماعية بمحافظة المنوفية بأنه قد تم إشهار جمعية
أنصار السنة المحمدية ببابل وكفر حمام ـ تلا ـ المنوفية، وذلك طبقًا لأحكام
القانون 84 لسنة 2002م ولائحته التنفيذية.
مناشدة
نظرًا لتطرق الباحثين في
درجتي الماجستير والدكتوراه بالجامعات العربية والمصرية إلى البحث في جماعة
أنصار السنة؛ جهودها ودعوتها وعطائها ورجالها؛ الأمر الذي يتطلب جمع تراث شيوخ
الجماعة؛ لذا نرجو ممن كانت لديه مطبوعات أو تسجيلات بأنواعها أو رسائل خطية
لشيوخ الجماعة أن يسلمها إلى «مركز التراث» بالمركز العام، شاكرين للجميع
تعاونهم الصادق للحفاظ على تراث الجماعة.
والله من وراء القصد. إدارة
التراث
إنا لله وإنا إليه راجعون
تحتسب جماعة أنصار السنة المحمدية عند الله
تعالى زوجة الشيخ/ محمد شهبة رئيس فرع أنصار السنة المحمدية بالكونيسة ـ جيزة ـ
وذلك يوم السبت 24 من ربيع الأول الموافق 22/ 4 / 2006م وأسرة تحرير مجلة التوحيد
تدعوا الله سبحانه أن يرحمها رحمة واسعة وأن يلهم أهلها الصبر والاحتساب
كما
تحتسب الجماعة عند الله تعالى الشيخ / عبد المنعم الإمام أحمد مؤسس ورئيس فرع
أنصار السنة المحمدية بكفر الحاج شربيني ـ مركز شربين ـ دقهلية عن عمر يُناهز
الـ79 عامًا وذلك يوم الجمعة 9 من ربيع الأول سنة 1427هـ الموافق 7 / 4 /
6002م
نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، وأن يخلفنا عنه خيرًا..
كما تحتسب
جماعة أنصار السنة المحمدية عند الله تعالى الأستاذ/ أحمد إبراهيم الشرباصي عضو
جمعية أنصار السنة المحمدية بكفر الوكالة ـ شربين ـ دقهلية ـ عن عمر يناهز
الـ47 عامًا وذلك يوم الثلاثاء 52 من المحرم الموافق 24 / 2 /
6002م(/2)
خير لك من حمر النعم
الكاتب : علي الكثيري
التاريخ : 1/9/1426
جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يو خيبر حين أعطاه الراية : " .. فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " ..
لم كانت هذه الخيرية والمفاضلة على خير ما كان في أيدي الناس من مال في ذلك الزمان ، هذا أمر يدعو إلى التأمل ومحاولة الاستيعاب لهذه المقارنة التي تحفز للدعوة إلى الله تعالى ، نعم إن الهدى من الله تعالى ، وليس بيد الدعاة إلى الله إلاّ أن يرشدوا الناس وينصحوهم للسير إلى الله تعالى ، ولكن من ينظر إلى الثمار التي سيجنيها الداعية إلى الله من هذا العمل ، سيعلم أنه حقيقة خير له من حمر النعم ، ومن تلك الثمار :
1. إنقاذ المدعو من النار ، ودلالته إلى طريق الجنة ، وتحقيق السعادة له في الدنيا والآخرة ، وصرفه عن مآل السوء في الآخرة ، وحال السوء في الدنيا ، ولذلك فإن الداعية إلى الله يُهدي للناس الهداية إلى لله تعالى ، وهو يُهديهم أيضاً الجنة ، وكذا السعادة في الدارين التي هي مبتغى كل مسلم ..
2. ما يناله الداعية من الأجر على ما يقوم به المدعو بعد هدايته من أفعال صالحة كالصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة والصدقة والدعوة والجهاد وطيب الأخلاق ، والمعاملة الحسنة ، وغيرها من الصالحات ، فإن للداعية الذي أرشد هذا المدعو من الأجر مثل ما حصّله ذلك المدعو ، وفي الحديث : " الدال على الخير كفاعله " فانظر كم في ذلك من خير يجده الداعية بعد هداية المدعو إلى الله . وانظر هل لهذا الخير من انقطاع أو نفاد ، بل إنه متصل لذلك الداعية على كل من اهتدى على يد من دعاه إلى الله .
3. هدم صرح الضلال والفساد وبناء صرح الإسلام ، فما من مدعو ينتقل إلى الهداية والرشاد إلاّ وكان زيادة في سواد الصالحين من عباد الله تعالى ، وكذلك كان نقصاً من سواد ذلك الضلال وحداً من انتشاره في الأرض . ومن ينظر في تاريخ صدر الإسلام كيف كان كفار مكة يتناقصون في كل يوم ، والمسلمون يتزايدون في كل يوم إلى أن أذن الله بقيام دولة الإسلام ممن كانوا قلة مستضعفين في الأرض .
4. ثم إن الهداية صورة من صور النصر للدعوة إلى الله ، أليس النصر هو تحقيق الهدف ؟ وكذلك الهداية للمدعو هي تحقيق لهدف من أهداف الدعوة إلى الله تعالى .
5. وكذلك ما سيناله الداعية من دعم هذا المدعو له ومساندته في الدعوة إلى الله تعالى وتحمل الأعباء سوياً في سيرهم إلى الله تعالى ، وكذلك الدعوة إلى الله تعالى تمتد بروافد جديدة ممن يتحملون أعباءها وينطلقون بها ، ويفتحون لها الكثير من المجالات .
إن هذه الثمار للدعوة إلى الله وهداية الناس تجعل الناظر حقيقة يتأمل أنها خير لها من حمر النعم وأن الله جل وعلا يكافئ الداعية الذي نذر جهده لله تعالى أن بما هو خير له من حمر النعم ، وما هو خير له من الأموال والقصور .. إنه الأجر الذي يدخل الداعية الجنة .(/1)
خيركم لنسائهم
إن الحمد لله نحمده تعالى،ونستعينه, ونستغفره,ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران:102.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء:1.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} الأحزاب:70-71.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله،وخير الهدي هدي محمد–صلى الله عليه وسلم-,وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة,وكل بدعة ضلالة,وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها المسلمون: يقول الله-تعالى-:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم: 21.
وقال-عز وجل-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} سورة النساء 19.
قال ابنُ كثير-رحمه الله تعالى-: "أي طيبوا أقوالكم لهن,وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قُدرتكم، كما تحب ذلك منها,فافعل أنت بها مثله,كما قال-تعالى-:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ,وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} سورة البقرة: 2281.فالنساءُ بحاجة إلى تعامل حسن، بعيداً عن الشتم والضرب والإهانة؛لأنهن ضعيفات خلقن من ضلع,وإن أعوج ما في الضلع أعلاه,إن أقمته كسرته وإن تركته لم يزل أعوج, فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (ثم استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه, فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء)2 قال الحافظ ابن حجر: "أي اقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها, وأرفقوا بهن, وأحسنوا عشرتهن"3 وعند مسلم من حديث أبي هريرة –أيضاً-: (...ثم إنَّ المرأة خُلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقةٍ,فإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوَجٌ,وإنْ ذهبتَ تُقيمها كسرتها,وكسرُها طلاقُها)4. فلابُدَّ من مداراتها حتى تفوز بحسن معاشرتها, فلا تكن شديداً في كل صغيرة تبدر منها, فما من إنسان إلا وينسى ويخطئ, فلا بد من غض الطرف عن بعض الأمور مالم يكن فيها إخلال بحق من حقوق الله-تعالى-؛ولهذا فقد جاءت نصوص كثيرة توصي بالنساء خيراً, فقد جاء أن النبي–صلى الله عليه وسلم-قال في خطبة الوداع:(استوصوا بالنساء خيراً)5.جاءت هذه الوصية في أشهر أيام الإسلام، وفي أطيب موقع عند المسلمين، وفي أكبر تجمع إسلامي، وذلك يوم الحج الأكبر منصرف الناس من عرفات، حين خطب النبي-صلى الله عليه وسلم- أصحابه فحذرهم من العودة إلى الكفر، ومن سفك الدماء، واستباحة الأعراض, واغتصاب الأموال، ثم حث على السمع والطاعة، ثم جاء إلى أمر النساء فأوصى بهن خير6، ومما أوصى به قوله-صلى الله عليه وسلم-:(استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوانٌ عندكم،أخذتموهن بأمانة الله،واستحللتم فروجهن بكلمة الله"7,وعن عائشة-رضي الله عنها-,قالت:قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(خيركم خيركم لأهله،وأنا خيرُكم لأهله)8.
فالنَّبيُّ–صلى الله عليه وسلم-أرشد الرجال إلى المعاملة الحسنة مع النساء، فأخبرهم أن من كمال الإيمان حسن الخلق،فقال:(أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً،وخياركم خياركم لنسائهم)9، فإن حسن الخلق, وحسن التعامل يدلُّ على كمال الإيمان وقوته،وسوء العشرة, وسوء المعاملة,وعدم الوفاء يدل على نقص في الإيمان؛ولذا قال النبي-عليه الصلاة والسلام-: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، ثم قال-عليه الصلاة والسلام-: (وخياركم خياركم لنسائهم)،وخير الناس من كان خيره لنسائه، التعامل الحسن، والقيام بالواجب، والبعد عن كل ما يكدّر صفو العشرة وينغصها.
أيها المسلمون: إن في معاملة النبي-صلى الله عليه وسلم-لأزواجه منهاجاً وطريقاً للمسلمين، يسلكونه في حياتهم الزوجية. فكيف كانت حياة النبي-صلى الله عليه وسلم-مع نسائه؟، وكيف كانت عشرته لهن؟, وكيف كانت نساؤه، أمهاتنا-رضي الله عنهن-يتعاملن معه؟ وكيف كن يتعاملن مع بعضهن؟ حتى نتخذ من ذلك نبراساَ ومرشداً للطريق الصحيح في التعامل.(/1)
أما النبي–صلى الله عليه وسلم-فقد كان جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم،ويُضاحك نساءه حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها-يتودد إليها بذلك، قالت سابقني رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فسبقني، فقال:(هذه بتلك)10 ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فيأكل معهن ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في لحاف واحد،وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤنسهم بذلك-صلى الله عليه وسلم-فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان أحسن الناس حلقاً، لم يكنْ فاحِشاً, ولا مُتفحِّشاً, ولا سَخَّاباً في الأسواقِ,ولا يجزي بالسيئةِ مثلَها،ولكن يعفو ويغفر11.
وعن عمرة,قالت: سألتُ عائشةَ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-إذا خَلَا مع نسائِهِ؟ قالت: كانَ كالرجل من رجالكم، إلا أنه كان أكرم الناس، وأحسن الناس خلقاً, وألين الناس وأكرمهم ، ضحَّاكاً بسَّام12.
وجعل النبي-صلى الله عليه وسلم-يوصي بالنساء فيقول: (الصلاة الصلاة،وما ملكت أيمانكم,لا تكلفوهم ما لا يطيقون.الله الله في النساء؛فإنهن عوان في أيديكم-يعني أسراء- أخذتموهن بأمانة الله,واستحللتم فروجهن بكلمة الله)13.فما أحوجنا إلى أن نقتديَ برسول الله-صلى الله عليه وسلم-في معاشرتنا لأهلنا,وخاصة في زماننا الذي ساءتْ فيه الأخلاقُ, وفسدت فيه العشرة،فالإقتداء بالرسولِ-صلى الله عليه وسلم-أمر الله-تعالى-به في كتابه فقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} سورة الأحزاب: 21.
أيها المسلمون: إن من حسن المعاملة والعشرة مع الزوجة، أن يكون الصبر والتحمل من أخلاق الرجل، فهو أقوى من المرأة تحملاً، والمرأة ضعيفة، وقد يكون منها الخطأ، لكن تحمّلُ الرجل وصبره هو المطلوب منه، فإنه القيّم عليها، وما دام القيم فلابد من صبر وتحمل، فيقول النبي-عليه الصلاة والسلام-: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)14، لا يبغضها ويكرهها فإن أخلاقها قد يكون فيها خلق سيء، لكنها تشتمل على خلق طيب، وهكذا حال الإنسان، فالكمال في المخلوق غير ممكن، لا من الرجل ولا من المرأة، فإن كرهت منها خلقاً من الأخلاق فلابد أن ترتضي منها خلقاً غيره، وأما إذا كنت تعاتب على كل نقص، وتريد الكمال في كل الأحوال، فذاك طلب المستحيل، ومن كثر عتابه قلّ أصحابه.
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلقى الذي لا تعاتبه
واعلم -عبد الله-: أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها، إقتداءً برسول الله-صلى الله عليه وسلم-,فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام، وتهجره الواحدةُ منهن يوماً إلى الليل15.
فيبين ذلك بوضوح جلي فيقول فيما ترويه عائشة-رضي الله عنها-: (خيركم خيركم لأهله) ثم قال: (وأنا خيركم لأهلي),فمحمد خير الناس لأهله،صبراً وتحملاً وإكراماً,ومعاملة بالحسنى، آلى شهراً منهن لما حصل منهن ما حصل، ومع هذا كان يعاملهن بالحسنى، وتخبر عائشة لما سئلت: ماذا كان يفعل في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله"16، فهو من أحسن الناس خلقاً،وأحسنهم تعاملاً -صلوات الله وسلامه عليه- أبداً دائماً إلى يوم الدين. فاتقوا الله عباد الله في النساء، فأحسنوا عشرتهن، وأدوا حقوقهن، واستوصوا بهن خيراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً،والصلاة والسلام على من جعله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد:(/2)
أيها المسلمون:إننا في زمان فسدت فيه الأخلاق، وساءت العشرة بين الزوجين, فالزوج يتعدى على زوجته،فيسئ معاملتها, بل يصل به الحال إلى إهانتها، وضربها، على وجهها, وقد جاء النهي عن الضرب في الوجه؛ لأن الضرب في الوجه فيه إهانة وإذلال، ووجه الإنسان أشرف أعضائه الظاهرة، فلا يجوز تشويهه بضربه، ونهاه أن يقبِّح أي: يقول كلمة قبيحة، نحو: قبَّحكِ الله أو غيره من الألفاظ البذيئة، فإن الألفاظ السيئة تجرح القلب أعظم من الضرب، ولذا يقول الله-جل وعلا-: {وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا} الإسراء: 53، ونهاه عن الهجران إلا في الفراش، فإذا أراد هجْرها هجَرها بترك المبيت معها، وأما هجرٌ بترك الكلام والمحادثة,فهذا نهى عنه النبي-صلى الله عليه وسلم-، فبقاؤها معه من دون حديث يزيد في الجفاء، ويبعد كلاً منهما عن الآخر، فإن الأحاديث الودية مما يُكسب القلب محبة ومودة، وأما إذا لم يكلمها ولا يلتفت إليها، فلا يسمع منها قولاً، ولا يُسمعها قولاً، فهذا أمر نهى عنه النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يحدث تصدُّعاً في الحياة الزوجية، وبعد كلٍ منهما عن الآخر، والله-تعالى-يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالْمَعْرُوفِ} النساء: 19، وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوً} البقرة:231، فالله-تبارك وتعالى-أرشد الرجل إذا طلق المرأة، وأراد العود إليها، فليكن بقصد الإصلاح، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ،وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقطاع العدة، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي: استرجعوها لتكون الرجعة بالمعروف أي: ناوياً العشرة بالمعروف، لا جاعلاً الرجعة سبباً للعذاب والألم، أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فدعها تنقضي عدتها، ولعل الله أن يعوضها خيراً ويعوضك خيراً، وأما إمساك لأجل الإضرار والظلم والعدوان، فهذا نهى الله عنه بقوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ} أي: لا تمسكوهن ضراراً لأجل أن تعتدوا عليهن، أو أن تظلمها وتسيء إليها، فذاك محرم في شريعة الإسلام، والعدوان قد نهى الله عنه، ولا يحلّ للرجل أن يعتدي عليها بالإيذاء والإضرار، فذاك أمر لا يليق بالمسلم السامع والمطيع لله ورسوله.
أيها المسلمون: إن الزوجة فراش زوجها, وموضع سره، وأسيرة بيته، إنها موطن المودة والرحمة التي قال الله عنها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم: 21, إنها موضع قضاء وطره,وإعفاف نفسه، إنها طاهية طعامه, وكانسة منزله، ومنظفة ملابسه،ومرتبة حاله،ومربية أولاده، فهل أدرك كل هذه الأبعاد؟ إن كثيراً من الأزواج لم يعد يأبه بزوجته فلم يتق الله في أهله، ولم يرع العهود التي بينه وبين زوجه، فيسيء تعاملها، فيظلمها، ويهينها، ويضربها، ويعمل على أذيتها كأنها عدو داخل بيته، فعليكم عباد الله بالرفق واللين مع زوجاتكم، ومزيداً من حسن التعامل، ولطف العشرة.
ثم اعلموا- عباد الله-أن حسن الخلق مع الزوجة, لا يعني أن يتساهل المرء في حق من حقوق الله... وعليه أن لا يوافق هواها إذا جمح بها عن دائرة المعروف وأخرجها إلى دائرة المكروه والمحرم .. بل عليه أن يقفل باب المنكرات في بيته فإنه مسؤول عن ذلك .
قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} التحريم: من الآية6 .
وقال-سبحانه وتعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ** إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} التغابن:14-15 وقال عزوجل:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} النساء: من الآية34.
وقال-عليه الصلاة والسلام-في الحديث المتفق عليه:(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته... والمرأة راعية على بيت زوجها وولدها .. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)17.(/3)
عباد الله:اتقوا الله في نسائكم،فإنهن أمهات أولادكم،فلا تظلموهن،ولا تضربوهن،بل أحسنوا معاملتهن بالعشرة الحسنة، والأخلاق الفاضلة،وصبروا عليهن فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله,واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
اللهم أصلح مجتمعاتنا،وحسن أخلاقنا،وأصلح زوجاتنا،ووفقنا لما تحبه وترضاه.
والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه،
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - راجع: تفسير ابن كثير (1/368).
2 - البخاري، (3153).
3 - فتح الباري(6/368).
4 - صحيح مسلم(2/1091)(1468).
5 - سنن الترمذي(1163). وحسنه الألباني في صحيح الترمذي(929).
6 - وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم .ص(330-331).
7 - انظر شرح صحيح مسلم(8/183).
8 - رواه الترمذي (3892)، كتاب المناقب وأبو داود(4899)، وابن ماجه (1977)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم(285) وقال : إسناده صحيح على شرط الشيخين.
9 - سنن الترمذي(1162).وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم(928).
10 - صحيح ابن حبان، (4691)، ومسند أحمد(6/264).
11 - أحمد (6/236)، والترمذي، كتاب البر والصلاة، باب ما جاء في خلق النبي (2017). وقال حسن صحيح.
12 - ابن عساكر في تاريخ دمشق(1/323)، وأبو الشيخ في (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم-(29-30)، وابن سعد في الطبقات(1/365).
13 - رواه مسلم .
14 -صحيح مسلم(2/1091)(1469).
15 - متفق عليه.
16 - صحيح البخاري(644).
17 - متفق عليه.(/4)
خيرَة الله
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري
الحمدُ لله حمدا طيبا كثيرا كما يجبُ ربُنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
وأشهدُ أن محمدا عبدُه ورسولُه أفضلَ نبيٍ وأشرفَه وأزكاه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنتَه واهتدى بهداه.
أما بعدُ أيها الناس، اتقوا اللهَ حق التقوى.
أمةَ الإسلام: أحبابَ محمدٍ (صلى اللهُ عليه وسلم)، أتباعَ ملتِه وحملةَ رسالتِه وحراسَ عقيدتِه والسائرينَ على هديه وطريقتِه.
أيها الأخوةُ المتحابونَ بجلالِ الله، إن قلوبَنا أشدَ ما تكونُ حاجةً لأن توردَ على المأثورِ عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) من ذكرٍ ودعاء، يربي إيمانَها، ويكونُ يقينَها، ويزيدُ تعظيمَها لربِها ووثوقَها به.
يقولُ جابرُ أبن عبد الله رضي الله عنه: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يعلمُونا الاستخارةَ في الأمورِ كلِها كما يعلمُونا السورةَ من القرآن.
فعش بقلبِك وأحضر إلى وجدانِك تلكَ الفِقرَ النيرةَ من ذاكَ الدعاء: اللهم إني أستخيرُك بعلمِك، وأستقدِرك بقدرتِك وأسأُلك من فضلِك العظيم، فإنكَ تقدرُ ولا أقدِر، وتعلمُ ولا أعلم وأنت علامُ الغيوب.
هذهِ العباراتُ المشرقةُ بإجلالِ اللهِ عز وجل، كم تربي في النفس من تعظيمِ الخالقِ جل جلالُه، كم تبينُ من عظمةِ الخالقِ، وتبينُ من ضعفِ المخلوق.
إن المخلوقَ مقيدُ بالعجز، محجوبُ بالجهلِ، إنكَ تقدرُ ولا أقدر، وتعلمُ ولا أعلم، أما اللهُ جل جلالُه فهو القادرُ على كلِ شيء، وهو الذي أحاطَ بكلِ شيءٍ علما، ولذا فإن العبدَ يلوذُ من عجزِه بقدرةِ الله، ومن جهلِه بعلمِ الله عز وجل، إن اللهَ عليمُ قدير.
كم هي الأمورُ التي ينظرُ إليها البشرُ بنظرِهم المحدود، ويقيسونَها بمقياسِهم القاصر، فيرونَ فيها ما يكرهون، ويستدفعونها فلا يقدرون، ويكونُ للهِ فيها من اللطفِ والخيَرَةِ ما تقصرُ عنُ عيونُهم وتتطامن عنهُ علومُهم.
كم خارَ اللهُ لعبدِه وهو كاره! كم طوى اللهُ لعبدِه المنحَةَ في طي المحنَةَ!
أنظر في صورِ خالدِة لا تبلى جدَتُها وقد ذُكرت في القرآن.
أنظر إلى خبرِ نبيِ اللهِ يوسفَ عليه السلام:
ذلكَ الصبيُ المدللُ في كنَفِ أبن رحيم مشفقٍ يخافُ على أبنِه أن يخرجَ في نزهةٍ، ثم يُنتزَعُ من وسطِ هذا الدلالِ والرعايةِ ليلقى في غيابةِ الجُبِ ثم في ظُلمِ السجنِ.
ما هو مقياسُ هذا المصابِ في مقياسِ البشرِ القاصر، كيفَ ينظرُ البشرُ إلى هذا المشهد؟
أنهم ينظرونَ إليه بإشفاقٍ، صبيُ حرمَ حنانَ الأبوة، حرمَ عطفَ الوالد، حرمَ لذةَ التلذذِ بنعمةِ الحنان، ثم يتعرضُ بعد ذلك لخطفِ الرقِ وقيدِ السجن. هل ينظرُ البشرُ إلى هذا المشهدِ إلا بهذه النظرة! ولكن كان علمُ الله، وحكمةُ الله، تدخرُ ليوسفَ شيئاً آخر، تدخرُ ليوسفَ النبوةَ والرسالةَ، وتدخرُ له حُكمَ مصِر، تدخرُ لهُ أن تكونَ خزائنُ مصرَ بيدِه، فإذا يوسفُ يخرجُ من السجنِ إلى الحكم، وإذا الأبُ الذي عميَ عليه حزناً يقرُ به عينا، وإذا الأخوةُ الذينَ ألقوه في غيابةِ الجبِ يقولون له: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ.
ما الذي كان سيبقى ليوسفَ لو بقيَ حالُه كما كان! سيبقى ابنا مدللا لأبٍ شيخٍ تضعفُ قوتُه يوما إثر يوم، ولكنَه يُنتزعُ من هذا الجو في مشهدٍ ظاهرُه المحنةَ وفي طيِه المِنحةَ، إن خيرَةَ اللهِ كانت تدخرُ ليوسفَ ما كانت أفهامُ البشرِ تعجزُ عن إدراكِه أو استشفافِه، أعد النظرَ إلى البداياتِ ثم إلى النتائجِ واعتبر خيرَةَ الله الذي يعلمُ ونحنُ لا نعلم.
ثم أنظر إلى خَبرِ موسى عليه السلام:
موسى الذي يعيشُ ربيبا لفرعونَ، يعيشُ في بلاطِ الملك، يعيشُ في نعيمِ الترف، يعيشُ لذةَ التمتعِ بكل متعِِ الملوكِ والفراعنة، ثم يقدرُ اللهُ عليه قدرَه فإذا الملأُ يأتمرونَ به ليقتلوه، وإذا به يخرجُ من المدينةِ خائفا يترقب، ويصلُ على مدينَ لاغبا جائعا يرفعُ بصرَه إلى السماءِ بذلةٍ ومسكَنةٍ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.
ماذا يقولُ المقياسُ البشريُ عن هذا المشهد!
ماذا يقولُ النظرُ القاصرُ عن هذه الفصولُ من خبرِ موسى؟ إنه إنسانُ فوتَ على نفسِه فرصا كثيرة، وتعرضَ لمتاعبا لم تكن أصلا في طريقِه، هكذا يقولُ النظرُ القاصرُ المحدود.
أما حكمةُ اللهِ وخيرَةُ الله فكانت تدخرُ لموسى شيئا آخر، تدخرُ لموسى ما هو أعظمُ من قصورِ الفرعون، وما هو أعظمُ من نعيمِ الترف، كانت تدخرُ له منصبَ الرسالة، وشرفَ النبوةَ، وأن يكلمَه ربُه بلا تُرجمان، وأن يكونَ من الخمسةِ الأوائلِ في تاريخِ البشريةِ كلِها، من أوليِ العزمِ من الرسل.
ماذا تساوي كلُ تلك المتعِ التي خسِراها في قصرِ الفرعون أمامَ خيرَةِ اللهِ المذكورةِ له.
ثم أنظر بعدُ إلى قصةِ الخَضِرِ وموسى عليهما السلام:(/1)
يومَ ركبا السفينةِ فخرقها، لقد قال موسى بالعلمِ البشريِ: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً، ولكنَ الخَضِرَ الذي كان يستشرفُ حكمةَ الله يرى إلى خيرَةَ اللهِ في هذا المصابِ لأهلِ السفينة، لقد كان وراؤهم ملكاً يأخذُ كلَ سفينةٍ صالحةٍ غصبا.
ثم الغلامُ يقتلُ تحتَ سمعِ موسى وبصرِه، على يدِ من؟
على يدِ الخَضِرِ، فماذا يقولُ العلمُ والنظرُ البشريُ في هذا المشهد: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً، ولكنَ خيرَةَ اللهِ لأهلِ هذا الغلامُ يستشرفُها الخَضِرُ عليه السلام، إن هذا الغلامُ لو عاشَ لأرهقَ والديهِ طغيانا وكفرا، فإذا قُتلَ أبدلهما اللهُ خيرا منه زكاةً وأقربُ رحما.
إن النظرةَ البشرةَ القاصرة، تنظرُ إلى مشهدِ الوالدينِ يومَ ولِدَ الولدُ ففرحا به، ويومَ قتلَ فحزنا عليه، لكنها لا تستشرفُ من في طيِ علمِ اللهِ من حكمةٍ وخيرَة.
ثم أنظر إلى هذا المعنى العظيمِ على مستوى الجماعة.
أنظر إلى مشهدِ المسلمينَ:
وهم يتسللون مستخفينَ يخرجونَ من مكةَ إلى المدينة، إن المشهدَ يريكهم وهم يخرجونَ مستخفينَ مشردينَ قد تركوا وطنَهم وهم له محبون، وتركوا أهلَهم ومالَهم وذوي أرحمَهم.
أي معنىً يوحي به ذلكَ المشهد، إنه الرثاءُ لهؤلاء المستضعفين الذينَ يتركونَ خلفَهم كلَ شيء، ويقدِمونَ إلى بلدٍ لم يحسبوا في حسابُهم البشريُ أن هناكَ ما ينتظرُهم به من متعِ الدنيا. إنهم يخرجونَ من بلدِهم يتسللونَ مشردينَ خائفين في مشهدٍ يثيرُ الرثاءُ إلى أرضٍ أخرى وقومٍ آخرين، ما الذي يمكن أن يوحيَ به هذا المشهد إذا أُخذ على حدتِه؟
جرد نفسَك عن بقيةِ المشهدِ وأنظر إليهم، أنظر إليهم وقد خرجَ كلُ منهم تاركاً دارَه، تاركا مالَه، تاركا أهلَه، ويممَ تلقاءَ المدينةِ، وليس هناكَ ما يُعدُ به من مال أو مأوى، أي نظرةٍ بشريةٍ تنظرُ إلى هذا المشهد هل يمكنُ أن يُفيضَ عليها ذلكَ المشهدُ إلا الرثاء لذلك المهاجرِ والرحمة له.
ولكن كانت خيرَةُ اللهِ المطويةُ في علمِه المحيط، تدخرُ لهم مشهدا آخرَ عظيما رائعا، إنه مشهد صُنعِ تاريخِ البشرية، وانطلاقِ الرسالةِ في طورٍ جديد، ووضعِ حجرِ الأساسِ لقيامِ الدولةِ الإسلامية، وإذا ذلكَ المشهد يولدُ نموا متتابعا يتمددُ في شكلٍ سريع تكلأهُ رعايةُ الله، ويتنزلُ عليه نصرُه وعونُه حتى يمدَ ذراعيه تضربُ أمواجُ المحيطُ الأطلسيُ على غربِه وترتاحُ جبالُ الصينِ على شرقِه.
إن خيرَة الله كانت مذخورةً لهؤلاء الذين خرجوا مستضعفينَ لم يوعدوا بشيءٍ من متاعِ الدنيا، وإنما وعدوا بالجنةِ.
ثم أنظر إلى مشهدٍ آخر.
أنظر إلى مشهدِ المسلمينَ وقد أناخوا بالحديبية:
قلوبُهم تتقطعُ شوقا إلى البيتِ العتيق أن تلتصقَ أحشاؤهم به، وأن تكتحلَ أعينُهم برؤيتِه، جاءوا على أملِ الطوافِ به، جاءوا على أملِ الصلاةِ في رحابِه، جاءوا ومعهم رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليه وسلم)، لم يكونوا قلةً قلية بل كانوا ألفا وأربعمائة، كلُ منهم قد باعَ للهِ نفسَه.
وإذا بالمفاوضاتِ تدورُ بين محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) وكفارَ قريش، لتنتهي باتفاقيةٍ كانت بنودُها في ما يظهرُ للمسلمينَ جائرةً، فحزنت القلوبُ وتألمت النفوس، وعز عليها أن تصدَ عن البيتِ وقد اقتربت منه، وتردُ عنه وقد اقتربت منه، وترجعُ عنه وقد قدمت إليه، رجعت وفي القلبِ حسرة، وفي القلب غصة، وفي العين عبرة، حتى يجيَ عمرُ رضي الله عنه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بحُرقةِ المؤمنِ ولهفتِه يقول:
يا رسولَ الله ألسنا على الحق، أليسوا على الباطل، قال بلا، قال فلما نُعطي الدنيةَ في ديننا، قال إني عبدُ الله. يفعلُ ما يوحى إليه (صلى اللهُ عليه وسلم) ويصدرُ عن أمرِ ربِه.
إن النظرةَ البشريةَ لهذا المشهد تفيضُ على النفسِ الحزنَ أن يردَ هؤلاءِ ويرجعوا وفي يديهم اتفاقيةُ جائرة، أن يرجعوا هذه السنة، ويعودوا السنةَ القادمةِ وليس معهم من السلاحِ إلا سلاحُ المسافر، وليس لهم فرصةُ إلا ثلاثةَ أيامٍ يقيمونَها في مكة، ثم من لحق من المسلمينَ بالنبيِ (صلى اللهُ عليه وسلام) وهو من أهلِ مكةَ فإنَه يردُ إلى المشركين، أما من لحق بالمشركين مرتدا من المسلمين فلا يردَ إليهم، لقد كانت اتفاقيةً فيما يبدو للناسِ جائرة، ولكنها كانت فتحا مبينا، فلم يمضي بعد هذه الاتفاقيةَ إلا زمنا يسيرا وإذا بالمسلمينَ يسيرونَ إلى مكةَ في قطعانٍ كالليلِ البهيم، عشرةُ ألافِ سيفٍ كلُها تحيطُ برسولِ الله (صلى اللهُ عليه وسلم)، تم تدخلُ مكةَ فاتحةً منتصرةً تتهاوى أصنامُها تحت أقدامِ النبي (صلى الله عليه وسلم): وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً.
لقد كانت خيرَةُ اللهِ مدخرةُ لهؤلاءِ الذينَ رجعوا وفي قلوبِهم حسرة، وفي أنفسِهم لوعة، ولكن كانت خيرَةُ اللهِ مدخرةُ لهم في علم اللهِ المحيط.(/2)
ثم أنظر بعد إلى آلاف الأسرى من الروم ومن الفرس:
ومن أبناء الممالكِ التي فتحَها المسلمون، هؤلاءِ الذينَ دخل الإسلامُ بلادَهم وهم كارهون، هؤلاءِ الذين عاشوا آلامَ الهزيمة، ومرارةَ الأسر، ثم كان عاقبةَ ذلك دخولُهم الإسلام، فإذا هم يتبوءون نعيمَ الهداية، ويحرزونَ فوز الآخرة، ثم لا أسفَ بعد ذلكَ على ما فات من الدنيا. لقد كان مشهدُهم في نظرِهم وهم يهزمونَ على أيدي المسلمينَ مشهدا يثيرُ الرثاء، ولكنَه كان في حقيقتِه أنهم كانوا يقادونَ إلى الجنةِ في السلاسل يومَ دخلوا هذا الدين فعرفوا لذة الانتماءِ إليه، ونعيمَ الهدايةِ في ظلالِه.
وهكذا لا تزالُ تجدُ في حياةِ الأفرادِ والجماعاتِ من الوقائعِ المماثلةِ ما يملئُ القلبَ ببردِ اليقينِ إلى خيرَةِ اللهِ جل وعلا التي قد تكونُ في ما يكرههُ عبده أو عبادُه.
كم رأينا ببصرِ أعيننِا داعيةً يضيقُ عليه في بلدِه فيخرجُ منها أو يُخرَجُ منها فيجدُ في أرضِ اللهِ مراغما كثيرةً وسعة، يجدُ بلادا تؤويه وتُعزُه وتنصُرُه وتمكنُ له.
كم رأينا داعيةً يُقتَلُ لإخمادِ ذكرِه، فيزيدُه اللهُ بهذا القتلِ شرفا إلى شرفِه، ويزيدُ ذلك في ذكرِه ذكرا، ويزيدُ ذلك في عزِه عزا، وإذا آثارُه تلقى بعد موتِه قَبولا، كما قال سيد قطب رحمَه الله: إن كلماتِنا ستظلُ عرائسَ من الدمعِ هامدةً، فإذا أسقيناها بدمائِنا انتفضت وسارت فيها الحياة، وهكذا كان، لقد كان دمُ السيدِ القطب حياةً دافقةً في كلماتِه هزتها ودفقت فيها الحياة.
أيها الأخُ المبارك: إن علينا أن نعيَ جيدا أنه قد يكونُ من خيرَةِ اللهِ للعبد ملاقاتُه لما يكرهُه، ولكن العبرةَ بالعاقبة، وقد قال اللهُ جل وعلا: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمون.
إن الإنسانَ عاجزُ عن معرفةِ المستقبل، بل الإنسانُ عاجزُ عن انتظارِ المستقبل: وكان الإنسانُ عجولا.
ولذلك قد يقابلُ الإنسانُ ما يكرهُه، ولكن خيرَةَ اللهِ مطويةً في ذلك، وخذ مثالا على ذلك، الإمامُ النوويُ رحمَه الله:
فقد بدأ حياتَه العلميةَ دارسا للطب، فبدأ يقرأُ كتابَ القانونَ لأبنِ سيناء، فوقعَ في قلبِه كرهُ لهذا العلم، وبلادةُ عن فهمِه حتى ضاقَ به ذرعا، فألقى كتابَ أبنِ سيناء جانبا، وأتجَه إلى الذي هو خير، إلى العلمِ الشرعي، ففتحَ عليهِ فيه فتحا مبينا، فإذا أثارُه لا تزالُ إلى اليومِ تنطقُ بالدعاءِ له، كم تذكرنا ذلكَ الإمامَ النووي ونحن نتسأل كم من مساجدِ المسلمينَ يُذكرُ فيها الإمامُ النوويُ عصرَ كلِ يوم فيقولُ إمامُ الحي: قال الإمامُ المؤلفُ رحمَه اللهُ تعالى، ثم يقرأُ فصولا من رياضِ الصالحين! كم يرفعُ لهُ من دعاءٍ في كلِ يوم! أي فضلاٍ أحرزَه، وأي شيءٍ قد فاتَه يومَ فاتَه كتابَ القانونِ لأبنِ سيناء.
وهكذا في حياةِ الإنسانِ قد يخسرُ في تجارة، قد يفقدُ نصيبا من أعراضِ الدنيا يكونُ في ذلك توفيرُ لدينِه، وعصمةُ لعرضه، وحفظُ لإسلامِه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً.
ولذا فإن القلوبَ لابدَ أن تربى على التسليمِ لله، والتفويضِ إليه كما علمَ النبيُ (صلى اللهُ عليه وسلم) البراءَ في دعاءِ النوم الذي هو آخرِ ما يقولُ العبد: اللهم إني أسلمتُ نفسي إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك، وكما قال مؤمنُ آل فرعون: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّه.
علينا أن نربيَ أنفسَنا على إحسانِ الظنِ باللهِ جل جلالُه، قال الإمامُ أبنُ القيم رحمه الله: حسنُ الظنِ باللهِ يدعو إلى التوكلِ عليه، فإنكَ لا تتوكلُ إلا على من ترجوه، لابد أن يأويَ المؤمنُ من التفويضِ لله، وحسنُ الظنِ بالله، والثقةِ بالله، أن يأويَ من ذلك إلى رُكنٍ شديد.
علينا بعدَ ذلك أن نعيَ قضايا:
أولُها وأهمُها أننا عندما نرى الظلمَ يحدث:
فعلينا أن نتذكرَ أنه لا يحدثُ في غفلةٍ من الله، ولا في جهلٍ من الله، ولا في عجزٍ من الله، أنظر إلى نبيِ اللهِ يوسفَ عليه السلام يرسلُ إلى العزيزِ قائلا: فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، إن كيدَهُن لم يكن يحدثُ في غفلةٍ من الله، لقد كدنَ لي وربي عليمُ بكيدِهن، ولذا فإن المؤمنَ إذا رأى ظُلمَ الظالمين، ينبغي أن يتذكرَ أن هذا الظلمَ لا يحدثُ في غفلةٍ من الله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ.
ثانيا علينا أن ننظرَ إلى الهزائم:
لا على أنها الماحقةُ والقاصمة فتُورثُنا الإحباطَ، ولكن رب هزيمةٍ كانت بدايةَ الانتصار، ربا هزيمةٍ جاءت لتربي الأمةَ وتعدُها لتستقبلَ انتصارا يليقُ بها.(/3)
ولذلك نتذكرُ هذه الأيامُ وفي هذه المحنُ عشيات استقلالِ البلادِ الإسلامية، يومَ دفعَ المسلمونَ دماؤَهم في حربِ المستعمرين، فلما حٌررت تلكَ البلادِ بدماءِ المسلمينَ قفزَ إلى الحكمِ طغمةٌ من الشيوعيينَ والعلمانيينَ والخونَةِ والعملاء، وجثموا على كراسيَ الحكمِ إلى اليوم، لقد كان المشهدُ في ظاهرِه وأولِه يورثُ الحسرة ويورثُ الألمَ أن يقطفَ الثمرةَ غيرَ من جاهدوا.
ولكننا الآن نستشرفُ حكمةً للهِ في ذلك، نعم لقد كانت الشعوبُ عندما تحررت من الاستعمارِ شعوبا مهزومةَ الوجدان، تعيشُ غَشيةَ الانبهارِ بالحضارةِ الغربيةِ، لم تكن معدةً ولا لائقةً لتتحمل تبعاتِ الحكمِ بشريعةِ الله عز وجل، ربما قبلت الحكمَ بالشرعي قبولَ المجربِ لا قبولَ المتعبدِ للهِ بذلك، ولذا امتُحنت بهذه الحكوماتِ المتعاقبةِ التي حكمتَها بكلِ أنواعِ الحكمِ إلا الحكمِ بالشريعة.
حُكمت الشعوبَ الإسلاميةِ بكل أنواعِ الحكمِ إلا الحكمِ بالإسلام، فذاقت من ذلكَ مرارةٍ انعقدتَ في حلوقِها، وآلاما استقرت في قلوبِها لتعلمَ أن كلَ خيارٍ غير خيرَةِ اللهِ مفلسُ وخاسر، ولتطالبَ اليومَ بتحكيمِ شريعةِ الله، برغبةٍ أشد وإلحاحٍ أقوى.
ثم ننظرُ اليومَ إلى ما يحدثُن وإلى تفويتَ الفرصةَ على المطالبينَ بتحكيمِ الشريعة ليظل ممسكا بالحكمِ طُغمُ العسكرِ التي تتسلقُ إلى منصاتِ الحكمِ بالأحذيةِ الغليظة، تستهينُ بالإنسانِ، وبقيمتِه كإنسانٍ فظلا عن قيمتِه كمسلم لتقامَ معسكراتِ الاعتقالِ لتظمَ عشراتِ الآلاف، يؤخذُ أحدُهم هذه الأيامُ دون أن يستبدلَ ملابسَه، بل دون أن يأخذَ معَه الدواء الذي يستعملُه ولا يستسغنيَ عنه.
نرى ذلك فنتذكرُ حكمةَ الله، ونقولُ لعل في ذلك حكمة، لعلَ الشعوبَ تُصنعُ بهذه المحن ليزدادَ عطشُها وتعطُشُها إلى اختيارِ حُكمِ الله، والإلحاحِ في طلبِه والصبرِ على التضحياتِ في سبيلِه، لعل الأمةَ تربى بهذا لانتصارٍ يليقُ بها يذخرُه اللهُ جل جلالُه لها.
لابد من عطشٍ إلى تحكيمِ الشريعة، عطشُ يجعلُ الشعوبَ تختارُها خيارَ المتعبدِ للهِ بها، الذي يستهينُ كلَ ثمنٍ يقدمُ في سبيلِها، إن الأمةَ تُصنَعُ بهذه المحن، وتُربى بها لتتهيأ لطلبِ الحكمِ بشرعِ اللهِ عز وجل مهما كلفَ من تضحياتٍ، ومهما استلزمَ من تبعات، ومهما وِضعَ أمامَه من عقبات، لابد أن تعلمَ الأمةُ أن النصرَ ينبثقُ من الظلمةِ، ويأتي عند اشتدادِ الأزمة، وقد يتأخرُ لحكمةٍ يعلمُها الله.
إن الشعوبَ المعرضةَ عن الله لا يُنعمُ عليها بشرعِه إلا بعد ابتلاءٍ وتمحيص، قد يكونُ منهُ هذا الذي نعيشُه الآن، ولذا لم يؤيد النبيُ (صلى الله عليه وسلم) يؤمنُ برسالتِه ثم ينصرُها، ولك أؤيدَ (صلى الله عليه وسلم) بأتباعِه الذين تربوا معَه، وصنعوا معهُ الأحداثَ ابتغاء رضوانِ اللهِ عز وجل، وانبثقَ النصرُ للنبيِ (صلى الله عليه وسلم)، وانبثقَ النورُ من وسطِ الظلمة، إن اللهَ نظرَ إلى أهلِ الأرضِ فمقتَهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهلِ الكتابِ فأرسل حينئذٍ رسولَه.
إن علينا أيها الأحبابُ أن نستشعرَ ذلك، وأن نتذكرَ أن المحن التي نعايشُها في سنين ليست إلا ومضةً أو لمعةً في عمرِ الزمنِ الطويل، وأن نظرَنا وعلمَنا المحدودِ قاصرُ وكليلُ وكسيح، وأن هناك علما للهِ محيطاً شاملا هو فوقَ علمِنا وفوق إدراكِنا، وأن نتذكرَ ونحنُ نرى ونعايشُ ما نعايشُه اليومَ أن ربَنا جل جلالُه مطلعُ وعالمُ بما يحدث، وأن ما يجري لا يجري في غفلةٍ من الله ولا في عجزٍ من الله تبارك ربي وتقدس، وأن نتذكرَ ونحنُ نعايش ما نعايشُ اليومَ أن الله أغيرَ على دينِه منا، كما قال (صلى الله عليه وسلم): أتعجبونَ من غيرةِ سعد، لنا أغيرُ من سعد واللهُ أغيرُ مني.
علينا أن نتلقى ما نتلقاهُ اليومَ بحسنِ الظنِ باللهِ عز وجل، بالتفويضِ إليه، بالركونِ إليه، باستشعارِ عظمتِه، بالتسليمِ لحكمتِه جل جلالُه وتقدست أسمائُه. هذه المعاني الإيمانيةُ يجبُ أن تربى في النفوسِ، وتزرعَ في القلوبِ، وتتُعاهدَ في الخواطرِ والوجدان.
أيها الأحباب: أختم هذه الكلمةُ بكلماتِ نورانيةٍ انبثقت من المعاناةِ ومن الألم، قالها رجلُ يكتبُها بدمِه ويعصرُ معها دموعَه، ويسكبُ فيها آلامَه وآمالَه، أدعُكَ مع كلماتٍ للأستاذِ السيدِ القطبِ رحمَه اللهُ رحمةً واسعة يقول:
النصرُ قد يبطئُ على الذينَ ظُلموا وأخرجوا من ديارِهم بغيرِ حقٍ إلا أن يقولوا ربُنا الله، ولكن هذا لأبطئُ لحكمةٍ يريدُها الله:
قد يبطئُ النصرُ لأن الأمةَ لم تنضج بعدُ نُضجَها، ولم يتمُ بعدُ تمامَها، فلو نالت النصرُ حينئذٍ لفقدتهُ وشيكا لعدم قدرتِها على حمايتِه طويلا.
قد يبطئُ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ آخرَ ما في طوقِها من قوة، وأخرَ ما تملُكهُ من رصيد، فلا تستبقي عزيزا ولا غاليا إلا بذلتهُ هيناً رخيصا في سبيلِ الله.(/4)
قد يبطئُ النصر حتى تتجردَ الأمةُ وتجربَ آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى واحدَها بدونِ سندٍ من اللهِ لا تكفلُ النصر.
قد يبطئُ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنةُ صلتَها بالله وهي تعاني وهي تتألم وهي تبذل فلا تجدُ لها سندا إلا الله، وهذه الصلةُ حينئذٍ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتِها على النهج فلا تطغى ولا تنحرفُ عن الحقِ والعدلِ إذا انتصرت.
قد يبطئُ النصرُ لأن الأمةَ المؤمنةُ لم تتجرد بعدُ في كفاحِها وبذلِها وتضحياتِها للهِ ولدعوتِه، فهي قد تقاتلُ لمغنمِ، وقد تقاتلُ لحميةٍ، واللهُ جل وعلا يريدُ أن يكونَ الجهادُ له وحدَه وفي سبيلِه وحدَه.
قد يبطئُ النصر لأن في الشرِ الذي تكافحُه الأمةُ بقيةُ في نفوسِ الناس، فيريدُ اللهُ جل جلالُه أن يجردَ الشرَ منها ليتمحض خالصا، ويذهبَ بعد ذلكَ وحدَه هالكا.
قد يبطئُ النصرُ لأن الباطلَ الذي تحاربُه الأمةُ المؤمنةُ لم ينكشفَ زيفُه للناسِ تماما، فلو غلبَه المؤمنون حينئذٍ قد يجدُ له أنصارا، وقد يجدُ من يأسفُ عليه من المخدوعين.
قد يبطئُ النصرُ لأن الأمةَ لا تصلحُ لاستقبال الحقِ والخيرِ والعدلِ الذي تمثلُه فيظلُ الصراعُ قائما حتى تتهيأُ النفوسُ من حولِه لاستقبالِ الحقِ الظافرِ ولاستبقائِه.
من أجل هذا كلِه ومن أجلِ غيرِه مما يعلمُه اللهُ ولا نعلمُه.
قد يبطئُ النصرُ فتتضاعفُ التضحيات، وتتضاعفُ الآلام مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وتحقيقِ النصرِ لهم في النهاية. انتهى كلامُه رحمه الله.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
................
الحمد لله على إحسان والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله لا الله تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسول الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعدُ أيها الناسُ إني داعِ فأمنوا:
اللهم إنا نسألكَ بأسمائكَ الحسنى، وصفاتِك العلى، نسألكَ بكلِ أسمٍ هو لك، أنزلتَه في كتابِك، أو علمتَه أحدا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، نسأل:َ فخواننا وأهلِنا في جزائرِ الإسلام أن تكونَ لهم نصيراً فأنت نعمَ النصير، وأن تكونَ لهم عونا فتكشفَ عنهم كلَ غُمةٍ، وتدفعَ عنهم كلَ فتنةٍ، وأن تربطَ على قلوبِهم، وأن تؤلفَ بينَهم، وأن تنزلَ السكينةَ عليهم.
اللهم إنا نسألكَ لأهلنِا في جزائرِ الإسلام أن تجعل عاقبةَ أمرِهم عزَ الإسلامِ وظهورَ المسلمين والحكمَ بما أنزلتَه في كتابِك وأرسلتَ به رسولَك حتى لا يحكمَ إلا بشرعِك، ولا يتحاكمَ إلا بدينِك.
اللهم إنا نسألُكَ لكلِ من ظلمَ في الجزائرِ أن تجعل عاقبةَ أمرهِ نصرا مبينا، وعزا قريبا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسأُلكَ لهم نصرَك وعونَك وتأييدَك.
اللهم اربط على قلوبِهم، اللهم أنزلِ السكينةَ عليهم، اللهم أحقن دماؤَهم.
اللهم لا تجعلهم فتنةً للقومِ الظالمين يا رب العالمين.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم أجعل عاقبةَ الأمر في بلادِهم نصرا يحكمُ به دينُك، ويحّكمُ به شرعُك، ويتحاكمُ به إلى كتابِك.
اللهم أجعل تلك العقبى في كلِ بلادِ المسلمين.
يا خيرَ من سئُل، يا خيرَ من دُعي، يا من به المستعان، وعليه التكلان.
ربنا آمنا بك وتوكلَنا عليك ودعوناك فأستجب لنا كما وعدتَنا.
وصلى اللم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
..........................................
واحات الهداية ...(/5)
داعية فاشل.. لماذا؟!
هذه كلمات لكل من يصدع بالدعوة إلى الله، ثم يقلب ذات يوم كفيه، وينظر في أمره بعد سنين من الدعوة- كما يظن- فلا هو غير شيئاً فيمن حوله، ولا أضاف شيئاً، ولا أنقص شيئا، بينما يحالف التوفيق غيره خلال مدة قليلة، فترى الناس التفت حوله، واجتمعت عليه، وسمعت كلامه، فسبحان الذي مَنَ على أفضل خلقه بمحبة الناس له، وتوددهم إليه.
الدعوة إلى الله _سبحانه وتعالى_ تُبتلى من حين لآخر بمن يفرضون أنفسهم عليها دون أن يكونوا أهلاً لدعوة ولا لصحبة ولا حتى لكلمة واحدة تقال في مجال الوعظ بين الناس.
والله _سبحانه وتعالى_ لا يوفق لهذه الدعوة من لم يحكموا بينهم وبين غيرهم بالإنصاف، أما الذين يرفعون أو يميزون أنفسهم قليلاً عن الناس، فهؤلاء مرفوضون لا شك وإن اغتر بهم الناس لمدة ما، فهذه هي الدعوة الوحيدة التي لا تقبل في صفوفها إلا من جعل من نفسه سهلاً منبسطاً للناس، وقبل منهم الطبائع المختلفة، وسعى في خدمتهم والسؤال عنهم دون أن يرى بذلك أي فضل لنفسه، ودون أن يطلب منهم أي جزاء مادي أو معنوي.
الدعوة إلى الله سر؟؟
نعم الدعوة إلى الله سر، لكنه سر غير خفي، على أنه رغم وضوحه لا يُوفَّقُ إليه غير القليلين القليلين، ممن توافرت فيهم صفات كثيرة، وهذه بعض أسرارها الخفية الظاهرة:
من جميل هذه الدعوة أنها تعطي صاحبها طالما تعفف، فإذا تطلع إلى شيء من الكسب أو التكسب منها، نفرت منه الدعوة ونفر منه المدعوون.
وأنها ترفعه طالما تواضع للناس، فإذا رأى لنفسه شيئاً من الفضل، نبذته الدعوة وتخلصت منه قبل المدعوين..
وأنها تجعل الناس في خدمته طالما كان خادماً للناس، فإذا طلب من الناس خدمته نفروا منه وتركوه ونسوا كلامه..
وأنها تجعله مطاعاً مسموع الكلام طالما كان مطبقاً لما يدعو إليه، فإذا تحول إلى مُنظِر لا يفعل ما يقول، ولا يلتزم بما يدعو إليه، فلا سمع ولا طاعة بل لا ود ولا محبة..
وأنها تجعل كلامه محبوباً طالما تجنب التشدق والتعجرف والكلام عن نفسه، فإذا طلب تنميق الكلام وزخرف القول، صار واحداً من خطباء الكلام يخاطب الأسماع، لكن كلماته لا تصل إلى القلوب...
الأخ الداعية..الأخ الخطيب أو الواعظ.... اسمع كلمات تخرج من قلبٍ مشفق محب، لم يجمعه بك غير الحب لهذه الدعوة، وحب الخير للناس:
هذه الدعوة مدرسة عظيمة.....
لا يوفق إلى دخولها إلا المخلصون،
ولا يستمر فيها إلا الأشد إخلاصاً،
ولا يتخرج منها إلا من لا يرون لأنفسهم أي فضل،
ولا يتميز من خريجيها إلا من يرون الفضل لكل أحد من الناس إلا لأنفسهم..
إذا فتشت نفسك بعد طول وعظ وإرشاد فما وجدت لنفسك مكاناً في قلوب الناس، وما وجدت لكلامك صدى في أفعالهم وأقوالهم، فجدير بك أن تقف مع نفسك وقفة صدق تسأل فيها عن السبب أو عن الأسباب..
كيف تفهم من أنت في قلوب الناس؟؟
إن من جميل الأمور أن العامة لا يخفون مشاعرهم، أو لا يمكنهم إخفاؤها، فإن كان فيهم مدارٍ واحد ففيهم الكثيرون من المفطورين على الإفصاح بمكنونات أنفسهم دون مواربة، وهذا قد يكون جارحاً في بعض الأحيان، لكنه من أصدق المعايير وأوضحها..
هناك موهبة جميل بالداعية إلى الله أن يمتلكها، وهي قراءة القلوب، وقراءة القلوب تعني فهم ما يشعر به الناس نحو هذا الداعية، هل يحبونه أم يبغضونه أم لا يبالون به؟ وبما أن القلوب لا يعلم أمرها إلا الله، فعليه أن يقرأها من خلال علامات الوجوه وزلات الألسنة، فهذه من الصعب إخفاؤها.
فإذا رأيت من العامة الحب لك والتعلق بكلامك، ومحاولة تطبيقه فاعلم أنك في فضل من الله، فاسع إلى المزيد منه، بالإخلاص التام في القول والعمل.
أما إذا رأيت منهم الجفاء عنك والإعراض عن كلامك ففتش: من أنت؟ وما تقول؟ وما تفعل؟
نعم من أنت؟؟ هل أنت حقاً داعية إلى الله بحق أم أنك تجرب أن تضيف إلى نفسك موهبة الخطابة بين الناس؟؟
وما تقول؟؟ هل كلامك كلام من داعية إلى الله أم أنه كلام أديب أو فصيح أو متشدق لا علاقة له بالدعوة و الدعاة؟؟
وما تفعل؟؟ هل أفعالُك تسبق أقوالك، أم أنك لا تجعل صلة بين هذه وتلك؟؟
بعد هذا هناك أمور جدير بالداعية الإنتباه لها تخص الخطبة نفسها منها:
إياك أن تجعل من نفسك موضوع الحديث!!!!
بعض الكلمات قد لا تكون مدحاً مباشراً للنفس، لكنها تفصح عن اعتداد كبير بها، وهي مزعجة للسامع، منفرة من الخطيب ومنها، على سبيل المثال: أنا أعلم أن بعضكم يفعل كذا، بلغني أن أحد الناس قال عني كذا، رأيي أن، أنا أقصد كذا، أنا لا أخاف أحداً في الله، وغيرها كثير كثير..
التعريض بالناس ممنوع:
بعض الخطباء يعرضون بالناس أو ببعضهم بعد حوادث معينة، ويظنون أنهم ببعض المواراة لن يعرف أحد من يقصدون، فيتكلمون بكلام جارح فاضح، ويظنون أنهم يحسنون صنعاً، وهكذا يتناقص المستمعون حسب الظروف؛ لأن الخطيب المفوه، لا يترك فرصة للتعريض بالناس والتنديد بأخطائهم..
لا تتكلم في الهلاميات والفلسفات والكلام غير المفهوم:(/1)
وهذه مسألة صار لبعض الناس شغف بها، فهم مولعون بالتفصح الذي يصل إلى الكلام غير المفهوم، وبعضهم يلجأ إلى كتب الأدب ليحفظ منها العبارات الغريبة العجيبة، ليظهر للناس أنه قادر على الإتيان بكلام لا يستطيعون فهمه، وحبذا لو نظر هؤلاء إلى النبي _عليه الصلاة والسلام_ فقد أوتي جوامع الكلام، ومع هذا فكلامه يفهمه البدوي والحضري، والمتعلم والأمي، والشاب والعجوز.
لا تكلف الناس بما لا يطيقون:
لا ينبغي للخطيب أن يكون مثالياً إلى درجة السذاجة، فيطالب الناس أن يكونوا ملائكة لا يخطؤون ولا يزلون، بل إن من الحكمة والواقعية توقع الأخطاء والزلات، والتعامل معها بسمو وبعد نظر، وتوصيف العلاج لها من بعد النظر العميق في حال صاحبها، فقد كان الرجال يأتون إلى النبي _عليه الصلاة والسلام_ فيسألونه عن الأمر الواحد فيجيب كل واحد منهم بما يناسب حاله وفهمه وعقله.
ليست العبرة بطول الخطب ولا بكثرة الكلام لكن في تأثيره:
بعض الناس يظنون أنهم بخطبة في مسجد أو درس عام، يؤدون واجبهم، وأنهم قد فعلوا الشيء الكثير الذي يستحقون عليه الحمد والشكر، ويسمون أنفسهم بهذا دعاة إلى الله، لكن من الجدير بهؤلاء أن ينظروا إلى ما تركوه وراءهم، بكلام آخر هل تغير شيء في السامعين، أم أنهم يسمعون الخطيب لعدم وجود غيره، هل لو ترك مكانه ورحل إلى مكان آخر فلن يترك وراءه من يذكره بالخير ويدعو له؟؟
المهمة لا تنتهي بالانتهاء من الخطبة أو الدرس:
من الخطأ أن يسرع الخطيب أو المحاضر بالمغادرة بعد كلامه، فالناس لديهم أحوال وحاجات وشكاوى وهموم واستفسارات، وهم معتادون أن يبوحوا بها لمن يرون من أهل الصلاح والخير، لذلك يجدر بالخطيب أن يبقى بعد الصلاة ليسلم على الناس ويسمع منهم، فهو بهذا يتيقن من تأثير كلامه، ويسمع تعليقاتهم واستفساراتهم، ويعيش همومهم وقضاياهم، بدل التحليق في فضاء النظريات والكتب التي يقرؤها.
لا تحرم من كلمة طيبة ومن بسمة صادقة:
الكلام الطيب والبسمة الصادقة مفتاح تملك به القلوب، فمن كان عديم البضاعة منهما ليس له حظ في حب الناس أو التأثير فيهم، الناس قد يسمعون من أي خطيب، وقد يتأثرون بكلامه نوعاً ما احتراماً لأمر الله، لكن الله_ سبحانه_ يجعل في قلوب الناس حب المرء المبتسم الوجه، الطيب الكلام، السهل في غير ذلة، والألوف في غير تزلف، وهذه مواصفات يجعلها الله فيمن يشاء من عباده، ليكونوا دعاة إلى الله وشهداء على الناس.
احترم المكان الذي تتكلم فيه:
الذي يعتلي المنبر يجب أن يفهم أن الأمر تكليف لا تشريف، وأن هذا المنبر هو منبر النبي _عليه الصلاة السلام_ فلا يحق له إهانته أو الحط من شأنه، فعليه أن يصبر على أذى الناس، وعليه تحمل شكاويهم، وعليه السعي بينهم بالخير، والصلح بين المتخاصمين منهم، والمباركة للمحتفل، والتعزية للحزين، وعليه أن يفهم أنه مثل الطبيب تماماً، فلا يحق له أن يغلق بابه دون الناس، أو أن يقفل الهاتف، أو أن يجيب بجفاف على متصل أو مستفسر.
أما إن كان مبتلى بخلق ضيق، وقلة صبر على العامة، وتسرع في الكلام، وحدة في الطباع، فعليه أن يجاهد نفسه حتى يتعلم اللين للناس، والتواضع لهم، والصبر على مسائلهم، فإن نجح في الأمر فذلك فضل من الله، وإلا فخير له أن يتركه؛ لأنه سيصبح فتنة للناس لا هادياً لهم.
ومن المفيد إيراد ما ذكره البعض في تفسير قوله _تعالى_ من سورة الغاشية: "أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية:17- 22). قال: عليك أن تكون بصبر الجِمال، ورفعة السماء، وثبات الجبال، وسهولة الأرض وانبساطها، ثم بعد امتلاك هذه الميزات أن تصدع بالدعوة، مع هذا فلن تكون مسيطراً عليهم، فإنما أنت مجرد مذكر، أما الهداية فهي هدية الله لمن شاء من عباده.
لك الأجر في الدنيا قبل الآخرة:
في الختام، الخطيب والداعية المخلص ينتظر الأجر من الله، على أنه ينال من حب الناس ودعائهم ورفعهم من مكانته وتقديمهم له، ما يجعله في خير كثير، وقد قال ابن القيم _رحمة الله عليه_:" طوبى لمن بات وألسن الناس تدعو له، والويل لمن بات وألسن الناس تلعنه".
وحب الناس للمرء ودعاؤهم له من عاجل بشرى المؤمن، فنسأل الله أن يعجل لنا البشرى في الدنيا قبل الآخرة.
شادي الأيوبي
المصدر : موقع المسلم(/2)
درء المفسدة مقدم علي جلب المصلحة
إعداد : متولى البراجيلي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذه القاعدة أصل عظيم من أصول الشريعة الإسلامية القائمة على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.
فمعنى القاعدة: أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة قدم دفع المفسدة غالبًا، لأن اعتناء الشرع بترك المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".
أولاً: شواهد القاعدة من القرآن:
شواهد القاعدة من القرآن كثيرة وتفوق الحصر، منها:
- قوله تعالى في الخمر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما {البقرة: 219}.
أما إثمها فهو في الدِّين، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:
ونشربها فتتركنا ملوكًا
وأُسْدًا لا ينهنهها(1) اللقاء
وكذا بيعها والانتفاع بثمها. (تفسير ابن كثير).
لكن هذه المنافع ليست شيئًا أمام مفاسدها من ذهاب عقل وغفلة وأكل لأموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك، فهذا يقدم على المصلحة المظنونة التي ترونها، وهذا كان في أول أمر تدرج تحريم الخمر.
وقوله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون {البقرة: 216}.
فقد يحب المرء شيئًا لمصلحة، ولكن قد تكون وراءها مفسدة أشدّ منها وهو لا يعلم.
- وقوله تعالى: وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، فقد أمر الله تعالى في أكثر من آية بطاعة الوالدين، لكن مفسدة الشرك بالله أكبر من مصلحة طاعة الوالدين.
وقوله تعالى: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فمفسدة الأذى من الكافرين قدمت على مصلحة إتمام الصلاة.
ثانيًا: شواهد القاعدة من السنة:
أخرج البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم. {صحيح البخاري: 1586}.
قال الحافظ ابن حجر: لأن قريشًا كانت تعظم الكعبة جدًا، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة. {فتح الباري}.
فترك النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام دفعًا لمفسدة راجحة.
والحديث أخرجه غير البخاري بروايات أخرى، فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام، لأن قريشًا لما أعادت بناء الكعبة اشترطوا أن لا يضعوا فيها إلا نفقة طيبة، لا يدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، فقصرت بهم النفقة، فتركوا بعض البيت في الحجر، وجعلوا لها بابًا واحدًا مرتفعًا حتى يدخلوا من يشاؤون ويمنعوا من يشاؤون.
وهذا الحديث هو الذي دفع ابن الزبير رضي الله عنهما لما احترقت الكعبة وأراد إعادة بنائها أدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين كما كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الحجَّاج بعد ذلك هدمها مرة ثانية وأعادها إلى سابق عهدها.
يقول الحافظ ابن حجر: وفي الحديث فوائد منها: ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، والمراد بالاختيار المستحب.
وفيه: اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب.
وفيه: تقديم الأهم فالمهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة.
وفيه: حديث الرجل مع أهله في الأمور العامة (يقصد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة)، وفيه: حرص الصحابة على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم . {فتح الباري}
وقال الإمام النووي: وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها:
إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة، وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيمًا.
{صحيح مسلم بشرح النووي}
فائدة: في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لولا أن قومك حديثُ عهد بجاهلية" بإفراد حديث وهي صفة قوم، والقوم جمع.(/1)
قال السيوطي في حاشية النسائي: ويمكن أن يوجه بأن لفظ القوم مفرد لفظًا وجمع معنى، فروعي إفراد اللفظ في جانب الخبر، كما روعي اللفظ في إرجاع الضمير في قوله تعالى: كلتا الجنتين آتت حيث أفرد آتت. {تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي}
قال النووي: قال العلماء: بني البيت خمس مرات، بنته الملائكة، ثم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم قريش في الجاهلية، وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء وله خمس وثلاثون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة، وفيه سقط على الأرض حين رفع إزاره، ثم بناه الزبير، ثم الحجاج بن يوسف، واستمر إلى الآن (عصر النووي) على بناء الحجاج، وقيل بني مرتين أخريين أو ثلاثًا.
قال العلماء: ولا يغير عن هذا البناء، وقد ذكروا أن هارون الرشيد سأل مالك بن أنس عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث المذكورة في الباب.
فقال مالك: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت لعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. {تحفة الأحوذي}
وقد استخدم الإمام مالك قاعدة: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وهي ذات القاعدة المستنبطة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة وإعادة بنائها، فأفتى هارون الرشيد بأن ترك مصلحة هدم الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يؤخر عن مفسدة ذهاب هيبة الكعبة من قلوب المسلمين.
- وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صَلَّوْا. {أخرجه مسلم وغيره}
قال ابن القيم: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله تعالى يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. {إعلام الموقعين}
فمفسدة الفتنة التي تتأتى من الخروج على الحكام تقدم على مصلحة تغيير الحاكم بحاكم طائع لله ورسوله.
- وعن بُسر بن أرطاة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزو". {أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، ورواية النسائي: في السفر بدلاً من الغزو، وقوَّى إسناده الحافظ في الإصابة، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود والنسائي والترمذي}
فمصلحة تطبيق حدود الله التي أمر بها، أُخِّرَت عن مفسدة لحوق صاحب الحد بالمشركين حمية وغضبًا.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارت القبور. {أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم}
*فوائد:
1- هذا الحديث اختلف أهل العلم فيه بين تحسينه وضعفيه، فمنهم من ضعفه بطرقه كلها، ومنهم من حسنه، ومال الشيخ الألباني إلى تحسينه في كتاب أحكام الجنائز.
2- زيارة النساء للمقابر، اختلف فيها أهل العلم على أقوال ثلاثة:
القول الأول: الجواز.
القول الثاني: الكراهة، وهؤلاء حاولوا التوفيق بين أدلة القائلين بالجواز والقائلين بالمنع.
القول الثالث: المنع. ولعل أرجح الأقوال- إن شاء الله- القول بالجواز، لأن أدلة القائلين بالمنع ضعيفة ولا تخلو من مقال.
3- على تقدير صحة الحديث، فإن لفظة "زوارت" إنما يدل على لعن النساء اللاتي يكثرن الزيارة، بخلاف غيرهن فلا يشملهن اللعن، فلا يجوز حينئذٍ أن يعارض بهذا الحديث الأحاديث الدالة على استحباب الزيارة للنساء.
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج، وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك، وقد يقال: إذا أُمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن، لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.
وإلى هذا الجمع أيضًا ذهب الصنعاني في سبل السلام. {أحكام الجنائز للألباني، فتح الباري، الآداب الشرعية للنساء في زيارة المقابر: لعمرو عبد المنعم}
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن الإكثار من زيارة القبور رغم ما فيها من مصلحة ظاهرة، كترقيق القلوب والتذكير بالآخرة.(/2)
يقول ابن القيم: أما النساء فإن هذه المصلحة (زيارة القبور) وإن كانت مطلوبة منهن، لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام، من فتنة الأحياء، وإيذاء الأموات، والفساد الذي لا سبيل إلى منعه إلا بمنعهن، أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل لهن بالزيارة، والشريعة مبناها على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء به، فمنعهن من الزيارة من محاسن الشريعة. {تهذيب السنن نقلاً عن قواعد إعلام الموقعين، مع الأخذ في الاعتبار أن ابن القيم ممن يقولون بمنع النساء من زيارة المقابر، وقد ذكرنا أن الراجح هو الجواز، والله أعلم.
ثالثًا: من فروع القاعدة وتطبيقاتها في المعاملات:
منها: يمنع الشخص من التصرف في ملكه إذا كان تصرفه يضر بجاره ضررًا فاحشًا، لأن درء المفاسد عن جاره أولى من جلب المنافع لنفسه.
ومنها: الحجر على السفيه.
ومنها: ليس للإنسان أن يفتح كوة تشرف على مقر نساء جاره، بل يكلف أن يتخذ فيها ما يقطع النظر.
ومنها: كذلك ليس له أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره ضررًا فاحشًا بينًا كاتخاذه بجانب دار جاره طاحونًا مثلاً يوهن البناء أو كنيفًا(2) أو بالوعة تضر بجدار دار جاره.
ومنها: اتخاذ الشخص في داره فرنًا يمنع جاره من السكنى في داره بسبب الرائحة والدهان. {الوجيز في شرح القواعد الفقهية د. عبد الكريم زيدان}
وإذا كان الضرر لا يزول إلا برفعه بالمرة فإنه يرفع (المادة 1212 من مجلة الأحكام العدلية)، وإن كان لمحدثه منفعة في إبقائه لأن درء المفاسد أولى من جلب المنافع.
وجواز الكذب بين المتعادين للإصلاح (هذا ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الكذب الثلاثة الجائزة، وهي: الكذب في الحرب، وكذب الرجل على امرأته، طلبًا لحسن معاشرتها، والكذب بين المتخاصمين للإصلاح)، {شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا}
رابعًا: نظائر للقاعدة:
1- تحصيل أعلى المصلحتين وإن فاتت أدناهما:
يقول ابن القيم: إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض، قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبًا للشارع.
{مفتاح دار السعادة عن القواعد الفقهية لإعلام الموقعين}
ومما يشهد لذلك ويقويه ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". {متفق عليه}
فقد دل الحديث على أن المصالح التي أتى بها هذا الدين، متفاوتة في العلو والرتبة، فإذا كان أعلاها متمثلاً في شهادة التوحيد، وأدناها متمثلاً في إماطة الأذى عن الطريق، فإن ما بين هذين الطرفين من المصالح متدرج في العلو والنزول بينهما حسب مدى القرب والبعد إلى كل منهما.
ومن فروع ذلك: إن تمليك مصلحة الرجال الطلاق أعلى وأكبر من مصلحة سدِّه عليهم.
ومنها: أن السَّمر بعد العشاء ذريعة إلى تفويت قيام الليل، فإن عارضه مصلحة راجحة كالسَّمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره.
ومنها: تأخير الحدّ لمصلحة راجحة، إمَّا من حاجة المسلمين إلى المحدود، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض، فهذا لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى.
{إعلام الموقعين، عن القواعد الفقهية المستخرجة منه}
2- دفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما:
يقول ابن القيم في الإعلام: إن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه، بقَّاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به.
ومن شواهد ذلك في الكتاب، قوله تعالى: والفتنة أكبر من القتل {البقرة: 217}.
فقدم الكفر على قتل النفس.
وقوله تعالى- حكاية عن الخضر مع موسى عليهما السلام في السفينة التي خرقها الخضر: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر {الكهف: 79}.
فدفع المفسدة الأكبر وهي غصب الملك السفن بمفسدة أخف وهي خرق السفينة، وكذلك دفع المفسدة الأكبر ، وهي إرهاق الوالدين طغيانًا وكفرًا بمفسدة أقل وهي قتل الولد.
والنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية صالح المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه. {فتاوى ابن تيمية- زاد المعاد- القواعد المستخرجة}.
- ومن ذلك إنكار المنكر على مرتكبه، فإن الإنكار يحتاج إلى فقه وإلى علم، حتى لا يُزال ضرر أصغر بضرر أكبر، فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول المنكر ويخلفه ضده من معروف.
الثانية: أن يقل المنكر وإن لم يزل بالكلية.
الثالثة: أن يخلف المنكر ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلف المنكر ما هو شرٌّ منه.(/3)
فالدرجتان الأولى والثانية مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة يقول ابن القيم في الإعلام: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشَّاب، وسباق الخيل ونحو ذلك.
ومن أمثلة ذلك: رجل به جرح، ولو سجد سال جرحه (دمه)، وإن لم يسجد لم يسل، فإنه يصلي قاعدًا ويومئ بالركوع ولا يسجد، لأن ترك السجود أهون من الصلاة مع الحدث، ألا ترى أن ترك السجود جائز حال الاختيار في التطوع على الدابة، ومع الحدث لا يجوز بحال.
ومنها: لو اضطر وعنده ميتة ومال الغير، يأكل الميتة.
ومنها: لو أن امرأة صلت قائمة ينكشف من عورتها ما يمنع جواز الصلاة، ولو صلت قاعدة لا ينكشف منها شيء، فإنها تصلي قاعدة، لأن ترك القيام أهون فهو يجوز في حالة الاختيار في النفل، لكن كشف العورة لا يجوز بحال.
ومنها: تجويز أخذ الأجرة على ما دعت إليه الضرورة من الطاعات كالأذان والإقامة وتعليم القرآن والفقه.
ومنها: تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم من ضرر المنكر.
ومنها: جواز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شر أعظم.
ومنها: جواز شق بطن الميتة لإخراج الولد إذا كان ترجى حياته.
ومنها: قتل من لا ذنب له من المسلمين إذا تترس بهم الكفار ( جعلوهم ساترًا لهم) وخيف من ذلك اصطلام المسلمين جاز قتلهم، لأن قتل عشرة من المسلمين أقل مفسدة من جميع المسلمين.
ومنها: إذا اختبأ عنده معصوم فرارًا من ظالم يريد قتله ظلمًا، فإذا سأله الظالم عنه ونفى وجوده عنده أو علمه بمكانه جاز له الكذب ولو فيه مفسدة، بل يجب عليه الكذب لأن مفسدة قتل برئ أعظم من مفسدة الكذب في هذا المقام. {قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام}
3- يختار أهون الشرين: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس الفقيه هو من عرف الخير من الشر، إنما الفقيه هو الذي يختار خير الخيرين وشر الشرين.
فمن ابتلي ببليتين وهما متساويتان يأخذ بأيتهما شاء، وإن اختلفتا يختار أهونهما. مثال لتساوى الشرين: لو حدث حريق في سفينه وعلم أنه لو صمد فيها يحترق ولو وقع في الماء يغرق، فعند أبي حنيفة يختار أيهما شاء.
ومثال اختلافهما : لو أحاط الكفار بالمسلمين ولم يقدروا على دفعهم، جاز دفع المال إليهم ليتركوهم، وكذا استنقاذ الأسرى من المسلمين بالمال إذا لم يمكن بغيره؛ لأن دفع المال أهون الضررين. والله تعالى أعلى وأعلم.
الهوامش:
(1) ينهنهها: يكفَّها.
(2) كنيف: حمَّام.(/4)
دراسات في الباقيات الصالحات
د عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ...
المقدّمة
أحمد الله بمحامده التي هو لها أهلٌ، وأُثني عليه الخير كلَّه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأصلِّي وأسلّم على خاتم رسله وأنبيائه، وإمام أوليائه وأصفيائه، نبيّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على جميع المسلمين ما للكلمات الأربع: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر)) من مكانة في الدّين عظيمة، ومنزلة في الإسلام رفيعة، فهُنَّ أفضل الكلمات وأجلهنَّ، وهنَّ من القرآن، وهنَّ أطيب الكلام وأحبّه إلى الله، وأحبُّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلِّ ما طلعت عليه الشمس، وفيهنَّ رفعٌ للدرجات وتكفيرٌ للذنوب والسيّئات، وجُنَّة لقائلهنَّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنَّ ومقدّمات له، إلى غير ذلك من صنوف الفضائل وأنواع المناقب، ممّا يدلُّ على عظيم شرف هؤلاء الكلمات عند الله وعلوِّ منزلتهنَّ عنده، وكثرة ما يترتَّب عليهنَّ من خيرات متواصلة وفضائل متوالية في الدنيا والآخرة، لذا رأيت أنَّ من المفيد لي ولإخواني المسلمين أن أجمع في بحث مختصر بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل لهؤلاء الكلمات الأربع مع بيان دلالاتهنَّ ومقتضياتهنَّ، وقد جعلت ذلك كلَّه في مقدّمة - وهي هذه - وخمسة مباحث وخاتمة كما يلي:
المبحث الأول: في ذكر النصوص الدالة على فضل هؤلاء الكلمات الأربع.
المبحث الثاني: لا إله إلاَّ الله، فضلها ومعناها وشروطها ونواقضها، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضائل كلمة لا إله إلاَّ الله.
المطلب الثاني: مدلول ومعنى لا إله إلاَّ الله.
المطلب الثالث: شروط لا إله إلاّ الله.
المطلب الرابع: نواقض شهادة أن لا إله إلاّ الله.
المبحث الثالث: في التسبيح فضله ومكانته ومدلوله، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضل التسبيح.
المطلب الثاني: تسبيحُ جميع الكائنات لله.
المطلب الثالث: معنى التسبيح.
المبحث الرابع: في الحمد، فضله وأنواعه ودلالته، وفيه عدّة مطالب:
المطلب الأول: فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه.
المطلب الثاني: المواطن التي يتأكّد فيها الحمد.
المطلب الثالث: في بيان موجبات الحمد وأنواعه.
المطلب الرابع: أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها.
المطلب الخامس: تعريفُ الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر.
المبحث الخامس: في التكبير فضله ومعناه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فضل التكبير ومكانته من الدِّين.
المطلب الثاني: في معنى التكبير وبيان مدلوله.
الخاتمة: في بيان التلازم بين هؤلاء الكلمات الأربع.
وسمَّيته ((دراسات في الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر))؛ لأنَّ هؤلاء الكلمات الأربع هنَّ أفضل الباقيات الصالحات، واعتمدتُ في أغلب الأحاديث على أحكام العلاَّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني يرحمه الله.
وإنِّي أرجو الله أن يكون في ذلك النفع لي وللمسلمين، إنَّه وليُّ التوفيق والسداد.
المبحث الأول: النصوص الدّالة على فضل هؤلاء الكلمات الأربع
لقد ورد في فضل هؤلاء الكلمات الأربع نصوصٌ كثيرةٌ تدل دلالةً قويةً على عظم شأنهنَّ وجلالة قدرهنَّ، وما يترتّب على القيام بهنَّ من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ، وخيراتٍ متواليةٍ في الدنيا والآخرة، وفيما يلي عرضٌ لجملة من فضائل هؤلاء الكلمات:
أولاً: فمِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ أحب الكلام إلى الله، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحبُّ الكلام إلى الله - تعالى - أربع، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[1]، ورواه الطيالسي في مسنده بلفظ: "أربع هنَّ من أطيب الكلام، وهنّ من القرآن، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[2].
ثانياً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنَّ أحبُّ إليه مِمَّا طلعت عليه الشمس (أي: من الدنيا وما فيها)، لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبُّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس"[3].(/1)
ثالثاً: ومن فضائلهنَّ: ما ثبت في مسند الإمام أحمد، وشعب الإيمان للبيهقي بإسناد جيّد عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: "إنِّي قد كبرتُ وضعُفت - أو كما قالت - فمُرني بعمل أعمله وأنا جالسة. قال: "سبّحي اللهَ مائة تسبيحة، فإنَّها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لكِ مائة فرس مُسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكَبِّري اللهَ مائة تكبيرة فإنَّها تعدل لك مائة بدَنة مُقلّدة متقبّلَة، وهلِّلي مائة تهليلة - قال ابن خلف (الراوي عن عاصم) أحسبه قال -: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيتِ به"[4]. قال المنذري: رواه أحمد بإسناد حسن[5]. وحسّن إسناده العلامة الألباني حفظه الله[6].
وتأمَّل هذا الثواب العظيم المترتِّب على هؤلاء الكلمات، فمن سبّح اللهَ مائة، أي قال: سبحان الله مائة مرّة فإنَّها تعدل عِتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، وخصَّ بني إسماعيل بالذِّكر لأنَّهم أشرفُ العرب نَسباً، ومن حَمِد الله مائة، أي من قال: الحمد لله مائة مرّة كان له من الثواب مثل ثواب من تصدّق بمائة فرس مسرجةٍ ملجمةٍ، أي: عليها سرجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله، ومن كبّر اللهَ مائة مرّة، أي قال: الله أكبر مائة مرّة كان له من الثواب مثلُ ثواب إنفاق مائة بدنةٍ مقلّدةٍ متقبّلةٍ، ومن هلّل مائة، أي قال: لا إله إلا الله مائة مرة فإنَّها تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتى به.
رابعاً: ومِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ مكفِّرات للذنوب، فقد ثبت في المسند، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض رجل يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كُفِّرت عنه ذنوبُه ولو كانت أكثر من زَبَد البحر"، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقرَّه الذهبي، وحسّنه الألباني[7].
والمراد بالذنوب المكفَّرة هنا أي: الصغائر، لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر"[8]، فقيّد التكفير باجتناب الكبائر؛ لأنَّ الكبيرة لا يُكفِّرها إلا التوبة.
وفي هذا المعنى ما رواه الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لَتُساقط من ذنوب العبد كما تَساقط ورق هذه الشجرة"، وحسّنه الألباني[9].
خامساً: ومِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ غرس الجنة، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلامَ، وأخبِرهم أنَّ الجنةَ طيِّبةُ التربة، عذبةُ الماء، وأنَّها قيعان، غِراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[10]، وفي إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق، لكن للحديث شاهدان يتقوى بهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، ومن حديث عبد الله بن عمر.
والقيعان جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه ماء السماء، فيمسكه ويستوي نباته، كذا في النهاية لابن الأثير[11]، والمقصود أنَّ الجنة ينمو غراسها سريعاً بهذه الكلمات كما ينمو غراس القيعان من الأرض ونبتها.
سادساً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده: روى الإمام أحمد، والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن عن عبد الله بن شداد: أنَّ نفرًا من بني عُذْرَة ثلاثةً أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يكفينيهم" قال طلحةُ: أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدُهم فاستشهدَ، قال: ثم بَعَثَ بعثاً آخر، فخرج فيهم آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالثُ على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استُشهد أخيرًا يليه، ورأيت الذي استُشهد أولَهم آخرَهم، قال: فدخلني من ذلك، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكرتَ من ذلك، ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمن يُعمّرُ في الإسلام يَكثُر تكبيرُه وتسبيحُه وتهليله وتحميده"[12].(/2)
وقد دلّ هذا الحديث العظيم على عِظم فضل من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله عز وجل.
سابعاً: ومن فضائلهنَّ: أنَّ الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهنَّ لعِباده، ورتّب على ذِكر الله بهنّ أجورًا عظيمةً، وثواباً جزيلاً، ففي المسند للإمام أحمد ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتب له عشرون حسنة، وحُطّت عنه عشرون سيّئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين مِن قِبَل نفسِهِ كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطّ عنه ثلاثون خطيئة"[13].
وقد زاد في ثواب الحمد عندما يقوله العبد مِن قِبَل نفسه عن الأربع؛ لأنَّ الحمد لا يقع غالباً إلا بعد سبب كأكلٍ أو شُربٍ، أو حدوث نعمة، فكأنَّه وقع في مقابلة ما أُسديَ إليه وقت الحمد، فإذا أنشأ العبد الحمد من قِبَل نفسه دون أن يدفعه لذلك تجدُّدُّ نعمةٍ زاد ثوابه.
ثامناً: ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ جُنّةٌ لقائلهنّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنّ ومقدّمات له، روى الحاكم في المستدرك، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا جُنَّتَكم"، قلنا: يا رسول الله من عدو قد حضر! قال: "لا، بل جُنَّتُكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنَّهنّ يأتين يوم القيامة منجيات ومقدّمات، وهنّ الباقيات الصالحات". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححّه العلامة الألباني يرحمه الله[14].
وقد تضمّن هذا الحديث إضافة إلى ما تقدّم وصفَ هؤلاء الكلمات بأنَّهنَّ الباقيات الصالحات، وقد قال الله - تعالى -: {وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}[15] والباقيات أي: التي يبقى ثوابُها، ويدوم جزاؤُها، وهذا خيرُ أمَلٍ يؤمِّله العبد وأفضل ثواب.
تاسعاً: ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ يَنعَطِفْن حول عرش الرحمن ولهنّ دويٌّ كدويِّ النحل، يذكرن بصاحبهنَّ، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم عن النعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، يَنعَطِفْن حول العرش لهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل، تذكر بصاحبها، أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال له من يذكر به". قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجه: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وصحّحه الحاكم[16].
فأفاد هذا الحديث هذه الفضيلة العظيمة، وهي أنَّ هؤلاء الكلمات الأربع يَنعَطِفْن حول العرش أي: يَمِلن حوله، ولهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل؛ أي: صوتٌ يشبه صوتَ النحل يذكرن بقائلهنّ، وفي هذا أعظم حضٍّ على الذِّكر بهذه الألفاظ، ولهذا قال في الحديث: "ألا يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به".
عاشراً: ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنّ ثقيلاتٌ في الميزان، روى النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وغيرهم عن أبي سلمى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بَخٍ بَخٍ، - وأشار بيده بخمس - ما أثقلهنّ في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولدُ الصالح يُتوفى للمرء المسلم فيحتسبُه"، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي[17]، وللحديث شاهد من حديث ثوبان رضي الله عنه، خرّجه البزار في مسنده، وقال: إسناده حسن[18].
وقوله في الحديث: "بَخٍ بَخٍ" هي كلمة تُقال عند الإعجاب بالشيء وبيان تفضيله.
حادي عشر: ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ للعبد بقول كلِّ واحدة منهنّ صدقة، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضولِ أموالهم". قال: "أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضعِ أحدكم صدقة". قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟" قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ"[19].(/3)
وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ثاني عشر: ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلهنّ عن القرآن الكريم في حقِّ من لا يُحسنه، روى أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنِّي لا أستطيع أن أتعلّمَ القرآنَ، فعلِّمني شيئاً يُجزيني". قال: "تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فقال الأعرابي: هكذا - وقبض يديه - فقال: "هذا لله، فمَا لي؟" قال: "تقول: اللّهمّ اغفر لي وارْحمني وعافِني وارْزقني واهْدِني"، فأخذها الأعرابيُّ وقبض كفّيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد مَلأَ يديه بالخير"[20].
قال المحدّث أبو الطيّب العظيم آبادي في تعليقه على سنن الدارقطني: سنده صحيح. وقال الألباني يرحمه الله: سنده حسن[21].
فهذه بعض الفضائل الواردة في السنة النبوية لهؤلاء الكلمات الأربع، وقد ورد لكلِّ كلمة منهن فضائلُ مخصوصةٌ سيأتي تفاصيلها إن شاء الله، ومن يتأمل هذه الفضائل المتقدّمة يجد أنَّها عظيمةٌ جدًا، ودالّةٌ على عِظم قدرِ هؤلاء الكلمات، ورِفعة شأنهنّ وكثرة فوائدهنّ وعوائدهنّ على العبد المؤمن، ولعلّ السر في هذا الفضل العظيم - والله أعلم - ما ذُكر عن بعض أهل العلم أنَّ أسماء الله - تبارك وتعالى - كلَّها مندرجةٌ في هذه الكلمات الأربع، فسبحان الله يندرج تحته أسماءُ التنزيه كالقدّوس والسلام، والحمد لله مشتملة على إثبات أنواع الكمال لله - تبارك في أسمائه وصفاته -، والله أكبر فيها تكبير الله وتعظيمه، وأنَّه لا يُحصي أحدٌ الثناءَ عليه، ومن كان كذلك فـ(لا إله إلا هو) أي: لا معبود حق سواه[22].
فللّه ما أعظمَ هؤلاء الكلمات، وما أجلَّ شأنهنَّ، وما أكبرَ الخير المترتّب عليهنّ، فنسأل الله أن يوفقنا للمحافظة والمداومة عليهنّ، وأن يجعلنا من أهلهنّ الَّذين ألسنتهم رطبةٌ بذلك، إنَّه وليّ ذلك والقادر.
المبحث الثاني: لا إله إلاَّ الله، فضلها ومعناها وشروطها ونواقضها:
·المطلب الأول: فضائل لا إله إلاَّ الله
إنَّ كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله، هي أفضل هؤلاء الكلمات الأربع، وأجلّهنّ وأعظمهنّ؛ فلأجلها خُلقت الخليقةُ، وأُرسلت الرسلُ، وأُنزلت الكتبُ، وبها افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار، فهي العروة الوثقى، وهي كلمة التقوى، وهي أعظم أركان الدِّين وأهم شعب الإيمان، وهي سبيل الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي كلمة الشهادة، ومفتاح دار السعادة، وأصل الدين وأساسه ورأس أمره، وفضائل هذه الكلمة وموقعها من الدين فوق ما يصفُه الواصفون ويعرفه العارفون {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}[23].
ولهذا فإنَّ لهذه الكلمة الجليلة فضائلَ عظيمةً، وفواضلَ كريمةً، ومزاياً جمّةً، لا يُمكن لأحد استقصاؤها، ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنَّ الله - تبارك وتعالى - جعلها زبدةَ دعوة الرسل، وخلاصةَ رسالاتهم، قال الله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}[24]، وقال - تعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[25]، وقال - تعالى - في أول سورة النحل: {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}[26]، وهذه الآية هي أول ما عدّد الله على عباده من النعم في هذه السورة، فدلّ ذلك على أنَّ التوفيق لذلك هو أعظم نعم الله تعالى التي أسبغها على عباده كما قال - سبحانه -: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[27]. قال مجاهد: "لا إله إلا الله"[28].
وقال سفيان بن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمةً أعظم من أن عرَّفهم لا إله إلا الله"[29].
ومن فضائلها: أنَّ الله وصفها في القرآن بأنَّها الكلمة الطيّبة، قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حَينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[30].(/4)
وهي القول الثابت في قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}[31].
وهي العهد في قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}[32]، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: "العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرّأ إلى الله عز وجل من الحول والقوة، وهي رأس كلِّ تقوى"[33].
ومن فضائلها: أنَّها العروة الوثقى التي من تمسّك بها نجا، ومن لم يتمسّك بها هلك، قال تعالى: {فَمَن يَّكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[34]، وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى}[35].
ومن فضائلها: أنَّها الكلمة الباقية التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام في عقِبِه لعلهم يرجعون، قال الله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[36].
وهي كلمة التقوى التي ألزمها الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أحقَّ بها وأهلَها، قال الله - تعالى -: {إِذْ َجَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاِهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[37].
روى أبو إسحاق السبيعي، عن عمرو بن ميمون قال: ما تكلّمَ الناس بشيء أفضل من لا إله إلا الله، فقال سعد بن عياض: "أتدري ما هي يا أبا عبد الله؟ هي والله كلمة التقوى ألزمها الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا أحقّ بها وأهلَها رضي الله عنهم"[38].
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها منتهى الصواب وغايته، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفاًّ لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}[39].
روى علي بن طلحة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى:{إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أنَّه قال: "إلا من أذنَ له الربّ عز وجل بشهادة أن لا إله إلا لله، وهي منتهى الصواب"[40].
وقال عكرمة: "الصواب: لا إله إلا الله"[41].
ومن فضائلها: أنَّها هي دعوة الحق المرادة بقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}[42].
ومن فضائلها: أنَّها هي الرابطة الحقيقية التي اجتمع عليها أهل دين الإسلام، فعليها يُوالون ويعادون، وبها يُحبّون ويُبغضون، وبسببها أصبح المجتمع المسلم كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يَشُدُّ بعضها بعضاً.
قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في كتابه أضواء البيان: "والحاصل أنَّ الرابطة الحقيقية التي تَجمع المفترقَ وتؤلف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، ألا ترى أنَّ هذه الرابطة التي تجمع المجتمع الإسلامي كلَّه كأنَّه جسدٌ واحدٌ، وتجعله كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كَلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ}[43]، فقد أشار - تعالى - إلى أنَّ الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنَّما هي الإيمان بالله - جلَّ وعلا -.
إلى أن قال - رحمه الله -: وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أنَّ الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة لا إله إلا الله، فلا يجوز ألبتة النداءُ برابطة غيرها"[44] اهـ.(/5)
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها أفضل الحسنات، قال الله - تعالى -: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}[45].
وقد ورد عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم: أنَّ المراد بالحسنة: "لا إله إلا الله"[46]، وعن عكرمة - رحمه الله - في قول الله عز وجل: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال: "قول: لا إله إلا الله. قال: له منها خير؛ لأنَّه لا شيء خير من لا إله إلا الله"[47].
وقد ثبت في المسند وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عَلِّمني عملاً يُقرّبني من الجنة ويُباعدني من النار. فقال: "إذا عملتَ سيّئةً فاعمل حسنةً فإنَّها عشر أمثالها". قلت: يا رسول الله، أفَمِنَ الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: "نعم هي أحسن الحسنات"[48].
فهذه بعض فضائل هذه الكلمة العظيمة، من خلال ما ورد في القرآن الكريم، وفيما يلي ذكر لبعض فضائلها من خلال ما ورد من ذلك في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
فمن فضائلها: أنَّها أفضلُ الأعمال وأكثرُها تضعيفاً، وتَعدِلُ عِتقَ الرِّقاب، وتكون لقائلها حِرزًا من الشيطان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٌ في يوم مائة مرّة كانت له عِدْل عشرِ رقاب، وكُتب له مائة حسنة، ومُحي عنه مائة سيّئة، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ عملَ أكثرَ من ذلك"[49].
وفيهما - أيضاً - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قالها عشرَ مرات كان كمن أَعتقَ أربعة أنفس من وَلَدِ إسماعيل"[50].
ومن فضائلها: أنَّها أفضل ما قاله النبيّون، لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أفضل ما قلتُ أنا والنبيّون عشيةَ عَرَفَةَ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير"[51]، وفي لفظ: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلته أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير"[52].
ومن فضائلها: أنَّها ترجحُ بصحائف الذنوبِ يوم القيامة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - المُخرَّج في المسند، وسنن النسائي، والترمذي، وغيرهما بإسناد جيّد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يُصاح برجل من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامةِ، فيُنشرُ له تسعةٌ وتسعون سِجِلاً، كلُّ سِجِلٍّ منها مدّ البصر، ثم يقول الله - تبارك وتعالى - له: أَتُنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا ربّ. فيقول عز وجل: أَلَكَ عُذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول عز وجل: بلى إنَّ لك عندنا حسنة، وإنَّه لا ظلم عليك، فتُخرجُ له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السِجِلاَّت؟ فيقول عز وجل: إنَّك لا تُظلم، قال: فتُوضَع السجلات في كِفَّة والبطاقة في كِفَّة، فطاشت السِجِلاَّت وثقُلت البطاقة"[53].
ولا ريب أنَّ هذا قد قام بقلبه من الإيمان ما جعل بطاقته التي فيها لا إله إلا الله تطيش بتلك السِجلاّت، إذ الناس متفاضلون في الأعمال بحسب ما يقوم بقلوبهم من الإيمان، وإلا فكم من قائل لا إله إلا الله لا يحصل له مثل هذا لضعف إيمانه بها في قلبه، فقد ورد في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرةٍ من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برّة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير"[54]، فدلّ ذلك على أنَّ أهل لا إله إلا الله متفاوتون فيها بحسب ما قام في قلوبهم من إيمان.
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها لو وُزِنت بالسموات والأرض رجحت بهنّ كما في المسند عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: آمُرُك بلا إله إلا الله، فإنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وُضعت في كفة، ووُضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله، ولو أنَّ السموات السبع في حلقة مبهمة لقصمتهنّ لا إله إلا الله"[55].
ومن فضائلها: أنَّها ليس لها دون الله حجاب، بل تخرق الحُجب حتى تصل إلى الله عز وجل، ففي الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما قال عبدٌ لا إله إلا الله مخلصاً إلا فُتحت له أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش ما اجتَنَب الكبائر"[56].(/6)
ومن فضائلها: أنَّها نجاةٌ لقائلها من النار، ففي صحيح مسلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذِّناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: "خرج من النار"[57]، وفي الصحيحين من حديث عِتبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"[58].
ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلها أفضل شُعب الإيمان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"[59].
ومن فضائلها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّها أفضلُ الذِّكر كما في الترمذي وغيره من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذِّكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله"[60].
ومن فضائلها: أنَّ من قالها خالصاً من قلبه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قيل: يا رسول الله من أَسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حِرصك على الحديث، أَسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه"[61].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم (رقم:2137).
[2] مسند الطيالسي (ص:122).
[3] صحيح مسلم (رقم:2695).
[4] المسند (6/344)، شعب الإيمان (رقم:612).
[5] الترغيب والترهيب (2/409).
[6] السلسلة الصحيحة (3/303).
[7] المسند (2/158،210)، وسنن الترمذي (رقم:3460)، ومستدرك الحاكم (1/503)، وصحيح الجامع (رقم:5636).
[8] صحيح مسلم (رقم:233).
[9] سنن الترمذي (رقم:3533)، وصحيح الجامع (رقم:1601).
[10] سنن الترمذي (رقم:3462)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:105).
[11] (4/132).
[12] المسند (1/163)، والسنن الكبرى للنسائي كتاب: عمل اليوم والليلة (6/رقم:10674)، وحسنه العلامة الألباني في الصحيحة (رقم:654).
[13] المسند (2/302)، والمستدرك (1/512)، وقال العلاّمة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1718): صحيح.
[14] المستدرك (1/541)، السنن الكبرى كتاب: عمل اليوم والليلة (6/212)، صحيح الجامع (رقم:3214).
[15] سورة الكهف، الآية: (46).
[16] المسند (4/268، 271)، سنن ابن ماجه (رقم:3809)، المستدرك (1/503).
[17] السنن الكبرى كتاب: عمل اليوم واليلة (6/50)، صحيح ابن حبان (الإحسان) (3/114/رقم:338)، المستدرك (1/511،512).
[18] كشف الأستار عن زوائد البزار (4/9/رقم:3072).
[19] صحيح مسلم (رقم:1006).
[20] سنن أبي داود (رقم:832)، سنن النسائي (2/143)، سنن الدارقطني (1/313،314).
[21] صحيح أبي داود (1/157).
[22] انظر: جزء في تفسير الباقيات الصالحات للعلائي (ص:40).
[23] سورة آل عمران، الآية: (18).
[24] سورة الأنبياء، الآية: (25).
[25] سورة النحل، الآية: (36).
[26] سورة النحل، الآية: (2).
[27] سورة لقمان، الآية: (20).
[28] رواه ابن جرير في تفسيره (11/78).
[29] ذكره ابن رجب في ((كلمة الإخلاص)) (ص:53).
[30] سورة إبراهيم، الآية: (24).
[31] سورة إبراهيم، الآية: (27).
[32] سورة مريم، الآية: (87).
[33] رواه الطبراني في الدعاء (3/1518).
[34] سورة البقرة، الآية: (256).
[35] سورة لقمان، الآية: (22).
[36] سورة الزخرف، الآية: (26 - 28).
[37] سورة الفتح، الآية: (26).
[38] رواه الطبراني في الدعاء (3/1533).
[39] سورة النبأ، الآية: (38).
[40] رواه الطبراني في الدعاء (3/1520).
[41] رواه الطبراني في الدعاء (3/1520).
[42] سورة الرعد، الآية: (14).
[43] سورة غافر، الآية: (7 - 9).
[44] أضواء البيان (3/447،448).
[45] سورة النمل، الآية: (89)، القصص، الآية: (84).
[46] انظر: الدعاء للطبراني (3/1497،1498).
[47] أورده ابن البنا في ((فضل التهليل وثوابه الجزيل)) (ص:74).
[48] المسند (5/169).
[49] صحيح البخاري (رقم:3293)، و(رقم:6403)، وصحيح مسلم (رقم:2691).
[50] صحيح البخاري (رقم:6404)، وصحيح مسلم (رقم:2693).
[51] أخرجه الطبراني في الدعاء (رقم:874) من حديث علي رضي الله عنه.
[52] أخرجه الترمذي في السنن (رقم:3585) من حديث عبد الله بن عمرو. وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (4/7،8)، وقال: الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد.
[53] المسند (2/213)، سنن الترمذي (رقم:2639)، سنن ابن ماجه (رقم:4300)، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:8095).
[54] صحيح البخاري (رقم:44)، وصحيح مسلم (رقم:193) (325).(/7)
[55] المسند (2/170)، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:134).
[56] سنن الترمذي (3590)، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:5648).
[57] صحيح مسلم (رقم:382).
[58] صحيح البخاري (رقم:6938)، وصحيح مسلم (رقم : 33) (263).
[59] صحيح البخاري (رقم:9)، وصحيح مسلم (رقم : 35) .
[60] سنن الترمذي (رقم:3383)، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1104).
[61] صحيح البخاري (رقم:99).
موقع الجامعة الإسلامية ...(/8)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار (13)
ألف حديث كل ثلاث سنوات
901- «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ». [خ(538، 3259)هـ (679) من حديث أبي سعيد]
902- «عن الأَسودِ قال: سألتُ عَائِشَةَ: ما كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ في بَيْتِهِ ؟
قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةِ أَهْلِه -
فإذا حَضَرتْ الصَّلاةُ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ».
[خ (676، 5363، 6039)، ت (2489) من حديث عائشة]
903- «لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ
وَلا شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».[خ (609، 3296، 7548)، ف (644) من حديث أبي سعيد]
904- «كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ
عِنْدَ كُلِّ صَلاَةِ. قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ: يُجْزِئُ
أَحَدَنَا الوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِث». [خ (214)، حم (3/132) من حديث عمرو بن عامر عن أنس]
905- «قَامَ أَعْرَابيٌّ فَبَالَ في المَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ. فَقَالَ لَهُمْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعوهُ وَهَرِيقُوا على بَوْلِه
سَجْلاً مِن مَاءٍ أو ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فإنَّما بُعثْتُم مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».[خ (220، 6128)، ت (147)، د (380) من حديث أبي هريرة]
906- «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وإنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ
رَأْسَهُ زبِيبَةُ».[خ (693، 696، 7142)، هـ (2860) من حديث أنس]
907- «عَنْ أنسٍ قالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاةً وَلاَ أَتمَّ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ».[خ (708)، حم (3/233) من حديث أنس]
908- «عن أبي مَعْمَر قال: قُلْنَا لِخَبَّابٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ
في الظُّهْرِ والعَصْرِ؟ قالَ: نَعَمٌ. قُلْنَا: بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ
ذَاكَ ؟ قَالَ: باضطِرَابِ لِحْيتَهِ». [خ (746، 760، 761، 777)، د (801)، هـ (826)]
909- عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالَت: سَأَلْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الالتِفَاتِ في الصَّلاةِ
فَقَالَ: «هُو اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ».
[خ (751، 3291)، د (910)، ت (590)، ن(1196)]
910- «عَنْ أبي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إلى النبيِّ صلى الله عليه
وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ فَذَكَرَ ذَلِكَ
للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ». [خ (783)، د (683)، ن (871)]
911- «لاَ تَسُبُّوا الأَمْواتَ فَإِنُّهُمْ قَدْ أَفْضَوا إلى مَا
قَدَّمُوا». [خ (1393، 6516)، ن(1936)، د (4899) من حديث عائشة]
912- «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَه مُثِّلَ لَهُ مَالُه يَومَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ له زَبيبتان يُطَوِّقُه يَومَ القيامَةِ ثُمَّ
يَأْخُذُ بِلهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ». ثم تلا: ولا يحسبن الذين يبخلون
[آل عمران: 180]. [خ (1403، 4565، 4659، 6957)]
913- «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ».[خ (1426، 1428، 5355، 5356)، ن(2534، 2544)، د (1676) من حديث أبي هريرة]
914- «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ أو كَانَ عَثَريًّا العُشْرُ ومَا سُقِىَ بالنَّضْح نصفُ
العُشْرِ».[خ (1483)، ت(640)، ن(2488)، د(1596) من حديث عبد اللَّه بن عمر]
915- «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى أَنْ يَدَّعِىَ الرَّجُلُ إلى غَيْرِ أبيهِ، أو يُرِىَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولَ عَلَى رسولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ». [خ (3509)، حم (2/491)]
916- «كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم والمَرأةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ». [خ (264)، د(245) من حديث أنس]
917- «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ».[خ (3557)، حم (2/373)]
918- «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِالنَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْ الحَسَنِ بنِ عَلِي». [خ (3752)، ت (3776) من حديث أنس]
919- «عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عنهما - عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالحَسَنَ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَحِبَّهُمَا فإنِّي أُحِبُّهُمَا». [خ (3735، 3747، 6003)، ت (3769) من حديث أسامة]
920- «عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ فَرَجَفَ
بِهِمْ فَقَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فإنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ(/1)
وَشَهِيدَانِ».[خ (3675، 3686، 3699)، ت(3697)، د(4651) من حديث أنس]
921- عَن أَبي سَعيد الخدري قال: كُنَّا نحمل لبنةَ لبنة وعَمَّارٌ لبنتين لبنتين فَرَآهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم
فينفُضُ التُّرَاب عنه ويقولُ: «وَيْحَ عَمَّار تَقْتُلُهُ الفئةُ البَاغيةُ يَدْعُوهُمْ إلى الجنَّةِ ويَدْعُونَهُ إلى النَّارِ». قال: يقولُ عمارٌ: أعوذُ بالله من الفتن.[خ (447، 2812)، حم (3/90) من حديث أبي سعيد الخدري]
922- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا تغْلِبنكُم الأعرابُ على اسمِ صَلاتِكم المَغْرِبِ».[خ (563)، حم (5/55) من حديث عبد اللَّه بن مغفل]
923- «مَنْ قَال حين يسمعُ النِّداءَ: اللَّهُم رَبّ هذه الدعوة التَّامةِ والصَّلاةِ القائمةِ، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ
وابْعثهُ مقامًا مَحمُودًا الذي وعدتهُ، حَلْت له شَفَاعتي يومَ القيامةِ».[خ (614، 4719)، د(529)، هـ (722)، ت (211)، ن (680) من حديث جابر]
924- عن سعيد بن الحارث قال: صَلَى لَنَا أبو سعيدٍ فَجَهَر بالتكبيرِ حين رَفَعَ رأسهُ مِنْ
السَّجود وحين سَجَدَ وحين رَفَعَ وحين قام من الركعتين وقال: هَكَذا رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم».[خ (825)، حم (3/18) من حديث سعيد بن الحارث]
925- «ما أَكَل أحدٌ طَعَامًا قطُّ خيرًا من أن يَأكُلَ مِنْ عَملَ يدِهِ، وإنَّ
نبيَّ اللَّهِ داودَ عليه السلامُ كان يأكُلُ مِنْ عَملِ يدهِ».[خ (2072)، هـ (2138) من حديث المقدام]
926- «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا إذا بَاعَ وإذَا اشترى وإذا اقتضَى».[خ (2076)، ت (1320)، هـ (2203) من حديث جابر بن عبد اللَّه]
927- «أم القُرآن هي السَّبْعُ المثانِي والقُرآنُ العظيم».[خ (4704)، ت (1879، 3124، 3125)، ن(914)، د(1457) من حديث أبي هريرة]
928- «إذا رَأَى أحدكُم رؤيَا يحبُّها فإنَّما هي مِن اللَّه فلْيحمَدِ اللَّهَ عَليها وليُحدثْ
بها، وإذَا رَأَى غير ذلِكَ مما يكرهُ فإنَّما هي مِنَ الشيطانِ فليستعذ مِن شَرِهَا ولا يَذكُرُهَا لأحدٍ فإنَّها لا تَضرُّهُ».
[خ (6985)، ت(3453) من حديث أبي سعيد]
929- «أنَا وكافلُ اليَتيمِ في الجنةِ هَكَذَا». وأشارَ
بالسَّبابةِ والوسْطَى وفَرَّجَ بَيْنَهُمَا.[خ (5304، 6005)، ت(1918)، د(5150) من حديث سهل]
930- «كَان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أَخَذ مضجعَهُ مِنَ اللَّيْل قال: اللهم باسمك أموتُ وأحْيَا»، فإذا استيقظَ قال: الحمدُ للَّهِ الذي أحيانَا بَعْدمَا أَمَاتَنَا وإليهِ النشُورُ. [خ (6325، 7395)، وأحمد (5/154) من حديث أبي ذر](/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
إعداد : علي حشيش
مشروع تيسير حفظ السنة
631- "ثلاثةٌ لهم أَجْرَان: رجلٌ مِن أهلِ الكتابِ آمَن بنَبيّه وآمَن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والعَبد المملُوك إذا أدَّى حقَّ اللَّه وحقَّ موالِيه، ورُجلٌ كانَت عِندَه أَمَة فأدبّها فأحْسن تَأْدِيبَها، وعَلمها فأحسَن تَعْلِيمَها، ثُم أعتقَها فتزوّجها، فلَه أجْران". {متفق عليه من حديث أبي موسى}
632- عن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم جَهارًا غير سرٍّ يقول: "إنَّ آل أبي فُلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رَحِمٌ أبلُّها ببلالها". يعني أصلها بصلتها.
{متفق عليه من حديث عمرو بن العاص}
633- "لَيَدْخُلنَّ الجنة من أمتَّي سبعون ألفًا أو سبعمَائة ألف مُتماسِكُون آخذ بعضُهم بعضًا، لا يدخلُ أولهم حتى يدخل آخِرهُم، وجوههم على صورةِ القمر ليلة البَدْر".
{متفق عليه من حديث سهل بن سعد}
634- عن مَيمونة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه، أمرها فاتزَّرت وهي حائض". {متفق عليه من حديث ميمونة}
635- عن عبد الله بن عمر قال: ذكر عُمر بن الخطَّاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تُصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "توضأ واغسل ذكرك ثم نمْ". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
636- عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسلُ، أو كان يغتسل بالصاعِ إلى خمسة أمدادٍ، ويتوضأ بالمُدّ". {متفق عليه من حديث أنس}
637- عن عائشة زَوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنَّ أم حَبيبةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْع سنِين، فَسَألَتْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذَلِك فَأَمرها أَن تَغتسِل، فقال: "هذا عِرْق"، فكانت تغتسِل لكلَّ صلاة. {متفق عليه من حديث عائشة}
638- عَن ابن عبَّاس قال: وَجَدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم شَاةً ميّتةً أُعْطيَتْها مَولاة لميْمونَة مِن الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هلاَّ انْتَفَعْتُم بجلدهَا". قالوا: إنَّها ميتة. قال: "إنما حَرُمَ أكلها".
{متفق عليه من حديث ابن عباس}
639- عن أنس قال: أُقِيمتْ الصلاةُ، والنبي صلى الله عليه وسلم يُناجِي رَجُلاً في جَانِب المَسْجدِ فَمَا قَام إلى الصَّلاة حتّى نامَ القومُ.
{متفق عليه من حديث أنس}
640- عَن أبي هُريرةَ: أنَّه كَان يُصَلّي بهم فَيُكبّر كُلَّما خَفَضَ ورَفعَ، فإذا انصْرَفَ قال: إني لأشبهُكُم صلاةً برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
{متفق عليه من حديث أبي هريرة}
641- عَن أبي هُريرة أن رسولَ صلى الله عليه وسلم قال: "هَلْ تَرَوْن قِبَليَ هَهُنا؟ فواللهِ ما يَخْفَى عليَّ خُشوعكُم ولا ركُوعكُم، إنَّي لأرَاكم مِن وَراء ظهري". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
642- عن سَهْل بنِ سَعد قال: كَانَ رِجَالُ يُصَلُّونَ مع النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزُرَهم على أعْناقِهم كهيئة الصِبيان، ويُقال للنساءِ: "لاَ تَرْفَعْن رُؤوسكن حتّى يَستوي الرجال جُلوسًا".
{متفق عليه من حديث سهل بن سعد}
643- عَن ابن عُمر أَن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ العِيد أمَرَ بالحَرْبةِ ثُمَّ اتَّخَذَها الأمراءُ.
{متفق عليه من حديث ابن عمر}
644- عَن عائشة عَن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ في مَرضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ: "لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنَّصارى اتَخذُوا قُبورَ أنْبيائهمِ مَساجدِ". {متفق عليه من حديث عائشة}
645- "مَن بَنَى مَسْجدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ له مِثله في الجنَّة". {متفق عليه من حديث عثمان}
646- عَن أبي قَتَادة الأَنْصَارى أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي وهو حاملٌ أُمامة بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ولأبي العاص بنِ ربيعة بن عبد شمسِ فإذا سَجَدَ وَضَعَها، وإذَا قَامَ حَمَلَها.
{متفق عليه من حديث أبي قتادة}
647- عَن زَيد بن أرقم قال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلاة، يُكَلّم أحدُنا أَخَاه في حاجَته، حتى نزلَت هذه الآية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فأُمِرْنَا بالسُّكوتُ.
{متفق عليه من حديث زيد بن أرقم}
648- عَن سَعيد بنَ يزيد الأَزْدي قالَ: سَأَلتُ أنسَ بنَ مالك: أكَان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي في نَعْلَيْن؟ قال: نَعَم.
{متفق عليه من حديث أنس}
649- عَن ابن عبَّاسٍ قالَ: كُنتُ أعرفُ انقضَاءَ صَلاَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتَّكبيرِ. {متفق عليه من حديث ابن عباس}
650- "إذا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأبْرِدُوا بالصَّلاةِ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّم". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}(/1)
651- عَن ابن مسعودٍ قال: لاَ يَجْعلَنَّ أحدُكم للشَّيطانِ شيئًا مِن صلاته، يَرى أنَّ حقًا عليه أن لا ينصرفَ إلاَّ عن يمينِه، لقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ينصرفُ عن يساره. {متفق عليه من حديث ابن مسعود}
652- عَن ابن عباسٍ قال: كَانت صلاةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثَ عشرةَ ركعةً، يَعني بالليلَ.
{متفق عليه من حديث ابن عباس}
653- "لاَ حَسَدَ إلاَّ في اثنتينِ: رجُلٍ آتاهُ اللَّهُ القُرآن فهو يَتلْوهُ آناء الليل وآناء النَّهار، وَرَجلٍ آتاه اللَّه مالاً فهو يُنْفِقُه آناء الليل وآناء النَّهارِ". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
654- "إذَا طَلَعَ صَاحِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلاةَ حتى تَبرزَ، وإذا غَاب صَاحِبُ الشَّمسِ فَدَعُوا الصَّلاةَ حتى تَغيب". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
655- "حَقٌّ على كُلّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِل في كُلَّ سَبْعةِ أيَّام يومًا يَغْسِلُ فِيه رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ".
{متفق عليه من حديث أبي هريرة}
656- عن أَنس قال: كَان النبي صلى الله عليه وسلم لا يَرْفَعُ يَدْيَهِ في شيءٍ من وعُائِه إلاَّ في الاسْتسْقاءِ وإنَّهُ يرفْعَ حتى يُريَ بياض إبطيْه. {متفق عليه من حديث أنس}
657- "لَيْسَ فيما دُونَ خَمْس أَواقَ صَدَقَة، وَلَيْسَ فيما دُونَ خَمْسِ زودٍ صَدقَةَ، وَلَيسْ فيما دُون خَمْسِ أَوْسق صَدَقة". {متفق عليه من حديث أبي سعيد}
658- "إذَا أَنْفَقَت المرأةُ كَسْب زَوْجِهَا عَن غَير أمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِه". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
659- "إنَّي لأَنْقَلب إلى أهَلْي فَأجِدُ التَّمرةَ سَاقِطَةً على فِراشِي فَأرْفَعُها لآكلها، ثُمَّ أخَشَى أَنْ تكُونَ صَدَقةً فألقيها". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
660- "أَمَا لو أنَّ أَحَدَهم يقولُ حين يَأْتي أَهْلَهُ: بِاسِمِ اللَّهِ، اللَّهُم جَنِّبني الشيطان وجَنِّب الشيطانَ ما رَزَقْتَنا، ثُمَّ قُدِّرَ بينَهما في ذَلِكَ، أو قُضِي وَلَدٌ، لَم يَضُرَّه شيطانٌ أبدًا". {متفق عليه من حديث ابن عباس}(/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
إعداد : علي حشيش
661- "احْتَجَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُو مُحْرِمٌ بِلَحْيِ(1) جَمَل، في وَسَطِ رَأسِهِ".
{متفق عليه من حديث ابن بُحينة}
662- عن ابن عباسٍ قالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ واقِفٌ بَعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عن راحلتِهِ فَوَقَصتْه(2)، أَوْ قَالَ: فَأَوْقصتهُ؛ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اغسِلُوهُ بِمَاءٍ وسِدْرٍ، وَكَفنوهُ في ثَوبينِ وَلاَ تُحنِّطوهُ، ولا تُخَمِّروا رأسُه، فإنَّه يُبعثُ يومَ القيامةِ مُلَبيًا". {متفق عليه من حديث ابن عباس}
663- دَخَلَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على ضُبَاعَةَ بنتِ الزُّبيرِ فقالَ لهَا: "لَعَلَّك أَرَدتِ الحجَّ". قالت: واللَّهِ مَا أَجِدُنِي إلا وَجِعَةً. فقال لها: "حُجِّي واشْتَرِطي، قولي: اللهم مَحِلِّي حيثُ حَبستني".
{متفق عليه من حديث عائشة}
664- عن عائشةَِ قالت: خَرَجنَا لاَ نَرَى إلاَّ الحجَّ، حتَّى إذا كُنَّا بِسَرف(3) حِضْتُ فَدَخَلَ عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قال: "مَا لَك، أَنُفِسْتِ؟"- يعني الحيضة- قلتُ: نَعَمْ. قال: "إنَّ هَذَا أمرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ على بناتِ آدَمَ فاقْضِي مَا يَقْضِي الحاجُّ غيرَ أنْ لا تَطُوِفي بالبيتَ". وضحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن نسائِه بالبَقَر. {متفق عليه من حديث عائشة}
665- عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَهُ أنْ يُرْدِفَ عائشةَ وَيُعْمِرَها من التَّنْعيم. {متفق عليه من حديث عبد الرحمن}.
666- عَن محمَّد بنِ أبي بكرِ الثَقَفِيِّ، قال: سَألت أَنَسًا، ونحنُ غادِيانِ مِنْ مِنًى إلى عرفاتٍ عن التَّلْبَية كيف كنتم تصنعُونَ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كَانَ يُلبِّي المُلَبِّي لا يُنْكرُ عليه، ويكبِّر المُكبِّرُ فلا يُنْكرُ عليه". {متفق عليه من حديث محمد بن أبي بكر}
667- اسْتأذن العباسُ بْنُ عبدِ المطلبِ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَبيتَ بمكةَ لَيالِي مِنيً مِن أجلِ سِقايةٍ، فأذِنَ له". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
668- عن ابن عباسٍ قال: "لَيْسَ التحصيبُ بشيءٍ إنَّما هُوَ منزلٌ نَزَلَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم". {متفق عليه من حديث ابن عباس}
669- رَأَيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم رجُلا يسُوقُ بَدَنَةً، فقالَ: "ارْكَبْهَا". قال: إنَّها بَدَنَةٌ، قال: "ارْكبها". قال: "إنَّها بَدَنَةٌ". قال: "ارْكبها" ثلاثًا. والبدنة هي الناقة. {متفق عليه من حديث أنس}
670- "كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأْتي قِباءَ رَاكِبًا وماشِيًا".
{متفق عليه من حديث ابن عمر}
671- نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ مُتعةِ النِّسَاءِ يومَ خَيْبر، وعن أكل الحُمُر الإنسية. {متفق عليه من حديث علي}
672- عن عائشةَ قالت: دَخَلَ عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعندي رَجُلٌ، قال: "يَا عائشةُ، مَن هذا؟" قُلْتُ: أخي مِن الرضاعةِ. قال: "يَا عائشةُ، انْظُرنَ مَن إخوانُكُنَّ، فإنَّما الرضاعةُ مِن المَجَاعَةِ ". {متفق عليه من حديث عائشة}
673- "الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الفِرَاش". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
674- "المرأةُ كالضِّلَعِ إنْ أقمتَهَا كَسَرْتَهَا، وإن اسْتَمْتَعتُ بها اسْتَمعْتَ بها وفيها عِوَجٌ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
675- عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ. قال: أصبنا سَبْيًا فكنَّا نَعْزِلُ، فسألْنَا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: "أَوَ إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟". قالَها ثلاثًا: "مَا مِن نَسَمَةٍ كائنةٍ إلى يَوْم القيامةِ إلا هي كائنةٌ".
{متفق عليه من حديث أبي سعيد}
676- عن أنسٍ قال: "ما أَوْلَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، على شيءٍ من نسائِهِ مَا أَوْلَمَ على زَينَبَ؛ أَوْلَمَ بِشَاةٍ".
{متفق عليه من حديث أنس}
677- "مَنْ كانَتْ لَهُ جاريةٌ فَعَالَهَا فَأَحْسَنَ إليها، ثُمَّ أَعْتَقَها وتزوجَهَا، كانَ لهُ أجرانِ".
{متفق عليه من حديث أبي موسى}
678- عن أنس قال: "إن رسولَ اللًَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عامَ الفَتْحِ وَعَلَى رأسهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رجلٌ فقال: إنَّ ابنَ الأخطلِ مُتعلقٌ بأستارِ الكعبةِ. فقال: اقْتُلُوهْ". {متفق عليه من حديث أنس}
679- عن أبي هريرةَ قال: إنَّ أَبَا بكرٍ الصديقَ بَعَثَهُ في الحَجَّةِ التي أمَّرَهُ عليها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ حَجَّةِ الوداعِ يومَ النحرِ، في رهطٍ يؤذنُ في الناسِ: ألا لا يحجّ بعدَ العَامِ مُشركٌ، ولا يَطُوفُ بالبيتِ عُرْيَانٌ. {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
680- عن ابنِ عُمر قال: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنَاخَ(4) بالبطحاءِ بذي الحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا وكان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ يفعلُ ذلك. {متفق عليه من حديث ابن عمر}(/1)
681- عن ابن عُمرَ رضي الله عنهما قال: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا قَفَلَ(5) مِن غزوٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ يُكبِّرُ على كُلِّ شَرَفٍ(6) مِن الأرضِ ثلاثَ تكبيراتٍ، ثم يقولُ: "لا إله إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، آيُبون(7) تائبونَ عابدونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحزابَ وَحْدَهُ". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
682- "دَعُوني مَا تَرَكْتُكُمْ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَان قَبْلَكُمْ بسُؤْالِهم واختلافهم على أنبيائِهم، فإذا نَهيتُكُم عن شيءٍ فاجْتَنبُوهُ، وإذا أمَرْتُكُمْ بأمرٍ فَأْتُوا مِنه ما اسْتطعتُم". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
683- عن عُرْوةَ قال: سُئل أُسامةُ وأنا جالسٌ، كيف كَانَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ في حَجَّةِ الوَدَاعِ حينَ دَفَعَ(8)؟ قال: كَانَ يسيرُ العَنَقَ(9)، فإذا وَجَد فَجوة(10) نصَّ(11).
684- "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا، ثُمَّ لَمْ يتُبْ مِنها، حُرِمَها في الآخرة". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
685- "لاَ تَترُكُوا النَّارَ في بيوتكُم حين تَنَامَونَ". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
686- عن عُمرَ بنِ أبي سَلَمَةَ قال: كُنْتُ غُلامًا في حَجْرٍ(12) رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفةِ، فقال لي رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكَلْ بيمينِك، وكُلْ مما يَلِيكَ". فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طعْمتي بَعْدُ. {متفق عليه من حديث عمر بن أبي سلمة}
687- عن أبي هريرةَ قال: أُتِيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ بِهِ بإيلياءَ(13) بقَدَحينِ مِن خمرٍ ولبنٍ فَنَظَرَ إليهمَا، فأخذَ اللبنَ. قال جبريلُ: الحمدُ للَّهِ الذي هَدَاك للفطرةِ، لَوْ أخذت الخمرَ غَوَتْ أُمتُكَ.
{متفق عليه من حديث أبي هريرة}
688- عن أبي موسى قال: احْتَرَقَ بيتٌ بالمدينةِ على أهلهِ مِن الليلِ فحُدث بشأنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ هذه النَّارَ إنَّما هي عَدَوٌّ لكُم، فإذَا نِمْتُمْ فأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ". {متفق عليه من حديث أبي موسى}
689- عَن عمرانَ بن حصينٍ قال: قال رَجُلٌ: يا رسولَ اللَّه، أَيُعْرَفُ أهلُ الجنةِ مِنْ أهلِ النَّارِ؟ قال: "نَعَمْ". قال: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قال: "كُلٌّ يعملَ لما خُلِقَ لهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ". {متفق عليه من حديث عمران بن حصين}
690- كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بهَذَا الدُّعاءِ: "ربّ اغفْرِ لي خَطِئيتي وَجَهْلي وإسرافي في أمرِي كُلّه، وما أنتَ أعلمُ بِهِ مِني، اللهمّ اغْفِرْ لي خَطَاياي وَعَمْدِي، وَجَهْلَي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهمُّ اغْفِر لي ما قَدَّمْتُ ومَا أَخَّرْتُ، ومَا أسررتُ ومَا أعلنتُ، أنت المُقَدِّمُ، وأنت المؤخِّرُ وأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ".
{متفق عليه من حديث أبي موسى}
(1) بلحى جمل: اسم موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب (2) فوقصته: أي كسرت عنقه.
(3) بسرف: موضع على عشرة أميال من مكة. (4) أناخ: أبرك راحلته.
(5) قفل: رجع. (6) شرف: مكان عال. (7) آيبون: نحن راجعون إلى الله.
(8) دفع: أي انصرف من عرفات إلى المزدلفة. (9) يسير العنق: السير بين الإبطاء والإسراع.
(10) فجوة: (11) نص: أي سار سيرًا شديدًا يبلغ به الغاية.
(12) حَجْر: أي يربيه تحت نظره. (13) إيلياء: بيت المقدس.(/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
1000 حديث كل ثلاث سنوات
إعداد/ حشيش
الحلقة الرابعة والعشرون
691- صَلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ النَّحْر ثُمَّ خَطَبَ ثَمَّ ذَبَحَ فقالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أن يُصَلِّيَ فَلْيَذبَحْ أُخْرَى مَكَانَها، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذبَحْ باسْمِ اللَّهِ». [متفق عليه من حديث جندب]
692- «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَإِنَّمَا يَذبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاةِ فَقَدْ تم نُسُكُهُ وأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِين». [متفق عليه من حديث البراء بن عازب]
693- عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلى صَحَابَتِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ(1)، فَذَكَرَهُ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: «ضَحِّ أَنْتَ به». [متفق عليه من حديث عقبة]
694- «ضَحَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفاحِهما». [متفق عليه من حديث أنسٍ]
695- «كُنَّا لاَ نَأْكُلُ مِنْ لُحُوم بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاَثِ مِنًى، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «كُلُوا وتَزَوَدُّوا» فَأَكْلنَا وَتَزَوَّدْنا». [متفق عليه من حديث جابر]
696- قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالثةٍ وفي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيءٌ». فَلَمَا كَانَ العَامُ المُقبلُ، قالُوا: يَا رسولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا العَامَ المَاضِي؟ قال: «كُلُوا وَأطعِمُوا وَادِّخِرُوا، فَإنَّ ذَلِكَ العَامَ كَانَ بالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فيهَا». [متفق عليه من حديث سلمة بن الأكوع]
697- «إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكم فَلْيَبْدَأْ باليمينِ، وإذَا نَزَعَ فَلْيَبْدأ بالشِّمَالِ، لِتَكُنِ اليُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وآخِرَهُمَا تُنْزَعُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
698- «إيَّاكُمْ والجُلُوسَ عَلَى الطُرقَاتِ». فقالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ. إنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قالَ: «فَإِذَا أبيتُم إلاَّ المَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا». قالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّريقِ؟ قالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وأَمْرٌ بالمعرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكرِ». [متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري]
699- إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنصَارِ زَوَّجَتْ بِنْتَهَا، فَتَمَعَّطَ(2) شَعْرُ رَأْسِهَا فَجَاءَتْ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالت: إنَّ زَوْجَهَا أَمَرَني أَنْ أَصِلَ في شَعْرِهَا فقالَ: «لاَ؛ إنَّه قَدْ لُعِنَ المُوصِلاَتُ». [متفق عليه من حديث عائشة]
700- عَنْ أبي مُوسى قال: وُلِدَ لي غُلامٌ، فأتَيْتُ به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّاهُ إبراهيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لهُ بالبرَكَةِ وَدَفَعَهُ إليَّ، وكَانَ أكبرُ وَلَدِ أبي مُوسَى. [متفق عليه من حديث أبي موسى]
701- عَنْ يُسَيْرِ بنِ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْتُ لِسَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعتَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ فِي الخَوَارِج شَيْئًا؟ قالَ: سَمِعْتُهُ يقولُ، وأهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ العِرَاقِ: «يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ، مُرُوقَ السَّهْم مِنَ الرَّمِيَّةِ». [متفق عليه من حديث سهل]
702- «مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ، فَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لأَكَلْتُها». [متفق عليه من حديث أنس]
703- عَنْ أبي هُريرةَ قال: «سَمَّي النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَ خُدْعَةً». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
704- إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّق بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فقالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَديةٌ». [متفق عليه من حديث أنس]
705- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ» فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ، قَالَ لأصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وإنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ مَعَهُمْ. [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
706- عَنْ عَائِشَةَ قالت: قُلْتُ: يَا رسُولَ اللَّهِ يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ(3)؟ قالَ: «نَعَمْ». قُلْتُ: فإنَّ البِكْرَ تُسْتأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، قالَ: «سُكاتُهَا إذْنُها». [متفق عليه من حديث عائشة](/1)
707- «إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، رَأَىَ عَلَى عَبْدِ الرَّحمن بنِ عوفٍ أثَرَ صُفْرَةٍ(4)، قالَ: مَا هَذَا؟ قال: إنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ». [متفق عليه من حديث أنس]
708- عَنْ أنسٍ قالَ: «مِن السُّنَّةِ، إذَا تَزَوَّج الرَّجُلُ البِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَقَسَمَ، وإذَا تَزوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ، أقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ». [متفق عليه من حديث أنس]
709- «إنَّ رَجُلاً أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يَا رسولَ اللَّهِ وُلِدَ لي غُلامٌ أسودُ، فقالَ: هَل لكَ مِن إبلٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ما ألْوَانُهَا؟ قالَ: حُمْرٌ، قالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق(5)؟ قال: نَعَمْ. قال: فأنَّى ذَلِكَ؟» قالَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قال: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْق». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
710- «مَطْلُ(6) الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فإذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِئٍ فَلْيَتْبَعْ»(7). [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
711- عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ عَنْ أبيهِ، قالَ: بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جَدَّهُ أَبَا مُوسَى ومُعَاذًا إلى اليَمنِ، فقالَ: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشّرَا وَلاَ تُنَفرَا، وَتَطَاوَعَا»(8). [متفق عليه من حديث أبي موسى ومعاذ]
712- «إنَّ أَزْوَاجَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حِين تُوْفِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إلى أبي بكرٍ يَسْأَلْنَهُ ميراثَهُنَّ، فقالَت عَائِشَةُ رضي الله عنها: ألَيْسَ قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟».
713- عَن ابنِ عمرَ قالَ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِن الأحزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العَصْرَ إلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ». فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فقالَ بَعْضُهم: لاَ نُصَلِّي حتى نأتيهَا، فقالَ بعضُهم: بَلْ نُصلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُم». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
714- قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: «مَن يَنْظُرُ مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ؟» فَانْطَلَقَ ابنُ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، حتى بَرَدَ، فأخَذَ بِلحْيتهِ فقالَ: أنتَ أبو جَهْلٍ؟ قالَ: وَهَلْ فَوْقَ(9) رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ، أَوْ قالَ: قَتَلْتُمُوهُ». [متفق عليه من حديث أنس]
715- «لاَ يَزالُ هَذَا الأمرُ في قُريشٍ مَا بَقِيَ اثْنَانِ». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
716- «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبَ أنْ يَرْجِعَ إلى الدّنيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأرضِ مِنْ شيءٍ إلاَّ الشّهيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجعَ إلى الدّنيْا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الكرامةِ». [متفق عليه من حديث أنس]
717- «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ في سَبِيل اللَّهِ بنفْسِهِ وَمَالِهِ». قالُوا ثُمَّ مَن؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ(10) مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ ويَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ». [متفق عليه من حديث أبي سعيد]
718- «يَضْحَكُ اللَّهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ، يُقاتِلُ هَذَا في سَبيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يتُوبُ اللَّهُ عَلَى القَاتِل فَيُسْتَشْهَدُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
719- «إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلى تَبُوكَ واسْتَخْلَفَ عَلِيًا فقالَ: أَتُخلِّفُني في الصِّبْيَانِ والنِّسَاءِ؟ قال: ألاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إلاَّ أنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي». [متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص]
720- عَنْ عَائشةَ أنَّها سَمِعَتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قَبْل أَنْ يَمُوتَ، وهُو مُسْنِدٌ إليّ ظَهْرَهُ يقولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وارْحمني وألْحِقْني بالرفِيق». [متفق عليه من حديث عائشة]
«1» عتود: الصغير من الماعز وقوي وأتى عليه الحول. «2» فَتَمَعَّطَ: أي تناثر وانتتف من أصله.
«3» أبضاعهن: جمع بُضع والمقصود النكاح. «4» صفرة: شيء من طيب العروس.
«5» أورق: ما في لونه بياض إلى سواد. «6» المطل: تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر.
«7» إذا أحيل بالدين الذي له على موسر فليحتل. «8» تطاوَعا: كونا مُتفقين في الحكم ولا تختلفا.
«9» فوق رجل قتله قومه: أي لا عار عليَّ في قتلكم إياي.
«10» الشعب: ما انفرج بين جبلين.(/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
ألف حديث كل ثلاث سنوات
الحلقة الخامسة والعشرون
في مشروع حفظ السنة «درر البحار من صحيح الأحاديث القصار» وعلى مدار عامين، تم بفضل الله وحده نشر 720 حديثًا.
وفي هذا العام- إن شاء الله- نواصل نشر المرحلة الثالثة من الأحاديث، وعلى مدار ثلاث سنوات بمشيئة الله تعالى نكون قد وصلنا للمرحلة الألفية وهي ألف وثمانون حديثًا مرتبة حسب درجات الصحة بدءًا من المتفق عليه.
721- «نَهَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المُلامَسَة(1) والمُنَابَذَةِ(2)». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
722- «يُنْهَى عن صِيامَينِ وبَيعتينِ: الفِطرِ والنَّحر، والمُلامَسَةِ والمُنابذةِ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
723- «نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن بَيعِ الثّمارِ حتى يَبدوَ صَلاحُهَا، نَهى البَائعَ والمُبتاعَ». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
724- «كَان تاجرٌ يُدَاينُ النَّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عنهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أن يَتَجَاوزَ عَنَّا، فَتَجَاوزَ اللَّهُ عنهُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
725- «مَن اقْتَنَى كلبًا إلا كَلْبَ مَاشيةٍ أو ضَارٍ(3) نَقَصَ مِن عَمَلِهِ كُل يومٍ قِيراطانِ». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
726- «لَمَّا أُنْزِلَ الآياتُ مِنْ سُورةِ البقرةِ في الرّبَا خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجدِ فَقَرَأَهُنَّ على النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ». [متفق عليه من حديث عائشة]
727- «قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أثْمَانَهَا». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
728- عن عمر قال: قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ». قال عُمر: فواللَّهِ ما حَلَفْتُ بها مُنذُ سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ذَاكِرًا ولا آثِرًا»(4). [متفق عليه من حديث عمر]
729- عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ، أنَّ رجلاً عضَّ يدَ رجلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فمهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فاخْتَصَمُوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يَعضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ(5)؟! لا دِيَةَ لَكَ». [متفق عليه من حديث عمران]
730- نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ. [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
731- عَنْ سَهْلِ بنِ سعدٍ قال: رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قال بأصْبَعَيْهِ هَكَذَا بالوُسْطَى والتي تَلِي الإبْهَامَ: «بُعِثْتُ والسَّاعَةَ كَهَاتينِ». [متفق عليه من حديث سهل]
732- عن عائشةَ قالت: مَا شَبِعَ آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، مُنْذُ قَدِمَ المدينةَ مِنْ طَعَامِ البُرِّ(6)، ثَلاثَ ليالٍ تِبَاعًا، حتى قُبِضَ. [متفق عليه من حديث عائشة]
733- عن عائشةَ قالت: «تُوفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَ شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: التمرِ والماءِ». [متفق عليه من حديث عائشة]
734- عن عُبيدِ اللَّهِ الخَوْلانيّ، أنَّهُ سَمِعَ عُثمانَ بنَ عفانَ يقولُ عِندَ قولِ الناسِ فيهِ، حين بَنَى(7) مَسْجِدَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم : إنَّكُمْ أكْثرْتُمْ(8)، وإنّي سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ». [متفق عليه من حديث عثمان]
735- «كلُّ أُمَّتِي مُعَافىً إلاَّ المُجَاهِرِينَ(9)، وإنَّ مِن المَجَانَةِ(01) أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بالليلِ عَملاً ثُم يُصْبِحَ وقد سَتَرَهُ اللَّهُ فيقول: يا فُلانُ عملتُ البارِحَةَ كذَا وكذَا وقد بَاتَ يَسْتُرُهُ ربُّهُ ويُصبحُ يكشفُ سِترَ اللَّهِ عنهُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
736- «خَيْرُ(11) دورِ الأنصارِ بَنَو النَّجارِ، ثُمَّ بَنُو عبدِ الأشْهَلِ، ثُمَّ بنُو الحَارِثِ بنِ خَزْرَجٍ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ وفي كُلِّ دُورِ الأنصارِ خيرٌ». [متفق عليه من حديث أبي أُسيد]
737- «إنَّ الأَشْعَرِيِّين إذا أَرْمَلُوا(12) في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعَامُ عِيالِهم بالمدينةِ، جَمَعُوا مَا كانَ عِنْدَهُم في ثَوبٍ واحدٍ ثمَّ اقْتَسَمُوهُ بينهُم في إناءٍ واحدٍ بالسّويةِ، فهُم مِنَي وأنَا مِنهم». [متفق عليه من حديث أبي موسى]
738- عَن أُمِّ سُليم قالَت: يا رسولَ اللَّهِ أنسٌ خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ له، قال صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وولدهُ وبارِك له فِيما أَعْطَيْتَهُ». [متفق عليه من حديث أنس]
739- عن مُحمدِ بنِ عَبَّادٍ قال: سألتُ جابرًا: نَهَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن صَوْمِ يَومِ الجُمعةِ؟ قال: نعم. [متفق عليه من حديث جابر](/1)
740- عن حُميدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، أنَّه سَمِعَ مُعاويةَ بنَ أبي سُفيانَ يومَ عاشوراءَ، عامَ حجَّ، على المِنبرِ، يقولُ: يا أهلَ المدينةِ أينَ علماؤكُمْ؟ سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: هَذا يومُ عاشوراءَ، ولم يُكتبْ عليكم صِيامُهُ، وأنا صَائمٌ، فمَن شاءَ فَلْيَصُمْ، ومَنْ شاءَ فَلْيُفْطِرْ. [متفق عليه من حديث معاوية]
741- «إذا وُضِعَ عَشَاءُ أحَدِكم وأُقِيَمتِ الصَّلاةُ فابدءُوا بالعَشَاءِ، ولا يَعْجَل حتَّى يَفْرُغَ مِنه». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
742- كَانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقرأُ علينَا السورةَ، فيها السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ ونَسْجُدُ حتَّى ما يَجِدُ أحدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ. [متفق عليه من حديث ابن عمر]
743- عن أبي رافع قال: «صَلَّيتُ مَع أبي هُريرةَ العَتَمَةَ(13) فَقَرَأَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ، فقُلْتُ: مَا هذه؟ قال: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أبي القاسِمِ صلى الله عليه وسلم ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى ألْقَاهُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
744- عَنْ رافعِ بنِ خَديج: «كُنا نُصلّي مَع النبيّ صلى الله عليه وسلم العَصْرَ، فَنَنْحَرُ جَزْورًا فَتُقَسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشمسُ». [متفق عليه من حديث نافع]
745- «تَفْضُلُ صلاةُ الجميعِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بخَمْسٍ وعشرينَ جُزءًا، وتجتمعُ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ في صلاةِ الفجرِ». ثم يقولُ أبو هريرةَ: فاقْرءُوا إن شئْتُم- إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(14) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
746- «لاَ حَسَدَ(15) إلا في اثْنَتَيْنِ: رجلٌ آتاهُ اللَّهُ مالاً فَسُلِّطَ على هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الحِكمةَ فهو يَقْضِي بِهَا ويُعلِّمُها». [متفق عليه من حديث ابن مسعود]
747- عَن أبي سعيدٍ، قال: أشهدُ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: «الغُسْلُ يومَ الجُمعةِ واجبٌ على كلِّ مُحتلِمٍ(16)، وأنْ يَسْتَنَّ(17)، وأنْ يَمسَّ طِيبًا، إنْ وَِجَدَ». [متفق عليه من حديث أبي سعيد]
748- عَن أبي هريرةَ قال: نَعَى لَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الحَبَشةِ، اليومَ الذي ماتَ فيه، فقالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأخِيكُم». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
749- عَن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «قَد تُوفِّي اليومَ رجلٌ صالحٌ مِن الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عليه». قال فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه ونحنُ صُفُوفٌ. [متفق عليه من حديث جابر]
750- عن أبي قَتَادَةَ بنِ رِبْعِيّ الأنصاري: أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بِجَنَازَةٍ فقالَ: «مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَراحٌ مِنهُ». قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ مِنهُ؟ قال: «العَبدُ المُؤمنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمةِ اللهِ، والعبدُ الفاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنه العِبَادُ وَالْبِلاَدُ والشَجَرُ والدَّوَابُّ ». [متفق عليه من حديث قتادة](/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
ألف حديث كل ثلاث سنوات
الحلقة السادسة والعشرون
751 ـ «إنَّ أَعَظَمَ المُسْلِمينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيءٍ لَمْ يُحَرّمْ فُحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ».
[متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص]
752ـ عَنْ أَنْسٍ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطٌ، قالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتمْ كَثْيرًا». قال: فَغَطى أصْحَابُ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنين(1)، فَقَالَ رجلٌ: مَنْ أَبي ؟ قالَ: «فُلانٌ». فَنَزَلتَ هَذه الآيةُ: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. [متفق عليه منحديث أنس]
753 ـ «وَلَيأتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمُ زَمَانٌ لأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِليهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
754 ـ «لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونسَ بنِ مَتَّى» وَنَسَبَهُ إلى أَبيه. [متفق عليه من حديث ابن عباس]
755 ـ عن أَبي هُريرةَ: قِيلَ يَا رسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ ؟ قالَ: «أَتقَاهُمْ». فقالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابنُ نَبيّ اللَّهِ ابنِ نبيّ اللَّهِ ابْنِ خَليلِ اللَّهِ». قالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قال: فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونَ ؟ خيارُهُم في الجاهليةِ خَيارُهمْ في الإسلامِ إذَا فَقُهُوا». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
756 ـ عَنْ عائشةَ قالَت: صَنَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا فَرَخَّصَ فيه، فَتَنَزَّهَ عنهُ قومٌ، فَبَلَغَ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثمَّ قالَ: «مَا بَالُ أقوامٍ يَتَنَزَّهون عَن الشيءِ أصْنَعُهُ ؟ فَوَاللَّهِ إنِّي لأَعلمُهم باللَّهِ وأشدُّهم لَهُ خَشْيَةً».
[متفق عليه من حديث عائشة]
757 ـ عَنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، قالَ: أَتَتْ امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إليهِ، قَالَت: أَرَأَيْتَ إنْ جِئْتُ ولَم أجِدْكَ؟ كأنَّها تقولُ: المَوْتَ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «إنْ لمْ تَجِديني فَأْتِي أبَا بكرٍ». [متفق عليه من حديث جبير]
758 ـ «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إنِّي لأَرَى الرَّيَّ يَخْرُجُ في أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ» قالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: «العِلْمُ». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
759 ـ عَنْ أَنَسٍ قالَ: جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنصارِ: أُبَيٌّ، ومُعَاذُ بنُ جبلٍ، وأبُو زَيْدٍ، وَزَيْدُ بنُ ثابتٍ. قُلْتُ لأنسٍ: مَنْ أبُو زَيْدٍ؟ قال: أَحَدُ عُمُومتِي. [متفق عليه من حديث أنس]
760 ـ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأُبَيٍّ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَني أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ - لَمْ يكُن الذينَ كَفَرُوا». قَالَ: وَسَمَّاني ؟ قالَ: «نَعَمْ». فَبَكَى. [متفق عليه من حديث أنس]
761 ـ «إِنَّ اللَّهَ تبارَكَ وتعالَى، إذَا أَحَبَّ عَبْدًا، نَادَى جِبريلَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا، فأحِبَّهُ، فَيحُبُهُ جِبريلُ، ثُمَّ يُنادِي جِبْرِيلُ في السَّماءِ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحبُّه أهلُ السَّماء، ويُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في أهْلِ الأرضِ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
762 ـ «نُارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّم». قيلَ: يَا رسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيةً قالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
763 ـ «هَلَكَ كِسْرَى ثُمَّ لاَ يكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبيلِ اللَّهِ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
764 ـ «لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤلاءِ المُعَذَّبينِ(2)، إلاَّ أَنْ تكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلُوا عَليهمْ، لا يُصِيبُكُمْ مَا أصَابَهُمْ». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
765 ـ «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ، سَجَنَتْهَا حَتَى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِي أطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ». [متفق عليه من حديث ابن عمر](/1)
766 ـ عَنْ ابنِ عمرَ قال: «كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ، فِيها السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى ما يَجِدُ أحدُنا مَوْضعَ جَبْهَتِهِ». [متفق عليه من حديث ابن عمر]
767 ـ عَن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قال: كَانَ رَجُلٌ في غُنَيْمةٍ لَهُ، فَلَحِقَهُ المُسْلِمُونَ، فقالَ: السَّلامُ عليكمُ. فَقَتَلُوهُ وأَخَذُوا غُنيمتهُ، فأَنزلَ اللَّهُ في ذلكَ، إلى قولِه: عرض الحياة الدنيا - تِلْكَ الغُنَيْمةُ. [متفق عليه من حديث ابن عباس]
768 ـ عَنْ أبي هريرةَ قالَ: سُئلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذرارِي(3) المُشرِكينَ، فقال: «اللَّهُ أعلمُ بِمَا كَانُوا عامِلينَ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
769 ـ «قيلَ لِبَني إسرائيلَ: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلى أَسْتَاهِهِمْ(4)، وقالُوا: حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
770 ـ عَنْ أبي مُوسَى قال: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رجلٍ ويُطْرِيهِ في مَدْحِهِ فقالَ: «أهْلَكْتُمْ (أوْ قَطَعْتُمْ) ظَهْرَ الرَّجُلِ». [متفق عليه من حديث أبي موسى]
771 ـ عن أبي بَكْرَةَ، قالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رجلٍ عِنْدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبكَ» مِرارًا. ثُمَّ قالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلانًا واللَّهُ حَسِيبهُ. ولاَ أزكيَ على اللَّهِ أحدًا. أحْسَبُهُ كَذَا وكَذَا، إنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ». [متفق عليه من حديث أبي بكرة]
772 ـ عن أبي هُريرةَ قالَ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم، مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، حَتَّى قُبِضَ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
773 ـ «أَلاَ أُحدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَن الدَّجَالِ، مَا حَدَّثَ بِهِ نَبيٌّ قَوْمَهُ ؟ إنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّهُ يجيءُ مَعَهُ بِمِثَالِ الجَنَّةِ والنَّارِ، فَالَّتي يقُولُ إنَّها الجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وإنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
774 ـ «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنْ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ». [متفق عليه من حديث حكيم بنِ حزام]
775 ـ عَنْ عائشةَ قالَتْ: «اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ. فَقَالَ: أتَحْتَجِبينَ مِني وأنَا عَمُّكِ ؟ فقُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأةُ أَخِي بَلَبِنِ أَخي». [متفق عليه من حديث عائشة]
776 ـ عَنْ عَائِشَةَ أنَّ أُمَّ حَبيبةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةَ رَأَتَاهَا بالحَبَشةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: «إِنَّ أولئكَ إذا كان فيهمُ الرجُلُ الصالحُ فَمَاتَ، بَنَوْا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيه تِلْكَ الصُّوَرَ، فأُولئكَ شِرَارُ الخَلقِ عند اللَّه يومَ القِيَامةِ ». [متفق عليه من حديث عائشة]
777 ـ عَنْ مُعَيْقيبٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: في الرَّجُلِ يُسَوِّي الترابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قالَ: «إنْ كُنْتَ فاعِلاً فَوَاحِدَةً».
[متفق عليه من حديث معيقيب]
778 ـ «لَيْسَ عَلَى المُسْلِم في فَرَسِهِ(5) وغُلامِهِ صَدَقَةٌ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
779 ـ لَيَأْتِينَّ علىَ النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فيه بالصَّدقَةِ مِنَ الذَّهبِ ثُمَّ لا يَجِدُ أحدًا يأخذُهَا مِنْهُ، ويُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ خَمسُونَ امرأةً يَلُذْنَ بِهِ، مِنْ قِلَّةِ الرِّجالِ وكثرةِ النِّسَاءِ. [متفق عليه من حديث أبي موسى]
780 ـ «إذَا أَوَى أحَدُكُمْ إلى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بَداخِلَةِ إزارِهِ، فإنَّهُ لا يَدْرِي ما خَلَفَهُ عليهِ، ثُمَّ يقولُ: باسْمِكَ رَبي وَضَعْتُ جَنْبي وبِكَ أرفعُهُ، إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحمهَا، وإنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْها بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحينَ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
(1) خنين: صوت مرتفع بالبكاء من الصدر.
(2) على هؤلاء المعذبين: هم قوم صالح، وكان هذا النهي لما مروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ديار ثمود في حال توجههم إلى تبوك.
(3) ذراري: أي أولادهم الذين لم يبلغوا الحلم. (4) أستاههم: أوراكهم.
(5) لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة(/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
ألف حديث كل ثلاث سنوات
الحلقة السابعة والعشرون
781- عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ نَجْرَانَ: «لأَبْعَثَنَّ -
يَعْني عَليكُمْ، يَعْني - أَمينًا حَقَّ أَمِين» فَأَشْرَفَ أَصْحَابُهُ،
فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ رضي الله عنه.
[متفق عليه من حديث حذيفة]
782- «خَيْرُ نِسَائِها
مَرْيُمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيَجةٌ».
[متفق عليه من حديث عليّ]
783- «كَمُلَ مِنَ الرّجَالِ
كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلاَّ آسِيَةٌ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ،
وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَان وَإِنَّ فَضْل عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ
الثَّرِيد(1) عَلَى سَائِر الطَّعَامِ».
[متفق عليه من حديث أبي موسى]
784- أَتَى جِبْرِيلُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، هَذه خَديجَةَ قَدْ أَتَتْ مَعَها إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ
طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإذَا هيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ
رَبِّهَا وَمنِّي وَبَشِّرْهَا بَبْيتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ(2)، لاَ
صَخَبَ(3) فِيهِ وَلاَ نَصَب(4)».
[متفق عليه من حديث أبي
هريرة]
785- عَنْ عَائِشَةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «أُريتُكِ في
المَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّك في سَرَقَةٍ(5) مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ:
هَذِهِ امْرَأتُكَ، فَأَكْشِفُ، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأقُولُ: إِنْ يَكُ
هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ». [متفق عليه من
حديث عائشة]
786- «يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرأُ عَلَيْكِ السَّلامَ».
فَقَالَتْ: وَعليه السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. تَرَى مَا لاَ
أَرَى. تُريدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم .
[متفق عليه من حديث عائشة]
787-
قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ».
[متفق عليه من حديث البراء]
788- عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هِجَاءِ المُشْرِكِينَ. قالَ:
«كَيْفَ بِنَسَبِي؟» فَقَالَ حَسَّانُ: لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ، كَمَا تُسَلُّ
الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِين».
[متفق عليه من حديث عائشة]
789- عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ قال:
حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أصِيبَ بالْحَرَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ زَيْدُ بْن أَرْقَمَ
- وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْني - يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يقولُ: «اللَّهُم اغْفِرْ للأَنْصِارِ وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ».
[متفق عليه من حديث زيد]
790- «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَ
أَكْذَبُ الْحَديثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلا تَجَسَسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا،
وَلاَ تَحاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونوا عِبَادَ
اللَّهِ إِخُوَانًا». [متفق
عليه من حديث أبي هريرة]
791- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَأذَنَ رَجُلٌ عَلَى
رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو العَشِيرةِ، أَوْ
ابْن العَشِيرَةِ». فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الكَلامَ. قُلْتُ: يَا رسُول
اللَّهِ، قُلْتَ: الذي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الكَلامَ. قَالَ: أَيْ
عائِشَةَ، إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أو وَدَعَهُ النَّاسُ
اِتَّقَاءَ فُحْشِهِ». [متفق
عليه من حديث عائشة]
792- عَن جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ
في المَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «أَمْسِكْ
بِنِصَالِهَا».
[متفق عليه من حديث جابر]
793-
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ
أَخَّرَ الظَّهْرَ إِلى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا،
فَإِذَا زَاغَت الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتحِلَ صَلَى الظُّهْرَ ثُمَّ
رَكِبَ». [متفق عليه من حديث أنس]
794-
«أرأيتم لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْسِلُ فِيه كُلَّ يَوْمٍ
خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟» قَالُوا: لا يُبْقي مِنْ
دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، يَمْحُو
اللَّهُ بِهِنَّ الخَطَايَا». [متفق عليه من حديث أبي
هريرة]
795- عَن المُغَيرةِ بنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ:
كُسِفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إنَّ
الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لاَ يَنُكسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ،
فَإذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ».
[متفق عليه من حديث
المغيرة](/1)
796- عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «قَالَ لَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الحُدَيْبِيَة: أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ». وَكُنَّا
أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. وَلْو كُنْتُ أُبْصِرُ اليَوْمَ لأَرَيْتُكُمْ
مَكَانَ الشَّجَرَةِ. [متفق عليه
من حديث جابر]
797- «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ
يُخْرِجُهُ إلاَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بأَن
يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يُرْجعَهُ إلى مَسْكَنْهُ الذِي خَرَجَ مِنْهُ مِنْ
أَجْر أَوْ غَنِيمةٍ». [متفق عليه
من حديث أبي هريرة]
798- «لاَ يَزالُ مِنْ أُمَّتي أُمَّةٌ قائمةٌ بِأمرِ
اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى
يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ».
[متفق عليه من حديث معاوية]
799- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَرَّ
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأةٍ تَبَكي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ
واصْبِرِي». قَالَتْ: إِلْيَكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبتي وَلَمْ
تَعْرِفهُ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فَأَتَتْ بَابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ
تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ؛ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: «إِنَّمَا
الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولىَ».
[متفق عليه من حديث أنس]
800- «إِذَا رَأى أَحُدُكُمْ جِنَازَةً، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا أو تُخَلِّفُهُ
؟ أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ».
[متفق
عليه من حديث عامر بن ربيعة]
801- «دَعَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ، فَقَالَ:
«هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْركُمْ؟» قَالُوا: لاَ، إلاَّ ابْنُ أُخْتٍ
لَنَا، قَالَ رَسُولُ اللِّهِ صلى الله عليه وسلم : «ابْنُ أَخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ».
[متفق
عليه من حديث أنس]
802- عَنْ أُمّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ، أَنَّ نَاسًا
اخْتلَفُوا عِنْدَهَا، يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ
بَعْضُهُم: هَوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلَتْ
إِليهِ بِقَدَحِ لَبْنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعيرِه، فَشَرِبَهُ.
[متفق عليه
من حديث أم الفضل]
803- «قَاتلَ اللَّهُ يَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الشُحُومُ(6) فَبَاعُوهَا وأَكَلُوا أَثْمَانَهَا». [متفق عليه من
حديث أبي هريرة]
804- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: بَلَغَ
عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاع خَمْرًا. فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا،
أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ،
حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجملوَها فَبَاعُوهَا». [متفق
عليه من حديث عمر]
805- «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيكُمْ عُقُوقَ
الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِه لكم قِيلَ
وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ».
[متفق عليه
من حديث المغيرة بن شعبة]
806- «إِنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ، في بَعْضِ مَغَازِي
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً؛ فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ
والصِّبْيان».
[متفق عليه من حديث ابن عمر]
807- «لاَ يَقْتَسِمْ وَرَثَتِي
دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ، بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي،
فَهُو صَدَقَةٌ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
808- عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
رأى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجلاً يَسْرقُ، فقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ:
كَلاَّ، واللَّهِ الذي لاَ إله إلاَّ هُوَ، فقالَ عِيسَى: آمَنْتُ باللَّهِ
وَكَذَّبْتُ عَيْنِي».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
809- عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الخُزَاعِي
قال: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ أَكْثَرُ ما كُنَّا قَطُّ، وآمَنَهُ
بِمِنَى رَكَعَتيْن».
[متفق عليه من حديث حارثة]
810- عَنْ عُمَرَ، قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطيني العَطَاءَ فأقُولُ: اعْطِهِ مَن هُوَ
أَفْقَرُ إليهِ مِنيِّ، فَقَالَ: خُذْهُ، إذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ
شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لاَ، فلا
تُتْبِعْهُ نَفْسَك». [متفق عليه من حديث عمر]
811- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
«قَالَ سُلَيْمانُ بْنُ دُاودَ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ
امْرَأَةً، تَحْملُ كُلُ امْرَأةٍ فَارِسًا يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَلمْ تَحملْ(/2)
شَيئًا، إلاَّ وَاحِدًا سَاقِطًا إحْدَى شِقَّيْهِ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَو
قَالَها لجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة] اهـ.
(1) الثريد: كانوا يعملون الثريد
فيما طبخ باللحم.
(2) قصب: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف.
(3) الصخب: الصوت
المختلط المرتفع.
(4) النصب: المشقة والتعب.
(5) سَرَقة: هي القطعة من
الحرير.(/3)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
إعداد/ علي حشيش
ألف حديث كل ثلاث سنوات
الحلقة الثامنة والعشرون
812- عَنْ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ:
جَاءَ أَعْرَابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا
نُقَبِّلُهُم، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَ أَمْلِكُ(1) لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ
مِنْ قَلْبِكَ الرَّحَمَةَ».
[متفق عليه من حديث عائشة]
813- عَنْ أَبي هُرْيرةَ رضي اللَّهُ عنه قالَ: بَيْنَا
نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ،
رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأ إلى جَانِبِ قَصْرٍ،
فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القَصْرُ ؟ فَقالُوا: لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ.
فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا». فَبَكَى عُمَرُ وقَالَ:
أَعَلَيَكَ أَغَارَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
814- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي اللَّهُ عنه قال:
كُنَّا نُرْزَقُ(2) تَمْرَ الجَمْع، وَهُوَ الخَلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وَكُنَّا
نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ وَلاَ
دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَم».
[متفق عليه من حديث أبي سعيد]
815- عَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها، أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَحِلُّ
لِلأَوَّلِ ؟ قالَ: «لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأولُ».
[متفق عليه من حديث عائشة]
816- عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ
إلاَّ راجَعَتْ فِيهِ حَتى تَعْرفَهُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ
حُوسِبَ عُذِّب». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ
تعَالَى «فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسيرًا»؟ قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّما
ذَلِكَ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مِنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ».
[متفق عليه من حديث عائشة]
817- عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْمَةُ: دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ،
طُولُهَا فِي السَّمَاءِ: ثَلاثُونَ مِيْلاً، فِي كلِّ زَاوِيةٍ مِنْهَا
لِلْمُؤْمِنِ أَهْلٌ، لاَ يَرَاهُمُ الآخَرُونَ».
[متفق عليه من حديث أبي موسى]
818- عَنْ ابْن مَسْعُودٍ: كَانَ
يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلَِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحَمنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا
إنَّهُ يَمْنَعني مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي
أَتَخَوَّلُكُمْ(3) بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا
بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
[متفق عليه من حديث ابن مسعود]
819- «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إلاَّ يَمَسُّهُ الشَيْطَانُ حِينَ يُولَد،
فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وابْنِهَا».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
820- «بَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهمْ قُمُصٌ، مِنْهَا
مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ(4)، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ
عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ». قَالُوا: فَمَا
أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ».
[متفق عليه من حديث أبي سعيد]
821- «لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ،
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزِانَتُهُ
فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ
أطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلاَّ بِإِذْنِهِ».
[متفق عليه من حديث ابن عمر]
822- «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ
واليَوْمِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ،
والضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلاَ
يَحلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ(5) عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ».
[متفق عليه من حديث أبي شريح الكعبي]
823- «كَانت بنوا إسرائيل
تَسُوسُهُمُ الأَنْبَياءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ،
وَإِنَّهُ لاَ نَبِيّ بَعْدِي، وَسَيكُونُ خُلَفَاءُ فَيُكْثُرونَ». قالُوا:
فَمَا تَأَمُرنَا؟ قَالَ: فُوا(6) بَبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ،
أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا
اسْتَرْعَاهُمْ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
824- «الخَيْلُ مَعْقُودٌ في
نَواصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الأَجْرُ والمَغْنَمُ».
[متفق عليه من حديث عروة البَارقي](/1)
825- «الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
[متفق عليه من حديث سهل بن سعد]
826- «كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ
خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيرٍ فَطِيمٌ، قَالَ:
وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ(7)؟»
قَالَ: نُغَرٌ كَانَ يَلعَبُ بِهِ.
[متفق عليه من حديث أنس]
827- «الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ(8) جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بالمَاءِ».
[متفق عليه من حديث رافع بن خديج]
828- «وَيَقُولُونَ الكَرْمُ، إِنَّمَا الكَرْمُ قُلْبُ
المُؤْمِنِ»(9).
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
829- «وَالْذِي نَفْسِي بَيِدِهِ لأَذُودَنَّ رِجَالاً عَنْ حَوْضِي
كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبةُ مِنَ الإِبِلِ عَنْ الحَوْضِ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
830- عَنْ سَعْدِ بْن أَبي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلاَنِ، يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ،
عَلَيْهِمَا ثِيابٌ بيضٌ، كَأشدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ».
[متفق عليه من حديث سعد]
831- عَنْ أَنسٍ أَنَّ يَهُوديةً أَتَتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ
مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِئَ بِهَا، فَقِيلَ، أَلا تَقْتُلُهَا ؟
قَالَ: «لاَ» قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ(01) رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم».
[متفق عليه من حديث أنسٍ]
832- «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثِلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، جَعَلَ الْفَرَاشُ، وَهذهِ الدَّوابُّ
التي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ الرجل يَزَعُهُنَّ
وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتحِمْنَ فِيها، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عن النَّارِ
وأَنْتُم تَقَحَّمُونَ فيها».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
833- «مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنبياءِ: كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَأكْمَلَهَا
وَأَحْسَنَهَا إلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدخُلُونَهَا
وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ: لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ. قال: «فأنا
اللَّبِنَةُ وأنا خَاتَمُ النبيين».
[متفق عليه من حديث جابر بن عبد اللَّه]
834- «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَلَيُرْفَعَنَّ رِجَالٌ
مِنْكُمْ، ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي،
فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
[متفق عليه من حديث عبد اللَّه بن مسعود]
835- «عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانت تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَع، قالَ: فإذَا نَامَ
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ، فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورةٍ،
ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ»(11).
[متفق عليه من حديث أنس]
836- «كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ،
لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شحْمَةَ أُذُنِهِ: رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ، حَمْرَاءَ
لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ».
[متفق عليه من حديث البراء بن عازب]
837- «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِندَ
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ(21) مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إليَّ، فَيَلْعَبْنَ مَعِي».
[متفق عليه من حديث عائشة]
838- «اسْتَقْرِئُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ
مَسْعُودٍ». فَبَدأَ بِهِ، «وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وأُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ، ومُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ».
[متفق عليه من حديث عبد اللَّه بن عمرو]
839- «اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً
إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
840- «عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ
عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ:
ذَكَرْتُهُ فِي نَفسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ
خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ
ذِرَاعًا، وإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِليهِ بَاعًا،
وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
(1) أَوَ أملك لك: الهمزة الأولى للاستفهام.
أي: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها اللَّه منك.
(2) نرزق: نعطى.
(3) أتخولكم: أتعهدكم. (4) الثُدِيَّ: جمع ثَدْي. (5) يثوي: أي يقيم.
(6) فُوا: أمر من الوفاء.(/2)
(7) النُّغَيْر: تصغير نُغَر، وهو طائر صغير أحمر
المنقار يشبه العصفور.
(8) فوح جهنم: الفوح هو الفيح وزنًا ومعنى، أي شدة حرها
وغليانها.
(9) الكَرْم قلب المؤمن: لما فيه من نور الإيمان وتقوى الإسلام.
(10) لهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة المعلقة في أصل الحنك.
(11) السُّك: طِيب.
(12) يَتَسَتَّرْنَ(/3)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار (92)
إعداد/ علي حشيش
ألف حديث كل ثلاث سنوات
148 ـ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ البيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلَتْ لَهُ خَلْفًا». [متفق عليه من حديث عائشة]
248 ـ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَح، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: يَا غُلامُ! أَتَأْذَنُ لي أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟» قَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ». [متفق عليه من حديث سهل]
348 ـ «الْكَمْأَةُ(1) مِنَ الْمَنِ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعيْن». [متفق عليه من حديث سعيد بن زيد]
448 ـ عَنْ جَابِرٍ بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَجْنِي الكَبَاثَ(2) وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ». قَالُوا: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: «وَهَلْ مِنْ نَبِيٍ إِلا وَقَدْ رَعَاهَا؟».
548 ـ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ والزُبَيْر في قَمِيصٍ مِن حَرِيرٍ مِنْ حَكْةٍ كَانَتْ بِهِمَا.
[متفق عليه من حديث أنس]
648 ـ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَيُّ الثِّيَابِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْحِبَرَة(3). [متفق عليه من حديث أنس]
748 ـ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: أَخْرَجَتْ لَنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وإزارًا غليظًا، فقالت قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ.
[متفق عليه من حديث عائشة]
848 ـ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ(4)، وَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ في يَدِ أَبِي بَكْر، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ، فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ. نَقْشُهُ: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».
[متفق عليه من حديث ابن عمر]
948 ـ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُب، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُون كِتَابًا إِلا مُخْتُومًا. فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَةٍ نَقْشُهُ «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. [متفق عليه من حديث أنس]
058 ـ «لا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلِ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
158 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي المَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى.
[متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد]
258 ـ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَِبي هُرَيْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ فَرَأَى في أَعْلاهَا مُصَوَّرًا يُصَوِّرُ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قال الله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
358 ـ «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّة».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
458 ـ «رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوةِ». [متفق عليه من حديث عبادة الصامت، ومن حديث أنس كذلك]
558 ـ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟».
[متفق عليه من حديث سَمْرَةَ بْنِ جُنْدَبِ]
658 ـ قَال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» يَوْمَ الأَحْزَابِ. قَالَ الزُّبَيْرِ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «مَن يَأتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْر: أَنَا، فَقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِي حَوَارِيًا وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ». [متفق عليه من حديث جابر]
758 ـ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلا رَآنِي إلا تَبَّسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيّا».(/1)
[متفق عليه من محديث جرير]
858 ـ «لا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ولِذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَلا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ». [متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود]
958 ـ إنَّ رَجُلا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قال: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ في الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» قال قَتَادَةَ راوي الحديث عن أنس: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا». [متفق عليه من حديث أنس]
068 ـ «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «وَلا أَنَا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ. سَدِّدُوا». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
168 ـ «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ». وَذُو الْخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة. [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
268 ـ «يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
368 ـ «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
468 ـ «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمُجَانُّ المُطْرَقَةُ». [متفق عليه من حديث أبي هريرة]
568 ـ «يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ» قَالُوا: فَمَا تَأمُرُنَا؟ قَالَ: «لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزلُوهُمْ».
[متفق عليه من حديث أبي هريرة]
668 ـ إِنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِئَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلا تَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لا» قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم». [متفق عليه من حديث أنس]
768 ـ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ». [متفق عليه من حديث ابن مسعود]
868 ـ «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لا يُغنِيَ عَنْهُ زَرْعًا ولا ضَرعًا؛ نَقَصَ كلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ».
[متفق عليه من حديث سفيان بن أبي زهير]
968 ـ «عن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: احْتَجَمَ. وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ». [متفق عليه من حديث ابن عباس]
078 ـ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمُ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعَةَ».
[متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله]
(1) الكمأة: واحدها كمء وهو نبات يقال له (شَحم الأرض).
(2) الكباث: ثمر الأراك النضيج.
(3) الحبرة: بوزن العِنَبَة. برد يماني يصنع من قطن أو كتان مخطط.
(4) من ورق: من فضة.(/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار (30)
إعداد/ علي حشيش
ألف حديث كل ثلاث سنوات
871- «نِعْمَتَانِ مَغْبونٌ(1) فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفَراغُ».
[أخرجه(2): خ(6412)، ت (2304)، هـ (4170)، حم (1/344) من حديث ابن عباس]
872- عن ابْن عَمرَ قال: أَخَذَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي فقالَ: «كُنْ في الدُّنيا كَأَنَّكَ غَريبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يقُولُ: «إذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وإذَا أصْبَحتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمرضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ». [خ (6416)، ت (2333)، هـ (4114)، حم (2/24، 132) من حديث ابن عمر]
873- «أَعْذَرَ(3) اللَّه إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَه حَتَّى بَلَّغَهُ سِتينَ سَنَةً». [خ (6419)، حم (2/275) من حديث أبي هريرة]
874- «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أحَبَّ إليْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِه».
[خ (14)، ن (5015) من حديث أبي هريرة]
875- «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مال المُسْلِمِ غَنَمٌ يتبعُ بِهَا شَعَفَ(4) الجِبالِ، وَمَواقِعُ الْقَطْرِ يَفرُّ بدينهِ مِنَ الفِتَنِ». [خ (19، 3300، 3600، 7088)، د (4276)، هـ (3980)، ن (5036)، حم (3/6، 30، 43، 57) من حديث أبي سعيد الخدري]
876- «إنَّ الدِّين يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ(5) الدِّينَ أحدٌ إلاَّ غَلَبهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا واسْتَعينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَة وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»(6). [خ (39، 5673، 6463، 7235) من حديث أبي هريرة]
877- عَنْ عُبَادَهِ بنِ الصَّامِت أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ المُسْلِمينَ فَقَالَ: «إنَِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُم بِلَيْلَةِ القَدْرِ وإنَّهُ تَلاحَى فَلانٌ وفُلانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، التَمِسُوها في السَّبع والتسع والخَمْسِ». [خ 49، 2023، 6049]، مالك (705)، الدارمي (1781) من حديث عبادة]
878- عَنْ أنسٍ عَن النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَنَّهُ كَانَ إذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثًا، وإذا تَكلَّمَ بِكلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا».
[خ (94، 95، 6244)، ت (2723، 3640) من حديث أنس]
879- عَن أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الحُجَرِ(7) فَرُبَّ كاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ».
[خ (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069)، ت (2196) من من حديث أم سلمة]
880- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «تَوَضَّأَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةَ مَرَّة». [خ (157)، ت (42)، د (138)، ن (80، 101) من حديث ابن عباس]
881- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : «تَوضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ». [خ (158)، حم (4/41) من حديث عبد اللَّه بن زيد]
882- إنَّ رَجُلاً قالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَتسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ واستَنثَرَ ثَلاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا؛ ثمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْن إلى المِرْفَقَيْن، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ، بَدَأ بِمُقَدَّمِ رَأسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدّهُمَا إلى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيُهِ».
[خ (185، 186، 191، 192، 197، 199)، هـ (434) من حديث عبد اللَّه بن زيد]
883- عَن ابْنِ عُمَرَ عَنْ سَعْدِ بنِ أبي وقاصٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه مَسَحَ عَلَى الخُفَّينِ، وأنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَن ذَلِكَ فقالَ: نَعَمْ إذَا حَدَّثُكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَه.
[خ (202)، حم (1/15) من حديث سعد]
884- عَنْ عَمرِو بنِ أميةَ قالَ: رَأَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ.
[خ (205)، هـ (562) من حديث عمرو بن أمية]
885- «إذا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأ». [خ (213)، حم (3/150) من حديث أنس](/1)
886- «إذا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ واحتملها الرجالُ عَلَى أَعْنَاقِهمْ فَإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قالتْ: قَدِّمُوني، وإنْ كانتْ غيرَ صالحةٍ قالت يَا ويلَهَا أَيْنَ يَذْهَبِونَ بها؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسانُ، وَلْو سَمِعَ الإنسان لَصُعِقَ». [خ (4131، 1316، 1380)، حم (3/41) من حديث أبي سعيد الخدري]
887- عَن ابنةِ خَالدِ بنِ سعيدِ بنِ العاصِ أنَّها سَمِعتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُو يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
[خ (1376، 1364)، حم (6/364) من حديث ابنة خالد بن سعيد]
888- عَن البَراءِ قال: لَمَّا تُوفّيَ إبراهيمُ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ لَهُ مُرْضِعًا في الجنَّةِ».
[خ (1382، 3255، 6195)، حم (4/300، 302) من حديث البراء]
889- «لأَنْ يَأخُذَ أحدُكُمْ حَبْلَهُ فَيأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيبيعَهَا فَيكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنعُوهُ». [خ (1471، 2075، 2373)، هـ (1836) من حديث الزبير بن العوام]
890- «لَيأْتِينَّ على الناسِ زَمَانٌ لا يُبالي المَرْءُ بِمَا أخذَ المَالَ أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرامٍ».
[خ (2083، 2059)، ن (7/243) (4454) من حديث أبي هريرة]
891- «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرَابِ أَحَدِكُم فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فإنَّ في إحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً والأُخْرَى شِفَاءً».
[خ (3320، 5782)، د (3844)، هـ (3505) من حديث أبي هريرة]
892- «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحَسَنَ والحُسَينَ وَيَقُولُ: «إنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَما إسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّة مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ».
[خ (3371)، ت (2060)، (4737)، هـ (3525) من حديث ابن عباس]
893- «الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحَاقَ بنِ إبَرَاهِيمَ عَليهمُ السَّلامُ». [خ (3382، 3390، 4688)، ت (3116) من حديث ابن عمر]
894- «إنَّما سُمِّيَ الخَضِرَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ».
[خ (3402)، ت (3151) من حديث أبي هريرة]
895- «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». [خ (3461)، ت (2669) من حديث عبد اللَّه بن عمرو]
896- «إِنَّه قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُون(1) وإنَّهُ إِنْ كَانَ في أُمَّتِي هذه مِنْهم فَإِنَّه عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ». [خ (3469، 3689)، حم (2/339) من حديث أبي هريرة]
897- «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ».
[خ (3483، 3484، 6120)، د (4797)، هـ (4183) من حديث عقبة بن عمرو]
898- «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الخُيَلاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ».
[خ (3485، 5790)، ت (2461)، ن (5326) من حديث ابن عمر]
899- «أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُم ؟ يَشْتُمونَ مُذَمَمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَمًا وأَنَا مُحَمَّدٌ». [خ (3533)، ن (3438) من حديث أبي هريرة]
900- «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إلى جِذْعٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ».
[خ (3583)، ت (505) من حديث ابن عمر]
(1) رموز «دُرر البحار» (خ): البخاري، (م) مسلم، (د) لأبي داود، (ت) للترمذي، (ن) للنسائي، (هـ) لابن ماجه، (حم) لأحمد -: وهذه المجموعة من أفراد البخاري.
(2) مغبون فيهما: أي ذو خسران فيهما حيث لا ينتفع بالصحة والفراغ كالمغبون في البيع.
(3) أعذر: الإعذار أزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار. (4) شعف: جمع شعفة وهي رؤوس الجبال.
(5) المشادة: المغالبة، والمعنى الشطح في الدين. (6) الدلجة: سير آخر الليل.
(7) الحُجَر: منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .(/2)
درر البحار من صحيح الأحاديث القصار
إعداد : علي حشيش
ألف حديث كل ثلاث سنوات
في مشروع حفظ السنة "درر البحار من صحيح الأحاديث القصار" وعلى مدار العام الماضي تم نشر 360 حديثًا.
وفي هذا العام نواصل نشر المرحلة الثانية من الأحاديث، وعلى مدار ثلاث سنوات بمشيئة الله نكون قد وصلنا للمرحلة الألفية وهي ألف وثمانون حديثًا مرتبةً حسب درجات الصحة بدءًا من المتفق عليه.
361 "لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِج(1) النَّار". {متفق عليه من حديث علي}
362 "إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أحدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتعمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ(2) مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
{متفق عليه من حديث المغيرة}
363 "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللّهُ، فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَا لَهُ إِلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
364 أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلا اللّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، ويُقيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ".
{متفق عليه من حديث ابن عمر}
365 "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتونَ شُعْبَةً(3)، والْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيَمانِ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
366 "إنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : "دَعْهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإيمَان". {متفق عليه من حديث ابن عمر}
367 "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بَاللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
368 عَنْ جَرِيرِ بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بايَعْتُ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي "فِيمَا اسْتَطَعْت" وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ". {متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله}
369 أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةً مِنَ النِّفَاقِ حَتَى يَدَعَهَا: إِذا اؤتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَمَ فَجَرَ(4)".
{متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو}
370 "أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ وَالحكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
371 "مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتَهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرَوحٌ مِنْهُ، وَالجَنْةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَل". وَزَادَ أَحد رِجَال السند "من أَبْوَابِ الجَنةِ الثَمَانِيةِ أَيِّها شاء". {متفق عليه من حديث عبادة}
372 "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا(5)". {متفق عليه من حديث أبي موسى}
373 "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبْ لَهُ بِمِثْلها". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
374 "كَيْفَ أَنَتُمْ إِذَا نَزَل ابْنُ مَرْيمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
375 "وَالْذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، ويَفِيضَ المَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
376 عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ(6) مِنْ نَارٍ وَلَوْلا أَنَا لَكَانَ في الدَرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ". {متفق عليه من حديث العباس}(/1)
377 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَال: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُه". {متفق عليه من حديث أبي سعيد}
378 "كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَشَوصُ(7) فَاهُ بالسِّوَاكِ". {متفق عليه من حديث حذيفة}
379 "إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ". {متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري}
380 "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدّائِم الَّذِي لا يَجْرِي ثَمَّ يَغْتَسِلْ فِيهِ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
381 "كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إِذَا تَبَّرَزَ(8) لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيغْسِلُ بِهِ". {متفق عليه من حديث أنس}
382 "إِنَّ أَعْرَابِيّا بَالَ فِي المَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : "لا تُزْرِمُوهُ"(9) ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ". {متفق عليه من حديث أنس}
383 قال النبي صلى الله عليه وسلم : بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ".
{متفق عليه من حديث عبد الله بن مُغَفَّلٍ}
384 "إِذَا قَالَ الإِمَامُ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالّينَ فَقُولُوا: آمِين، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
385 "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وَقَالَتْ المَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الأخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
386 عن أبي بَكْر الصِّدِّيق رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ لرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِّمْني دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي. قَالَ: "قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذَّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ". {متفق عليه من حديث أبي بكر}
387 "مَا بَيْنَ مِنْكَبَي الكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ المُسْرِعِ". {متفق عليه من حديث أبي هريرة}
388 "إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم : مَتَّى السَّاعَةُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ، وَلا صَوْمٍ، وَلا صَدَقَةٍ. وَلكِنِّي أَحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".
{متفق عليه من حديث أنس}
389 "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بطَريقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغفَر لَهُ".
{متفق عليه من حديث أبي هريرة}
390 "يا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامِ" فَقَالت: وَعَليهِ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُه ترى ما لا نرى تريد النبي صلى الله عليه وسلم .. {متفق عليه من حديث عائشة}
الهوامش:
(1) فليلج النار: فليدخل النار. (2) فليتبوأ: فليتخذ لنفسه منزلا.
(3) الشعبة: الطائفة من الشيء. (4) فَجَر: مال عن الحق وقال الباطل.
(5) من شروط المتفق عليه: الاتفاق في الراوي الأعلى وأوردناه هنا للاتفاق من حديث أبي موسى، وقد جاء أيضا من حديث ابن عمر وهذا معروف في المصلح تعدد الأحاديث بتعدد المتن والراوي الأعلى واحد والعكس ومثل هذا سننبه عليه إن شاء الله.
(6) الضحضاح: مارق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين فاستعير للنار. (7) يشوص: يدلك أو يغسل أو يحك.
(8) تَبّرز: خرج إلى البراز وهو اسم للفضاء الواسع فكنوا به عن قضاء الحاجة.
(9) لا تزرموه: لا تقطعوا عليه بول(/2)
دروس تربوية من الهجرة النبوية
إعداد : معاوية محمد هيكل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي تاريخ الأفراد والأمم والجماعات أحداث لها أثرها ودورها البالغ في تغيير دفة الحياة وتاريخ أمتنا- التي نعتز بها ونفتخر- يزخر بالأحداث العظام التي غيرت وجه التاريخ، ولعل من أبرزها وأعظمها أثرًا على الإطلاق في حياة الأمة حادث الهجرة المباركة، فالهجرة لم تكن حدثًا عاديًا ولا عابرًا كغيره من أحداث التاريخ، بل كانت بمثابة محور الارتكاز ونقطة الانطلاق والتحول، والحد الفاصل في مصير هذا الدين العظيم ومساره، وإيذانًا بميلاد فجر جديد لدولة التوحيد، أشرق على الكون نوره بعد مخاض ليل طال على الأتباع معاناته وآلامه.
ونظرًا لهذه المكانة السامية التي تبوأتها الهجرة النبوية واحتلتها كأعظم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد اعتبره المسلمون الأوائل معلمًا بارزًا من أهم معالم حضارتهم، فأرخوا به لأحداثهم ووقائعهم، ولم يؤرخوا بتأريخ غيرهم، حفاظًا على هويتهم واستقلالهم وتميزهم.
وحَدَثٌ هذا شأنه حري بنا وجدير أن نقف على معانيه، نستلهم منه الدروس والعظات والعبر.
أولاً: الهجرة سنة ماضية:
فبهذه الهجرة تمت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سنة إخوانه من الأنبياء، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته وأخرجه أهلها فهاجر عنها من لدن إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم- أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في ذات الله.
قال تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا {إبراهيم: 13}، وقال تعالى عن قوم لوط: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون {النمل: 56}، وقال تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {الأنفال: 30}.
ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : "ليتني فيها جذع ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك". فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أَوَ مخرجي هم؟" قال: نعم؛ لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
{الحديث رواه البخاري (1-30، 31)}
ثانيًا: في الهجرة تأمين للدعوة وحماية للدين:
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بين قومه إلا بعد أن تمالأ المشركون على قتله، منعًا له من الدعوة إلى الحق، كما أوصلوا إليه ما لا يحتمله غيره من الأذى، وفي هذا عبرة لمن دعا إلى دينه أن يصبر على أذى المدعوين، حتى يخشى على نفسه الهلاك فيفر بدينه إلى حيث يرجو أن تثمر دعوته.
فحيثما كان العبد في مكان لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله.
هجرة الموحدين المضطهدين.. جهاد لا فرار:
فهجرة الموحدين المضطهدين بدينهم في كل زمان ومكان ليست هروبًا ولا نكوصًا ولا هزيمة، إنما هو تربص بأمر الله، حتى يأتي أمر الله.
فقد خرج أصحاب الكهف من الدنيا على رحابتها إلى كهف ضيق فرارًا بدينهم، واعتزالاً للشر وأهله، وخروجًا من الواقع السيئ، وطلبًا للسلامة، فكانت هجرتهم محمودة ومشروعة، وكذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم هاجروا من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة تاركين أوطانهم وأرضهم وديارهم وأهاليهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
دروس للدعاة
لذلك فإن الهجرة تعلمنا درسًا هامًا، وهو كيف أن على الدعاة إلى الله أن يبحثوا دائمًا عن أماكن خصبة للدعوة.
ثالثًا: العقيدة هي الدافع والأساس:
أثبتت الهجرة النبوية أن الدعوة والعقيدة يتنازل لهما عن كل حبيب وعزيز وأليف وأنيس، وعن كل ما جبلت الطباع السليمة على حبه وإيثاره والتمسك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء.
وقد كانت مكة- فضلاً عن كونها مولدًا ومنشأ للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- مهوى الأفئدة والقلوب ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبه منهم مجرى الروح والدم، ولكن شيئًا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة وتنكر لها أهلها، وقد تجلت هذه العاطفة المزدوجة عاطفة الحنين الإنساني وعاطفة الحب الإيماني في كلمته التي قالها مخاطبًا مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". {صحيح الترمذي: 3082}. وذلك عملاً بقوله تعالى: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون {العنكبوت: 56}.
رابعًا: معية الله وحفظه وتأييده لأنبيائه وأوليائه:(/1)
قال الله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم {التوبة: 40}، فالله عز وجل أرحم بنبيه وصاحبه من أن يجعلهما نهبًا لعدوهما، كما تؤكد الآية كذلك حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ونصره وتأييده حين تخلت عنه قوة الأرض، والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإن كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في فخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش عظيم، وما يعلم جنود ربك إلا هو {المدثر: 31}.
فتعمية أبصار المشركين عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار "ثور" وهم عنده، مثل تخشع له القلوب من أمثلة عناية الله بأنبيائه ورسله ودعاته وأحبائه، فما كان الله ليوقع رسوله صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين، فيقضوا عليه وعلى دعوته، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وليس في نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في غار ثور إلا تصديق قوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر: 51}، وقوله تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا {الحج 38}.
فالدعاة إلى الله بحاجة دائمًا إلى أن يكون راسخًا في أعماقهم عون الله لهم حين تعجز قوتهم البشرية عن إدراك ما يخطط لهم العدو بعد استنفاد الطاقة واستفراغ الوسع، وأن تكون لديهم القناعة التامة، أن النصر أولاً وأخيرًا من عند الله. قال تعالى: وما النصر إلا من عند الله {آل عمران:126}.
خامسًا: يتجلى في الهجرة بروز عنصر التخطيط وأهميته في حياة المسلمين:
فكان الهدف محددًا والوسائل كذلك والعقبات مأخوذة بالحسبان واختيار الطريق والمكان والتموين ومن يحمل الأخبار والدليل، كل ذلك مُؤَمَّنٌ مع إحاطة ذلك بالسرية والحيطة والحذر، وكل ذلك ينبئ عن تخطيط وتنظيم وترتيب لا مثيل له.
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
فالأخذ بالأسباب مطلوب ومشروع ولا ينافي ذلك الإيمان والتوكل على الله، فعدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، والاعتماد على الأسباب قدح في التوحيد، لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحكم خطة هجرته وأعد عدته، فأعد الراحلتين وترك عليًا مكانه، وسلك الطريق الجنوبي للتغرير بالمشركين، واستأجر ماهرًا خبيرًا يدله على الطريق، وكانت أسماء رضي الله عنها تأتيهما بالطعام، ودخل غار ثور، فعل ذلك وهو النبي المؤيد من ربه.
فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة أن يقوم بها كأنها كل شيء في الحياة، ثم يتوكل بعد ذلك على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بإذن الله، فإذا استفرغ المرء جهده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يعاقبه على هزيمة بلي بها، وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيبًا حسنًا، ثم يجيء عون الله أعلى فيجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
سادسًا: التضحية والفداء:
ومن دروس الهجرة: أن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة في بياته على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول اللَّه #؛ إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقامًا منه، لأنه سهل للرسول صلى الله عليه وسلم النجاة، ولكن عليا لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة.
وكذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه، فقد تجلى من معاملته لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحب الصادق والتضحية بالنفس، وتجلى هذا في دخول الغار وعند الخروج منه وفي الطريق حينما كان يمشي تارة خلفه، وتارة أمامه، وتارة عن يمينه.
وهذه أمثلة في التضحية والفداء يندر أن نرى لها في الدنيا نظيرًا، ولكنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
سابعًا: مظاهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم واستقبال أهل المدينة له:
تكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً.(/2)
قال ابن القيم رحمه الله واصفًا هذه المشاعر النبيلة: وبلغ الأنصار مخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حمي حر الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شانه فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مُبيَّضين، يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وسُمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبّر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مُطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير {التحريم: 4}. {زاد المعاد 3-52}
ثامنًا: الأخوة الصادقة وأمثلة نادرة:
قال تعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون {الحشر: 9}.
ففي مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية والأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاءوا إلى المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم، فكان أن حمل الأخ أخاه، واقتسم معه سراء الحياة وضراءها، وأنزله في بيته، وأعطاه شطر ماله، فأية أخوة في الدنيا تعدل هذه الأخوة.
لذلك أثنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأنصار ثناءً عظيمًا بعد ثناء الله عليهم فقال: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار". {البخاري: 3779}، وقال أيضًا: "لو سلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم". {البخاري: 3778}.
تاسعًا: الهجرة والإصلاح المنشود:
قال العلامة محب الدين الخطيب: لو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت جناح أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنوده، لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة
والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا شرائعه وآدابه في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم، ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل المشروعة لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين به من البيت وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنين وبنات، ومتعاونين عليه مع من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عم هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل هذه الآثار التي كانت لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبي معبد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد مضت الهجرة بأهلها". قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير. قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع فقال: صدق.
وفي كتب السنة وبعضه في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المهاجر من هجر السيئات". فإلى الهجرة أيها المسلمون، إلى هجر الخطايا والذنوب إلى هجر ما يخالف تعاليم الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا، إلى هجر الضعف والبطالة والإهمال والترف والكذب والرياء ووضع الأشياء في غير موضعها. {من إلهامات الهجرة: ص11- 14}
فهل تأخذ الأمة من دروس الهجرة زادًا إيمانيًا تستعيد به مجدها المفقود، وهل نسترد دور الهجرة في حياتنا لنستأنف دورنا المنشود في قيادة البشرية من جديد، هذا ما نأمله ونرجوه.
نسأل الله أن يوفقنا لسلوك سبيل المؤمنين، وأن يعز الله بنا الدين كما أعزه بالسابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين، وأن يجمعنا بهم مع سيد الأولين والآخرين يوم يقوم الناس لرب العالمين.(/3)
دروس من حياة سلفنا الصالح
عبدالعزيز العبداللطيف
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء عليهم السلام ، وسبيل العلماء الربانيين ، ولذا كانت أفضل القربات ، وأعظم المقامات.
قال تعالى: ((ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين)) (1)
والدعوة إلى الله تعالى لابد أن تكون صحيحة المقصد، سليمة المنهج وهذا هو سبيل دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه بإحسان ، كما قال عز وجل: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) (2)
ولقد سلك سلفنا رحمهم الله هذا الطريق، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر وعلموا الناس الخير، وبلّغوا البلاغ المبين عبر وسائل متعددة: كالتدريس والحسبة، والوعظ، والفتيا، والقضاء وغيرها... لقد قام أولئك السلف بهذه الدعوة ابتغاء وجه الله تعالى، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً وفي الوقت نفسه التزموا بسلامة المنهج من خلال الاتباع وترك الابتداع.
والصحوة الإسلامية المعاصرة بحاجة إلى التعرف على أمثلة عملية ومشاهد واقعية من دعوة السلف الصالح ؛ لكي تكون تلك المواقف حافزاً مشجعاً للتأسي بهم، والسير على منوالهم.
قال أحد العلماء: »من نظر في سيرة السلف عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال«.
وهذه المقالة تحوي جملةً من المشاهد الدعوية من حياة السلف ، نعرضها على النحو التالي:
كان زاذان يشرب المسكر ، ويضرب بالطنبور ، ثم رزقه الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فصار زاذان من خيار التابعين ، وأحد العلماء الكبار ، ومن مشاهير العباد والزهاد . (3).
وإليك قصة توبته ، كما يرويها زاذان نفسه قائلاً:
» كنت غلاماً حسن الصوت ، جيد الضرب بالطنبور ، فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم ، فمر ابن مسعود فدخل فضرب الباطية (الإناء) فبددها وكسر الطنبور ، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود ، فأُلْقِيت في نفسي التوبة، فسعيت أبكي، وأخذت بثوبه، فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل، وأخرج لي تمرا ً« (4) .
ولنا وقفة مع هذه القصة ، فمن خلال هذا السياق نلمس صدق ابن مسعود رضي الله عنه وحسن نيته، وصحة قصده في دعوته لزاذان، مما كان سبباً في هداية الرجل وتوبته وكما قال عبدالقادر الجيلاني (ت 561 هـ) رحمه الله معلقاً على تلك القصة:
»انظر إلى بركة الصدق والطاعة وحسن النية، كيف هدى الله زاذان بعبد الله بن مسعود لما كان صادقاً حسن السيرة، فلا يصلح بك الفاسد حتى تكون صالحاً في ذات نفسك، خائفاً لربك إذا خلوت، مخلصاً له إذا خالطت غير مراء للخلق في حركاتك وسكناتك، موحداً لله عز وجل في ذلك كله وحين يزاد في توفيقك وتسديدك ، وتحفظ عن الهوى والإغواء من شياطين الجن والإنس والمنكرات كلها والفساق والبدع والضلالات أجمع، فسيزال بك المنكر من غير تكليف، ومن غير أن يصير المعروف منكراً، كما هو في زماننا، ينكر أحدهم منكراً واحداً، فيتفرع منه منكرات جمة، وفساد عظيم ..«.(5) .
وأمر آخر نستفيده من هذه القصة، وهو أن ابن مسعود رضي الله عنه سلك أُولى الوسائل الشرعية في تغيير المنكر، فلما كان قادراً على تغيير المنكر بيده، أزاله بيده فكسر الطنبور، وأتلف وعاء النبيذ.
لقد ضرب ابن مسعود رضي الله عنه مثالاً رائعاً في الشجاعة والإقدام على الصدع بالحق، وتغيير المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، مع كونه وحيداً، وهم جماعة كما هو ظاهر سياق القصة ، إضافة إلى قصره ونحافته رضي الله عنه.
لكن لما كان ابن مسعود معظماً لحرمات الله تعالى وشعائره أورثه ذلك مهابةً وإجلالاً.. وصدق عامر بن عبد القيس رحمه الله حيث يقول: »من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله، أخافه الله من كل شيء« .(6)
ومع هذا التغيير باليد، فإننا ندرك مدى شفقة ابن مسعود رضي الله عنه وكمال رفقه، وتمام نصحه لزاذان، فإن زاذان لما أقبل تائباً، أقبل عليه ابن مسعود رضي الله عنه وعانقه وبكى فرحاً بتوبة زاذان، وحياه بأجمل عبارة مرحباً بمن أحبه الله، كما قال سبحانه(إن الله يحبَ التوابين ويحبَ المتطهرين )( 7) ، ليس هذا فحسب بل أجلسه وأدناه ، وأعطاه تمراً.
وهكذا كان أهل السنة يعلمون الحق ويدعون إليه، ويرحمون الخلق وينصحون لهم.
كما نلحظ من هذه القصة ذكاء ابن مسعود وفطنته (8) ، فانظر كيف استجاش زاذان إلى التوبة، فإن زاذان كان مغنياً حسن الصوت، فقال له ابن مسعود: »لو كان ما سمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن لكنت أنت أنت« وفي رواية قال: »ما أحسن هذا الصوت! لو كان بقراءة كتاب الله تعالى كان أحسن«.(/1)
إن التوجيه السديد للمواهب والقدرات، ووضعها في محلها الملائم شرعاً، إضافة إلى مراعاة طبيعة النفس البشرية، والعلم بنوازعها ومشاعرها، عامل مهم لنجاح الدعوة فإن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء فلابد من مراعاة »البديل« المناسب، وهذا ما فقهه ابن مسعود رضي الله عنه وغاب عن الكثيرين.
يقول ابن تيمية: »... الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويأمر بمعروف يغني عنه كما يأمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره « .(9)
كان حبيب العجمي من ساكني البصرة، وكان من أهل التجارة والأموال، حتى حضر مجلساً للحسن البصري رحمه الله، وسمع موعظته فوقعت موعظته من قلبه، فصار من أفضل زهاد أهل البصرة وعبادها.
وإليك القصة تفصيلاً:
» كان الحسن البصري يجلس في مجلسه الذي يذكر فيه كل يوم، وكان حبيب العجمي رحمه الله يجلس في مجلسه الذي يأتيه أهل الدنيا والتجارة وهو غافل عما فيه الحسن لا يلتفت إلى شيء من مقالته، إلى أن التفت يوماً فسأل عما يقوله الحسن البصري، فقيل له: يذكر الجنة، ويذكر النار، ويرغب في الآخرة، ويزهد في الدنيا، فوقر ذلك في قلبه، فقال: اذهبوا بنا إليه فأتاه، فقال جلساء الحسن يا أبا سعيد هذا حبيب قد أقبل إليك فعظه، وأقبل عليه فأقبل عليه الحسن فذكّره الجنة وخوّفه النار، ورغّبه في الخير، وزهده في الدنيا فتأثر حبيب بتلك الموعظة، وتصدق بأربعين ألفا، وقنع باليسير، وعَبَدَ الله حتى أتاه اليقين«.(10)
أخي القاريء: لعلك تلحظ صدق الحسن البصري رحمه الله في دعوته، وسلامة قصده، حتى أثرت موعظته في قلب حبيب العجمي، فنقلته تلك الموعظة الصادقة من ضجيج الأسواق، وصخب التجارة إلى أن صار عابداً زاهداً، ذا دعاء مستجاب، وكرامات مأثورة كما صار صاحب بذل وإنفاق في سبيل الله تعالى.
وما أروع مقالة مالك بن دينار في هذا المقام:
»الصدق يبدو في القلب ضعيفاً ، فيتفقده صاحبه، ويزيده الله تعالى حتى يجعله الله بركة على نفسه، ويكون كلامه دواءً للخاطئين«.
ثم قال مالك: »أما رأيتموهم؟« ثم يرجع إلى نفسه فيقول: »بلى والله لقد رأيناهم: الحسن البصري،وسعيد بن جبير وأشباههم، الرجل منهم يحيى الله بكلامه الفِئام [ الجماعات ] من الناس« .(11)
ولما سمع زين العابدين علي بن الحسين موعظة للحسن ، قال: »سبحان الله هذا كلام صدّيق « .(12)
ولقد سئل أحد العلماء: » ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟« فقال: »لأنهم تكلموا لعز الإسلام ، ونجاة النفوس ، ورضا الرحمن ، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلباً للدنيا ورضا الخلق « .(13)
ومن أسباب الانتفاع بمواعظ الحسن البصري ومجالسه، أنه رحمه الله كان قدوة صالحة، ولم يكن رحمه الله ممن يقولون ما لا يفعلون ، »قيل لعبد الواحد صاحب الحسن البصري: »أي شيء بلغ الحسن فيكم إلى ما بلغ؟ وكان فيكم علماء وفقهاء«. قال: »كان الحسن إذا أمر بشيء كان أعمل الناس به وإذا نهى عن شيء كان أترك الناس له « (14)
وأمر آخر يسترعي الانتباه في هذه الحادثة ، وهو عناية الحسن بموضوعات الرقائق والزهد والسلوك ، حتى كان للحسن البصري مجلس خاص من مجالسه ، لا يكاد يتكلم فيه إلا عن معاني الزهد والنسك ، فإن سأله إنسان غيرها ، تبرم وقال: »إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر « (15)
إن غالب مواعظ الحسن ووصاياه كانت في ذم الدنيا ، والنهي عن طول الأمل ، والأمر بتزكية النفوس ، وتصحيح المقاصد والنيات.
وما أحوجنا إلى مثل تلك المواعظ والزواجر من أولئك الأئمة الأعلام وهكذا كان الوعاظ في قديم الزمان »علماء فقهاء« كما قاله ابن الجوزي . (16)
وقال الإمام أحمد بن حنبل: »ما أحوج الناس إلى قاص صدوق « (17)
ولقد كان الحسن في كثير من الأحيان يزهد في الدنيا ويحذر منها ويرغب في الآخرة ، وهذا مسلك نبوي مأثور ، فقد قال : »إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج لكم من بركات الأرض ، قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا.« (18)
ولذا كان الحسن يقول: »والله ما عجبت من شيء كعجبي من رجل لا يحسب حب الدنيا من الكبائر ، وأيم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر ، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها؟ وهل عُبدت الأصنام، وعُصي الرحمن إلا لحب الدنيا، فالعارف لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس بقربها ، ولا يأسى لبعدها «(19)
وصدق الحسن، فغالب الكبائر نابعة من حب الدنيا: فالسرقة، والزنا والحسد، والكذب ، والكبر ، والرياء وغيرها من أجل حب الدنيا ، والتكالب عليها بل إن الله تعالى قد أخبر في كتابه العزيز أن الكفر واستحقاق العذاب بسبب حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فقال تعالى(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراْ فعليهم غضب من الله ولهم عذابِ عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) .(20)(/2)
وهنا ملاحظة أخيرة: أن بعض التائبين يعتزلون الحياة من أجل العبادة وهذا فيه نظر ، إذ لا يصح أن كل تائب لابد أن يكون على ذلك المنوال: منقطعاً وزاهداً عن الأخذ بأسباب الحياة المباحة ، فتلك رهبانية حُذرنا منها. وصدق الله العظيم القائل: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا )) .(21)
فإن من مميزات ديننا الحنيف الوسطية: (( وكذلك جعلناكم أمةْ وسطْا)) (21) ، لا رهبانية ولا مادية وإنما يكون المسلم عابداً لله ، ساع في الأرض عاملاً أي عمل مناسب يكفي نفسه حاجاتها، ولا يكون عالة على غيره ، ولم يعرف الانقطاع للعبادة إلا بعد القرون الفاضلة، يوم جاءت الصوفية وطقوسها المبتدعة ، ومعلوم موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الثلاثة الذين سألوا عن عبادته في الصلاة والصيام والزواج فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فعزموا على خلافها فقال لهم عليه الصلاة والسلام: »أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني « .(23)
ساق أبو نعيم في »الحلية« بسنده إلى إبراهيم بن سليمان الزيات ، حيث قال: كنا عند سفيان الثوري ، فجاءت امرأة فشكت ابنها وقالت: يا أبا عبد الله أجيؤك به تعظه؟ فقال: نعم جيئي به ، فجاءت به ، فوعظه سفيان بما شاء الله فانصرف الفتى ، فعادت المرأة بعد ما شاء الله ، فقالت: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله، وذكرت بعض ما تحب من أمر ابنها، ثم جاءت بعد حين فقالت: يا أبا عبد الله ابني ما ينام الليل ويصوم النهار، ولا يأكل ولا يشرب فقال: ويحك مم ذاك؟ قالت: يطلب الحديث ، فقال: احتسبيه عند الله « .(24)
سفيان الثوري أحد الأئمة الكبار ، وكان أمّاراً بالمعروف لا يخاف في الله لومة لائم ، حتى قال أحدهم: »كنت أخرج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً « (25)
كما أنه رحمه الله مهتم بأحوال المسلمين، ومن ذلك ما قاله يحيى بن يمان: »تقاوم سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم ليلة حتى الصبح فكانا يتذاكران في أمور المسلمين«.
وفي هذه القصة نلحظ حسن تصرف تلك المرأة تجاه مشكلة ابنها ، فقد ذهبت إلى سفيان الثوري ، وعرضت مشكلتها عليه ، وطلبت منه أن يعظ ابنها وتجلت لنا سرعة استجابة سفيان لطلب تلك المرأة، وحسن خلقه وتواضع، فقد بادر إلى إجابة طلبها ووعظ ابنها، فحسن حال هذا الابن ، حتى جاءت المرأة شاكرة لسفيان حسن صنيعه ، ولم يقف أثر موعظة سفيان عند هذا الحد فحسب بل إن هذا الابن ازداد استقامة وسلوكاً واهتماماً بطلب الحديث ، وتحصيل العلم الشرعي ، فصار كل وقته في طلب العلم والحديث ، مما جعل المرأة تحكي حال ابنها في المرة الثالثة قائلة: ابني ما ينام الليل ويصوم النهار.. يطلب الحديث.
وهكذا عملت تلك الموعظة في قلب هذا الفتى حتى صار من أهل الجدّ والاجتهاد في طلب الحديث.
كما نلمس في هذه القصة شيئاً من المتابعة المستمرة من المرأة نحو ابنها وإبلاغ سفيان بتلك المتابعات ، والانتفاع بعدها برأيه وتوجيهه.
هذه ثلاثة مشاهد جلية من دعوة السلف الصالح ، وفي ثنايا كتب التراجم الكثير من تلك المشاهد الرائعة ، فالله الله في التأسي بهم ، فمن كان مستناً فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
الهوامش:
(1) فصلت:33. (2) يونس:108.
(3)انظر ترجمته في: حلية الأولياء 4/199 ، والبداية والنهاية 9/47 ، سير أعلام النبلاء 4/280.
(4) سير أعلام النبلاء 4/281. (5) الغنية 1/139 ، 140.
(6) صفة الصفوة 3/208. (7)البقرة:222.
(8) قال الذهبي: »كان ابن مسعود معدودا في أذكياء العلماء« انظر سير أعلام النبلاء 1/462.
(9) اقتضاء الصراط المستقيم 2/617.
(10) حيلة الأولياء 6/149 بتصرف ، وانظر سير أعلام النبلاء 6/144.
(11) حلية الأولياء 2/359. (12) أخبار الحسن البصري لابن الجوزي ص 22.
(13) صفة الصفوة لابن الجوزي 4/122.
(14) ، (15) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 68.
(16) أخبار الحسن البصري لابن الجوزي ص 68.
(17) أخبار الحسن البصري.
(18) جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
(19) حلية الأولياء 6/13 ، وانظر سير أعلام النبلاء 7/259.
(20) النحل:106-107. (21)القصص:77. (22)البقرة:143. (23) متفق عليه.
(24)حلية الأولياء 4/65 ، 66. (25)حلية الأولياء
موقع صيد الفوائد(/3)
" دروس من غزوة بدر "
لقد كانت غزوة بدر التي ابتدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه ومدده فرقانًا بين الحق والباطل -كما يقول المفسرون إجمالاً-، وفرقانًا بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيرًا، كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً، ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء، الحق الذي يتمثل في تفرد الله -سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشى على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!
كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك. فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء وللقيم والأوضاع وللشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات - وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه.
كانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصورًا جديدًا للحياة، ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض، وبتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع ، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه يتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم، ولم يكن له بُدٌّ في أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد والمنهج الجديد والدولة الجديدة والمجتمع الجديد في واقع الحياة وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تَكبتها، وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً، ثم في حياة البشرية كلها أخيراً .. وهى لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.
وكانت فرقانًا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة؛ فجَرَتْ وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة حتى لقد قال: المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ)، وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهى المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة، لتكون فرقانًا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين، حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية؛ لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلامًا يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
النصر الحقيقي من الله وكل ما دونه ستار لقدر الله :
1 - الاستغاثة بالله ونزول الملائكة:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
روى أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذى وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن عباس -رضى الله عنهما- قال: حدثني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر -رضي الله عنه- فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون.(/1)
وأما البخاري فروي عن ابن عباس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد" فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
2 - الملائكة للبشرى والطمأنينة!
(وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يقول ابن جرير الطبري: "يقول -تعالى ذكره-: لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضًا، وتتابعها بالمسير إليكم أيها المؤمنون مددًا لكم إلا بشرى لكم؛ أي بشارة لكم تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ)، يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم وتوقن بنصر الله لكم، وما النصر إلا من عند الله. يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا أن ينصركم الله عليهم لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه". فالملائكة إذن لا تحقق النصر، وقوة بأس المؤمنين لا تحقق النصر؛ بل المؤمنون والملائكة ستار لقدَر الله وهم جنود الله تعالى، ينصر بهم وبغيرهم؛ لأن النصر بيده سبحانه.
وهذا المعنى الذي يشهده المؤمنون اليوم في بدر له مذاق خاص، وله حلاوة خاصة، فليس معنى مجرداً في الذهن، أو أملاً معقوداً في الأفق بل هو واقع حي لا تزال آثاره الضخمة في حسهم وشعورهم، ولا بد أن يتم التجرد الكامل من عالم الأسباب، وإعادة الأمر كله لله.
3 - النعاس من جنود الله :
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) عن علي -رضى الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا متيقظ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلى ويبكى حتى أصبح، ذكره البيهقي والماوردي وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني : أنه أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يُقال: "الأمن منيم والخوف مسهر"، وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين.
4 - الماء من جنود الله وله وظائف أربع:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجّاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك. فقال: بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء؟ فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشر من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين؛ حتى ثبتت فيه أقدام المسلمين وقت القتال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني حين صار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة وعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تُصلُّون مجنبين؟
فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدَّواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة.
5 - الملائكة بحاجة إلى معية الله سبحانه:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ).
فالملائكة بدون عون الله تعالى عاجزون عن تحقيق أي نصر حتى وهم يثبتون المؤمنين ويقاتلون معهم، لا بد لهم من معية الله سبحانه ليلقي الرعب في قلوب الكافرين.
6 - الله تعالى يدير المعركة:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ لنار)
قوله: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ)(/2)
يقول: قووا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقد قيل وهم من المشركين وقد قيل إن تثبيت الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم، وقيل كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم، وقيل كان ذلك بأن المَلَك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ) يقول تعالى: سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم وأملؤها فَرقًا حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق.
7 - المؤمنون من جند الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
وبعد هذه المعية وهذا العون. لا مجال لفرار المؤمنين من الزحف فقد أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مِثْلي المؤمنين فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم.
وقال الجمهور من العلماء أن حكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة وليس في الآية نسخ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات … وفيه - والتولي يوم الزحف".
وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا، وأما يوم حنين، فكذلك من فر إنما انكشف من الكثرة.
8 - الحصى من جند الله:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك، فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، فقيل: المعنى لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم، وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم، (تفسير القرطبي ج4،7 ص384).
(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)
ولما التحم القتال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يسأل الله النصر وما وعده، وأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ من الحصى كفاً فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه، اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم" فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه ما يدري أين توجه والملائكة يقتلونهم.
9 - استفتاح الكافرين من جند الله:
(إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الأموي حدثنا أسباط بن محمد القرشي عن عطية عن مطرف في قوله (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ) قال: قال أبو جهل: اللهم أعن أعز الفئتين وأكرم القبلتين وأكثر الفريقين فنزلت الآية.
كأنما هو يدعو على نفسه وفئته فاستجاب الله له.
10 - كثرة الكافرين وفئتهم من جند الله:
لأن الله تعالى ناصر حزبه ومؤيد جنده (وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ولن يدعهم للكثرة المشركة تتحكم بهم. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
أسباب المعركة
دولة الحق
وقامت دولة الحق بعدما نظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجتمع المدينة، فكتب الصحيفة التي ربطت بين عناصر مجتمع المدينة، من أنصار ومهاجرين وأهل كتاب؛ بني قينقاع والنضير وقريظة، واجتمع المسلمون للصلاة في مواقيتها لا يخافون إيذاء كما كان الحال في مكة، وأصبح المسجد مركز التجمع المدني، فيه يتلى الوحي المنزل، وتقام الجماعات يدعى إليه بنداء هو من أمر الله يجمع معالم الإسلام في كلماته، وفيه تعقد الألوية، وتستقبل الوفود وتقضى الأقضية ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأس ذلك يسترفد الوحي وبه يسترشد.
ضغائن قريش(/3)
وملك الغيظ قريشًا ولبسهم الحرج، بعد أن أفلتت منهم الفرصة التي خططوا لها: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وما كان الله ليذرهم وما يخططون، بل لقد اختار الله توقيتهم وتخطيطهم، ليحبط به وفيه سعيهم وتدبيرهم، ليخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دار أمن ومنعة، فاحتاروا كيف يتربصون بهذا المجتمع الذي اخترق سلطانهم على العرب، وأصبح مناوئًا لكلمتهم في قبائل الجزيرة، ذلك السلطان الذي دانت لهم به العرب منذ عام الفيل، الذي أهلك الله فيه جيش الحبشة والفيل، بما أرسل عليهم من طير (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)؛ إذ ظن العرب أن الله منع بيته المحرم، إكرامًا لقريش، وما فعله الله -سبحانه- إلا إكرامًا لنبيه الذي أوشك نور ميلاده أن يشرق، وليصطنعه الله على عينه ليطهِّر البيت من الأوثان والأنداد لعبادة الله وحده.
إذن القتال
ولم يكن بدّ أن تقع وقائع بين الكفر المعاند المكابر، وبين أهل الإيمان (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فلم يمض عام أو بعض عام حتى كانت هناك سرايا أخرجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما أذن للمؤمنين بأن يواجهوا القتال بالقتال: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
لقد ظلم المؤمنون؛ إذ خرجوا من ديارهم بأعز ما يملك المرء وما يحمل؛ قلب مؤمن بالله ثابت على الحق، يطلب النجاة بدينه، ويترك المال والنشب، بل ترك كثير منهم الأهل والولد، ولحقوا بدار منعة اعتزازًا بالله وإيمانًا به، فضّلوه على لعاعة الدنيا رغبة في وجهه -سبحانه-، فعوّضهم بنصره وما أفاء عليهم.
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أُخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة؛ قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!! ليهلُكُن.. قال ابن عباس: فأنزل الله -عز وجل-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال أبو بكر -رضي الله عنه-: فعرفت أنه سيكون قتال، وزاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال.
تدبير الله
وواجهت بعض السرايا التي أخرجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التحامًا بالسلاح، وعاد غيرها دون أن يلقوا قتالاً، حتى كانت وقعة بدر: التي قدَّر المؤمنون الذي خرجوا إليها : أن يعودوا بعِير قريش، عوضًا عن أموالهم بمكة التي استحلتها قريش، وقدَّر الله تعالى أن تكون لقاء بين قلة مؤمنة -محدودة العتاد والعدة- وإيمانها يملأ الصدور عزة بالله، وكفرًا بالشيطان وحزبه، وبين الكثرة التي خرجت من مكة بطرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) نعم: لقاء يحق الله به الحق ويبطل الباطل، ليذهب نصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة المزهوة بخيلائها؛ حيث خرجت بالقيان تضرب دفوفها ليسمع العرب، ويسقوا الخمر نشوة وكبرًا واستعلاء، فيذهب نصر القلة المؤمنة على الكثرة المستكبرة. في أنحاء الجزيرة يرجُّ آفاقها؛ إيذانا بزوال دولة الكفر والاستعلاء على الله الواحد الأحد، بالأنداد والأوثان، التي لم تغن عنهم شيئًا.
حروب وحروب
إن الحروب كانت تقوم -وما تزال حتى الآن إلا من عصم الله- دائمًا بين طائفتين؛ طائفة مستعلية مستكبرة، تزهوا بالعتاد والعدة والعدد؛ ومستضعفة لا تملك ما تملك الأولى، وعدوان المستعلين هدفه إذلال المستضعفين ومحو عزتهم بأنفسهم، يتخذونهم تبعًا وأداة يصطنعونها لحاجاتهم وحرثهم، ونماء أموالهم وملكهم، بطرًا واستكبارًا في الأرض.
وهذا ما كانت تفعله فارس والروم في آسيا وإفريقيا وأطراف من أوروبا، وهو نفس ما كانت تفعله قبائل العرب في الجاهلية بعضها مع بعض، فيعود المنتصر بالسبي والسلب، ويعود المهزوم بذلّ الحياة وعار الهزيمة والأمهات والبنات سبايا، يا له من ذل.(/4)
وربما قامت الحرب بين طائفتين مستعليتين كما قامت بين فارس والروم قديمًا وبين دول الغرب حديثًا، وهذا ما جاء الإسلام لتغييره، بإخراج العباد من استعباد العباد إلى عبادة رب العباد والاعتزاز بعزته: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)، ولهذا كان تدبير الله تمهيدًا لما حدث في بدر أن يذلّ كفر الكافرين وكبرياءهم الجاهلي بعد إنكارهم للحق الأبلج بيد من كانوا في مكة بالأمس مستضعفين.
وعد الله
وبهذا بشّر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- إذ وعده وصحبه إحدى الطائفتين؛ العير التي جاءت من الشام تريد مكة، أو المناجزة والقتال ثم النصر.
1 - وليتم الله تدبيره مكّن أبا سفيان -الذي كان على رأس القافلة- من النجاة بالعير، بعد أن أرسل إلى مكة محذرًا قريشًا يستدعيها لتدافع عن أموالها، فلما اطمأن إلى سلامة العير استدرك واسترجعهم فقد سلم المال والمتاع والإبل.
2 - وليتم الله تدبيره أخرج أبا جهل -أبو الحكم عمرو بن هشام- في ألف أو يزيد، في عدة كاملة، وظهر حاضر من خيل وإبل، وسلاح وافر ودروع، يختال كبرًا وكفرًا، وأبى أن يستجيب لاسترجاع أبى سفيان بن حرب، يقول: لا نرجع حتى تضرب علينا القيان ونسقى الخمر ونطعم الطعام وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها.
3 - وليتم الله تدبيره قدَّر أن يكون اللقاء حيث لا يمكن أن يتم في مكان أو ميعاد إلا بإذنه هو: ( إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)
الاستعداد والتحرك
وشاورهم..
ولما تبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إفلات العير، وأتاه خبر خروج قريش بسلاحها وقيانها وخمرها، وجيش يفوق أصحابه عددًا وعدة؛ لم يبادره بما لَه من مقام النبوة يأمر وينهي يبغي المواجهة، بل جمع من حوله من أنصار ومهاجرين: يشاورهم -إعمالاً لأمر الله-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
وكان أصحابه عند ظنه بهم: أما المهاجرون فقد قال أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-: ما أقر عيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال المقداد بن الأسود: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن نقول: اذهب أنت وركب فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا ودعا له بخير.
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يريد أن يستوثق من رأي الأنصار؛ فهم الذين خرج من مكة بعد عهدهم له أن يمنعوه مما يمنعون منه أموالهم وأولادهم، فقال-صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا عليَّ أيها الناس"
-فقد روى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بالمدينة: "إني قد أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة -أي عائدة من الشام-، فهل لكم أن نخرج إليها لعل الله يغنمناها"؟ قلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يومًا أو يومين، قال: "ما ترون في القوم؟ فإنهم قد أخبروا بخروجكم"؟ فقلنا: لا والله، ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكن أردنا العير، ثم قال: "ما ترون في قتال القوم"؟ فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد: وذكر ما رويناه من قوله، ثم استشارهم ثالثًا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوَّف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم؛ فلما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". فقال له: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
فسرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: "سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".
حول مياه بدر(/5)
وتقدم الفريقان -على غير ميعاد- حتى أدركوا جميعًا ماء بدر، وكانت بدر سوقًا للعرب مسموعًا خبرها ومكانها، كل فريق على عدوة وطرف.
واختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلاً، ودعا القوم إلى النزول، وهنا هبّ صحابي ينزع من معين الحب والإيمان، وينطق من بلاغة الأدب والإقرار لمقام النبوة، هو الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح، ويقول: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".
فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ونغور ما وراءه من القلب -الآبار-، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه فنشرب ولا يشربون، فاستحسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الرأي وفعله.
مطر من السماء
وكان مما دبّر الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم بدرًا أن أنزل مطرًا بقدر، أما من جهة قريش فكان المطر عظيمًا، عطلهم عن السبق إلى مياه بدر، وأما ما كان مما يلي المسلمين فبالقدر الذي يثبت رمال الوادي، فلم يصب المسلمين منه إلا ما لبَّد لهم دهس الوادي وأعانهم على السير، وهو ما عناه رب العزة في قوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).
استطلاع
ورغم يقين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نصر الله الذي وعده، فإنه أخذ بأسباب حكمة المقاتل الذي يتأهب، وخرج من المعسكر مع أبي بكر -كما روى ابن هشام- يستطلع خبر القوم، حتى وقف على شيخ من العرب؛ فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم؟! فقال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أخبرتنا أخبرناك" قال: أوذاك بذاك؟ قال: "نعم"، قال: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -المكان الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به قريش-، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن من ماء" ثم انصرف عنه، قال: يقول الشيخ: من ماء؟ أمن ماء العراق؟ ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه
التوكل والإيمان والمدد
يناشد ربه
وبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته راكعًا ساجدًا يناشد ربه النصر؛ فقد أخرج البيهقي والماوردي بسندهما عن علي -رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وجاء خبر الصباح في صحيح مسلم قال:.. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أظهرَنا الله وأعزَّنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببْنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنا نلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك، فأثنى رسول الله عليه خيرًا، ودعا له بخير، ومشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على موضع الوقعة، فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعًا مصرعًا، يقول: هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان إن شاء الله.(/6)
قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السقيفة، لا يكف عن مناشدته ربه، فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدًا"، فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). وفي رواية ابن إسحق وغيره: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبشر يا أبا بكر: أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع -غبار المعارك-، ثم خرج من العريش وهو يتلو قول الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
مدد السماء الثالثة
واختلطت الصفوف، وتلاقت السيوف بالسيوف، وحسم أمر الله للملائكة اللقاء: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، وفي الحديث عن ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت فارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك مستلقيًا، فنظر إليه: فإذا هو قد حطم أنفه، وشق وجهه لضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة".
من قواعد القتال
وكان مما أنزل الله تعالى من أوليات قواعد القتال قوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فليس للمسلم إلا الإقدام -والله ردؤه- إلا أن يكون مناورًا ينحرف من مكان إلى مكان -يبدل مواقع القتال- أو طالبًا التحيز لطائفة من المقاتلين يستكثر بهم.
ولكن الله قتلهم…
وليعلم المؤمنون أنهم جند الله وأدواته، وأن أيديهم ليست الفاعلة وأن الفعل لله؛ به يبيد أهل الشرك، فهو الذي وفق وهو الذي أعان فأهلك؛ فأنزل: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ) وهو الذي أظفر المؤمنين، ومكنهم من رقاب أهل الشرك وظهورهم، فما كان لأحد أن يفخر بقتل من قتل وإصابة من أصاب، فالله هو الذي استدرج القوم، ومكّن المؤمنين من نواصيهم..
وما رميت إذ رميت
فقد روى ابن كثير قال: قال ابن عباس: رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه يوم بدر، فقال: "يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم.
وذلك ما جاء في قول محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبضة من تراب، فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم في رمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله تعالى شرّف رسوله فيما رمى، فجعل يده ترمي عن الله، فأنزل عليه: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ثم عقّب الله على فضله فيما كان يخبر ويقرر حقًا فيما كان ويكون حتى يتم الله دينه: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)، فما كادوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه بعدها كيدًا إلا وأوهنه الله تعالى إلى أن لقي ربه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم استمر ذلك الوهن للكافرين أمام جند الفتح من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن عمّ الإسلام الآفاق.
إيمان وبطر وكبر
وتتحدث كتب السنن والمغازي والسير، فتروي تفاصيل كثيرة عما دار في بدر عندما احتدم القتال: فهذا عمير بن الحمام يلوك تمرات، وما أن يسمع بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يقاتل مقبلاً غير مدبر حتى يقتل فله الجنة، فيلقى بالتمرات من يده وفمه، ويتقدم فيقاتل فيلقى الله على عهده.(/7)
وهذا عبد الرحمن بن عوف يجد نفسه في الصف بين شابين؛ كل يسأله عن أبي جهل عدو الله، ويختال أبو جهل بين الصفوف؛ فيقول ابن عوف: ذاكم صاحبكم! فيتبادله "المعاذان"؛ معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، يتبادلانه بضربتين حتى يثبتاه صريعًا يعالج آخر أنفاسه.
ويدركه عبد الله بن مسعود، فيتقدم ويرقى صدره ليجهز عليه، فيغلبه كبرياء الكفر وهو وشيك الهلاك، فيقول: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم، ويحتزّ عبد الله رأسه ويذهب فيلقيه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتتابع الرماح والسيوف فعلها في القوم، حتى أذل الله أعداءه، فوقعوا بين قتيل وأسير، ويفر من فر هربًا من القيان بدفوفهم حتى يدخلوا مكة خزايا مدحورين
الفضل العظيم
الخبر في مكة
يقول ابن إسحق: وكان أول من قدم مكة بمصاب القوم من قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعي؛ فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام -أبو جهل- وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا -يعني أنه مجنون لا يدري- فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
أبو لهب يموت كمدًا
وفي حديث أبي رافع مولى العباس بن عبد المطلب لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبت الله أبا لهب وأخزاه، فقام يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر. قال: فجلس إليه والناس قيام، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضًا -يلبسون البياض- على خيل بلق بين السماء والأرض، لا يقوم لها شيء، قال أبو رافع -وكان الإسلام دخلنا وسرنا ذلك-: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل- زوج العباس- إلى عمود، فضربت به في رأس أبي لهب فشجته، وقالت: أستضعفته أن غاب سيده؟! فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة -وهي قرحة تتشاءم منها العرب- فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله. الحديث.
فضل الله
وهكذا قضى الله أمره وأنفذ تدبيره، وأوقع أول واقعة في الإسلام، فذكر أحبابه المنتصرين بفضله: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وأسكنكم بين قوم يحبونكم وتحبونهم (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وبيّن لحبيبه بعضًا من أسرار تدبيره (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، وكشف الله تعالى سعي الشيطان في جيش الكفر: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب)
إعداد وعدة .. وحساب
ِ ومنذ أن وقعت الواقعة أوجب الله تعالى على المؤمنين الأهبة والإعداد تحسبًا للقاءات قد تفاجئهم، ليس من المشركين وحدهم، بل من كل من تسول له قوته أن يحارب الإسلام وأهله أو يمكر بهم فأوحى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)، والعدة تحتاج إلى نفقة وتنبيه خاص بفضلها (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).(/8)
وكان للمؤمن المقاتل ذي الإيمان السوي الراسخ حساب خاص عند الله، ليس كحساب البشر إذا احتدم القتال: مقاتل بمقاتل!! ولكن أبعد من ذلك حيث أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ)، لا يفقهون تدافعكم للشهادة وبذل المهج طلبًا للجنة، وهم إنما يقاتلون ليسمع بهم الناس استعلاء وكبرًا وخيلاء، ثم خفف الله عن عباده وقد علم ما بهم: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ)، ولقد صدق المؤمنون وعد الله وصدقهم الله وعده، فلقد كانت جيوش الفتح تلقى أضعافها عددًا وعدة في قتال الفرس والروم في فتوح العراق والشام ومصر وإفريقية، وحتى عندما عبروا مضيق جبل طارق لقتال القوط الغربيين، فكان النصر معهم ما صبروا: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
مكانة البدريين
جاء فيما روى البخاري بسنده: "… جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعُدُّون أهل بدر فيكم؟! قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة".
وبعد
فإن بدرًا وما لابسها من أحداث، وما علّق الله تعالى بها من أحكام، وما وجّه من تنبيهات لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين تحتاج وحدها سفرًا يتدارس آثارها وأخبارها فبها بدأت المواجهة الصادقة: أحقت الحق وأبطلت الباطل، وفيها علَّم الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين علومَ الحرب والسلم والإعداد والحذر والطاعة والصبر عند اللقاء، والإثخان في الأعداء حتى يستقيم أمر الله الذي أراد وبيّن
المصدر: http://www.islam-online.net(/9)
دروس من غزوة تبوك
225
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
4/1/1415
جامع السلام
ملخص الخطبة
1- تجهز الصحابة لغزوة تبوك. 2- اعتذار المنافقين وتذرعهم بالذرائع الواهية. 3- انفاق عثمان &. 4- البكاءون لما حرموا في الخروج إلى الجهاد. 5- علي على ولاية المدية. 6- أبو قتادة يحفظ النبي حال تعبه وسفره. 7- أبو ذر يلحق بالرسول إلى تبوك. 8- دفن ذي البجادين. 9- المجاهدون بنياتهم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله ـ تعالى ـ، واعلموا علم اليقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم، وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين يحاولون القضاء عليه، بكل ما يستطيعون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك أنى لهم أن يفلحوا ما تمسكنا بكتابنا وسنة نبينا محمد .
كل العدا قد جندوا طاقاتهم ضدا الهدى والنور، ضد الرفعة
إسلامنا هو درعنا وسلاحنا ومنارنا عبر الدجى في الظلمة
هو بالعقيدة رافع أعلامه فامشي بظل لوائها يا أمتي
لا العرب يقصد عزنا كلا ولا شرق التحلل إنه كالحية
الكل يقصد ذلنا وهواننا أفغير ربي منقذ من شدة
إخوة الإيمان، يوم يقلب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي، يتحسر يوم يجد البون شاسعا والفرق عظيما، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة، وقد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودا والعود أحمد، عودا سريعا إلى الماضي المجيد، لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودا لسيرة من لم يطرق العالم دعوة كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يوما من أيام محمد ، لنأخذ العبر والدروس، نعود بكم إلى شهر رجبَ في السنة التاسعة من الهجرة لنعيش وإياكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون وثبت فيها المؤمنون وذل فيها الكافرون وعز فيها الصادقون.
إخوة الإيمان، بلغ النبي أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي لأول مرة عن مقصده وعن تجهيز الجيش، فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل، باعوا أنفسهم إلى الله نصرة لله ورسوله، وتساقط المنافقون فها هو أحدهم يقول له رسول الله كما روى ابن هشام: ((هل لك في جلاد بني الأصفر أي الروم؛ فيقول: يا رسول الله ائذن لي ولا تَفْتنَّى، فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه ))، ولكن الله ـ جل وعلا ـ فضحه وأذله، وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49][1]، وتحدثت الآيات في القرآن عمن نكص كذلك من هذه المعركة وتحجج بحجج واهية، حين آثروا ظل القعود في بيوتهم وحقولهم على حر الصحراء ووعثاء السفر، مقابل الجلاء، فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، وتجلت في الإعداد لهذا الجيش طوايا النفوس، ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص وسماحة ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم ليجهزوا الجيش من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان ابن عفان، سبق في بذله سبقا بعيدا حتى إن رسول الله عجب من كثرة ما أنفق وقال: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)) رواه الحاكم وصححه الألباني[2].(/1)
ومنهم الفقراء الذين لم يجدوا زادا ولا راحلة، فأتوا رسول الله يقولون يا رسول الله لا زاد ولا راحلة، فيبحث لهم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون، إنهم بكاؤون لم يبكوا على فقد متاع أو فقد دنيا، بل يبكون على فقد جهاد وقتال في ساعةٍ عسيرة، قد تذهب أرواحهم فدا لهذا الدين الذي آمنوا به، روى عن علبة بن زيد: أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء الله ثم بكى وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ولم تجعل في يدي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أوحد أو عرض"، وأصبح الرجل على عادته مع الناس فقال رسول الله: ((أين المتصدق هذه الليلة))، فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق هذه الليلة؟ فليقم فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله: أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة))، حديث صحيح صححه الألباني[3].
ويخرج ويستخلف على المدينة عليا ويخيم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفا ويأتي المنافقون الخلوف الذين لايتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون، ـ سخر الله منهم ـ، ويستهزئون به، والله يستهزئ بهم، يأتون إلى علي ويقولون له ماخلفك رسول الله إلا استثقالا لك، فتأثر بذلك ولبس درعه وشهر سيفه يريد الجهاد في سبيل الله ويصل إلى النبي ويقول له زعمهم فيجيبهم يقول: ((كذبوا يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي))، وعاد رضي الله عنه إلى المدينة راضيا[4].
ويتوجه إلى تبوك فيمر بديار ثمود، ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية وآبارهم معطلة وأشجارهم مقطعة، فيدخلها وقد غطى وجهه وهو يبكي، ويقول لجيشه: ((لا تدخلوها إلا باكين أو متباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم))[5].
انظروا يا عباد الله كيف فعل الله بهذه الأرض وأهلها التي سكنها الظلمة، فكيف بمن يجالس الظَلَمة، ويؤيد الظَلَمة، ويركن إلى الظلمة، ويكون لهم أنيسا ولسانا وصاحبا، فكيف تكون حاله ؟ ألا يخاف غضب الله عليه ونقمته حين يأخذه أخذ عزيز مقتدر، وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، حتى الماء في هذه الأرض نهى المسلمين عنه حينما استقوا منه فقال لهم: ((لا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة وما عجنتم من عجين بمائها فأعطوه الإبل ولا تأخذوا منه شيئا))[6] واستمر في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغا عظيما، ومع السَّحَر ينام من التعب على دابته حتى يكاد يسقط، كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده، حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه، أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه ، ويقول من هذا قال أنا أبو قتادة فقال له: ((حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة))[7] يقول المؤرخون فما زال أبو قتادة محفوظا بحفظ الله في أهله، وذريته، ما أصابهم سوء حتى ماتوا. درس لمن حفظ أولياء الله فإن الله يحفظه، و((صنائع المعروف تقي مصارع السوء))[8].
عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن شأن ساعة العسرة؟ فقال عمر: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا ؟ فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء فلم يرجعهما حتى أذنت السماء بالمطر، فأطلت ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر"، حسن هذا الألباني[9].
ويتأخر عن الجيش أبو ذر ببعيره الهزيل، فماذا فعل يا ترى؟ لقد ترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل في أحد المنازل على الطريق، وينظر أحد المسلمين ويقول يا رسول الله رجل يمشي إلى الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((كن أبا ذر كن أبا ذر فإذا هو أبو ذر؛ فأخبروا النبي بذلك، فقال: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده))[10].
وتمضي الأيام والأعوام ونفي أبو ذر إلى الربذة ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه، ويضعاه على الطريق، وأن يقولا لأول ركب يمرّ بهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه ،فيفعلان ذلك ويأتي عبد الله بن مسعود ومعه رهط مسافرون فما رءاهم إلا الجنازة على قارعة الطريق فأخبرهم غلامه فاندفع عبد الله بن مسعود باكيا يقول صدق رسول الله: ((تمشي وحدك وتموت وحدك)) ثم دفنوه.(/2)
إخوة الإيمان، وينتهي المسير برسول الله إلى تبوك، ويقيم بها بضع عشرة ليلة، فلم يجدوا بها كيدا أو يواجهوا عدوا ولكنهم بذلك أرهبوا الروم وحلفاءهم، وفرضوا عليهم الجزية، وحصلت الأحداث أثناء بقائه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيها، منها أنه لما نام ليلة في تبوك أتاه جبريل ـ عليه السلام وقال ـ: (يا رسول الله قم صل صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثي، فقد توفي بالمدينة)، أما معاوية هذا، إخوة الإيمان، فهو صالح عابد يذكر الله قائما وقاعدا، وسأل عنه النبي فأخبر أنه كان يقرأ (قل هو الله أحد) قائما، وقاعدا وعلى جنب ، بالليل والنهار، وقد صلي عليه بالمدينة وشهد الصلاة عليه صفَّان من الملائكة في كل صفٍ سبعون ألف ملك .. فقام وصلى عليه[11].
وحدث عبد الله بن مسعود فقال: نمنا ليلة متعبين في تبوك وانتبهت في وسط الليل، فالتفت إلى فراش النبي فلم أجده، والى فراش أبي بكر وعمر فلم أجدهما، وإذا بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما فإذا رسول الله حفر قبرا، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر فقلت: يا رسول الله من الميت؟ قال هذا أخوك عبد لله ذو البجادين. إنه أحد الصحابة أسلم، وكان تاجرا، فأخذ أهله وقومُه مالَه كله حتى لباسه فذهب فما وجد لباسا غير شملة قطعها إلى بجادين وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر بخبره، فقال: ((تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزارا ورداء في الجنة أنت ذو البجادين))[12]، فلقب بذلك .. يقول عبد الله بن مسعود وأنزله إلى القبر فوالذي لا إله إلا هو مانسيت قوله وهو في القبر وقد مد ذراعيه لذي البجادين وهو يقول لأبي بكر وعمر أدنيا إلَّي أخاكما، فدلياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما وضعه في القبر رافعا يديه مستقبلا القبلة، وهو يقول: ((اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه)) يقول ابن مسعود فوالله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه [13]، وغزوة تبوك مشابهة لغزوة الأحزاب، فإن بلاء المسلمين أولها كان شديد ثم جال ختامها طمأنينة وعزا. وقفل النبي عائدا إلى المدينة موفورا منصورا، حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد فقال هذه طابة، وهذا أُحد يحبنا ونحبه، وتسامع الناس بمقدمه، وفرح النساء والصبيان وهم يقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم، روى البخاري عن أنس ابن مالك : أن رسول الله رجع من عزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: ((إن في المدينة أقواما ماسرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ؛ فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر))[14].
بهذه المواساة الرقيقة كرم النبي الرجال الذين شيعوه بقلوبهم، وهو ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم، وأراح هما ثقيلا عن أفئدتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم…
---
[1] أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 4/516) مرسلاً.
[2] أخرجه الحاكم (3/102) وصححه ووافقه الذهبي ، وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص405).
[3] أخرجه الطبراني كما ذكر ذلك الحافظ في ((الإصابة)) (7/42-44) في ترجمة علبة بن زيد رضي الله عنه ولم أجده في المطبوع من المعجم الكبير ، وذكر غيرها من الروايات. وانظر سيرة ابن هشام (4/518) ، وفقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص405).
[4] أخرجه البخاري (4416) ، ومسلم (2404) ، دون ذكر قول المنافقين ، وأخرجه تاماً ، ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (4/519، 520).
[5] أخرجه البخاري (433، 3380) ، ومسلم (2980) دون قوله : ((متباكين)) ، ودون ذكر بكائه .
[6] أخرجه الطبراني في الأوسط (3/361) بنحوه ، قال الهيثمي في المجمع (6/193) : وفيع عبد الرحمن بن بشير الدمشقي ضعفه أبو حاتم.
[7] صحيح مسلم (681).
[8] أخرجه الطبراني في الكبير (8014) ، قال المجمع (3/115) : إسناده حسن ، وصححه الألباني في الصحيحة (1908).(/3)
[9] أخرجه البزار في مسنده (1/331) وقال : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي بهذا اللفظ إلا عن عمر بهذا الإسناد. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (2/323). قال الهيثمي في المجمع (6/195) : رواه البزار والطبراني في الأوسط ، ورجال البزار ثقات. وانظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص407).
[10] أخرجه الحاكم (3/50، 51) وصححه ، قال الذهبي : فيه إرسال.
[11] أخرجه الطبراني في الكبير (8/116) والأوسط (4/163) ، والبيهقي في دلائل النبوة (5/246) ، وضعفه ابن حبان في المجروحين (2/181) ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (10/156) : أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقويّة.
[12] لم أجده بهذا اللفظ في جميع مصادر من ترجموا الذي البجادين رضي الله عنه ، وروى ابن إسحاق سبب تسميته بذي البجادين ، كما ذكر هنا (سيرة ابن هشام 4/528) وفي إسناده انقطاعن ، وانظر الإصابة (6/149).
[13] أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 4/527) ، قال ابن حجر في الإصابة (6/149) : وإسناده ثقات ، إلا أن فيه انقطاعاً. وأخرجه البزار في مسنده (5/122-123) ، قال الهيثمي في المجمع (9/369) : رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد المرزحي وهو متروك.
[14] أخرجه البخاري (4423) ، ومسلم (1911).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت بنصر المؤمنين، ولئن انتهت فما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عبرة وعظة، وحذار أن يكون نصيبنا منها تغنياً بالماضي، وسرد الحديث الغابر، فإن هذا لا يجدي شيئا، وقد آلت الأمة إلى ما آلت إليه وتداعى الأكلة إليها.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وحتى ما تركت الجهاد ضربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي جهاداً في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.
وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه وتنصره عليه وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40].
ومن هذه الدروس أن العدو ما تسلل سبعا ولا خفا إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
ومن الدروس أن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة ثم يكفي المؤمنين أن يُعِدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ثم يتقوا الله ويتعلقوا به، ويصبروا وعندها ينصرون، فها هو عبد الله بن رواحة يقول: "والله ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".
ومنها أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه حتى لا يكفي حق بلا قوة.
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يُجَبْ وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلطة له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة أن تمكن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما حادث عن عقيدتها وتعلقت بغيرها، إلا تقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
هذه تبوك غزوة العسرة وهذه دروسها فاعتبروا بها عباد الله وتدبروها.(/4)
دروس وعبر من قصة داود عليه السلام
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه ومن ولاه، أما بعد:
فهذه بعض الدروس والفوائد التي استُخلصت من قصة داود عليه السلام:
1- تجليات فضل اللَّه على عباده.
ترادف نعم اللَّه على عباده عامة وعلى أنبيائه وأوليائه خاصة لا ينكره إلا جاحد، وقد خصَّ اللَّه نبيه داود بمزيد من فضله وظهر ذلك واضحًا في المظاهر الآتية:
سخر اللَّه له الجبال والطير تردد معه ذكره وتسبيحه.
ألان في يده الحديد فصار كالعجينة يصنع منه ما يشاء.
يسَّر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك فجمع له الخيرين خير الدنيا والآخرة.
أنعم عليه بالقوة في البدن والحكمة في الرأس والعدل في الحكم.
أنعم عليه بالذرية الصالحة: "وورث سليمان داود".
2- الشكر قيد النعمة:
شكر النعمة يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، ويمنع النقمة، وبهذا قضى العزيز الحميد، فقال سبحانه: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد {إبراهيم: 7}، وقليل من الناس من يعرف النعمة فيقرُّ بها للمنعم سبحانه ويشكره عليها بوضعها فيما أمر سبحانه، وكان داود عليه السلام من هذا القليل الشاكر، فاستحق من اللَّه الثناء: اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور {سبأ: 13}.
3- بنو إسرائيل لم يشكروا نعمة اللَّه عليهم:
لم يشكر اليهود نعمة اللَّه عليهم بإنزال التوارة، فحرفوها وبدلوها ولم يعملوا بما فيها، ولم يشكروا نعمة اللَّه عليهم بتتابع الأنبياء فيهم، فآذوا أنبياء اللَّه حال حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من قتلوه، ومن ذلك ما فعلوه مع نبي اللَّه داود عليه السلام وهو المبجل فيهم، فوصفوه بالثائر السفاح الذي يحب سفك الدماء وإقامة الملك على جماجم البشر، وإن شئت التفاصيل فراجع العهد القديم، سفر الملوك الثاني الفصول من (5- 20)، وكذلك ما نسبوا إلى نبيهم داود زورًا وبهتانًا أن داود عليه السلام قد رأى امرأة جاره وهي تغتسل فأحبَّها حبًا شديدًا، فأرسل زوجها في إحدى المعارك، وأمر القائد أن يجعله في المقدمة لعله يقتل فيتزوج امرأته، وتوراة اليهود التي كتبوها بأيديهم- وليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى- تمتلئ بهذه السفاهات التي أنزه سمع القارئ وبصره عنها.
فهم لم يتركوا نبيّا إلا أساءوا إليه، بل لم يسلم اللَّه سبحانه وتعالى من افتراءاتهم، فتعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا.
ومن هنا فقد حذرنا اللَّه أن نكون مثلهم، وذكر ذلك في كتابه الكريم تصريحًا وتلميحًا.
4- أفضل ما أكل الإنسان من عمل يده:
هذا أيضًا مما تعلمناه من قصة داود عليه السلام، فعلى الرغم من كونه خليفة في الأرض وملكًا على أمة امتد ملكها، إلا أنه كان يأكل من عمل يده: وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد، فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.
وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم : "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ اللَّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". وهكذا الأنبياء والصالحون، فمنهم من كان يرعى الغنم، ومنهم من كان نجارًا؛ كزكريا عليه السلام، ومنهم من عمل بالنجارة زمنًا مثل نوح عليه السلام، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة رضي اللَّه عنهم كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدق من عمل يده، فقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت، حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده وفي طلب الرزق، ومن عجب أن يخفى ذلك على كثير من شبابنا ممن يدعون طلب العلم ويتخذونه حرفة لهم، حتى أصبحوا عالة على غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5- من المعجزات المحسوسة أن ألان اللَّه الحديد لداود عليه السلام فجعله مطاوعًا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات اللَّه الكونية ودليل على قدرة اللَّه سبحانه، فهو الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وجعل الماء سلاحًا أغرق فرعون، ونجا موسى، وألان الحديد لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار؛ ولكن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة.
6- ومن الفوائد ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه اللَّه، فقال في تفسير قوله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض الآية، هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكنُّوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى عليه فيما حكم به، ونحو ذلك؛ روى عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر رضي اللَّه عنه قال: لو رأيت رجلاً على حدٍ من حدود اللَّه ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.(/1)
وروى أن امرأة جاءت إلى عمر رضي اللَّه عنه فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده، فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم، وأما الحكم فلا.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. انتهى مختصرًا.
وأقول: قد ازدان القضاء الإسلامي بدرر ناصعات من النزاهة والعدل واحترام حقوق الآخرين حتى ولو كانوا غير مسلمين، وذلك مما يضيق المجال عن ذكره، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل اللَّه أن ينفعني بما كتبت، وأن ينفعك بما تقرأ، وأن يرزقنا الثبات على الحق والدين حتى يأتينا اليقين، وإلى لقاء استودعكم اللَّه، والسلام عليكم ورحمة اللَّه.(/2)
دستور البيت المسلم
يقوم البيت المسلم على مجموعة من الأسس والقواعد التي تحكمه، وتنظم سير الحياة فيه، كما أنها تميزه عن غيره من البيوت، وتُستمد هذه القواعد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة الصحابة و التابعين.
أهم قواعد هذا الدستور هي:
-الإيمان الصادق بالله -سبحانه- وما يتطلبه ذلك من الإخلاص له، ودوام الخشية منه، وتقواه، والعمل بأوامره، واجتناب نواهيه، والإكثار من ذكره.
-الإيمان بملائكة الله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285].
-الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والالتزام بسنته، والعمل بما أمر به، والبعد عما نهى عنه، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7].
-أداء الصلوات والمحافظة على مواقيتها، قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}_[النساء: 103].
-أداء حق الله في المال من زكاة وصدقة ، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم} [المعارج: 24-25].
-صيام شهر رمضان، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}_[البقرة: 183].
-الذهاب لأداء فريضة الحج عند القدرة عليه، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}_[آل عمران: 97].
-العلاقة الزوجية تقوم على السكن والمودة والرحمة، قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21]. وعلى الزوجين أن يضعا دستورًا لحياتهما وأسسًا للتفاهم المشترك بينهما لتدوم المودة والرحمة، وتتحقق السعادة لهما.
-للرجل حق القوامة في البيت، قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34].
-الرعاية حق مشترك بين الرجل والمرأة في البيت، قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها) [متفق عليه].
-التزام المرأة بالوفاء بحقوق زوجها عليها، وحسن طاعته، قال صلى الله عليه وسلم: (إيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة) [الترمذي].
-التزام الرجل بالوفاء بحقوق زوجته؛ بحسن معاشرتها وإعفافها والإنفاق
عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو
يحتسبها؛ كانت له صدقة)_[متفق عليه].
-التزام الوالدين برعاية أولادهما، وحسن تربيتهم، وتعليمهم أمور دينهم، قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين . وفرقوا بينهم في المضاجع) [أبوداود].
-التزام الأبناء ببر الوالدين وطاعتهما فيما يرضي الله، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا}_[الإسراء: 23].
-صلة الأرحام وبر الأقارب والأصحاب، قال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه) [البخاري]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أبَر البر أن يصل الرجل وُدَّ أبيه)_[مسلم والترمذي].
-الالتزام بحق الجار، قال صلى الله عليه وسلم: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورِّثه) [متفق عليه].
-معرفة الفضل لأهله واحترام الكبير، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)_[أبو داود والترمذي]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) [أبوداود].
-التحلي بالصبر أمام الشدائد والمصائب وفي كل الأمور، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
-الصدق في المعاملة والحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة) [متفق عليه].
-التوكل على الله والاعتماد عليه، قال تعالى:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} _[لطلاق: 3].
-الاستقامة على طريق الله، قال تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112].
-المسارعة إلى الخيرات والعمل الصالح، قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}
[المائدة: 48].
-تجنُّب البدع ومحدثات الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: (من أَحْدَث في أمرنا هذا ما ليس فيه؛ فهو رَدّ) [متفق عليه].
-التعاون على البر والتقوى، وفي كل أمور الحياة، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2].
-بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) [مسلم].
-الابتعاد عن الظلم، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].(/1)
-ستر العورات والمحافظة على حرمة الغير، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة) [مسلم].
-قضاء حوائج المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كُرْبة؛ فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة) [مسلم].
-الزهد في الدنيا والتخفُّف من أعبائها، قال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد: 20].
-الاعتدال والاقتصاد في المعيشة والإنفاق، قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67].
-الكرم والجود، قال تعالى: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم}
[البقرة: 273].
-الإيثار واجتناب البخل والشُّح، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
-الوَرَع وترْك الشبهات، قال صلى الله عليه وسلم:( إن الحلالَ بَيِّن وإن الحرام بَيِّن، وبينهما مُشْتَبِهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) [متفق عليه].
-التواضع وخفض الجناح، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ؛ ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ [مسلم].
-الحِلم والرأفة والرفق، قال تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134]. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) [مسلم].
-التخلق بالحياء، قال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)
[متفق عليه].
-الوفاء بالعهد، قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا}
[الإسراء: 34].
-البشاشة والمرح، قال صلى الله عليه وسلم: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) [الترمذي].
-الوقار والسكينة، قال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63].
-حسن الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم) [الترمذي].
-إلقاء السلام، قال تعالى: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} [النور: 61].
-الاستئذان، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} [النور: 27].
-الإحسان إلى الخدم، قال صلى الله عليه وسلم: (فمن كان أخوه تحت يده فَلْيُطعمه مما يأكل، ولْيُلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) [متفق عليه].
-حب العلم والتعلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهل الله له طريقًا إلى الجنة) [مسلم].
-الابتعاد عن التجسس والغِيبة والنميمة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات: 12].
-الابتعاد عن الحسد، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والحسد ؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) [أبو داود].
-عدم إساءة الظن، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث) [متفق عليه].
-الاهتمام بجمال البيت، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله -تعالى- جميل يحب الجمال) [مسلم].
-مراعاة النظام في كل أمور المنزل.
**********************(/2)
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية
1-3
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
لقد أرسل الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين فقام عليه الصلاة والسلام بواجب الدعوة إلى الله أتم قيام وقام وتحمل المسؤولية وتحمل الأذى في سبيل الله تعالى، فهيا بنا نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته العطرة، نرى كيف دعا النبي صلى الله عليه وسلم -وهو فرد واحد- في قريش والعالم كله ضده ونرى كيف استطاع في مدة وجيزة أن يوجد وأن يخرج خير جيل عرفته البشرية. ونبدأ من البداية منذ نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام رحمه الله: فلما بلغ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً،[1] ولقد حبب إليه الخلاء فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور، يقيم في شهر رمضان ويطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم.. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة. وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ، دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما رواء الوجود من غيب مكنون حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.[2]
الرؤيا الصادقة أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة – فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة: مالي وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة – وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي).[3]
قال ابن حجر: وكان ذلك أى: انقطاع الوحي أياماً؛ ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع وليحصل له الشوق إلى العود[4] فلما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود، جاءه جبريل للمرة الثانية.(/1)
روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، قال:فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني فزملوني فأنزل الله تعالى: (يا أيها المدثر إلى قوله: فاهجر ثم حمى الوحي وتتابع.
لقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأوامر من ربه عز وجل: (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً).
إن هذه الأوامر قد ترى أنها بسيطة في الظاهر، ولكنها بعيدة المدى والغاية قوية الأثر والفعل في الحقيقة: فغاية القيام بالإنذار أن لا يترك أحداً ممن يخالف مرضاة الله في الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه. وغاية تكبير الرب أن لا يترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها، وتقلب ظهراً لبطن حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء الله تعالى. وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن، وفي تزكية النفس من جميع الشوائب والألواث. وفي الآية الأخير إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة والاستهزاء والسخرية إلى الجد والاجتهاد في قتله وقتل أصحابه وإبادة كل من التف حوله من المسلمين.
والآيات نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ، فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك أعمالاً لها عاقبة سوآى يلقاها أصحابها، ونظراً لما يعرفه كل احد أن الدنيا لا يجازى فيها بكل ما يعمل الناس، بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال، فالإنذار يوماً للمجازاة غير أيام الدنيا، وهو الذي يسمى بيوم القيامة ويوم الجزاء والدين. وسائر الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح. وتفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، وترك مرضاة النفس، ومرضاة العباد إلى مرضاة الله تعالى.
فإذن تتلخص هذه المواد في:
1. التوحيد.
2. الإيمان بيوم الآخرة.
3. القيام بتزكية النفس.
4. تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى.
5. وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحت قيادته النبيلة وتوجيهاته.
إنها لكلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع و الأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلّ قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً! لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائماً على الدعوة إلى الله تعالى يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً. لا يلهيه شأن عن شأن من خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب.. جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.[5] وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد.
يمكننا أن نقسم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية إلى ثلاث مراحل:-
1. مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين.
2. مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة.
3. مرحلة الدعوة خارج مكة، وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
معلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسراً وشدة عما لو كان بعيداً عنها.
فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث، كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم.
وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولاً على ألصق الناس به وآل بيته وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه خيراً ممن يعرفهم ويعرفونه؛ يعرفهم بحب الخير، ويعرفونه بتحري الصدق، والصلاح.
فأجابه من هؤلاء – الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره- جمع عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين. الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن ثابت بن شرحبيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب وكان صبياً يعيش في كفالة الرسول وصديقه الحميم أبوبكر الصديق. أسلم هؤلاء في أول أيام الدعوة.(/2)
وأصبح كل واحد منهم أمة لوحده يدعو إلى الله تعالى فهذا أبوبكر بعد أن أسلم نشط في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألفاً محبباً سهلاً، ذا خلق ومعروف. وان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله التيمي. فكان هؤلاء الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام.
ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون، وأخواه قدامة وعبد الله. وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، وخباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً.[6]
قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به.
أسلم هؤلاء سراً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفياً؛ لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمي بعد أن فتر، وبعد نزول أوائل المدثر. وكانت الآيات وقطع السور التي تتنزل في هذا الزمان قصيرة، ذات فواصل رائعة، تشتمل على تحسين وتزكية النفس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك.
وإلى هنا انتهى الدرس الأول ويليه الدرس الثاني بمشيئة الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
[1]- سيرة ابن هشام 1/263.
[2]- في ظلال القرآن 29/166-167.
[3]- صحيح البخاري كتاب العلم (1/2).
[4]- فتح الباري (1/27).
[5]- في ظلال القرآن تفسير سورة المزمل والمدثر (29/168-171).
[6]- سيرة ابن هشام (1/245) وما بعدها.
---------------------
دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم – في المرحلة المكية
(2-3)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:-
ذكرنا في الدرس الماضي مقدمة عن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم – ونزول الوحي، وانتشار الإسلام سراً، فالدعوة كانت سرية وفردية لكن بلغت أنباءها إلى قريش، بيد أنها لم تكترث بها، ولعلها حسبت محمداً –صلى الله عليه وسلم-أحد الديانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها، كما كان يصنع أمية بن أبي الصلت وقُس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته.1
مرت ثلاث سنوات والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تجمعهم الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها. وخلالها كان المسلمون يجتمعون سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم ولم يكونوا يؤدون كثيراً من الشرائع سوى الصلاة, ركعتين في الغداة وركعتين بالعشي مصداقاً لقوله تعالى: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ))(غافر55)وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، واستمروا كذلك حتى تنزل الوحي يكلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم
وتبدأ مرحلة جديدة – من مراحل الدعوة في مكة؛ مرحلة الدعوة الجهرية، وكان أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))(الشعراء214)(/3)
فدعا صلى الله عليه وسلم بني هاشم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، حتى تكاملوا خمسة وأربعين رجلاً فبادره أبو لهب، وقال:وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية، وقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن فيما تعملون وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً. فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك! وأقبلنا لنصيحتك! وأشد تصديقاً لحديثك! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فأمض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقيناً.
وبعدما تأكد للنبي - صلى الله عليه وسلم – تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلغ عن ربه، قام يوماً على الصفا فصرخ: يا صباحاه. فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته واليوم الآخر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))(الشعراء214) صعد النبي - صلى الله عليه وسلم – على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: (( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ )) (المسد-1) 2 رواه البخاري وروى مسلم طرفاً آخر من هذه القصة عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ )) الشعراء: 214 دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فعم وخص. فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً، إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلاها).
هذه الصيحة العالية هي غاية في الإبلاغ، فقد أوضح الرسول - صلى الله عليه وسلم – لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم. وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله.
ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة والناس بين ضعيف داخل في الإسلام يستخفي بدينه وبين وجيه صاد عن سبيل الله، حتى نزل قوله تعالى: (( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ))(الحجر94) فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يعكر على خرافات الشرك وترهاته ويذكر بحقيقة الأصنام، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات الجلية أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله فهو في ضلال مبين.
وهنا انفجرت مكة بمشاعر الغضب وماجت بالغرابة والاستنكار حين سمعت صوتاً يجهر بتضليل المشركين؛ عباد الحجر والشجر، فكأنه صاعقة قصفت السحاب فردعت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ، وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها.
قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى الله، ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم الآخر هو الانقياد التام والتفويض المطلق لهذه الكلمة ومدلولاتها، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم فضلاً عن غيرهم، وبالتالي انتفاء سيادتهم وعلوّهم على العرب.
عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم تأبى قبول هذا الوضع المخزي في ظنهم (( َبلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ))(القيامة5).
عرفوا كل ذلك جيداً ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، يمتلك أعلى مراتب القيم والمثل البشرية ومكارم الأخلاق؟ لم يعرفوا له نظيراً ولا مثيلاً خلال تاريخ آباءهم وأجدادهم. وحق لهم أن تتحير معه عقولهم وقلوبهم، ، فقلوبهم تهفوا لما جاء به ملبية نداء الفطرة بدواخلهم، وعقولهم تصد عن ذلك لما علمت من ذهاب حظها من الرئاسة والجاه.(/4)
وبعد إدراة الفكر والمشورة لم يجدوا سبيلاً إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، علّهم أن يطلبوا منه كف ابن أخيه عنهم فيستجيب لهم، أو يجدوا عنده مخرجاً مما هم فيه، وقد رأوا أن يلبسوا طلبهم ودعواهم تلك لباس الجد والحقيقة ويقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلتهم، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة، وإهانة شديدة لها. وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين, ثم ارتأوا أن يضربوا على وتر الشراكة في المصالح, والاتحاد في الوجهات، فهم على خلاف مع هذا الدين كما أن أبا طالب على خلاف معه.
قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعوا إليه.3
وخلال هذه الأيام أهم قريشاً أمراً آخر، وهو أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم – حتى لا يكون لدعوته أثر وصدى في نفوس العرب، فلابد من شن حرب إعلامية هدفها إغلاق أكبر قدر ممكن من الآذان التي يمكن أن تسمع للدين الجديد. فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في أمر تلك الكلمة فقال لهم الوليد: اجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، قالوا: أنت فقل. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا فنقول: مجنون. قالوا: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه- ماهو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فماهو بالشعر قالوا فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وأن أصله لعذق، وإن فرعه لجنة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك.4
وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له قالوا: أرنا رأياً لا غضاضة فيه فقال لهم: أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظلّ الوليد يفكر ويفكر حتى أبد لهم رأيه الذي ذكر آنفاً فأنزل الله فيه ست عشرة آية من سورة المدثر ، خلالها صور كيف فكر وقدر، قال تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( ) ثُمَّ نَظَرَ ( ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( ) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ( ).. الآيات).
ٍ وبعد اتفاق مجلسهم الأعلى على هذا القرار أخذوا في تنفيذه فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. وتولى أبو لهب كبر ذلك فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يتبع الناس إذا وافى الموسم في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى الله وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب... إلا أن السحر انقلب على الساحر وباء سعي أبي لهب بالخسران وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
واستمر الرسول - صلى الله عليه وسلم – يدعو إلى الله في كل مكان ووقت لا يفتر أبداً، وقريش تفكر في أمره مرة وأخرى حتى تلخصت أساليبهم لقمع هذه الدعوة فيما يلي:-
1. السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والضحك،يقصدون بذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي - صلى الله عليه وسلم – بتهم ساقطة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالجنون. ((وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ))(الحجر6) ويصمونه بالسحر والكذب ((وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ))( ص-4) وكانوا يشعيونه ويستقبلونه بنظرات ملتهبة ناقمة، وعواطف هائجة ((وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ))(القلم51) وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزؤوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه ((مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا))(الأنعام53) فقال تعالى جواباً عليهم: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ))(الأنعام53).(/5)
2. تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات حولها, وبث الدعاوى الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية عنها، وحول وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته، والتفكر فيها فكانوا يقولون عن القرآن ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )(الفرقان:5) وكانوا يقولون: (( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))(النحل103) وكانوا يقولون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ)) (الفرقان: 7) وما إلى ذلك من نماذج كثيرة للردود عليهم.
3. ومن الأساليب أيضاً معارضة القرآن بأساطير الأولين فقد ذهب النضر إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وأسفنديار فكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مجلساً للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني5 وتفيد رواية ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينتان، فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – إلا سلط عليه واحدة منها تطعمه وتسقيه وتغني له حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (6) سورة لقمان.
4. المساومات:
حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في متصف الطريق فعرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة فأنزل الله سورة الكافرون.
فلما لم تنفع كل هذه الوسائل أجمعت قريش أمرها واجتمعت وكونت لها ما يسمى بلجنة المشاورات أعضاؤها خمسة وعشرون رجلاً من سادات قريش رئيسها أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد تشاور هذه اللجنة خرجت بقرار وهو أن لا تألوا جهداً في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله وتعذيب الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام6 فأما بالنسبة للمسلمون ولا سيما المستضعفون منهم فكان ذلك في حقهم سهلاً جداً. وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فإنه كان رجلاً شهماً وقوراً ذا شخصية فذة تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف ولا يجترئ على اقتراف هذه الدنايا والرذائل في حقه إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، وهو مع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين عظيماً في حسبه وأصله، ومعظماً بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته. ولذلك فقد أقلق هذا الوضع قريشاً قلقاً كبيراً.
وبدأت مرحلة أخرى في العداء وهي مرحلة الاعتداء الظاهر التآمر الخفي ضد النبي - صلى الله عليه وسلم – وعلى رأس القوم أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي. فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاه وهو يصلي، وهو - صلى الله عليه وسلم – يقول لهم: يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في بالطريق. ووضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد فدعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم – فلم يسلم منهم أحد يوم بدر. وكلما ازداد أعداء الله - عز وجل – إيذاءً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – وللمسلمين زاد تمسكهم أكثر وتثبتهم بمنهجهم وعقيدتهم..
ونقف هنا وسنذكر بقية الاضطهادات التي حصلت للصحابة - رضي الله عنهم – في الدرس القادم بمشيئة الله - تعالى-، والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
1- فقه السيرة ص76.
2- صحيح البخاري ومسلم.
3- ابن هشام (1/265).
4- المصدر السابق (1/271).
5- ابن هشام 1/299.
6- ابن هشام 1/416.(/6)
دعوية الحوار والتعاون مع الآخر
لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الدعاة والكُتَّاب المسلمين عن أهمية الحوار مع «الآخر» وعن ضرورة الاعتراف «بالآخر» وعن ضرورة البرِّ والقسط إليه، إلى درجة يكاد يرفع، من خلال ذلك، بعض الكتّاب المسلمين «الآخر» فوق المسلم، ويحرصون عليه وعلى حقوقه ولا يلتفتون إلى المسلم وحقوقه، وعُقِدت مؤتمرات وندوات عن ذلك. وبعضهم يبني ذلك على قوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
فيأخذون بعض هذه الآية ويتركون بعضها الآخر الذي هو الأساس. إنهم يقولون: يجب أن نتعامل مع هؤلاء وهؤلاء بالحكمة ونخاطبهم بالتي هي أحسن. وفي سبيل هذا الهدف يمكن أن نتنازل ونتعاون ونتقارب. وبذلك يلغون القاعدة التي قامت عليها الإشارة إلى الحكمة وما تلاها، ألا وهي: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ...}! تَركوا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، وأقاموا مكانها علاقات اجتماعية واقتصادية ومصالح مادية، وأخذوا من الآية الكريمة ما يظنّون أنه يسوّغ ما هم فيه من علاقات تطورت حتى أصبح فيها المسلمون يمتدحون مبادئ هؤلاء وفلسفاتهم ونظمهم وأدبهم وفكرهم. انقلبت الآية وأصبحنا نحن الذين نُدْعَى ولسنا الذين يدعون، على الأقل من الناحية العمليّة التطبيقية والنتائج الملموسة.
كيف يأمرنا الله أن ندعو هؤلاء من أهل الكتاب وغيرهم؟ وكيف تكون العلاقة معهم؟ فلنستمع إلى آيات الله البيّنات:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 47 - 48].
إنَّ أوّل ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الإسلام، دعوة واضحة جادّة صريحة، دعوة إلى التخلّي عن الشرك.
إنَّ المواربة في هذا الأمر أو المداهنة أو المساومة ليست أسلوباً يدعو له الإسلام أو يرضى به الله. إنَّ الله يريد أن تكون دعوته واضحة جليّة، وأن نُبلّغها كما أُنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فليست الدعوة إذن إلى التقارب مع «الآخر» فأيّ تقارب بين التوحيد والشرك؟ إنَّ قوة أهل الكتاب اليوم وسلطانهم الممتدّ يضغط على بعض المسلمين وعلى فكرهم، فتختلط الأمور تحت تأثير هذا الضغط.
لا بدَّ من أن نؤكِّد أنَّ أساس العلاقات هو الدعوة إلى الإسلام، وأن تكون الدعوة واضحة جليّة لا تدع لأحد عذراً يدّعي معه أنه لم يستوعب الدعوة، ويجب أن تكون الدعوة عامة على جميع المستويات، كما أنزلت من عند الله.
ولنستمع إلى آيات بيّنات أخرى توضّح ذلك:
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 60 - 63].
وهذا أسلوب آخر من أساليب الدعوة إلى الإسلام يحمل خصائص الأسلوب السابق نفسها: الوضوح والجلاء، النهي عن المراء والمماراة؛ فإذا لم ينفع الجدل بإقناعهم بالحقّ من عند الله، فليجتمعوا ليدعوا أنَّ لعنة الله على الكاذبين. وأسلوب آخر:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
أسلوب ثالث، ولكنه مثل سائر الأساليب، واضح جليّ حاسم. فإن لم يستجيبوا فيعلن المسلم إسلامه واضحاً جليّاً ويقول: «اشهدوا بأنا مسلمون».
لقد عرضت هذه الآية الكريمة أُسس الخلاف وأخطر قضاياه، وحددت الموقف الإيماني الحاسم منها كلّها.
هذه هي الحكمة والموعظة الحسنة التي يريدها الله والتي أشارت إليها الآية من سورة النحل: قول الحقّ والصدق، الوضوح والجلاء، عرض أخطر القضايا.(/1)
فلم يكن القرآن يبحث عن العوامل المشتركة الأساسية في دعوة الآخرين من المشركين ومن أهل الكتاب وغيرهم كما يدّعي بعض المسلمين اليوم؛ إنَّما كان يعرض الحق ويدعو إليه. فأنَّى يكون بين التوحيد والشرك عوامل مشتركة؟ وإذا كانت هنالك عوامل مشتركة هم يؤمنون بها ونحن نؤمن بها؛ فلماذا ندعوهم إليها؟ فما ذكرته الآية الكريمة من سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ..}، لا تعرض عوامل مشتركة، وإنما تعرض جوهر الخلاف والقضايا غير المشتركة لتذكّرهم بها؛ لأنَّها كانت هي أساس دينهم الذي حرّفوه، حتى أصبحوا بسبب التحريف مشركين. وإذا كانت كلمة «سواء» عاملاً مشتركاً فلماذا ندعوهم إليها؟
إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمرنا أن ندعو أهل الكتاب إلى الحقِّ الذي فارقوه، وأمرنا أن نُجادلهم بالتي هي أحسن، دون أن نُغيّر حقيقة الدعوة وأهميتها وقضاياها تحت ادعاء «بالتي هي أحسن»:
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].
نعم! بالتي هي أحسن. إنها الأسلوب الذي يقنعهم بالحقِّ دون أيّ تنازل عنه. وهذا الحق هو الذي أُنزل إلينا فآمنَّا به وحفظه الله لنا، وهو الذي أُنزل إليهم كذلك فحرّفوه وبدَّلوه فأشركوا. ثم تكون النتيجة هي الحسم والفصل: «ونحن له مسلمون».
لا بدّ أن يكون أسلوب الجدال يجمع قوة الحجّة، وصدق النيّة، وسلامة المنهج.
إنَّ الذي يعرضه القرآن الكريم من أجل التعامل مع «الآخر» وغيرهم في الأرض هو منهج متكامل متماسك، وليس قطعاً منثورة هنا وهناك. فلا بدّ حين نتحدّث عن هذا الموضوع أن نشير إلى هذا المنهج وإلى تكامله وإلى أسسه التي يقوم عليها، حتى تكون الصورة التي نعرضها أقرب للتقوى.
وحين لا نلتزم النهج أو لا نشير إليه وإلى أُسسه، ونكتفي بأخذ آية واحدة من هذا المنهج، فإنَّ الصورة ستختلف عندئذ كثيراً، والمصطلحات التي نستخدمها لا تنصف الدلالة المرجوة وقد تفارقها.
ويقول بعض الدعاة إنَّ الإسلام يدعو إلى التضامن مع «الآخر»، لدرء المفاسد وجلب المصالح والمنافع للناس، كرفع الظلم ورعاية حقوق الإنسان وتعزيز الحريّة والعدالة وسائر المبادئ الإنسانية، ويستشهد على ذلك بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد حضرت في دار ابن جدعان حلفاً ما أُحبُّ أنَّ لي به حمر النعم، ولو أُدعى إليه في الإسلام لأجبت» [سيرة ابن هشام].
حين يقال ذلك فإنه لم يُبيّن مَنْ هو «الآخر» أولاً، وما هي المفاسد وما هي المصالح، وما هي حقوق الإنسان وما هي الحريّة والعدالة والمبادئ الإنسانية، وما هو مقياس ذلك كله وميزانه؟ ومن الذي يحدّد المقاييس والموازين؟
إنّ حلف الفضول الذي كان في الجاهلية كان تعاهداً بين قبائل قريش: «على أن لا يَدَعوا بمكّة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا أقاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ إليه مظلمته». لقد كان أولاً حلفاً على قضيّة محدّدة بين قبائل قريش، لهم على الظلم ميزان يحتكمون إليه في جاهليتهم. وبعض هذا الميزان خير وبعضه غير ذلك. فإن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه المذكور أعلاه فلا يعني أنه أقرَّ ميزان الجاهليّة لتحديد الظلم ولرفعه. ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- في حديثه المذكور «لو أُدعى به في الإسلام لأجبت». وهذا يعني أنه «في الإسلام» لن يكون إلا ميزان واحد هو ميزان الإسلام، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه التعاون في نظر الإسلام؛ حيث يكون ميزان واحد يميّز الباطل من الحقِّ.
ففي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقرارٌ لمبدأ التعاون على رفع الظلم، وتحديد للميزان الذي يحدّد الظلم. وكان «الآخر» آنذاك محدّداً معلوماً.
أما اليوم، فحين ندعو إلى التضامن مع «الآخر» فمن هو «الآخر»؟ أليس هو الذي أجرى دماء المسلمين في فلسطين وفي العراق وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟ أليس هو القوة المسيطرة التي تحكم في الأرض بموازينها المضطربة وشعاراتها المزخرفة ومكاييلها المتعددة؟
فيحقُّ لنا أن نتساءل: إذاً لماذا هذا الحرص على «الآخر»، و«الآخر» ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا؟ ولماذا تُثار هذه القضية و «الآخر» يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد؟
وباستعراض تاريخنا وخاصة في العصر الحديث الذي نعيشه لا أجد أنَّ «الآخر» وجد عدالة وحياة أفضل مما وجدها بين المسلمين. لقد عاش النصارى في معظم أقطار العالم الإسلامي حياة مطمئنّة كريمة إلا في فترات قليلة من تاريخنا الإسلامي. فالنصارى واليهود لم يُظْلموا في المجتمعات الإسلامية، ولكن يعاقبون بمقدار ما يُكْشَف من تعاونهم مع أعداء الأمة حين يتلقّون منهم التوجيه، ويعملون حسب المخطط الذي يرسمونه لهم.(/2)
فمن قائل: يجب أن نُقْسِط مع الآخر، ومن قائل: يجب أن نعترف به. ونتساءل: ولِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط «الآخر» معنا ويعدل معنا؟ فهو الظالم المعتدي المنكِر لحقوقنا. ومن قائل: يجب أن ننفتح عليه. وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه؟ فُتِحَتْ له القلوب والديار؟ إنَّ الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
نحن المسلمين اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كلّ ناحية. وإنَّ أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عمليّاً يعين الأمة على الخروج مما يُكاد لها ويُمْكرُ بها.
إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق.
يجب أن لا يدفعنا الإحباط والهوان إلى أن نتلمس النجاة عند «الآخر». إنَّ سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيِّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.
إنَّ الإسلام، والإسلام وحده، مصطلحاً ومعنىً ونهجاً، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها ونتعهّدهم عليها، بها نُخاصِم وبها نرضى وبها نتعاون.
مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا، فإنَّ لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل، وتبعث فينا القوة والعزيمة، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب، في صورة عبادة لله، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان ...
----------------------
د . . عدنان علي رضا النحوي
مجلة البيان(/3)
دفاع الأسرة المسلمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم
إعداد/ جمال عبد الرحمن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.. وبعد.
فإن الأسرة المسلمة بكافة أفرادها كانت فداءً لرسولها محمد صلى الله عليه وسلم، فرجالها ونساؤها وأطفالها ضربوا أروع الأمثلة في الدفاع عن هذا النبي الكريم، ليس فقط بالكلام والادعاء، إنما بالعمل والفداء، وبذل الأرواح، والأزواج والآباء والأبناء كل ذلك فداءً ودفاعًا عن نبي الإسلام، فإنهم كانوا يعرفون حق المعرفة مكانته عند الله سبحانه وعند المؤمنين.
قال الله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:04]، وقال: فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [التحريم:4].
وهذه صورة مشرقة لرجل أخذته الغيرة على عرض رسوله صلى الله عليه وسلم فانظروا كيف فعل مع امرأة هي أم ولديه اللذين يشبهان القمر واللؤلؤ، ومع أن هذه المرأة كانت رقيقة رفيقة بهذا الرجل. فماذا حدث بينه وبينها؟
أولا: الصحابة ودفاعهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذاتَ ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المِغْول (وهو السكين) فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطَّخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: «أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام»، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ أنا صاحبها؛ كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذْتُ المِغْوَل فوضَعْتُه في بطنها واتكأْتُ عليها حتى قتلتُها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا اشهدوا أن دمها هدر».
[سنن أبي داود. وقال الألباني صحيح]
(أم ولد)، أي غير مسلمة، ولذلك كانت تجترئ على ذلك الأمر الشنيع، (وتقع فيه)، أي: تعيبه وتذمه صلى الله عليه وسلم، (ويزجرها)، أي: يمنعها. (فلا تنزجر)، أي: فلا تمتنع. (فلما كانت ذات ليلة) (فأخذ)، أي: الأعمى. (المِغْوَل) مثل سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطيه، وقيل: حديدة دقيقة لها حدٌ ماضٍ، (واتكأ عليها)، أي: تحامل عليها. (فوقع بين رجليها طفل): لعله كان ولدا لها، والظاهر أنه لم يمت. (فلطخت)، أي: لوثت. (ما هناك) من الفراش، (فقال صلى الله عليه وسلم: أنشد الله رجلاً)، أي: أسأله بالله وأقسم عليه. (فعل ما فعل، لي عليه حق)، أي: يجب عليه طاعتي وإجابة دعوتي. (يتزلزل)، أي: يتحرك (بين يدي النبي): أي: قدَّامه صلى الله عليه وسلم. (مثل اللؤلؤتين)، أي: في الحسن والبهاء وصفاء اللون، (أَلا) بالتخفيف، (إن دمها هَدَر) لعله صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صدق قوله، وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله، قاله السندي.
قلت؛ لأنه لا يجوز أن يقوم بهذا العمل فرد على حده، إنما يكون ذلك عن طريق إمام المسلمين، ولذلك ذكر السندي هذا الاعتذار.
قال المنذري: وأخرجه النسائي، وفيه أن ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل، وقد قيل: إنه لا خلاف في أن سابه من المسلمين يجب قتله، وإنما الخلاف إذا كان ذميًا؛ فقال الشافعي: يُقتل وتَبْرأ منه الذمة، وقال أبو حنيفة لا يقتل؛ ما هم عليه من الشرك أعظم، وقال مالك: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قُتِل إلا أن يسلم. [انتهى كلام المنذري]
وعن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد اتقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك، فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانه.(/1)
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتقد سعد بن الربيع الأنصاري بعث إليه من يبحث عنه ويطلبه بين القتلى، فإذا به وهو في الرمق الأخير يصيح في قومه الأنصار بأنهم لا عذر لهم أن يمس النبي صلى الله عليه وسلم أذى وهم على قيد الحياة. عن بكير قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلتُ أطوف بين القتلى فأصبته في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السلام عليك ويقول لك: «كيف تجدك؟» قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله؛ أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخْلَصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف (أي رمش يتحرك). قال: وفاضت نفسه رحمه الله
[الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]
فسبحان الله عاشوا على حب رسولهم والدفاع عنه، وماتوا على خير وهم يوصون به، وجراحات كثيرة، ودماء غزيرة دفاعًا عن الإسلام ورسول الإسلام، ليس كلامًا وشعارات.
ثانيًا: والنساء فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن النسوة اللاتي تربَّث في مدرسة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم من كن مدافعات عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشدة معرضات أنفسهن للقتل. لكنه قليل جلل إذا كان ذلك نصرًا لله ورسوله، والله تعالى قد وصفهم وشهد لهم بالصدق فقال: ... يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر:8]. من هؤلاء النسوة أم عمارة (نسيبة بنت كعب المازنية).
قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أُحُد، فذكر سعيد ابن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلْتُ على أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك؛ فقالت: خرجْتُ أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين (أي الغلبة والنصر للمسلمين)، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال وأَذُبُّ عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إليَّ. قالت أم سعد: فرأيتُ على عاتقها جرحًا أجوف له غَوْر، فقلت لها: مَنْ أصابكِ بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله؛ لَمَّا وَلَّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أقبل ابن قمئة يقول: دلوني على محمد؛ لا نجوتُ إن نجا، فاعترضتُ له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربتُه على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
كم تساوي هذه المرأة التي كانت تقاتل الرجال وتنازلهم دفاعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم رغم الضربات التي تعرضت لها؟
ـ وهذه امرأة أخرى من أروع الأمثلة في نفس الغزوة ـ أحد ـ وقد أصاب المسلمين ما أصابهم، بل وقد أصيبت هذه المرأة في زوجها وأخيها وأبيها، ولا هم لها إلا أن تطمئن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا فُعل به؟
عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب (قُتِل) زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، فلما نُعُوا لها (أي وصلها خبر مقتلهم) قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (أي هينة). قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير وهو ههنا القليل. يعني كل مصيبة تكون قليلة وتهون من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سيرة ابن كثير والبداية والنهاية]
ثالثا: الأطفال يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر؛ فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلَعَ منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم؛ هل تعرف أبا جهل؟ قلت نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخْبِرتُ أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟». قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟». قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله». وكانا معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.(/2)
ومعنى (حديثة أسنانهما) أي صغيرين. (أضلَع) أشد وأقوى. (فغمزني) جسني بيده والغمز أيضا الإشارة بالعين أو الحاجب أو نحوهما. (سوادي) شخصي. (الأعجل منا) الأقرب أجلاً. (فابتدراه) أسرعا في ضربه وسبقاه. (فنظر في السيفين) ليرى مقدار عمق دخولهما في جسم المقتول وأيهما أقوى تأثيرًا في إزهاق روحه.
فهذان الصبيان كانا بجوار عبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع، ولما رآهما أشفق عليهما وتمنى أن يكون بين مقاتلَيْن أقوى وأشد من هذين الصبيين، لكنه فوجئ بفرسان الملاحم وصقور الحرب. صبيان يقتلان طاغوت قريش ورمز كبريائها ورأس الكفر والعناد والصد عن سبيل الرشاد. رحم الله المعاذَيْن. معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح. وإذا كانت الأمة الإسلامية قديما بهذه العزة وهذه الكرامة التي هي منظومة بين جميع أفراد الأسرة الرجال والنساء والأطفال، فما الذي جعل أعداء الإسلام يطمعون في أمة الإسلام ويتوجهون إليها بالإهانة حتى يصل الأمر إلى سب نبيها والوقوع فيه؟
وهؤلاء فتية يتسابقون ويبكون من أجل المشاركة في جيش النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته.
إن رسولنا صلى الله عليه وسلم أخبر عن الداء والدواء في آن واحد.
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: تأيّمت أمي (صارت أرملة)، وقدمَت المدينة، فخطبها الناس، فقالت: لا أتزوج إلا برجل يكفل لي هذا اليتيم، فتزوجها رجل من الأنصار، قال: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فيُلحِق من أدرك منهم، قال: فعُرِضْتُ عامًا فألحق غلامًا وردني، فقلت: يا رسول اللَّه، لقد ألحقته ورددتني، ولو صارعتُه لصرعته، قال: «فصارعْه» فصارعته فصرعته، فألحَقَني.
[الحاكم 2/2356، والبيهقي 9/17588]
ولا شك أن إعداد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا العرض لقبول المجاهدين فيه تشويق للمشاركة، وحرص على القبول، وأسى وأسف لمن لم يلتحق من الصبيان بالمجاهدين، وبذلك يشارك الشباب في الجهاد عن رغبة وحرص، فيبذل روحه سهلة رخيصة في سبيل إعلاء كلمات هذا الدين وهكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن فتى من أسلم (أنصاري) قال: يا رسول اللَّه، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز، قال: «ائت فلانًا فإنه قد كان تجهز فمرض»، فأتاه فقال:: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول: أعطني الذي تجهزتَ به، فقال: يا فلانة، أعطيه الذي تجهزتُ به ولا تحبسي عنه شيئًا، فواللَّه لا تحبسي منه شيئًا فيبارَك لنا فيه. [مسلم 3510].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لَك يا أخي ؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيردَّني، وأنا أحب الخروج لعل اللَّه يرزقني الشهادة، قال: فعُرِض على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فردَّه لصغره فبكى، فأجازه ( قَبِله ) عليه الصلاة والسلام. فكان سعد رضي الله عنه يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقاتل وهو ابن ست عشرة سنة رضي الله عنه. [الحاكم 3/4864]
ولما خرج المسلمون إلى أُحد للقاء المشركين استعرض النبي صلى الله عليه وسلم الجيش فرأى فيه صغارًا حشروا أنفسهم مع الرجال ليكونوا مع المجاهدين لإعلاء كلمات اللَّه، فأشفق عليهم صلى الله عليه وسلم وردَّ من استصغر منهم، وكان فيمن ردهم عليه الصلاة والسلام رافع بن خديج، وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافعًا لما قيل له: إنه رامٍ يحسن الرماية، فبكى سمرة وقال لزوج أمه: أجاز رسول اللَّه رافعًا وردَّني، مع أني أصرعه، فبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخبر فأمرهما بالمصارعة، فكان الغالب سمرة فأجازه عليه الصلاة والسلام.
وهذه أم حارثة بن الربيع، رضي اللَّهُ عنهما؛ يقول أنس رضي الله عنه أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان حارثة ابنها قُتل يوم بدر، أصابه سهم غرب (خطأ)، فقالت يا رسول اللَّه، ألا تحدِّثُني عن حارثة؟ فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أم حارثة، إنها جِنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى». قال قتادة: والفَردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
[البخاري 2598، والترمذي 3058].
سبب ضعف الأمة
أخرج الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها، قال: قلنا يا رسول الله؛ أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: «أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، يُنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويُجعل في قلوبكم الوهن». قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: «حب الحياة وكراهية الموت».
[مسند أحمد ح05422 بإسناد حسن](/3)
إنه لشيء محزن أن تكون أمة الإسلام يومًا ما كغثاء السيل على كثرة عددها، لأن غثاء السيل هو كل ما يحمله السيل الجارف من على وجه الأرض من ما ينفع ويضر، ومن ما هو طاهر وما هو نجس، فهل يكون أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف؟
نسأل الله أن يردنا إلى هدي نبيه ردًا جميلا، والحمد لله رب العالمين(/4)
دفاع عن المرأة
المرأة اليوم مهضومة من المسلمين لا من الإسلام؟
نعم، لأن المسلمين لم يطبقوا أحكام الإسلام، فلم يراعوا حقوقها، بل ربما عاملوها بعكس ما هو لها، كما هو الحال في مسألة الميراث، والناظر في حال سلف الأمة يرى أن الإسلام هو الذي أعطاها حقها، ورفع مكانتها، والمرأة هي التي أنجبت خالداً وعلياً وعمر وغيرهم من الرجال الأبطال.
والواجب على كل مسلم أن يعي ويعرف حقوق المرأة، سواء كانت بنتاً أوأماً أو أختاً.
أسباب الحديث عن المرأة ...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بَعْد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (دفاع عن المرأة) وعندي ثلاث قضايا قبل أن أبدأ في الموضوع:
الأولى: أعلن لكم هذه الليلة كالليالي التي خلت حبي لكم في الله، فأشهد الله وحملة عرشه وملائكته ثم المؤمنين أني أحبكم في الله حباً صادقاً، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهذا الحب، وأن يجمعنا وإياكم في دار الكرامة، وفي مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
الثانية: أرحب بأصحاب الفضيلة المشايخ الذين شرفونا بالحضور في هذه الليلة، وكنا ننتظرهم وننتظر غيرهم كثيراً، وإني أرى أن من المسائل التي تنقص المنطقة: عدم مشاركة العلماء والمشايخ والقضاة الندوات والدروس والمحاضرات، وقد رأيت عالم البلاد بل عالم الأمة الإسلامية سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وهو يحضر الندوات مع علماء الرياض
، ويشيد بطلبة العلم ولو كانوا مبتدئين ويشد من أزرهم؛ لأن هذا جهاد، ومرابطة المجاهدين على الصبر مطلبٌ شرعي، ورأيت كذلك علماء القصيم ، فإذا هم يحضرون الندوات والمحاضرات لا يغادرون منها شيئاً، فما حقنا إلا أن نحضر وأن نبارك جهد المقل والمقصر، وفي هذا إغاظة للمرتدين والمنافقين، وفي هذا إظهار لعظمة الإسلام والمسلمين، وإظهار للتكاتف والتعاون على البر والتقوى.
أما عنوان هذا الدرس (دفاع عن المرأة) فله سبب.
الثالثة: وقبل أن أبدأ اسمحوا لي أن أقرأ رسالة عاجلة، وإن شئتم سموها برقية مستعجلة.
إلى أخواتي وبناتي في المدرسة التاسعة عشرة الابتدائية (بأبها ) السلام عليكن ورحمة الله وبركاته، وحماكن الله وستركن، وحفظكن في الدنيا والآخرة.
وبعد:
ربما أسيء فهم ما قلته في درس (بريد المستمعين) عن المدرسة التاسعة عشرة، وربما كان من تدبير المولى جلت قدرته، أن ينشر فضائل الفضلاء والفاضلات عن طريق النقد، قال أبو تمام :
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودِ
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودِ
وإني أعلم أن هذه المدرسة بالذات فيها ما يقارب عشرين مدرسة كافلات أيتام، وداعيات متحجبات، وكريمات حشيمات:
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
وإني أعد تكلم النساء عن قضاياهن من الواجب الشرعي، وإني أدافع أنا وأمثالي عنهن بدمائنا وجماجمنا وأرواحنا، وقد حملني ما وقع في درس (بريد المستمعين) إلى أن ألقي هذا الدرس بعنوان (دفاع عن المرأة) وإنني أهدي من هذا الدرس خمسمائة شريط للابتدائية التاسعة عشرة مع السلام والتحية، فليست مشكلة المسجد عندهن فحسب، بل عند كثير من المدارس، ومن نعمة الله عز وجل أن رزقني بأربع بنات وأنا بهن سعيد، أسأل الله لهن ولجميع بنات المسلمين الصلاح والسداد والحفظ والرعاية.
أما الجمعية الخيرية النسائية بأبها فلا أزال على تخوفي وتحفظي أنا وطلبة العلم والدعاة والمشايخ، وأخذاً بالحديث: {فر من المجذوم فرارك من الأسد }.
وأشارك الشاعر -في إصراره لا في أفكاره- فأصر على ما قلت في السبت الماضي نحو الجمعية النسائية الخيرية كإصرار الشاعر لا كفكره يوم يقول:
أتوب إليك يا رحمان مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ
أما أسباب هذا الدرس فثلاثة أسباب:
الأول: لأن المرأة أصبحت طريقاً للغزو ونافذة للتأثير الحضاري، وأصبحت لعبة بيد المهرجين والمروجين ينفذون منها إلى قعر دار الإسلام.
الثاني: اتهام الإسلام من قبل أعدائه بأنه حجر على المرأة حقوق المشاركة، وحجمها، وقلص دورها في الحياة الدنيا، وأنه سبب تعاستها! أتعسهم الله!
الثالث: تقصير كثير من الناس في حقوق المرأة، والتهاون بشأنها الخطير، ومكانتها السامقة التي أنزلها بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.......
المرأة في الكتاب والسنة ...(/1)
يقول المولى جلت قدرته وهو يذكر الناس بتقواه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
وقال جلت قدرته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
وقال جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
قال بعض أهل التفسير: وخلق منها زوجها: حواء خُلقت من ضلع آدم، وقال غيره: بل كل زوجٍ من أصل الزوج الآخر ليسكن بعضهم إلى بعض، وسمى الله الأزواج سكناً ولباساً؛ لأنهن سترٌ في الدنيا والآخرة.......
معاملة الرسول للنساء ...
حثَّ عليه الصلاة السلام على الرحمة بالمرأة ودافع عنها، وهو الذي أعلن حقوقها حتى يوم عرفة ، يوم وقف أمامه مائة وأربعة عشر ألفاً، فأوصى بهن عليه الصلاة والسلام، وقد رزقه الله أربع بنات، وأحيا الله بناته حتى رآهن، وزوجهن ودفن بعضهن، وكان يبدأ بهن قبل أن يسافر، ويبدأ بهن إذا وصل من السفر، من حبه لهن عليه الصلاة والسلام.
وكان يقول كما في الحديث الصحيح: {إن المرأة خلقت من ضلع } وقال ابن عباس : [[من ضلع آدم ]] وقد روى أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، ورواه البزار وأبو عوانة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنما النساء شقائق الرجال } حديث حسن، والمعنى: أن المرأة شقيقة الرجل، وأنها نصف المجتمع، وأنها المؤدية للرسالة في بنات جنسها، والمرأة عندنا أم، وزوجة، وبنتٌ، وأختٌ، ومعلمةٌ، ومربيةٌ، وداعيةٌ، قال سبحانه وهو يتفضل على عباده بالعمل الصالح: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35].
فذكر الله أفعال الخير حتى ختم الآية، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة آل عمران حين ذكر الدعاة والمجاهدين والعاملين والمهاجرين: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
فهناك حزب المؤمنين والمؤمنات، وهناك حزب المنافقين والمنافقات، وهناك لواء المسلمين والمسلمات، وهناك لواء المشركين والمشركات، وقال عليه الصلاة والسلام وهو يوصي الأمة بالرحمة بهذه المرأة الضعيفة: {إنهن عوان عندكم } وفي لفظ: {الله الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم } قال أهل غريب اللغة: عوان: أسيرات، فالمرأة أسيرة ووجب على المسلم أن يرحمها ويقدرها ويحترمها، وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند أبي داود وغيره أنه قال: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي } فخير الناس لأهله محمد عليه الصلاة والسلام، قالوا لعائشة : {كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليكن؟ قالت: كان يدخل ضحاكاً بساماً } فكان يضحك صلى الله عليه وسلم مع أن المشاكل التي تطوف بأمته والحوادث التي تستقر على رأسه لو وضعت على كثيرٍ من البشرية لما استطاعوا حملها.
في صحيح البخاري في كتاب الأدب قال زيد بن ثابت :[[من السنة المزاح مع الأهل، والوقار خارج البيت ]] فبعض الناس عكس الآية، مزاحاً ضحاكاً مع زملائه وأصدقائه، وقطوباً عبوساً مع أهله في بيته.
المرأة عند أهل الشعر والحكمة ...
قال بعض الشعراء المسلمين عن المرأة:
سلامٌ أيها الأم الحنون ويا أم الرجال لك الشجون
فأنت ولودة الأبطال يُحمى عفافك بالجماجم لا يهون
معنى البيت: أننا نقدم الجماجم عن أعراضنا وعن بناتنا، وما أظن أحداً سوف يتأخر إذا رأى أن بناته وأخواته سواء في المدارس أو الجامعات، أو المستشفيات يُمس أعراضهن، ولا حيَّا الله الحياة، ولا أسعد الله الدنيا إذا لم تجر في عروقنا حمية المحافظة على البنات والأخوات، كما يقول شاعرنا:
نحن وجه الشمس إسلامٌ وقوه نسبٌ حرٌ ومجدٌ وفتوه
كربٌ عمي وقحطان أبي وهبوا لي المجد من تلك الأبوه
نحن أسد الله في وجه الردى قد وضعنا الكفر في سبعين هوه
والسيوف البيض في وجه الردى يوم ضرب الهام من دون النبوه
وقال أديبٌ عصري يدافع عن المرأة أمام الحضارة الزائفة المزعومة:
أخرجوها من العفاف إلى السو ق وشقوا جلبابها بالمحاجر
جعلوها على المجلات رمزاً للهراء المفضوح في كف فاجر
وادعوا أنهم بها حرروا الجيل وقد مزقوا الحيا بالخناجر
وقد سلف أن كاتباً يسمى الغريافي قبل عشر سنوات كتب قصيدة (مزقيه): ورددت عليه بقصيدة منها:
حين نادى يا بنة الإسلام خدرك مزقيه(/2)
دخل أحد الحكماء على ملكٍ من الملوك، فوجد طفلة الملك جالسة عند الملك، فقال الملك: سمعت أن الناس يقولون: إن البنات يقربن البعيد ويبعدن القريب ويقطعن الأرحام، فقال الحكيم: كلا أيها الملك! والله إنهن رياحين القلوب، أتين بالرجال.
أي: إن الرجال من النساء، من أين أتى خالد بن الوليد وعمر وصلاح الدين ونور الدين وعمر بن عبد العزيز ؟ من النساء، فهن قد أتين بالرجال، وحملن بالأبطال، دررٌ مكنونة، ومطارف مصونة، يقمن على المريض، ويذكرن الميت، رحيمات بالأولاد، خدومات للأجداد، حجابٌ عن النار وكنزٌ في الدار.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من عال جاريتين فرباهن وأحسن إليهن وزوجهن كن له حجاباً من النار }.
فالحجاب من النار تربية البنات في البيت على تعاليم الكتاب والسنة، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].
وكان أبو بكر الصديق يقرأ في قراءته وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].
وأول من رفع وأد البنات: محمد عليه الصلاة والسلام، وسوف يسأل الله عز وجل من وأدهن في الجاهلية.
وعندنا وأدٌ من نوعٍ آخر، فإن الجاهلين كانوا يذبحون الفتاة الطفلة ذبحاً، وينكسونها على وجهها، ونحن في مجتمعات العالم الآن الذي لا يتحاكم إلى الكتاب والسنة، يذبحون عفافها ودينها وحجابها ومكانتها وطهرها، يريدونها عارضة أزياء، ومروجة أحذية، وورقة دعاية في المؤسسات والشركات والمحلات، فحسبنا الله ونعم الوكيل! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
قال أبو الطيب المتنبي وهو يرثي أم سيف الدولة :
فلو كان النساء كمن عرفنا لفضلت النساء على الرجالِ
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
يقول: لو كانت النساء مثل أمك يا سيف الدولة ! لفضلت النساء على الرجال، فليس بعيبٍ أن تسمى فاطمة أو عائشة أو زينب أو أسماء أو خديجة فإن الشمس مؤنث وهي أحسن من الهلال، والهلال مذكر، وفي الرجال من لا يساوي قلامة ظفرٍ من امرأة، وفي النساء من تساوي ألف رجل، والواقع والتاريخ يشهد لذلك، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3].
وضع المرأة في المجتمعات المعاصرة ...
لماذا نهتم بالمرأة؟
لماذا ندافع عن المرأة؟
لأنها مظلومة، ظلمت من المجتمع الجاهلي الوثني الشركي في الجزيرة العربية
، فحرموها الميراث والرأي، وجعلوها عقيماً عن حمل المبادئ، واستخفوا بها حتى عاملوها كما عاملتها الحضارة الغربية والثقافة المادية تماماً -ذكر ذلك أبو الحسن الندوي في كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - فأي مصيبة دهماء لا يعلمها إلا الله حلّت بالمرأة في جاهليتها المعاصرة؟!
وهي مظلومة من الوضع الكافر الذي نعيشه الآن، يوم أخرج المرأة بعد الحرب العالمية الثانية لتقود الدبابة، وتكون طيارة، وتأخذ السلاح، وتحمل الكلاشنكوف تصارع الأبطال والكتائب، وتقاتل في ساحة المعركة، وتكون جندية مرور، إنها والله أمور تدل على أنهم ما قدَّروا المرأة حق قدرها، وأنهم خذلوها في أعظم شيء تملكه، وهو العفاف والطهر والحياء.
والمرأة مظلومة من بعض الآباء، فإن كثيراً من الآباء لا يعرفون قدر المرأة فلا يستشيرونها، ولا يعتبرون رأيها، ومنهم من كان حجر عثرة في زواج ابنته، فإذا تقدم الكفء رفضه برأيه هو لا برأيها، حتى تعيش العنوسة والأسى.
وهي مظلومة أيضاً من بعض الأزواج فهو يتعامل معها كأنها دابة في البيت، لا احترام لها، ولا رحمة، ولا سماع رأي، ولا مناقشة بالتي هي أحسن، ولا إعطاء حقوق، وإنما يراها أنها من صنفٍ آخر، ويتعامل معها بفظاظة وغلظة، وسوف يأتي شيء من ذلك.
الله عز وجل يدافع عن المرأة، لأن المرأة من المسلمين المؤمنين، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
فالذي يدافع عن المرأة أولاً؛ هو رب العزة والجلال.. الله رب العالمين!
والرسول عليه الصلاة والسلام يدافع عن المرأة، فقد أعطاها حقوقها، وسن لها صلى الله عليه وسلم ما لها من حق في كثيرٍ من المناسبات.......
جواز التكني بأسماء البنات ...
عندما جهل المجتمع الفقه في الدين -اسمع ماذا حدث حتى في مجتمعاتنا المبسطةوالتي هي قريبة من الفطرة ومن الكتاب والسنة- يقولون في المجالس إذا ذكروا المرأة: المرأة أكرمكم الله!
المرأة كرامة بذاتها وهبة من الله وعطية منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للإنسانية، لكن هذا الجاهل وهذا الأحمق يظن أنه إذا ذكر المرأة فإنه قد دنس الأسماع أو المجلس، فيقول: المرأة أكرمكم الله!!وهذه كلمة خاطئة حرامٌ أن تنطق وأن تقال، وعلى من حضر المجلس وسمع هذا أن ينكر بأشد الإنكار ويقول: لا تذكروا المرأة بهذا التعريض المشين فإنها كريمة محترمة، ولا بأس أن يذكر اسمها (كما سوف يأتي).(/3)
ومنها: أن بعض الناس يجد غضاضة واحتقاراً ونقصاً أن يتكنى باسم البنت أو المرأة، فيأنف أن يقال له: يا أبا فاطمة! ويا أبا خديجة! ويا أبا أسماء، وهذا خطأ! فقد تكنى الصالحون والأبطال في المعارك ببناتهم، وسمي الخلفاء والزعماء ونسبوا إلى أمهاتهم لشرف أمهاتهم، وكان كثيرٌ من السلف يكني الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي الزهراء أي فاطمة البتول بنت الرسول عليه الصلاة والسلام التي يقول فيها محمد إقبال شاعر الباكستان
:
هي أم من؟ هي بنت من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيفٍ غدا بيمينه تياها
قال شوقي :
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك غير أن لي انتسابا
يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام.
أمثلة لمن افتخر بنسبه إلى أمه ...
وكان صناديد العرب ينسب الواحد منهم لأمه ليزداد شرفاً وفخراً، فصفتها أنها عفيفة وشريفة وأنها محترمة وهو جرير :
فما كعب بن مامة وابن سعدى بأجود منك يا عمر الجوادا
تعود صالح الأخلاق إني رأيت المرء يلزم ما استعادا
عليكم ذا الندى عمر بن ليلى جواداً سابقاً ورث النجادا
فعمر بن ليلى هو عمر بن عبد العزيز ، وكان يرتاح إذا قالوا له: ابن ليلى ، وكان عثمان رضي الله عنه يرتاح بمجالسه إذا قالوا: يا بن أروى ، ودخل النابغة الذبياني على النعمان بن المنذر فمدحه في القصر أمام الناس، وأثنى عليه وعلى حكومته في المناذرة وهم ملوك العرب وقال:-
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلولٌ من قراع الكتائبِ
تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجاربِ
يقول: من عهد جدتكم حليمة ، وسيوفكم تقطر دماً من أعدائكم، فارتاح الملك واستعاد البيت وأعطاه جائزة.
فلا حرج من عليك أن تتكنى بابنتك، وأن تتشرف بهذا.
وكان قطري بن الفجاءة اسمه أبو نعامة باسم بنته، وقيل: باسم فرسه، والصحيح أن ابنته اسمها نعامة ، فكان إذا حمي الوطيس خلع خوذته من رأسه، وقال: أنا أبو نعامة ، وهو الذي يقول قصيدته الرائعة الشائقة ولو أنه كان خارجياً جلداً صلباً لكني أذكره لقصيدته يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يومٍ على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
شهرة أسماء الصحابيات في مجتمعهن ...
وكان صلى الله عليه وسلم يُسمي النساء بأسمائهن، وكان الصحابة يتداولون أسماء نساء الصحابة وبناتهم وأخواتهم، لأنها مادامت أنها شريفة وعفيفة وطاهرة وجزءاً من المجتمع، فلماذا تكني وترمز لنا رموزاً وتلفف لنا الأسماء؟ وبعضهم يقول: مَكْلَفْ صانكم الله، مَكْلَفْ أكرمكم الله، وهذا لا يقوله إلا السفهاء الحقراء الذين لا يفقهون شيئاًَ.
في الصحيحين : {أن زينب امرأة ابن مسعود استأذنت على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان بلال بالباب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من بالباب؟ قال بلال : زينب يا رسول الله! قال: أي الزيانب؟ -لأن الزيانب في المدينة
كن كثيرات - قال: امرأة ابن مسعود ، قال: فأذن لها }.
وفي الصحيحين : {أن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب استأذنت، فقال صلى الله عليه وسلم: من؟ قالت: أم هانئ ، قال: مرحباً بأم هانئ } فأجارت ابن هبيرة فأجاره صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعرف قائمة من نساء الصحابة، نعرف اسم امرأة أبي بكر ، وامرأة عمر وامرأة عثمان ، وامرأة علي ، والعشرة، وأهل بدر وشعراء الصحابة، لكن لما طال الأمد أنف بعض الناس أن يذكر الأسماء، ورأوا أنها من الحرج، وأنه إذا ذكر اسماً إنما يذكر أموراً أخرى، وهذا خطأ لا يصح، بل نذكرها شرفاً، والله قد ذكر في القرآن أسماء نساء، ولله الحمد والشكر!
يقولون: كانت امرأة أبي جعفر المنصور أو المهدي اسمها الخيزران ، فدخل أحدهم وبيده عصا من خيزران -التي تصنع منها الرماح- فقال الخليفة وحوله الأمراء والوزراء والعلماء: من أي الشجر صنعت هذه العصا؟
فخشي أن يقول: من الخيزران، فيعرض بامرأته قال: من عروق الرماح، قال له: الخليفة بيض الله وجهك! وهذا جميلٌ ورأي طيب في مثل هذا، وأنا أؤيد مثل هذا الجواب الصحيح لأمرٍ ما؛ لأنه لو قال صنعت العصا من الخيزران لتبسم بعض الناس وأحرج الخليفة؛ لأن الخيزران في البيت..!!!
هضم حق المرأة في الاستشارة ...
ومن الأمور التي تعيشها المرأة في بعض المجتمعات: أنه لا يُسمع لها رأي ولا يحترم لها فكر، ويرون أن المرأة لا تأتي برأي صائب، ويقولون: إذا أشارت عليك المرأة برأي فخالفها فالصواب معك، فإذا طلبت منك أن تتجه شرقاً فاتجه غرباً، وإذا طلبت منك أن تقوم فاقعد، وإذا قالت اقعد فقم، وهؤلاء مخطئون؛ بل كثيرٌ منهن في رأيهن البركة والخير الكثير.
وبعضهم يوصي بعدم استشارتها أصلاً، وبألا تطرح عليها الأفكار.(/4)
والرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين استشار الجارية عن عائشة ، وفي عفافها، فأشارت على رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فكيف بالعاقلات الكبيرات المؤمنات الداعيات المحترمات؟!
حرمانهن من الميراث ...
ومن الأمور التي تعاني منها المرأة: حرمانها من الميراث، وهذه مأساة اجتماعية تعيشها المجتمعات القروية والبدوية والقبلية، فيرون من العيب أن تذهب المرأة لتطلب ميراثها من أهلها، وينددون بمن يفعل ذلك، وهم المخطئون، وعلى هؤلاء أن يؤدبوا تأديباً رادعاً يزجرهم وأمثالهم، وأن ترفع قضاياهم إلى القضاة الشرعيين حتى يؤخذ بصددهم الإجراء اللازم، لأنهم خالفوا منهج الله، وحكموا بغير حكم الشريعة، ورفضوا الكتاب والسنة.
الميراث حق للمرأة لم يتوله نبيٌ مرسل، ولا ملك مقرب، ولا عالم من العلماء، وإنما تولاه الله بنفسه، فأعطى كل ذي حقٍ حقه، فله الحمد وله الشكر.
وبعض الناس الآن حرم قريبته وخالته وبنته وأخته من الميراث، وإذا ذهبت تأخذ الميراث شنَّع عليها أهل الحي والقبيلة والقرية، وهؤلاء مخطئون، والواجب أن نصحح هذا الخطأ القبيح الذي أصبح وصمة عار في وجوه أهل الإسلام، لا بد أن تعطى مباشرة ولو رفضت تجبر، ويذهب المعصب أو القريب بنفسه ليعرض عليها حقها الذي أحقه الله سبحانه لها.
تحجيم دورها في الأعمال المضنية ...
يفهم بعض الجهلاء أن دور المرأة فقط أن تنجب وأن تضع وأن ترضع، أما غير ذلك من الحياة فليس لها مجالٌ فيه، وهذا خطأ، لها التربية ولها أن تعلم بنات جنسها، ولها أن تدعو ولها أن تشارك برأيها وبدعائها، وأن تقوم على أطفالها، وأن تخرج العلماء والزعماء والأدباء والقادة والشهداء والصالحين، إلى غير ذلك مما سوف أذكره.
أما إتعابها بالعمل وتكليفها فوق الطاقة فلا يجوز، وهذا يوجد في المجتمع القروي والبدوي والقبلي، فيجعلونها تكد كداً لا يعلمه إلا الله، حتى كأنهم لا يتصورون أن لها طاقة محدودة، وأنها ضعيفة، وأنها تحمل وتضع، وأنها تعاني الأمرين، فتشارك في الحراثة والزراعة والاحتطاب ورعي الأغنام وحمل الأثقال وصنع الطعام وكنس البيت..، وتعمل الساعات الطويلة من العمل المضني الذي لا يعمله إلا عمال المناجم في مناجم الفحم أو مناجم استخراج الذهب والفضة، وهذا لم يقره الإسلام.
فنقول: النساء لهن طاقة محدودة، والمرأة ضعيفة، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: { الله الله في النساء } والمعنى: في ضعفهن فإنهن ضعيفات لا يستطعن حمل كثيرٍ من الأمور، لكن المجتمع الجاهلي قد يكلف المرأة عملاً من الأعمال، ويجدها مقصرة إذا لم تقم بهذا العمل، فتجد الرجل يفرض على امرأته أن تحرث وتزرع وتحمل الحبوب وترعى الأغنام وتحتطب وتذهب وتأتي وتستقي، وتعمل أعمالاً كثيرة لا يعملها أربعة عمال أو خمسة، والإسلام لم يأت بهذا أبداً، وهذا ظلم لها لا يقره دين الله.
حرمانها من التعلم ...
ومما تعاني المرأة: حرمانها من التعليم في بعض الجهات، والتعليم عندنا بمواصفات إسلامية، تحت مظلة (إياك نعبد وإياك نستعين) أن تتعلم المرأة ما يقوم بشئون دينها، ويقربها من الله، ويجعلها خائفة متقية متحجبة محتشمة، في هذا الحدود، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابيات.
{أتت امرأة أظنها أسماء بنت يزيد فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بك يجاهدون معك، ويحجون معك، ويغزون معك فاجعل لنا يوماً من نفسك
} فجعل لهن صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين يعلمهن في ذاك اليوم ويفتيهن عليه الصلاة والسلام، والبخاري في صحيحه يقول في كتاب العلم: باب: هل يجعل الإمام يوماً من نفسه للنساء؟ أو كما قال، فكان صلى الله عليه وسلم كلما أتى يوم الإثنين كان فيه لقاء مع النساء يتحدث لهن، ومع عصمته كان صلى الله عليه وسلم لا يمس امرأة لا تحل له، ولا يصافح امرأة أجنبية.
وفي الصحيحين : أنه خطب الرجال يوم العيد ثم قال لبلال : {هيا بنا إلى النساء فخطبهن ووعظهن، وقال: تصدقن ولو من حليكن } أو كما ورد في الحديث.
أما أن تبقى المرأة جاهلة؛ لا تجود القرآن، ولا تحفظ كتاب الله عز وجل، ولا تعرف السنة ولا الفقه فذلك أمر مرفوض. كما أن التعليم الفاضح الذي يدعو المرأة إلى أن تشارك الرجل في البرلمان، وأن تشاركه في حقول الحياة، وأن تخرج متبذلة متكشفة سافرة نرفضه، ونعتبر أنه تعليم جاهلي لا يزيدها إلا سقوطاً ويقودها إلى النار، إنما نريد تعليماً إسلامياً موقراً مقدساً طاهراً يقودها إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
كانت عائشة رضي الله عنها عالمة وتحفظ من الشعر، قال الزهري : [[كانت عائشة تحفظ من الشعر ثمانية عشر ألف بيتٍ ]] وكانت تفتي الصحابة حتى في معضلات المسائل، وهناك كتاب ألفه بعض المحدثين فيما استدركته عائشة على كبار الصحابة، وفتاويها جمعت في مجلد كبير، وهي مجتهدة مطلقاً وممن يحق لهن حق الاجتهاد في الإسلام.(/5)
وكانت عمرة بنت عبد الرحمن عالمة من عالمات التابعين، ومعاذة ، وكذلك بنت سعيد بن المسيب ، وكريمة بنت أحمد شيخة ابن حجر روت لأكثر من ستين ألفاً من الأمة صحيح البخاري ، وعالمات كثيرات؛ حملتهن كتبٌ وسيرٌ وتواريخ.
أيضاً وضعها في عمل لا يليق بمكانتها كما أسلفت كرعي الأغنام والخروج للاحتطاب، وكذلك تدريبها على السلاح ودخولها في الجيش، وفي المرور، وفي مواجهة الناس كالعمل في الجوازات، وعلى المنافذ العامة، وفي المستشفيات لمباشرة الرجال، وفي النوادي الطبية، وأماكن التمريض، كل هذا لا يجوز في الإسلام، فلا بد أن يكون عملها في حقلها مع بنات جنسها، لا ترى الرجال ولا يرونها.
وقد سألت صحابية رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديثٍ حسن: {ما أحسن شيء للمرأة؟ قال: ألا ترى الرجال ولا يرونها } وهي وصيته عليه الصلاة والسلام التي تبقى أبد الدهر حلاً للمرأة في دنياها وأخراها.
نسبة المشاكل إليها ...
ومما تعانيه المرأة أيضاً: نسبة المشاكل كلها إليها، وأنها مصدر الإزعاج، وعند بعض الناس أن كل عقدة وكل مشكلة في البيت من جانب المرأة، وتجد حتى في القضايا الشرعية عند القضاة إذا أتى الرجل يتحدث بسط لسانه في زوجته، وتكلم عن ظلمها وعن إساءتها، وهي خجولة لا تستطيع أن تبدي حجتها، فيظلمها، وقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].
قالوا: هي المرأة لا تبين في الخصام، ولا تدافع عن نفسها ولا تستطيع أن تعرض حجتها، فيستغل ذلك كثيرٌ من الناس حتى في القضايا الأسرية، فإذا أتوا إلى الحكم من أهلها والحكم من أهله، أتى الرجل يتكلم بالمحاضرات؛ لأنه جريء، ويفتعل الأقاويل، وأتت هي تبكي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فليتق الله الناس في هذا، ولا ينسبوا المشاكل للنساء، فإنه لا يحدث في البيت أمر إلا وكان للرجل ضلع في ذلك، وربما كانت في الحالات النادرة سبباً رئيسياً، لكن ليس دائماً.
ونريد أن نزيل عقدة نسبة الخطأ دائماً إلى المرأة.
ومنها: عدم فتح مجالات الدعوة للمرأة، وكثيراً ما ينادي الدعاة إلى مراكز الدعوة المحترمة، وأن هناك دروساً للنساء، وتقوم امرأة تدرس بنات جنسها، أو حلقات تعليمية في القرآن وعلم الحديث والتفسير والفقه، وأن تقوم المرأة كذلك في حيها بجمع جاراتها على درسٍ أسبوعي.
وقد وصلني أخٌ فاضلٌ أكرمه الله من آل يزيد باقتراح جيد عجيب رائع للمرأة، وهو ينص على أن يكون هناك مجموعات من الفتيات يتولين في كل قرية إرشاد النساء؛ لأن المرأة تعيش اكتساحاً رهيباً لا يعلمه إلا الله، فهي محاربة ومهددة في عرضها دينها من كل جهة، الجمعيات النسائية، الفيديوهات، الأطروحات، الأشرطة، المجلات، الدوريات، التلفاز، الدعايات المغرضة، ومع ذلك لا بد أن نتواصى وأن نتعاون، ونحن ذهبنا مذهباً جميلاً في مسألة المحاضرات والدروس واللقاءات والندوات للرجال، أما النساء فلا!! فأنا أضع هذا ولكلٍ منكم أن يقترح اقتراحاً يرضاه ويراه، ويشاور زوجته إن كانت من الداعيات، أو طالبات العلم، أو الصالحات.
الغزو الفكري للمرأة ...
توجيه الغزو الفكري والخلقي للمرأة بواسطة المجلات والأفلام، والنشرات والأغاني، رأيت في بعض الأسواق هنا في أبها أكثر من ثماني عشرة مجلةً تحمل صورة المرأة الفاتنة على الغلاف، وهم يعرضون المرأة من باب الجمال فقط، لا يعرضونها من باب الدين، أو أنهم يشيدون بعقلها أو بمكانتها، أو بمستواها العلمي أو الثقافي، أو بذكائها وبمصداقيتها وبطهرها، إنما بجانب الجمال المتهتك، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن اللواتي صوِّرن في المجلات، قد بعن أنفسهن من قبل هذه الصور في سوق النخاسة العالمي، والتي تضيع فيها المرأة، نعوذ بالله من الفتن!
المرأة في محلات الأزياء ...
محلات الأزياء تحمل دفاتر كبرى في تفصيلات الموضات الجديدة، والأشكال والطرازات الحديثة في لباس المرأة وزيها، وهي تهدد المرأة، أيضاً محلات الخياطة والتفصيل، هناك مقاسات كاشفة فاضحة عارية تعرض في البيوت، وبعض الفتيات يرسلن السائق، أو ترسل أخاها إذا كان أحمقاً، فيذهب فيأتي بالمجلات ويعرض عليهن المجلة في البيت، وغير ذلك من هذه الأمور.
أيضاً تعرض في بعض المحلات ما يسمى (السوبر ماركت) صور متهتكة ودعايات، وهذه منتشرة على العلب والكراتين، وأصبحت عند العالم الكافر المتخلف علامة للدعاية والجذب ليس إلا، كذلك بعض الأفلام والدوريات حمانا الله وإياكم!
أيضاً الأغاني التي أمطرت بها الأسواق، وأحرج بها الناس، وكما تعرفون الخبر الذي ورد أن أغنية لمغنٍ واحد وصلت إلى الأسواق وبيع منها في أسبوع واحد بخمسين ألف ريال.
فقل لي بالله، كيف يكون البيت إذا دخل الشريط التسعون دقيقة فيه وهو يحمل خمس أغاني أو أربع أغاني؟! كيف يهتك ذاك البيت ويضيعه، ويصنع هذا أناسٍ لا يخافون الله في الجيل ولا في الأمة.(/6)
تفضيل الأولاد على البنات ...
ومن الأخطاء الشائعة: تفضيل الأولاد -عند البعض- على البنات في الحب والتقدير والإكرام، فتجد بعض الجهلة يقدم أبناءه بالاحترام ولو كانت البنت أكبر، فيعطي الفنجان الابن وهو أصغر منها، ويسلم على الابن قبل البنت، ويقدم الابن في الركوب، ويقدمه في أشياء من خلالها تشعر البنت إزاءه بالنقص وبالتقصير وبالاحتقار، وهذا لا يقره الإسلام.
وقد أوجب علينا الله سبحانه أن نعدل بين أولادنا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم } أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا قبَّلت واحداً منهم فقبِّل بقيتهم، وإذا قلت لهذا كلمة طيبة، فقل للجميع مثلها، وما تدري من البركة فيه.
أعرف بعض كبار السن الذين ما احتضنتهم في الأخير بعد عناية الله إلا بناتهم! تمريضاً ورعاية وخدمة، أما الأبناء فلم يستفيدوا منهم شيئاً، وبعض الناس قامت ابنته بما قام به أولاده جميعاً، فتجد البنت أعطف وأرحم، وأحسن وأكثر دعاءً وطاعةً لأبيها، فما تدري مَن الخير فيه، فعليك ألا تحقر هذه البنت، وألا تقدم أولادك عليها بحجة أنهم ذكور، فإنهم كلهم عطايا من الله عز وجل، ولهم الأحقية المشتركة في حبك وبرك وعطفك وحنانك.
استخدام المرأة للدعاية ...
ومن الأمور التي تعاني منها المرأة: أنها في كثير من الأماكن وسيلة للدعاية -وقد مر شيء من ذلك- ومن المآسي التي تعيشها الأمة، أن تكون المضيفات في الطائرات نساء ولو حجبن شعورهن، فإنها مأساة، ولا يستطيع أن يقول أحد إلا أنها مأساة، أن يركب مائة وخمسون أو مائتان من الركاب المسلمين المصلين الناسكين، فيفاجئون بأربع مضيفات مختارات جميلات.
رأيت في جريدة الأهرام -قطعة أوصلها إلىَّ بعض الإخوان- إعلاناً أن شركة الخطوط تريد مضيفات من بلاد أجنبية، واشترطوا شروطاً أن يكون عمرها من أربعة عشر إلى تسعة عشر لا تزيد ولا تنقص، وأن تكون جميلة.. إلى غير ذلك، فعرفنا أن المقصد مقصدان:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدناني
وكذلك سكرتيرات في بعض المكاتب والسفارات، والمنتديات والنوادي، والفنادق والمستشفيات والعيادات وأماكن التمريض، وأماكن تجمع الناس، وهذا من احتقار المرأة، ومن عرضها وتشهيرها للفجرة.
عدم العدل بين الزوجات ...
الكثير من الناس يدعون إلى التعدد، ولا يذكرون العدل بين الزوجات الذي هو الأهم، فإن كثيراً من المحاضرين والدعاة يدعون الناس إلى أن يعددوا وأن يكثروا من الزوجات، بينما لم يذكر في محاضرة واحدة العدل بين الزوجات، فإن هذا أهم، وإذا خلت مسألة العدل ارتاح الناس. وكانت مسألة التعدد سهلة، لكن أن يتحدث عنها بعض الناس، ويقوم بدعوة الناس للتعدد، ثم يترك المشكلة الكبرى وهي عدم العدل فهذا خطأ، ولذلك وجد من تزوج مثلاً بثانية فأهمل الأولى تماماً، وجعلها ليست مطلقة ولا متزوجة وإنما هي معلقة، وجعلها كأنها خلقت هكذا صفراً على الشمال ليس لها اعتبار في الحياة، وهذا من الخطأ، ومنهم من ظلم حتى إنه يعطي هذه ثلاث ليال، وهذه ليلة، ومنهم: من لا يعدل في النفقة، ولا السكنى ولا الإطعام، ولا غير ذلك مما يجب العدل فيه.
هضم حقوقها الزوجية والقوة عليها ...
من النقص الذي نعيشه: مطالبة المرأة بحقوق الرجل دون ذكر حقوق المرأة عند الرجل، تجد كثيراً من الناس يطلبون من المرأة أن تؤدي حقوق الرجل، وقد كثرت الأشرطة والمحاضرات في حق الرجل على المرأة، لكننا نحتاج إلى إيضاح حق المرأة على الرجل.
ونحن مثلنا في هذا مثل الشعوب المستضعفة، فإن الشعوب الآن دائماً يقولون: عليكم بالطاعة للقادة والقائمين، وعليكم أن تتقوا الله، وعليكم بالمحافظة، لكن حقوق هؤلاء الشعوب لا تذكر، تجد الشعوب إما مهضومة أو مظلومة، أو محتقرة أو جائعة، أو ترمى على الأرصفة، أو لا مكان لها، فهي بلا رأي ولا احترام، ولا مشاركة ولا تقدير، ومع ذلك وسائل الإعلام صباح مساء تنادي: اتقوا الله وأدوا حقوق الولاة والزعماء؛ فإنكم إن لم تفعلوا خرجتم من الملة وخرجتم من الدين، فهذا مثل ذاك، والمرأة الآن مثل الدول النامية "النائمة".
ومن الخطأ كذلك التعامل معها بعنفٍ وغضاضة إلى درجة الضرب لغير سبب شرعي، حتى إن بعضهم يعلق سوطاً في البيت مهمته زوجته، ويسمي السوط ستر الله، وهذا السوط ليس بستر الله لكنه يغضب الله أحياناً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : {لقد طاف بأبيات آل محمد نساء يشتكين من أزواجهن، وإن أولئك ليسوا بخياركم } أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(/7)
فمن يفعل ذلك ليس من خيرة الناس وصفوتهم {وأتت فاطمة بنت قيس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تريد أن تتزوج -وهي تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبر وأنصح وأكرم الأمة، وتعلم أنه يعرف أصحابه- فقال: من تقدم لك؟ قالت: أبو جهم ومعاوية بن أبي سفيان وأسامة بن زيد قال: أما معاوية فرجلٌ صعلوك، لا مال له -وأصبح معاوية فيما بعد خليفة المسلمين - وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه -ضراب للنساء- أنكحي أسامة بن زيد ، فتزوجت أسامة فاغتبطت به
} وهذه مشورته عليه الصلاة والسلام.
وقالت امرأة: [[طرقت على باب عمر بن الخطاب أمير المؤمنين فقال: مه؟ قالت: أريد أن أستشيرك في رجل تقدم لي، قال: من هو؟ قالت: الزبير بن العوام ]] لا إله إلا الله! الزبير أحد العشرة نحبه ونتولاه، نسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، والعالم الإسلامي ليس فيه أحدٌ الآن مثل الزبير بن العوام من صفاقس إلى الدار البيضاء فقال عمر : [[أنعم به في دينه ولكن يدٌ بعصا ويدٌ بقرط ]]
فالضرب ليس بحلٍ شرعي إلا في مواطن ذكرها الله عز وجل في كتابه، قال: وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34]
والضرب غير المبرح: ألا يكون كثيراً مؤذياً، ولا يكون في الوجه ولا على البطن، وإنما العاقل يعرف والحر ميزان.
قالوا لشريح القاضي وكان يحب زينب امرأته، وجلست معه أربعين سنة: أضربتها في حياتك؟ قال: والله ما مددت يدي عليها، ثم يقول:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني يوم أضرب زينبا
ولو أني أعلم أن بعض النساء لا ينفعهن لا الكلام ولا الضرب ولا أي شيء، لكن نسأل الله حوالينا ولا علينا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم على بطون الأودية ومنابت الشجر.
الاشتغال عن المرأة بأمور الحياة ...
ومنها أيضاً: اشتغال كثيرٍ من الناس بأمور الحياة وترك المرأة بلا حقوق، تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن لأهلك عليك حقاً }ـ كان صلى الله عليه وسلم يشتغل بأعظم أمور الأمة وأدقها ومن ذلك: أمور الجهاد والاقتصاد والإدارة والتوجيه، ومع ذلك يعطي كل امرأة من نسائه -وكن تسعاً- حقها وكلامها ومزحها ووقتها، ولكن تجد البعض عنده زوجة واحدة وقد قصر في وقتها وفي حقها، فتجد التاجر: يخرج الصباح السابعة أو الثامنة، ولا يعود إلا في الثانية عشرة، وقد أصبح ثوباً ملقىً من كثرة ما اتصل وتكلم وغش وخان إلا من رحم ربك، فإذا أتت زوجته تحدثه قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي، دعوني أنام، فينام إلى الساعة السابعة ثم يقوم وهكذا، وكأن زوجته ليس لها حق.
وتجد بعض الدعاة يشتغل في المحاضرات والندوات والمشاركات والسفريات، حتى يترك امرأته، فإذا سمعت امرأته الشريط وهو يتكلم عن حقوق المرأة، تقول: لا إله إلا الله! أعطنا بعض هذا الشيء.
وتجد كذلك كثيراً من الشبيبة يسمرون في المقاهي -من الموظفين وأمثالهم- ينطلق الواحد منهم بعد صلاة العشاء، ويغلق على امرأته في بيته، لا هو أطعمها ولا هو تركها تأكل من خشاش الأرض، فيذهب يسمر إلى الثانية عشرة ليلاً أو الواحدة، ثم يدخل عليها في آخر الليل وهو منهك ويلقي نفسه على الفراش.
من يتحدث معها ويمزح معها ويلاطفها؟ وقد أتت شكايات ورسائل كثيرة من هذا الصنف، وبعضهن تطلب الفراق، تقول: أنا مع أمي في بيتي أحسن من مصاحبة هذا، ما أراه إلا نائماً أو غريباً.. وغير ذلك، وبعضهم مضياف تجد بيته دائماً يستقبل الناس في كل وقت، ويترك امرأته فقط مأمورةً منهية، تصنع الشاي والقهوة والطعام وتجهز البخور وغير ذلك، أما وقته فللأضياف الذين أخذوا عمره عليه، ولا أدعو إلى البخل، لكن دين الله وسط، للضيف وقت، وللأهل وقت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن لأهلك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً }.
تجريح المرأة ...
التجريح عند البعض يكون بكلمات محرقة كاللعن والعياذ بالله آخرها امرأة في عصر هذا اليوم اتصلت تبكي، تقول: لعنها زوجها -نعوذ بالله- وهذا يدل على قلة دينه وخوفه من الله تعالى، أسأل الله أن يصلحه.
وكثير منهن تتوهم أن اللعن طلاق، وأنها تنفذ وتخرج من عصمته، والصحيح: أن اللعن كبيرة من الكبائر، وعليه أن يتوب وأن يستغفر، وأنا أحذر الأزواج من استخدام اللعن والشتم، بل بعضهم والعياذ بالله إذا غضب عليها قذفها في عرضها، لو وصلت إلى المحكمة لأقيم عليه حد القاذف، وبعضهم يسبها ويسب أهلها، ويلعن والديها أو قبيلتها أو أسرتها والعياذ بالله، وهذا من الجهل ومن قلة مراقبة الله، فاتقوا الله في ذلك، قال تعالى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].
عليك أحد الأمرين: إن أحببتها فأمسكها محترمة، وإن لم تحبها وليس لها في قلبك منزلة فخذها بكل احترام وأوصلها إلى أهلها، عارية مضمونة.
إفشاء سر المرأة أو خصوصياتها مع زوجها ...(/8)
إذا أفضى الرجل إلى زوجته وأفضت إليه بحديثٍ خاص فلا يجوز أن ينشر، تجد بعض الناس لبرودته ولقلة شهامته ولانخلاعه ولقلة غيرته يخبر زملاءه وإخوانه بما قالت له امرأته من حديث خاص، وقد حذر عليه الصلاة والسلام من هذا، ووصف أولئك بأنهم من أقل الناس مروءة، أو كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء قومٌ ماتت الغيرة عندهم تماماً، وليس عندهم يقظة من إيمان، وإلا فالمرأة سر عندك مكنون، ودرة محفوظة، عليك أن تحفظ سرها، وعليها هي كذلك أن تحفظ سرك، فإنه يوجد بالمقابل من النساء من تذهب إلى زميلاتها وصديقاتها في المجالس فتخبرها بما فعل بها فتخبرهن وبما فعلت هي معه، وبما قالت وبما قال لها من أمورٍ لا يجوز أن تخرج عن البيت، فلينتبه لهذا.
غيرتنا على محارمنا ...
أيها الإخوة الكرام: هذا دفاع عن المرأة وأنا أسأل الله عز وجل أن يجعلنا أكثر دفاعاً عن المرأة، ليس بالمحاضرات ولا بالكلام لكن بالدماء وبالجماجم، فإنه لم يبق معنا إلا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأعراضنا، وأعظم أعراضٍ لنا أخواتنا وبناتنا، فلا تتوهم أختٌ أو بنتٌ في مدرسة أو في كلية أو في جامعة أن الدعاة يريدون التشهير أو التجريح، لا والله. إننا لا نعتبر أولئك إلا كأخواتنا وبناتنا، ويعلم الله أني لو سمعت أن امرأة مست في كرامتها أو عفافها فإني أنزعج انزعاجاً لا يعلمه إلا الله، ولا خير في الحياة إذا لم يقاتل ويدافع عن هؤلاء الصنف الكريم من النساء.
والحقيقة أن من الغيرة لله عز وجل ولرسوله الواجبة علينا جميعاً أن نلاحظ الجانب النسائي في قضية الندوات والجمعيات، وأن نقول كلمة الحق، وأن ننقذ الموقف قبل أن يصبح في مرحلة لا نستطيع إنقاذه فيها، ولا أن نقول شيئاً، فلذلك نقول للناس: اتقوا الله في بناتنا، وأخواتنا، وزوجاتنا.
والله ما أحسب أي امرأة مسلمة إلا كأختي أو كابنتي، وإن الإنسان والله يغضب ويصل به درجة البكاء والانهيار إذا سمع أن امرأة وقعت في فاحشة أو نيل من كرامتها، أو أخذت بالتدريج ليوقع بها في مكانٍ لا يحمد عقباه، أو في مصيرٍ يهدد مستقبل الإسلام، كان سعد بن عبادة جالساً عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {يا رسول الله! لو وجد أحدنا مع امرأته رجلاً -أجنبياً - ماذا يعمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: يستشهد أربعة من الناس، قال: يا رسول الله! أأتركها معه وأذهب أجمع أربعة؟! والذي لا إله إلا هو لأضربنها هي وإياه بالسيف غير مصفح -أي: بحده- فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: أتعجبون من غيرة سعد ! والذي نفسي بيده! إني لأغير منه، وإن الله أغير مني
}.
هذا سعد بن عبادة بن دليم البطل، كان يضيف في اليوم الواحد المائة والثمانين والمائتين في صحفة واحدة، كانت صحفته يحملها أربعة، وكان هذا البطل تزوج امرأة من الأنصار أركبها على الفرس، فلما وصلت نحر الفرس، قالوا: لماذا؟ قال: [[حتى لا يركب الفرس رجلٌ مكان امرأتي ]] لله درك!
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يغار } وفي لفظ: {إن الله غيور } ومن غيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومن غيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يغار على عبده المؤمن أن يزني، وعلى أمته المؤمنة أن تزني، فلا نريد ذلك.
أماتت الغيرة فينا بحجة الهدوء ومصلحة الدعوة وعدم تجريح الجهات؟!! ثم تضيع أعراضنا وبناتنا وأخواتنا! لا!{قل الحق ولو كان مراً } رواه ابن حبان ، والحق قد يذهب بالرءوس، لكن إلى جنة عرضها السماوات والأرض: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140].
فالواجب على المسلم أن يحيي هذه الغيرة وأن ينبتها، وأن يذكرها في المجالس، وأن يربي الأمة عليها، فإذا نشأ الجيل على الغيرة وجدت جيلاً مسلماً صامداً، فيه من الحمية ما لا يعلمه الله.
أعرابيٌ في القرن الأول رأى امرأته تنظر إلى رجل من النافذة، قال: يا عدوة الله! تنظرين إليه؟ قالت: والله ما أحببته ولا فعلت معه الفاحشة؛ بل نظرت هكذا، قال: هكذا، ثم طلقها، فقالوا له: لماذا؟ قال:
إذا وقع الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا كن الكلاب ولغن فيهِ
ومن الغيرة عند الجاهليين، وهي غيرة محبوبة أصّلها الإسلام، ولكنها غيرة أنبتتها المروءة والشهامة ما عند عنترة بن شداد ، قال:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
يقول: إذا بدت الجارة غضضت طرفي حتى تدخل بيتها، وقد قال حاتم الطائي ما هو أحسن من ذلك في أبيات جميلة له! وغيره كالمقنع الكندي ، ذكرها صاحب العقد الفريد ، وصاحب عيون الأخبار ابن قتيبة وغيرهم.(/9)
أيها الناس! أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يحفظنا وإياكم وأن يرعانا.(/10)
دفن الميت في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف وأكرم مبعوث إلى العالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد بعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة التوحيد، فقام وبلغ دين الله -تعالى-، وحارب الشرك فقضى عليه، ونشر عقيدة التوحيد، وما زالت الأمة الإسلامية تنعم بهذه العقيدة الصافية حتى فشا فيها الجهل وانتشرت الخرافات والشركيات والبدع، وكان من الأمور المحرمة التي انتشرت بين المسلمين دفن الميت في المسجد، وهذا أكبر مظهر من مظاهر الوثنية التي ورثها المسلمون الجاهلون عن الديانات السابقة، والتي لعن الله أصحاب تلك الديانات بسببها، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة: فلولا ذلك أبرز قبره غير أنه خَشي أن يُتخذ مسجد1. وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
ومما يؤسف له أن كثيراً من مساجد المسلمين فيها قبور! إما في قبلة المسجد، أو طرف منه، أو في صحنه، أو في حديقته، وكأن المسلمين لم يعلموا أن آخر وصية لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- كانت التحذير من هذه الوثنية المكشوفة.2
وإذا كان اليهود والنصارى يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فإن بعض القبور التي في مساجد المسلمين هي لأناس عاديين، أوصوا بأن يدفنوا في المسجد الذي بنوه، أو سعوا في بنائه، أو في الأرض التي أوقفوها في سبيل الله. وأشنع هذه القبور تلك التي تكون في قبلة المصلين، فيصلون إليها وما علموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها).3
"وقال ابن رجب في فتح الباري: هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراده؛ فتصوير صور الآدميين يحرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده يحرم كما دلت عليه نصوص أخر."4
وقال الألباني: لقد تبين من الأحاديث السابقة خطر اتخاذ القبور مساجد، وما على من فعل ذلك من الوعيد الشديد عند الله -عز وجل-، فعلينا أن نفقه معنى الاتخاذ المذكور حتى نحذره فأقول: الذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ، إنما هو ثلاث معان: الأول الصلاة على القبور، بمعنى السجود عليها، الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء. الثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.. إلى أن قال: وأما المعنى الثالث فقد قال به الإمام البخاري، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله: (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور). فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبر مسجداً يلزم منه النهي عن بناء المسجد عليه، وهذا أمر واضح وقد صرح به المناوي كما سبق آنفاً، وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغير المفهوم). وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة -رضي الله عنها- بقولها في آخر الحديث الأول: (فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
قال: فهذه الرواية -على إرسالها- تدل على أمرين اثنين: أحدهما: أن عائشة -رضي الله عنها– فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث أنه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر، فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني على القبر.
الثاني: أن الصحابة أقروها على هذا الفهم، ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه -صلى الله عليه وسلم- في بيتها.. فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام لأن المحذور واحد، قال الحافظ العراقي: (فلو بنى مسجداً بقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه، لم يصح الشرط، لمخالفة وقفه مسجداً). نقله المناوي في فيض القدير.
قال:- وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام.5
والحمد لله رب العالمين،،
________________________________________
1 -متفق عليه.
2- المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي ص34..
3- رواه مسلم.
4- تحذير الساجد ص17.
5- المرجع السابق 29-39.(/1)
دلائل النبوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه في هذه الأرض. ولا يستطيع الإنسان بمفرده أن يصل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكان الطريق هو أن يرسل الله الأنبياء والمرسلين يدلون الناس على خالقهم ويعلمون الناس كيفية عبادة ربهم عز وجل، وقد يعتري الناس الشك فيمن جاءهم فلذلك أيد الله تعالى رسله وأنبياءه بمعجزات تدل على صدقهم، وأنهم مرسلون من قبل ربهم عز وجل، ولم تعد مسألة إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بالمشكلة الدينية؛ وكذا وحدانيته, فاطراد التقدم العلمي يزيد ذلك إثباتاً كل يوم قال تعالى: (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) فصلت 35.) وجميع الديانات السماوية قبل تحريفها تؤمن بوجود إله واحد هو الله عز وجل، وأنه المستحق للعبادة, ولم ينكر ذلك إلا شرذمة من الملاحدة والماديين, مكابرة، وإلا فهم يوقنون في قرارة أنفسهم بواحدنيته. ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً))(النمل14).
إلا أن المسألة الأساسية هي إثبات رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعنينا هنا إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالإيمان بالنبوة- أي الصلة بين الله تعالى ومجتمع الإنسان عن طريق الأنبياء- من خصائص الدين الحق، والنبي هو الإنسان الذي يختاره الله ليقوم بأداء رسالة معينة، وقد وجدت مذاهب تؤمن بالله وتنكر النبوات، وتزعم أنه لا حاجة لوجود النبي؛ لأن ما أتى به الأنبياء موافق للعقل، ففي العقل غنى عنه، أو مخالف له فلا حاجة لنابه، فالعقل عندهم طريق الاستدلال. ولكننا لا نستطيع بالمنطق التجريبي والرياضي التوصل إلى حقائق ما وراء المادة، فالعلم الصحيح بذات الله، وأوصافه وحساب الآخرة، من ثواب وعقاب، وكل ما يتعلق بعالم الغيب، كل ذلك لا يعرف إلا عن طريق الأنبياء.
وقد تمت الصلة بين الله وأنبيائه عن طريق الوحي كما في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( ) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور} (الشورى: 51-53)
فجعل " التكليم ثلاثة أنواع " الوحي المجرد والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم...
وقد وصف صلى الله عليه وسلم صفة مجيء الوحي إليه بقوله كما في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا" رواه البخاري ومسلم
وحين يدعي إنسان أنه يتصل بالله ويحمل عنه إلى الناس رسالة تترتب عليها تكاليف وواجبات فإن من الطبيعي أن يطالبه الناس بالدليل على صدقه، ولم ير القرآن في هذا أمراً خارجاً عن المعقول، فالتساؤل حتى للتعليم مطلوب، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}( سورة البقرة: 260 )لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ما يثبت النبوة:1
فإن دراسة دلائل النبوة تزيد المؤمن إيماناً، وربما كانت سبباً لإسلام من يرد الله به خيراً.
وأما الملحد والمعاند فإنه لا يزداد إلا عمى ولو جاءته كل آية، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} (سورة الحجر: 14-15).(/1)
وكما قال سبحانه وتعالى عن قريش: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (سورة الإسراء 90-93).
وهذه المعجزات أكبر برهان على أن محمداً رسول من عند الله فإن الله لا يؤيد الكاذب، كما قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (سورة الحاقة: 38 - 47).
وقال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} (سورة الإسراء: 73).
ولذا فقد باء بالخزي من ادعى النبوة وهو كاذب كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي ومن بعدهما المختار ابن أبي عبيد الثقفي وغيرهم ممن ادعى النبوة.2
وعدم الإيمان بالمعجزات مؤذن بالعقوبة العاجلة والعقوبة الأخروية. قال الله سبحانه وتعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مائدة مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} (سورة المائدة: 112- 115). وهذا وبما أن دلائل النبوة أكبر برهان على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع ما أكرمه به ربه من مكارم الأخلاق فقد ضاقت صدور أقوام بالآيات والبينات، والدلائل الواضحات كما حكى الله عنهم بقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} (سورة القمر: 1- 3).
لقد علمنا أن الله تعالى يرسل أنبياءه ورسله كي يرشدوا الناس إلى ربهم وخالقهم. وأنه سبحانه وتعالى يؤيدهم بالبينات والآيات والمعجزات ما يدل على صدق ما جاءوا به من عند الله.
وقد جاء الرسل والأنبياء عليهم السلام بمعجزات حسية كثيرة ومتنوعة وتسمى دلائل النبوة وأشار إليها القرآن على أنها آية وبينة وبرهان. وكان القصد من هذه الدلائل تحدي قدرات الناس الذين كانوا يعيشون في زمن معين ومكان معين فيما برعوا ونبغوا فيه ليعلموا أن ما جاء به الرسل هو الحق من عند الله عز وجل، وليثبت الإيمان في قلوب الناس. والمعجزة تكون في عصرهم مما يلائم مستواهم الفكري ورقيهم الحضاري لتكون الحجة أقوى فمثلاً:-
أ - الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية، فمعجزة صالح عليه السلام كانت ناقة غريبة المنشأ والمولد بين نوق أهل البادية: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (سورة الشعراءك 153- 156).
ب - وكان السحر منتشراً بين المصريين عامتهم وخاصتهم و استرهبهم فرعون وجنوده به، فجاءت معجزات موسى عليه السلام من جنس المشهور بين قومه فمن معجزاته الرئيسية: العصا: ((فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين))، واليد: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (سورة النمل: 12).
وهكذا كل نبي من الأنبياء تأتي المعجزة مناسبة لقومه ولفكرهم ورقيهم الحضاري. وقبل بعثة خاتم النبيين(/2)
بلغت الفصاحة و البلاغة وفنون القول مبلغاً عظيماً وأخذت الكلمة مكاناً في نفوس العرب من التقديس
والتعظيم لم يبلغه شيء آخر، مما حدا بهم أن يعلقوا المعلقات السبع في جوف الكعبة، وكانت القصيدة تفعل فعلها في القبائل وربما نزلت منزلة قبيلة إلى الحضيض لأن شاعراً أقذع في هجائها. وربما ارتفعت مكانتها لأن شاعراً قد أجاد في تمجيد مآثرها. فكانت معجزة خاتم النبيين في الكلمة والقول.
والحكمة الإلهية في اختيار المعجزة من جنس ما اشتهر بين القوم هي أن الإنسان إذا أوتي من قبل ما يعتبره مفخرته ومجال إجادته واعتزازه تكون الحجة عليه أقوى، والمعجزة أكثر فعلاً وأثراً. ولكي تكون معجزة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أشد لمعاناً وأسطع برهاناً، فقد جعل الله معجزته كتاباً معجزاً، وهو الإنسان الأمي الذي لم يخط بيده كتاباً ولم يتلق من أحد من البشر معرفة.3
طريقة القرآن في إثبات النبوة:
الطريقة القرآنية في إثبات النبوة هي إيراد أدلة كثيرة تتكاتف لتؤدي إلى اليقين، فالقرآن الكريم تحدٍ للعرب والعجم والإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة البقرة: 23). وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أربعين عاماً، فلم يحدثهم بنبوة ولا رسالة فهذا الأمر يخضع لمشيئة الله فقط: {قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (سورة يونس: 16). فلم الشك في أمره مع أنه قد تجرد عن كل مطمع دنيوي: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة سبأ: 47). ولم الشك في أمره وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يمكن أن يستمد من كتاب: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (سورة العنكبوت: 48).
ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه كثيرة جداً منها ما هو حسي، كانشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه، وتكثير الطعام، وخطابه الأشجار والأحجار والحيوان وانقيادها له صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن أمور غيبية فوقعت كما أخبر، ومن دلائل النبوة الحسي خاتم النبوة، وحنين الجذع ورميه بكف من حصى في وجوه الكفار، وإخبار الذراع وكثير من المعجزات والدلائل الحسية.
وقد يقول قائل: إن عصا موسى أو ناقة صالح، أو هذه الدلائل لنبينا لم نرها في هذا القرن الحادي والعشرين فنريد علامة حاضرة حية تبقى إلى قيام الساعة.
فنقول: هذه العلامة الحية الحاضرة المستمرة إلى قيام الساعة هي القرآن الكريم كلام الله تعالى المعجز. فهو معجز في فصاحته، فلم يستطع العرب على فصاحتهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله. وهو معجز في نظمه، وهو معجز في عدم تبدليه و تغييره أو تحريفه أو زيادته ونقصانه؛ لأنه من عند الله (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)).
قال ابن عقيل: حفظ جميعه، وآياته وسوره التي لا يدخل عليها تبديل من حيث عجز الخلائق عن مثلها فكان القرآن حافظ نفسه من حيث عجز الخلائق عن مثله...
قال أيضاً: إذا أردت أن تعلم أن القرآن ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر إلى كلامه كيف هو إلى القرآن...
قال وأيضاً: ومن إعجاز القرآن أنه لا يمكن لأحد أن يستخرج منه آية قد أخذ معناها من كلام قد سبق، فإنه ما زال الناس يكشف بعضهم عن بعض فيقال: المتنبي أخذ من البحتري .
وقال: وقد استخرجت معنيين عجيبين: أحدهما: أن معجزات الأنبياء ليست كمعجزة نبينا، فلو قال ملحد اليوم: أي دليل على صدق محمد وموسى؟ فقيل له: محمد شق له القمر، وموسى شق له البحر لقال: هذا محال... فجعل الله سبحانه هذا القرآن معجزاً لمحمد صلى الله عليه وسلم يبقى أبداً.. ليظهر دليل صدقه بعد وفاته وجعله دليلاً على صدق الأنبياء، إذ هو مصدق لهم ومخبر عن حالهم.
وعن إعجاز القرآن يقول الأستاذ المهتدي: (أتيين دينيه) الكاتب الفرنسي الذي أسلم وحج وكتب الكثير عن الإسلام، في كتابه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معجزات الأنبياء الذين سبقوا محمداً كانت في الواقع معجزات وقتية، وبالتالي معرضة للنسيان السريع، بينما نستطيع أن نسمي معجزة الآية القرآنية (المعجزة الخالدة) ذلك أن تأثيرها دائم، ومفعولها مستمر، ومن اليسير على المؤمن في كل زمان وفي كل مكان، أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة كتاب الله.4(/3)
لقد أعجز القرآن الخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه، وفي تأثير هدايته وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلية، وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول، وقد تحدى العرب بإعجازه، ونقل العرب هذا التحدي إلى كل الأمم فظهر عجزها.
إن دلائل النبوة لا تحصر في معجزة القرآن أو غيرها من المعجزات الحسية. بل هذه الشريعة كلها من أبرز دلائل النبوة شريعة مرنة صالحة لكل زمان ومكان، ولقد تكلم العلماء في هذا الباب وصنفوا المصنفات من ذلك كتاب دلائل النبوة للبيهقي، قال فيه الحافظ ابن كثير: دلائل النبوة لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنف في السيرة والشمائل.
وقال تاج الدين السبكي: أما كتاب دلائل النبوة "وكتاب شعب الإيمان" وكتاب "مناقب الشافعي" فأقسم ما لواحد منها نظير.5
وكذلك كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني.وغيرها من الكتب والمؤلفات والمصنفات التي تكلمت وأسهبت وأطالت في هذا الموضوع العظيم ((ليزداد الذين آمنوا إيماناً)) وليعلم من لم يكن مؤمناً علّ الإيمان إلى قلبه يكون هذا طريقه. وأما الجاحد المعاند الذي يريد أن يمنع نور الشمس عن الناس بيده فليخسأ وليعلم أن الله متم نوره ولو كره الكافرون والحمد لله رب العالمين،،،
المراجع:
- دلائل النبوة للبيهقي.
- الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي.
- مباحث في إعجاز القرآن لمصطفى السباعي.
- الإعجاز العليم في القرآن الكريم لحسن أبو العينين.
________________________________________
1- مقدمة دلائل النبوة للبيهقي (1/10-11).
2- الصحيح المسند من دلائل النبوة للشيخ مقبل الوادعي ص 7-8.
3- مباحث في إعجاز القرآن لمصطفى السباعي ص 28-29.
4- مقدمة دلائل النبوة للبيهقي تعليق عبد المعطي قلعجي 1/61-62.
5- دلائل النبوة للبيهقي.(/4)
دماء على طريق الدعوة
د. عبد الحي يوسف
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضلّ له, ومَن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة, ونصح الأمّة، وجاهد في سبيل ربه حقّ الجهاد, ولم يترك شيئاً مما أُمر به إلاّ بلّغه, فتح الله به أعيناً عُمياً، وآذانا صُماً، وقلوباً غُلفاً, وهدى الناس مِن الضلالة، ونجّاهم مِن الجهالة, وبصّرهم مِن العمى, وأخرجهم مِن الظلمات إلى النور, وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيّك محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
أما بعد.. فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، وكلَّ ضلالةٍ في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أمّا بعد أيها المسلمون عباد الله!
فإن السيرة النبوية المباركة كتابٌ ناطق, وصفحاتٌ شاهدة, بمقدار ما تنطوي عليه قلوب الكافرين من عداوة لله رسوله, ولعباد الله المؤمنين, كتابٌ ناطقٌ بعداوة هؤلاء, للحقّ وأهله, كتابٌ ناطقٌ بما يجب أنْ يكون عليه المسلمون من حرصٍ وحذرٍ, وجهادٍ وبذلٍ, وحبٍ للفداء والتضحية.
إنّ أحداث السيرة النبوية المباركة يستلهم منها المسلمون المؤمنون دروساً وعبراً، لحاضرهم ومستقبلهم, فإنّ الله عز وجل قد خاطبنا معشر المؤمنين بقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)، ليست أحداث السيرة المباركة حكاياتٍ مَضَتْ وانقضت وعفى أثرها, وذهب أمرها, بل سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرآةٌ فاحصة، إذا نظر فيها المسلم أدرك ما يدور حوله, وعرف أنّ الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِن أحزانٍ, وآلامٍ, وجراحٍ, ودماءٍ, وأشلاءٍ, كل ذلك أُريد منه أنْ يتعلّم المسلمون أنّ تاريخ الدعوة طويلٌ, وأنّ الكافرين لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة, لا يُضمِرون لهم خيراً, ولا يفون بعهدٍ ولا ميثاق, وأنّهم أشدُّ الناس عداوة للمؤمنين.. لأهل الحق.. لأصحاب الهدى.
أيها المسلمون عباد الله! حدثان عظيمان في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما غفل الناس عنهما, وما انتبهوا إليهما, كثيراً ما كان ينبغي أنْ يُعرض هذان الحدثان بتفاصيلهما من أجل أنْ يَعرف الناس أنّ نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في طريقه للدعوة فَقَدَ أصحاباً, وأنصاراً, وإخواناً, وأصهاراً, جاهدوا في الله حقّ جهاده, وثبتوا على المبدأ مِن أولِّ أمْرِهم إلى نهاية أعمارِهِم, كانوا بالعهد موفين, وكانوا على الصراط المستقيم راسخين, ما زلَّت أقدامهم, ولا ضلَّت أفهامهم, ولا التمسوا بُنَيّات الطريق.(/1)
في صفر مِنْ العام الرابع مِنْ الهجرة النبوية المباركة, قدم وفْدٌ مِنْ عَضَل والقَارَة -قبيلتان مِنْ قبائل نجد- قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام وقالوا: "يا رسول الله, إنّ فينا إسلاماً, فابعث معنا نفراً مِنْ أصحابك يُقرئوننا القرآن, ويعلموننا شرائع الإسلام", فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة العظيمة.. لهذا الأمر الجلل.. ستةً مِنْ الصالحين الطيبين مِنْ القُراءِ الواعين, العلماء الراسخين: مَرْثد بن أبي مَرْثد الغنويّ, وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح, وزيد بن الدَّثِنّة, وعبد الله بن طارق, وخالد بن البُكيْر, وخُبَيْب بن عَديّ. بعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أجل أنْ يقوموا بهذا الأمر: تعليمٌ وتزكية, تفقيهٌ وتربية, فخرجوا مع أولئك القوم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر, جاءوا بوجوهٍ بريئةٍ, ولكنّهم كانوا يحملون قلوباً مريضة, قلوب المنافقين.. المنافقون الذين يُظهرون خلاف ما يُبطنون, ويقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُأمرون, لمّا ذهب القوم وبلغوا مكاناً يُقال له الرجيع -ماءٌ بين عُسفان ومكّة- لمّا بلغوا ذلك المكان استصرخوا عليهم أقواماً مِن الكفار فأحاطوا بهؤلاء الستة الصالحين, القُراء العلماء, أحاطوا بهم وقد شهروا سيوفهم, ثم قالوا لهم: "لكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم, ولكننا نريد أنْ نصيب بكم مِن أهل مكة", نريدُ أنْ نبيعكم إلى أهل مكّة ونصيب بكم مالاً, فماذا كان موقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الستة الطيبون رضوان الله عليهم؟ أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقال: "والله لا أقبل من مشركٍ عهداً ولا عقداً)، كان يعلم يقيناً أنّ المشرك الذي نقض العهد مع الله, أخذ عليه العهد يوم الميثاق حين أخرجه من صلب أبيه آدم قال للناس جميعاً: (ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا)، هذا المشرك عاهد ربّه على ذلك يوم الميثاق, فلما خرج إلى الدنيا متّعه الله بالسمع والبصر, وأصبغ عليه النعم ظاهرةً وباطنةً, فنقض العهد مع الله, أشرك بالله وكفر به, سبه واستهزأ بآياته, أعرض عن هداه, "لا أقبل من مشركٍ عهداً ولا عقداً وقد عاهدتُ ربي ألا يمسني مشركٌ, وألا أمسّ مشركاً" ثم قام معه نفرٌ يُقاتلون حتى قُتِلوا رضوان الله عليهم. أما ثلاثةٌ وهم عبد الله بن طارقٍ, وزيدُ بن الدَّثِنَّة, وخُبيب بن عديّ رضوان الله عليهم فقد ألقوا بأيديهم, وصدّقوا القوم في وعودهم, لأنّ المؤمن غِرٌّ قد يُخدع، يظن أنّ الناس جميعاً صادقون, وأنّهم بعهودهم موفون, فألقوا بأيديهم فما أنْ أمسكوا بهم حتى حلوا أوتار قسيهم, ثم قيّدوهم بها, قال عبد الله بن طارق: "هذا والله أوّل الغدر"، هذه أول علامةٍ مِن علامات الغدر, أول دليلٍ من أدلة اللؤم, ثم لما كانوا ببعض الطريق حلّ عبد الله بن طارقٍ رضى الله عنه يده, ثم حمل سيفه وتربّص بالقوم ليقاتلهم, لكنّهم كانوا جبناء, كانوا أذلة صاغرين, ما اجترءوا على قتاله, بل وقفوا من بعيد يرجمونه بالحجارة حتى فاضت روحه إلى بارئها.
بقيَ خُبيب بن عديّ, وزيد بن الدَّثِنَّة رضوان الله عليهما، فلمّا ذهبوا بهم إلى مكّة, باعوهما, أما خُبيب بن عدي رضي الله عنه فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر الذي قُتل يوم بدر, وأما زيد بن الدَّثِنَّة فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف الجُمَحيّ الذي قُتل يوم بدر, ثم بعد ذلك حُبسا وما زال أهل مكّة تتلمظُ شفاههم, وتتحرق قلوبهم, وينتظرون ساعة الانتقام, الساعة التي يقتلون فيها أسيرين, مُقيَّدين لا حول لهما ولا طول, لا قوة ولا بأس, لا يقتلونهما في ميدان نِزال, ولا في حال قتال, وإّنما وهُما مقيدانِ مربوطان أسيران, لا يملكان لأنفسهما نفعاً ولا ضراً, ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً, فخرج القوم بخُبيب بن عديّ رضي الله عنه فاستأذن مِن الناس أنْ يُصليَ ركعتين قبل أنْ يُنفّذ فيه حُكم الإعدام, ما صرخ ولا بكى، ولا اشتهى طعاماً، ولا طلب بأولاده لقاءاً, وإنّما أراد أنْ يقف بين يدي ربّه مصلياً, راكعاً ساجداً, قبل أنْ تُزهق روحه, قبل أنْ تذهب نفسه, فكان رضي الله عنه أول مَنْ سنّ الصلاة قبل القتل, ثم بعد ذلك ماذا قال رضي الله عنه؟ قال للمشركين: "والله لولا أني اخشي أن تقولوا قد خاف من الموت لطوّلت فيهما"، لصليت ركعتين طويلتين، أتلذذ فيهما بمناجاة ربي، والوقوف بين يدي مولاي. ثم بعد ذلك دعا ربه فقال: "اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة نبيك فأبلغه عنّا الغداة ما يُفعل بِنا"، ثم دعا علي المشركين فقال: "اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً"، ثم رُفع رضي الله عنه على الخشبة وقتل.. ذهب إلى ربه شهيداً.(/2)
وأما زيد بن الدَّثِنَّة رضي الله عنه فقد أخرجوه للقتل على ملأ من الناس، فقال له أبو سفيان بن حرب -وهو يريد أن يشفي غليله، وقد كان كافراً مشركاً، عظيم الضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا زيد، أتحب أنك بين أهلك وولدك ومحمدٌ يقتل مكانك"، فقال له زيد بن الدَّثِنَّة في ذلك الموقف الذي يحار فيه اللبيب.. يطيش فيه العقل، وتذهب فيه الفكرة، قال له زيد رضي الله عنه ـ وهو رابط الجأش، ثابت القلب، لا يتردد ولا يتلجلج ـ قال: "والله ما أحب أني بين أهلي وولدي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُشاك بشوكة"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت أحداً يحُبّ أحداً كحُبّ أصحاب محمد محمداً"، ثم قتلوا زيداً رضي الله عنه، قدّموا غلاماً عبداً لصفوان بن أمية يقال له نسطاس فطعنه.
أيها المسلمون عباد الله!
هذه الحادثة في السيرة النبوية المباركة فقد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة مِن خيار أصحابه، من الصالحين القانتين،الطيبين العابدين، لكنّ فيها فوائد.
في هذه القصة المباركة علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدعوة فداؤها الرجال.. فداؤها العلماء الأفذاذ.. فداؤها القرّاء الطيبون.. فداؤها الفُقهاء الصالحون، يقدِّمون أنفسهم طاعة لله ورسوله، يسترخصون دمائهم في سبيل الله وتبليغ دينه.
ثم ثانياً: تعلّمنا من هذه القصة أنّ المشرك لا يؤمَنُ غدره، كان الوفاء قيمة مرعيّةً في العرب، ما كانوا يغدرون بذمة، وما كانوا يُخْفِرون بعهد، لكن هؤلاء المشركين لمّا كانوا يواجهون جماعةً من المؤمنين نسوا تلك القيم الأصيلة, مثلما يتبجّح المشركون اليوم بأنّهم أهل الحريّات, وأنّهم أهل حقوق الإنسان, وأنهم الذين يُعلّمون الناس الديمقراطية, وإبداء الرأي, ثم بعد ذلك إذا كانت العداوة للمسلمين فلا حريةَ ولا رأي.. لا ديمقراطيةَ ولا حقوق إنسان, كل هذه القيم تكون تحت النعال ودَبَر الآذان, لا يُفكّرون فيها, ولا يُدندنون حولها.. مع المسلمين لا حرية ولا رأي ولا حقوق للإنسان, ولا هذه الشعارات الجوفاء.. كلها تذهب أدراج الرياح.. لا قيمة لها.
ثم ثالثاً: في هذه الحادثة مِن أحداث السيرة النبوية المباركة, نُثبت كرامات الأولياء, أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون, عبادُ الله الصالحون, أولياءه المقربون, مَن والَوْا بين الطاعات, وتقرّبوا إلى الله بالسُّنن بعد الواجبات, هؤلاء الله عزّ وجلّ يثبِّتهم, ويؤازرهم ويسددهم، ويُقويهم ويَرعاهم ويحميهم. أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أمير القوم رضي الله عنه.. عاصم بن ثابت هذا يوم بدر قتل رجُلين من المشركين, أمُّهما سُلافة بنت سعد كانت قد نذرت إنْ ظفرت برأس عاصم بن ثابت أنْْ تشرب في قِحفه الخمر, أنْ تشرب في دماغه الخمر, المشركون بعدما قتلوا عاصماً في ميدان الشرف, في ميدان الوغى, أرادوا أنْ يأخذوا جسده الشريف ليبيعوه إلى تلك المرأة الكافرة, ماذا فعل الله لوليه؟ ماذا فعل الله لهذا العبد الصالح؟ أرسل الله عزّ وجلّ ظُلّة مِن الدَّبر.. من الزنابير أو من ذكور النحل, فأحاطت به وأظلّته, ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه, ولا أن يقتربوا منه, ولا أن يمسّوا جسده, حتى قال بعضهم لبعض: "انتظروا حتى إذا كان الليل أخذناه"، فماذا فعل الله بهم لما أقبل الليل أرسل الله عز وجل سيلاً جارفاً حمل ذلك الجثمان الشريف إلى حيث لا يعلم مكانه إلا الله, ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه, لِمَ؟ لأنّه صدق الله فصدقه, كان رجلاً عقيدةُ الولاءِ البراءِ قد تخللت قلبه, قد خالطت شِغاف فؤاده, عاهد الله ألا يمسَّ مشركاً ولا يمسّه مشرك, ما كان متهوكاً متردداً, يتزلّف للمشركين, ويتقرب للكافرين, ويتمسح بأعتاب المنافقين, بل بلغ من حبه لله وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتزازه بإيمانه, وافتخاره بإسلامه: أن يُعاهد الله ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك, لِمَ؟ لأنّه تعلّم من شريعة الإسلام, أنّ المشركين نَجَس, المشرك نجِس القلب, نجِس الاعتقاد, نجِس الباطن, نجِس الفؤاد, ثم بعد ذلك في الظاهر لا يتورع عن النجاسات, قد يأكل الدم, قد يشرب الخمر, قد لا يتمسح من بوله وعذرته, لا يتورع عن النجاسات, فهم نجسٌ ظاهراً وباطناً, لمّا كان عاصم بن ثابت رضي الله عنه قوي الإيمان صحيح اليقين, حماه الله عز وجل.(/3)
وأما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فلما كان محبوساً مقيداً، وعلم أنّ ساعة القتل قد دنت, وأنّ لقاءه بربّه قد اقترب, طلب من جارية لبني الحارث بن عامر.. جارية.. خادمة.. أمة.. طلب منها موسى حديدة ليحلق عانته ليتهيأ للقاء ربه, فجاءته بتلك الحديدة التي طلب, بينما هو يحملها في يده إذا غلامٌ صغيرٌ من بني الحارث قد دبّ, حتى دخل عليه, فأجلسه خُبيبٌ في حِجْره, يُداعبه ويُلاعبه يحنوا عليه ويُلاطفه, لأنّه تعلم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلّم توقير الكبير, والعطف على الصغير, وإنزال كلّ إنسانٍ منزلته, لما رأت تلك الجارية ذلك الغلام جالسًا في حِجْر خُبيب, والحديدة في يده, فزعت وقالت في نفسها: "قد أدرك الرجل ثأره, والله ليقتلنّ الغلام"، خُبيب رضي الله عنه، وليُّ الله، تفرّس بما حدّثت به المرأة نفسها, فقال لها: "أخشيت أن أقتله؟ والله ما كنت لأفعل", ما تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقتل صغيرًا, ولا أن نعتديَ على طفلٍ, ما تعلّمنا من شريعة الإسلام أن نؤاخذ صغيرًا بجريرة كبير, "ما كنت لأفعل". تقول هذه الجارية بعدما أسلمت رضي الله عنها تقول: "ما رأيت أسيرًا قطّ خيراً من خُبيب, والله لقد رأيت بين يديه قِطفاً من عنب وما بمكة يومئذٍ عنبٌ قط, وإنّه لمقيد اليدين, وإنّما هو رزقٌ ساقه الله إليه". أعادوا كرامة مريم ابنة عمران التي قال الله في شأنها: (كلما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لكِ هذا قالت هو من عند إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب).
أيها المسلمون عباد الله!
قبل أنْ يصل خبر هؤلاء الستة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أنْ يعلم بمقتلهم رضوان الله عليهم جاء نفرٌ مِن أهل نجدٍ بقيادة عامر بن مالك المعروف بـ(مُلاعب الأسنّة)، جاء يطلب مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُراءًا عُلماء ليُعلّموا الناس القرآن, ويشرحوا لهم الإسلام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّي أخشى عليهم أهل نجد)), فقال الرجل: "أنا لهم جارٌ يا رسول الله", ماذا حدث مع هؤلاء؟ كانوا سبعين فيهم حرام بن مِلحان, فيهم عامر بن فُهَيرة -مولى أبي بكر الصديق- فيهم الحارث بن الصِّمَّة, فيهم نفرٌ كِرامٌ, صالحون طيبون.. نافع بن بُدَيل بن ورقاء, وغيرهم. سبعون من القُرّاء, يحتطبون بالنهار ويتدارسون القرآن ويُصلون بالليل, ويُطعمون أهل الصُفة, فإذا نادى المنادي حيّ على الجهاد كانوا في أول الناس, ماذا حدث مع هؤلاء؟ حدث ما حدث مع أولئك في خبر ينبغي أنْ يُفصَّل وأنْ يُبيّن.
نسأل الله عز وجل أن يجزي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عنّا وعن الإسلام خيرًا، وأن يرفع درجاتهم في أعلى عليّين, وأن يرزقنا السير على طريقهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين, وأشهد ألاّ إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبدُ لله ورسوله النبي الأمين, بعثه الله بالهدى واليقين, لينذر من كان حياً ويحقّ القول على الكافرين, اللهم صلي وسلم وبارك عليه، وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد. أيها المسلمين عباد الله! فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعين رضوان الله عليهم أجمعين, حرام بن ملحان خالُ أنس بن مالك, المنذر بن عمر, نافع بن بُديل بن ورقاء, عامر بن فُهيرة, كعبُ بن زيدٍ, وعمرو بن أميّة الضَمْريّ, وأمثالهم رضوان الله عليهم. ذهبوا بصُحبة ذلك الرجل عامِر بن مالكٍ المعروف بملاعب الأسنّة, لمّا بلغوا مكانًا يُقال له بئرُ مَعُونة, لمّا بلغوا ذلك المكان بعثوا حرام بن مِلحان رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل كافِر, إلى رجل فاجِر, إلى رجل فاسق, إلى رجل لا يرجو لله وقاراً, وهو عامر بن الطُفَيل ذهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه, يدعوه إلى الإسلام, يأمرُهُ بالإيمان, فلم ينظر عامرٌ في الكتاب بل أومأ إلى رجل فأنفذ الرمح في حرام بن مِلحان, طعنه من الخلف, فماذا قال حرام قال: "فُزتُ وربِّ الكعبة", يُقتل يسيل دمه, تُزهقُ روحه, فيصيح تلك الصيحة "فزتُ وربّ الكعبة", هذا الذي طعنه مازال يُفكّر في هذه الكلمة كيف أنّ إنسانًا, قتيلاً، قد فارق الدنيا وأيقن ذلك لا محالة ينطق بتلك الكلمة "فُزتُ وربّ الكعبة"، تُرى أيُّ فوز ذاك؟ هذه الكلمة كانت سببًا في إسلام ذلك الطاعن, بركة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتهم، وعند مماتهم، وبعد وفاتهم، رضوان الله عليهم أجمعين.(/4)
ثم بعد ذلك بالغ عامر بن الطفيل في فجوره, وسدر في غيّه, وصرخ ببني لحِيان يُريد منهم أنْ يخرجوا لقتل هؤلاء السبعين, لكنّهم أبَوا أنْ يُخفروا عامر بن مالك في ذمته, وأن يغدروا بعهده فاستصرخ عليهم جماعة من بني سُليم، قبيلة يُقال لها ذكْوان وأخْرى يُقال لها رِعْل وثالثةٌ يُقال لها عُصيَّة, فأحاطوا بالقوم ومازالوا يُقاتلونهم حتى قتلوهم عن آخرهم, في شهر صفر من السنة الرابعة مِن الهجرة النبوية المباركة يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستةً عند ماء الرجيع, وسبعين عند بئر معونة, وكلّهم قُراءٌ عُلماء مجاهدون أبرار أخيار أطهار, جاهدوا في الله حق جهاده. بلغَ الخبرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فحزن لذلك حُزنًا شديداً, واغتمّ غمّاً عظيماً, حتى بَلغ مِنه الحال صلواتُ ربّي وسلامه عليه أنه مكث شهرًا كاملاً يدعو على تلك القبائل على رِعْل وذَكْوان وعُصيّة عصت الله ورسوله يدعو عليهم صلواتُ ربّي وسلامه عليه, يدعو عليهم لأنّهم قد نقضوا العهد, وما وفوا بالوعد, يدعو عليهم لأنّهم أظهروا العداوة لله ورسوله, قتلوا أولياء الله وصدّوا عن سبيل الله, ونهوا عن المعروف وأمروا بالمنكر مِن أجل هذا يدعو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/5)
الدعوة -أيها المسلمون عباد الله- سال في طريقها تلك الدماء الزكيّة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه بالتاجر الحصيف الذي لا تُثنيه الخسارة عن مُواصلة التجارة, في طريق الدعوة خسائر.. في طريق الدعوة مصائب.. في طريق الدعوة عقبات وأشواك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا أنْ نسترخص ذلك كلّه, ثم بعد ذلك –أيها المسلمون عباد الله- هذه الأحداث كلّها, ينبغي أنْ نستفيد منها لحاضرنا, العهدُ مع المشركين لا يُؤْمَن, الوعد مع المشركين لا يُضْمن, هؤلاء لا يَرقبون في مؤمن إلا ولا ذِمّة, لا يرجون لله وقاراً, ولا يُعظمون لله أمراً, بعد هذا كله, بعد سنواتٍ خمسٍ, بعد هذا الغدر, يأتي ذلك الرجل عامر بن الطفيل الذي جيء له بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينظر فيه ولم يأبه به, بل قتل حامل الكتاب غيلة وغدراً بعد هذه السنوات الخمس في عام الوُفود يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل عليه ويقول له: "خالِني يا محمد", أي دعني أخلو بك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله لا أفعل حتى تُؤمِن بالله ورسوله)), إذا شهدت شهادة الحق وكنت مِن أهل الإسلام, أخلو بك.. لا مانع.. لأنّ هناك قيمًا وأخلاقًا وتعاليم ستضبط تصرفاتك وسلوكك, أما الآن فلا أفعل, فما زال الرجل يطلب خالني يا محمد فيقول له النبي: ((والله لا أفعل)), فقال له: "يا محمد لأعرِضنّ عليك ثلاثة خصال, الأولى: أبايعك على أنْ يكون لك أهل الحضر وليَ أهل الوَبر"، أبايعك على أن يكون أهل الحضر لك تحت قيادتك, وأهل الوبر -أهل البادية- تحت قيادتي أنا.. هكذا.. إسلام طَمَع, ما أسلم يُريد وجه الله, ما يُسلم مِن أجل الآخرة، وإنما مِن أجل الزعامة.. مِن أجل القيادة.. مِن أجل الرئاسة.. مِن أجل التسلط على رقاب الناس؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أفعل, هاتِ الثانية))، قال: "الثانية: أبايعُك على أن يكون لي الأمر مِن بعدِك"، أكون أنا الخليفة بعدك؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أفعل))، لِمَ؟ لأنّ قانون القرآن (ولقد كتبنا في الزبور مِن بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون)، مَنْ أنت؟ ما دينك؟ ما صلاحك؟ ما عملك؟ ما بلاؤك؟ ما جهادُك؟ ما بَذْلُك؟ لا شئ من هذا كلّه, فلمَ يكون لك الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ((هاتِ الثالثة)), قال له: "أما الثالثة, والله لأملأنها عليك خيلا جُرداً, ورجالاً مُردًا"، لأملأنّ عليك هذه البطحاء, لأملأنّ عليك الأرض, برجال مقاتلين أشداء, وخيلٍ كثيرة, حتى أستأصل شأفتك. ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل أمر بالقبض عليه؟ هل أمر صلى الله عليه وسلم بقتله؟ لا والله كان عليه الصلاة والسلام يُقدر المصالح والمفاسد قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اكفني عامر بن الطفيل)), خرج هذا الخبيث عدو الله خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار في الطريق راجعًا إلى قومه فابتلاه الله عز وجل في عنقه بغدةٍ، تورّمت رقبته، ثم بعد ذلك اشتد عليه الألم فأوى إلى بيت امرأةٍ من بني سلول، وما زال الألم يشتدّ عليه، وقد انقطع رجاءه في الله وعظم كفره بالله, فأخذ يقول يندب حظه: "غُدةٌ كغدة البعير, وميتةٌ في بيت سلولية!", ثم خرج لعنه الله راكبًا فرسه, من شدة الضيق والضجر, والألم والمرض, وما زال يدور على فرسه, حتى خرّ ميّتاً, وكان جسده طعامًا للطير والسباع, (جزاءًا وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذّبوا بآياتنا كِذاباً. وكلّ شئٍ أحصيناه كتاباً. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً)، هذا جزاءُ مَن عادى الله ورسوله, هذا جزاءُ مَنْ نقض العهد ولم يفِ بالوعد, هذا جزاءُ مَنْ أراد الدنيا بعمل الآخرة, هذا جزاءُ مَنْ لم يقدُر الله حقَّ قدره.
أيها المسلمون عباد الله! هذه دروسٌ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحوجنا إليها في أيّامنا هذه, ما أعظم حاجتنا إلى النظر فيها, والتأمل في أخبارها, لنستفيد لحاضرنا ومستقبلنا.(/6)
اللهم ردّنا إلى دينك ردّا جميلاً.. اللهم ردّنا إلى دينك ردّا جميلاً.. اللهم ردّنا إلى دينك ردّا جميلاً.. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادةً لنا في كلّ خير, واجعل الموت راحة لنا مِن كلّ شرّ, اللهم اجعل لنا مِن كلّ همٍ فرجاً, ومِن كلّ ضيقٍ مخرجاً, ومِن كلّ بلاءٍ عافيةً, اللهم يا مُقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك, اللهم يا مُصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك, اللهم أحينا مسلمين، وتوفّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين, اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربّونا صِغاراً, اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علّمنا وتعلّم منّا, اللهم أحسن إلى مَن أحسن إلينا, اللهم اغفر لمن بنى هذا المسجد المبارك، ولمن عَبَد الله فيه، ولجيرانه من المسلمين والمسلمات, اللهم مَنْ وسَّع علينا مسجدنا هذا وسِّع عليه في الدنيا والآخرة، اللهم وسِّع عليه في الدنيا رزقه ووسِّع عليه في الآخرة مُدخله وقبره، اللهم اشرح صدره، ويسّر أمره، واخلف عليه بخير مما أنفق يا سميع الدعاء, ربّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب النار.
قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
المشكاة(/7)
دمعة في الحج
محمد بن سرار اليامي ...
الحمد لله رب العالمين مدبر الخلائق أجمعين باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم لهداية الثقلين وبيان الهدى وشرائع الدين.
أحمده على الهدى بعد العمى وأشكره على التوفيق لسلوك الطريق فله الحمد والثناء وهو للحمد أهل..
والصلاة والسلام على من جمع الله به شعث البشرية ووحد به كيان الإنسانية وحمل مشعل الوحدانية ولم به فرقة العربية.وعلى آله وصحبه الكرام البررة وسلم تسليما كثيرا..وبعد:
إليك والا لا تشد الركائب
ومنك والا فالمؤمل خائب
وفيك والا فالعزم مضيع
وعنك والا فالمحدث كاذب
لماذا هذه الدمعة؟
أيها المبارك : هذه الدمعة .. بل دمعات وعبرة.., بل عبرات هيجها الفؤاد, وكتبتها المقل بالمداد ( دمعة في الحج )...لا ككل الدمعات..
إنها دمعة صادقة..
إنها دمعة حارة..
إنها دمعة أسى , ولوعة.. اعتصرها القلب ألما ففاضت بها المدامع.
دمعة طالما حلمت بالمشاعر المقدسة.. والبقاع الطاهرة..
وهاهي اليوم تسكب هاهنا.. وترتمي في أحضان عرفات . ومنى..
دمعة تسابق الأريج . وتمازح دموع الحجيج . طالما حبست في المحاجر . وهاهي اليوم تهاجر ..
آه .. ثم آه من حرارة الحشا , وحلاوة اللقا.
يا راحلين إلى منى بقيادي *** هيجتموا يوم الرحيل فؤادي
سرتم و سار دليلكم يا وحشتي *** الشوق أقلقني وصوت الحادي
قال المعصوم عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : هنا تسكب العبرات يا عمر
وصدق صلى الله عليه وسلم.
فقل لي بربك عمن لم يبك في هذا المكان..ومن لم تبلل دموعه الأدران.هذا هو الخسران..هذا هو الخسران..
في هذه الدمعة
في هذه الدمعة: تحقيق للعبودية وإظهار للافتقار وكشف حساب أثقلته الأوزار..
في هذه الدمعة: ذكر لمن جل ذكره وشكر عظم بره..
في هذه الدمعة: استشعار للمنة وعمل بالسنة ليكون المآل للجنة بأذن الله وفضله ومنه.
في هذه الدمعة: شكر للتوفيق وحمد على الهداية للطريق وإظهار للحال بلا ريق..
في هذه الدمعة: خضوع وانكسار وذلة لتغفر الذنوب وتسد الخلة وتحط السيئات وتعظم الحسنات وترفع الدرجات وتقبل القربات..
في هذه الدمعة: فرح بهزيمة الشيطان ورده خائبا خاسرا على عقبيه.. اذ ان الجبار قد غفر لأهل الموقف وتجاوز عنهم نسأل الله الكريم من فضله..
في هذه الدمعة أيضا: ذكريات عزيزة وأيام خلت لنا فيها عبرة.. فيها كان الخليل إبراهيم عليه السلام يسطر حروف التاريخ بمداد من نور النبوة الساطع ويظهر للبشرية طاعة رب البرية الخضوع والخشوع والانقياد حتى ولو بذبح الأولاد..
وفي هذه الأزمنة والأمكنة الفاضلة يظهر إسماعيل عليه السلام الرضا بأمر الخليل فيقيده الوالد والله شاهد فيهب الكريم ذبح عظيما فيسلم الولد وينجح الوالد في تحقيق أمر الحق جل وعز
وفي هذه الأزمنة والأمكنة الفاضلة يظهر المعصوم صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يظهر الجلد والصبر على الضيم والجهر ويدعوا إلى التوحيد صباح مساء فيشرق على الكون الضياء من هنا من هذه الأماكن المقدسة والبقاع الشريفة
نعم من هنا كان تاريخنا وكانت حاضرتنا لا من ( لينين ) ولا من ( ستالين ) ولا من كل فرعون..
بل: من بلادي يطلب العلم ولا *** يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل *** أخرج الله بها خير نبي
بل وفي هذه الدمعة حرقة وأسى ولوعة على حال المسلمين في كل فج عميق..
القتل زادهم والتشريد سكنهم والدماء شرابهم والإهانة معيشتهم..
شردوا في الأرض زرافات ووحدانا ولفقت لهم شتى أنواع التهم وألبسوا كل لباس.. وهم قتلهم الوهن وأضعفهم العجز وكبلهم الكسل ومزقتهم الفرقة وضيعتهم المصالح الشخصية والأرصدة البنكية وأصبح حال الأمة اليوم حال الثكلى فلا والد ولا ولد ولا صبر ولا جلد..إلى الله المشتكى ...
والغريب في الأمر أن من بني جلدتنا قوم أفكارهم غريبة ومبادئهم مريبة سلطوا ألسنتهم الحداد على أهل الصلاح ولإيمان وسلم منهم أهل السوء والفساد فجعلو ينخرون في الأمة الثكلى كما تنخر الدودة المفسدة في العصى فيسقط سليمان الإيمان على أرض الفساد فتقول لسان الحال: يا بشرى هذا غلام.. إن أهل النفاق هم وأهل الملل الكافرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم يقفون في خندق واحد ضد أهل التوحيد ..
نعم ضد أهل الإيمان والعقيدة السمحة البيضاء النقية وصدق الله جل وعز إذ يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى } (120) سورة البقرة
والمؤمن الغيور حينما يرى الواقع المرير وما آلت إليه الحال لا يملك إلا هذه الدمعة فتهراق على مقلة طالما حلمت بعز الإسلام وأهله وذل الكفر وأهله...
بل وفي هذه الدمعة: استشعار للوحدة الإسلامية وارتباط بهدف موحد..
فالدين واحد..
والرب واحد..
والنبي صلى الله عليه وسلم واحد .. والقران واحد
والسنة واحدة والقبلة واحدة والمشاعر واحدة والجنة واحدة والطريق واحد(/1)
وفي هذه الدمعة حزن على التفريط في زمن الحياة فأن العمر ساعة فهنيئا لمن جعلها في طاعة ...
والعبد حينما يذكر الساعات الضائعة من عمره لا يملك عبرته فتهراق ندما على التفريط في زمن الصبا فرط في الخيرات وما كان مطيعا واشتغل بالملهيات إذا كان مستطيعا
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أيسر ما عليك يضيع
وفي هذه الدمعة: أنين وحنين من الأمل المنشود من الرب المعبود.. فما أجمل الأمل .. حين يحدو مطايا القلب .. فهو نور في ظلام وفرح وسلام.. نعم ان العبد ليقبل على ربه ومولاه فينطرح بين يديه سبحانه ويؤمله ويسأله.. أن يعفو عنه وأن يقبل منه وأن يتوب علية فيمن فيما تاب عليهم ..أن العبد ليتملق سيده جل وعز أن يعفو عن زلاته وان يصفح عن غدراته واجرامه..فتدمع العين في الموقف الطاهر وتسكب العبرة عندما يرن في الأذن قول الحق جل وعز: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر
فإنما هي حسرة على الذنب..
فعبرة من الخوف ..
فدمعة من الوجل..
فدعاء مع الذل..
فرحمة من ارحم الراحمين.. { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (60) سورة غافر
ولين لسان حالك ايها المبارك :
أمولاي إني عبد ضعيف *** أتيتك أرغب في مالديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب *** وهل يشتكى الضر الااليك
فمن بعفوك يا سيدي *** فليس اعتمادي إلا عليك
أيها المبارك : انثر العبارات..واسكب الدمعات في هذه العرصات عساك أن ترحم مع المرحومين وتقال مع التائبين.... وتبل مع المقبولين..
ثم اعلم أيها المبارك : أنك في مكان شريف فاضل وفي زمان شريف فاضل فاجعل زادك في حجك العمل الصالح والتقرب إلى الله بشتى أنواع القربات عسى أن تكون من المقبولين..
وفي هذه الدمعة أيضا : تذكر لليوم الآخر واستعد له ..فأنت ترى الجموع قد غصت بهم البقاع الطاهرة والأماكن الشريفة في لباس واد هو البياض.. فتدمع العين لهذا المشهد المهول...آلاف مؤلفة ورؤوس مكشفة .. رداء واحد وأزار واحد ..
فنسأل الذي جاءوا من أجله في هذا الصعيد الواحد الا يحرمهم الأجر والا يخيب فيه رجاءهم وأن يعمنا وإياهم برحماته انه ولي ذلك والقادر عليه
أيها المبارك: تذكر الكفن وأنت ترى البياض على الناس ..تذكر الحشر وأنت ترى الآلاف تذكر الموقف الرهيب والخطب المهيب تذكر خضوع الناس لرب العالمين ووقوفهم بين يديه جل وعز في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي.
ثم أيها المبارك بادر قبل ان تبادر بادر بالتوبة وأصلح الحال مع الله جل وعز. بادر بترك كل مخالفة لشرع الله..بادر بتحكيم امر الله في جميع شؤونك بادر بنبذ البدع والخرافات والقبوريات والطرقيات والحق بركب أهل الحق أهل الكتاب والسنة ...
في هذه الدمعة أيضا الخضوع والذل والانكسار بين يدي رب الأرباب والتملق والانطراح بين يديه جل شأنه ..وإظهار الفقر والفاقة والدعاء.. نعم الدعاء.. فهو سلاح المؤمن
ومن مظنة إجابته بعض الأحوال والأماكن والأزمان منها :
• ما كان في حال السفر فدعوة المسافر مستجابة لاترد والحاج مسافر لطاعة.
• وكذلك دعوة الحاج فإنها مظنة الإجابة قال صلى الله عليه وسلم (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) رواه ابن ماجه وصححه الألباني
• وكذلك الدعاء في بعض الأماكن الشريفة والأزمنة الفاضلة.
فعند الصفا وعند المروة ويوم عرفة قال عليه الصلاة والسلام أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة أنا والنيون من قبلي : لا اله إلا الله وحده لاشريك له) رواه الترمذي
• وكذلك الدعاء عند المشعر الحرام وكذلك الدعاء بعد رمي الجمرتين الصغرى والوسطى وكذلك عند شرب ماء زمزم وكذلك في جوف الليل ووقت السحر ودبر الصلاة المكتوبة وفي السجود وبعد المطر وبعد الوضوء وبين الأذان والإقامة وبعد الصلاة على النبي صلى الله علية وسلم في التشهد الأخير ودعاء المضطر ودعاء الوالد لولده .
أيها المبارك : فالله الله بالدعاء .. ألح على الله به فانك في مواطن إجابة ...أسأل الله أن يتقبل منا منكم صالح الأعمال وان يغفر الزلل ووفق الله الجميع لصالح النية والعمل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
تمت في رياض نجد عمرها الله بطاعته وحرسها من كل سوء . ...
صيد الفوائد
...(/2)
دور الأسرة
إن للأسرة دوراً كبيراً في العناية بالطالب، ومتابعته وحثه على حفظ كتاب الله تعالى، والأسرة تضطلع بالجزء الأكبر في ذلك، وكثير من الناس يلقي اللوم في حالة تأخر الطالب أو إهماله أو وجود انحراف في سلوكه على مدرِّسه، وفي الحقيقة أن المعلم قد يكون احتكاكه بطالبه في وقت يسير، بخلاف الأسرة التي يقضي الطالب جل وقته فيها.
وكم سمعنا عن آباء يأتون بأبنائهم إلى مدارس التحفيظ، ويريد من معلمه أن يجعل منه معجزة في الحفظ والأدب، ثم لا يسأل عن ابنه ولا يعلم شيئاً عن مستواه الدراسي، بل هو مشغول بعمله وتجارته فإذا أخفق الطالب ألقى اللوم على معلمه ومربيه.
إن دور الأسرة أساسي وليس تكميلي فقد قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}(72) سورة الأحزاب.وقد جاء ضمن معاني الأمانة؛ أمانة الأهل والأولاد، فيلزم الولي أن يأمر أهله وأولاده بالصلاة، ويحفظهم من المحارم واللهو واللعب،لأنه مؤتمن ومسؤول عما استرعاه الله.
وإِنَّ التأكيد على أهمية دور الأسرة في رعاية الأولاد، من أَجَلِّ الأمور،التي يجب أن تتضافر جهود الآباء والأمهات، وأهل العلم، والدعاة، والتربويين، والإعلاميين... للمحافظة على بناء الأسرة الصالحة في المجتمع، فهي أمانة أمام الله-تعالى- نحن مسؤولون عنها، فالمرء يُجزى على تأدية الحقوق المتعلقة بأسرته، إِنْ خيراً فخير وإلا غير ذلك، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (6) سورة التحريم.
ولقد فطر الله -عز وجل- الناس على حب أولادهم قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(46) سورة الكهف، ويبذل الأبوان الغالي والنفيس من أجل تربية أبنائهم وتنشئتهم وتعليمهم، ومسؤولية الوالدين في ذلك كبيرة، فالأبناء أمانة في عنق والديهم، والتركيز على تربية المنزل أولاً، وتربية الأم بالذات في السنوات الأُوَل، فقلوبهم الطاهرة جواهر نفيسة خالية من كل نقش وصورة، وهم قابلون لكل ما ينقش عليها، فإن عُوِّدُوا الخير والمعروف نشأوا عليه، وسُعِدوا في الدنيا والآخرة، وشاركوا في ثواب والديهم، وإن عُوِّدُوا الشر والباطل، شقُوا وهلكُوا، وكان الوِزْرُ في رقبة والديهم، والوالي لهم1.
ويمكن القول بأن للأسرة دورًا كبيرًا في رعاية الأولاد - منذ ولادتهم - وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- "الصلاح من الله والأدب من الآباء". ومن يُحَلِّل شخصية صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، فإنه سيجد أن سر نجاحه وتميزه سببه التربية التي تلقاها في البيت. وما أجمل عبارة : " إن وراء كل رجل عظيم أبوين مربيين"، وكما يقول بعض أساتذة علم النفس : "أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء". وكما قيل: "الرجال لا يولدون بل يُصنعون". وكما عبر الشاعر:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا على ما كان عَوَّدَهُ أبُوهُ
وإهمال تربية الأبناء جريمة يترتب عليها أَوْخَم العواقب على حد قول الشاعر:
إهمالُ تربية البنين جريمةٌ عادت على الآباء بالنكبات
وهذه قصة تبين جانب الإهمال، فقد سرق رجل مالاً كثيرًا، وقُدّم للحد فطلب أمه، ولما جاءت دعاها ليقبلها، ثم عضها عضة شديدة، وقيل له ما حملك على ما صنعت؟ قال: سرقت بيضة وأنا صغير، فشجعتني وأقرتني على الجريمة حتى أفضت بي إلى ما أنا عليه الآن2.(/1)
إن التوجيه للأولاد يبدأُ في نطاقِ الأسرةِ أولاً، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع . فالأسرةُ هي التي تُكْسِبُ الطفلَ قِيَمَهُ فَيَعْرِفُ الَحقَ والبَاطلَ، والخيرَ والشرَ، وَهو يَتلَّقَى هذه القيمِ دونَ مناقشةٍ في سِنيهِ الأولى، حيث تتحددُ عناصرُ شخصيتِهِ، وتتميزُ ملامحُ هويتِهِ على سلوكه وأخلاقه؛ لذلك فإن مسؤولية عائلَ الأسرةِ في تعليمِ أهلِهِ وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وحثهم على تعلم القرآن، وليس التركيز فقط على السعيِ من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس..، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)3، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه -رضوان الله عليهم-:( ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ)4. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدينِ وَسُنَنَه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارا)5.
وقصة الرجل مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، الذي جاء يشتكي عقوق ابنه إلى أمير المؤمنين، فطلب عمر: أن يلقى ابنه، فسأل الابن عن عقوقه لوالده، فقال: إن أبي سماني جُعُلاً، ولم يعلمني آية واحدة..؛ فقال عمر للرجل: لقد عققت ابنك قبل أن يعقك6.
إذن نخلص من هذا أن على الأسرة مسؤولية كبيرة تجاه أبنائها، وينبغي أن يتضافر دور الأسرة مع دور المدرسة والمعلم، وأن لا يكون أحدهما بمعزل عن الآخر، فكل يقوم بدوره وبذلك تتآزر الوسائل جميعها في تنشئة الطالب وتربيته، والارتقاء به في أعلى مراتب التفوق والنجاح.
________________________________________
1 انظر : إحياء علوم الدين للغزالي (2/200) .
2 انظر : إصلاح المجتمع لمحمد البيحاني، ص127 .
3 صحيح البخاري - (ج 3 / ص 414)
4 صحيح البخاري - (ج 3 / ص 7)
5 تحفة المودود بأحكام المولود(1/229)
6 هذا المقال مستفاد جزء منه من مقال آخر بعنوان:دور الأسرة في رعاية الأولاد لـ د.عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين.بتصرف.(/2)
دور العلماء في محاربة البدع
...
...
1044
...
قضايا في الاعتقاد
...
...
البدع والمحدثات
...
محمد بن منصور
...
...
برج أم نايل
...
1/10/1354
...
...
محمد بن منصور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التذكير بنعمه العظيمة , ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل لهداية الناس إلى الصراط المستقيم 2- بيّن خطورة البدع , وانتشارها بين الناس في ذلك الزمان واستفحال أمرها 3- اختلّت الموازين فأصبحت هذه البدع سُنناً 4- نوّه بجهود العلماء المخلصين في محاربتها وإطفاء نارها 5- بيّن فضلهم ومنزلتهم , وأمر الناس بالرجوع إليهم وسؤالهم عن أمر دينهم 6- الأمر بتقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه , وأن ذلك هو الطريق إلى جنّات النعيم
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن البدع قبل أن يفتح العلماء أفواههم لدفعها بالحجج، كانت كنار الجحيم تتأجج، وعمّ ضلالها الأقاليم، وما أحد قال فيها: هذا عذاب أليم، بل بعض يحبّذ ويحسّن، وبعض يقول: هذا أمر هيّن، حتى كثر شرّها وظهر ضرها، فقام العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حقا فتداركوا الأمر فأطفأوا بنور العلم نارها، وأزالوا بسيف الحجة عن الأمة عارها، وحاربوها في عقر دارها، واقتلعوها من أسّ جدارها، فذهب أهلها يعثرون في أثواب الخجل، ويلوكون ألسنة العجز والفشل، وشعارهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ، وطالما عد الناس هذه البدع سننا، وحسِبوا نقمتها عليهم مناًّ، إلى أن عم الفساد سائر البلاد، وتوصلوا بذلك إلى ما حرم الله، وصار كل يتبع ما يهواه، ووقعوا في حيرة بعدما عميت منهم البصيرة، ولا ملجأ من الله إلا إليه، ثم أنقذهم بهذه الطائفة التي أخبر بها صاحب الحوض والشفاعة بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)).
وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ))، وقد جاءكم وفد العلماء، فكونوا لوعظهم سامعين، واسأولهم عن أمر الدين، فالسؤال شفاء من داء الجهل، وقد رزقكم الله بنعمة عظيمة ألا وهي العقل، لتسألوا عن الدين حتى لا يغرّنكم إبليس اللعين، فقد قال خير من علّمه ربه وعلّم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ))، ((وإنما العلم بالتعلم ))، وإن العلم لا يذهب إلا بذهاب العلماء، وبقاء جهال الرؤساء، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ))، فشمّروا أيها المؤمنون عن ساعد الجد، تفوزوا مع الفائزين، وامتثلوا أمر ربكم، وانتهوا عما نهاكم عنه تكونوا من المتقين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(/1)
دور المؤسسات الدعوية في توحيد الخطاب الديني
إعداد/ د. جمال المراكبي
الرئيس العام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد:
فقد وردت إلينا دعوة كريمة من لجنة الشئون الدينية والاجتماعية والأوقاف بمجلس الشعب لحضور عدة جلسات لمناقشة موضوع «توحيد الخطاب الديني ودور المؤسسات الدينية في صد الموجات المضادة للإسلام والمسلمين» بحضور الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف.
وكان من الواجب علينا تلبية هذه الدعوة وتمثيل الجمعية في مثل هذه اللقاءات،وتوجهت إلى المجلس في الموعد المحدد، وطلبت الدخول وحضرت الحوار وكانت المناقشات الساخنة تدور حول قضايا عامة مثل البنوك الربوية وفتوى شيخ الأزهر بمشروعية التعامل معها، وكانت الأصوات تعلو، والمقاطعة للمتحدث تتكرر، ويتدخل في النقاش بعض الحاضرين، والكل يسعى للحديث أو طلب الكلمة على المنصة، فقلت في نفسي: لن أتكلم إلا إذا دعيت للحديث.
فجاء أحد المسئولين عن اللجنة ليتعرف على اسمي، فكتبت له اسمي وصفتي في أوراق يحملها فلما عرفني رحبَّ بي وانصرف، وبعد دقائق جاء مسئول آخر وقال لي: هل تريد أن تقول كلمة يا دكتور جمال؟ فقلت له لا مانع عندي، فذهب ودون اسمي في الكشف المدون به أسماء الذين يطلبون الحديث وإلقاء الكلمات.
وتكلم السيد الوزير عن جهود الوزارة في الدعوة إلى الله، وضم المساجد الأهلية إلى وزارة الأوقاف وتعيين الأئمة والخطباء في المساجد عن طريق مسابقات لانتقاء أفضل المتقدمين، بعد أن كان التعيين يتم عن طريق وزارة القوى العاملة، وعمل الدورات التدريبية لرفع مستوى الأئمة، والاستعانة بأصحاب الكفاءة من خارج الوزارة الحاصلين على تراخيص ممارسة الدعوة. وكان الحديث لا يخلو من مقاطعات ومعارضات من بعض الحضور، وتقدم بعض الأعضاء بطلبات إحاطة بخصوص ضم المساجد، وبناء المساجد الجديدة.
وهنا تدخلت السيدة وكيلة المجلس، معلنة أن ما يجري في الجلسة بعيد كل البعد عن الموضوع الذي دعينا من أجل مناقشته، وقاطعها أحد الأعضاء الذين يريدون التعليق وارتفعت الأصوات، وتدخل الأعضاء والضيوف لتهدئة الأمور، وتكلم الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس اللجنة قائلاً: لقد وجهنا الدعوة لكل المهتمين بالدعوة إلى الله كالجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة والعشيرة المحمدية. وكثرت الشكوى من التفريعات الجانبية وعدم التركيز على موضوع المناقشة، وقال الدكتور رئيس اللجنة إن أمامي أربعة عشر اسمًا يريدون الحديث، والوقت المحدد كاد ينتهي، واقترح أن تؤجل المناقشات والكلمات لموعد قادم، وكان قد تكلم اثنان أو ثلاثة قبل التأجيل عن ضرورة توحيد الجهود وتوحيد الكلمة حتى يظهر المسلمون بالمظهر اللائق أمام غيرهم، وانتهت الجلسة على وعد باللقاء، وقمت من مكاني وصافحت رئيس اللجنة ووزير الأوقاف، واعتذر لي الدكتور أحمد عمر هاشم بأن طالبي الكلمات كثيرون، وأنني سأتكلم في الجلسة القادمة إن شاء الله وألقيت السلام وانصرفت. وكنت أردد في نفسي: سبحان الله، المفترض أن الحضور في هذه اللجنة هم أهل الحل والعقد في هذا البلد، ومع هذا فالأداء في غاية الضعف، وكثير من السادة الأعضاء والسادة الضيوف يحتاجون إلى معرفة آداب الحوار، وآداب الاختلاف، بل وأدب الإنصات والاستماع حتى لا يتحول اللقاء إلى نوع من حوار العشوائية، حوار يتكلم فيه الجميع، ولا يسمع أحد ما يقوله الآخرون، حوار الباعث على الكلام فيه إثبات الذات وحب الظهور ولكن ماذا نملك وهذا ما أفرزته الانتخابات وهذا هو الحوار الديمقراطي المنشود.
ولا أدري لماذا لم يُفَعِّل السادة النواب شعار الإسلام هو الحل إلى واقع عملي في هذه الجلسة فإن الإسلام يعلمنا دون شك أدب الحوار ويعلمنا دون شك أدب الدعوة إلى الله. قال الله تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [النحل:125].
وقال تعالى: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين [آل عمران:159].
سبحان الله.. أين نحن من هذا الهدي القويم الرحمة والرفق واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، أين نحن من المشاورة وهي من سبيل المؤمنين فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين [الشورى: 63-04].(/1)
وإذا كانت السيدة وكيلة المجلس قد تكلمت عن صورة المسلمين في الغرب، ووجوب تحسين هذه الصورة وعرض الصور الصحيحة للإسلام على الآخر، فإنني أقول إن هذه الصورة الصحيحة لديننا الحنيف يجب علينا أولا أن نعرفها نحن، يجب علينا أن نعرف ديننا، وأن نتحلى بآداب وأخلاق هذا الدين حتى نستطيع توصيل هذه الصورة لغير المسلمين ولا شك أن فاقد الشيء لا يعطيه لغيره وهذا مدخل مُهم لكلمتي التي أعرضها على كل مسلم يهتم بأمر دينه ويهتم لأمر المسلمين وينصح لإخوانه في الدين لأئمتهم وعامتهم عملاً بقول نبينا صلى الله عليه وسلم ، «الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». [رواه مسلم]
ولقول جرير بن عبد الله البجلي يوم مات المغيرة بن شعبة والي الكوفة سنة 50هـ فقام جرير فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو، ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت أبايعك على الإسلام. فشرط عليَّ: والنصح لكل مسلم. ورب هذا المسجد إني لناصح لكم. ثم استغفر الله ونزل. [رواه البخاري في آخر كتاب الإيمان رقم 58]
وقول معقل بن يسار ـ وقد عاده عبيد الله بن زياد في مرضه الذي مات فيه ـ: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، فلم يُحُطْها بنُصحه لم يجد رائحة الجنة». [رواه البخاري في كتاب الأحكام ح7150]
والقضية التي اجتمعت اللجنة الدينية بمجلس الشعب لمناقشتها قضية خطيرة، إنها قضية أمة وصفها رب العزة سبحانه بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110]
ولكن الأمة اليوم ليست هي الأمة وقت نزول هذه الآية، الأمة الآن ليست في طور عزها وريادتها، وإنما هي طوائف وشيع بأسها بينها شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، والله تعالى قد حذر الأمة من هذا الواقع المرير فقال: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [آل عمران: 301- 501].
ولكن قدر الله غالب فأصاب الأمة داء الأمم قبلها ووقعت في التفرق والاختلاف فكيف يستقيم الحديث عن توحيد الخطاب الديني، ولكل فرقة من فرق الأمة منهاجها ومنطلقها الذي تنطلق منه في خطابها ودعوتها، ولهذا فليكن منطلقنا في هذا الحوار حتى لا يأخذنا التشاؤم إلى درجة التسليم بالضعف والعجز، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الطيرة ـ التشاؤم ـ وكان يحب الفأل، والفأل قد يأتي بكلمة طيبة.
فأقول: لاشك أن هناك اختلافات كثيرة بعضها سائغ وبعضها مما يثير التنازع والشقاق، ولا شك أننا نرتكز في دعوتنا على كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يخالف فيه أحد منا بفضل الله عز وجل، فلنبدأ إذن دعوتنا من هذا المنطلق الذي لا نختلف فيه ولا نختلف عليه، لابد أن نُفَعِّلَ هذا الذي نتفق عليه، ننطلق منه في خطابنا الدعوي، ونحتكم إليه عند اختلافنا، ونعلم الخلاف السائغ فيعذر بعضنا فيه بعضًا ونعلم الخلاف الذي لا يجوز فنحذر من الوقوع فيه، لأنه يؤدي إلى النزاع وإلى الشقاق.(/2)
إننا جميعا ننتسب إلى أهل السنة والجماعة، هذا المذهب الوسط في فرق الأمة فكما أن هذه الأمة هي الأمة الوسط وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [البقرة: 341]. فأهل السنة والجماعة هم الوسط بين فرق الأمة. يجب علينا نشر هذا المنهج الوسط بين دعاتنا وبين شبابنا، هناك مسائل كثيرة يطرحها شبابنا أو ربما تأتيهم من الخارج تدور حول قضايا فكرية تثير الخلاف والاختلاف مثل قضايا وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية، وقضايا التعامل مع ولاة الأمور والسمع والطاعة لهم في المعروف أو نبذ السمع والطاعة وتزيين منهج الخوارج في التكفير والخروج على ولاة الأمور، وهناك قضايا أخرى يطرحها دعاة المذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة مثل قضايا الإمامة، وعدالة الصحابة واعتبار السنة أو الطعن في السنة وهناك نوع آخر يطرحه من يعتنقون العلمانية وضرورة فصل الدين عن الدولة، وهؤلاء الذين يمتطون الدين لتحقيق طموحاتهم السياسية، ولا شك أن هذه الأفكار وهذه القضايا ستجد سوقًا رائجة بين شبابنا الذين يفقدون الحصانة، والحصانة التي أعنيها ليست هي الحصانة التي يمنحها الدستور لأعضاء مجلس الشعب، ولكنها الحصانة التي يمنحها العلم بالمنهاج الصحيح لأهله، إن هذه القضايا والأفكار الخطيرة التي تروج بين شبابنا، ويتكلم فيها من يعلم ومن لا يعلم، يتحرج كثير من أهل العلم من الخوض فيها ربما يدافعهم إلى ذلك مصلحة استقرار الدعوة، والخوف من مخاطبة ولاة الأمر في قضايا حساسة، فيقولون ندرأ المفاسد ونجلب المصالح، ولا شك أن درء المفاسد وجلب المصالح من القواعد المهمة عند أهل السنة، ولكن ترك الخوض في هذه القضايا بضوابط أهل السنة والجماعة يؤدي إلى وقوع الشباب في شراك المروجين لهذه الشبهات، والواجب علينا ألا نترك هذه المسائل المهمة لمن لا يحسنون الحديث عنها، إنني أطالب شيخ الأزهر ووزير الوقاف بإصدار كتاب سنوي أو شهري تناقش فيه هذه القضايا من خلال منهج أهل السنة والجماعة، وأذكر شيخ الجامع الأزهر بكتاب «هذا بيان للناس» الذي عالج بجرأة كثير من هذه القضايا، وكذلك أذكر وزير الأوقاف بسلسلة «كتاب الإمام» وغيره من الكتب التي صدرت عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1986م مثل كتاب «المنبر»، هذا بعض ما يجب علينا للإصلاح الداخلي، إضافة إلى منح المزيد من تراخيص الوزارة للخطباء والدعاة المعروفين بالاعتدال والوسطية ويمارسون الدعوة ممارسة فعلية ليكون ذلك بإشراف من الوزارة بدلاً من العمل خارج هذا الإطار.
أما عن الدعوة إلى الله في الخارج، وصد الموجات المعادية للإسلام والمسلمين فهذا يحتاج إلى جهد كبير لا يمكن أن تتحمله وزارة الأوقاف أو الأزهر أو الجمعيات الأهلية المعنية بالدعوة إلى الله، بل لابد من دور ظاهر للدولة في هذا المجال، وليبدأ هذا الدور من اللجنة الدينية بمجلس الشعب بتقديم توصيات للحكومة وأجهزة الدولة المعنية.
وأقترح بعض هذه التوصيات
أولا: إنشاء معهد دعوي متخصص لتخريج دعاة متميزين في العلوم الشرعية والثقافية الإسلامية وكذلك الثقافة العامة واللغات، ولا يشارك في هذا المعهد إلا المتميزون من خريجي الجامعة، ومن يشاركون في الدراسات العليا، ويشارك مع هؤلاء بعض الدعاة المتميزين على الساحة الدعوية ويكون هذا المعهد على غرار معاهد إعداد القادة، أو ما يعرف بفرقة أركان الحرب في القوات المسلحة، ويتم توجيه هؤلاء بعد الدراسة للدعوة إلى الله في البلاد المختلفة لنشر صحيح الدين، وذلك من خلال الملحق الثقافي في السفارات المصرية، وكذلك المراكز الإسلامية، ولابد من تعاون الدولة مع غيرها من الدول المسلمة المعنية بهذا الشأن.
ثانيا: إنشاء مجلس قومي للدعوة الإسلامية، تكون له ميزانية خاصة، وظيفته الدعوة في الخارج وتكون له سلطة التعاون والتنسيق مع وزارة الخارجية لتوجيه الممثلين الدعويين من خلال السفارات المصرية، وذلك على غرار المجالس القومية المتخصصة.
ثالثا: إنشاء قناة فضائية تبث باللغة العربية وباللغات الأجنبية لبيان صحيح الدين وعدم الاكتفاء بالجهود الفردية في هذا المجال.
رابعا: تفعيل المواقع الدعوة على شبكة الانترنت وذلك بالتعاون مع كل المعنيين بهذا الشأن.
وأخيرا فإن الهداية بيد الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإنما ندعو للأخذ بالأسباب وبالله التوفيق.
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود:88].
والله من وراء القصد.(/3)
دور المرأة في التربية
محمد الدويش
المحتويات
مقدمة
أهمية الأم في تربية الطفل
1. الأمر الأول: أثر الأسرة في التربية
2. الأمر الثاني: الطفل يتأثر بحالة أمه وهي حامل
3. الأمر الثالث: دور الأم مع الطفل في الطفولة المبكرة
4. الأمر الرابع : دور الأم مع البنات
5. الأمر الخامس: الأم تتطلع على التفاصيل الخاصة لأولادها
مقترحات تربوية للأم
1. أولاً: الشعور بأهمية التربية
2. ثانياً: الاعتناء بالنظام في المنزل
3. ثالثاً: السعي لزيادة الخبرة التربوية
4. رابعاً: الاعتناء بتلبية حاجات الطفل
5. خامسا: الحرص على التوافق بين الوالدين
6. سادساً: التعامل مع أخطاء الأطفال
7. سابعاً: وسائل مقترحة لبناء السلوك وتقويمه
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن الحديث عن أهمية التربية ودورها في إعداد المجتمع وحمايته ليس هذا مكانه ولا وقته، فالجميع يدرك أن التربية ضرورة ومطلب ملح أيًّا كان منطلقه وفلسفته التربوية، والمجتمعات كلها بأسرها تنادي اليوم بالتربية وتعنى بالتربية والحديث عنها، ولعلنا حين نتطلع إلى المكتبة نقرأ فيها من الكتب الغربية أكثر مما نقرأ فيها مما صدر عن مجتمعات المسلمين، مما يدل على أن التربية همًّا ومطلباً للجميع بغض النظر عن فلسفتهم التربوية وأولياتهم.
أهمية الأم في تربية الطفل
تحتل الأم مكانة مهمة وأساسية في التربية، ويبدو ذلك من خلال الأمور الآتية:
1. الأمر الأول: أثر الأسرة في التربية
فالأسرة أولاً هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي التي تغرس لدى الطفل المعايير التي يحكم من خلالها على ما يتلقاه فيما بعد من سائر المؤسسات في المجتمع، فهو حينما يغدو إلى المدرسة ينظر إلى أستاذه نظرةً من خلال ما تلقاه في البيت من تربية، وهو يختار زملاءه في المدرسة من خلال ما نشأته عليه أسرته، ويقيِّم ما يسمع وما يرى من مواقف تقابله في الحياة، من خلال ما غرسته لديه الأسرة، وهنا يكمن دور الأسرة وأهميتها وخطرها في الميدان التربوي.
2. الأمر الثاني: الطفل يتأثر بحالة أمه وهي حامل
تنفرد الأم بمرحلة لا يشركها فيها غيرها وهي مرحلة مهمة ولها دور في التربية قد نغفل عنه ألا وهي مرحلة الحمل؛ فإن الجنين وهو في بطن أمه يتأثر بمؤثرات كثيرة تعود إلى الأم، ومنها:
التغذية فالجنين على سبيل المثال يتأثر بالتغذية ونوع الغذاء الذي تتلقاه الأم، وهو يتأثر بالأمراض التي قد تصيب أمه أثناء الحمل، ويتأثر أيضاً حين تكون أمه تتعاطى المخدرات، وربما أصبح مدمناً عند خروجه من بطن أمه حين تكون أمه مدمنة للمخدرات، ومن ذلك التدخين، فحين تكون المرأة مدخنة فإن ذلك يترك أثراً على جنينها، ولهذا فهم في تلك المجتمعات يوصون المرأة المدخنة أن تمتنع عن التدخين أثناء فترة الحمل أو أن تقلل منه؛ نظراً لتأثيره على جنينها، ومن العوامل المؤثرة أيضاً: العقاقير الطبية التي تناولها المرأة الحامل، ولهذا يسأل الطبيب المرأة كثيراً حين يصف لها بعض الأدوية عن كونها حامل أو ليست كذلك .
وصورةً أخرى من الأمور المؤثرة وقد لا تتصوره الأمهات والآباء هذه القضية، وهي حالة الأم الانفعالية أثناء الحمل، فقد يخرج الطفل وهو كثير الصراخ في أوائل طفولته، وقد يخرج الطفل وهو يتخوف كثيراً، وذلك كله بسبب مؤثرات تلقاها من حالة أمه الانفعالية التي كانت تعيشها وهي في حال الحمل، وحين تزيد الانفعالات الحادة عند المرأة وتكرر فإن هذا يؤثر في الهرمونات التي تفرزها الأم وتنتقل إلى الجنين، وإذا طالت هذه الحالة فإنها لا بد أن تؤثر على نفسيته وانفعالاته وعلى صحته، ولهذا ينبغي أن يحرص الزوج على أن يهيئ لها جواً ومناخاً مناسباً، وأن تحرص هي على أن تتجنب الحالات التي تؤدي بها حدة الانفعال .(/1)
أمر آخر أيضاً له دور وتأثير على الجنين وهو اتجاه الأم نحو حملها أو نظرتها نحو حملها فهي حين تكون مسرورة مستبشرة بهذا الحمل لا بد أن يتأثر الحمل بذلك، وحين تكون غير راضية عن هذا الحمل فإن هذا سيؤثر على هذا الجنين، ومن هنا وجه الشرع الناس إلى تصحيح النظر حول الولد الذكر والأنثى، قال سبحانه وتعالى :]ولله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكراً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير[. فهو سبحانه وتعالى له ما يشاء وله الحكم سبحانه وتعالى؛ فيقرر للناس أنه عز وجل صاحب الحكم والأمر، وما يختار الله سبحانه وتعالى أمراً إلا لحكمة، لذا فالزوجة والزوج جميعاً ينبغي أن يرضوا بما قسم الله، ويعلموا أن ما قسم الله عز وجل خير لهم، سواءً كان ذكراً أو أنثى، وحين تفقد المرأة هذا الشعور، فيكشف لها التقرير الطبي أن الجنين الذي في بطنها أنثى، فتبدأ تغير نظرتها ومشاعرها نحو هذا الحمل أو العكس فإن هذا لا بد أن يؤثر على الحمل، ونحن هنا لسنا في عيادة طبية حتى نوجه المرأة الحامل أو نتحدث عن هذه الآثار التي يمكن أن تخلقها حالة الأم على الحمل، إنما المقصود من هذا كله أن دور المرأة يبدأ من حين حملها وأنها تعيش مرحلة تؤثر على مستقبل هذا المولود لا يشاركها غيرها.
3. الأمر الثالث: دور الأم مع الطفل في الطفولة المبكرة
الطفولة المبكرة مرحلة مهمة لتنشئة الطفل، ودور الأم فيها أكبر من غيرها، فهي في مرحلة الرضاعة أكثر من يتعامل مع الطفل، ولحكمة عظيمة يريدها الله سبحانه وتعالى يكون طعام الرضيع في هذه المرحلة من ثدي أمه وليس الأمر فقط تأثيراً طبيًّا أو صحيًّا، وإنما لها آثار نفسية أهمها إشعار الطفل بالحنان والقرب الذي يحتاج إليه، ولهذا يوصي الأطباء الأم أن تحرص على إرضاع الطفل، وأن تحرص على أن تعتني به وتقترب منه لو لم ترضعه.
وهنا ندرك فداحة الخطر الذي ترتكبه كثير من النساء حين تترك طفلها في هذه المرحلة للمربية والخادمة؛ فهي التي تقوم بتنظيفه وتهيئة اللباس له وإعداد طعامه، وحين يستعمل الرضاعة الصناعية فهي التي تهيئها له، وهذا يفقد الطفل قدراً من الرعاية النفسية هو بأمس الحاجة إليه.
وإذا ابتليت الأم بالخادمة -والأصل الاستغناء عنها- فينبغي أن تحرص في المراحل الأولية على أن تباشر هي رعاية الطفل، وتترك للخادمة إعداد الطعام في المنزل أو تنظيفه أو غير ذلك من الأعمال، فلن يجد الطفل الحنان والرعاية من الخادمة كما يجدها من الأم، وهذا له دور كبير في نفسية الطفل واتجاهاته في المستقبل، وبخاصة أن كثيراً من الخادمات والمربيات في العالم الإسلامي لسن من المسلمات، وحتى المسلمات غالبهن من غير المتدينات، وهذا لايخفى أثره، والحديث عن هذا الجانب يطول، ولعلي أن أكتفي بهذه الإشارة.
فالمقصود أن الأم كما قلنا تتعامل مع هذه المرحلة مع الطفل أكثر مما يتعامل معه الأب، وفي هذه المرحلة سوف يكتسب العديد من العادات والمعايير، ويكتسب الخلق والسلوك الذي يصعب تغييره في المستقبل، وهنا تكمن خطورة دور الأم فهي البوابة على هذه المرحلة الخطرة من حياة الطفل فيما بعد، حتى أن بعض الناس يكون مستقيماً صالحاً متديناً لكنه لم ينشأ من الصغر على المعايير المنضبطة في السلوك والأخلاق، فتجد منه نوعاً من سوء الخلق وعدم الانضباط السلوكي، والسبب أنه لم يترب على ذلك من صغره.
4. الأمر الرابع : دور الأم مع البنات
لئن كانت الأم أكثر التصاقاً بالأولاد عموماً في الطفولة المبكرة، فهذا القرب يزداد ويبقى مع البنات.
ولعل من أسباب ما نعانيه اليوم من مشكلات لدى الفتيات يعود إلى تخلف دور الأم التربوي، فالفتاة تعيش مرحلة المراهقة والفتن والشهوات والمجتمع من حولها يدعوها إلى الفساد وتشعر بفراغ عاطفي لديها، وقد لا يشبع هذا الفراغ إلا في الأجواء المنحرفة، أما أمها فهي مشغولة عنها بشؤونها الخاصة، وبالجلوس مع جاراتها وزميلاتها، فالفتاة في عالم والأم في عالم آخر.
إنه من المهم أن تعيش الأم مع بناتها وتكون قريبة منهن؛ ذلك أن الفتاة تجرؤ أن تصارح الأم أكثر من أن تصارح الأب، وأن تقترب منها وتملأ الفراغ العاطفي لديها.
ويزداد هذا الفراغ الذي تعاني منه الفتاة في البيت الذي فيه خادمة، فهي تحمل عنها أعباء المنزل، والأسرة ترى تفريغ هذه البنت للدراسة لأنها مشغولة في الدراسة، وحين تنهي أعباءها الدراسية يتبقى عندها وقت فراغ، فبم تقضي هذا الفراغ: في القراءة؟ فنحن لم نغرس حب القراءة لدى أولادنا.(/2)
وبين الأم وبين الفتاة هوه سحيقة، تشعر الفتاة أن أمها لا توافقها في ثقافتها وتوجهاتها، ولا في تفكيرها، وتشعر بفجوة ثقافية وفجوة حضارية بينها وبين الأم؛ فتجد البنت ضالتها في مجلة تتحدث عن الأزياء وعن تنظيم المنزل، وتتحدث عن الحب والغرام، وكيف تكسبين الآخرين فتثير عندها هذه العاطفة، وقد تجد ضالتها في أفلام الفيديو، أو قد تجد ضالتها من خلال الاتصال مع الشباب في الهاتف، أو إن عدمت هذا وذاك ففي المدرسة تتعلم من بعض زميلاتها مثل هذه السلوك.
5. الأمر الخامس: الأم تتطلع على التفاصيل الخاصة لأولادها
تتعامل الأم مع ملابس الأولاد ومع الأثاث وترتيبه، ومع أحوال الطفل الخاصة فتكتشف مشكلات عند الطفل أكثر مما يكتشفه الأب، وبخاصة في وقتنا الذي انشغل الأب فيه عن أبنائه، فتدرك الأم من قضايا الأولاد أكثر مما يدركه الأب.
هذه الأمور السابقة تؤكد لنا دور الأم في التربية وأهميته، ويكفي أن نعرف أن الأم تمثل نصف المنزل تماماً ولا يمكن أبداً أن يقوم بالدور التربوي الأب وحده، أو أن تقوم به المدرسة وحدها، فيجب أن تتضافر جهود الجميع في خط واحد.
لكن الواقع أن الطفل يتربى على قيم في المدرسة يهدهما المنزل، ويتربى على قيم في المنزل مناقضة لما يلقاه في الشارع؛ فيعيش ازدواجية وتناقضا ، المقصود هو يجب أن يكون البيت وحده متكاملة.
لا يمكن أن أتحدث معشر الأخوة والأخوات خلال هذه الأمسية وخلال هذا الوقت، لا يمكن أن أتحدث عن الدور الذي ننتظره من الأم في التربية، إنما هي فقط مقترحات أردت أن أسجلها.
مقترحات تربوية للأم
مهما قلنا فإننا لا نستطيع أن نتحدث بالتفصيل عن دور الأم في التربية، ولا نستطيع من خلال ساعة واحدة أن نُخرِّج أماً مربية، ولهذا رأيت أن يكون الشق الثاني -بعد أن تحدثنا في عن أهمية دور الأم- عبارة عن مقترحات وتحسين الدور التربوي للأم وسجلت هنا، ومن هذه المقترحات:
1. أولاً: الشعور بأهمية التربية
إن نقطة البداية أن تشعر الأم بأهمية التربية وخطورتها، وخطورة الدور الذي تتبوؤه، وأنها مسؤولة عن جزء كبير من مستقبل أبنائها وبناتها، وحين نقول التربية فإنا نعني التربية بمعناها الواسع الذي لايقف عند حد العقوبة أو الأمر والنهي، كما يتبادر لذهن طائفة من الناس، بل هي معنى أوسع من ذلك.
فهي تعني إعداد الولد بكافة جوانب شخصيته: الإيمانية، والجسمية، والنفسية، والعقلية الجوانب الشخصية المتكاملة أمر له أهمية وينبغي أن تشعر الأم والأب أنها لها دور في رعاية هذا الجانب وإعداده.
وفي جانب التنشئة الدينية والتربية الدينية يحصرها كثير من الناس في توجيهات وأوامر أو عقوبات، والأمر أوسع من ذلك، ففرق بين شخص يعاقب ابنه حيث لا يصلي وبين شخص آخر يغرس عند ابنه حب الصلاة، وفرق بين شخص يعاقب ابنه حين يتفوه بكلمة نابية، وبين شخص يغرس عند ابنه رفض هذه الكلمة وحسن المنطق، وهذا هو الذي نريده حين نتكلم عن حسن التربية، فينبغي أن يفهم الجميع –والأمهات بخاصة- التربية بهذا المعنى الواسع.
2. ثانياً: الاعتناء بالنظام في المنزل
من الأمور المهمة في التربية -ويشترك فيها الأم والأب لكن نؤكد على الأم- الاعتناء بنظام المنزل؛ فذلك له أثر في تعويد الابن على السلوكيات التي نريد.
إننا أمة فوضوية: في المواعيد، في الحياة المنزلية، في تعاملنا مع الآخرين، حتى ترك هذا السلوك أثره في تفكيرنا فأصبحنا فوضويين في التفكير.
إننا بحاجة إلى تعويد أولادنا على النظام، في غرفهم وأدواتهم، في مواعيد الطعام، في التعامل مع الضيوف وكيفية استقبالهم، ومتى يشاركهم الجلوس ومتى لايشاركهم؟
3. ثالثاً: السعي لزيادة الخبرة التربوية
إن من نتائج إدراك الأم لأهمية التربية أن تسعى لزيادة خبرتها التربوية والارتقاء بها، ويمكن أن يتم ذلك من خلال مجالات عدة، منها:
أ : القراءة؛ فمن الضروري أن تعتني الأم بالقراءة في الكتب التربوية، وتفرغ جزءاً من وقتها لاقتنائها والقراءة فيها، وليس من اللائق أن يكون اعتناء الأم بكتب الطبخ أكثر من اعتنائها بكتب التربية.
وحين نلقي سؤالاً صريحاً على أنفسنا: ماحجم قراءاتنا التربوية؟ وما نسبتها لما نقرأ إن كنا نقرأ؟ فإن الإجابة عن هذه السؤال تبرز مدى أهمية التربية لدينا، ومدى ثقافتنا التربوية.
ب : استثمار اللقاءات العائلية؛ من خلال النقاش فيها عن أمور التربية، والاستفادة من آراء الأمهات الأخريات وتجاربهن في التربية، أما الحديث الذي يدور كثيراً في مجالسنا في انتقاد الأطفال، وأنهم كثيرو العبث ويجلبون العناء لأهلهم، وتبادل الهموم في ذلك فإنه حديث غير مفيد، بل هو مخادعة لأنفسنا وإشعار لها بأن المشكلة ليست لدينا وإنما هي لدى أولادنا.
لم لانكون صرحاء مع أنفسنا ونتحدث عن أخطائنا نحن؟ وإذا كان هذا واقع أولادنا فهو نتاج تربيتنا نحن، ولم يتول تربيتهم غيرنا، وفشلنا في تقويمهم فشل لنا وليس فشلاً لهم.(/3)
ج : الاستفادة من التجارب، إن من أهم مايزيد الخبرة التربوية الاستفادة من التجارب والأخطاء التي تمر بالشخص، فالأخطاء التي وقعتِ فهيا مع الطفل الأول تتجنبينها مع الطفل الثاني، والأخطاء التي وقعتِ فيها مع الطفل الثاني تتجنبينها مع الطفل الثالث، وهكذا تشعرين أنك ما دمت تتعاملين مع الأطفال فأنت في رقي وتطور.
4. رابعاً: الاعتناء بتلبية حاجات الطفل
للطفل حاجات واسعة يمكن نشير إلى بعضها في هذا المقام، ومنها:
1- الحاجة إلى الاهتمام المباشر:
يحتاج الطفل إلى أن يكون محل اهتمام الآخرين وخاصة والديه، وهي حاجة تنشأ معه من الصغر، فهو يبتسم ويضحك ليلفت انتباههم، وينتظر منهم التجاوب معه في ذلك.
ومن صور الاهتمام المباشر بحاجات الطفل الاهتمام بطعامه وشرابه، وتلافي إظهار الانزعاج والقلق –فضلاً عن السب والاتهام بسوء الأدب والإزعاج- حين يوقظ أمه لتعطيه طعامه وشرابه، ومما يعين الأم على ذلك تعويده على نظام معين، وتهيئة طعام للابن - وبخاصة الإفطار- قبل نومها.
ومن أسوأ صور تجاهل حاجة الطفل إلى الطعام والشراب ماتفعله بعض النساء حال صيامها من النوم والإغلاق على نفسها، ونهر أطفالها حين يطلبون منها الطعام أو الشراب.
ومن صور الاهتمام به من أيضاً حسن الاستماع له، فهو يحكي قصة، أو يطرح أسئلة فيحتاج لأن ينصت له والداه، ويمكن أن توجه له أسئلة تدل على تفاعل والديه معه واستماعهم له، ومن الوسائل المفيدة في ذلك أن تسعى الأم إلى أن تعبر عن الفكرة التي صاغها هو بلغته الضعيفة بلغة أقوى، فهذا مع إشعاره له بالاهتمام يجعله يكتسب عادات لغوية ويُقوِّى لغته.
ومن صور الاهتمام التخلص من أثر المشاعر الشخصية، فالأب أو الأم الذي يعود من عمله مرهقاً، أو قد أزعجته مشكلة من مشكلات العمل، ينتظر منهم أولادهم تفاعلاً وحيوية، وينتظرونهم بفارغ الصبر، فينبغي للوالدين الحرص على عدم تأثير المشاعر والمشكلات الخاصة على اهتمامهم بأولادهم.
2- الحاجة إلى الثقة:
يحتاج الطفل إلى الشعور بثقته بنفسه وأن الآخرين يثقون فيه، ويبدو ذلك من خلال تأكيده أنه أكبر من فلان أو أقوى من فلان.
إننا بحاجة لأن نغرس لدى أطفالنا ثقتهم بأنفسهم،وأنهم قادرون على تحقيق أمور كثيرة، ويمكن أن يتم ذلك من خلال تكليفهم بأعمال يسيرة يستطيعون إنجازها، وتعويدهم على ذلك.
ويحتاجون إلى أن يشعرون بأننا نثق بهم، ومما يعين على ذلك تجنب السخرية وتجنب النقد اللاذع لهم حين يقعون في الخطأ، ومن خلال حسن التعامل مع مواقف الفشل التي تمر بهم ومحاولة استثمارها لغرس الثقة بالنجاح لديهم بدلاً من أسلوب التثبيط أو مايسيمه العامة (التحطيم).
3 – الحاجة إلى الاستطلاع:
يحب الطفل الاستطلاع والتعرف على الأشياء، ولهذا فهو يعمد إلى كسر اللعبة ليعرف مابداخلها، ويكثر السؤال عن المواقف التي تمر به، بصورة قد تؤدي بوالديه إلى التضايق من ذلك.
ومن المهم أن تتفهم الأم خلفية هذه التصرفات من طفلها فتكف عن انتهاره أو زجره، فضلاً عن عقوبته.
كما أنه من المهم أن تستثمر هذه الحاجة في تنمية التفكير لدى الطفل، فحين يسأل الطفل عن لوحة السيارة، فبدلاً من الإجابة المباشرة التي قد لا يفهمها يمكن أن يسأله والده، لو أن صاحب سيارة صدم إنساناً وهرب فكيف تتعرف الشرطة على سيارته؟ الولد: من رقم السيارة، الأب: إذا هذا يعني أنه لابد من أن يكون لكل سيارة رقم يختلف عن بقية السيارات، والآن حاول أن تجد سيارتين يحملان رقماً واحداً، وبعد أن يقوم الولد بملاحظة عدة سيارات سيقول لوالده إن ما تقوله صحيح.
4- الحاجة إلى اللعب:
الحاجة إلى اللعب حاجة مهمة لدى الطفل لا يمكن أن يستغني عنها، بل الغالب أن الطفل قليل اللعب يعاني من مشكلات أو سوء توافق.
وعلى الأم في تعامله مع هذه الحاجة أن تراعي الآتي:
إعطاء الابن الوقت الكافي للعب وعدم إظهار الانزعاج والتضايق من لعبه.
استثمار هذه الحاجة في تعليمه الانضباط والأدب، من خلال التعامل مع لعب الآخرين وأدواتهم، وتجنب إزعاج الناس وبخاصة الضيوف، وتجنب اللعب في بعض الأماكن كالمسجد أو مكان استقبال الضيوف.
استثمار اللعب في التعليم، من خلال الحرص على اقتناء الألعاب التي تنمي تفكيره وتعلمه أشياء جديدة.
الحذر من التركيز على ما يكون دور الطفل فيها سلبيًّا ، أو يقلل من حركته، كمشاهدة الفيديو أو ألعاب الحاسب الآلي، فلا بد من أن يصرف جزءاً من وقته في ألعاب حركية، كلعب الكرة أو اللعب بالدراجة أو الجري ونحو ذلك.
5 – الحاجة إلى العدل:(/4)
يحتاج الناس جميعاً إلى العدل، وتبدو هذه الحاجة لدى الأطفال بشكل أكبر من غيرهم، ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الأولاد، وشدد في ذلك، عن حصين عن عامر قال : سمعت النعمان ابن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال :"أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟" قال:لا، قال :"فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" قال فرجع فرد عطيته. متفق عليه.
ومهما كانت المبررات لدى الأم في تفضيل أحد أولادها على الآخر، فإن ذلك لا يقنع الطفل، ولابد من الاعتناء بضبط المشاعر الخاصة تجاه أحد الأطفال حتى لا تطغى، فتترك أثرها عليه وعلى سائر إخوانه وأخواته.
ومن المشكلات التي تنشأ عن ذلك مشكلة الطفل الجديد، فكثير من الأمهات تعاني منها (ولعله أن يكون لها حديث مستقل لأهميتها).
أكتفي بهذا الحديث عن هذه الحاجات وإلا فهي حاجات كثيرة، والواجب على الوالدين تجاه هذه الحاجات أمران:
الأول: الحرص على إشباع هذه الحاجات والاعتناء بها، الثاني: استثمار هذه الحاجات في تعليم الابن السلوكيات والآداب التي يحتاج إليها.
5. خامسا: الحرص على التوافق بين الوالدين
التربية لا يمكن أن تتم من طرف واحد، والأب والأم كل منهما يكمل مهمة الآخر ودوره، ومما ينبغي مراعاته في هذا الإطار:
الحرص على حسن العلاقة بين الزوجين، فالحالة النفسية والاستقرار لها أثرها على الأطفال كما سبق، فالزوجة التي لاتشعر بالارتياح مع زوجها لابد أن يظهر أثر ذلك على رعايتها لأطفالها واهتمامها بهم.
التفاهم بين الوالدين على الأساليب التربوية والاتفاق عليها قدر الإمكان.
أن يسعى كل من الوالدين إلى غرس ثقة الأطفال بالآخر، فيتجنب الأب انتقاد الأم أو عتابها أمام أولادها فضلاً عن السخرية بها أو تأنيبها، كما أن الأم ينبغي أن تحرص على غرس ثقة أطفالها بوالدهم، وإشعارهم بأنه يسعى لمصلحتهم –ولو اختلفت معه- وأنه إن انشغل عنهم فهو مشغول بأمور مهمة تنفع المسلمين أجمع، أو تنفع هؤلاء الأولاد.
ومما ينبغي مراعاته هنا الحرص على تجنب أثر اختلاف الموقف أو وجهة النظر بين الوالدين، وأن نسعى إلى ألا يظهر ذلك على أولادنا فهم أعز مانملك، وبإمكاننا أن نختلف ونتناقش في أمورنا لوحدنا.
6. سادساً: التعامل مع أخطاء الأطفال
كثير من أخطائنا التربوية مع أطفالنا هي في التعامل مع الأخطاء التي تصدر منهم، ومن الأمور المهمة في التعامل مع أخطاء الأطفال:
1. عدم المثالية:
كثيراً مانكون مثاليين مع أطفالنا، وكثيراً ما نطالبهم بما لا يطيقون، ومن ثم نلومهم على ما نعده أخطاء وليست كذلك.
الطفل في بداية عمره لايملك التوازن الحركي لذا فقد يحمل الكوب فيسقط منه وينكسر، فبدلاً من عتابه وتأنيبه لو قالت أمه: الحمد الله أنه لم يصيبك أذى، أنا أعرف أنك لم تتعمد لكنه سقط منك عن غير قصد، والخطأ حين تتعمد إتلافه، والآن قم بإزالة أثر الزجاج حتى لا يصيب أحداً.
إن هذا الأسلوب يحدد له الخطأ من الصواب، ويعوده على تحمل مسؤولية عمله، ويشعره بالاهتمام والتقدير، والعجيب أن نكسر قلوب أطفالنا ونحطمهم لأجل تحطيمهم لإناء لا تتجاوز قيمته ريالين، فأيهما أثمن لدينا الأطفال أم الأواني؟
2. التوازن في العقوبة:
قد تضطر الأم لعقوبة طفلها، والعقوبة حين تكون في موضعها مطلب تربوي، لكن بعض الأمهات حين تعاقب طفلها فإنها تعاقبه وهي في حالة غضب شديد، فتتحول العقوبة من تأديب وتربية إلى انتقام، والواقع أن كثيراً من حالات ضربنا لأطفالنا تشعرهم بذلك.
لا تسأل عن تلك المشاعر التي سيحملها هذا الطفل تجاه الآخرين حتى حين يكون شيخاً فستبقى هذه المشاعر عنده ويصعب أن نقتلعها فيما بعد والسبب هو عدم التوازن في العقوبة.
3. تجنب البذاءة:
حين تغضب بعض الأمهات أو بعض الآباء فيعاتبون أطفالهم فإنهم يوجهون إليهم ألفاظاً بذيئة، أو يذمونهم بعبارات وقحة، وهذا له أثره في تعويدهم على المنطق السيء.
والعاقل لا يخرجه غضبه عن أدبه في منطقه وتعامله مع الناس، فضلاً عن أولاده.
4. تجنب الإهانة:
من الأمور المهمة في علاج أخطاء الأطفال أن نتجنب إهانتهم أو وصفهم بالفشل والطفولة والفوضوية والغباء …إلخ. فهذا له أثره البالغ على فقدانهم للثقة بأنفسهم، وعلى تعويدهم سوء الأدب والمنطق.
5. تجنب إحراجه أمام الآخرين :
إذا كنا لانرضى أن ينتقدنا أحد أمام الناس فأطفالنا كذلك، فحين يقع الطفل في خطأ أمام الضيوف فليس من المناسب أن تقوم أمه أو يقوم والده بتأنيبه أو إحراجه أمامهم أو أمام الأطفال الآخرين.
7. سابعاً: وسائل مقترحة لبناء السلوك وتقويمه(/5)
يعتقد كثير من الآباء والأمهات أن غرس السلوك إنما يتم من خلال الأمر والنهي، ومن خلال العقوبة والتأديب، وهذه لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من وسائل تعليم السلوك، وفي هذه العجالة أشير إلى بعض الوسائل التي يمكن أن تفيد الأم في غرس السلوك الحسن، أو تعديل السلوك السيئ، وهي على سبيل المثال لا الحصر: يعتقد كثير من الآباء والأمهات أن غرس السلوك إنما يتم من خلال الأمر والنهي، ومن خلال العقوبة والتأديب، وهذه لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من وسائل تعليم السلوك، وفي هذه العجالة أشير إلى بعض الوسائل التي يمكن أن تفيد الأم في غرس السلوك الحسن، أو تعديل السلوك السيئ، وهي على سبيل المثال لا الحصر:
1 – التجاهل:
يعمد الطفل أحياناً إلى أساليب غير مرغوبة لتحقيق مطالبه، كالصراخ والبكاء وإحراج الأم أمام الضيوف وغير ذلك، والأسلوب الأمثل في ذلك ليس هو الغضب والقسوة على الطفل، إنما تجاهل هذا السلوك وعدم الاستجابة للطفل، وتعويده على أن يستخدم الأساليب المناسبة والهادئة في التعبير عن مطالبه، وأسلوب التجاهل يمكن أن يخفي كثيراً من السلوكيات الضارة عند الطفل أو على الأقل يخفف من حدتها.
2 – القدوة:
لست بحاجة للحديث عن أهمية القدوة وأثرها في التربية، فالجميع يدرك ذلك، إنني حين أطالب الطفل بترتيب غرفته ويجد غرفتي غير مرتبة، وحين أطالبه أن لا يتفوه بكلمات بذيئة ويجدني عندما أغضب أتفوه بكلمات بذيئة، وحين تأمره الأم ألا يكذب، ثم تأمره بالكذب على والده حينئذ سنمحو بأفعالنا مانبنيه بأقوالنا.
3 – المكافأة:
المكافأة لها أثر في تعزيز السلوك الإيجابي لدى الطفل، وهي ليست بالضرورة قاصرة على المكافأة المادية فقد تكون بالثناء والتشجيع وإظهار الإعجاب، ومن وسائل المكافأة أن تعده بأن تطلب من والده اصطحابه معه في السيارة، أو غير ذلك مما يحبه الطفل ويميل إليه.
ومما ينبغي مراعاته أن يكون استخدام المكافأة باعتدال حتى لا تصبح ثمناً للسلوك.
4 – الإقناع والحوار:
من الأمور المهمة في بناء شخصية الأطفال أن نعودهم على الإقناع والحوار، فنستمع لهم وننصت، ونعرض آراءنا وأوامرنا بطريقة مقنعة ومبررة، فهذا له أثره في تقبلهم واقتناعهم، وله أثره في نمو شخصيتهم وقدراتهم.
وهذا أيضاً يحتاج لاعتدال، فلابد أن يعتاد الأطفال على الطاعة، وألا يكون الاقتناع شرطاً في امتثال الأمر.
5 - وضع الأنظمة الواضحة:
من المهم أن تضع الأم أنظمة للأطفال يعرفونها ويقومون بها، فتعودهم على ترتيب الغرفة بعد استيقاظهم، وعلى تجنب إزعاج الآخرين…إلخ، وحتى يؤتي هذا الأسلوب ثمرته لابد أن يتناسب مع مستوى الأطفال، فيعطون أنظمة واضحة يستوعبونها ويستطيعون تطبيقها والالتزام بها.
6 – التعويد على حل الخلافات بالطرق الودية:
مما يزعج الوالدين كثرة الخلافات والمشاكسات بين الأطفال، ويزيد المشكلة كثرة تدخل الوالدين، ويجب أن تعلم الأم أنه لا يمكن أن تصل إلا قدر تزول معه هذه المشكلة تماماً، إنما تسعى إلى تخفيف آثارها قدر الإمكان، ومن ذلك:
تعويدهم على حل الخلافات بينهم بالطرق الودية، ووضع الأنظمة والحوافز التي تعينهم على ذلك، وعدم تدخل الأم في الخلافات اليسيرة، فذلك يعود الطفل على ضعف الشخصية وكثرة الشكوى واللجوء للآخرين.
7 – تغيير البيئة:
ولذلك وسائل عدة منها:
أولا: إغناء البيئة: وذلك بأن يهيأ للطفل مايكون بديلاً عن انشغاله بما لايرغب فيه، فبدلاً من أن يكتب على الكتب يمكن أن يعطى مجلة أو دفتراً يكتب فيه مايشاء، وبدلاً من العبث بالأواني يمكن أن يعطى لعباً على شكل الأواني ليعبث بها.
ثانياً: حصر البيئة: وذلك بأن تكون له أشياء خاصة، كأكواب خاصة للأطفال يشربون بها، وغرفة خاصة لألعابهم، ومكان خاص لا يأتيه إلا هم؛ حينئذ يشعر أنه غير محتاج إلى أن يعتدي على ممتلكات الآخرين.
ومن الخطأ الاعتماد على قفل باب مجالس الضيوف وغيرها، فهذا يعوده على الشغف بها والعبث بها، لأن الممنوع مرغوب.
لكن أحياناً تغفل الأمهات مثلاً المجلس أو المكتبة ،ترفع كل شيء عنه صحيح هذا يمنعه وحين يكون هناك فرصة للدخول يبادر بالعبث لأن الشيء الممنوع مرغوب.
ثالثاً: تهيئة الطفل للتغيرات اللاحقة: الطفل تأتيه تغييرات في حياته لابد أن يهيأ لها، ومن ذلك أنه يستقل بعد فترة فينام بعيداً عن والديه في غرفة مستقلة، أو مع من يكبره من إخوته، فمن الصعوبة أن يفاجأ بذلك، فالأولى بالأم أن تقول له: إنك كبرت الآن وتحتاج إلا أن تنام في غرفتك أو مع إخوانك الكبار.
وهكذا البنت حين يراد منها أن تشارك في أعمال المنزل.
8 - التعويد :
الأخلاق والسلوكيات تكتسب بالتعويد أكثر مما تكتسب بالأمر والنهي، فلا بد من الاعتناء بتعويد الطفل عليها، ومراعاة الصبر وطول النفس والتدرج في ذلك.(/6)
هذه بعض الخواطر العاجلة وبعض المقترحات لتحسين الدور الذي يمكن أن تقوم به الأم، وينبغي لها ألا تغفل عن دعاء الله تعالى وسؤاله الصلاح لأولادها، فقد وصف الله تبارك وتعالى عباده الصالحين بقوله : [والذين يقولون ربنا هبنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما]
و الله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موقع الدويش
http://www.dweesh.net/arb/mohadrat.asp?order=3&num=328(/7)
دور المرأة في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم: اميرة خضر ابو قرن
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد.
ان للمرأة دورا كبيرا في الدفاع عن رسول الله, فهي الام, وهي الزوجة, وهي ربة البيت, وهي العاملة خارجه في ميادين مختلفة لذا نراها تعمل وتكد وتربي حتى يخرج الجيل المحب لدينه المدافع عن الله ورسوله اذا اهين من قبل الحاقدين والمدبرين المكائد لهذا الدين القويم, فالمرأة تحمل الرسالة نفسها التي يحملها الرجال وتقوم على نشرها ففي هذه الايام التي اعتدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن وظيفة المرأة ورسالتها تتعاظم لذلك على كل مسلمة تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تقوم بهذه الامور حتى تظهر للعالم ولنفسها محبتها لرسول الله, وهي:
1- تقديم محبته على كل شيء, على اولادك وزوجك وامك وابيك والمال والجاه, وذلك يكون بطاعته عليه الصلاة والسلام {واطيعوا الله واطيعوا الرسول} وقال عليه الصلاة والسلام (لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين).
2- الصلاة عليه عندما يذكر احدهم اسمه امامك, لقوله صلى الله عليه وسلم (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّّ).
3- الصلاة عليه في كل وقت وكل حين, عندما تقومين بتدبير امور المنزل من طبخ وكنس وغيره وذكّري غيرك بالصلاة عليه وستؤجرين على ذلك باذن الله.
4- العمل بسنته على قدر الاستطاعة ومن ذلك تطبيق ما ورد عنه في ابواب الطهارة مثل الوضوء, او في الاخلاق والصفات التي كان يتحلى بها رسول الله مثل التواضع, الرحمة والشفقة على الفقراء.
5- نشر سنته عليه الصلاة والسلام بين الناس بالاسلوب الحسن, ففي الحديث (بلغوا عني ولو آية), فبامكان اي امرأة ان تقوم بنشر ولو حديث واحد بين الجارات فبذلك تكون قد عملت على نشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, او بين العاملات معها في ميادين العمل المختلفة.
6- الدفاع عن سنته عندما يقدح فيها احد, فاذا سمعت من يطعن في احاديث رسول الله الصحيحة فرديه فان لم تفعلي فهذا يدل على عدم محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
7- البعد عن ما نهى عنه وزجر لان ذلك يدخل الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم يدخل الجنة الا من ابى, قالوا: ومن يأبى يا رسول الله, قال: من اطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد ابى), لذلك ابتعدي عن الغيبة والنميمة وانصحي غيرك بذلك لان من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يدخل الجنة.
8- على المسلمة ان تدرس سيرة نبيها حتى تقتدي به ويكون اسوة حسنة لها.
9- علمي اولادك وبناتك سيرة هذا الرسول العظيم وقصي بعض مواقفه مع الاطفال ومع الفقراء ومع اصحابه حتى يحبوه ويتخذوه قدوة, كذلك اشتري لهم القصص الملونة الجذابة عن حياته عليه الصلاة والسلام, بدل ان يتخذوا سوبرمان وغيره قدوة لهم.
10- عدم رفع الصوت عند سماع احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل استشعري اختي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من يقول الحديث.
11- تدافعين عنه كذلك بمحبة اصحابه وآل بيته.
12- ارفضي اي قول او فعل مهما كان قائله اذا كان يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13- اذا كنت اختي داعية فعليك ان تعطي مواعظ ودروسا تعنى بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريف سيرته للناس.
14- التبرع بالمال لبعض المؤسسات التي ستقوم بترجمة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الى لغات اجنبية.
15- واخيرا وهو امر لا يقل اهمية الا وهو المقاطعة الاقتصادية, فانت اختي المدبرة للمنزل لا تدخلي الى بيتك اي مواد تم صنعها في الدنمارك او النرويج فهذه وسيلة ضغط سليمة ورسالة استنكار معبرة عما في النفوس من السخط على تلك لرسوم الساخرة.
ثم تذكري اختي دائما بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم منة عظيمة على كل مسلمة وفضلا كبيرا على كل مؤمنة, اذ به انقذنا الله تعالى من الكفر الى الاسلام واخرجنا من الظلمات الى النور وبسنته عرفنا طاعة ربنا وعبادته في الصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر شرائع الاسلام, حيث قال تعالى {لقد منّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
ثم اختم بآية من القرآن الكريم اخيتي فاجعليها بين عينيك واعملي بها رعاك الله وهي قوله تعالى {ان الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين.(/1)
محاضرة
دُرّة المواسم
لفضيلة الشيخ
www.almosleh.com
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنُفْسِنَا وسَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنحمد الله سبحانه وتعالى على تجدد اللقاء.
أيها الإخوة الكرام: إن الناظر في حال سلف الأمة يرى فيهم اجتهاداً عظيماً واستكثاراً من الأعمال الصالحة، يرى من أولئك الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى صفوة اصطفاهم في تلك القرون المباركة، استزادة من التقوى وعملاً بالصالحات، واشتغالاً بما يقرّب إلى الله جل وعلا.
حتى إنه قيل في كثير منهم: إنه لو قيل لأحدهم: إن القيامة تقوم غداً ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً.
وذلك لأنهم قوم شمروا في طاعة الله عز وجل، اجتهدوا في كل ما يقربهم إلى الله عز وجل، فهموا وعقلوا أن هاذه الدنيا مزرعة الآخرة، وأنها معبر لا مقر، الفائز فيها من اجتهد بالعمل بالصالح، من استكثر من زاد التقوى الذي أمر الله جل وعلا بالتزود به حيث قال: ?وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى?(1).
الله جل وعلا -أيها الإخوة- أمر أهل الإيمان بالاشتغال بالطاعات فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ? ثم قال: ?وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?(2). إن الناظر في سير الأنبياء وما ذكره الله جل وعلا عنهم في محكم التنزيل في الكتاب الحكيم يرى أن من أوصافهم التي وصفهم الله بها أنهم قوم يسارعون في الخيرات، قال الله جل وعلا: ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)?(3). وقد وصف الله جل وعلا خواص عباده وخُلَّص أصفيائه بهذه الصفة فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ?أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)?(4).
أيها الإخوة: إن الله جل وعلا برحمته ومنّته جعل العمر مزرعة للآخرة، ومن عظيم فضله أن جعل من المواسم ما هو محل للاستزادة من الخيرات والاستكثار من الطاعات والمسابقة فيما هو سبب لحصول جنة عرضها السماوات والأرض.
فمن تلك المواسم؛ بل من أبرز تلك المواسم؛ بل هو درة المواسم ما نحن مقبلون عليه بعد ليالٍ قليلة، إنه شهر رمضان المبارك الذي خصّه سبحانه وتعالى بخصائص قدرية كونية، وخصه بأحكام شرعية كثيرة، إن مما خص الله به هاذا الشهر أن اصطفاه فجعله محلاًّ لنزول أعظم آية أوتيها نبي، ألا وهي القرآن، قال الله جل وعلا: ?شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ?(5). هاذا الشهر الذي أنزل الله فيه خير كتبه على خاتم رسله يدلك على أن له من المزية والخاصية ما جعله محلاًّ لهذا الاصطفاء والاختيار: ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ?(6). إن من الخصائص القدرية التي خصّ الله بها هاذا الشهر أنه شهر تفتّح فيه أبواب الجنة فلا يبقى منها باب مغلق، وتغلّق فيه أبواب النيران فلا يبقى منها باب مفتوح؛ بل قد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وتصفد فيه الشياطين)). ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا دخل شهر رمضان فتّحت أبواب الجنة وغلّقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) (7). وفي رواية الترمذي قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب)) ثم اسمع قال: ((وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)) ثم استمع: ((ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) (8)
__________
(1) سورة : البقرة (197).
(2) سورة : الحج (77).
(3) سورة : الأنبياء (90).
(4) سورة : المؤمنون (61).
(5) سورة : البقرة (185).
(6) سورة : القصص (68).
(7) البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقال :رمضان أو شهر رمضان؟ حديث رقم: 1899.
مسلم: كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، حديث رقم: 1079.
(8) الترمذي: كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، حديث رقم: 686.=
= ابن ماجه: كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، حديث رقم: 1642.
قال الشيخ الألباني: صحيح.(/1)
. هاذه فضائل عظيمة تدلّك على عظيم منزلة هاذا الموسم، وأنه درة المواسم وهو محل لكثير من الخصائص الشرعية والأعمال العبادية التي يستكثر بها العبد من زاد التقوى من الصالحات التي يسر بها يوم العرض على الله جل وعلا.
ألا وإن من أخص ما اختص به هاذا الشهر وتميز به تلك العبادة التي رفع الله شأنها وعظّم قدرها كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) (1). وهذا يدلك على اختصاص الله بهذه العبادة التي جعلها دون سائر العبادات له، مع أن العمل كله له، فالدين كله له: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?(2). لكنه أضافها إليه دون سائر العبادات لعظيم الأجر المرتّب عليها، ولذلك قال: ((إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)). هاذه العبادة رتب الله سبحانه وتعالى عليها في هاذا الشهر من الفضل والأجر أن قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))(3). من صام رمضان إيماناً واحتساباً، وانتبه إلى هذين القيدين اللذين يغفل عنهما كثير من الناس: ((إيماناً)) والإيمان هو التصديق، والاحتساب هو صدق الرغبة فيما عند الله جل وعلا، تصديقاً بما أخبر الله من الفضل، وبما شرع من الحكم، واحتساباً للأجر عنده سبحانه وتعالى.
فمن كان هكذا صيامه فليبشر فإن الذنوب تتحاتّ عنه بصيامه هاذا الشهر المبارك: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). فصدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليالي هاذا الشهر نسأل الله من فضله.
أيها الإخوة الكرام: إن من أبواب البر وصنوف الخير وطرائق الإحسان التي خص الله بها هاذا الشهر المبارك أن جعل قيام ليله إيماناً واحتساباً سبباً لمغفرة الذنوب وحط الخطايا والسيئات.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) (4).
وهذا مصداق ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له))(5).
فإن أسباب المغفرة في هاذا الشهر كثيرة: الصوم إيماناً واحتساباً سبب للمغفرة، قيام أيام هاذا الشهر إيماناً واحتساباً سبب للمغفرة.
أيها الإخوة الكرام: إن قيام رمضان يحصل بأن يلازم المؤمن أهل المساجد في صلاة التراويح، فلا ينصرف حتى ينصرف الإمام، فمن فعل ذلك فإنه يحصل له قيام رمضان.
ففي الترمذي(6)
__________
(1) البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم؟ حديث رقم: 1904.
مسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام، حديث رقم: 1151.
(2) سورة : البينة (5).
(3) البخاري: كتاب الإيمان، باب صوم رمضان إيماناً واحتساباً، حديث رقم: 38.
مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، حديث رقم: 760.
(4) البخاري: كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، حديث رقم: 37.
مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، حديث رقم: 759.
(5) الترمذي: كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رغم أنف رجل، حديث رقم: 3545.
قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
(6) الترمذي: كتاب الصوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باب ما جاء في قيام شهر رمضان، حديث رقم 806.
ابن ماجه: كتاب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في قيام رمضان، حديث رقم 1326.
قال الشيخ الألباني: صحيح.(/2)
من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يصلّ بنا -يعني صلاة الليل- حتى بقي سبع -أي سبع ليالٍ أي من الشهر- فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل -أي مضى ثلث الليل وهم يصلون- ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة -أي في الخامسة من آخر الشهر- حتى ذهب شطر الليل وهم يصلون، فقلنا له: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي لو أعطيتنا بقية ليلتنا صلاة وعبادة؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)). سواء طال قيامه أو قصر، فاحرص على ملازمة الأئمة في صلاة التراويح حتى ينصرفوا فإنه سبب لقيام الليل، وسبب لتحصيل الفضل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) (1). لكن إياك أن تقتصر في الاشتغال على فضل القيام بالصورة فقط، فإن من الناس من يبادر إلى المساجد التي تقصر صلاتها ويخف ركوعها وسجودها، ولا يتدبر ما يقرأ فيها، فلا شك أن هاذا لم يقم رمضان، لم يقم الليالي حق القيام، فإن القيام هو أن يقوم الإنسان راغباً فيما عند الله عز وجل إيماناً واحتساباً بقلب خاشع وعين دامعة ولسان ذاكر ومتدبر لما يُقرأ عليه وما يسمعه من كلام الله عز وجل؛ ليكون في زمرة من قال الله جل وعلا فيهم: ?فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)? (2). نسأل الله من فضله.
فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليالي هاذا الشهر.
أيها الإخوة الكرام: إن مما ازدان به هاذا الشهر، إن مما اختص به الله هاذا الشهر دون سائر ليالي الزمان ليلة القدر التي جعلها الله جل وعلا خيراً من ألف شهر، عظّم الله شأنها فقال سبحانه: ? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)?(3). وهذا أول التعظيم أن اختصها الله لإنزال خير آية أوتيها نبي، وهي القرآن العظيم ?وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)?(4). وهذا تعظيم آخر من رب العالمين لشأن هاذه الليلة ?لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)?(5). ففضل الله جل وعلا في هاذه الليلة عظيم وخيره فيه جزيل، كم فيها لله عز وجل من العتقاء؟ كم فيها ممن يرفع الله عز وجل أجورهم ويعلي منازلهم بما معهم من صدق الرغبة وجد العزيمة في طلب رحمة الله ومغفرته؟ فإنه من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة في الصحيحين قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))(6) فالله أكبر.
يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء في كل ليلة من ليالي هاذا الشهر، نسأل الله من فضله.
أيها الإخوة الكرام: إن من أبواب البر وصنوف الخير التي يزدان بها هاذا الشهر أنه محلّ لكثرة قراءة القرآن، قراءة القرآن التي هي شفاء القلوب، واستقامة الأحوال، فإن الله جل وعلا أخبر بأن هاذا القرآن يهدي للتي هي أقْوم، وهدايته للتي هي أقوم في العقائد والأعمال والأخلاق والأحكام وجميع الشؤون، فممّا اختص الله به هاذا الشهر أن أنزل فيه القرآن فحقه أن يُجتهد فيه في قراءة القرآن، وأن يوفّر الإنسان نفسه على الاستكثار من القراءة إن استطاع، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر القرآن، ذكر شهر رمضان وذكر أنه أنزل فيه القرآن ثم بعد ذلك ذكر فرضية الصيام، فقال سبحانه وتعالى: ?شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ? ثم قال: ?فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ?(7). فالصيام هو شكر لتلك المنن، وقيام بحق تلك النعم، وهو ما أنزله الله سبحانه وتعالى واختص به هاذا الشهر من إنزال هاذا القرآن الحكيم.
فاستكثروا أيها الإخوة، استكثروا من قراءة القرآن، وتدبره وتلاوته وسماعه والاهتداء بنوره، فهاذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
__________
(1) تقدم تخريجه صفحة: (4).
(2) سورة : السجدة (17).
(3) سورة : القدر (1).
(4) سورة : القدر (2).
(5) سورة : القدر (3-5).
(6) البخاري: كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان، حديث رقم: 35.
مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، حديث رقم: 760.
(7) سورة : البقرة (185).(/3)
ومن المحفوظ من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يختم القرآن في رمضان كل عام مرة، وفي العام الذي قبض فيه ختمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: كان يعرض جبريل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه(1).
ولكن انتبه أيها الأخ إياك وأن يكون همك في قراءتك أن تختم القرآن على أي وجه كان؛ لا تقف عند عظاته، ولا تعتبر بما فيه من العبر ولا تمتثل ما فيه من الأحكام.
جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يسأله مسألة من العلم، فقال له عبد الله كلاماً، فأراد هاذا الرجل أن يبين تقدمه وحفظه في القرآن وضبطه له، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني لأقرأ المفصل في ركعة. المفصل أي من سورة الحجرات على مصحف عثمان رضي الله عنه إلى آخر الناس، من سورة الحجرات أو من سورة ق إلى آخر المصحف يقرؤه في ركعة.
فقال له عبد الله مؤدباً معلماً مربياً: أهذًّا كهذِّ الشعر؟ أي تقرؤه هذّاً كهذ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
وهذا يدل على أن النافع في القراءة ليس كثرة الختمات ولا كثرة المقروء من الكتاب، إنما النافع هو أن تكون القراءة مؤثرة، قال رضي الله عنه كما في رواية الإمام أحمد: هذّاً مثل هذّ الشعر أو نثراً مثل نثر الدقل؟ إنما فصل لتفصلوا. أي إن القرآن فصل وبين وجزئ لتفصلوا في قراءته وتقفوا عند عجائبه وتحركوا به القلوب.
دخل عبد الرحمان بن أبي ليلى على امرأة من السلف وهو يقرأ سورة هود في طريقه، فدخل عليها وهو يقرأ سورة هود، فلما رأته وسمعته يقرأ سورة هود قالت له: يا عبد الرحمان أهكذا تقرأ سورة هود؟ والله إني فيها لمن ستة أشهر، تقرأ سورة هود؟ أنكرت على أحد طلاب العلم هاذه القراءة التي خفّ بها لسانه ولم يقف عند ما فيها من المعاني، ويتدبر.
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.
فالواجب علينا -أيها الإخوة- أن نهتم بفهم القرآن، بمعرفة معانيه، بما فيه من العظات والعبر، ولا أسهل على الإنسان في تحصيل هاذا من أن يقتني كتاباً يبين له معاني القرآن، ويجلّي له ما أشكل عليه فإنه شهر القرآن، إذا أقبل عليه الإنسان قراءة وفهماً فتح له فيه من الخير ما لا يجده في غيره؛ لأن الإنسان إذا وفّر نفسه على الشيء حصل منه ما لا يحصله في غيره.
فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في كل ليلة من ليالي هاذا الشهر، نسأل الله عز وجل من فضله.
أيها الإخوة الكرام: إن من فضائل الأعمال التي ندب إليها رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأنام في هاذا الشهر المبارك في شهر رمضان الإحسان إلى الخلق، فإن الإحسان قولاً وفعلاً وعملاً وجوداً وبرّاً وكرماً هو هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالنفوس-بسبب ما تشتغل به من الأعمال الصالحة من الصيام، من القيام، من قراءة القرآن، من المسابقة في تحصيل الفضائل- تزكو، تتخلص من كثير من أسباب الانحراف، من أسباب القعود، وإذا زكت النفس طهرت، وإذا طهرت بذلت الخير.
ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس- هاذا هو هديه وخلقه على وجه العموم- وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة(2).
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب ان جبريل يعرض القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم 4998.
(2) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم: 4997.
مسلم: كتاب الفضائل: باب كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس بالخير من الريح المرسلة، حديث رقم: 2308.(/4)
وهذا يدل على أن القرآن يؤثر في النفوس، فإذا كان القرآن يؤثر في نفس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيزداد جوده فينبغي لنا أن نتأسى به، وأن يكون القرآن مؤثراً في أخلاقنا صلاحاً، وفي أعمالنا استقامةً، وفي نشاطنا في الطاعة زيادةً وكثرةً، فإن الإنسان إذا قرأ القرآن وخرج منه بلا نفع ولا زيادة من الخير لم يكن قد حصّل المقصود من قراءة القرآن، فأحسنوا أيها الإخوة وأكثروا من الإحسان، وليس الإحسان ببذل المال فقط، بل الإحسان ينتظم كل طريق من طرق البر، فإذا عجزت عن شيء منه فلا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، عامل الناس بمعاملة حسنة، ابذل الخير للناس، عاونهم فيما يحتاجون إليه من إعانة، وإذا حصل لك ذلك فأبشر فإنك على خير وقد حصلت شيئاً مما كان عليه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجود وحسن الأخلاق.
فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة، نسأل الله أن نكون منهم.
أيها الإخوة الكرام: إن من أبواب الخير ومن أبواب الطاعة ومما ينبغي لنا أن نشتغل به في هاذا الشهر من العمل الصالح، ما سنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحافظ عليه من اعتكاف العشر الأخير من هاذا الشهر المبارك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داوم على هاذه السنة، وحافظ عليها.
ففي الصحيحين من حديث عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده(1). فاحرصوا على هاذه العبادة التي هي سبب لحصول فضل ليلة القدر، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما اعتكف العشر الأواخر طالباً لليلة القدر، ولذلك كان يجتهد في العشر الأخير من هاذا الشهر ما لا يجتهد في غيره.
والاعتكاف ليس البقاء في المسجد على أي وجه، إنما هو بقاء مخصوص، وهو بقاء يلزم فيه الإنسان المسجد تعبداً لله عز وجل وطاعةً وطلباً لرفعة الدرجات والرفعة في الدار الآخرة، وهذا يعني أن لا يشتغل الإنسان بأي شيء يفوّت عليه هاذه الفضائل، فاشتغال الناس بكثرة الكلام والمخالطة والذهاب والمجيء في المساجد، هاذا مما ينافي مقصود الاعتكاف، ومما لا يحصل به الفضل المرتب عليه، فاحرصوا على أن يكون اعتكافكم اعتكافاً يحصل به المقصود، وهو زكاء الأخلاق والاجتهاد في الطاعة، والتقرب والاستزادة من زاد التقوى.
فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليالي هاذا الشهر، نسأل الله أن نكون منهم.
أيها الإخوة: إن مما ينبغي للمؤمن أن يجتهد فيه وأن يعمل وقته فيه، هو تلك العبادة التي ذكرها الله في ثنايا آيات الصيام، فإن الله جل وعلا ذكر فرضية الصيام بقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)?(2). ثم بين أحكامها، وفي ثنايا هاذه الأحكام قال الله جل وعلا: ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)?(3). وهذا يدل على أن من خصائص الصيام أن يجتهد الإنسان في الدعاء، فإن ذكر الدعاء في ثنايا آيات الصيام يدل على عظيم شأنه، وأنه من مواطن الإجابة، وقد جاء في ذلك حديث فيه بعض الوهن لكنه يعتضد بمثل هاذه الإشارة التي تضمنتها آيات الصيام، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن للصائم دعوة لا ترد))(4). وقد عمل بذلك سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم فكانوا يجتهدون في الدعاء في الفطر، كما ورد ذلك عن ابن عمر وغيره رضي الله عن الجميع.
فاجتهدوا -أيها الإخوة- في الدعاء في هاذا الشهر؛ فإنه قد وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الدعاء في أشرف أوقات هاذا الشهر في ليلة القدر، فسألته عائشة كما في الترمذي وغيره: ما أقول إذا علمت ليلة القدر أو وافقت ليلة القدر؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني))(5)
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في أواخر رمضان والاعتكاف في المساجد كلها. حديث رقم: 2026.
مسلم: كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، حديث رقم: 1172.
(2) سورة : البقرة (183).
(3) سورة : البقرة (186).
(4) ابن ماجه: كتاب الصيام، باب ما جاء في الصائم لا ترد دعوته. حديث رقم: (1753)، قال الشيخ الألباني: ضعيف.
(5) الترمذي: كتاب الدعوات، حديث رقم :3513.
ابن ماجه: كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، حديث رقم: 3850.
قال الشيخ الألباني: صحيح.(/5)
. فوجهها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السؤال والدعاء، وهذا يدل على أن الدعاء في هاذا الشهر له من الخاصية ما ليس لغيره، فينبغي للمؤمن أن يجتهد فيه وأن يُعمل نفسه في الاستكثار منه، لا سيما في مواطن الإجابة: كالأسحار، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة والمسنونة.
إن مما يجتهد فيه الإنسان في هاذا الشهر ويعمل أعضاءه وبدنه فيه، رغبة فيما عند الله جل وعلا الاجتهاد في العمرة، إن تيسرت له وتمكن منها، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لإحدى نساء الأنصار تخلفت عنه في حجة الوداع وأبدت عذراً: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) قال في رواية البخاري: ((تقضي حجة أو حجة معي)) (1). أي تعدل حجة معه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فينبغي لمن استطاع أن يرحل إلى البيت الحرام في عمرة يحقق بها هاذه السنة فهاذا من الخير وأن لا يفوت ذلك على نفسه.
لكن هل من لوازم العمرة أن يصرف الأموال الطائلة وأن يمضي الأوقات الطويلة في مكة؟ الجواب: لا، إنما يحصل هاذا الفضل بمجرد الفراغ من العمرة من الطواف والسعي والتقصير، ثم بعد ذلك يرجع إلى بلده، وهذا خير من أن يمكث هناك يزحم الناس، وقد لا يحصل له المقصود من سكون القلب وخشوعه لكثرة العالم وكثرة الجائين إلى تلك البقعة المطهرة، البقعة التي اصطفاها الله جل وعلا وجعلها أحب البقاع إليه، فإذا فرغ الإنسان من عمرته، رجع إلى أهله واشتغل بما فيه الخير دون أن يلازم أو يجاور، وإن بقي فالأمر في هاذا واسع؛ لكن ينبغي له أن لا يكون بقاؤه في تلك البقعة وجلوسه في ذلك المكان المبارك سبباً لتضييع الواجبات كالقيام على الأهل والأسرة وما أشبه ذلك، فإن من الناس من يذهب إلى ذلك المكان الطاهر، ويغفل عن ما أوجبه الله عليه من صيانة الأولاد والقيام بحقهم ورعايتهم؛ بل بعضهم قد يصطحب أولاده ويضيعهم في ذلك المكان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم البر والتقوى.
أيها الإخوة الكرام: هاذه بعض اللمحات عن بعض الأعمال التي تكون في ذلك الموسم الكريم، فطوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وكان بحبل الله معتصماً.
أيها الإخوة: إنني أنبهكم إلى أنه لا مكان لتريث ولا لتأخير في المسارعة إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فالليل والنهار مطيتان تحثان السير إلى المنايا والآجال، وقد قال الله جل وعلا: ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)?(2). قال الله جل وعلا: ?سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)?(3).
اللهم أعنا على الطاعة والإحسان، ووفقنا إلى ما تحب وترضى من الأقوال والأعمال.
اللهم استعملنا فيما تحب وترضى، واجعلنا ممن يبلغ هاذا الشهر المبارك ويستزيد فيه من الطاعات والإحسان.
اللهم إنا نسألك أن تجعله شهر خير وبركة ونصر وعز لأمة الإسلام.
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- - ( - -
__________
(1) البخاري: كتاب جزاء الصيد، باب حج النساء، حديث رقم: 1863.
مسلم: كتاب الحج، باب فضل العمرة في رمضان، حديث رقم: 1256.
(2) سورة : آل عمران (133).
(3) سورة : الحديد (21).(/6)
ذروة السنام يا أمة الإسلام
عبدالحكيم بن علي السويد
دار الوطن
الحمد لله القائل: [الصف:10-11]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد القائل: { جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم } [رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم]. أما بعد:
فإن من الخصائص العظيمة التي امتن بها الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة وميزها عن بقية الأمم أن شرع لها الجهاد وجعل ما يحصل بسببه من الأجر والمثوبة الشيء العظيم، تلك هي الفريضة التي جعلت للمسلمين الأوائل العزة والتمكين في الأرض، ومن ثم السيادة على باقي الأمم، وقد علم أولئك فضل الجهاد فعملوا به على الوجه المطلوب الذي أراده الله ورسمه رسوله وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ في الذروة العليا منه، فاستولى على أنواعه كلها، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان، والسيف والسنان، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، ولهذا كان أعظم العالمين عند الله قدراً) [مختصر زاد المعاد].
وكذلك كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم أفضل الأجيال، وقد قال أبو بكر الصديق : { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } [رواه أهل السنن وصححوه]، وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي : { لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبداً أبداً } وقال: { من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمها الله على النار } فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل. فكيف بما هو أشق من: كالثلج، والبرد، والوحل.
فضل الجهاد في سبيل الله
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (ج28): اعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في كتابه: [التوبة:52] يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة، فمن عاش من المجاهدين كان كريماً له ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة. ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة. قال : { إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض، أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله }، فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد. وقال وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ في الجهاد
(كان النبي يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفروا، وكان يشاور أصحابه في الجهاد، ولقاء العدو، وتخير المنازل، وكان يتخلف في ساقتهم في المسير، فيجزي الضعيف، ويروف المنقطع، وكان أرفق الناس بهم في المسير، وإذا أراد غزوة ورى بغيرها، ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ أقربهم إلى العدو. وكان يجعل لأصحابه شعاراً في الحرب يعرفون به، وكان شعارهم مرة: أمت أمت، ومرة: يا منصور.
وكان يلبس الدرع والخوذة. ويتقلد السيف، ويحمل الرمح والقوس العربية ويتترس بالترس، ويحب الخيلاء في الحرب، وقال: { إن منها ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحب الله، فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله عز وجل، فاختياله في البغي والفجور } وقاتل مرة بالمنجنيق، نصبه على أهل الطائف، وكان ينهى عن قتل النساء والولدان، وينظر في المقاتلة، فمن رآه أنبت قتله، وإلا أستحياه.
وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله. ويقول: { سيروا بسم الله وفي سبيل الله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً } وكان ينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ويأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى الاسلام والهجرة، أو الاسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم نصيب في الفيء، أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم، وإلا استعان بالله وقاتلهم.
وكان يشدد في الغلول جداً ويقول: { عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة }، ولما أصيب غلامه مدعم، قال بعض الصحابة: هنيئاً له الجنة. فقال: { كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً } فجاء رجل بشراك أو شراكين لما سمع ذلك فقال: "شراك أو شراكان من نار") [مختصر زاد المعاد].
دور المرأة في الجهاد
لقد كان للمرأة في عهد النبي : { ما هذا الخنجر؟ } فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" [يوسف:21].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=113 ...(/1)
ذكر فصاحته صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وكان يقول: "إن الله عز وجل أدبني فأحسن أدبي، ونشأت في بني سعد"، وقال: "بعثت بجوامع الكلم". وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله! ما بالك أفصحنا؟ قال: "لأن كلام إسمعيل عليه السلام كان درس(1) فأتى به جبريل عليه السلام فعلمنيه". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول مات حتف أنفه وما سمعتها من عربي قبله، ومعنى هذا: أن الميت على فراشه يتنفس حتى ينقضي رَمَقه"(2). ...
ومن كلامه المتقن وأمثاله العجيبة صلى الله عليه وسلم قوله: "إياكم وخضراء الدمن"، قيل له: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء". وقوله: "إن مما ينبت الربيع لما يقتل حَبَطاً أو يُلِم"، والمعنى: أن الماشية يَرُوقها (3) نبت الربيع فتأكل فوق حاجتها فتهلك، والحَبَط أن تَرِم بطونها وتنتفخ، فزجر بهذا الكلام عن فضول الدنيا. وقوله: "لا ينتطح فيها عنزان ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، وقوله: "هُدْنة على دَخَن (4) وجماعة على أقذاء"، وقوله: "الآن حَمِيَ الوَطِيس(5)"، وقوله: "الناس كأسنان المشط، والمرء كثير بأخيه، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل مايرى لنفسه"، وقوله في الخيل: "بطونها كنز وظهورها حِرْز، وخير المال مُهْرَة(6) مأمورة(7) أو سِكَّة مَأْبُورة"، وقوله للأنصار: "إنكم لتقِلُّون عند الطمع وتكثرون عند الفَزَع"، وقوله: "خير المال عين ساهرة لعين نائمة، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
وقوله: "حبك للشيء يُعمي ويُصِِم، وكل الصيد في جَوْف الفَرَا(8)، جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها، والبلاء موكل بالمنطق، الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن، زر غِبًّا(9) تزدد حبا، الصمت حُكْم وقليل فاعله، الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، إنما الأعمال بالنيات، نية المؤمن أبلغ من عمله، إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، الخلق السيِّئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، ليس الخبر كالمعاينة، لا حليم إلا ذو أناة ولا حكيم إلا ذو تجربة، الحرب خُدعة، يا خيل الله اركبي، إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، من يشاد هذا الدين يغلبه، المؤمن مرآة المؤمن، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، تنكح المرأة لمالها ولجمالها ودينها وحَسَبها فعليك بذات الدِّين تَرِبتْ يداك، الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه، ليس الشديد الذي يغلب الناس ولكن الشديد الذي يغلب نفسه، من ضمن لي ما بين لِحْيَيه ورجليه ضمنت له الجنة، اليد العليا خير من اليد السفلى، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول، أفضل الصدقة جهد من مُقِلٍّ، كلمة الحكمة ضالة كل حكيم، القناعة مال لا ينفَد، استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك، الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن السؤال نصف العلم، المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع، أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك، لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له، حسن العهد من الإيمان، جمال الرجل فصاحة لسانه، منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا، لا فقر أشد من الجهل ولا مال أعود من العقل ولا وحشة أشد من العجب.
الذنب لا ينسى والبر لا يبلى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان، الظلم ظلمات يوم القيامة، ما جمع شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، التمسوا الرزق في خبايا الأرض، كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل وعُدَّ نفسك من أهل القبور، العفو لا يزيد العبد إلا عزا والتواضع لا يزيده إلا رفعة، ما نقص مال من صدقة، صنائع المعروف تقي مصارع السوء، صلة الرحم تزيد في العمر، اللهم إني أسألك واقية كواقية الوليد، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر، الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها ولدها، أخسر الناس صفقة من أذهب آخرته بدنيا غيره، المجالس بالأمانة، إياكم والطمع فإنه فقر حاضر.(/1)
استعينوا على نجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود، إن من كنوز البر كتمان المصائب، الدال على الخير كفاعله، نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ، الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة، ليس شيء أفضل من ألف مثله إلا الإنسان، اليمين حِنْث أو ندم، لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك، اليوم الرهان وغدا السباق والغاية الجنة والهالك من دخل النار".
قلت ولو ذهبنا نذكر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم العجيب الوجيز البليغ لطال، إذ كل كلامه يتضمن حكما، وكذلك لو ذهبنا نستقصي آدابه وأخلاقه وأحواله لجاءت مجلدات، وإنما اقتطفنا من كل فن قِطْفا، وأشرنا إلى جملة برمز، لأن مثل كتابنا هذا لا يتسع للبسط.
__________
1- درسَ: عفا وذهب أثره.
2- الرَّمَق: بقية الروح.
3- يَرُوقها: يُعجبها.
4- هُدنة على دخَن: صُلْح وسكون على غِل.
5- حَمِي الوطِيس: اشتدَّت الحرْبُ.
6- المُهرة: أنثى المُهر: ولد الفرس.
7- سِكَّة: الحَديدة التي يحرث بها، ومأبورة: مُصْلَحة.
8- الفَرَا: حمار الوحش، والمقصودُ أن شخصاً واحداً قد يفضُل جماعة ويُغني عنهم.
9- الغِبُّ في الزيارة: في كل أسبوع.
* من كتاب صفة الصفوة، لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.(/2)
ذكرى مولد الهادي الامين: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم
بقلم: الشيخ كمال خطيب
محمد: هذا الإسم الجميل الذي حمله ذاك اليتيم، يولد بعد إذ مات أبوه عبد الله، فيسميه جدّه بهذا الإسم، الذي لم تكن العرب من قبل تُسمّي به.
محمد: هذا الإسم الجميل الذي تزيّنت به صفحات التوراة والإنجيل والقرآن {الذين يتّبعون الرسول النبي الأُمّيّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}.
محمد: هذا الإسم الذي نطق به لسان عيسى بن مريم قبل إذ ولد محمد، وقبل إذ بعث {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني ... ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.
محمد: هذا الإسم من بين كل الأسماء في هذا الكون، الذي لا يذكر إسم الله سبحانه إلا وذُكر معه إسم محمد صلى الله عليه وسلم «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
محمد: هذا الإسم الذي يتردد صداه مع كل نداء أذان في صحراء جزيرة العرب، وفي أدغال إفريقيا، وفي ثلوج سيبيريا، وفي هضاب الصين، وبين ناطحات سحاب باريس ولندن، وعند شواطئ اندونيسيا، لهجاتهم كلهم تختلف، ولكنها تلتقي وتتقارب عند ذكر اسم محمد.
محمد: هذا الإسم الذي لا يوجد في الكون وبين الخلائق إسم يحمله عدد من البشر كإسم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الأكثر انتشارا وشيوعا بين الأسماء.
محمد: هو الذي هدانا من ضلالة وعلّمنا من جهالة، وهذّبنا من سفالة.
محمد: هو الذي وضع أمة العرب على خارطة الكون، وجعلهم قادة للبشر، بعد إذ كانوا رعاة للشاة وللبقر، وهو الذي وحّدهم من شتات وجمّعهم من فُرقة، ورفعهم من سقوط، وأعزّهم من ذلة.
محمد: به وبه فقط دخل العرب التاريخ، وليس بأبي جهل ولا أبي لهب، وبالقرآن الذي أنزل عليه وليس بمعلقات طرفة بن العبد ولا عنترة بن شداد، وبمعارك المجد التي خاضها أصحابه لتحرير الإنسان بدر واليرموك، والقادسية وحطين وعين جالوت، وليس بيوم داحس والغبراء، وبراية التوحيد التي رفعها لا إله إلا الله وليس باللات ولا بالعُزّى.
محمد: حمل اسمه الفضلاء والعلماء والقادة والصالحون، فهذا محمد بن مسلمة - فاتح الهند، وذلك محمد بن ادريس الشافعي - شيخ العلماء والفقهاء، وذاك محمد الفاتح - فاتح القسطنطينية وأوروبا الوسطى، بل إن من سيعيد للدنيا حلاوتها ويملأها عدلا بعد إذ ملئت جورا في آخر الزمان - ولا أظنه بعيدا - هو محمد بن عبد الله المهدي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم .
محمد: حرر العرب من عبودية اللات والعزّى، وجعلهم لا يركعون ولا يحنون رؤوسهم إلا لله الواحد القهّار، كانوا أميين وعلى ضلالة، فعلمهم محمد {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}، وكانوا في جاهلية مظلمة فأنار لهم محمد الطريق {قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين}.
الحق أنت وأنت إشراق الهدى
ولك الكتاب الخالد الصفحات
من يقصد الدنيا بغيرك يلقها
تيها من الأهوال والظلمات
لو شرّق القوم الكبار وغربوا
فإليك حتما منتهى الخطوات
لو أحسنوا فهم السلام لأسلموا
ما غير دينك سُلما لنجاة
محمد: كل المنصفين من الباحثين والدارسين ممّن درسوا سيرتك وهديك ورسالتك، أبوا أن يخونوا ضمائرهم وعقولهم وأقلامهم التي نطقت وكتبت تهتف بإسمك وتتغنى بسمو رسالتك، فمنهم الذي عدّ عظماء العالم وسادته وأصحاب الفضل فيه، فسجّل منهم مائة، وجعلك أنت الأول من بينهم، ومنهم فيلسوف روسيا وكاتبها الكبير تولستوي، الذي قال فيك أصدق الكلام وأنبله، ومنهم فيلسوف بريطانيا الشهير برنارد شو، الذي قال في كلمته الشهيرة وهو يتألم من سوء الحال الذي وصلت إليه البشرية والهبوط والتردي الذي آلت إليه أخلاقيا وإجتماعيا وفكريا، فقال:(لو كان محمد بيننا لحلّ مشكلات البشرية وهو يحتسي فنجان قهوة).
محمد: يقول عنه عبد الله بن سلام، وكان حبرا من أحبار اليهود :( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس عليه - أي اجتمعوا حوله - وكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، فكان ذلك سبب إسلامي).(/1)
محمد: لما هاجر صلى الله عليه وسلم الى المدينة ومعه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وخادمه عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط، فكان أن مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، فطلبوا منها طعاما، فلم يكن عندها ما تعطيهم، وقالت ما عندي والله إلا هذه العنز الضعيفة التي لا لبن فيها لشدّة هزالها، فكان أن اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من تلك العنز، ومسح على ضرعها، ودعا الله سبحانه، فما لبثت تلك العنز أن امتلأ ضرعها باللبن، فحلب النبي صلى الله عليه وسلم، وشرب هو ومن معه، ثم حلب وأعطى لأم معبد وهي تنظر إليه، لا تكاد تصدق ما ترى، ثم مضى عليه السلام دون أن تعرف من يكون الرجل. فلما رجع زوجها الى خيمتها وجد اللبن في البيت وهو لم يشربه منذ مدة، فسألها، فحدثته بما جرى من أمر ذلك الرجل الذي مسح ضرع العنز، فامتلأت لبنا، فسألها عن أوصافه، فقالت فيه وصفا دقيقا حفظته كتب السير، يجمع بين جمال الخُلُق وكمال الخَلق، وهي التي لم تره إلا مرة واحدة، فقالت:( رأيت رجلا ظاهر الوضاءة (حسن الوجه)، أبلج الوجه (مشرق الوجه)، حسن الخَلق لم تَعِبْهُ ثجلة (عظم البطن)، ولم تزرِ به صُعلة (صغر الرأس)، وسيماً (جميل الخلقة)، قسيما، في عينيه دَعَجٌ (شدة سواد العين)، وفي أشفاره وطف (كثيف الرمشين)، وفي صوته صهل (ليس بحاد الصوت)، وفي عنقه سَطْع (إشراق وطول)، وفي لحيته كثاثة (دقة نبات شعر اللحية مع استدارة فيها)، أزج أقرن (دقة شعر الحاجبين مع طول فيهما واتصال ما بينهما من شعر)، إن صمَتَ فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء (حسن المظهر)، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأجملهم من قريب، حلو المنطق، فصلا لا نزرا ولا هذرا، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، رُبعة، لا تشنؤه من طول (ليس طويلا طولا مفرطا) ولا تقحمه عين من قصر (لا تحتقره لشدة قصره)، غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا الى أمره، محفودا محشودا (مخدوما يحيط به أصحابه)، لا عابسا ولا مقيدا)، فلما سمع زوجها أبو معبد ما قالته زوجته، قال:( هذا والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكر ولقد هممت أن أصاحبه ولأفعلن إن وجدت الى ذلك سبيلا).
يا حبيبي يا رسول الله:
فمثلك لم ترَ قطّ عيني
ومثلك لم تلد النساء
وُلدتَ مبرأً من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاءُ
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة وعليه حُلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه والى القمر، فلهو كان في عيني أحسن من القمر.
وكان الحزن والسرور يظهران على وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أبيض مشربا بحمرة، فعن أنس رضي الله عنه قال :(كان إذا كره شيئا رؤي ذلك على وجهه).
وروى مسلم عن أبي الطفيل قال: قلت له: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، كان أبيض مليح الوجه.
أما منطقه صلى الله عليه وسلم وحُسن حديثه وفصاحة لسانه وطيب معشره، فقد وصفه ابن أبي هالة قائلا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يتكلم بجوامع الكلم فصلا، لا فضولا ولا تقصيرا، دمثا ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقّت لا يذمُّ منها شيئا، لا يقوم لغضبه إلا إذا تعرض الحق لشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم.
وليس غريبا على من كانت هذه شمائله وصفاته أن يكون أرحم الناس بأكثر من يقع عليهم الظلم في المجتمع النساء والأطفال والفقراء، فلقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالنساء، فكان يجالس أزواجه وأقاربه من المحارم، ويحدثهن ويحدثنه، ويبتسم ويضحك، وربما ترتفع أصواتهن فلا يضجر، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم «رفقا بالقوارير»، وقوله كذلك :«النساء شقائق الرجال».
لا بل انه الذي يقول عليه الصلاة والسلام وهو يوصي الرجال بمعاونة النساء والحنو عليهنّ :«إن الرجل اذا أسقى امرأته من الماء له أجر»، وهو القائل كذلك في آخر كلمات قالها وهو في خطبة الوداع :«استوصوا بالنساء خيرا»، وكان صلى الله عليه وسلم دائم التبسم والضحك مع زوجاته، وكان مرحا دائما معهن يميل الى الدعابة، وكان يدخل بيته مسلّما باشّاً هاشّاً وقال لأنس :« يا بُني إذا دخلت على أهلك فسلّم، يكن سلامك بركة عليك وعلى أهل بيتك».
محمد: ومهما مدح المادحون ومهما قال فيه الشعراء والفصحاء والبلغاء من بيان حسن شمائله وعظيم فضائله، فإنهم لن يبلغوا عظيم الوصف، وصفه به ربه سبحانه لما قال فيه :{وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم}، والذي قال فيه :{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وهو الذي قال كذلك عن نفسه صلى الله عليه وسلم :«أدبني ربي فأحسن تأديبي»، فأنت أيها الحبيب المصطفى دعوة أبيك ابراهيم، وأنت كذلك بشارة أخيك عيسى عليه السلام.(/2)
البدر دونك في حسن وفي شرفٍ
والبحر دونك في جودٍ وفي كرم
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أقواما من العدم
محمد: هذا النبي الكريم الذي مرّت ذكرى مولده في يوم الإثنين الأخير، نعم إنه يوم الإثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، كان مولده صلى الله عليه وسلم في عام الفيل 570للميلاد، العام الذي فيه اجتاحت جيوش الحبشة أرض العرب، تتقدمها الفيلة، من أجل الإعتداء على الكعبة المشرفة، أقدس مقدسات العرب، يومها واليوم وكل يوم، فرد الله عز وجل الفيلة وجيش الأحباش بأن سخّر عليهم الطير الأبابيل، إنه نفس العام الذي وُلد فيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وها هي ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرّ علينا والأمة تعيش حالات من الإجتياح والإحتلال والحصار، فهناك فيل الأمريكان الذي دمّر وما يزال يدمّر بغداد، وهناك الفيل الإسرائيلي الذي راح يحاصر ويهدد ويشرّد أبناء شعبنا الفلسطيني، وإننا على يقين لا يتزعزع بأنّ الله سبحانه كما أكرم العرب بأن خلّصهم من بطش فيلة أبرهة الأشرم وجيش الأحباش، فإنه سبحانه سيخلصنا من فيلة أمريكا وإسرائيل، يقودها بوش وأولمرت ومن حولهم من صغار الفيلة، أمثال رامسفيلد وموفاز.
ما كان ولن يكون يوم مولد محمد صلى الله عليه وسلم يوم احتفالات وبهرج وكرن?الات كما يفعل في أيام ميلاد أصحاب الجلالة والفخامة من الذين يخيّل للواحد منهم أنه أصبح وحيد زمانه، وكأن النساء ما ولدت ولن تلد مثله، وإنما مولد محمد صلى الله عليه وسلم هو يوم تجديد العهد والبيعة مع صاحب الذكرى، بالعمل والإلتزام والسير الصادق على هديه ورسالته، حتى تعود للأمة أمجادها ومكارمها وهيبتها، وحتى تعود الإنسانية تسعد بتعاليم السماء التي نزل بها موسى وعيسى، وختمها محمد صلى الله عليه وسلم .
فطب نفسا أيها الحبيب، طب نفسا يا صاحب الخُلُق الكريم، طب نفسا أيها الصادق الأمين، بأننا على العهد بإذن الله، نقتفي الأثر، ونصون العهد، ونحفظ الأمانة، ونخدم الرسالة التي أتيت بها صلى الله عليك وعلى آلك وصحبك أجمعين.
فاليوم وغدا وبعد غد، وكل يوم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ستظل أنت قائدنا في الدنيا، على أمل أن تكون شفيعنا يوم القيامة، وسنظل نهتف في جنبات هذا الكون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يتردد صداها من الدنمارك الى تل أبيب، رفضوك وشتموك يا محمد، يا رحمة الله للعالمين، فإنهم مضطرين ومقهورين سيقبلوك، محمد الذي سيبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، فانتظروا إنا معكم منتظرون، وإن غدا لناظره قريب.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي بالمغفرة.
{... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.(/3)
ذكريات تائب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله غافر الذنب .. وقابل التوب ..
شديد العقاب ذي الطول .. لا إله إلا هو إليه المصير ..
الحمد لله الذي يقول للشيء كن فيكون .. وبرحمته نجى موسى وقومه من فرعون ..
الحمد لله الذي كان نعم المجيب لنوح لما دعاه .. وبرحمته كشف الضر عن يونس إذ ناداه ..
وسبحان من كشف الضر عن أيوب .. ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ..
وما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه ذكريات .. ومشاعر وهمسات ..
أفضى بها التائبون .. واعتبر بها المذنبون ..
نعم .. هي ذكريات .. اعترف بها كهول هدهم مر السنوات ..
وشباب لعبت بهم الشهوات ..
وفتيات ولغن في الملذات ..
هي ذكريات .. مرت وانقضت .. وانتهت ونُسيت ..
لكنها سجلت وكتبت .. وأحصيت وعُدّت ..
* * * * * * * * *
نعم ..
هذه ذكريات تائب .. واعترافات منيب وراغب ..
في زمن كثرت فيه المغريات .. وتنوعت الشهوات ..
وزلت بكثير من الناس الأقدام .. فقارفوا المعاصي والآثام ..
فضعف إيمانهم .. وقوي عليهم شيطانهم ..
إنها ذكريات .. لمن يؤمن بقوله تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ..
كما يؤمن بقوله : { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ..
* * * * * * * * *
هذه أخبار أقوام أخبر ربهم .. أنه يفرح بتوبة التائبين إليه ..
مع غناه عنهم .. وشدة حاجتهم إليه ..
وكيف لا يفرح بتوبتهم .. وقد ناداهم بقوله :
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ..
وناداهم نبيهم بقوله :
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. حتى تطلع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
أول هؤلاء التائبين ..
شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب – كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
* * * * * * * * *
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
* * * * * * * * *
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..(/1)
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ..
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
من ملك غسان ..!!
إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
* * * * * * * * *
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..(/2)
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب رضي الله عنه :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فلما جلست بين يديه ..
قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
* * * * * * * * *
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..
* * * * * * * * *
ومن فرح الله بالتائبين إليه أنه لا يغفر سيئاتهم فقط .. كلا .. بل يبدل سيئاتهم حسنات .. قال عز وجل :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } .. وفي البخاري أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :(/3)
أي رسول الله .. أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية .. من صدقة أو .. عتِاقة .. أو صلة رحم .. أفيها أجر ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ..
الله أكبر ..
الذنوب تغفر .. والسيئات تبدل حسنات .. والحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة .. فماذا بقي !
* * * * * * * * *
هو التواب الرحيم .. الذي وسعت رحمته كل شيء ..
لكن رحمته قريبة من المحسنين .. الرجاعين التائبين ..
الذين إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذُكِّروا ذكروا ..
فليست المشكلة في وقوع الذنب .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
هي أن يألف المرء الذنب .. ثم يتساهل بخطره .. فلا يحدث منه توبة ..
والله رحيم بعباده ..
رحمته أسرع من غضبه ..
ومغفرته أعجل من عقوبته ..
هو والله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
في الصحيحين :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
فبينما هي على ذلك ..
إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
التفت إلى أصحابه ثم قال :
أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه .. وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر على أن لا تطرحه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : والله .. لله .. أرحم بعباده من هذه بولدها ..
* * * * * * * * *
نعم .. ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
جاء يمشي .. حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
فقال : نعم ..
فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .
* * * * * * * * * *
وذكر ابن قدامة في التوابين ..
أن بني إسرائيل .. لحقهم قحط على عهد موسى عليه السلام .. فاجتمع الناس إليه ..
فقالوا : يا كليم الله .. ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث ..
فقام معهم .. وخرجوا إلى الصحراء .. وهم سبعون ألفاً أو يزيدون ..
فقال موسى عليه السلام : إلهي .. اسقنا غيثك .. وانشر علينا رحمتك .. وارحمنا بالأطفال الرضع .. والبهائم الرتع .. والمشايخ الركع ..
فما زادت السماء إلا تقشعاً .. والشمس إلا حرارة ..
فقال موسى : إلهي .. اسقنا ..
فقال الله : كيف أسقيكم ؟ وفيكم عبد يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة .. فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم .. فبه منعتكم ..
فصاح موسى في قومه : يا أيها العبد العاصي .. الذي يبارز الله منذ أربعين سنة .. اخرج من بين أظهرنا .. فبك منعنا المطر ..(/4)
فنظر العبد العاصي .. ذات اليمين وذات الشمال .. فلم ير أحداً خرج .. فعلم أنه المطلوب ..
فقال في نفسه : إن أنا خرجت من بين هذا الخلق .. افتضحت على رؤوس بني إسرائيل .. وإن قعدت معهم منعوا لأجلي .. فانكسرت نفسه .. ودمعت عينه ..
فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله .. وقال : إلهي .. وسيدي .. عصيتك أربعين سنة ..وأمهلتني .. وقد أتيتك طائعاً .. فاقبلني .. وأخذ يبتهل إلى خالقه ..
فلم يستتم الكلام .. حتى ارتفعت سحابة بيضاء ..فأمطرت كأفواه القرب ..
فعجب موسى وقال : إلهي .. سقيتنا .. وما خرج من بين أظهرنا أحد ..
فقال الله : يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم ..
فقال موسى : إلهي .. أرني هذا العبد الطائع ..
فقال : يا موسى .. إني لم أفضحه وهو يعصيني .. أأفضحه وهو يطيعني ..
* * * * * * * * * *
نعم .. غفر الله له ..
ولماذا لا يغفر له العزيز الرحيم وهو الذي قال :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ! لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .. وصح عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى :
( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ..
يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي..
يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) ..
* * * * * * * * *
نعم يأتيه بقراب الأرض مغفرة ..
ومن رحمة الله تعالى .. أنه يرى عبده يعصيه .. فلا يعاجله بالعقوبة ..
بل قد يبتليه بالأمراض والأسقام .. والمصائب والآلام .. ليرده إليه .. ويطرحه بين يديه ..
فيقرع أبواب السماء بأنواع الدعاء .. طالباً كشف الضر ورفع البلاء ..
والعبد كلما كان خائفاً تواباً .. منيباً لربه أواباً ..
كانت رحمة الله أقرب إليه .. وفضل الله أوسع عليه ..
يستجيب الله دعاءه .. ويكشف عنه بلاءه ..
وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ..
ولا أنسى ذلك الشاب الذي عرفته أثناء دراسته الجامعية .. شاباً من أحسن من رأيت منظراً وقواماً .. يتفجر الشباب والصحة من جوانبه .. لكنه كان من عامة الشباب ..
انقطعت العلاقة بيننا بعد تخرجه ..
وذات يوم ..
اتصل بي وطلب مني زيارته وقال : أنا لا أستطيع زيارتك .. ولا تسألني لماذا ! إذا جئتني عرفت السبب ! قال هذه العبارات بصوت حزين ..
وصف لي طريق منزله .. طرقت الباب .. فتح لي أخوه الصغير .. ثم أدخلني إلى غرفة صاحبي ..
فإذا هو على سرير أبيض .. بجانبه عكاز ..وجهاز يُلبس في الرِّجل لأجل المشي .. ومجموعة من الأدوية .. أما هو فجسد متهالك .. ملقى على السرير .. حاول جاهداً أن يقف على قدميه للسلام .. لكنه لم يستطع ..
جلست عند رأسه .. أدافع عبراتي ..
قلت له : عفواً لم أعلم بمرضك من قبل ، ولكن ماذا أصابك ؟ ألم تتخرج من الكلية ؟ ألم تكن تحدثني أنك سوف تتزوج ، وتبني منزلاً .. وتشتري سيارة ..
قال : نعم ، ولكن حدث ما لم يكن في حسباني ..
تخرجت قبل أشهر معدودة ، وعملت في وظيفة مرموقة .. ومضت عليَّ الأيام .. لا يكدر صفوها إلا صداع ينتابني أحياناً ..
ثم بدأ الصداع يشتد .. ويصاحبه ضعف في النظر ..
حتى اشتدّ ذلك عليّ في أحد الأيام ، فذهبت إلى أحد المستشفيات .. فلما قابلني الطبيب ، عمل لي التحاليل .. ثم طلب إجراء أشعة دقيقة على الرأس ..
فلما أجريت الأشعة .. أخذ يقلب أوراقها بين يديه .. وهو يردد : لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم رفع سماعة الهاتف ، واستدعى مجموعة من كبار الأطباء ..
وبدؤوا جميعاً يقلبون نتائج التحاليل .. ويتأملون صور الأشعة .. ويتحدثون باللغة الإنجليزية ، ويسارقونني النظر ..(/5)
مضت قرابة ساعة على هذا الحال .. وأنا في حال لا أُحسد عليه ..
وكنت أقول في نفسي .. المسألة حلّها سهل : حبة أو حبتان من مسكن الصداع مع قطرة للعين ، وينتهي كل شيء !!
وفجأة التفت إلي أحدهم وقال :
اسمع يا فلان .. التقارير والأشعة تدل ! على أنك مصاب بورم في رأسك ، حجمه يزداد بسرعة مُخيفة ، وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل ، وفي أي لحظة قد يزداد الضغط .. فتنفجر عروق العين .. فتصاب بالعمى .. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ .. ثم تموت !!..
صحت بأعلى صوتي ..
يا دكتور !!.. ماذا ؟ ..كيف ؟ ..متى ؟ ..كيف ورم ؟ .. وأنا في هذه السن ؟ ..أعوذ بالله !..سرطان ؟ .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
قال : نعم ، ورم .. ولا بدّ من علاجه بسرعة ؛ الليلة ندخلك المستشفى ونكمل التحليلات اللازمة ، وفي الصباح نزيل جزءاً من عظم الجمجمة ونخرج الورم ثم نعيد العظم مرة أخرى ..
ثم مدّ إليَّ أوراق العملية ! لأوقّعها .. فرفضت توقيعها .. وخرجت ..
وأنا أدافع عبراتي .. وأتفكر .. أين أذهب ؟! إلى البيت ..أم أرجع إلى المستشفى ؟ .. وبعد تفكير سريع قررت أن أذهب إلى مستشفى آخر ..
وبعدما أجريت لي التحليلات والأشعة .. أجبرني الطبيب بما أخبرني به صاحبه .. وطلب المسارعة بإجراء العملية ..
فكانت الصدمة عليّ أهون .. اتصلت بوالدي .. فحضر إليَّ في المستشفى ..
شيخ كبير تجاوز السبعين .. فلما رآني فزع من وجوم وجهي ..
فقلت له : تعلم يا أبي أني أشكو من صداع دائم .. والفحوصات تدلُّ على وجود ورم في الرأس ولا بدّ من إجراء عملية عاجلة ..
سمع أبي هذه الكلمات فصاح :
لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم جلس على الأرض .. وهو يردد : إنا لله وإنا إليه راجعون .. إذاً نرسلك إلى أخيك في أمريكا ..
قال هذه الكلمات وهو يتذكر معاناته منذ سنة كاملة مع أخي الأكبر الذي يعالج منذ سنة من مرض السرطان .. كم رأيت أبي يبكي في الهاتف وهو يكلمه .. كم كان يدعو له آخر الليل ..
أخذت أنظر إلى أبي ودموعه تجري على خديه .. وهو يرى أولاده يموتون بين يديه .. فأخي خالد توفي قبل سنتين في حادث سيارة .. وأخي الأكبر يصارع الموت في أمريكا .. وأنا في أول طريق لا تعرف نهايته ..
سافرت إلى أمريكا ..
وصلنا إلى المستشفى .. عملوا لي الفحوصات بسرعة ..
وفي الصباح أدخلوني غرفة العمليات ..
حلق الطبيب شعر رأسي .. وبعد أن خدرني .. قطع فروة رأسي على هيئة دائرية .. ثم بدأ ينشر الجمجمة .. حتى نزع أعلاها .. ووضع العظم بجانبه .. ثم أخرج الورم ..
مضت ساعة وساعتان .. والعملية تسير على ما يرام ..
وفجأة .. اضطرب الدم في عروق الدماغ .. ثم توقف الدم في الشرايين وأصابتني جلطة في الدماغ .. فاضطرب الطبيب وحرّك - خطئاً – بعض أجزاء المخ .. فأصابني شلل نصفي في الجزء الأيسر من جسمي ..
فلما رأى الطبيب ذلك أنهى ما تبقى من العملية بسرعة .. وأعاد عظم الجمجمة إلى مكانه .. وغطى بالجلد فوقه .. وخيّط المكان ..
ثم حملوني إلى غرفة العناية المركزة الـ ( إنْ عاشَ ) ..
مكثت بعد العملية في غيبوبة تامة لمدة خمس ساعات .. ثم أصابتني جلطة في الرجل اليسرى .. فحملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري وعالجوا الجلطة .. ثم أعادوني إلى غرفة الـ ( إنْ عاشَ ) ..
استقرّت حالتي أربع ساعات ثم أُصبت بنزيف شديد في الرئة ..!! .. حملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري مرة أخرى وعالجوا النزيف .. ثم أعادوني إلى غرفة الـ ( إنْ عاشَ ) ..
ضاق الطبيب بأمري ذرعاً .. أمراض متتابعة .. حالة متقلبة .. مفاجآت لا آخر لها ..
استقرّت حالتي أربعاً وعشرين ساعة .. أحس الطبيب بشيء من الانتعاش والسرور .. وفجأة بدأت درجة حرارة جسدي ترتفع بشكل مخيف .. أجرى الطبيب فحصاً سريعاً عليَّ .. فاكتشف أن العظم الذي استخرج الورم من تحته قد أصابه التهاب شديد ..!!
استدعى الطبيب فريق العمليات .. ثم حملوني كالجنازة .. وألقوني على سرير في غرفة العمليات ..
بدأت أنظر إليهم .. لا أملك من أمري شيئاً ..
رفعت بصري إلى السماء .. بكيت .. وأخذت أردد متضرعاً ..
رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .. ثم رفعت بصري إلى السماء وقلت :
يا أرحم الراحمين .. إن كانت هذه عقوبة .. فأسألك الرحمة والمغفرة .. وإن كانت بلاء فارزقني الصبر على البلاء وعظم لي الأجر والجزاء ..
ثم ذكرت هادم اللذات ..والله لقد عظمت كربتي .. وذهبت قوتي .. وغداً يصبح التراب فراشي ..
عكري محدود .. ونَفَسي معدود .. وجسمي عما قريب يأكله الدود ..
آه إذا زلت يوم القيامة القدم .. وارتفع البكاء وطال الندم ..
ويلي إذا قدمت على من يحاسبني على الصغير والكبير ..
يوم تزل بالعصاة الأقدام .. وتكثر الآهات والآلام .. وتنقضي اللذات كأنها أحلام ..
ثم بكيت .. نعم بكيت .. وتمنيت البقاء في الدنيا .. لا لأجل التمتع بها .. وإنما لأصلح علاقتي بربي جل جلاله ..(/6)
وفجأة .. أقبل الطبيب إليَّ .. وأمر بتخديري تخديراً عامّاً .. ثم انتزع فروة الرأس التي تغطي العظم .. وأخرج العظم ووضعه جانباً .. ثم أعاد الجلد فوق الدماغ من غير عظم !! .. وبعد ساعات ..
أفقت من إغمائي .. تحسست رأسي فإذا هو ليّن .. أين العظم ؟! .. سألت الطبيب : أين بقية رأسي ؟!! فقال لي بكل برود : عظمك يبقى عندنا لتعقيمه .. وبعد ستة أشهر تعالَ إلينا لنعيده مكانه !! ..
مكثت في أمريكا شهراً واحداً ثم رجعت إلى الرياض .. وهاأنذا أنتظر انتهاء الأشهر الستة لأستعيد بقية رأسي !! ..
وقد كنت في غفلة عن حياتي .. منغمساً في أمر معاشي ..
ناسياً الموت والبلى .. حريصاً على الحياة الدنيا ..
لأما اليوم فقد ولدت من جديد ..
ومضت الأيام .. وشُفي من الشلل واستطاع المشي ..
وبعد سبعة أشهر جئته زائراً فإذا وجهه متهلل مسرور ..
وناولني بطاقة يدعوني فيها إلى زواجه ..
وأعرفه اليوم من أحرص الناس على فعل الخير .. والدلالة عليه ..
والدعوة إليه .. والمساعدة في طباعة الكتب وتوزيعها ..
بل وفي الإحسان إلى الضعفاء .. ونجدة الفقراء ..
إلى غير ذلك من وجوه الخير ..
ورُبَّ محنة في طيها منحة ..
* * * * * * * * *
التائبون .. هم من أحب الخلق إلى الله ..
والله أخبر أنه يحب التوابين ..
لكنه يبغض المعتدين الظالمين ..
وكم من عاصٍ يمسي ويصبح ضاحكاً ..
وربه من فوقه يلعنه .. والملائكة تبغضه ..
والصالحون يدعون عليه .. والنار تشتاق إليه ..
أتم الله له سمعه وبصره .. وسلم له عقله وفكره ..
فبارز ربه بالعصيان .. وصار من أنصار الشيطان ..
يعصي ولا يتوب .. ويتتبع الشهوات والذنوب ..
عجباً .. ينعم الله عليك وتعصيه بنعمه ..
هب أنك كنت مشلولاً مقعداً .. أو مريضاً مجهداً ..
أو مسلوب السمع والبصر .. فكيف يكون حالك ؟!
* * * * * * * * *
دخلت على مريض في المستشفى .. فلما أقبلت إليه .. فإذا رجل قد بلغ من العمر أربعين سنة .. من أنضر الناس وجهاً .. وأحسنهم قواماً ..
لكن جسده كله مشلولٌ لا يتحرك منه ذرة .. إلا رأسه وبعض رقبته ..
دخلت غرفته .. فإذا جرس الهاتف يرن .. فصاح بي وقال : يا شيخ أدرك الهاتف قبل أن ينقطع الاتصال ..
فرفعت سماعة الهاتف ثم قربتها إلى أذنه ووضعت مخدة تمسكها .. وانتظرت قليلاً حتى أنهى مكالمته .. ثم قال : يا شيخ .. أرجع السماعة مكانها ..
فأرجعتها مكانها .. ثم سألته : منذ متى وأنت على هذا الحال ؟
فقال : منذ عشرين سنة .. وأنا أسير على هذا السرير ..
* * * * * * * * *
وحدثني أحد الفضلاء أنه مر بغرفة في المستشفى .. فإذا فيها مريض يصيح بأعلى صوته .. ويئن أنيناً يقطع القلوب ..
قال صاحبي : فدخلت عليه .. فإذا هو جسده مشلولٌ كله ..
وهو يحاول الالتفات فلا يستطيع ..
فسألت الممرض عن سبب صياحه .. فقال :
هذا مصاب بشلل تام .. وتلف في الأمعاء .. وبعد كل وجبة غداء أو عشاء .. يصيبه عسر هضم ..
فقلت له : لا تطعموه طعاماً ثقيلاً .. جنبوه أكل اللحم .. والرز ..
فقال الممرض : أتدري ماذا نطعمه .. والله لا ندخل إلى بطنه إلا الحليب من خلال الأنابيب الموصلة بأنفه ..
وكل هذه الآلام .. ليهضم هذا الحليب ..
* * * * * * * * *
وحدثني ثالث أنه مرّ بغرفة مريض مشلول أيضاً .. لا يتحرك منه شيء أبداً ..
قال : فإذا المريض يصيح بالمارين .. فدخلت عليه ..
فرأيت أمامه لوح خشب عليه مصحف مفتوح .. وهذا المريض منذ ساعات .. كلما انتهى من قراءة الصفحتين أعادهما .. فإذا فرغ منهما أعادهما .. لأنه لا يستطيع أن يتحرك ليقلب الصفحة .. ولم يجد أحداً يساعده ..
فلما وقفت أمامه .. قال لي : لو سمحت .. اقلب الصفحة ..
فقلبتها .. فتهلل وجهه .. ثم وجّه نظره إلى المصحف وأخذ يقرأ ..
فانفجرت باكياً بين يديه .. متعجباً من حرصه وغفلتنا .. وشدة مرضه وحسن صحتنا ..
* * * * * * * * *
هذا حال أولئك المرضى ..
فأنت يا سليماً من الأمراض والأسقام .. يا معافىً من الأدواء والأورام ..
يا من تتقلب في النعم .. ولا تخشى النقم ..
ماذا فعل الله بك فقابلته بالعصيان .. بأي شيء آذاك .. أليست نعمه عليك تترى .. وأفضاله عليك لا تحصى ؟
أما تخاف .. أن توقف بين يدي الله غداً ..
فيقول لك .. يا عبدي ألم أصح لك في بدنك .. وأوسع عليك في رزقك ..
وأسلم لك سمعك وبصرك .. فتقول بلى .. فيسألك الجبار :
فلم عصيتني بنعمي .. وتعرضت لغضبي ونقمي ..
فعندها تنشر في الملأ عيوبك .. وتعرض عليك ذنوبك ..
فتباً للذنوب .. ما أشد شؤمها .. وأعظم خطرها ..
أولها عناء .. وأوسطها بلاء .. وآخرها فناء ..
وهل أخرج أبانا من الجنة إلا ذنب من الذنوب ..
وهل أغرق قوم نوح إلا الذنوب ..
وهل أهلك عاداً وثمود إلا الذنوب ..
وهل قلب على قوم لوط ديارهم .. وعجل لقوم شعيب عذابهم ..
وأمطر على أبرهة حجارة من سجيل .. وأنزل بفرعون العذاب الوبيل ..
إلا المعاصي والذنوب ..(/7)
قال الله : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ..
* * * * * * * * *
ولا تعجب .. إذا عُذبت بذنبك في الدنيا ..
فمرضت في بدنك .. أو ابتليت في ولدك ..
أو خسرت في تجارتك .. أو ضاق عليك رزقك ..
أو كثر عليك البلاء .. ولم يستجب منك الدعاء ..
فتتابعت عليك المصائب .. وأحاطت بك المتاعب ..
قال الله : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } ..
فبادر إلى التوبة من ذنوبك ..
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع
كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها
لشهوة أطعتها في مرقد ومضجع
وكم خطى حثثتها في خزية أحدثتها
وتوبة نكثتها لملعب ومرتع
وكم تجرأت على رب السماوات العلى
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي
فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم
قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع
واخضع خضوع المعترف ولُذ ملاذ المقترف
واعص هواك وانحرف عنه انحراف المقلع
فيا خسار من بغى ومن تعدى وطغى
وشب نيران الوغى لمطعم أو مطمع
* * * * * * * * *
ولقد كان الصالحون .. يصبّرون أنفسهم على الطاعات .. وينهونها عن المحرمات .. ويجعلون موعد الراحة الجنات ..
نعم .. يستطيعون أن يزنوا .. أتظنهم عاجزين عن ذلك ؟
ويستطيعون أن يمتعوا أعينهم بالنظر إلى المحرمات .. وأسماعهم بسماع الأغنيات .. ويكثروا أموالهم بالربا ..
يستطيعون ذلك كله .. فما الذي يمنعهم ..؟!
نعم ما الذي يمنعهم ؟!
إنهم يخشون أن يتجرعوا من الحميم .. ويقاسوا العذاب الأليم ..
يخشون من يوم تزيغ فيه الأبصار .. ويشتد غضب الجبار ..
يخافون يوماً كان شره مستطيراً ..
* * * * * * * * *
كان الإمام أحمد بن حنبل يكثر على نفسه التعبد .. والصلاة والقيام ..
فقال له ابنه عبد الله يوماً : يا أبتِ .. متى ترتاح ؟!
فقال : أبو عبد الله : أرتاح .. إذا وضعت أولى قدمي في الجنة ..
* * * * * * * * *
فاجمع قواك لما هناك وغمض * العينين واصبر ساعة لزمان
ما هاهنا والله ما يسوى قلا * مة ظفر واحدة ترى بجنان
يا غافلا عما خلقت له انتبه * جد الرحيل فلست باليقظان
سار الرفاق وخلفوك مع الألى * قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من ترى متخلفاً * فتبعتهم ورضيت بالحرمان
والله لا يرضى بهذا تائب * ذو همة طلباً لهذا الشان
والله ما ينجي الفتى من ربه * شيء سوى التقوى مع الإيمان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت وكنت ذا إمكان
* * * * * * * * *
وعلى التائب أن يصبر على ما قد يصيبه .. بعد التوبة من بلاء .. أو سخرية واستهزاء .. ويتحمل ذلك في ذات الله ..
فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون .. ثم الأمثل فالأمثل .. ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ..
ولا يغتر بكثرة الواقعين في المعاصي ..
ولا يلتفت إلى الهالكين في الشهوات ..
ممن استغواهم الشيطان .. فأصبح أكبر هم أحدهم شهوة فرجه ..
أو فمه وبطنه ..
والله يقول : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ..
* * * * * * * * *
أما الحياة بعد التوبة .. فهي الحياة التي خلقت لأجلها ..
وأوجدك الله لها ..
فأي لذة للحياة .. إذا كنت تشعر في كل لحظة منها .. أنك عدوٌ لله ..
متتبع للشهوات .. واقع في المحرمات ..
وربك الذي يطعمك ويسقيك .. وإذا مرضت فهو يشفيك .. وهو الذي يميتك ثم يحييك ..
بل .. كل شعرة من شعراتك .. وذرة من ذراتك ..
لا تتحرك إلا بإذنه ..
ومن صدق لله في توبته ..
تحول بعدها إلى جندي من جنود هذا الدين .. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
ويحمل همَّ الإسلام ..
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط أحدهم يده فيبايع محمداً صلى الله عليه وسلم ..
ثم يستشعر أنه بهذه البيعة أصبح جندياً يعمل لهذا الدين ..
ذكر ابن إسحاق وأصل القصة في البخاري ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم .. لما تمكن في المدينة ..
بدأ يبعث أصحابه إلى ما حوله من القرى والوديان .. يدعون الناس إلى الإسلام ..
فبعث أحد الصحابة إلى وادي نعمان قرب الطائف ..
فلما وصل ذلك الصحابي إليهم .. فإذا أعراب في بواديهم .. لا يعقلون من الحياة إلا إبلهم وغنمهم ..
فدعاهم إلى الله .. وأبان لهم الدين .. فأعرضوا ..
فانطلق رجل منهم إلى المدينة .. لينظر في خبر هذا النبي ..
انطلق الرجل على ناقته .. حتى وصل إلى المدينة ..(/8)
ثم دخلها .. وأقبل يصيح بين الناس : أين ابن عبد المطلب .. أين ابن عبد المطلب ..
فدله رجل على المسجد .. فتوجه إليه ..
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه يوماً .. إذ أقبل الأعرابي الجلد .. وقد جعل شعره جديلتين ..
فأناخ بعيره على باب المسجد .. فعقله .. ثم دخل المسجد .. وقال :
وصاح بالناس : أيكم ابن عبد المطلب ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \" أنا ابن عبد المطلب \" ..
فقال : محمد ؟
فقال :\" نعم \" ..
فقال : يا ابن عبد المطلب ! إني سائلك .. ومغلظ عليك في المسألة .. فلا تجدن في نفسك علي ..
فقال صلى الله عليه وسلم : \" لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك \" ..
فقال : من رفع السماء ؟ قال : الله ..
قال : فمن بسط الأرض ؟ قال : الله ..
قال : فمن نصب الجبال ؟ قال : الله ..
قال : فأسألك بالذي رفع السماء .. وبسط الأرض .. ونصب الجبال .. آلله بعثك إلينا رسولاً ؟
قال : \" اللهم نعم \" ..
قال : فأنشدك الله .. آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئاً .. وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \" اللهم نعم \" ..
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة .. فريضة :
آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات ؟
آلله أمرك أن نزكي أموالنا ؟
آلله أمرك أن نصوم ؟
ويعدد فرائض الإسلام .. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم نعم ..
حتى إذا فرغ قال :
فأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني بكر بن سعد .. وإني أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وسأؤدي هذه الفرائض .. وأجتنب ما نهيتني عنه .. لا أزيد ولا أنقص ..
ثم انصرف خارجاً من المسجد .. راجعاً إلى بعيره ..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى : \" إن يصدق ذو العقيصتين .. يدخل الجنة \"
ثم أتى بعيره .. فأطلق عقاله .. وانطلق عليه حتى قدم على قومه ..
فاجتمعوا عليه ..
فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى ..
فقالوا : مه يا ضمام .. اتق البرص .. والجنون .. والجذام ..
قال : ويلكم .. إنهما ما يضران ولا ينفعان .. إن الله قد بعث رسولاً .. وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه .. وإني أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً عبده ورسوله .. وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ..
فما زال بقومه .. يدعوهم .. ويستنقذهم من النار ..
حتى ما غابت الشمس ذلك اليوم .. وفي قومه أحد كافر ..
* * * * * * * * *
فهل نجد عند التائبين اليوم .. مثل هذه الحماس .. في نشر الدين .. ومناصرة عن المؤمنين ..
كم من تائب كان في جاهليته رأساً في المنكرات .. والدعوة إلى الشهوات ..
لكنه بعد توبته .. وصلاحه واستقامته .. أصبح ذيلاً بعد أن كان رأساً .. راجلاً بعد أن كان فارساً ..
عجباً !! جبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟!!
لا ينفع الإسلام ولا المسلمين .. لا في دعوة .. ولا إصلاح ..ولا تعليم جاهل .. أو نصح غافل ..
* * * * * * * * *
ومن عظم قدر ربه في قلبه .. حاسب نفسه أشد المحاسبة ..
وعاتبها أعظم المعاتبة ..
قال زيد بن أرقم :
كان لأبي بكر الصديق مملوك .. يعمل .. ويشتري طعاماً كل يوم ..
فأتاه ليلة بطعام .. فتناول أبو بكر منه لقمة ..
فقال له المملوك : مالك كنت تسألني كل ليلة عن الطعام .. ولم تسألني الليلة ..
قال : حملني على ذلك الجوع .. فمن أين جئت بهذا ..؟
قال : مررت بقوم في الجاهلية .. فتكهنت لهم .. ولا أحسن كهانة ..
فوعدوني بأجرة .. فلما أن كان اليوم مررت بهم .. فإذا عرس لهم .. فأعطوني هذا الطعام ..
فقال أبو بكر : أف لك .. كدت تهلكني ..
فأدخل يده في حلقه .. فجعل يتقيأ .. وجعلت لا تخرج ..
فقيل له : إن هذه لا تخرج إلا بالماء ..
فدعا بطست ماء فجعل يشرب .. ويتقيأ ..
حتى رمى بها ..
فقيل له : يرحمك الله !! كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟!!
فقال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ..
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به )
فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة ..
* * * * * * * * *
أما شهيد المحراب .. العابد الأواب .. عمر بن الخطاب .. فله في محاسبة النفس شأن عجيب ..
ذكر صاحب الحلية :
أن عمر بعث إليه أميره في الشام زيتاً في قرب .. ليبيعه ويجعل المال في بيت مال المسلمين ..
فجعل عمر يفرغه للناس في آنيتهم ..
وكان كلما فرغت قربة من قرب الزيت .. قلبها ثم عصرها وألقاها بجانبه ..
وكان بجواره ابن صغير له .. فكان الصغير كلما ألقى أبوه قربة من القرب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان ..
ففعل ذلك بأربع قرب أو خمس فالتفت إليه عمر فجأة ..
فإذا شعر الصغير حسنٌ .. ووجهه حسن .. فقال : ادهنت ؟ قال : نعم .. قال : من أين ؟ قال : مما يبقى في هذه القرب ..
فقال عمر : إني أرى رأسك قد شبع من زيت المسلمين من غير عوض .. لا والله لا يحاسبني الله على ذلك ..(/9)
ثم جره بيده إلى الحلاق وحلق رأسه ..
خوفاً من قطرة وقطرتين ..
* * * * * * * * *
هذا حال المتقين .. الأوابين الخاشعين ..
أما المتهالكون في الشهوات ..
فهم في شقوة في حياتهم .. وحسرة عند مماتهم ..
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } ..
حدثني أحد الأطباء .. قال :
دخلت إلى غرفة العناية المركزة في المستشفى ، ولفت انتباهي شاب في الخامسة والعشرين من عمره مصاب بمرض ( الإيدز ) .. حالته خطرة جداً ..
كلمته برفق فأجاب بكلمات غير مفهومة .. اتصلت بأهله .. فحضرت أمه ..
سألتها عن حال ابنها ..؟
فقالت : كان حاله على ما يرام ، حتى تعرف على تلك الفتاة ..
قلت : هل كان يصلي ؟
قالت : لا .. لكنه كان ينوي أن يتوب ويحج في آخر عمره ( !! ) ..
اقتربتُ من الفتى المسكين .. فإذا هو يعالج سكرات الموت ..
اقتربت من أذنه وقلت : لا إله إلا الله .. قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يفيق وينظر إليّ .. المسكين يحاول بكلّ جوارحه .. الدموع تسيل من عينيه .. وجهه يتغير إلى السواد ..
وأنا أردد .. قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يتكلم بصوت متقطع : آه .. آه .. ألم شديد .. آه .. أريد مسكناً للألم .. آه .. آه ..
بدأت أدافع عبراتي وأقول : قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يحرك شفتيه بصعوبة .. فرحت .. سينطقها الآن .. لكنه قال :
لا أستطيع .. لا أستطيع .. أريد صديقتي .. لا أستطيع ..
الأم تنظر وتبكي .. النبض يتناقص .. يتلاشى .. لم أتمالك نفسي .. أخذت أبكي بحرقة ..
أمسكت بيده .. عاودت المحاولة : أرجوك قل لا إله إلا الله ..
وهو يردد : .. لا أستطيع .. لا أستطيع .. ثم بدأ يشهق .. ويشهق ..
توقّف النبض .. انقلب وجه الفتى أسوداً .. ثم مات .. انهارت الأم .. وارتمت على صدره .. تصرخ .. وتصرخ ..
وأنى ينفعه صراخها .. أو حزنها ونحيبها ..
نعم ..
قد مضى الفتى إلى ربه .. لم تنفعه شهواته .. ولا ملذاته .. طالما اغتر بشبابه .. وجمال سيارته وثيابه .. ثم هو اليوم تجالسه في قبره أعماله .. وتحيط به أفعاله .. ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ..
* * * * * * * * *
قارن حال هذا الشاب .. بذلك الشاب .. الذي بلغ من عمره ستة عشر عاماً .. كان في المسجد يتلو القرآن .. وينتظر إقامة صلاة الفجر ..
فلما أقيمت الصلاة .. رد المصحف إلى مكانه .. ثم نهض ليقف في الصف ..
فإذا به يقع على الأرض فجأة مغمى عليه ..
حمله بعض المصلين إلى المستشفى ..
فحدثني الدكتور الجبير الذي عاين حالته .. قال :
أُتي إلينا بهذا الشاب محمولاً كالجنازة .. فلما كشفت عليه فإذا هو مصاب بجلطة في القلب .. لو أصيب بها جمل لأردته ميتاً ..
نظرت إلى الشاب فإذا هو يصارع الموت .. ويودع أنفاس الحياة ..
سارعنا إلى نجدته .. وتنشيط قلبه ..
أوقفت عنده طبيب الإسعاف يراقب حالته .. وذهبت لإحضار بعض الأجهزة لمعالجته ..
فلما أقبلت إليه مسرعاً .. فإذا الشاب متعلق بيد طبيب الإسعاف ..
والطبيب قد الصق أذنه بفم الشاب .. والشاب يهمس في أذنه بكلمات.. فوقفت أنظر إليهما .. لحظات..
وفجأة أطلق الشاب يد الطبيب .. وحاول جاهداً أن يلتفت لجانبه الأيمن ..
ثم قال بلسان ثقيل : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وأخذ يكررها .. ونبضه يتلاشى .. وضربات القلب تختفي.. ونحن نحاول إنقاذه.. ولكن قضاء الله كان أقوى.. ومات الشاب..
عندها انفجر طبيب الإسعاف باكياً.. حتى لم يستطع الوقوف على قدميه..
فعجبنا وقلنا له : يا فلان .. ما لك تبكي.. ليست هذه أول مرة ترى فيها ميتاً.. لكن الطبيب استمر في بكائه ونحيبه..
فلما .. خف عنه البكاء سألناه : ماذا كان يقول لك الفتى ؟
فقال : لما رآك يا دكتور .. تذهب وتجيء .. وتأمر وتنهى.. علم أنك الطبيب المختص به .. فقال لي :
يا دكتور .. قل لصاحبك طبيب القلب.. لا يتعب نفسه.. لا يتعب.. أنا ميت لا محالة .. والله إني أرى مقعدي من الجنة الآن ..
الله أكبر ..
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } .. أسأل الله أن يختم لنا جميعاً بالصالحات ..
* * * * * * * * *
هذا هو الفرق بين المطيع والعاصي ..(/10)
والفرق الحقيقي يتبين .. { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } ..
* * * * * * * * *
أما الذين صبّروا أنفسهم عن الشهوات ..
ومنعوها من المحرمات .. فقد وَعَدَهم ربهم بجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ..
* * * * * * * * *
تلك الجنة التي جعلها الله لعباده المؤمنين نزلاً ..
وأودعها ما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر ..
فواعجباً لها كيف نام طالبها ؟
وكيف قرت دونها أعين المشتاقين ؟
فيها الذي والله لا عين رأت*كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلب به خطر المثا* ل له تعالى الله ذو السلطان
وبناؤها اللبنات من ذهب وأخرى فضة نوعان مختلفان*
وقصورها من لؤلؤ وزبرجد أو فضة أو خالص العقيان*
حصباؤها در وياقوت كذاك لآليء نثرت كنثر جمان
وترابها من زعفران أو من المسك الذي ما استل من غزلان
سكانها أهل القيام مع الصيا*م وطيب الكلمات والاحسان
وخيامها منصوبة برياضها*وشواطيء الأنهار ذي الجريان
أنهارها في غير أخدود جرت*سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم خمر ثم أنهار من الالبان
* * * * * * * * *
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم*ولحوم طير ناعم وسمان
لحم وخمر والنسا وفواكه*والطيب مع روح ومع ريحان
وصحافهم ذهب يطوف عليهم*بأكف خدام من الولدان
لهم حياة ما بها موت وعافية بلا سقم ولا أحزان
* * * * * * * * *
وروى مسلم .. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة .. فيصبغ في النار صبغة ..
ثم يقال : يا بن آدم .. هل رأيت خيراً قط ..؟؟ هل مر بك نعيم قط ..؟؟
فيقول : لا والله يا رب ..
نعم .. هذا الرجل الذي ذاق من الدنيا أعظم نعمتها .. ومن الحياة غاية لذتها ..
أنساه كل نعيم الدنيا .. غمسة واحدة غمسها في النار ..
فكيف به إذا تردى في دركاتها .. وصارع حياتها .. وتجرع من زقومها .. وغرق في حميمها ..
بل كيف به إذا استغاث فيها .. فقيل له : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } ..
بالله عليك .. هل يذكر في تلك الحال .. فاحشة ارتكبها ..؟ أو أغنية سمعها ..؟ أو خمر شربها ..؟ أو أموال جمعها ..؟
كلا .. بل يقال لهم : { اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ..
قال صلى الله عليه وسلم :
ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا .. من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة ..
فيقال له : يا بن آدم .. هل رأيت بؤساً قط ..؟؟ هل مر بك شدة قط ..؟؟
فيقول : لا والله يا رب .. ما مرَّ بي بؤس قط .. ولا رأيت شدة قط ..
نعم .. أنساه كل بؤس الدنيا .. غمسة واحدة غمسها في الجنة ..
فكيف به .. إذا شرب من أنهارها .. وتقلب في أحضان حورها ..
وسكن في قصورها .. وجالس أنبياءها ..
بل كيف به إذا نظر إليه ربه وهو فيها .. ثم قال لهم :
يا أهل الجنة .. هل رضيتم .. ثم ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله ..
هل يذكر شدة طاعة أداها .. أو حسرة شهوة تركها ..
كلا .. بل هو في نعيم دائم .. لا يفنى شبابه .. ولا تبلى ثيابه ..
قال الله : { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } ..
* * * * * * * * *
نعم .. ولدينا مزيد ..
روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ..
بالله ..
.. ما عذر امرئ هو مؤمن*حقا بهذا ليس باليقظان
تالله لو شاقتك جنات النعيم طلبتها بنفائس الأثمان*
جليت عليك عرائس والله لو*تجلى على صخر من الصوان
رقت حواشيه وعاد لوقته*ينهال مثل نقى من الكثبان
* * * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يرزقنا التوبة والإنابة في الأمور كلها ..
* * * * * * * * *
وقبل الختام .. هنا أربع مسائل مهمة تتعلق بالتوبة ..
المسألة الأولى :
أن المعاصي التي تجب التوبة منها تتفاوت ..
فأكبرها وأعظمها .. الشرك بالله ..
كمن يدعو غير الله في قضاء الحاجات .. ويستغيث بالأولياء في كشف الكربات .. أو يقف عند القبور سائلاً أهلها الحاجات ..
والله يقول : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : تعليق التمائم الشركية .. في الأجساد أو على الأولاد .. أو في السيارات والبيوت .. لدفع العين أو غيرها ..(/11)
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد : ( من علَّق تميمة فقد أشرك ) ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : الحلف بغير الله تعالى :
فلا يجوز الحلف بالكعبة .. ولا بالأمانة .. ولا بالشرف .. ولا ببركة فلان .. ولا بحياة فلان ..ولا بجاه النبي .. ولا بجاه الولي .. ولا بالآباء والأمهات .. كل ذلك حرام ..
وقد روى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال : \"من حلف بغير الله فقد أشرك\" ..
ومن جرى على لسانه شيء من هذا بغير قصد .. فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله، كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله ) ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر الذنوب ..
استعمال السحر والكهانة والعرافة ..
أما السحر فإنه من أكبر الكبائر .. وقد يصل إلى حد كفر ..
ولا يجوز الذهاب إلى السحرة ..
قال صلى الله عليه وسلم كما في المسند : \"من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد\" صلى الله عليه وسلم..
وقال فيما رواه مسلم : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) ..
ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. أو الاتصال هاتفياً على بعض من يدعي معرفة الغيب .. أو سؤالُهم .. كل ذلك حرام ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر الذنوب بل من الكفر .. ترك الصلاة ..
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : \"بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة \" ..
وإذا حكمنا على تارك الصلاة بالكفر .. فهذا يقتضي أنه تنطبق عليه أحكام المرتدين ..
فلا يصح أن يُزوَّج .. فإن عُقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .. وإذا ترك الصلاة بعد أن عُقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة ..
وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لأنها حرام .. ولا يدخل مكة ..
ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث ..
وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .. ويحشر يوم القيامة مع الكفار ..
ولا يدخل الجنة .. ولا يحل لأهله أن يدعوا له بالرحمة والمغفرة لأنه كافر ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر المعاصي ..
الزنا .. وهو أعظم الذنوب بعد الشرك والقتل .. قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ..
وفي عصرنا فتحت كثير من أبواب الفاحشة .. ففشا التبرج والاختلاط ومجلات الخنا .. وأفلام الفحش ..
فنسألك اللهم رحمتك ولطفك .. وسترك وعصمة من عندك ..
طهر قلوبنا .. وتحصن فروجنا .. واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً .. وحجراً محجوراً ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي :
أكل أموال الناس .. أو أكل الربا .. { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ..
وهذا كاف في بيان شناعة هذه الجريمة عند الله عز وجل .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء \" ..
وصح في مستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم \"..
وصح في مسند الإمام أحمد : ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية \" ..
فاتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي : شرب المسكرات .. أو تعاطي المخدرات ..
قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : ( إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال \" قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : \" عرق أهل النار أو عصارة أهل النار \"..
وصح عند الطبراني .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن \" ..
وقد تنوعت المسكرات .. وتعددت أسماؤها .. فأطلقوا عليها البيرة والعرق والشمبانيا .. وغيرَ ذلك ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي : سماع الغناء :
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري معلقاً :\" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... \"..
وصح عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ .. وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف \" ..
ومما زاد البلاء في عصرنا دخولُ الموسيقى .. في أشياء كثيرة كالساعات .. والأجراس .. وألعاب الأطفال .. والكمبيوتر .. وأجهزة الهاتف .. والله المستعان .
وغير ذلك من المعاصي .. ويجب نصيحة أهلها .. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ..
* * * * * * * * *
المسألة الثانية :
أن بعض الناس إذا أراد أن يتوب من معصية سماع الحرام مثلاً .. قال له الشيطان .. لا يصح أن تتوب منها وأنت مقيم على معصية التدخين .. أو التساهل بالصلاة ..(/12)
فإما أم تتوب منها كلها .. أو لا تتعب نفسك ..
وهذا باطل .. فإن لكل ذنب توبة .. فيمكن أن تقبل التوبة من الزنا .. مع وجود معاص أخرى .. ولكن عليه أن يجتهد في التوبة من الذنوب كلها ..
واعلم أن الوقوع في الذنب مرة أخرى بعد التوبة منه .. لا يعني أن التوبة بطلت وأن العبد ييأس ويعود إلى المعاصي .. لا .. بل يسارع إلى توبة أخرى ..
وصح في السنن .. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) ..
* * * * * * * * *
المسألة الثالثة :
شروط التوبة خمسة ..
أولها : الإقلاع عن الذنب فوراً ..
وثانيها : الندم على ما فات ..
وثالثها : العزم على عدم العودة ..
ورابعها : إرجاع حقوق من ظلمهم .. أو طلب البراءة منهم ..
أما الخامس فهو :
أن تكون التوبة في وقت المهلة .. فلا تقبل عند الموت .. ولا تأمن متى ينزل بك ..
ولا تقبل عند طلوع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
المسألة الأخيرة ..
من أهم عوامل الثبات على التوبة .. مفارقة مكان المنكر ..
بل ومفارقة الأصحاب الذين يذكرونك به .. أو يدعونك إليه ..
وفي الصحيحين :
قصة ذلك الرجل .. الذي تلطخ بالدماء .. وقتل الأبرياء .. حتى قتل تسعه وتسعين نفساً .. ثم بدا له أن يتوب .. فشك .. هل يقبل الله توبته .. وهو الذي يتم الأطفال .. ورمل النساء .. ومزق البيوت ..
فسأل عن أعلم أهل الأرض .. فدل على رجل عابد راهب .. فأتاه ..
فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟
فرفع الراهب بصره إليه .. فإذا رجل قد ظلم العباد .. وأكثر الفساد .. حتى قسى قلبه .. وكبر ذنبه .. فقال الراهب : لا .. ليست له توبة ..
فغضب هذا الرجل .. وقتله .. فكمل به مائة ..
ومضى من بين يدي الراهب ..
ثم بدا له أن يتوب .. فسأل عن أعلم أهل الأرض ..
فدُلَّ على رجل عالم .. فأتاه ..
فقال : إنه قتل مائة نفس .. فهل له من توبة ؟
فقال العالم : نعم .. نعم .. ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!!
ولكن .. انطلق إلى أرض كذا وكذا .. فإن بها أناساً يعبدون الله .. فاعبد الله معهم ..
ولا ترجع إلى أرضك .. فإنها أرض سوء ..
فانطلق الرجل التائب .. حتى إذا انتصف في الطريق .. نزلس به الموت .. فخر صريعاً ميتاً ..
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة .. وملائكة العذاب ..
فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً .. مقبلاً بقلبه إلى الله ..
وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ..
فأتاهم ملك في صورة آدمي .. فجعلوه بينهم حكماً ..
فقال : قيسوا ما بين الأرضين .. فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ..
فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي .. وإلى هذه أن تقربي ..
فقاسوه .. فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ..
فقبضته ملائكة الرحمة ..
فانظر كيف قال له العالم : فارق بلدك .. واخرج من أرضك فإنها أرض سوء ..
وكذلك من كان يريد أن يتوب من الزنا .. لا بد أن يفارق أماكن الاختلاط .. ومن أراد أن يتوب من ترك الصلاة .. أو من سماع الغناء .. أو من أكل الربا .. أو يتوب من أنواع الشرك .. كل هؤلاء .. لا بد أن يفارقوا كل ما يعينهم على تلك المعاصي ..
أسأل الله بأسمائه الحسنى .. أن يقسم لنا من خشيته ما يحول به بيننا وبين معصيته .. ومن طاعته ما يبلغنا به جنته .. وأن يغفر لنا ذنوبنا .. وإسرافنا في أمرنا .. وأن يغنينا بحلاله عن حرامه .. وبفضله عمن سواه .. وأن يتقبل توبتنا .. ويغسل حوبتنا .. إنه سميع مجيب .. وصلى وسلم على النبي الأمي محمد .. وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبه :
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي(/13)
ذم التشبه بالكفار
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف التشبه لغة واصطلاحًا.
2- حقيقة التشبه.
3- ألفاظ ذات صلة:
أ- التقليد الأعمى.
ب- الموافقة.
ثانيًا: أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
الصنف الأول: عموم الكفار.
الصنف الثاني: الشيطان.
الصنف الثالث: المبتدعة.
الصنف الرابع: الفساق.
الصنف الخامس: الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال.
الصنف السادس: الحيوانات.
ثالثًا: النهي عن التشبه بالكفار.
رابعًا: حكمة النهي عن التشبه بالكفار:
1- أن أعمال الكفار مبناها على الضلال والفساد.
2- أن مخالفة الكفار تحقّق مجانبتهم ومباينتهم والبعدَ عن أعمالهم.
3- أن التشابه يوقع شيئًا من المشاكلة.
4- تحقيق مبدأ الولاء والبراء.
5- تمييز المسلمين عن غيرهم من الكفرة والملحدين.
خامسًا: أحكام التشبه بالكفار.
سادسًا: ضوابط وقواعد.
سابعًا: الأمور التي ورد النهي فيها عن التشبه بالكفار:
النوع الأول: العقائد.
النوع الثاني: العبادات:
1- في باب الطهارة.
2- في باب الأذان والصلاة.
3- في باب الصيام.
4- في باب الحج.
5- في باب الأعياد والاحتفالات والمهرجانات.
النوع الثالث: الأخلاق والعادات:
أ- الحسد.
ب- دعوى الجاهلية.
ج- اللباس والزينة.
ثامنًا: أسباب وقوع المسلمين في التشبه بالكفار:
أولاً: الأسباب الداخلية.
ثانيًا: الأسباب الخارجية.
تاسعًا: آثار التشبه بالكفار ومظاهره.
عاشرًا: سبل الوقاية من التشبه بالكفار:
أولاً: بناء شخصية الفرد المسلم.
ثانيًا: تحصين وصيانة شخصية المسلم بعد بنائها وتكوينها.
ثالثًا: تحصين وصيانة ديار الإسلام من نفوذ الكفار.
رابعًا: الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه بالكفار:
1- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه العقدي.
2- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه التعبدي.
3- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الأخلاقي.
4- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الثقافي.
خامسًا: دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة.
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف التشبه لغة واصطلاحًا:
التشبه لغة:
قال ابن فارس: "(شبه) الشين والباء والهاء: أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا، يقال: شِبْه وشَبَه وشَبيه، والشّبَهُ من الجواهر الذي يشبه الذهب"[1].
وقال ابن منظور: "الشِّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ: المثل، والجمع أشباه، وأشْبَه الشيءُ الشيءَ: ماثله، وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم... وبينهما شَبَه بالتحريك, والجمع مَشابِهُ على غير قياس... وأشْبَهْتُ فلانًا وشابَهْتُه واشتبه عليّ وتشابه الشيئان واشتبها: أشبه كل واحد منهما صاحبَه... وتشبّه فلان بكذا، وتقول: في فلان شَبَهٌ من فلان، وهو شِبْهُهُ وشَبَهُه وشبيهُهُ"[2].
إذًا التشبه لغة: مصدر تشبه، يقال: تشبه فلان بفلان إذا تكلف أن يكون مثله[3].
والتشبه مأخوذ من المشابهة، وهي المماثلة والمحاكاة والتقليد[4].
التشبه اصطلاحًا:
قال الغزي: "هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبهَ المتشبَّه به وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أو هو عبارة عن تكلّف ذلك وتقصُّده وتعلّمه، وقد يعبر عن التشبه بالتشكل والتمثل والتزيِّي والتحلي والتخلق"[5].
وقيل: "هو تمثُّل المسلم بالكفار في عقائدهم أو عباداتهم أو أخلاقهم أو فيما يختصون به من عادات أو خضوعه لهم بشكل من الأشكال"[6].
2- حقيقة التشبه:
قال ابن تيمية: "التشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر, ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير. فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبّهًا نظر، لكن قد يُنْهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة"[7].
3- ألفاظ ذات صلة:
أ- التقليد الأعمى:
والمقصود بالتقليد الأعمى هو: ما سلكه المسلمون ـ من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص ـ من اتباع الكفار، والأخذ منهم، والتشبه بهم في شتى ألوان الحياة وأنماط السلوك والأخلاق وأشكال الإنتاج؛ في الاعتقاد والتصور والفكر والفلسفة والسياسة والاقتصاد والأدب والفن والثقافة والنظم والتشريع, من غير اعتبار للعقيدة والشريعة الإسلامية والأخلاق الفاضلة، ومن غير إلزام للمنهج الإسلامي الأصيل[8].
ب- الموافقة:
وهي مشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك، سواء أكان ذلك من أجل ذلك الآخر أم لا لأجله[9].
فالموافقة بهذا الاعتبار أعم من التشبه.
قال ابن تيمية: "الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير، وهنا جنس الموافقة يلبس على العامة دينهم، حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر"[10].
[1] مقاييس اللغة (3/243).
[2] لسان العرب (7/23-25)، وانظر: القاموس المحيط (ص 1610).
[3] الموسوعة الفقهية الكويتيه (12/5).
[4] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) د.ناصر العقل (ص 7).(/1)
[5] حسن التنبه لما ورد في التشبه (ق 2/2) مخطوطة بدار الكتب الظاهرية بدمشق والمكتبة السليمانية بتركيا، مصورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, والنقل عنه بواسطة: التدابير الواقية من التشبه بالكفار (1/49).
وقد ذكر أكثر الباحثين المعاصرين أنهم لم يعثروا ـ في حدود اطلاعهم ـ عند العلماء المتقدمين ولا المتأخرين على تعريف اصطلاحي للتشبه بالكفار يبين ماهيته، باستثناء تعريف نجم الدين الغزي, وإنما اكتفوا ـ رحمهم الله ـ ببيان أحكام التشبه بالكفار، معتمدين في ذلك على وضوح معناه اللغوي، وعلى فهمهم الدقيق لمقتضيات النهي عن التشبه بالكفار. انظر: التدابير الواقية من التشبه بالكفار (1/48).
[6] التدابير الواقية (1/50), وانظر: من تشبه بقوم فهو منهم (ص7).
[7] اقتضاء الصراط المستقيم (1/271).
[8] انظر: التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإسلامية، د.ناصر العقل (ص 47-48).
[9] انظر: إحكام الأحكام للآمدي (1/172).
[10] اقتضاء الصراط المستقيم (1/547).
ثانيًا: أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
الذين نهينا عن التشبه بهم أصناف كثيرة:
الصنف الأول: عموم الكفار:
ويدخل فيهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمشركون، والمجوس، والملاحدة وغيرهم.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))[1].
الصنف الثاني: الشيطان:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها))[2].
قال ابن تيمية: "فإنه صلى الله عليه وسلم علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة"[3].
الصنف الثالث: المبتدعة:
جاءت نصوص كثيرة عن سلف الأمة في التحذير منهم، ومن ذلك ما جاء عن أبي قلابة أنه قال: "إياكم وأصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون"[4].
الصنف الرابع: الفساق:
قال القرطبي: "لو خُص أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان والمظنون فيه بسبب العون عليه"[5].
الصنف الخامس: الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال:
تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب[6]، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجّلات من النساء وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم))، قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا، وأخرج عمر فلانة[7].
قال ابن حجر: "قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء، ولا العكس. قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد... قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير"[8].
وقال ابن تيمية: "الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما تختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه، فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان، وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك، أن يكون هذا سائغًا! وهذا خلاف النص والإجماع، فإن الله تعالى قال للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية [النور:31]، وقال: {قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} الآية [الأحزاب:59]، وقال: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33]. فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستندُه مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب، ولا أن يضربن بالخُمُر على الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرجَ الجاهلية الأولى؛ لأن ذلك كان عادة لأولئك، وليس الضابط في ذلك لباسًا معيّنًا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم، أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده، بحيث يقال: إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم، فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابًا طويلات الذيل بحيث ينجرّ خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين...(/2)
فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء، وهو ما ناسب ما يؤمر به الرجال وما يؤمر به النساء، فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور... فإذا اختلف لباس الرجال والنساء فما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب كان للنساء، وكان ضده للرجال.
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان، أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء. فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل الاختلاف، وقد تقدم فساد ذلك... وكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء، ليس المقصود به مجرّد الفرق، بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار، وكذلك أيضًا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضًا مقصود...
والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي به الأمر إلى التخنث المحض، والتمكين من نفسه كأنه امرأة، ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء كانوا يسمون الرجال المغنِّين مخانيث.
والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشابهة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجال، وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفَر[9] المشروع للنساء، وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة.
وإذا تبين أنه لا بد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يميز بين الرجال والنساء، وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب، وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإن كان ساترًا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء، والنهي عن مثل هذا بتغير العادات، وأما ما كان الفرق عائدًا إلى نفس الستر، فهذا يؤمر فيه النساء بما كان أستر... ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك، فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نُهِي عنه من الوجهين، والله أعلم"[10].
الصنف السادس: الحيوانات:
جاءت أحاديث كثيرة في ذم التشبه بالحيوانات والنهي عن ذلك، منها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب))[11].
عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطّن الرجل المقام للصلاة كما يوطّن البعير[12].
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله))[13].
قال ابن تيمية: "التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه؛ في أصواتها وأفعالها ونحو ذلك, مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك. وذلك لوجوه:
أحدها: أنّا قررنا في "اقتضاء الصراط المستقيم" نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه بالأعراب وبالأعاجم وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبينا أن من أسباب ذلك أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها كالكلاّبين والجمّالين، وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة القلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة؟!
بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهيَ عن التشبه بالبهائم مطلقًا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذمومًا بعينه، لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابيًا أو عجميًا خير من كونه كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه لكون ذلك تشبهًا فيما يستلزم النقص ويدعو إليه فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذمومًا ومنهيًا عنه.
الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(/3)
الوجه الثالث: أن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له، كقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف:176، 177] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الآية [الجمعة:5]، وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذمومًا، لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع صار مذمومًا من وجهين، وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذمومًا من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه.
يؤيد هذا الوجه الرابع: وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((العائد في هبته [كالكلب يعود] في قيئه، ليس لنا مثل السوء))[14]. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذمومًا، وإن لم يكن الكلب مذمومًا في ذلك من جهة التكليف، ولهذا ليس لنا مثل السوء، والله سبحانه قد بين بقوله: {سَاء مَثَلاً} أن التمثيل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزه عن مثل السوء، فإذا كان له مثل سوء من الكلب كان مذمومًا بقدر ذلك المثل السوء.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب))[15]، وقال: ((إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا))[16].
فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وأنها منفرة للملائكة، ومعلوم أن المشابهة للشيء لا بد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة، فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه.
وما يستدعي الشياطين وينفر الملائكة لا يباح إلا لضرورة، ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة، لجلب منفعة كالصيد، أو دفع مضرة عن الماشية والحرث، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط))[17].
وبالجملة: فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب الشبه، لكن كون المتشبَّه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبِّه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين والله سبحانه أعلم.
الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال[18]، وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان، وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره، وبين أمر مختص به.
فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين، ولهذا لم يكن من مواقع النهي، وإنما مواقع النهي الأمور المختصة، فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها؛ فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى، وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك وقدر فارق مختصّ, ثم الأمر المشترك كالأكل والشرب والنكاح والأصوات والحركات لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه، ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها، فالأمور المختصة به أولى، مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه، والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج.
وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفًا بالحقيقة للحيوان، وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمّد مماثلة الحيوان وتغيير خلق الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة، وذلك محرم، والله أعلم"[19].
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3456)، ومسلم في العلم, باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (2669).
[2] أخرجه مسلم في الأشربة, باب: آداب الطعام والشراب (2020).
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (1/407).
[4] أسنده عبد الله بن أحمد في كتاب السنة (1/137).
[5] نقلاً عن الموسوعة الفقهية (12/11).
[6] انظر: الكبائر للذهبي (ص108).
[7] أخرجه البخاري في اللباس, باب: إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت (5886).
[8] فتح الباري (10/345).
[9] الخفَر بفتحتين: شدة الحياء.
[10] مجموع الفتاوى (22/146-154) باختصار.
[11] أخرجه البخاري في الأذان, باب: لا يفترش ذراعيه في السجود (822)، ومسلم في الصلاة, باب: الاعتدال في السجود (493).(/4)
[12] أخرجه أحمد (3/428)، وأبو داود في الصلاة (862)، والنسائي في التطبيق (1112)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1429)، وصححه ابن خزيمة (662، 1319)، وابن حبان (2277)، والحاكم (833)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1168).
[13] أخرجه مسلم في الصلاة, باب: الأمر بالسكون في الصلاة (431).
[14] أخرجه البخاري في الحيل, باب: في الهبة والشفعة (6975) واللفظ له، ومسلم في الهبات (1622) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[15] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3225)، ومسلم في اللباس والزينة (2106) عن أبي طلحة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في بدء الخلق, باب: خير مال المسلم غنم... (3303), ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب الدعاء عند صياح الديك (2729) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] أخرجه البخاري في المزارعة, باب: اقتناء الكلب للحرث (2322), ومسلم في المساقاة, باب: الأمر بقتل الكلاب ونسخه (1575) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[18] أخرجه البخاري في اللباس, باب: المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال (5885) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[19] مجموع الفتاوى (32/256-260).
ثالثًا: النهي عن التشبه بالكفار:
التشبه بالكفار في الجملة منهي عنه.
1- قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ * وَءاتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16-19].
قال ابن تيمية: "أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض, ثم جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
وأهواؤهم هو ما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسَرّون به، ويودّون أن لو بذلوا عظيمًا ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحْسَمُ لمادة متابعتهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه، وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول ظهر"[1].
2- وقال سبحانه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].
قال ابن تيمية مبيّنًا وجه دلالة الآية في النهي عن التشبه بالكفار: "فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ}، وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم}؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقًا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه"[2].
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[3].
قال ابن تيمية: "أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرًا مقصودًا للشارع، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود, وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة"[4].
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبّه بقوم فهو منهم))[5].
قال ابن تيمية: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة)[6]. فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك, وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا لها كان حكمه كذلك.
وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهًا"[7].
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/98).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/99).(/5)
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3462), ومسلم في للباس والزينة, باب: في مخالفة اليهود في الصبغ (2103).
[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/185).
[5] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75). قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[6] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/234).
[7] اقتضاء الصراط المستقيم (1/270-271).
رابعًا: حكمة النهي عن التشبه بالكفار:
ذكر العلماء حكمًا وأسبابًا كثيرة في النهي عن التشبه بالكفار، ومنها ما يلي:
1- أن أعمال الكفار مبناها على الضلال والفساد:
قال ابن تيمية: "إن نفس ما هم عليه من الهدْي والخلق قد يكون مضرًا أو منقصًا، فينهى عنه، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص، لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قط.
فإذًا المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرًا بأمر الآخرة، أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا، فالمخالفة فيه صلاح لنا"[1].
2- أن مخالفة الكفار تحقِّق مجانبتهم ومباينتهم والبعدَ عن أعمالهم:
قال ابن تيمية: "إن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشدُّ من ضرر أمراض الأبدان"[2].
3- أن التشابه يوقع شيئًا من المشاكلة:
قال ابن تيمية: "إن الله تعالى جَبَل بني آدم, بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.
ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص كان التفاعل فيه أشد, ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط، فلا بدّ من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلا بد من نوع ما من المفاعلة، ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة...
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي"[3].
وقال أيضًا: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع"[4].
4- تحقيق مبدأ الولاء والبراء:
قال ابن تيمية: "إن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقيق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين"[5].
5- تمييز المسلمين عن غيرهم من الكفرة والملحدين:
قال ابن تيمية: "إن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميّز ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين"[6].
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/198).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/197-198).
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-548).
[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/93).
[5] اقتضاء الصراط المستقيم (1/93).
[6] اقتضاء الصراط المستقيم (1/94).
خامسًا: أحكام التشبه بالكفار:
قال ابن عثيمين: "الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: عبادات، القسم الثاني: عادات، القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم, ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم, فقد يكون ذلك مؤديًا إلى كفره وخروجه من الإسلام.
وأما العادات كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبّه بقوم فهو منهم))[1].
وأما الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يُعدّ من قام بها متشبهًا بهم"[2].(/6)
"إن أحكام التشبه على جهة التفصيل لا يمكن استقراؤها، لأن كل حالة من أحوال التشبه لها حكم يعرض على النصوص وعلى قواعد الشرع من قِبَل أهل العلم والفقه في الدين, ولكن هناك بعض الأحكام العامة التي تنتظم جميع أنواع التشبه في الجملة، لا على جهة التفصيل، على النحو التالي:
أولاً: من أنواع التشبه بالكافرين ما هو شرك أو كفر، كالتشبه في العقائد، والتشبه في بعض العبادات، وكالتشبه باليهود والنصارى والمجوس في الأمور المخلة بالتوحيد والعقيدة، كالتعطيل والإلحاد والحلول, وتقديس الأشخاص من الأنبياء والصالحين وعبادتهم ودعائهم من دون الله، وكتحكيم الشرائع والنظم البشرية، كل ذلك إما شرك وإما كفر.
ثانيًا: من التشبه ما هو معصية وفسق، كتقليد الكفار في بعض العادات، كالأكل باليد الشمال، والشرب بها، والتختم بالذهب، والتحلي به للرجال، وحلق اللحى، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، ونحو ذلك.
ثالثًا: ما هو مكروه، وهو ما تردد الحكم فيه بين الإباحة والتحريم، على سبيل عدم الوضوح في الحكم، أعني أنه قد تتردد بعض أنماط السلوك والعادات والأشياء الدنيوية بين الكراهة وبين الإباحة، فهذا دَفْعًا لوقوع المسلمين في التشبه، يبقى حكمه مكروهًا.
رابعًا: ما هو مباح، وهو ما ليس من خصائصهم من أمور الدنيا، أي: ليس فيه سمة تخصهم وتميزهم عن المسلمين الصالحين، وما لا يجر إلى مفسدة كبرى على المسلمين أو إلى منفعة للكفار تؤدي إلى الصغار للمسلمين، ونحو ذلك. ومن المباح: الإنتاج المادي البحت والعلوم الدنيوية البحتة"[3].
[1] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[2] مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (3/40).
[3] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 20-23).
سادسًا: ضوابط وقواعد:
لكي تكون مسألة التشبه بالكفار واضحة جلية لجميع الناس ذكر العلماء جملة من الضوابط والقواعد الشرعية من خلال استعراض الأدلة من القرآن الكريم ثم من السنة النبوية الصحيحة الواردة في النهي عن تشبه المسلمين بالكفار، وإجماع المسلمين في العصور الفاضلة على ذلك, ومن تلكم الضوابط والقواعد ما يلي:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق أن هذه الأمة لا بد أن تتبع سنن من كان قبلها من الأمم الأخرى.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))[1].
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقَهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم"[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع))، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!))[3].
قال ابن تيمية: "فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم"[4].
قال ابن بطال: "أعلَمَ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من الناس"[5].
قال ابن حجر: "وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم، وسيقع بقية ذلك"[6].
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طائفة من أمته ستبقى مستمسكة بالحق.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))[7]، وفي حديث معاوية رضي الله عنه: ((لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم))[8].
قال ابن تيمية: "أخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم. وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة, [وقد] عُلِم بخبره الصادق أن في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا, وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود، أو شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضًا، بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ"[9].(/7)
"وهذه القواعد لا يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض عند النظر في مسائل التشبه، لأنا لو فصلنا هذه النصوص بعضها عن بعض لتوهم بعض الناس أن المسلمين كلهم سيقعون في التشبه، وهذا لا يمكن أبدًا؛ لأن هذا يناقض حفظ الدين، والله تعالى تكفل بحفظه، ولأن هذا يناقض إخباره صلى الله عليه وسلم بأن في أمته طائفة ستبقى على الحق ظاهرة، كما أنا لو أخذنا بهذا الحديث الآخر وهو: ((ستبقى طائفة)) ولم نأخذ بالحديث الأول وهو: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) لتوهم بعض الناس أن هذه الأمة معصومة من الوقوع في التشبه بالكافرين.
والأمر ليس بهذا ولا بذاك، إنما ستبقى الأمة الأوسط أهل السنة والجماعة، هم الذين على السنة لا يتشبهون. والفرق الأخرى التي افترقت عن أهل السنة والجماعة إنما افتراقها صار بوقوعها في التشبه, فما من طائفة من طوائف الأمة خرجت عن السنة إلا وقعت في شيء من سنن الأمم الهالكة"[10].
ثالثًا: لا يكون التشبه بالكفار إلا بفعل ما اختصوا به من دينهم أو من عاداتهم.
قال ابن عثيمين: "مقياس التشبه أن يفعل المتشبِّه ما يختص به المتشبَّه به. فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئًا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبّهًا، فلا يكون حرامًا من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرمًا من جهة أخرى.
وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال (1/272): وقد كره بعض السلف لبس البُرْنُس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى! قال: كان يلبس ها هنا. اهـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس)) الحديث[11] لكان أولى.
وفي الفتح (1/307) أيضًا: وإن قلنا: النهي عنها ـ أي: عن المياثر الأرجوان ـ من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة والله أعلم. اهـ"[12].
رابعًا: إن جنس المخالفة للكافرين والأعاجم ونحوهم أمر مقصود للشارع، وإن التشبه بهم منهي عنه في الجملة في عامة أمورهم الدينية والدنيوية[13].
خامسًا: أن هناك أمورًا خُصّت بالنهي، ووردت بها السنة بعينها، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والأكل والشرب بالشمال، ونحو ذلك.
سادسًا: أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا ـ نحن المسلمين ـ في دنيانا وآخرتنا.
سابعًا: أنه ليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم إلا وهو إما فاسد وإما ناقص في عاقبته، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون اتباعنا لهم فيه مضرًا؛ إما بدنيانا وآخرتنا أو أحدهما وإن لم ندرك ذلك[14].
ثامنًا: كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصية ينهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدًا للذريعة وحسمًا للمادة.
تاسعًا: لا تشبه فيما اتفقت عليه الملل.
عاشرًا: ما كان منهيًا عنه للذريعة فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة.
حادي عشر: كل فعل يفعله المسلم تشبهًا بالكفار أو يؤدي إلى التشبه بهم فلا يعان عليه.
ثاني عشر: كل تشبه تضمّن تدليسًا فهو محرم[15].
ثالث عشر: يجب التفريق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم.
قال ابن تيمية: "واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقًا يجب اعتباره، وإجمالاً يحتاج إلى تفسير، وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين"[16].
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3456)، ومسلم في العلم, باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (2669).
[2] فتح الباري (6/574).
[3] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة, باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن..)) (7319).
[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/81).
[5] انظر: فتح الباري (13/314).
[6] فتح الباري (13/314).
[7] أخرجه مسلم في الإمارة, باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة...)) (1920).
[8] أخرجه البخاري في المناقب, باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر (3641), ومسلم في الإمارة, باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة...)) (1037).
[9] اقتضاء الصراط المستقيم (1/83).
[10] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 16).
[11] أخرجه البخاري في العلم (134), ومسلم في الحج (1177) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[12] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/47-48).
[13] اقتضاء الصراط المستقيم (1/196، 473).(/8)
[14] القواعد من (4-7)، ذكرها الدكتور ناصر العقل في مقدمة تحقيقه لكتاب اقتضاء الصراط المستقيم (1/49-50).
[15] القواعد من (8-12) ذكرها جميل اللويحق المطيري في كتابه التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي.
[16] اقتضاء الصراط المستقيم (1/410) وما بعدها باختصار.
سابعًا: الأمور التي ورد النهي فيها عن التشبه بالكفار:
الأمور التي ورد النهي عن التشبه بالكفار فيها يمكن حصرها في أنواع أربعة:
النوع الأول: العقائد:
وهي أخطر أمور التشبه, والتشبه بهم فيها كفر أو شرك.
ومن أمثلة التشبه في هذا المجال:
- صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى.
- ادعاء النبوة.
- ادعاء أبوة الله سبحانه لأحد من خلقه، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وكما قالت اليهود: العزير ابن الله. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وما يتفرع عن ذلك من أمور كفرية أو شركية، فإن هذا من الأمور العقائدية[1].
عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل, فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك))[2].
وعن معاوية رضي الله عنه قال: (إن تسوية القبور من السنن، وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تتشبهوا بهم)[3].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[4].
النوع الثاني: العبادات:
وقد ورد في السنة النبوية على جهة التفصيل نصوص كثيرة في النهي عن التشبه بالكافرين في العبادات، ومنها:
1- في باب الطهارة:
عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِ صلى الله عليه وسلم النبيَ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية [البقرة:222]، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعُهُنَّ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما[5].
قال ابن تيمية: "فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه, ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وصفه.
ومجانبة الحائض لم يخالَفوا في أصله، بل خولفوا في وصفه، حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الباب ـ أي: باب الطهارة ـ كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله، حتى أنهم لا ينجسون شيئًا بلا شرع من الله، فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضًا مشروعًا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربةٌ لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"[6].
2- في باب الأذان والصلاة:
أ- مخالفة أهل الكتاب في طريقة النداء للصلاة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة, ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فنادِ بالصلاة))[7].(/9)
وجاء تعليل انصرافه صلى الله عليه وسلم عن البوق والناقوس لكونهما من أمر اليهود والنصارى في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: اهتمّ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القُنْع ـ يعني الشَّبُّور[8] ـ فلم يعجبه ذلك، وقال: ((هو من أمر اليهود))، قال: فذكر له الناقوس، فقال: ((هو من أمر النصارى))، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت فأراني الأذان... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله))، قال: فأذّن بلال[9].
قال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علّل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقًا في غير الصلاة أيضًا لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعدِّدة غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة"[10].
ب- مخالفة اليهود في استقبال القبلة:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلىّ نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة:144]، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس ـ وهم اليهود ـ: {مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجّه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة[11].
قال مجاهد: "قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا, فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويستفرض القبلة، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا! في صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال"[12].
ج- النهي عن قيام المأمومين والإمام قاعد:
عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسْمِعُ الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلّم قال: ((إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا))[13].
د- الأمر بالصلاة في النعال لمخالفة أهل الكتاب:
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))[14].
قال الألباني: "فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود مطلقًا، فهو دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، ثم خص بالذكر مخالفتهم بالصلاة في النعال والخفاف، وليس ذلك من قبيل تخصيص العام أو تقييد المطلق، بل هو من قبيل ذكر بعض أفراد العام"[15].
3- في باب الصيام:
أ- الترغيب في السحور:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))[16].
قال النووي: "معناه: الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحرون, ونحن يستحب لنا السحور"[17].
ب- الترغيب في تعجيل الفطر مخالفةً لأهل الكتاب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون))[18].
قال الطيبي: "في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وأن في موافقتهم تلفًا للدين"[19].
وقال ابن تيمية: "وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى, وإذا كان مخالفتهم سببًا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة"[20].
ج- النهي عن الوصال في الصوم لمخالفة النصارى:(/10)
عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية رضي الله عنهما قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك، وقال: ((إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله: {أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، فإذا كان الليل فأفطروا))[21].
د- مخالفة اليهود والنصارى في صوم يوم عاشوراء:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم[22].
قال النووي: "ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا"[23].
وقد جاء التصريح بمخالفة أهل الكتاب كما في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يومًا، أو بعده يومًا))[24].
قال ابن تيمية: "فتدبر هذا, يوم عاشوراء يوم فاضل، يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى! أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك, ولهذا استحب العلماء ـ منهم الإمام أحمد ـ أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء، وبذلك علّلت الصحابة رضي الله عنهم"[25].
4- في باب الحج:
ومن ذلك مخالفتهم في الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون من جَمْع[26] حتى تشرق الشمس على ثبير[27], وكانوا يقولون: أشرِق ثبير. كَيْما نغير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل أن تطلع الشمس[28].
5- في باب الأعياد والاحتفالات والمهرجانات:
جاءت نصوص كثيرة تدل على عدم جواز موافقتهم في أعيادهم، ومنها:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا} [الفرقان:72].
قال ابن عباس وأبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: الزور أعياد المشركين[29].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر))[30].
قال ابن تيمية: "فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين))، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما)) يقتضي ترك الجمع بينهما, لا سيما وقوله: ((خيرًا منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية"[31].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تعلّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم)[32].
قال الذهبي: "قال العلماء: ومن موالاة الكفار التشبه بهم وإظهار أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم فقد أعانهم على إظهارها, وهذا منكر وبدعة في دين الإسلام، ولا يفعل ذلك إلا كل قليل الدين والإيمان، ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[33]" [34].
النوع الثالث: الأخلاق والعادات:
وردت نصوص في الكتاب والسنة تنهى المسلمين عن التشبه بالكفار في أخلاقهم وعاداتهم، من ذلك:
أ- الحسد:
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
قال ابن تيمية: "فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم، وقد يُبْتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله بعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم"[35].
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء...)) الحديث[36].
ب- النهي عن التشبه بالمشركين في دعوى الجاهلية:(/11)
عن جابر رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعّاب فكَسَع[37] أنصاريًا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟)) ثم قال: ((ما شأنهم؟)) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة))[38].
ج- اللباس والزينة:
قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[39].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا تبد العورة، ولا تستن بسنة الجاهلية)[40].
وعن ابن مسعود قال: (لا يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب)[41].
وقال حذيفة رضي الله عنه: (من تشبه بقوم فهو منهم، ولا يُشْبه الزي الزي حتى يشبه الخلُق الخلُق)[42].
[1] انظر: رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 17)، والتدابير الواقية من التشبه بالكفار (2/462-510).
[2] أخرجه مسلم في المساجد (532).
[3] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/352).
[4] أخرجه البخاري في الجنائز, باب: ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم (1390), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: النهي عن بناء المساجد على القبور (529).
[5] أخرجه مسلم في الحيض, باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها (302).
[6] اقتضاء الصراط المستقيم (1/215-216).
[7] أخرجه البخاري في الأذان, باب: بدء الأذان (604), ومسلم في الصلاة, باب: بدء الأذان (377).
[8] الشبور: البوق. انظر: النهاية في غريب الحديث (2/440).
[9] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: بدء الأذان (498)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/81)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (468).
[10] اقتضاء الصراط المستقيم (1/356).
[11] أخرجه البخاري في الصلاة, باب: التوجه نحو القبلة حيث كان (399) واللفظ له, ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (525).
[12] جامع البيان (3/173-174) طبعة محمود شاكر.
[13] أخرجه مسلم في الصلاة, باب: ائتمام المأموم بالإمام (413).
[14] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعال (652)، وصححه ابن حبان (2186)، والحاكم (956)، وهو في صحيح سنن أبي داود (607).
[15] جلباب المرأة المسلمة (ص 172).
[16] أخرجه مسلم في الصيام, باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (1096).
[17] شرح صحيح مسلم (7/214).
[18] أخرجه أحمد (2/450)، وأبو داود في كتاب الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الفطر (2336)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في تعجيل الإفطار (1698)، وصححه ابن حبان (3503، 3509)، والحاكم (1573)، والنووي في المجموع (6/359)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2063).
[19] انظر: عون المعبود (6/480).
[20] اقتضاء الصراط المستقيم (1/209).
[21] أخرجه أحمد (5/225)، والطبراني في الكبير (2/44)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (4/202-203)، والألباني في جلباب المرأة المسلمة (177).
[22] أخرجه مسلم في الصيام, باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134).
[23] شرح صحيح مسلم (8/13).
[24] أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052 ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508). وصحّ موقوفًا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[25] اقتضاء الصراط المستقيم (1/284).
[26] جمع: مزدلفة.
[27] ثبير: جبل من جبال مكة.
[28] أخرجه البخاري في المناقب, باب: أيام الجاهلية (3838).
[29] انظر: تاريخ بغداد (12/13)، وتفسير القرطبي (13/79)، وتفسير ابن كثير (3/329-330).
[30] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة، باب: صلاة العيدين (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[31] اقتضاء الصراط المستقيم (1/486).
[32] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1609)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/234).(/12)
[33] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[34] تشبّه الخسيس بأهل الخميس (ص 34).
[35] اقتضاء الصراط المستقيم (ص 1/83).
[36] أخرجه أحمد (1/164، 167)، والترمذي في كتاب صفة القيامة (2510)، والبزار (2232)، قال الهيثمي في المجمع (8/30): "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2038).
[37] كسع: ضربه على دبره.
[38] أخرجه البخاري في التفسير, باب: قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ..} (4905)، ومسلم في البر والصلة, باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584).
[39] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3462), ومسلم في للباس والزينة, باب: في مخالفة اليهود في الصبغ (2103).
[40] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/385).
[41] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/105)، وهناد في الزهد (2/438).
[42] انظر: تشبه الخسيس بأهل الخميس (ص 49).
ثامنًا: أسباب وقوع المسلمين في التشبه بالكفار:
"إن ما نلمسه اليوم من ظاهرة تشبه المسلمين بغيرهم من الأمم الكافرة أمرٌ له بواعثه ودوافعه وأسبابه العديدة التي تضافرت على الوصول بالأمة الإسلامية إلى هذه الظاهرة.
ومن هذه الدوافع والأسباب ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي"[1].
أولاً: الأسباب الداخلية:
1- الانحرافات العقدية.
2- الركود العلمي والفكري.
3- التنازع السياسي.
4- التعصب المذهبي.
5- التخلف المادي والاقتصادي.
6- الهزيمة النفسية والانبهار بالحضارة الغربية.
فهذه هي أهم الأسباب الداخلية لوجود ظاهرة تشبه المسلمين بالكفار، وهي أسباب لم يزل بعضها يأخذ بحجز البعض، حتى انتهى الأمر ببعض المسلمين إلى فقدانهم للمناعة الذاتية والقدرة على المقاومة، وشاع بين بعض ضعاف النفوس من المسلمين روح الانهزام الفكري, فأصبحوا بذلك مهيّئين لاستقبال البديل الغربي في العقيدة وفي الشريعة والحكم، وفي الفكر والثقافة والأخلاق، وغير ذلك من المجالات التي غزاها الفكر الوافد[2].
ثانيًا: الأسباب الخارجية:
ومنها مكايد الكفار للإسلام والمسلمين.
"وهذا حاصل من أول ظهور الإسلام حتى اليوم. فالكفار بمختلف مللهم وعقائدهم وأديانهم وأهوائهم كادوا ولا يزالون يكيدون للإسلام.
فكان من مكائدهم إيقاع المسلمين في كثير مما كانوا عليه من أمور العقائد والعادات والأعياد والسلوك.
ولذلك نجد أن أغلب أسباب الافتراق في الأمة هي مكائد الكافرين.
وما من فرقة افترقت عن الأمة إلا ونجد أن من أسباب افتراقها وجود طوائف من الكفار, إما أن يكونوا أسهموا في بثها وترويجها بين أهل الأهواء والبسطاء من المسلمين، أو كانوا رؤوسًا فيها أو من أتباعها.
فمكائد الكفار أصحاب الديانات والملل هي من أهم أسباب وقوع المسلمين في التشبه.
والله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك في مثل قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وفي مثل قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، ومثل قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ} [البقرة:105]، ومثل قوله تعالى، {إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:149]، وقال: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100].
إذًا فالكفار لا شك أنهم حرصوا ـ ولا يزالون من أحرص الناس ـ على صرف المسلمين عن دينهم، وهم الآن يبذلون جهودًا أكثر من أي وقت مضى، وكل مسلم متأمل لواقع المسلمين الآن في العالم كله يدرك تكالب الكفار على الأمة المسلمة اليوم، لمحاولة فرض أحوال وأمور الكافرين من عقائد ومن عادات ومن أنظمة ومن سياسات وأخلاق وغيرها"[3].
وهناك أسباب أخرى نذكر بعضًا منها باختصار وهي كما يلي:
1- الحروب الصليبية الأولى.
2- الغزو الفكري.
3- الاستعمار.
4- الابتعاث الطلابي.(/13)
وهناك سبب داخلي خارجي في وقوع المسلمين في التشبه بالكفار، ألا وهو كيد المنافقين؛ فهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، مظهرين الإسلام ومبطنين الكفر, وهم الأداة الفعّالة والقوية في خدمة الكفار قديمًا وحديثًا، فالمنافقون الذين بين المسلمين لهم أثر كبير في جرّ المسلمين إلى التشبه، سواء منهم من كان كافرًا وأظهر الإسلام للكيد بالمسلمين، أو كان مسلمًا وارتدّ عن دين الله في الباطن، أو كان زنديقًا مظهرًا للإسلام محرّفًا له[4].
[1] التدابير الواقية (1/84).
[2] التدابير الواقية (1/105-106).
[3] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 32-33).
[4] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 34-35) بتصرف.
تاسعًا: آثار التشبه بالكفار ومظاهره:
للتشبه بالكفار آثار وخيمة ومظاهر سيئة تتجلى في عقيدة المسلم وعباداته وسلوكه وأخلاقه وعاداته وتصرفاته وهيئته وحركاته وسكونه وهويته, بل في جميع جزئيات حياته.
يقول ابن تيمية مبيّنًا قاعدة تأثر المتشبِّه بالمتشبَّه به والمقلِّد بالمقلَّد: "إن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط، ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص، كان التفاعل فيه أشد، ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط، فلا بد من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلا بد من نوعٍ ما من المفاعلة.
ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة, فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي, كما أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة"[1].
وقال في موضع آخر: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع"[2].
فمن أبرز هذه المظاهر والآثار ما يلي[3]:
1- انحسار المفهوم الشامل للدين.
2- ضعف الإيمان بالغيب.
3- قيام حركة التشكيك في مصادر العقيدة وإثارة الشبهات حولها.
4- ضعف الرابطة الدينية بين المسلمين, وإحلال الروابط الجاهلية محلها.
5- الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب الكافر.
6- الدعوة إلى تطوير المعاهد الإسلامية بما يضعِف التعليم الديني.
7- محاربة اللغة العربية الفصحى.
8- استيراد النظم والمناهج التعليمية الغربية.
9- تسرب مذاهب الأدب والنقد الغربية إلى الأدب العربي.
10- الاستمداد من النظم والقوانين الغربية.
11- فصل الدين عن السياسة.
12- تغريب المرأة المسلمة بدعوى تحرير المرأة, وذلك بمهاجمة تعدد الزوجات، وبمساواة المرأة بالرجل، ثم بإباحة الاختلاط، ونزع جلباب المرأة المسلمة.
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-549) باختصار.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/93).
[3] انظر: التدابير الواقية (1/133-229) باختصار.
عاشرًا: سبل الوقاية من التشبه بالكفار:
إن من أجلّ نعم الله تعالى على المسلمين أن مَنَّ عليهم بالإسلام, وأرسل عليهم أفضل رسله، وأنزل عليهم أفضل كتبه، وهداهم إلى صراطه المستقيم، وبيّن لهم طريقه القويم, وكذلك أرشدهم كيف يصونون دينهم وعقيدتهم من الشرك والشبهات.
ومعلوم أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين[1]، لذا لم يقتصر الشارع على تحريم التشبه بالكفار فحسب, بل بادر بسد جميع السبل والمنافذ المؤدية إلى ذلك، وبيان ذلك فيما يلي[2]:
أولاً: بناء شخصية الفرد المسلم:
وذلك من خلال تكوين روح الاعتداد بالنفس وروح الجماعة وروح الاعتزاز بالدين لدى المسلم:
1- تكوين روح الاعتداد بالنفس لدى المسلم:
إن مما يدفع بعض الناس إلى تقليد الآخرين والتشبه بهم ومحاكاتهم ضعف شخصيتهم وشعورهم بالهزيمة النفسية من الداخل، مما يجعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم، فيتقاعسون عن القيام بواجباتهم، ويفتقدون الأخذ بزمام المبادرة والمسارعة إلى الأعمال واقتحام العقبات، فيكتفون باتباع النماذج الجاهزة من الكفار الذين يعتقدون فيهم القوة، ويرون أنهم القدوة التي ينبغي أن تحتذى.(/14)
ومن هنا فإن الإسلام في سعيه إلى وقاية المسلم من التشبه بالكفار عمل على تقوية شخصيته الاستقلالية، عن طريق تحقيق فرديته أي: اعتداده بنفسه، والحفاظ على ذاتيتها واستقلالها، وذلك بتحقيق كرامته الإسلامية الإنسانية، وضمان حرياته العامة، وتقرير مسؤوليته الشخصية، وربط قلبه بالله وحده.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لا يكونن أحدكم إمّعة)، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (يقول: إنما أنا مع الناس، إن اهتدَوا اهتديت، وإن ضلّوا ضلَلت، ألا ليوطِّن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر)[3].
قال الزمخشري: "الإمّعة هو الذي يتبع كلَّ ناعق، ويقول لكل أحد: أنا معك، لأنه لا رأي له يرجع إليه"[4].
وقال القاري: "فيه إشعار بالنهي عن التقليد المجرّد حتى في الأخلاق, فضلاً عن الاعتقادات والعبادات"[5].
2- تكوين روح الجماعة لدى المسلم:
اعتنى الإسلام بتكوين روح الجماعة لدى المسلم إلى جانب تكوين روح الاعتداد بالنفس لديه، حتى يتكون المجتمع من أفراد أقوياء متعاونين متحابين متساندين صفًا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص، تتكاتف جهودهم للعمل لهذا الدين والانتصار له وإقامة الأمة الإسلامية القوية المنيعة التي تتأبى على الذل والهوان، وتترفع عن الخضوع للكفار والتبعية لهم.
ومن الطرق التي سلكها الإسلام لتكوين الروح الجماعية لدى المسلم ما يلي:
أ- تقوية أواصر الأخوة الإسلامية بين المسلمين والتحذير من كلّ ما يزعزعها.
ب- تكوين الوعي الكامل بوحدة الأمة الإسلامية وترابط مصالح الفرد والجماعة.
ج- تقرير المسؤولية الجماعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د- التأكيد على الجماعة في الشعائر التعبدية المشروعة أداؤها جماعة كالصلاة المفروضة.
هـ- الدعوة الصريحة إلى لزوم جماعة المسلمين وترك التفرق.
وإذْ يَهْتم الإسلام هذا الاهتمام الكبير بأن يكون المسلم متآلفًا مع الجماعة، فإنه لا يترك هذه الروح الجماعية بدون شروط تجب مراعاتها، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تبين هذه الشروط التي يجب توفرها في تنمية الروح الجماعية، ولعل أهم هذه الشروط أن يكون الاجتماع والتآلف والتآخي على أساس الإيمان والتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ} [التوبة:11].
ومن هذا الباب جاء الحث على اختيار الرفقة الصالحة حتى تكون وسيلة للتعاون على الخير والمحافظة على شخصية المسلم ووقايتها من الذوبان والانحلال الذي ربما جر ـ والعياذ بالله ـ إلى التشبه بالكفار.
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة))[6].
وإن الروح الجماعية وعملية اختيار الرفقة الصالحة إذا تم تكوينهما وترسيخهما في نفس المسلم تكون لهما آثار إيجابية في حياة المسلمين أفرادًا وجماعات ودولاً وشعوبًا، ومن تلكم الآثار ما يلي:
أ- التعلم والتعليم واكتساب الخبرات.
ب- اكتشاف صفات النفس.
ج- التأدب والتأديب.
د- بعث الأمل في النفس وتجديد النشاط.
هـ- التعاون من أجل التمكين لدين الله في الأرض.
و- حفظ الهيبة والكرامة الإسلامية.
ز- بث روح التراحم والتوادد بين المسلمين.
3- تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم:
إن الإسلام في سعيه لتكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم يتعامل مع الفرد من خلال قواه المختلفة: قواه العقلية، وقواه العاطفية، فلا يكتفي بمخاطبة عقله دون وجدانه، ولا بمخاطبة وجدانه دون عقله، بل يتعامل مع هذا وذاك، يتعامل مع العقل لكونه مركز الإدراك والتمييز، ويتعامل مع الوجدان باعتباره وعاء المشاعر والأحاسيس, ويتعامل مع الإرادة لكونها مركز التوجيه واتخاذ القرار النهائي.
يتعامل الإسلام مع الفرد من خلال هذه القوى ليصل إلى تأكيد انتمائه إلى الإسلام بعقائده وعباداته وأخلاقه ومعاملاته، بل أكثر من هذا ليصل به إلى أن يصبح معتزًا بهذا الانتماء إلى الإسلام بمعناه الواسع، فيكون محبًا له، متبعًا لأحكامه ومعرضًا عن اتباع ما سواه من الأديان والمناهج البشرية.(/15)
والمقصود بالاعتزاز بالدين هو شعور المسلم بالرفعة والغلبة والقوة على أعداء الله وآلهتهم، الشعور بعلو الإيمان على الكفر، وبعلو الإسلام على سائر الأديان السماوية وعلى ملل الكفر كلها، والشعور بأن شعوب هذه الأمة الإسلامية هم الأعلون على سائر شعوب الأمم الأخرى ما تمسكوا بالإسلام، وشعور المسلم بمحبة الله تعالى له، وبمحبته هو لله ولرسوله ودينه، ثم توكله على الله سبحانه واستمداد العون منه وحده، قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
والله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاعتزاز بالدين، فقال سبحانه: {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ m إِنَّ وَلِيّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:195، 196].
والاعتزاز بالدين بهذا المعنى لا يتأتى إلا بمعرفة حقيقة هذا الدين، والتعرف على محاسنه ومزاياه، وعلى خصائصه وضرورته للإنسان واستغنائه به عن غيره. ذلك لأن الاعتزاز بالشيء ناتج عن محبته، ومحبة الشيء ناتجة عن معرفته.
ومن طرق تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم غرْس محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الإسلام والأمة الإسلامية في القلوب، وكذلك دعوة المسلمين بالقول الصريح إلى طلب العزة من الله وحده والإعراض عما سواه، وإبراز محاسن أركان الإسلام الأساسية وفضائل هذه الأركان على غيرها في الأديان السماوية، فضلاً عن الأديان الوضعية.
ومن أهم آثار ونتائج تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم ما يلي:
أ- تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل.
ب- اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
ج- إخلاص الولاء لله ورسوله وللمؤمنين.
ثانيًا: تحصين وصيانة شخصية المسلم بعد بنائها وتكوينها:
إن من محاسن الدين الإسلامي حفظ وصيانة شخصية المسلم بعد إعدادها وبنائها وتكوينها، وذلك من الانصياع والذوبان والتأثر بالكفار أو الخضوع لهم أو موالاتهم والركون إليهم.
ومن أهم طرق تحصين شخصية المسلم بعد بنائها ما يلي:
1- التمسك بمبدأ الولاء والبراء:
وذلك لوضع الحاجز النفسي بين الطائفتين، الذي يمنع من تسرب الأفكار واختراق العادات والقيم والتقاليد، لأن ذلك أعون على مفاصلة الكفار.
يقول عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجر ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو"[7].
2- مخالفة الكفار وعدم التشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم وعاداتهم وسائر ما يختصون به.
3- التزام ضوابط وشروط التعامل مع غير المسلمين في حالة السلم:
ومن تلكم الشروط ما يلي:
أ- أن لا يترتب على هذا التعامل مذلة على المسلم ولا على الدين.
ب- أن لا تؤدي إلى ولاية الكافر على المسلم ولا إلى تسلطه عليه.
ج- أن لا تكون فيها موالاة للكافر، ولا تشبه به، ولا ركون إليه، أو نحو ذلك من صور الموالاة.
ثالثًا: تحصين وصيانة ديار الإسلام من نفوذ الكفار:
لم يكتف الإسلام بصيانة شخصية المسلم من التأثر بالكفار عن طريق تطعيمه عقديًا وتعبديًا وأخلاقيًا، وعن طريق رسم المنهج الصحيح لتعامله مع الكفار لمنع تسرُّب أيِّ أثر من آثارهم إليه؛ إذ لا بد أن تتوازى مع عملية صيانة شخصية المسلم عمليةُ صيانة أخرى للبيئة التي يعيش فيها، بمكافحة أسباب انتشار أوبئة الكفر والفسق في هذه البيئة، لذلك اتخذ الإسلام بعض التدابير الواقية، ومنها:
1- منع دخول الكفار إلى بعض الديار الإسلامية وهي حدود الحرمين الشريفين فضلاً عن إقامتهم فيها، كما سمح بدخولهم فقط دون الاستيطان في بعض الديار الأخرى وهي الحجاز، لما لهذه الأماكن من أهمية خاصة في قلوب المؤمنين؛ فهي مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومنطلق الدعوة الإسلامية، فأولى بأن يمنع الكفار من دخولها والاستيطان فيها، للحفاظ على نقاوتها؛ لتبقى مشاعل النور والهدى للمسلمين كلما داهمتهم دياجير ظلمات التشبه بالكفار.
2- سمح الإسلام بدخول وإقامة الكفار في سائر الديار الإسلامية الأخرى سواء كانت إقامتهم إقامة دائمة مؤبدة كأهل الذمة، أو كانت إقامة مؤقتة كالمستأمنين، وذلك تلبية لمطالب الحياة البشرية القائمة على التعاون وتبادل المنافع، وطبقًا لطبيعة دين الإسلام الدعوية التي تقتضي التغلغل بين الأمم والشعوب الأخرى لإبلاغ دعوة الإسلام إليها.(/16)
3- منع تمكين الكفار في دار الإسلام, فإن الأصل في تمكين الكفار في الأرض حصول الفساد والضلال فيها، وتأسيسًا على هذا الأصل سعى الإسلام إلى منع تمكين الكفار في دار الإسلام متخذًا في ذلك التدابير الواقية التالية:
أ- منع تولية الكافر على المسلمين ولاية عامة في الدولة الإسلامية حدًا من تمكين الكفار فيها، وتفاديًا لخضوع المسلمين لسلطانهم المتنافي مع قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ب- قيّد الإسلام ملكية الكفار للعقار في الدولة الإسلامية، حيث ملكهم فقط منافع الأراضي دون رقابها، ومن ثم لا يسمح لهم باستخدام أراضيهم في إقامة المعابد الشركية، أو الملاهي وأماكن المعاصي، كما لا يسمح لهم بالوقف والوصية على هذه الأماكن.
ج- فرض الإسلام قيودًا شرعية على الصادرات من الدولة الإسلامية وعلى الواردات إليها، فلا يسمح بتصدير السلاح وصغار العبيد وكل ما فيه قوة للكفار على حرب المسلمين، لأن ذلك يؤدي إلى تمكينهم من دار الإسلام، كما لا يسمح بتوريد ما هو محرم شرعًا إلى داخل الدولة الإسلامية حفاظًا على عقيدة المسلمين وأخلاقهم.
4- كفل الإسلام لغير المسلمين المقيمين على أرضه كافة الحقوق والحريات التي يحتاجها الإنسان في حياته، وألزمهم في مقابل ذلك بواجبات تهدف إلى كسر شوكتهم في دار الإسلام، ومن هذه الواجبات:
أ- حملهم على الخضوع لأحكام الشرع الإسلامي فيما يتعلق بالمسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية دون ما يتعلق بالعقيدة.
ب- منعهم من الإساءة لشعائر الإسلام، فلا يجوز لهم التعرض لدين الإسلام، ولا لكتاب الله ولا لرسوله بإهانة أو طعن أو تحريف أو تكذيب، كما يجب عليهم الامتناع عن كل ما فيه ضرر بالمسلمين في دينهم ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم.
ج- منعهم من إظهار شعائر دينهم درءًا للفتنة في الدين، ومنعهم من التظاهر بالمنكرات التي يستحلونها وأقروا عليها بموجب عقد الذمة أو الأمان، حيث إن إظهار ذلك مما يغري بعض سفهاء المسلمين بتناوله تشبهًا بهم.
د- منع الذميين من التشبه بالمسلمين في اللباس والهيئات، وفي الأسماء والكنى والألقاب والمراكب, ومن التعالي على المسلمين في المساكن, وألزمهم بالغيار؛ وهو لبس علامة فارقة تميزهم عن المسلمين في المجتمع، حتى يمكن إنزال كل فريق منزلته، ويعطى ما يستحقه من حقوق، ويطالب بأداء ما يجب عليه من واجبات.
رابعًا: الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه بالكفار:
لم يكتف الإسلام بتشريع سبل الوقاية فقط، بل حمّل أيضًا الدعاة والمحتسبين وظائف ومسؤوليات لترجمة تلك التدابير إلى واقع عملي ملموس وإلى نموذج تطبيقي مشاهد. حيث إن التدابير الإسلامية لتكوين شخصية المسلم والتدابير الواقية من تأثر المسلم بالكفار والتدابير الواقية من نفوذ الكفار في دار الإسلام تحتاج إلى من يبيّنها للناس، ويدعوهم إليها بمختلف الوسائل والأساليب، ويقيم الحجج عليها، ويدفع شبه المخالفين عنها، وهذه مهمة الدعاة.
كما أن تلك التدابير تحتاج أيضًا إلى من يَحْمِل الناس على السير وفق مقتضياتها، ويمنعُهم من مخالفتها، ويؤدِّب المنحرفين عنها، ويتخذ في ذلك كافة الوسائل والأساليب الممكنة لتحقيق الأمور المذكورة، ومن هنا تأتي مهمة المحتسبين.
فمن الوظائف والواجبات الملقاة على عاتق الدعاة والمحتسبين في هذا الصدد ما يلي:
1- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه العقدي:
وذلك بما يلي:
أ- كشف النقاب عن الحركات والتنظيمات العاملة على تقويض العقيدة الإسلامية، كمنظمات التنصير والماسونية والصهيونية وغيرها.
ب- الحرص على بيان العقيدة الصحيحة وتوضيحها للأمة، وتحذيرها من الشرك والبدع.
ج- الاحتساب على المظاهر الشركية والبدعية المؤدية إلى الغلو في الدين وفي الأشخاص.
2- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه التعبدي:
يجب على الدعاة بيان العبادة الصحيحة وأحكامها وشروطها، وما يضاد ذلك من البدعة المحدثة في الشعائر التعبدية، وقايةً للأمة من التخبط في أوحال بدع وطقوس الأمم الكافرة, التي طالما تسربت إلى العبادات الإسلامية بسبب الجهل الذي يعيش فيه غالب المسلمين.
3- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الأخلاقي:
وذلك بما يلي:
أ- الكشف عن الوسائل والأساليب المستخدمة لتقويض الدعائم الخلقية للشعوب الإسلامية، فأعداء الإسلام يتسترون وراء شعارات مختلفة، ويلبسون أقنعة متنوعة، ويتسمّون بأسماء متعددة، مع أن الحقيقة والجوهر واحد. وهم يزرعون أفكارهم بالأساليب المختلفة الخبيثة، المباشرة منها وغير المباشرة، فتنتشر هذه الأفكار كانتشار الجراثيم في البيئة.(/17)
وجراثيم الأمراض الخلقية التي يبثها أعداء الإسلام بالوسائل المختلفة الخفية منها والظاهرة قد لا تظهر آثارها في حينها على الأفراد لوجود مقاومة عقدية أو اجتماعية، ولكن مع مرور الأيام تظهر وقد استفحل الأمر واستعصى, مما يجعل الكشف المبكّر والدائم عن تلك الوسائل والأساليب التي يستخدمها أعداء الأمة لزرع جراثيم الأمراض الخلقية في أوساط المسلمين أمرًا له الأهمية القصوى في مواجهة التشبه الأخلاقي.
ومن تلك الوسائل: إنشاء النوادي وبيوت الشباب التي يستخدمونها في ترويج المسكرات والمخدرات، ونشر الأفلام والصحف والمجلات الخليعة والماجنة ونشر تجارة الجنس عن طريق الملاهي والمراقص الليلية وفرق الرقص، وتشجيع السياحة إلى بلاد الكفر، والسماح بالتعري على شواطئ البحار والأنهار، وعن طريق ما يسمونه بالأدب المكشوف، وهو عبارة عن الكتب والقصص الجنسية التي لا تتورع عن تزيين سبل الفساد للشباب.
ب- القيام بتزكية النفوس بالأخلاق الحميدة:
المهمة الثانية التي يجب على الدعاة ـ وهم في مضمار المواجهة مع ظاهرة التشبه الأخلاقي ـ أن يعملوا على تزكية نفوس المسلمين بالأخلاق الحميدة، وذلك بالعمل على إثارة دواعي التمسك بالأخلاق الحميدة لدى الناشئة، وتنفيرهم من دواعي التحلل منها، وبيان مدى فائدة وفضيلة التحلي بالخلق الكريم، وتبصيرهم بعواقب الانحلال الخلقي الوخيمة.
ج- الاحتساب على توريد البضائع المحرمة.
د- القيام بمراقبة المطبوعات.
هـ- القيام بالاحتساب على الكفار المقيمين في ديار الإسلام في مجال الأخلاق.
4- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الثقافي:
مجال الفكر والثقافة من أخطر مجالات تشبه المسلمين بالكفار لكونه سببًا في غيره من مجالات التشبه الأخرى، وقد استخدم الكفار في التغريب الثقافي للشعوب الإسلامية وسيلتين خطيرتين:
إحداهما: المناهج التعليمية، وهي أهم وسيلة لتغيير الشعوب وتشكيلها, وتغيير هويتها حسب الغايات والأهداف التي تراد لها.
ثانيهما: وسائل الإعلام، وهذه لا تقل خطورة عن الوسيلة السابقة، إن لم تكن أخطر منها في عصرنا الحاضر، لسعة انتشارها وسهولة استخدامها ومناسبتها لمختلف فئات الأمة، فقد كان للإعلام في بعض البلاد الإسلامية بوسائله المتعددة دور بارز وخطير ساهمت به مع المناهج التعليمية في طمس معالم الثقافة الإسلامية وتشويهها، وفي التحريض على التشبه بثقافة غير المسلمين وفكرهم ومعارفهم.
ومن هنا كان لا بد لمواجهة التشبه الثقافي من إصلاح المناهج التعليمية ووسائل الإعلام معًا، وذلك بما يلي:
أ- الدعوة إلى التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية والإنسانية.
ب- الدعوة إلى التوجيه الإسلامي للعلوم المختلفة.
ج- الاهتمام بدعوة الأقليات المسلمة في بلاد الكفر.
د- الاحتساب على المدارس الأجنبية القائمة في بلاد المسلمين، وإخضاعها تحت الإشراف والرقابة.
هـ- الاحتساب على أهل الذمة في مجال التعليم والثقافة.
خامسًا:دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة:
لا شك أن التشبه بالكفار انحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين.
قال ابن تيمية: "وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً"[8].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا،،،
* * *
[1] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/352).
[2] انظر: التدابير الواقية من التشبه بالكفار، للدكتور عثمان دوكوري.
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (9/152)، وأبو نعيم في الحلية (1/136-137)، وروي معناه مرفوعا ولا يصح.
[4] الفائق في غريب الحديث (1/57).
[5] انظر: تحفة الأحوذي (6/145).
[6] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد, باب: المسك (5534)، ومسلم في البر والصلة, باب: استحباب مجالسة الصالحين (2628).
[7] الرسائل والمسائل النجدية (3/290).
[8] اقتضاء الصراط المستقيم (1/83).(/18)
... ...
ذم التنافس على أمور الدنيا ... ...
وليد بن إدريس المنيسي ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- قصة رجلين صالحين زاهدين في الدنيا. 2- حقيقة الدنيا. 3- ذم الدنيا. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: قال النبي : ((اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب.
وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدّقا)) [رواه البخاري 3472، ومسلم 1721].
في هذا الحديث الجليل يخبرنا نبينا عن رجلين صالحين من الأمم السابقة اشترى أحدهما من الآخر أرضاً فوجد في هذه الأرض جرّة (إناء كبير من الخزف) مملوءة ذهباً فلم يقع منهما التنافس للحصول على هذا الذهب والاستئثار به دون الآخر، بل لم يقبل كل واحد منهما أن يأخذ من الذهب شيئاً ويترك لصاحبه الباقي خوفاً من أن يكون حراماً، والمال الحرام يّذهب البركة ويجلب غضب الربا ويمنع إجابة الدعاء ويؤدي إلى دخول النار ويكون الحساب عليه يوم القيامة بالحسنات والسيئات حيث لا درهم ولا دينار.
فلصلاح هذين الرجلين ذهبا يحتكمان إلى عالم من علمائهم، وكانت حجة البائع أنه باع الأرض بما فيها، فالذهب ليس له، وكانت حجة المشتري أنه اشترى الأرض ولم يشتر الذهب، ولو كان غيرهما من الناس لكانت هذه الحجج يستدل بها كل طرف على استحقاقه هو للمال دون صاحبه، ولكن الخوف من الله تعالى زهدهما في هذا المال المشتبه فيه.
فجاء الحكم الذي رضي به الطرفان وهو تزويج ابن أحدهما ببنت الآخر، والإنفاق من هذا المال على الأسرة الجديدة التي تقوي أخوة الإيمان بين هاتين الأسرتين الصالحتين، وكذلك التصدق من هذا المال.
وفي شريعتنا لو وجد شخص مالاً مدفوناً من أمد بعيد ولا يمكن الاستدلال على أصحابه فإنه يخرج خمسه في سبيل الله ويأخذ الباقي حلالاً لقوله : ((وفي الركاز الخمس)) [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة].
هذه نظرة الصالحين إلى الدنيا وهذه هي حقيقة الدنيا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ، والدنيا عبارة عن كل ما يشغل عن طاعة الله مما يكون قبل الموت.
فعلى هذا فإن الأموال والأولاد والمناصب إذا استعان بها صاحبها على طاعة الله فليست مذمومة، وإذا شغلت عن طاعة الله أو أدت إلى معصيته فهي مذمومة.
قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [البقرة:200-201].
وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:144].
وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
وقد ورد لفظ (الدنيا) في كتاب الله تعالى في مائة وأربعة عشر موضعاً، وكذلك ورد لفظ (الآخرة) في كتاب الله في مائة وأربعة عشر موضعاً، والدنيا مذمومة في كتاب الله تعالى دائماً.
قال ابن مسعود : (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
عن أبي هريرة أن النبي قال: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)) [رواه ابن ماجه وحسّنه].
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) [رواه مسلم].
ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها.
عن أنس مرفوعاً: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط)) [رواه مسلم].
ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.(/1)
قال: ابن عباس : (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).
وذكر في الخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشياً فنظر، فإذا امرأة عليها من كل زنية فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت: اكشف عن وجهك، فلست بامرأة، إنما أنا الدنيا، فقال لها: ألك زوج؟ قالت: لي أزواج كثير فقال: أكلٌ طلقك؟ قالت: بل كل قتلتُ، فقال: أحزنت على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم، ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
قال الإمام الشافعي:
بلوت بنى الدنيا فلم أرفيهم سوى من غدا والبخل ملء إهابه
فجردت من غمد القناعة صارماً قطعت رجائي منهم بذبابه
فلا ذا يراني واقفاً في طريقه ولا ذا يراني قاعداً عند بابه
غنيٌ بلا مال عن الناس كلهم وليس الغني إلا عن الشيء لا به
وقال الإمام الشافعي أيضاً:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً كمالاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها تنازعتك كلابها
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين. ... ...
... ...
... ...
... ...(/2)
...
ذم الحرص على الشرف والمال ... ...
أحمد فريد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- حديث ما ذئبان جائعان. 2- الحرص على الدنيا والحرص على طاعة الله. 3- الحرص على الشرف أفسد أنواع الحرص. 4- شرف الدين يطلبه أناس بالدنيا والمال. 5- ويطلبه آخرون بالدين. 6- كراهية السلف للشهرة والدنيا والإمارة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي قال: ((ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه))([1]).
فهذا مثل عظيم جدا ضربه رسول الله لبيان فساد دين المرء مع حرصه على المال والشرف أي الرفعة في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بأقل من فساد الغنم التي غاب عنها رعاؤها وأرسل فيها ذئبان جائعان، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل.
فأما الحرص على المال فهو نوعين: أحدهما: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه مع الجهد والمشقة ، ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي يمكن أن يشتري به صاحبه الدرجات العلى والنعيم المقيم ، في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم ، ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره.
قيل لبعض الحكماء: إن فلانا جمع مالا، قال: فهل جمع أياما ينفقه فيها ؟ قيل :لا، قال: ما جمع شيئا.
كان عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه لا تغبطوا حريصا على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غدا في المعاد ثم يتكبر.
وكان يقول: الحرص حرصان حرص فاجع وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته.
قال بعضهم:
لا تغبطن أخا حرص على طمع وانظر إليه بعين الماقت القالي
إن الحريص لمشغول بثروته عن السرور لما يحوي من المال
قال آخر:
يا جامعا مانعا والدهر يرمقه مفكرا أي باب منه يغلقه
جمعت مالا ففكرهل جمعت له يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يأل في طلب مما يؤرقه
كتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصا على الدنيا: أما بعد فإنك قد أصبحت حريصا على الدنيا تخدمها، وهي تخرجك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصا محروما، أو زاهدا مرزوقا، ولا ميتا عن كثير، ولا متبلغا من الدنيا باليسير.
عاتب أعرابي أخا له على الحرص فقال له: يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب من قد كفيته.
وأنشد بعضهم:
حتى متى أنت في حل وترحال وطول سمع وإدبار وإقبال
ونازح الدار لا ينفك مغتربا عن الأحبة لا يدرون بالحال
بمشرق الأرض طورا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بال
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة إن القنوع الغنى لا كثرة المال
النوع الثاني من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم قال الله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا))([2]).
وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي قال: ((اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم))([3]).
أما الحرص على الشرف فهو أشد إهلاكا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف.
والحرص على الشرف نوعان:
أحدهما: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [القصص:82].
وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق، بل يوكل إلى نفسه، كما قال النبي لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها))([4]).
قال بعض السلف: ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: (( إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة))([5]).(/1)
وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري أن رجلين قالا للنبي : يا رسول الله أمرنا ، قال : ((إنا لا نؤتي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرص عليه ))([6]).
ومن دقيق حب الشرف طلب الولايات لمجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه وذلهم في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته، وربما تسبب بعض هؤلاء إلى إيقاع الناس في أمر يحتاجون فيه إليه ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجاتهم إليه وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك ويتكبر به، وهذا لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون [الأنعام:42].
وقال: وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون [الأعراف:94].
فهذه الأمور أصعب وأخطر من مجرد الظلم، وأدهى وأمر من الشرك، والشرك أعظم الظلم عند الله.
ومن دقيق الحرص على الشرف كذلك أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله، ويثنى عليه بها ويطلب من الناس ذلك ، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وهذا يدخل في قوله: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب [آل عمران:188].
ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أفعالهم، وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له، فإن النعم كلها منه.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابا يقرأ عليهم وفيه أمر بالإحسان إليهم وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفي الكتاب ولا تحمدوا على ذلك إلا الله فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري.
وحكايته مع المرأة التي طلبت منها أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات ففرض لاثنتين منهن وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة فشكرته فقال إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هذه الثلاث يواسين الرابعة.
والنوع الثاني من الحرص على الشرف، طلب الشرف على الناس بالأمور الدينية:
وهذا أفحش من الأول وأقبح وأشد إفسادا وخطرا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند اله من الدرجات العلى والنعيم المقيم.
قال الثوري: إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء، وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عنه قال: ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة))([7]).
يعني ريحها، وسبب هذا والله أعلم أن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إليه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة.
ولهذا كان أشد الناس حسرة يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة أو شيء مستقذر لا ينتفع به، فهذا حال من طلب الدنيا بعلمه.
ومن طلب الشرف بالدين أن يطلب العبد بالعلم والعمل والزهد الرياسة على الخلق والتعالي عليهم.
عن ابن مسعود قال: (لا تعلموا العلم لثلاث لتماروا به السفهاء ، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويفنى ما سواه).
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن أول الخلق تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة)) منهم العالم الذي قرأ القرآن ليقال قارئ، وتعلم العلم ليقال: عالم، وأنه يقال له قد قيل ذلك وأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار.
ومن طلب الشرف بالدين الجرأة على الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
قال علقمة: كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيا أقلكم علما.
وعن البراء قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار، من أصحاب رسول الله يسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم من رجل إلا ود أن أخاه كفاه. وفي رواية فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وقال ابن مسعود : أعلم الناس بالفتاوى أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا أفتى فكأنما يقلع ضرسه.
وقال بعضهم: العلم ثلاثة: حلال وحرام ولا أدري.
وقال الإمام أحمد: ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك.
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ثم يقول: ما وجدت أحدا تسأله غيري ؟ وقال: لقد تكلمت ولو وجدت بدّاً ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.(/2)
وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سألت عن مسألة فلا يكن همّك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولا.
وقال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات:1].
فلا ينبغي أولا؛ حتى لا يقدم رأيه وهواه على كلام الله عز وجل وكلام رسوله ، وقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الكذب لا يفلحون [النحل:116].
ومن طلب الشرف بالدين كذلك الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها.
خرّج الإمام أحمد وأبو داود نحوه من حديث أبي هريرة عن النبي وفي حديثه: ((وما ازداد أحد من السلطان دنواً إلا ازداد من الله بعداً ))([8]).
ومن أعظم ما يخشى على من يدخل على الملوك الظلمة، أن يصدقهم بكذبهم، ويعينهم على ظلمهم، ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم.
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن عجرة عن النبي قال: ((سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض))([9]).
ومن طلب الشرف بالدين محبة الشهرة والسعي إليها، كان السلف رضي الله عنهم يكرهون الشهرة أشد الكراهة، منهم أيوب والنخعي وسفيان وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وكذلك الفضيل وداود الطائي وغيرهم من الزهاد والعارفين، وكانوا يذمون أنفسهم غاية الذم، ويسترون أعمالهم غاية الستر.
كان محمد بن واسع يقول: لو أن للذنوب رائحة، ما استطاع أحمد أن يجالسني.
وكان إبراهيم النخعي إذا دخل عليه أحد وهو يقرأ في المصحف غطاه.
وكان أويس وغيره من الزهاد إذا عُرفوا في مكان ارتحلوا عنه.
وقد تبين بما ذكرناه أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه شيء.
واعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط العبد وسفوله، قال الله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:37].
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
ففي درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها، والحرص على ذلك والسعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو قال الله عز وجل:
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [المطففين:26].
وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقب صاحبه غدا حسرة وندامة وذلةً وهوانا وصغارا، فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه، وللزهد فيه أسباب عديدة:
فمنها: نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة، فينظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمكذبين ومن نازع الله رداء الكبرياء.
وفي السنن عن النبي قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يقال له بُوْلس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال ))([10]).
استأذن رجل عمر بن الخطاب في القصص على الناس فقال: إني أخاف أن تقص عليهم فتترفع عليهم في نفسك حتى يضعك الله تحت أرجلهم يوم القيامة.
ومنها: نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإنه من تواضع لله رفعه.
ومنها: وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته، ما يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف مما يجعله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى، وهيبة الخلق لهم في الظاهر ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرياسات والحرص على الشرف كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية قال الله تعالى: ولباس التقوى ذلك خير [الأعراف:25].
وقال: من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً [فاطر:10].
والله عز وجل هو العزيز ومن أراد العزة فليطع العزيز.
كان حجاج بن أرطأة يقول : قتلني حب الشرف ، فقال له سواء: لو اتقيت الله شرفت، وفي ذلك قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
قال بعضهم: من أشرف وأعز ممن انقطع إلى من ملك الأشياء بيده.(/3)
كان الحسن لا يستطيع أحد أن يسأله هيبة له، وكذلك كان مالك بن أنس يهاب أن يسأل حتى قال فيه القائل :
يَدَعُ الجواب ولا يراجع هيبة و السائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان
قال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه على الله ، أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين.
وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: أما بعد فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفا ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى، ومعنى هذا أن العلم الظاهر من تعلم الشرائع والأحكام والفتاوى والقصص والوعظ ونحو ذلك مما يظهر للناس، يحصل به لصاحبه عندهم منزلة وشرف، والعلم الباطن المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته ومراقبته والأنس به والشوق إلى لقائه والتوكل عليه والرضا بقضائه ، والإعراض عن عرض الدنيا الفاني والإقبال على جوهر الآخرة الباقي، كل هذا يوجب لصاحبه عند الله منزلة وزلفى، وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه.
قال الله عز وجل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً أي مودة في قلوب عباده [مريم:56].
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين، اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا، اللهم إنا نسألك الجنة ما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
([1])رواه الترمذي (9/222،223) الزهد : باب حرص المرء على المال والشرف لدينه ، وقال الترمذي هذا حديث صحيح وقال الشيخ عبد القار الأرناؤوط وهو كما قال ورواه في المسند (3/456) والنسائي وابن حبان في صحيحه .
([2])رواه أبو داود (5/15) الزكاة : باب في الشح ، والحاكم (1/11) ، وصححه شعيب الأرناؤوط .
([3])رواه مسلم (16/134) البر والصلة : باب تحريم الظلم ورواه أحمد (3/323) .
([4])رواه البخاري (13/123) باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها ، ومسلم (12/206،207) الإمارة النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها .
([5])رواه البخاري (13/125) الأحكام : باب ما يكره من الحرص على الإمارة وقوله : ((نعم المرضعة)) قال البغوي : مثل ضربه للإمارة وما يصل إلى الرجل من المنافع فيها واللذات وضرب (الفاطمة) مثلا للموت الذي يهدم عليه تلك اللذات ويقطع منافعها عنه .
([6])رواه البخاري (13/125) الأحكام : باب ما يكره من الحرص على الإمارة ومسلم (12/207) الإمارة : النهي عن طلب الإمارة .
([7])أبو داود (10/97،98) العلم : باب في طلب العلم لغير الله ، ورواه ابن ماجة (1/93) في المقدمة : باب الانتفاع بالعلم والعمل به قال عبد القادر الأرناؤوط وفي سنده فليح بن أبي المغيرة الخزاعي أبو يحيى المدني وهو صدوق كثير الخطأ ، ومع ذلك فقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي ،وجود إسناده الحافظ العراقي ، ولكن توبع في جامع بيان العلم (1/190) فهو به حسن .
([8])قال الهيثمي : لم أجده في نسختي من أبي داود – رواه أحمد والبزار وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح خلا الحسن بن الحكم النخعي وهو ثقة – مجمع الزوائد (5/246) .
([9])قال الهيثمي : رواه أحمد والمبزار الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد أسانيد البزار رجال الصحيح ورجال أحمد كذلك – مجمع الزوائد (5/248).
([10])رواه الترمذي (9/1203،1204) أبواب صفة القيامة وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وحسنه الألباني في الجامع وحسنه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول - وطينة الخبال جاء تفسيرها في بعض طرق الحديث قيل يا رسول الله : ((وما طينة الخبال ؟ قال : هي صديد أهل النار)). ... ...
... ...
... ...
... ...(/4)
ذم العُجْب
...
وجدي بن حمزة الغزاوي
...
مكة المكرمة
11/7/1422
... ...
المنشاوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة النبي الذي أعجب بجنده. 2- اغترار الصحابة في غزوة حنين. 3- لا حول ولا قوة إلا بالله. 4- النصر من الله وحده. 5- ذم من يعجب بنفسه أو ماله أو علمه أو قوته الجسدية.
الخطبة الأولى
أما بعد:
عن صهيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همس شيئاً لا أفهمه ولا يخبرنا به، قال : ((أفطنتم لي؟)) يعني: أفطنتم إلى أني أهمس بكلام لا تسمعونه، ولم تفهموا معناه؟، ثم بين منشأ ذلك فقال: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطي جنداً من قومه فأعجب بهم، فقال: من لهؤلاء الجند؟ أو قال: من يقوم لهؤلاء؟ ـ أي من يغلب هؤلاء أعجب بجنده وكثرتهم وقوتهم ـ فأوحى الله عز وجل إليه أن يختار إحدى ثلاث عقوبات ـ عاقبه الله عز وجل وهو نبي كريم لأنه أعجب بكثرة جنده وقوتهم وعددهم، فكان العقاب من الله عز وجل لهذا النبي الكريم، قال: اختر إحدى ثلاث عقوبات: ـ إما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم، أو الجوع، أو الموت، فاستشار النبي أصحابه فقالوا: أنت نبي الله، كل ذلك إليك، فقام إلى الصلاة، وكانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة))[1].
هذا الحديث ـ معاشر المؤمنين ـ حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم، فيه قصة عظيمة ونبأ عظيم.
فهذا النبي أعجب بجنده وعددهم وقوتهم، فعاقبه الله عز وجل، وهذه سنة شرعية ينبغي على العبد أن يؤمن بها، وأن يضعها نصب عينيه، ما أعجب عبد قط بما عنده من قوة أو جاه أو مال أو سلطان إلا عاقبه الله وعاقب من معه، ولو كان فيهم سيد الخلق، وخيرة الصحابة، كما قص الله عز وجل علينا من نبأ نبينا وأصحابه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25].
فبين جل وعلا حال المسلمين يوم حنين، لما فرغوا من فتح مكة، وكان مع النبي صلوات ربي وسلامه عليه جيش عرمرم، قوامه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وانضم إليهم من انضم من مسلمة الفتح، فقالوا وهم يطاردون هوازن وثقيف: لا يهزم هذا الجيش، فأعجبوا بكثرتهم، تشبه عبارة ذلك النبي الذي أعجب بجيشه وقوته، فكان العقاب من الله عز وجل أن هزموا ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25]. انفض الناس عن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وكانت هوازن، أي كان رجالها رماة، فرموا المسلمين بالنبل، فانفضوا وتراجعوا، فأمر النبي العباس وكان جهوري الصوت، أمره أن ينادي، فأخذ ينادي: يا أهل الشجرة، يا أهل سورة البقرة، يا معشر الأنصار، وكلهم يقول: يا لبيك، حتى اجتمعوا إلى رسول الله ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأيدهم جل وعلا بجنود لم يروها[2].
فهذا ـ معاشر المؤمنين ـ هذه سنة من سنن الله عز وجل، لا يعجب إنسان بقوته إلا ويعاقبه الله، والعقاب يكون الهزيمة والذل حتى ولو كانوا أنبياء مرسلين، ولو كانوا خيرة خلق الله أجمعين.
ففي يوم حنين ـ كما ثبت في الصحاح وغيرها ـ اجتمع معه خيرة أصحابه من أهل بدر، وأهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فكان ما كان، حتى فاؤوا إلى الله عز وجل، واعتمدوا عليه.
فذلك النبي خُيّر بين ثلاث عقوبات: ((إما أن يسلّط عليهم عدو من غيرهم، وإما الجوع، وإما الموت، ففزع إلى الصلاة))، يستخير ربه عز وجل ثم قال: ((أي ربّ، أما عدو من غيرنا فلا، وأما الجوع فلا، ولكن الموت)) لأن الموت لا بد منه، فاختار الموت، فقبض فسلط عليهم الموت ، فقتل من جنده في ذلك اليوم سبعون ألفاً، سبعون ألفاً قتلهم الله من جند ذلك النبي الكريم، عقاباً له لأنه أعجب بعدده وبكثرته.
ثم نعود إلى تلك الكلمات التي كان يهمس بها النبي ، فبعد أن قص على أصحابه هذه القصة قال مبينا لهم ما كان يهمس به دبر كل صلاة، كان يقول إذا انصرف من صلاته: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
فكان هذا من أذكاره ، إذا انصرف من صلاته، ورأى من حوله من الصحابة، وتعجبه كثرتهم وشدتهم وقوتهم، فكان يتذكر ما حصل لذلك النبي الكريم، فيتبرأ من الحول، ويتبرأ من القوة، ويقرر هذه الحقيقة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول ـ وفي رواية: بك أحول وبك أصول وبك أجادل وبك أقاتل ـ ولا حول ولا قوة إلا بك))، فكان يتبرأ دبر كل صلاة من الحول والقوة إلا بالله.(/1)
وهذا ـ معاشر المؤمنين ـ أهم أركان النصر، فمتى ما عرف العبد أن ما معه من العتاد ومن القوة لا يساوي شيئاً، وإنما النصر من عند الله، كتب الله عز وجل له النصر المبين، فهؤلاء أصحاب المصطفى بعدما أصابهم القرح يوم أحد، وأصيب منهم من أصيب بلغهم أن أهل مكة تندّموا أنهم لم يجهزوا على النبي ، ولا على أصحابه، وقد كان لهم النصر، فعزم أبو سفيان ومن معه أن يعودوا إلى المدينة، قالوا: هذه فرصتنا بعد أن خسر المسلمون وانهزموا نعود إليهم مدججين بالسلاح فنقضي عليهم، فلما بلغ ذلك النبي صلوات ربي وسلامه عليه بلغه أن الناس قد جمعوا لهم، فجمع أصحابه وأمر خصوصاً من أصيب يوم أحد أن يكون في مقدمة الركب، وخرج إلى حمراء الأسد منطقة قرب المدينة، فأنزل الله عز وجل مثنياً على عباده الذين استجابوا لرسوله من بعد ما أصابهم القرح، أثنى عليهم فقال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[3] [آل عمران:173].
فبين جل وعلا ـ معاشر المؤمنين ـ حال أولئك النفر الكرام وكيف أنهم يبرؤون من الحول والقوة إلا بالله، وأنهم مهما فعلوا وانتصروا فإنهم يرجعون ذلك إلى فضل الله وقوته.
يوم بدر ـ كما ثبت في الصحاح وغيرها ـ أخذ النبي حفنة من تراب، وقذف بها في وجوه القوم وقال: ((شاهت الوجوه))[4]، وتكرر نفس الأمر يوم حنين[5]، فأخبر الله عز وجل بحقيقة ينبغي أن تكون نصب كل عين مؤمنة: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
فهذا أمر ـ معاشر المؤمنين ـ ينبغي أن يتربى عليه العبد المؤمن، وأن يعلم أن النصر من عند الله عز وجل، وأن المسلم إذا أخلص لله واعتمد عليه وتوكل عليه، وتبرأ من الحول والطول والقوة، واستمسك بالعروة الوثقى، فإن الله عز وجل ينصره لا محالة، وما انتصر المسلمون في غزوة أيام المصطفى كانوا فيها أقوى من العدو أو أكثر عدداً، فكان صلوات ربي وسلامه عليه يهمس دبر كل صلاة بهذا الدعاء الذي ينبغي أن ترطب به لسانك ـ أيها العبد المؤمن ـ دبر كل صلاة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد [23927] ، وابن حبان [1975]، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
[2] أخرج هذه القصة مسلم في الجهاد [1775] من حديث العباس رضي الله عنه.
[3] انظر : تاريخ خليفة بن خياط (1/74) ، وتاريخ الطبري (2/75) ، والبداية والنهاية (4/49).
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (13/442 ـ446) من أوجه متعددة.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد [1777] من حديث سلمة بن عمرو رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إذا أعجب العبد بنفسه ـ معاشر المؤمنين ـ بأي صورة كانت عاقبه الله عز وجل، فمن أعجب بقوته قد سمعتم ما حصل له، وإن كان نبياً مرسلاً مكرماً عند ربه جل وعلا.
ومن يعجب بماله وثروته كذلك يعاقبه الله عز وجل كالذي دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً [الكهف:35]. فعاقبه الله عز وجل.
ومن يعجب بعلمه وفهمه لشرع الله عز وجل يعاقب أيضاً كما جاء في صحيح البخاري: ((قام موسى خطيباً في بني إسرائيل، وقال: لا أعلم على وجه الأرض أحداً أعلم مني ـ فأعجب صلوات ربي وسلامه عليه بما معه من علم وما آتاه الله من وحي ـ فأوحى الله إليه: بلى، عبدنا خضر))، فأمره أن يذهب إلى الخضر، وأن يتعلم منه، وتعلم كليم الله من أحد أنبياء الله، ووقف محتاراً أمام الأمور التي كان يفعلها الخضر، من خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، حتى بين الله عز وجل له أن فوق كل ذي علم عليما[1].
ومن أعجب بقوته الجسدية كذلك يعاقبه الله ويذلّه ولو كان كريماً، ويخالف مراده وإن كان نبياً، فهذا سليمان نبي الله أقسم أنه ليأتين مائة من نسائه، كل واحدة منهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فلم يستثن ولم يُحل الأمر إلى مشيئة الله وقوته وإذنه جل وعلا، فعوقب فلم تحمل منهن واحدة، إلا واحدة أتت بنصف إنسان[2].(/2)
وهكذا ـ معاشر المؤمنين ـ لو ذهبنا نستعرض سيرة كل من يعجب بنفسه ولو قليلاً، وينسى أن الحول والطول بيد الله ومن الله عز وجل، إن كان جاهاً أو مالاً أو علماً أو نصراً أو قوة، فكلها بيد القوي العزيز جل وعلا، فكن عبداً لا حول لك ولا قوة إلا بالله، وكن عبداً مطيعاً لربك جل وعلا، يكون سمعك الذي تسمع به، وبصرك الذي تبصر به، ويدك التي تبطش بها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
[1] القصة أخرجها البخاري في التفسير [4727] ، ومسلم في الفضائل [2380] من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه.
[2] القصة أخرجها البخاري في النكاح [5242] ، ومسلم في الأيمان [1654] ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/3)
...
ذو القرنين ويأجوج ومأجوج ... ... ...
محمد حسان ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- جدد إيمانك 2- قسوة القلب وقلة الخوف من علاّم الغيوب 3- أين المصير يوم القيامة 4- صفة النار 5- دعوة للتوبة ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فحياكم الله جميعا أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعا من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله:
في رحاب الدار الآخرة:
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي الهدف منها:
تذكير الناس بحقيقة الدنيا للإنابة والتوبة إلى الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
وهذا هو لقاءنا السادس من لقاءات هذه السلسلة، وحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن علامة من علامات الساعة الكبرى التي ذكرها المصطفى في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أُسَيد الغفاري قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال المصطفى : ((ما تذاكرون))؟ فقالوا: نذكر الساعة، قال المصطفى: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم))([1]).
تكلمنا عن الدجال ونزول عيسى عليه السلام وحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن يأجوج ومأجوج.
وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم اليوم عن يأجوج ومأجوج في العناصر التالية:
أولاً: تأصيل لغوى شرعي مختصر.
ثانياً: بعث النار.
ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج.
رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة.
خامساً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب .
أولاً: تأصيل لغوى وشرعي مختصر:
أيها الأحبة: لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخباراً عجيبة وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!!
وهذه الأخبار والروايات لا تعدو أن تكون مجرد خرافات وأوهام وخيالات وأساطير، لأنها أُخِذَت من الإسرائيليات.
أُخِذَت من غير المصادر اليقينية أي القرآن والسنة النبوية الصحيحة، فلا يجوز لأحدٍ بحال أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن أو بالدليل الصحيح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فلسنا في حاجة على الإطلاق لأن نلهث وراء الإسرائيليات والأخبار العجيبة والموضوعة لنتكلم عن يأجوج ومأجوج أو عن ذي القرنين ،وإنما يجب علينا جميعا أن نقف عند النص اليقيني في كتاب ربنا وفي سنة الحبيب نبينا ففيه الغنى.
يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم عليه السلام يتميزان عن بقية البشر بالاجتياح المروع والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل.
وقال المحققون من أهل اللغة نقلا عن ابن منظور في لسان العرب وغيره قالوا :
يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار أي من التهابها ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة والحرارة .
فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الأرض .
هذا هو التأصيل اللغوي الذي لابد منه بداية حتى لا نطلق لخيالنا العنان لنلهث وراء الخرافات والأساطير والأوهام .
لذا أخبرنا المصطفى أن يأجوج ومأجوج هم بعث النار يوم القيامة وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء:
ثانياً: بعث النار:(/1)
ففي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((يقول الله يوم القيامة: يا آدم فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول الله جل وعلا: أَخْرِج بعث النار فيقول آدم عليه السلام: وما بعث النار يا رب؟، فيقول الملك: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم، وواحد إلى الجنة)) فشق ذلك على أصحاب النبي المختار، وفي رواية ((فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة))، وفي رواية ((فبكى أصحاب الرسول وقالوا: يا رسول الله وأينا ذلك الواحد))؟ فقال المصطفى :((أبشروا! أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد)) ثم قال المصطفى : ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة)) فكبرنا. قال: ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) فكبرنا . فقال المصطفى في الثالثة: ((والله لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)).
أمة النبي أمة مرحومة.. أمة النبي أمة ميمونة . ... ... ... ...
و كدت بأخمصي أطأ الثُّريا ... ... ومما زادني فخرا وتيها ... ...
وأن أرسلت أحمد لي نبيا ... ... دخولي تحت قولك يا عبادي ... ...
اسجد له شكراً أنك من أمة الحبيب محمد ، فأمة المصطفى أمة مرحومة أثنى عليها ربها وأثنى عليها نبيها .
قال الله لها: كُنتُم خَيرَ أُمَّةِ أُخرِجتْ لِلنَّاسِ .
قال الله لها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
وفى الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه بسند حسن قال المصطفى : ((أنتم موفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا))([2]).
أنتم خير الأمم.. أنتم أكرم الأمم على الله جل وعلا .
بل وفي صحيح البخاري من حديث أبى سعيد الخدري أن الحبيب النبي قال: ((يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم يا رب. فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقول قوم نوح: لا ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الحق جل وعلا: وهو أعلم، من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أدعى فأشهد عليكم ))([3]).
وذلك قول الله جل وعلا : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .
بل ومن الأحاديث الممتعة التي تبين فضل السابقين واللاحقين من أمة سيد النبيين ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبي أتى المقبرة يوما فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)) ثم قال الحبيب 0: ((وددت أنَّا قد رأينا إخواننا)) فقال الصحابة: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال : ((أنتم أصحابي، وإخواننا قوم لم يأتوا بعد)) فقال الصحابة: فكيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال المصطفى : ((أرأيت لو أن رجلا له خيلُُ غُرُّ مُحَجَّلَة بين ظَهْرَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ (أي سود) ألا يعرف خيله))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال المصطفى : ((فأنهم يأتون غُراً محجلين من الوضوء ))([4]).
أحبتي في الله:
أقف الآن وحضراتكم مع هذا الحوار الجميل بين ذي القرنين وقوم تعرضوا للفساد والإيذاء على أيدي يأجوج ومأجوج وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز .
ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج:(/2)
لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن ألا وهي سورة الكهف قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:83-98].
هذه هي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج وأقول لك أن قصة ذي القرنين هي الأخرى قد نُسِجَ حولها من الأساطير والخرافات والخيالات والأوهام ما يندى له جبين التحقيق خجلاً وحياءً.
لا يجوز لأحد يحترم علمه وعقله أن يتجاوز النص القرآني في قصة ذي القرنين فما ذكره الله في القرآن عن ذي القرنين فيه الغنى وفيه الكفاية، ولسنا في حاجة لأن نلهث وراء الإسرائيليات لننسج حول شخصية ذى القرنين الأساطير والخرافات والأوهام .
والآن أدعوك لنتجول سوياً لنتعرف على قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج بالنص القرآني والتفسير اليسير.
ذو القرنين عبد صالح اختلف أهل التفسير في نبوته لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك.
والقصة تبدأ بسؤال المشركين للنبي المصطفى ويأتي الجواب من الله جل وعلا: "قل" يا محمد، وكلمة "قل" يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة قل التلقينيه أي القصة ليست من عند رسول الله بل هي وحي من عند الله جل وعلا: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا : كلمة " منه " التبعيضية: أي سأتلوا عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيراً لذكرها لنا فلنقف عند ما ورد في القرآن وما ثبت في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض : تدبر ... فمن الذي مَكَّنَ لذي القرنين؟
فالتمكين إن نقبت عنه في القرآن سترى أنه في كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصل في القلوب قاعدة إيمانية .
فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، فيجب علينا جميعا أن نعلق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب فهذا من حقيقة التوكل على الله .
لا تسود أمة إلا بإذن الله ولا تزول أمة إلا بإذن الله .
قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا . أخذ بهذه الأسباب والوسائل للتمكين والنصر والفتح والظهور .
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ [الحج:41].
فهناك من الأمم من يمكن الله لها فتأخذ بأسباب التمكين فيزيدها الله ثباتا وتمكينا فإن فرطت أذهب الله عنها التمكين. وهناك من الناس من إذا مكن الله له أخذ بوسائل التمكين فزاده الله رفعة ونصرا فإن فرط في هذه الأسباب والوسائل أمر الله عز وجل بزاوله وهلاكه .
وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . أعطاه من الأسباب ما يستطيع أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقا وغربا .(/3)
يبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا .
ومن المعلوم أنه ليس للشمس مشرقاً واحداً ولا مغرباً واحداً بل لها عدة مشارق ومغارب .
قال الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40].
فالشمس لها مشارق ومغارب بحسب فصول السنة وأيامها وشهورها، لها مشارق ومغارب بحسب المكان، لها مشارق ومغارب بحسب رؤية الرائي إلى قرص الشمس أثناء الشروق أو الغروب .
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا .
فبين ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم، فقال كما ذكر في كتاب ربنا: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا .
وأما من ظلم نفسه بالشرك وعدم اتباعي فسوف أعذبه وله عند الله العذاب العظيم، أما من اتبعني وآمن بما جئت به ووحد الله واستقام على منهج الله فله الحسنى وهى الجنة، أما من ناحيتي فسنقول له يسرا .
ثم انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية :
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا . لا يحمى هؤلاء الناس والقوم شيء على الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا : أي علم الله عز وجل كل ما يدور في قلبه وفي نفسه.
وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ والسدين: الجبلين العظيمين .
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا .
لا يعرفون لغة ذي القرنين أو لا يستطيعون أن ينفتحوا على غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون على أنفسهم، تعرضوا إلى أشد الهجمات وأعنف الضربات على يدي يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل توسلوا إليه وانطلقوا وقوفا بين يديه وقالوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا .
هؤلاء القوم يقولون لذي القرنين هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد على أن تبنى لنا سدا منيعا يحمينا من يأجوج ومأجوج .
فرد عليهم بزهد وورع وقال: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ .
لقد أعطاني الله عز وجل من وسائل التمكين ما أغنانى به عن مالكم ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم ولكن!
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . أي قال بلغة العصر: التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد ولإقامة هذا المشروع، سنتكفل نحن بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال، في حاجة إلى عمالة يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا .
وبدأ ذو القرنين المهندس البارع الذي سبق علماء الهندسة المعاصرين بعدة قرون .
أمر بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع .
ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ : أي اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلما وضعت قطع الحديد حتى ساوت قمة الجبلين قال: انفخوا النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطناناً من الحديد لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، اشتعلت النيران تحت هذا الحديد بين السدين في مكان ضيق، يريد أن يسد على يأجوج ومأجوج الطريق الذي ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة على أمرها .
فأشعل النيران حتى انصهر الحديد وذاب بين السدين أي بين الجبلين، فأمر ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر .
فلما انصهر النحاس أمرهم بصب النحاس على الحديد فتخلل النحاس الحديد فأصبح النحاس والحديد معدناً واحداً ليزداد صلابة وقوة فلا تستطع يدى يأجوج ومأجوج أن تتسلقه أو أن تنقبه .
وبذلك يكون ذو القرنين قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس فلما ساوى بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس ليبين لنا سمات القيادة الفذة الناجحة التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط .
التي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال.(/4)
ذو القرنين يبين لنا سمات القيادة الناجحة، وما أحوج الأمة إلى هذه القيادة الفذة، فلما نظر إلى هذا السد العظيم لم تسكره نشوة القوة والعلم، لم يقل فن الإدارة!!
لم يقل: إنما أوتيته على علم عندي!! وإنما نسب الفضل لصاحب الفضل جل وعلا فقال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
درس عظيم .. هذا رحمة من ربي ثم بين للحضور معتقده الصافي في الإيمان بالبعث والإيمان بيوم القيامة فقال لهم إن الذي أمر ببناء هذا السد هو الله، وأن الذي أمر بحجز يأجوج ومأجوج هو الله، وأن الذي سيأذن لهم بالخروج هو الله، وحتما سيأتي يوم على هذا السد المنيع ليجعله الله عز وجل دكاء أي ليسويه بالأرض وذلك لا يكون إلا بين يدي الساعة كما سيسوى جبال الأرض كلها بالأرض .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا .
هكذا يبين ذو القرنين العقيدة الصافية في الإيمان بالبعث، في الإيمان بيوم القيامة وعلامته الكبرى حين يأذن الحق تبارك وتعالى ليأجوج ومأجوج في الخروج حينئذ يستطيعون أن ينفذوا هذا السد ويخرجوا وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء:
رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة:
في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي دخل عليها يوما فزعا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بأصبعه السبابة والإبهام فقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله أَنهلِكُ وفينا الصالحون فقال المصطفى :((نعم إذا كَثُرَ الخبث))(4).
يهلك الصالح والطالح ويبعث الله الصالحين والطالحين على نياتهم .
وتدبر معي هذا الحديث: الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين وأقر الحاكمَ الذهبيُ والألبانيُ في السلسلة الصحيحة من حديث أبي هريرة أن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى قال: ((إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قالوا: ارجعوا فستحفرونه غداً فيرجعون فيعيد الله السد أشد مما كان، حتى إذا أراد الله أن يبعثهم خرجوا يحفرون السد فقال الذي عليهم إذا ما رأوا شعاع الشمس: ارجعوا وستحفروه غدا إن شاء الله تعالى فيعودون فيرون السد كهيئته التي تركوه عليها فيحفرونه ويخرجون))(5)
وفي رواية مسلم في حديث النواس بن سمعان ((فيمرون على بحيرة طبرية فإذا مَرَّ أوائل يأجوج ومأجوج شربوا ماء البحيرة كله فإذا مر آخرهم قال: لقد كان في هذه البحيره ماء)).
فيخرجون فيخاف الناس ويتحصنون منهم في الحصون، يتركون لهم الشوارع والطرقات لا قدرة لأحد بقتالهم كما سأذكر في رواية النواس بن سمعان قال المصطفى : ((أوحى الله إلى عيسى: يا عيسى إني قد بعثت قوما (أي يأجوج ومأجوج) لا يدان لأحد بقتالهم (أي لا طاقة لأحد بقتالهم) فحرز عبادي إلى الطور أي اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور في سيناء)). ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيقول يأجوج ومأجوج: لقد قتلنا أهل الأرض تعالوا لنقتل أهل السماء.
انظر إلى الفجور!! وبهذه العبارة فقط تستطيع أن تتصور حجم الفساد في الأرض إذ تجرأ هؤلاء وفكروا في أن يقاتلوا أهل السماء وبالفعل يوجهون النشاب (أي السهام) إلى السماء فيريد الملك أن يبتليهم فيرد الله عليهم نشابهم ملطخة دماً فتنة من الله تعالى فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. في الوقت الذي تبتلى فيه الأرض بهذه الفتنة تكون فتنة أخرى عصفت بأهل الأرض عصفاً ألا وهى فتنة الدجال فينزل عيسى عليه السلام وهذا ما سنتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
([1]) سبق تخريجه .
([2]) رواه البخارى رقم (4478) فى التفسير ، باب قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطاً والترمذى رقم (2965) فى التفسير ، باب ومن سورة البقرة ، وهو فى صحيح الجامع رقم (8034) .
([3]) رواه البخارى رقم (3339) فى أحاديث الأنبياء ، باب قول الله عز وجل ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ورواه الترمذى ، والنسائى ، وابن ماجة ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند رقم (11222) .
([4]) رواه البخارى رقم (136) فى الوضوء ، باب فضل الوضوء والغر المحجلون ، ومسلم رقم (249) فى الطهارة ، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء ، والموطأ (1/28-30) والنسائى (1/93/95) فى الطهارة .
(4) رواه البخارى رقم (3346) فى أحاديث الأنبياء ، باب قصة يأجوج ومأجوج ، ومسلم رقم (2880) فى الفتن ، باب اقتراب الفتن ، والترمذى رقم (2188) فى الفتن .
(5) رواه ابن ماجة رقم (4080) والحاكم وهو فى صحيح ابن حبان (1908) . ... ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...(/5)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين .
خامساً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب:
يُنزل الله تعالى عيسى عليه السلام كما في حديث النَّواس بن سمعان الذي رواه مسلم قال المصطفى: ((فبينما هو كذلك (أي الدجال) إذ أنزل الله عز وجل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين (أى ثوبين مصبوغين) واضعاً كَفَّيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ)) إذا رفع نبي الله عيسى رأسه تقطر منها الماء كحبات اللؤلؤ الأبيض .
يقول المصطفى : ((فيطلب عيسى بن مريم الدجال حتى يدركه بباب لُدّ (مدينة بفلسطين) )). فيقتل عيسى بن مريم الدجال عليه لعنة الله: ((ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله: إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور)) (أي لا طاقة ولا قدرة لأحد بقتالهم) يقول المصطفى : ((ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون)). ينتشرون، يغطون وجه الأرض من فوق المرتفعات والجبال.
فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مَّرةً ماءُُ ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه أن يتضرعوا إلى الله عز وجل أن يهلك يأجوج ومأجوج فيستجيب الله دعاء عيسى وأصحابه من أمة النبي محمد .
اسمع ماذا قال المصطفى : ((فيرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف)) النغف: هو الدود الصغير.
تدبر قدرة الملك وعظمة الملك، والله ما أحوج الأمة إلى أن تمتلئ قلوبها يقينا بقدرة الملك جل جلاله.
ما أحوجنا إلى أن نتعرف على عظمة الله وعلى جلال الله، وعلى قوة الله، وعلى قدرة الله، فإن أمر الله بين الكاف والنون .
فيرسل الله عليهم النغف أى الدود الصغير في رقابهم فيهلكهم الحق جل وعلا فيقول المصطفى : ((فيصبحون فرسى (أي قتلى) كموت نفس واحدة)) في رواية ((يطلب نبى الله عيسى واحداً من هؤلاء المتحصنين الخائفين أن يخرج وأن يبذل نفسه ليرى ماذا فعل يأجوج ومأجوج في الأرض فيخرج وهو مستعد للقتل والهلاك فيرى هذه الكرامة والمعجزة والآية فيرجع لنبي الله عيسى وينادي عليه وعلى أصحابه: أبشروا لقد أهلك الله يأجوج ومأجوج )). يقول المصطفى : ((ثم يهبط نبي الله عيسى مع أصحابه فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم (الزهم: الدهن والشحم) لا يقوى الناس على هذه الرائحة الكريهة النتنة. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله أن يطهر الأرض من هذه النتن، فيرسل الله عز وجل طيراً كأعناق البخت (أي كرقاب الإبل) فتحملهم فتطرحهم حيثما شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة (أي تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها) وحينئذ يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردِّى بركتك)). يقول المصطفى : ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة تأخذ الناس تحت آباطهم فتقبض هذه الريح روح كل مؤمن ومسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون في الأرض تهارج الحمر (أي الحمير) وعليهم تقوم الساعة)).
وبذلك يكون قد أنهيت الحديث عن يأجوج ومأجوج من المصادر اليقينية من كتاب الله والسنة الصحيحة، وأنصح أحبابي أن لا يقفوا بعد ذلك وراء الأساطير والأوهام والإسرائيليات التي وردت في ذلك.
أحبتي في الله..
هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أكون جسرا تعبرون عليه إلى الجنة ويُلقى به في جهنم ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقم الصلاة. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/6)
رؤية عقدية لأخبار عالمية
إعداد الرئيس العام : جمال المراكبي
إن الناظر والمتابع للأخبار يجد سيلاً من الأحداث والأخبار التي تمر على عموم الناس مرور الكرام، وينسي بعضها بعضًا، بل إن أكثر الناس يتابع ما يعرض في وسائل الإعلام بشيء من التبلد أو عدم المبالاة.
ولكن الناقد، صاحب المعتقد الصحيح ينبغي أن يتابع هذه الأحداث برؤية نقدية عقدية، وسوف أضرب مثلاً لبعض هذه الأخبار التي ربما لا يتوقف الناظر عندها طويلاً، بينما تستوقف صاحب المعتقد الصحيح فيخرج منها برؤية إيمانية يزداد بها إيمانًا ويقينًا.
الخبر الأول: الرئيس الأمريكي يطالب المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية بتدريس نظرية في أصل نشأة الخلق تسمى نظرية التصميم الذكي وذلك جنبًا إلى جنب مع نظرية النشوء والارتقاء المعروفة بنظرية دارون التي تثبت أن الخلق تطور عن صورته البسيطة التي هي الخلية الأولية، ثم وصل في ارتقائه إلى صورة الإنسان العاقل المهيمن على مقاليد هذه الحياة الدنيا.
وإلى هنا الخبر عادي، ولكن غير العادي وغير المتصور أن دعاة العلمانية في الولايات المتحدة هاجموا الرئيس زاعمين أن الرئيس يريد أن يروج لنظرية دينية غيبية لا تمت للبحث العلمي بصلة، وأن الرئيس باعتباره يمينيًا متدينًا يخرج على أصول وقواعد الدولة العلمانية.
ونحن لا نريد أن نناقش قضية كون الرئيس الأمريكي متدينًا أو حتى يمينيًا متطرفًا كما يقولون، فإن تدينه أو تطرفه لا يمثل وزنًا في رؤيته العقدية، لأنه يمارس هذا التطرف فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين، فيتهم الإسلام أولاً، بما هو منه براء، ثم يراجع نفسه ويتهم المسلمين أو بعض المسلمين بتهم تبدأ بالرجعية والتخلف وتنتهي بالإرهاب والتطرف، بينما هو أمام العلمانيين في أمريكا وغيرها حمل وديع بدون أنياب، ولا تظهر أنيابه إلا في العراق وأفغانستان، ومن يعترض فالمعتقلات في جوانتنامو أمامه، ومصير صدام وأخبار محاكمته بين يديه عبرة لمن يعتبر.
والحق يقال: فالرئيس الأميركي رجل ديمقراطي يقبل النقد طالما كان النقد في إطار الكلمات، وربما المظاهرات، ولكن لو ظهر في صورة أخرى، فمن ليس معه في حربه على الإرهاب فهو عدوه، يؤوي القاعدة ويمولها حتى لو كان شيوعيًا غير مسلم كالرئيس الفنزويلي شافيز.
وأقول للرئيس الأميركي: إن النظرية التي طالبت المدارس بتدريسها إلى جانب نظرية دارون، وقامت عليها الدنيا ولم تقعد هي النظرية الصحيحة التي جاء بها الدين الحق، والتي تقبلها العقول الصحيحة والفطر السليمة، فهذا الكون وراءه خالق عالم حكيم، أحكم كل شيء خلقه، وهدى كل مخلوق لما أراده منه كما قرر الكليم موسى في رده على فرعون حين قال: فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50) قال فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى {طه: 49- 52}.
وهذه هي الحقيقة العقلية التي تكلم عنها الفلاسفة قديمًا وصاغوا في سبيل إثباتها نظريات عقلية كلامية كحديثهم عن واجب الوجود ونظرية الحدوث وأن لكل حادث محدثًا.
وقد أشار القرآن الكريم إلى قضية الخلق وأن الله هو خالق كل شيء في مواضع عديدة، خاطب فيها العقول وأمر أصحابها بالنظر والتأمل. قال تعالى: قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، وقال تعالى: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج {ق: 6- 11}. وقال تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون {الطور: 35، 36}.
ولكن التيار العلماني يرفض مقتضيات العقول، ويدندن حول نظرية دارون زاعمًا أنها نظرية علمية تدل عليها التجارب العلمية، بعكس غيرها من النظريات العقلية التي يزعم أنها غيبية دينية لا يدل عليها العلم، والمراد بالعلم هنا نظريات الإلحاد التي يتبناها العلمانيون.
الخبر الثاني: الإعصار الذي ضرب سواحل الولايات المتحدة الأمريكية والمعروف بإعصار "كاترينا".
في بداية تحرك الإعصار نشرت صحيفة غربية رسمًا كاريكاتيريًا عبارة عن فنجان من الشاي ورسمت الإعصار في داخل الفنجان وكتبوا تحت الرسم: "الإعصار في الدول المتقدمة زوبعة في فنجان، ورسموا رسمًا آخر عبارة عن إعصار هائج يعصف بالفنجان، وكتبوا: الإعصار في الدول النامية.(/1)
والمعنى واضح، فالأعاصير يتم رصدها والتعامل معها بوسائل التقنية الحديثة للتخفيف من آثارها المدمرة، ولا تملك هذه الوسائل إلا الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أما الدول النامية فتعصف بها الأعاصير والكوارث الطبيعية التي تقتل الآلاف وتشرد الملايين كما حدث في الزلزال الذي ضرب المحيط الهندي وأدى إلى خروج أمواج المحيط تعصف بشواطئ دول عديدة في شرق آسيا وراح ضحيته أكثر من مائة ألف قتيل في أندونسيا وما حولها في العام الماضي وما تزال آثار الكارثة قائمة حتى الآن.
ولكننا فوجئنا في الأيام التالية بالذعر في تصريحات المسئولين عن الولايات التي ضربها الإعصار، لقد أغرقت المياه مدينة بأكملها وهي نيو أورليانز، وضربت ثلاث ولايات أمريكية وحطمت محطات بترولية، وبدأ الصراخ يعلو في أمريكا، وظهرت القوة العظمى والقطب الأوحد في صورة دولة نامية ضربتها كارثة مدمرة، وبدأت المساعدات الإنسانية تتسلل على استحياء من بعض الدول، حتى أعلن الرئيس الأمريكي استعداد بلاده لقبول المساعدات الإنسانية من كافة دول العالم نظرًا لحجم الكارثة، والارتفاع الجنوني في أسعار البترول، فانهالت المساعدات بصورة لم يسبق لها مثيل، حتى إن دولة صغيرة مثل الكويت قدمت خمسمائة مليون دولار مساعدات إنسانية وبترولية للدولة العظمى، وعلت الأصوات داخل الولايات المتحدة باتهام الرئيس وإدارته بأنه لم يحسن التعامل مع الأزمة، وارتفعت أصوات السود والملونين تتهم الولايات المتحدة باستمرار نزعتها العنصرية وتم إجلاء سكان المناطق المضروبة، وإرسال قوات أمن لمنع عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها المناطق المنكوبة.
ثم وردت أخبار الإعصار الثاني إعصار "ريتا" فازداد الهلع والفزع وقدرت أجهزة الرصد أن درجة الإعصار بلغت خمس درجات وهي أعلى درجة تدميرية، وتم إجلاء السكان الذين كانوا قد بدأوا في العودة، ولكن بقدرة عجيبة خفتت حدة الإعصار ثم تحول إلى ريح هادئة أو نسمة رقيقة.
ونعلم جميعًا أن رب العالمين سبحانه مدبر الأمر ومالك الملك يقول للشيء كن فيكون.
الخبر الثالث: ثم كانت انتخابات الرئاسة في مصر بمثابة إعصار يحرك الركود في الحياة السياسية والحزبية في مصر، وسمعنا لأول مرة أصواتًا تدعو للديمقراطية الليبرالية وتطالب بتغيير الدستور المصري، وتؤكد على تغيير المادة الثانية من الدستور والتي تقرر أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
إنه إعصار علماني جديد يريد أن يلتهم بلدنا الحبيب، لا يسره أن يقال دين الدولة الإسلام، فالدولة العلمانية لا تعترف بالدين، ولهذا كتبنا في العدد قبل الماضي مقالاً بعنوان: "ماذا نريد من الرئيس"؟ نحذر من هذا المد العلماني الخطير، ونؤكد على هوية مصر المسلمة كما جاء في الدستور المصري وكما هو مقرر في قلوب أغلبية المصريين.
ولأجل هذا أقول للمرشحين في الانتخابات البرلمانية المقبلة: نحن لا نلعب بالشعارات، ولا نحب من يعبث بالمقدسات، اعلموا أنكم على أبواب مسئولية عظيمة تحتاج إلى وعي وإلى علم وقوة، وأن الله عز وجل جعل الولاية أمانة، لا يقوى على حملها إلا الرجال أصحاب العلم والقدرة على تحقيق مصالح هذا الشعب.
قال تعالى: قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين.
وقال تعالى على لسان يوسف: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم {يوسف: 55}.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين سأل الولاية: "إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". رواه مسلم.
وقال لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها". متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم : "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". رواه مسلم.
واعلموا أنكم مسئولون عن شريعة الإسلام، وعن كل تشريع أو قانون يخالف هذه الشريعة، فاتقوا الله فينا، اتقوا الله في هذا الشعب يا رعاة هذا الشعب، واعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله عز وجل فيسألكم: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". متفق عليه.
الخبر الرابع: ثم كان الزلزال الذي ضرب الهند وباكستان، وتركزت الإصابة في كشمير المسلمة المتنازع عليها بين الهند وباكستان، ومن العجيب أن الكارثة هدأت كثيرًا من التوتر الموجود بين الجارتين النوويتين، وسمح ببعض التعاون للتخفيف من آثار الكارثة التي راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف قتيل، وأكثر من ثلاثة ملايين مشرد.(/2)
وأكثر ما ساء في هذا أن المساعدات لم تكن على المستوى اللائق ولا المطلوب، وكأن بعض الدول المسلمة قد اكتفت بما تم إرساله للولايات المتحدة في الإعصار، ولم يعد لديها ما تساعد به في كارثة الزلزال، أو كأن الزلزلة لم توقظ النائمين من سباتهم، وتشعرهم بقول ربنا عز وجل: إنما المؤمنون إخوة، وبقول نبينا صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
نسأل الله تعالى أن يقي بلادنا وبلاد المسلمين الزلازل والمحن، والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيذنا وبلادنا من شر الأشرار وكيد الفجار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/3)
راحلون
محمد المقرن
طال الطريق وملَّنا الترحالُ
الراحلون إلى المدى المجهول لا
خلف الظهور ديارُنا، وأمامَنا
هل ذقتمُ الإخراج من أوطانكم؟!
هذي قوافلنا يسير بها الأسى
بغداد نبراسُ الحضارة دُنِّستْ
تبكي بلادُ الرّافدين وملؤها
الليل رعبٌ، والصبَّاح مذابحٌ
يهمي رصاصُ القاذفات كأنّه
ويخرُّ بيتُ الآمنين بأهلِهِ
البعدُ ـ يا وطني ـ عسيرٌ، والهوى
ما زلتُ أذكر في الطفولة مرتعي
صرنا أُسَارى الذكرياتِ فعالنا
من لم يَمُتْ من قومنا عاش الأسى
هل تعرفون عن الحصار؟ وما الذي
قد خاننا الأحباب، يا لِمُصابنا
هذي خيولُ الحرب تركض وحدَها
سأعود ـ يا أمّاه ـ فاحتسبي دمي
سأعودُ كي تردَ المعالي أمّتي
ما حرَّكَتْني ثورةٌ عربيةٌ
بل جئت للإسلام أنقذ أهله
سَيَرَى البُغَاةُ بأنني من أمَّةٍ
لي في الجهاد معالم وعزائمٌ
هذه غصونُك ـ أمتي ـ قد أَوْرَقَتْ
إن غاب بدرُكِ، واشتكى الساري الدُّجى
وتغلَّقتْ في وجهنا الآمالُ
هادٍ ولا زادٌ ولا أبطالُ
تبكي على أيامنا الأطلالُ
هل تعرفون الدمع كيف يُسَالُ؟
وتحفُّها الأخطارُ والأهوالُ
قَهْراً، وعاث بمجدها الأنذالُ
تلك الدماءُ وهذه الأوصالُ
والوَعْرُ صعبٌ، والسهولُ قتالُ
وبلٌ على هاماتِنا هَطّالُ
ويموتُ تحتَ سُقوْفهِ الأطفالُ
بقلوبنا بَعْد النَّوى قتَّالُ
نلهو وتحمل حُلْمَنَا الآمالُ
إلا أسىً وتفكرٌّ وخيالُ
وسقاه مرَّ كؤوسِه الإذلالُ
صنعته في أعناقنا الأغلالُ؟
من عثرة الأحبابِ كيف تُقَالُ؟!
ياقوم أين الفارسُ الخيَّالُ؟!
إن سال فهو كرامةٌ وجلالُ
وتظلُّ تذكرُ صولتي الأجيالُ
سقطت... ولا صنمٌ ولا تمثالُ!
شبلاً تتوق لِزميَ الأشبالُ
أَعْلَى عُلاها «مصعبٌ» و «بلالُ»
مثلُ الجبال... فهل تُدَكُّ جبال؟!
وشَدَتْ على أوراقها الآمالُ
فغداً سيُولدُ في السماء هلا(/1)
ربانيون لا رمضانيون
رَمَضَانُ
يا ..
فُرصَةُ المُحِبّينَ
د/ محمد بن عبد الرحمن العريفي
27/7/1422هـ
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام.. وجعله مطهراً لنفوسهم من الذنوب والآثام..
الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام ..والساعات والأيام .. وفاوت بينها في الفضل والإكرام .. وربك يخلق ما يشاء ويختار ..
أحمده سبحانه .. فهو العليم الخبير ..الذي يعلم أعمال العباد ويجري عليهم المقادير ..
لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير ..
في السماء ملكه .. وفي الأرض عظمته .. وفي البحر قدرته ..
خلق الخلق بعلمه .. فقدر لهم أقداراً .. وضرب لهم آجالاً ..
خلقهم .. فأحصاهم عدداً .. وكتب جميع أعمالهم فلم يغادر منهم أحداً .. وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام ..
ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام ..
صلى الله وسلم وبارك عليه ..ما ذكره الذاكرون الأبرار .. وصلى الله وسلم وبارك عليه ..ما تعاقب الليل والنهار ..
ونسأل الله أن يجعلنا من خيار أمته .. وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته ..
* * * * * * * *
أما بعد .. أيها الصائمون والصائمات ..
ما أشبه الليلة بالبارحة .. هذه الأيام تمر سريعة وكأنها لحظات ..
لقد استقبلنا رمضان الماضي .. ثم ودعناه .. وما هي إلا أشهر مرت كساعات .. فإذا بنا نستقبل شهراً آخر ..
وكم عرفنا أقواماً .. أدركوا معنا رمضان أعواماً ..
وهم اليوم من سكان القبور .. ينتظرون البعث والنشور ..
وربما يكون رمضان هذا لبعضنا آخر رمضان يصومه ..
إن إدراكنا لرمضان .. نعمة ربانية .. ومنحة إلهية ..
فهو بشرى .. تساقطت لها الدمعات .. وانسكبت العبرات ..
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } ..
وروى النسائي والبيهقي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ \" ..
وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة ) ..
* * * * * * * *
نعم..كم من قلوب تمنت..ونفوس حنت..أن تبلغ هذه الساعات ..
شهرٌ .. تضاعف فيه الحسنات .. وتكفر السيئات ..
وتُقال فيه العثرات .. وترفع الدرجات ..
تفتح فيه الجنان .. وتغلق النيران .. وتصفد فيه الشياطين ..
شهرٌ جعل فيه من الأعمال جليلُها .. ومن الأجور عظيمُها ..
روى الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ \" ..
* * * * * * * *
نعم .. شهر رمضان ..
هو شهر الخير والبركات .. والفتوح والانتصارات .. فما عرف التاريخ غزوةَ بدر وحطين .. ولا فتحَ مكة والأندلس .. إلا في رمضان ..
لذا كان الصالحون يعدون إدراك رمضان من أكبر النعم ..
قال المعلى بن الفضل : كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان !!
وقال يحيى بن أبي كثير : كان من دعائهم : اللم سلمني إلى رمضان .. وسلِّم لي رمضان .. وتسلَّمه مني متقبلاً ..
نعم .. كان رمضان يدخل عليهم .. وهم ينتظرونه .. ويترقبونه ..
يتهيئون له بالصلاة والصيام .. والصدقة والقيام ..
أسهروا له ليلهم .. وأظمئوا نهارهم .. فهو أيام مَّعْدُوداتٍ .. فاغتنموها ..
لو تأملت حالهم .. لوجدتهم .. بين باك غُلب بعبرته .. وقائم غص بزفرته .. وساجدٍ يتباكى بدعوته ..
كان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله :
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ..
كانوا .. ربانيين .. لا رمضانيين .. هم في صيام وقيام .. في رمضان وغير رمضان ..
باع رجل من الصالحين جارية لأحد الناس .. فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان الطعام ..
فقالت الجارية : لماذا تصنعون ذلك ؟
قالوا : لاستقبال الصيام في شهر رمضان .. فقالت : وأنتم لا تصومون إلا في رمضان ؟!
والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان .. لا حاجة لي فيكم .. ردوني إليهم .. ورجعت إلى سيدها الأول ..
* * * * * * * *
كانوا يدركون الحكمة من شرعية الصيام ..
فالصوم لم يشرعْ عبثاً ..(/1)
نعم .. ليستْ القضية ..قضية ترك طعام !! أو شراب ..كلا ..
القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير .. شرع لكي يعلمَ الإنسان ..أن له رباً ..يشرعُ الصومَ متى شاء ..ويبيحُ الفطرَ متى شاء !! يحكم ما يشاء ويختار .. فيخشاه ويتقيه ..
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } نعم { لعلكم تتقون } ..
والتقوى خشيةٌ مستمرة ..
خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض … الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً .. إن الجبالَ من الحصى
التقوى هي الخوفُ من الجليل ..والعملُ بالتنزيلُ ..والقناعةُ بالقليل ..والاستعدادُ ليوم الرحيل ..
ومن حقق التقوى شعر بأن حياته كلَّها .. ملك لله تعالى .. يفعل بها ما يشاء .. فهو يصلي وقت الصلاة .. ويصوم وقت الصوم ..
ويجاهد في الجهاد .. ويتصدق مع المتصدقين ..
فليس لنفسه منه حظ ولا نصيب .. بل حياته كلها وقف لله تعالى ..
* * * * * * * *
جعفر بن أبي طالب .. ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخو علي بن أبي طالب .. أسلم هو وزوجته أسماء مبكرين .. لم يتجاوز عمره الواحد والعشرين سنة .. وأصابه من الأذى والاضطهاد في مكة .. مالا يحتمل ..
فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة ..
خرج جعفر وزوجه إلى الحبشة .. إلى أرض الغرباء البعداء ..
خرج وهو الشريف في قومه .. إلى أرض الغرباء البعداء ..
إلى أرض لا يعرفها .. وقبائل لا يألفها .. ولغة لا يفهمها ..
لبث في الحبشة ثلاث سنين .. ثم أشيع عندهم أن قريشاً قد أسلموا .. فعاد بزوجته وولده .. فإذا قريش على كفرها .. فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة .. عاد إلى الحبشة .. وأكمل فيها سبع سنوات ..
فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إلى المسلمين في الحبشة ليقدموا إلى المدينة .. فلما دخلوا المدينة .. فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر فرحاً شديداً ..
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه قبله بين عينيه والتزمه وقال :( ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر ، أم بقدوم جعفر !) ..
وكان جعفر شديد الشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم .. حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ..
ما كاد جعفر يستقر في المدينة .. حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم يجمعون الجيوش لغزو المسلمين ..
فجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً لقتال الروم في مؤتة ..
وأمَّر عليهم زيد بن حارثة .. وقال لهم :
إن أصيب زيد فجعفر .. على الناس فإن أصيب جعفر ..
فعبدالله بن رواحة .. فتجهز الناس وهم ثلاثة آلاف مقاتل ..
ثم ودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وصل المسلمون إلى مؤتة .. فإذا الروم مائة ألف مقاتل ..
فابتدأ القتال ..فأخذ الراية زيد فأصيب فقتل ..
ثم أخذها جعفر بيمينه .. وقاتل بها حتى إذا اشتد القتال ..
رمى بنفسه عن فرسه .. وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها 00طيبة وبارداً شرابها
والروم روم قد دنا عذابها 00 كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ولا زال يضربهم بسيفه .. والراية في بيمينه .. فضربه رومي على يمينه .. فقطعت .. فأخذ الراية بشماله فقطعت .. فاحتضنها بعضديه حتى قتل .. وهو ابن ثلاثين سنة ..
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : رأيت جعفر صريعاً .. وفي جسده أكثر من تسعين ضربة ما بين طعنة وضربة ورمية .. والله ما فيها واحدة في قفاه ..
ثم أخذ الراية عبد الله بنُ رواحة .. فأصيب فقتل ..
ثم أخذها خالد بن الوليد .. فانسحب بالجيش ..
* * * * * * * *
هذا خبر المجاهدين في مؤتة .. أما خبر المدينة فيحكيه أنس رضي الله عنه فيقول : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم رقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر .. فقال :
ألا أنبئكم بخبر جيشكم هذا الغازي .. قلنا : بلى ..
قال : أخذ الراية زيد فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه ..
قال : ثم أخذ الراية جعفر فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه ..
قال : ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة .. فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه .. ثم استعبر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ..
وبعدها .. ذهب إلى بيت جعفر ..
قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر :
كنت قد غسّلت أولادي .. ونظفتهم ودهنتهم ..
وعجنت عجيني .. ننتظر قدوم جعفر ..
فاستأذن علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل .. فقال : ادعي لي بني أخي ..
قالت : فأتيته بهم كأنهم أفراخ ..
فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أقبلوا يتسابقون إليه .. يتعلقون به ويقبلونه .. يظنونه أباهم جعفر ..
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رؤوسهم ويبكي .. ويمسح رؤوسهم ويبكي .. فقالت أسماء : يا رسول الله .. أبلغك عن جعفر شيء ؟
فسكت .. قالت : يا رسول الله .. أبلغك عن جعفر شيء ؟
قال : قتل جعفر .. قالت : يا رسول الله .. يتم بنيه .. يتم بنيه ..(/2)
قال : آلعيلة تخافين عليهم ..!! أنا وليهم في الدنيا والآخرة ..
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( على مثل جعفر فلتبكِ البواكي ) ..
ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال :( اصنعوا لآلَ جعفر طعاماً فإنهم أتاهم ما يشغلهم .. ) .. نعم .. قتل جعفر .. وفارق أهله وماله ..
لكنه دخل جنة عرضها السماوات والأرض ..
قال صلى الله عليه وسلم : رأيت جعفر في الجنة .. له جناحان مضرجان بالدماء .. يطير بهما مع الملائكة ..
* * * * * * * *
نعم .. هذه حقيقة التقوى !! أن تطيع الله بكل جوارحك ..
فهل يكون متقياً .. من يصوم بطنه عن الطعام .. ولا تصوم عينه عن النظر الحرام ..
ولا سمعه عن السماع الحرام .. ولا يصوم لسانه عن الآثام ..
هل يكون متقياً .. من يجمع الثواب في النهار ..
ثم يحرق ذلك في الليل .. بأغنية ماجنة .. ورقصة فاتنة .. يزينها له شياطين الإنس .. نعم .. يزينها له شياطين الإنس ..
صفدت شياطين الجن فتحركت شياطين الإنس ..
بل إن شياطين الإنس لم يكتفوا بليل الصائمين ..وإنما أشغلوا نهارهم .. أصبحت جموع من الصائمين .. تتسمر أمام الشاشات في النهار والليل .. واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط ..
ولا يستشعرون أنهم وقعوا في الحرام ..
عجباً .. هل ينكر أحد منا حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ..
أو حرمة الغناء وآلات الطرب ..
أو حرمة النظر إلى ألعاب السحر والشعوذة ..
بل تعرض على الناس برامج .. إذا تأملت فيمن أنتجها وصاغها ..
بل وكتب حواراتها ..
وجدتهم ليسوا من العلماء المتقين .. ولا المصلحين الناصحين ..
وإنما أكثرهم من الفساق .. وشراب الخمور .. وأصحاب الشهوات المسعورة .. يحاربون الله ورسوله .. ويكسبون الأموال ..
* * * * * * * *
لقد تبلدت أحاسيس بعض الناس .. حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا إلى رجل يحتضن بنتاً شابة ..لأنه يمثل دور أبيها .. أو يضطجع بجانبها على فراش واحد لأنه يمثل دور زوجها ..
صرنا نأخذ الأمر بعفوية بريئة ..
صرنا لا ننكر ظهور المرأة حاسرة متكشفة ..
تعودنا .. مناظر احتساء الخمور .. والتدخين .. والسرقات .. والقتل .. والسباب .. تقبلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل ..
أي تقوى تحققها هذه البرامج ..إنها والله تقضي على البقية الباقية من الإيمان .. بل إنها تتبع ما تبقى في القلب من تقوى وتزيلها ..
* * * * * * * *
أيها الصائمون والصائمات ..
هل يليق هذا برمضان ..شهرِ الحسنات ..والرحمات ..
سبحان الله .. أين ليالي رمضان ..
التي كانت تقضى .. بين قارئ للأذكار ..ومستغفر بالأسحار ..
كانت تقضى بين ساجد خاشع .. وقائم خاضع .. لصدر أحدهم أزيز كأزيز المرجل من البكاء ..
الكل في هدوء وسكينة .. تتنزل عليهم الرحمات .. ويباهي الله بهم ملائكته ..
فجاء التلفاز وأبدلها بالأفلام .. والمسلسلات ..وجولات المصارعة الحرة .. وكرة القدم ..
* * * * * * * *
والأدهى من ذلك كله ..أن يُخدَع الناسُ في رمضان بما يسمى مسلسلاتٍ الدينية ..
ففي شعبان يظهر الممثل في دور ماجن فاجر .. يقبل خليلته .. ويشرب الخمر .. فإذا دخل رمضان .. رأيته في شخصية أبي بكر وعمر ..
وخليلته الفاجرة في دور عائشة وخديجة .. إن هذا لشيء عجاب ..
نحن لا نلوم هؤلاء .. فقد غسلنا أيدينا منهم ..
لكننا نلوم العقلاء المؤمنين .. الذين تستخفهم هذه التوافه فيتابعونها دون نكير .. فمن يصفدُ عنا مردةَ شياطينِ الأنس ..
الذين لا يرونَ لرمضان حرمةً .. ولا يرقبون في مسلم إلاًّ ولا ذمة ..
فيهيئون أسبابِ الرذيلة .. بكلِّ خسةٍ ووقاحة !!
فبمناسبةِ رمضان ..يحي الفنانُ فلان حفلةً غنائية ..
وتقيمُ فرقةُ فلان ..مسرحيتهَا الماجنة ..
ألا شاهتْ تلك الوجوه ..ما أجرأَها على انتهاكِ حرماتِ الله ..
* * * * * * * *
أما يعلم هؤلاء المفسدون ..
أنهم يصبحون ويمسون على نعمة عظيمة .. لو واصلوا ليلهم بنهارهم في صيام وقيام .. لما شكروا عشر معشارها ..
إنها نعمة الإسلام .. وإدراكِ الصيام والقيام ..
أما يعلمون أن الله فضلهم بها على كثير ممن خلق تفضيلاً ؟
كيف يكون حال أحدهم لو أن الله بدل أن يجعله مسلماً موحداً ..
جعله بوذياً يسجد لحجر .. أو جعله من عباد البقر .. أو ممن يقولون الله ثالث ثلاثة .. أو يقولون عزير ابن الله ..
والله إن هذه الدنيا كلَّها لا تساوي شيئاً إذا أحسن العبد التقرب إلى ربه .. واستغفر من تقصيره وذنبه ..
* * * * * * * *
وانظر إلى حال الأنصار رضي الله عنهم بعد معركة حنين ..
الأنصار الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ثم قتلوا في أحد .. وحوصروا في الخندق .. ولا زالوا معه يقاتلون ويُقتَلون .. حتى فتحوا معه مكة .. ثم مضوا إلى معركة حنين ..
ففي الصحيحين ..
أن القتال اشتد أول المعركة .. وانكشف الناس عن رسول الله .. فإذا الهزيمة تلوح أمام المسلمين ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. فإذا هم يفرون من بين يديه ..(/3)
فصاح بالأنصار ..
يا معشر الأنصار .. فقالوا : لبيك يا رسول الله ..
وعادوا إليه .. وصفوا بين يديه ..
ولا زالوا يدفعون العدو بسيوفهم .. ويفدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحورهم .. حتى فر الكفار وانتصر المسلمون ..
وبعدما انتهت المعركة.. وجمعت الغنائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .. أخذوا ينظرون إليها ..
وأحدهم يتذكر أولاده الجوعى .. وأهلَه الفقرا .. ويرجو أن يناله من هذه الغنائم شيء يوسع به عليهم ..
فبينما هم على ذلك ..
فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم .. يدعو الأقرع بن حابس - ما أسلم إلا قبل أيام في فتح مكة .. فيعطيه مائة من الإبل .. ثم يدعو أبا سفيان ويعطيه مائة من الإبل ..
ولا يزال يقسم النعم .. بين أقوام .. ما بذلوا بذل الأنصار .. ولا جاهدوا جهادهم .. ولا ضحوا تضحيتهم ..
فلما رأى الأنصار ذلك ..
قال بعضهم لبعض : يغفر الله لرسول الله .. يعطي قريشاً ويتركنا .. وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فلما رأى سيدهم سعد بن عبادة رضي الله عنه ذلك .. دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال :
يا رسول الله .. إن أصحابك من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم .. قال : وما ذاك ؟!!
قال : لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت .. قسمت في قومك .. وأعطيت عطاياً عظاماً .. في قبائل العرب ..
ولم يكن في الأنصار منه شئ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟
قال : يا رسول الله .. ما أنا إلا امرؤ من قومي ..
فقال : فاجمع لي قومك.. فلما اجتمعوا .. أتاهم رسول الله ..
فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال : يا معشر الأنصار .. ما قالة بلغتني عنكم ؟
قالوا : أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريش ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار .. ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ..
قالوا : بلى ولله ورسوله .. المنة الفضل ..
قال : ألم تكونوا عالة فأغناكم الله .. وأعداءً فألف بين قلوبكم ..
قالوا : بلى ولله ورسوله .. المنة الفضل ..
ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وسكتوا .. وانتظرَ .. وانتظروا ..
فقال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ..
قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله .. ولله ولرسوله المنة والفضل ..
قال : أما والله لو شئتم لقلتم .. فلصَدَقتم ولصُدِّقتم ..
لو شئتم لقلتم : أتيتنا مكذباً فصدقناك .. ومخذولاً فنصرناك .. وطريداً فآويناك .. وعائلاً فواسيناك ..
ثم قال : يا معشر الأنصار .. أوجدتم على رسول الله في أنفسكم .. في لعاعة من الدنيا .. تألفت بها قوماً ليسلموا .. ووكلتم الى إسلامكم ..
إن قريشاً حديثوا عهد بجاهلية ومصيبة .. وإني أردت أن أجبرهم .. وأتألفهم ..
ألا ترضون يا معشر الأنصار .. أن يذهب الناس بالشاة والبعير .. وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم ..
لو سلك الناس وادياً أو شعباً .. وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً .. لسلكت وادي الأنصار .. أو شعب الأنصار ..
فوالذي نفس محمد بيده .. إنه لولا الهجرة .. لكنت امرءاً من الأنصار .. اللهم ارحم الأنصار .. وأبناء الأنصار .. وأبناء أبناء الأنصار ..
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم .. وقالوا : رضينا برسول الله قَسْماً وحظاً.. ثم انصرف رسول الله وتفرقوا ..
* * * * * * * *
نعم .. إن الإسلام الذي هدوا إليه هو خير مما يجمعون ..
فطوبى لصائم استشعر هذه النعمة .. فحقق التقوى ..
فصام الشهر .. واستكمل الأجر ..
أخذ رمضان كاملاً وسلمه للملائكة كاملاً .. فلا غيبة .. ولا نميمة .. ولا أذية للمؤمنين .. ولا تقاعس عن صلوات .. أو وقوعاً في محرمات ..
صام فصامت جوارحه وأركانه .. قانتًا آناء الليل ساجدًا .. وقائمًا .. يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ..
طوبى لمن كانوا كذلك .. من عُبّاد رب الشهور كلها .. بواطنهم كظواهرهم .. شوالهم كرمضانهم .. الناس في غفلاتهم .. وهم في بكائهم .. ربانيون لا رمضانيون ..
هؤلاء هم الذين يتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم :
كما في الصحيحين : ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . يقول الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به .. ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي .. للصائم فرحتان ؛ فرحة عند فطره .. وفرحة عند لقاء ربه.. و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) ..
وفي الصحيحين أيضاً قال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ..
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا \" ..
وفي البخاري أن في الجنة بابا يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد ..(/4)